الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ١٨
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات:

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الثامن عشر
دار احياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

الطبعة الثانية
(1967 م - 1387 ه‍)
جميع الحقوق محفوظة
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي،
قم - إيران 1404 ه‍ ق
2

بسم الله الرحمن الرحيم
بيان
يشتمل هذاء الجزء على بقية المختار من كتب أمير المؤمنين ورسائله إلى أعدائه وأمراء
بلاده، ثم على طائفة من مختار حكمه ومواعظه، وأجوبة مسائله، والكلام القصير الخارج
في سائر أغراضه.
وقد روجع على الجزء الثالث من المجموعة الخامسة من النسخة المصورة عن أصلها
المحفوظ بمكتبة المتحف البريطاني برقم 126، وهي النسخة التي رمزت لها بالحرف (ا).
وأصل هذا الجزء مكتوب بخط نسخ حديث واضح، يبدو أنه كتب في القرن الثاني عشر،
ويكاد يكون خاليا من الشكل والضبط، حتى فيما جاء فيه من أصل كلام الامام. ويبدأ
من الشرح ببقية الكلام على فتح مكة، إلا أن بآخرة نقصا يبدأ في أثناء الكلام على
شرح قول أمير المؤمنين: " الاعجاب يمنع من الازدياد "، إلى آخر الجزء، ويقع في 56
ورقة، مسطرتها 29 سطرا، وفي كل سطر 15 كلمة تقريبا، ولا يوجد فيه ذكر لاسم ناسخة
ولا تاريخ نسخة.
كما روجع أيضا على الجزء الثاني من المجلد الخير من مخطوطة دار الكتب برقم 1868 -
أدب، وهي التي رمزت لها بالحرف (د)، وسبق وصفها في مقدمة الجزء السادس عشر،
وعلى النسخة المطبوعة على الحجر في طهران سنة 1371 ه‍، وهي التي رمزت لها بالحرف (ب).
وأسأل الله أن يوفق ويعين.
3

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
(586 - 656)
تحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم 24 رمضان سنة 1382 ه‍
18 فبراير سنة 1963 م
محمد أبو الفضل إبراهيم
5

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل (1)
[ذكر بقية الخبر عن فتح مكة]
قال الواقدي: وهرب هبيرة بن أبي وهب وعبد الله بن الزبعرى جميعا حتى انتهيا
إلى نجران فلم يأمنا الخوف حتى دخلا حصن نجران، فقيل: ما شأنكما قالا: أما قريش
فقد قتلت ودخل محمد مكة، ونحن والله نرى أن محمدا سائر إلى حصنكم هذا، فجعلت
بلحارث بن كعب يصلحون ما رث من حصنهم، وجمعوا ماشيتهم، فأرسل حسان بن ثابت
إلى ابن الزبعرى:
لا تعدمن رجلا أحلك بغضه * نجران في عيش أجد ذميم (2)
بليت قناتك في الحروب فألفيت * جوفاء ذات معايب ووصوم (3)
غضب الاله على الزبعرى وابنه * بعذاب سوء في الحياة مقيم
فلما جاء ابن الزبعرى شعر حسان تهيأ للخروج، فقال هبيرة بن وهب: أين تريد
يا بن؟ عم قال له: أريد والله محمدا، قال: أتريد أن تتبعه؟ قال أي والله، قال هبيرة:
يا ليت أنى كنت رافقت غيرك، والله ما ظننت أنك تتبع محمدا أبدا، قال ابن الزبعرى:
هو ذاك، فعلى أي شئ أقيم مع بنى الحارث بن كعب وأترك ابن عمى وخير الناس
وأبرهم، وبين قومي وداري! فانحدر ابن الزبعرى حتى جاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

(1) د: " لطفك اللهم لاتمامه بالخير ".
(2) ديوانه 360.
(3) الوصوم: العيوب، جمع وصم، ورواية الديوان: " خمانة جوفاء ذات وصوم ".
7

وهو جالس في أصحابه، فلما نظر إليه قال: هذا ابن الزبعرى ومعه وجه فيه نور الاسلام،
فلما وقف على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: السلام عليك يا رسول الله، شهدت أن
لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، والحمد لله الذي هداني للاسلام، لقد عاديتك
وأجلبت عليك، وركبت الفرس والبعير، ومشيت على قدمي في عداوتك، ثم هربت
منك إلى نجران، وأنا أريد ألا أقرب الاسلام أبدا، ثم أرادني الله منه بخير، فألقاه
في قلبي، وحببه إلى، وذكرت ما كنت فيه من الضلال واتباع ما لا ينفع ذا عقل
من حجر يعبد، ويذبح له لا يدرى من عبده ومن لا يعبده، فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله): الحمد لله الذي هداك للاسلام، احمد الله، إن الاسلام يجب ما كان قبله.
وأقام هبيرة بنجران، وأسلمت أم هاني، فقال هبيرة حين بلغه إسلامها يوم الفتح يؤنبها
شعرا من جملته (1):
وإن كنت قد تابعت دين محمد * وقطعت الأرحام منك حبالها (2)
فكوني على أعلى سحوق بهضبة (3) * ململمة غبراء يبس بلالها (4)
فأقام بنجران حتى مات مشركا.
قال الواقدي: وهرب حويطب بن عبد العزى فدخل حائطا (5) بمكة، وجاء أبو ذر لحاجته،
فدخل الحائط فرآه، فهرب حويطب، فقال أبو ذر: تعال فأنت آمن، فرجع إليه فقال:
أنت آمن، فاذهب حيث شئت، وإن شئت أدخلتك على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)،
وإن شئت فإلى منزلك. قال: وهل من سبيل إلى منزلي ألفي فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي،

(1) من قصيدة له في ابن هشام 4: 42، وأولها:
أشاقتك هند أم أتاك سؤالها * كذاك النوى أسبابها وانفتالها
(2) ابن هشام: " وعطفت الأرحام منك حبالها ".
(3) كذا في ا، وفى ب " سخوف "، وفى د: " سجوف ". وفى ابن هشام: " سحيق ".
(4) الململمة: المستديرة، والغبراء: التي علاها الغبار، واليبس: المكان اليابس.
(5) الحائط هنا: البستان.
8

أو يدخل على منزلي فأقتل قال: فأنا أبلغ معك منزلك، فبلغ معه منزله، ثم جعل ينادى
على بابه: إن حويطبا آمن فلا يهيج. ثم انصرف إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره
فقال: أو أو ليس
قد أمنا الناس كلهم إلا من أمرت بقتله!
قال الواقدي: وهرب عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن حتى ركب البحر، قال:
وجاءت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في نسوة
منهن هند بنت عتبة - وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر بقتلها - والبغوم (1) بنت
المعدل الكنانية امرأة صفوان بن أمية، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة امرأة الحارث بن
هشام، وهند بنت عتبة بن الحجاج أم عبد الله بن عمرو بن العاص، ورسول الله (صلى الله عليه وآله)
بالأبطح فأسلمن، ولما دخلن عليه دخلن وعنده زوجتاه وابنته فاطمة ونساء
من نساء بنى عبد المطلب وسألن أن يبايعهن، فقال: إني لا أصافح النساء - ويقال:
إنه وضع على يده ثوبا فمسحن عليه، ويقال: كان يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه ثم
يرفعه إليهن، فيدخلن أيديهن فيه - فقالت أم حكيم امرأة عكرمة: يا رسول الله،
إن عكرمة هرب منك إلى اليمن، خاف أن تقتله، فأمنه، فقال: هو آمن. فخرجت أم
حكيم في طلبه، ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت
به على حي، فاستغاثت بهم عليه، فأوثقوه رباطا، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى
ساحل من سواحل تهامة، فركب البحر، فهاج بهم، فجعل نؤتى السفينة يقول له: أن
أخلص، قال: أي شئ أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله، قال عكرمة ما هربت إلا
من هذا، فجاءت أم حكيم على هذا من الامر، فجعلت تلح عليه وتقول: يا بن عم،
جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبر الناس، لا تهلك نفسك، فوقف لها
حتى أدركته، فقالت: إني قد استأمنت لك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأمنك، قال:

(1) ا، ب " البغوم "، د " النعوم "، تحريف، والصواب ما أثبته، وانظر القاموس.
9

أنت فعلت؟ قالت: نعم أنا كلمته، فأمنك، فرجع معها، فقالت: ما لقيت من غلامك
الرومي! وأخبرته خبره، فقتله عكرمة، فلما دنا من مكة قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت
يؤذى الحي. ولا يبلغ الميت. فلما وصل عكرمة ودخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وثب إليه (صلى الله عليه وسلم) وليس عليه رداء فرحا به، ثم جلس فوق عكرمة بين يديه
ومعه زوجته منقبة، فقال: يا محمد، إن هذه أخبرتني أنك أمنتني، فقال: صدقت،
أنت آمن، فقال عكرمة: فإلام تدعو؟ فقال: إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأنى
رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة.. وعد خصال الاسلام، فقال عكرمة:
ما دعوت إلا إلى حق، وإلى حسن جميل، ولقد كنت فينا من قبل أن تدعو إلى
ما دعوت إليه، وأنت أصدقنا حديثا، وأعظمنا برا. ثم قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله
، وإنك رسول الله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تسألني اليوم شيئا أعطيه
أحدا إلا أعطيتكه، قال: فإني أسألك أن تغفر لي كل عداوة عاديتكها أو مسير
أوضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك، أو أنت غائب عنه. فقال:
اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلى يريد بذلك إطفاء
نورك، واغفر له ما نال منى ومن عرضي، في وجهي أو أنا غائب عنه. فقال عكرمة:
رضيت بذلك يا رسول الله، ثم قال: أما والله لا أدع نفقة كنت أنفقها في صد عن
سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الاسلام وفى سبيل الله، ولأجتهدن في القتال
بين يديك حتى أقتل شهيدا، قال: فرد عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) امرأته بذلك
النكاح الأول.
قال الواقدي: وأما صفوان بن أمية فهرب حتى أتى الشعبة، وجعل يقول لغلامه
10

يسار - وليس معه غيره: ويحك! انظر من ترى! فقال: هذا عمير بن وهب، قال
صفوان: ما أصنع بعمير؟ والله ما جاء إلا يريد قتلى، قد ظاهر محمدا على، فلحقه، فقال
صفوان: يا عمير، مالك؟ ما كفاك ما صنعت، حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد
قتلى! فقال: يا أبا وهب، جعلت فداك! جئتك من عند خير الناس، وأبر الناس
وأوصل الناس، وقد كان عمير قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا رسول الله، سيد
قومي صفوان بن أمية خرج هاربا ليقذف نفسه في البحر، خاف ألا تؤمنه، فأمنه
فداك أبي وأمي! فقال: قد أمنته، فخرج في أثره، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
قد أمنك صفوان: لا والله حتى تأتيني بعلامة أعرفها، فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره وقال: يا رسول الله، جئته وهو يريد أن يقتل نفسه فقال:
لا أرجع إلا بعلامة أعرفها، فقال: خذ عمامتي، فرجع عمير إليه بعمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وهي البرد الذي دخل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة معتجرا
به، برد حبرة أحمر - فخرج عمير في طلبه الثانية (1) حتى جاءه بالبرد فقال: يا أبا وهب،
جئتك من عند خير الناس وأوصل الناس وأبر الناس وأحلم الناس، مجده مجدك، وعزه
عزك، وملكه ملكك، ابن أبيك وأمك، أذكرك الله في نفسك، فقال: أخاف
أن أقتل، قال: فإنه دعاك إلى الاسلام فإن رضيت وإلا سيرك شهرين فهو أوفى
الناس وأبرهم، وقد بعث إليك ببرده الذي دخل به معتجرا، أتعرفه؟ قال: نعم، فأخرجه، فقال: نعم هو هو، فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فوجده يصلى العصر بالناس، فقال: كم يصلون؟ قالوا: خمس صلوات في اليوم والليلة
قال: أمحمد يصلى بهم؟ قالوا: نعم فلما سلم من صلاته صاح صفوان: يا محمد، إن عمير

(1) ا، ب: " ثابته "، وأثبت ما في د
.
11

ابن وهب جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم إليك، فإن رضيت أمرا، وإلا
سيرتني شهرين. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنزل أبا وهب فقال: لا والله
أو تبين لي، قال: بل سر أربعة أشهر. فنزل صفوان وخرج معه إلى حنين وهو كافر،
وأرسل إليه يستعير أدراعه - وكانت مائة درع - فقال: أطوعا أم كرها؟ فقال (عليه السلام)
بل طوعا عارية مؤداة، فأعاره إياها، ثم أعادها إليه بعد انقضاء حنين والطائف،
فلما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجعرانة يسير في غنائم هوازن ينظر إليها، فنظر
صفوان إلى شعب هناك مملوء نعما وشاء ورعاء، فأدام النظر إليه ورسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يرمقه، فقال: أبا وهب: يعجبك هذا الشعب! قال: نعم، قال: هو لك وما فيه.
فقال صفوان: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك
رسول الله (صلى الله عليه وسلم). قال الواقدي: فأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فكان قد أسلم، وكان يكتب
لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) الوحي، فربما أملى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) " سميع
عليم " فيكتب " عزيز حكيم " ونحو ذلك، ويقرأ على رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فيقول: كذلك الله، ويقرأ فافتتن، وقال: والله ما يدرى ما يقول: إني لأكتب له
ما شئت فلا ينكر، وإنه ليوحى إلى كما يوحى إلى محمد، وخرج هاربا من المدينة إلى
مكة مرتدا، فأهدر رسول الله دمه، وأمر بقتله يوم الفتح، فلما كان يومئذ جاء إلى
عثمان - وكان أخاه من الرضاعة - فقال: يا أخي، إني قد أجرتك فاحتبسني هاهنا
واذهب إلى محمد فكلمه في، فإن محمدا إن رآني ضرب عنقي، إن جرمي أعظم الجرم،
وقد جئت تائبا، فقال عثمان: قم فاذهب معي إليه، قال: كلا، والله إنه إن رآني
ضرب عنقي ولم يناظرني، قد أهدر دمى وأصحابه يطلبونني في كل موضع، فقال عثمان:
انطلق معي فإنه لا يقتلك إن شاء الله فلم يرع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا بعثمان
12

آخذا بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه، فقال عثمان: يا رسول الله، هذا أخي من
الرضاعة، أن أمة كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتفطمه وتلطفني وتتركه، فهبه لي.
فأعرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه، وجعل عثمان كلما أعرض رسول الله عنه
استقبله بوجهه، وأعاد عليه هذا الكلام، وإنما أعرض (عليه السلام) عنه إرادة لان يقوم
رجل فيضرب عنقه، فلما رأى ألا يقوم أحد وعثمان قد انكب عليه يقبل رأسه ويقول:
يا رسول الله، بايعه فداك أبي وأمي على الاسلام! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
نعم، فبايعه.
قال الواقدي: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك للمسلمين: ما منعكم أن
يقوم منكم واحد إلى هذا الكلب فيقتله - أو قال: الفاسق! فقال عباد بن بشر: والذي
بعثك بالحق، إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلى فأضرب عنقه. ويقال:
إن أبا البشير هو الذي قال هذا، ويقال: بل قاله عمر بن الخطاب، فقال (عليه السلام): إني لا أقتل بالإشارة، وقيل: إنه قال: إن النبي لا يكون له خائنة الأعين.
قال الواقدي: فجعل عبد الله بن سعد يفر من رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلما
رآه، فقال له عثمان: بأبي أنت وأمي! لو ترى ابن أم عبد يفر منك كلما رآك! فتبسم
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أو لم أبايعه وأؤمنه؟ قال: بلى، ولكنه يتذكر
عظم جرمه في الاسلام، فقال إن الاسلام يجب ما قبله.
قال الواقدي: وأما الحويرث بن معبد - وهو من ولد قصي بن كلاب - فإنه كان
يؤذى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكة، فأهدر دمه، فبينما هو في منزله يوم الفتح وقد
أغلق عليه بابه جاء على (عليه السلام) يسأل عنه، فقيل له: هو في البادية، وأخبر
الحويرث أنه جاء يطلبه وتنحى على (عليه السلام) عن بابه فخرج الحويرث يريد أن
13

يهرب من بيت إلى بيت آخر، فتلقاه على (عليه السلام) فضرب عنقه.
قال الواقدي: وأما هبار بن الأسود، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أن
يحرقه بالنار، ثم قال: إنما يعذب بالنار رب النار، اقطعوا يديه ورجليه إن قدرتم
عليه، ثم اقتلوه، وكان جرمه أن نخس زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما هاجرت، وضرب ظهرها بالرمح وهي حبلى، فأسقطت، فلم يقدر المسلمون عليه يوم
الفتح، فلما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة طلع هبار بن الأسود قائلا:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقبل النبي (صلى الله عليه وآله)
إسلامه، فخرجت سلمى مولاة النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت: لا أنعم الله بك عينا!
أنت الذي فعلت وفعلت! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهبار يعتذر إليه؟ إن الاسلام
محا ذلك، ونهى عن التعرض له.
قال الواقدي: قال ابن عباس رضي الله عنه: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وهبار يعتذر إليه وهو يطأطئ رأسه استحياء مما يعتذر هبار ويقول له: قد
عفوت عنك. قال الواقدي: وأما ابن خطل فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة، فأخرجه أبو برزة الأسلمي منها، فضرب عنقه بين الركن والمقام - ويقال بل قتله عمار بن
ياسر، وقيل: سعد بن حريث المخزومي، وقيل: شريك بن عبده العجلاني، والأثبت
أنه أبو برزة - قال: وكان جرمه أنه أسلم وهاجر إلى المدينة وبعثه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
ساعيا (1)، وبعث معه رجلا من خزاعة فقتله، وساق ما أخذ من مال الصدقة،
ورجع إلى مكة، فقالت له قريش: ما جاء بك؟ قال: لم أجد دينا خيرا من دينكم،
وكانت له قينتان إحداهما قريني، والأخرى قرينة - أو أرنب، وكان ابن خطل يقول

(1) ساعيا أي جابيا للزكاة.
14

الشعر يهجو به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويغنيان به، ويدخل عليه المشركون بيته
فيشربون عنده الخمر، ويسمعون الغناء بهجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال الواقدي: وأما مقيس بن صبابة فإن أمه سهمية، وكان يوم الفتح عند أخواله
بنى سهم، فاصطبح الخمر ذلك اليوم في ندامى له وخرج ثملا يتغنى ويتمثل بأبيات
منها:
دعيني أصطبح يا بكر إني * رأيت الموت نقب عن هشام
ونقب عن أبيك أبى يزيد * أخي القينات والشرب الكرام
يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام!
إذا ما الرأس زال بمنكبيه * فقد شبع الأنيس من الطعام
أتقتلني إذا ما كنت حيا * وتحييني إذا رمت عظامي!
فلقيه نميلة بن عبد الله الليثي وهو من رهطه، فضربه بالسيف حتى قتله، فقالت
أخته ترثيه:
لعمري لقد أخزى نميلة رهطه * وفجع أصناف النساء بمقيس
فلله عينا من رأى مثل مقيس * إذا النفساء أصبحت لم تخرس (1)
وكان جرم مقيس من قبل أن أخاه هاشم بن صبابة أسلم وشهد المريسيع مع رسول الله
(صلى الله عليه وآله)، فقتله رجل من رهط عبادة بن الصامت - وقيل من بنى عمرو
ابن عوف وهو لا يعرفه - فظنه من المشركين، فقضى له رسول الله (صلى الله عليه وآله)
بالدية على العاقلة، فقدم مقيس أخوه المدينة فأخذ ديته، وأسلم، ثم عدا على قاتل أخيه،
فقتله، وهرب مرتدا كافرا يهجو رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالشعر، فأهدر دمه.

(1) يقال: خرست المرأة تخريسا، إذا أطعمت في ولادتها، والبيت في اللسان (خرس).
15

قال الواقدي: فأما سارة مولاة بني هاشم - وكانت مغنية نواحة بمكة، وكانت،
قد قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة تطلب أن يصلها، وشكت إليه الحاجة
وذلك بعد بدر وأحد - فقال لها: أما كان لك في غنائك ونياحك ما يغنيك! قالت:
يا محمد، إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء، فوصلها رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وأوقر لها بعيرا طعاما، فرجعت إلى قريش وهي على دينها، وكانت
يلقى عليها هجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتغني به، فامر بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يوم الفتح أن تقتل، فقتلت، وأما قينتا ابن خطل فقتل يوم الفتح
إحداهما،
وهي أرنب أو قرينة، وأما قريني فاستؤمن لها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأمنها
وعاشت حتى ماتت في أيام عثمان.
قال الواقدي: وقد روى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر بقتل وحشي
يوم الفتح، فهرب إلى الطائف، فلم يزل بها مقيما حتى قدم مع وفد الطائف على رسول الله
(صلى الله عليه وآله)، فدخل عليه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله،
فقال: أوحشي؟ قال: نعم، قال: اجلس وحدثني كيف قتلت حمزه؟ فلما أخبره قال:
قم وغيب عنى وجهك، فكان إذا رآه توارى عنه.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي ذئب ومعمر عن الزهري، عن أبي سلمة بن
عبد الرحمن بن عوف، عن أبي عمرو بن عدي بن أبي الحمراء، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يقول بعد فراغه من أمر الفتح وهو يريد الخروج من مكة:
أما والله إنك لخير أرض الله، وأحب بلاد الله إلى، ولولا أن أهلك أخرجوني
ما خرجت.
* * *
وزاد محمد بن إسحاق في كتاب " المغازي " أن هند بنت عتبة جاءت إلى رسول الله
16

(صلى الله عليه وآله) مع نساء قريش متنكرة متنقبة لحدثها الذي كان في الاسلام، وما صنعت
بحمزة حين جدعته وبقرت بطنه عن كبده، فهي تخاف أن يأخذها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
بحدثها ذلك، فلما دنت منه، وقال حين بايعنه على ألا يشركن بالله شيئا قلن:
نعم، قال: ولا يسرقن، فقالت هند: والله أنا كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة
والهنيهة فما أعلم أحلال ذلك أم لا! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وأنك لهند!
قالت، نعم، أنا هند، و أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فاعف عما سلف
عفا الله عنك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ولا يزنين، فقالت هند: وهل تزني
الحرة! فقال: لا ولا يقتلن أولادهن، فقالت هند: قد لعمري ربيناهم صغارا وقتلتهم
كبارا ببدر، فأنت وهم أعرف. فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أسفرت
نواجذه، قال: ولا يأتين ببهتان [يفترينه (1)]، فقالت هند: إن إتيان البهتان
لقبيح، فقال: ولا يعصينك في معروف، فقالت ما جلسنا هذه الجلسة ونحن نريد
أن نعصيك.
قال محمد بن إسحاق: ومن جيد شعر عبد الله بن الزبعرى الذي اعتذر به إلى رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) حين قدم عليه:
منع الرقاد بلابل وهموم * فالليل ممتد الرواق بهيم (2)
مما أتاني أن أحمد لامني * فيه، فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها * عيرانة سرح اليدين سعوم

(1) من د.
(2) سيرة ابن هشام 4: 39. البلابل: الوساوس المختلطة. والبهيم: الذي لا ضياء فيه. وفى
ابن هشام: " والليل معتلج الرواق ".
(3) العيرانة: الناقة إلى تشبه العير (حمار الوحش) في شدته ونشاطه. سرح اليدين: خفيفتهما.
وسعوم: سريعة، وفى ابن هشام: " غشوم ".
17

إني لمعتذر إليك من الذي * أسديت إذ أنا في الضلال أهيم (1)
أيان (2) تأمرني بأغوى خطة * سهم، وتأمرني به مخزوم
وأمد أسباب الردى ويقودني * أمر الغواة وأمرهم مشئوم
فاليوم آمن بالنبي محمد * قلبي، ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة وانقضت أسبابها * ودعت أواصر بيننا وحلوم (3)
فاغفر فدى لك والدي كلاهما * زللي، فإنك راحم مرحوم
وعليك من علم المليك علامة * نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه * شرفا وبرهان الاله عظيم
ولقد شهدت بأن دينك * صادق بر وشأنك في العباد جسيم
والله يشهد أن أحمد مصطفى * متقبل في الصالحين كريم
فرع علا بنيانه من هاشم * دوح تمكن في العلا وأروم) 4)
قال الواقدي: وفي يوم الفتح سمى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل مكة الذين دخلها
عليهم الطلقاء، لمنه عليهم بعد أن أظفره الله بهم، فصاروا أرقاء له. وقد قيل له يوم
الفتح: قد أمكنك الله تعالى فخذ ما شئت من أقمار على غصون - يعنون النساء، فقال عليه
(عليه السلام): يأبى ذلك إطعامهم الضيف، وإكرامهم البيت، ووجؤهم مناحر الهدي.
* * *
ثم نعود إلى تفسير ما بقي من ألفاظ الفصل (5): قوله: " فإن كان فيك عجل فاسترفه "

(1) أسديت: صنعت.
(2) في د: " أيام ".
(3) الحلوم: جمع حلم، وهو العقل.
(4) ابن هشام:
قرم علا بنيانه من هاشم * فرع تمكن في الذرا وأروم
قال ابن هشام: " وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها ".
(5) انظر ص 250 من الجزء السابع عشر من هذا الكتاب.
18

أي كن ذا رفاهية، ولا ترهقن نفسك بالعجل، فلا بد من لقاء بعضنا بعضا، فأي حاجة
بك إلى أن تعجل! ثم فسر ذلك فقال: إن أزرك في بلادك، أي أن غزوتك في بلادك
فخليق أن يكون الله بعثني للانتقام منك، وإن زرتني - أي إن غزوتني في بلادي وأقبلت
بجموعك إلى.
كنتم. كما قال أخو بنى (1) أسد، كنت أسمع قديما أن هذا البيت من شعر بشر بن أبي خازم
الأسدي، والآن فقد تصفحت شعره فلم أجده، ولا وقفت بعد على قائله، وإن وقفت فيما
يستقبل من الزمان عليه ألحقته.
وريح حاصب، تحمل الحصباء وهي صغار الحصى، وإذا كانت بين أغوار - وهي ما
سفل من الأرض وكانت مع ذلك ريح صيف - كانت أعظم مشقة، وأشد ضررا على من
تلاقيه. وجلمود، يمكن أن يكون عطفا على " حاصب "، ويمكن أن يكون عطفا على
" أغوار " أي بين غور من الأرض وحرة، وذلك أشد لأذاها لما تكسبه الحرة
من لفح السموم ووهجها، والوجه الأول أليق.
وأعضضته أي جعلته معضوضا برؤوس أهلك، وأكثر ما يأتي " أفعلته " أن تجعله
" فاعلا "، وهي هاهنا من المقلوب، أي أعضضت رؤوس أهلك به، كقوله: " قد قطع
الحبل بالمرود ".
وجده عتبة بن ربيعة، وخاله الوليد بن عتبة، وأخوه حنظلة بن أبي سفيان، قتلهم على
(عليه السلام) يوم بدر.
والأغلف القلب: الذي لا بصيرة له، كان قلبه في غلاف قال تعالى: (وقالوا قلوبنا
غلف) (2).

(1) وهو قوله:
مستقبلين رياح الصيف بهم * بحاصب بين أغوار وجلمود
(2) سورة البقرة 88.
19

والمقارب العقل، بالكسر: الذي أو ليس
عقله بجيد، والعامة تقول فيما هذا شأنه:
مقارب، بفتح الراء.
ثم قال: الأولى أن يقال هذه الكلمة لك.
ونشدت الضالة: طلبتها، وأنشدتها: عرفتها، أي طلبت ما أو ليس
لك.
والسائمة: المال الراعي، والكلام خارج مخرج الاستعارة.
فإن قلت: كل هذا الكلام يطابق بعضه بعضا إلا قوله: " فما أبعد قولك من فعلك وكيف استبعد (عليه السلام) ذلك ولا بعد بينهما، لأنه يطلب الخلافة قولا وفعلا! فأي بعد
بين قوله وفعله!
قلت: لان فعله البغي، والخروج على الامام الذي ثبتت إمامته وصحت، وتفريق جماعة
المسلمين، وشق العصا، هذا مع الأمور التي كانت تظهر عليه وتقتضي الفسق، من لبس
الحرير، والمنسوج بالذهب وما كان يتعاطاه في حياة عثمان من المنكرات التي لم تثبت
توبته منها، فهذا فعله.
وأما قوله، فزعمه (1) أنه أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، وهذا القول بعيد من ذلك
الفعل جدا.
و " ما " في قوله: " وقريب ما أشبهت " مصدرية، أي وقريب شبهك بأعمام وأخوال.
وقد ذكرنا من قتل من بنى أمية في حروب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما تقدم، وإليهم
الإشارة بالأعمام والأخوال، لان أخوال معاوية من بنى عبد شمس، كما أن أعمامه من
بنى عبد شمس.
قوله: " ولم تماشها الهوينى " أي لم تصحبها، يصفها بالسرعة والمضي في الرؤوس الأعناق

(1) ا: " لزعمه.
20

وأما قوله: " أدخل فيما دخل فيه الناس وحاكم القوم "، فهي الحجة التي يحتج بها
أصحابنا له في أنه لم يسلم قتله عثمان إلى معاوية، وهي حجة صحيحة، لان الامام يجب أن يطاع ثم يتحاكم إليه أولياء الدم والمتهمون، فإن حكم بالحق استديمت حكومته، وإلا فسق وبطلت [إمامته (1)].
قوله: " فأما تلك التي تريدها "، قيل أنه يريد (2) التعلق بهذه الشبهة، وهي قتلة
عثمان، وقيل: أراد به ما كان معاوية يكرر طلبه من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو أن يقره على الشام وحده، ولا يكلفه البيعة، قال: إن ذلك كمخادعة الصبي
في أول فطامه عن اللبن بما تصنعه النساء له مما يكره إليه الثدي ويسليه عنه، ويرغبه
في التعوض بغيره، وكتاب معاوية الذي ذكرناه لم يتضمن حديث الشام

(1) من د.
(2) في د " يعني ".
21

(65)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إليه أيضا:
أما بعد، فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الأمور، فلقد سلكت
مدارج أسلافك بادعائك الأباطيل، واقتحامك غرور المين والأكاذيب، من
انتحالك ما قد علا عنك، وابتزازك لما قد اختزن دونك، فرارا من الحق،
وجحودا لما هو ألزم لك من لحمك ودمك، مما قد وعاه سمعك، وملئ به صدرك،
فماذا بعد الحق إلا الضلال، وبعد البيان إلا اللبس!
فاحذر الشبهة واشتمالها على لبستها، فإن الفتنة طالما أغدفت جلابيبها وأعشت
الابصار ظلمتها. وقد أتاني كتاب منك ذو أفانين من القول ضعفت قواها عن السلم، وأساطير لم يحكها عنك علم ولا حلم، أصبحت منها كالخائض
في الدهاس، والخابط في الديماس، وترقيت إلى مرقبة بعيدة المرام، نازحة
الاعلام، تقصر دونها الأنوق، ويحاذي بها العيوق، وحاش لله أن تلي للمسلمين
من بعدي صدرا أو وردا، أو أجرى لك على أحد منهم عقدا أو عهدا فمن الان
فتدارك نفسك وأنظر لها، فإنك إن فرطت حتى ينهد إليك عباد الله أرتجت
عليك الأمور، ومنعت أمرا هو منك اليوم مقبول، والسلام.
* * *
22

الشرح:
آن لك وأنى لك بمعنى، أي قرب وحان، تقول: آن لك أن تفعل كذا يئين أينا وقال:
ألم يأن أن لي تجل عنى عمايتي * وأقصر عن ليلى، بلى قد أنى ليا
فجمع بين اللغتين، و " أنى " مقلوبة عن " آن " ومما يجرى مجرى المثل قولهم لمن
يرونه شيئا شديدا يبصره ولا يشك فيه: قد رأيته لمحا باصرا، قالوا: أي نظرا بتحديق
شديد، ومخرجه مخرج رجل لابن وتامر، أي ذو لبن وتمر، فمعنى " باصر "
ذو بصر، يقول (عليه السلام) لمعاوية: قد حان لك أن تنتفع بما تعلمه من معاينة الأمور
والأحوال وتتحققه يقينا بقلبك، كما يتحقق ذو اللمح الباصر ما يبصره بحاسة بصره، وأراد ببيان الأمور هاهنا معاينتها، وهو ما يعرفه ضرورة من استحقاق على (عليه السلام)
للخلافة دونه، وبراءته من كل شبهة ينسبها إليه.
ثم قال له: " فقد سلكت "، أي اتبعت طرائق أبي سفيان أبيك وعتبة جدك
وأمثالهما من أهلك ذوي الكفر والشقاق.
والأباطيل: جمع باطل على غير قياس، كأنهم جمعوا إبطيلا.
والاقتحام: إلقاء النفس في الامر من غير روية.
والمين الكذب. والغرور بالضم المصدر وبالفتح الاسم.
وانتحلت القصيدة، أي ادعيتها كذبا.
قال: " ما قد علا عنك " أي أنت دون الخلافة، ولست من أهلها والابتزاز
الاستلاب.
23

قال: " لما قد اختزن دونك "، يعنى التسمي بإمرة المؤمنين.
ثم قال: " فرارا من الحق "، أي فعلت ذلك كله هربا من التمسك بالحق والدين،
وحبا للكفر والشقاق والتغلب.
قال: " وجحودا لما هو ألزم "، يعنى فرض طاعة على (عليه السلام)، لأنه قد وعاها
سمعه، لا ريب في ذلك، إما بالنص في أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما تذكره
الشيعة - فقد كان معاوية حاضرا يوم الغدير لأنه حج معهم حجة الوداع، وقد كان أيضا
حاضرا يوم تبوك حين قال له بمحضر من الناس كافة: " أنت منى بمنزلة هارون من
موسى "، وقد سمع غير ذلك - وإما بالبيعة كما نذكره نحن فإنه قد اتصل به خبرها،
وتواتر عنده وقوعها، فصار وقوعها عنده معلوما بالضرورة كعلمه بأن في الدنيا بلدا اسمها
مصر، وأن كان ما رآها.
والظاهر من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه يريد المعنى الأول! ونحن نخرجه
على وجه لا يلزم منه ما تقوله الشيعة فنقول: لنفرض أن النبي (صلى الله عليه وآله) ما نص
عليه بالخلافة بعده، أليس يعلم معاوية وغيره من الصحابة أنه لو قال له في ألف مقام: " أنا
حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت "، ونحو ذلك من قوله: " اللهم عاد من عاداه،
ووال من والاه "، وقوله: " حربك حربي وسلمك سلمى "، وقوله: " أنت مع الحق
والحق معك "، وقوله: " هذا منى وأنا منه "، وقوله: " هذا أخي "، وقوله: " يحب الله
ورسوله، ويحبه الله ورسوله "، وقوله: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، وقوله: " إنه
ولى كل مؤمن [ومؤمنة (1)] بعدي "، وقوله: في كلام قاله: " خاصف النعل "، وقوله:
" لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق "، وقوله: " إن الجنة لتشتاق إلى أربعة "، وجعله
أولهم، وقوله لعمار: " تقتلك الفئة الباغية "، وقوله: " ستقاتل الناكثين والقاسطين

(1) من د.
24

والمارقين بعدي "، إلى غير ذلك مما يطول تعداده جدا، ويحتاج إلى كتاب مفرد يوضع له،
أفما كان ينبغي لمعاوية أن يفكر في هذا ويتأمله، ويخشى الله ويتقيه! فلعله (عليه السلام)
إلى هذا أشار بقوله: " وجحودا لما هو ألزم لك من لحمك ودمك مما قد وعاه سمعك،
وملئ به صدرك ".
قوله: (فماذا بعد الحق إلا الضلال!) (1) كلمة من الكلام الإلهي المقدس.
قال: " وبعد البيان إلا اللبس "، يقال: لبست عليه الامر لبسا، أي خلطته،
والمضارع يلبس بالكسر.
قال: " فاحذر الشبهة واشتمالها " على اللبسة بالضم، يقال في الامر لبسة أي اشتباه
وليس بواضح، ويجوز أن يكون " اشتمال " مصدرا مضافا إلى معاوية، أي احذر الشبهة
واحذر اشتمالك إياها على اللبسة، أي ادراعك بها وتقمصك بها على ما فيها من الابهام
والاشتباه، ويجوز أن يكون مصدرا مضافا إلى ضمير الشبهة فقط، أي احذر الشبهة
واحتواءها على اللبسة التي فيها.
وتقول أغدفت المرأة قناعها، أي أرسلته على وجهها، وأغدف الليل، أي أرخى
سدوله، وأصل الكلمة التغطية.
والجلابيب: جمع جلباب، وهو الثوب.
قال:: وأعشت الابصار ظلمتها ": أي أكسبتها العشى وهو ظلمة العين. وروى
" وأغشت " بالغين المعجمة " ظلمتها " بالنصب، أي جعلت الفتنة ظلمتها غشاء للأبصار.
والأفانين: الأساليب المختلفة.
قوله: " ضعفت قواها عن السلم "، أي عن الاسلام، أي لا تصدر تلك الأفانين

(1) سورة يونس: 32.
25

المختلطة عن مسلم، وكان كتب إليه يطلب منه أن يفرده بالشام، وأن يوليه العهد من
بعده، وألا يكلفه الحضور عنده. وقرأ أبو عمرو: (ادخلوا في السلم كافة) (1)، وقال:
ليس المعنى بهذا الصلح، بل الاسلام والايمان لا غير، ومعنى " ضعفت قواها "، أي ليس
لتلك الطلبات والدعاوى والشبهات التي تضمنها كتابك من القوة ما يقتضى أن يكون
المتمسك به مسلما، لأنه كلام لا يقوله إلا من هو، إما كافر منافق أو فاسق، والكافر
ليس بمسلم، والفاسق أيضا أو ليس
بمسلم - على قول أصحابنا - ولا كافر.
ثم قال: " وأساطير لم يحكها منك علم ولا حلم "، الأساطير: الأباطيل، واحدها
أسطورة بالضم وإسطارة بالكسر والألف. وحوك الكلام: صنعته ونظمه. والحلم:
العقل، يقول له: ما صدر هذا الكلام والهجر الفاسد عن عالم ولا عاقل.
ومن رواها " الدهاس " بالكسر فهو جمع دهس، ومن قرأها بالفتح فهو مفرد،
يقول، هذا دهس ودهاس بالفتح، مثل لبث ولباث للمكان السهل الذي لا يبلغ أن يكون
رملا، وليس هو بتراب ولا طين.
والديماس بالكسر: السرب المظلم تحت الأرض، وفى حديث المسيح: " إنه سبط
الشعر، كثير خيلان الوجه، كأنه خرج من ديماس "، يعنى في نضرته وكثرة ماء وجهه
كأنه خرج من كن، لأنه قال في وصفه: كأن رأسه يقطر ماء، وكان للحجاج سجن اسمه
الديماس لظلمته، وأصله من دمس الظلام يدمس أي اشتد، وليل دامس وداموس، أي
مظلم: وجاءنا فلان بأمور دمس، أي مظلمة عظيمة، يقول له: أنت في كتابك هذا كالخائض
في تلك الأرض الرخوة، وتقوم وتقع ولا تتخلص، وكالخابط في الليل المظلم يعثر
وينهض ولا يهتدى الطريق.

(1) سورة البقرة 208 وانظر تفسير القرطبي 3: 23.
26

والمرقبة: الموضع العالي، والاعلام: جمع علم، وهو ما يهتدى به في الطرقات من
المنار، يقول له: سمت همتك إلى دعوى الخلافة، وهي منك كالمرقبة التي لا ترام بتعد
على من يطلبها، وليس فيها أعلام تهدى إلى سلوك طريقها، أي الطرق إليها غامضة
كالجبل، الأملس الذي أو ليس
فيه درج ومراق يسلك منها إلى ذروته.
والأنوق على " فعول " بالفتح كأكول وشروب: طائر، هو الرخمة، وفى المثل:
" أعز من بيض الأنوق "، لأنها تحرزه ولا يكاد أحد يظفر به، وذلك لان أوكارها في
رؤوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة.
والعيوق: كوكب معروف فوق زحل في العلو، وهذه أمثال ضربها في بعد معاوية
عن الخلافة.
ثم قال: " حاش لله أن أوليك شيئا من أمور المسلمين بعدي "، أي معاذ الله،
و الأصل إثبات الألف في " حاشا "، وإنما اتبع فيها المصحف.
والورد والصدر: الدخول والخروج، وأصله، في الإبل والماء. وينهد إليك عباد الله،
أي ينهض. وأرتجت عليك الأمور: أغلقت.
وهذا الكتاب هو جواب كتاب وصل من معاوية إليه (عليه السلام) بعد قتل على
(عليه السلام) الخوارج، وفيه تلويح بما كان يقوله من قبل: إن رسول الله وعدني بقتال
طائفة أخرى غير أصحاب الجمل وصفين، وإنه سماهم المارقين، فلما واقعهم (عليه السلام)
بالنهروان وقتلهم كلهم بيوم واحد وهم عشرة آلاف فارس أحب أن يذكر معاوية بما
كان يقول من قبل، ويعد به أصحابه وخواصه، فقال له: قد آن لك أن تنتفع بما
عاينت وشاهدت معاينة ومشاهدة، من صدق القول الذي كنت أقوله للناس ويبلغك
فتستهزئ به.
27

(66)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه إلى عبد الله بن العباس، وقد تقدم ذكره
بخلاف هذه الرواية:
أما بعد، فإن العبد ليفرح بالشئ الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشئ
الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة،
أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل، وإحياء حق،
وليكن سرورك بما قدمت، وأسفك على ما خلفت، وهمك فيما بعد الموت.
* * *
الشرح: هذا الفصل قد تقدم شرح نظيره، وليس في ألفاظه ولا معانيه ما يفتقر إلى تفسير،
ولكنا سنذكر من كلام الحكماء والصالحين كلمات تناسبه.
[نبذ من كلام الحكماء] فمن كلام بعضهم: ما قدر لك أتاك، وما لم يقدر لك تعداك، فعلام تفرح بما لم
يكن بد من وصوله إليك، وعلام تحزن بما لم يكن ليقدم عليك!
ومن كلامهم: الدنيا تقبل إقبال الطالب، وتدبر إدبار الهارب، وتصل وصال المتهالك،
وتفارق فراق المبغض الفارك، فخيرها يسير، وعيشها قصير، و إقبالها خدعة، وإدبارها
28

فجعة، ولذاتها فانية وتبعاتها باقية، فاغتنم غفلة الزمان، وانتهز فرصة الامكان،
وخذ من نفسك لنفسك، وتزود من يومك لغدك قبل نفاذ المدة، وزوال القدرة،
فلكل امرئ من دنياه ما ينفعه على عمارة أخراه.
ومن كلامهم: من نكد الدنيا أنها لا تبقى على حالة، ولا تخلو من استحالة
تصلح جانبا بإفساد جانب، وتسر صاحبا بمساءة صاحب فالسكون فيها خطر،
والثقة إليها غرر، والالتجاء إليها محال، والاعتماد عليها ضلال.
ومن كلامهم: لا تبتهجن لنفسك بما أدركت من لذاتها الجسمانية، وابتهج لها
بما تناله من لذاتها العقلية. ومن القول بالحق، والعمل بالحق، فإن اللذات الحسية
خيال ينفد، والمعارف العقلية باقية بقاء الأبد،
29

(67)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة:
أما بعد، فأقم للناس الحج، وذكرهم بأيام الله، وأجلس لهم العصرين،
فأفت المستفتي، وعلم الجاهل وذاكر (1) العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفير
إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك.
ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها
لم تحمد فيما بعد على قضائها.
وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال
والمجاعة، مصيبا به مواضع المفاقر والخلات، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا
لنقسمه فيمن قبلنا.
ومر أهل مكة ألا يأخذوا من ساكن أجرا، فإن الله سبحانه يقول:
(سواء العاكف فيه والباد) (2) فالعاكف: المقيم به، والبادي: الذي يحج إليه
من غير أهله، وفقنا الله وإياكم لمحابه، والسلام.

(1) في د " وذكر ".
(2) سورة الحج 25.
30

الشرح:
قد تقدم ذكر قثم ونسبه. أمره أن يقيم للناس حجهم، وأن يذكرهم بأيام الله، وهي أيام الانعام وأيام الانتقام، لتحصل الرغبة والرهبة.
واجلس لهم العصرين: الغداة والعشي.
ثم قسم له ثمرة جلوسه لهم ثلاثة أقسام: إما أن يفتى مستفتيا من العامة في بعض الأحكام
، وأما أن يعلم متعلما يطلب الفقه، وإما أن يذاكر (1) عالما ويباحثه ويفاوضه
ولم يذكر السياسة والأمور السلطانية لان غرضه متعلق بالحجيج، وهم أضيافه، يقيمون ليالي يسيرة ويقفلون، وإنما يذكر السياسة وما يتعلق بها فيما يرجع إلى أهل مكة، ومن
يدخل تحت ولايته دائما، ثم نهاه عن توسط السفراء والحجاب بينه وبينهم، بل ينبغي
أن يكون سفيره لسانه، وحاجبه وجهه، وروى " ولا يكن إلا لسانك سفيرا لك إلى
الناس " بجعل " لسانك " اسم كان مثل قوله: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا) (2)،
والرواية الأولى هي المشهورة، وهو أن يكون " سفيرا " اسم كان، ولك خبرها،
ولا يصح ما قاله الراوندي: إن خبرها " إلى الناس "، لان " إلى " هاهنا متعلقة بنفس
" سفير " فلا يجوز أن تكون الخبر عن " سفير " تقول: سفرت إلى بنى فلان في الصلح،
وإذا تعلق حرف الجر بالكلمة صار كالشئ الواحد.
ثم قال: فإنها أن ذيدت أي طردت ودفعت.
كان أبو عباد ثابت بن يحيى كاتب المأمون إذا سئل الحاجة يشتم السائل، ويسطو
عليه ويخجله، ويبكته ساعة ثم يأمر له بها، فيقوم وقد صارت إليه وهو يذمه ويلعنه
قال علي بن جبلة العكوك:

(1) في د " يذكر ".
(2) سورة النمل 56.
31

لعن الله أبا عباد لعنا يتوالى
يوسع السائل شتما * ثم يعطيه السؤالا.
وكان الناس يقفون لأبي عباد وقت ركوبة، فيتقدم الواحد منهم إليه بقصته ليناوله
إياها، فيركله برجله بالركاب، ويضربه بسوطه، ويطير غضبا، ثم لا ينزل عن فرسه
حتى يقضى حاجته، ويأمر له بطلبته، فينصرف الرجل بها وهو ذام له ساخط عليه،
فقال فيه دعبل:
أولى الأمور بضيعة وفساد * ملك يدبره أبو عباد (1)
متعمد بدواته جلساءه (2) * فمضرج ومخضب بمداد
وكأنه من دير هزقل مفلت * حرب يجر سلاسل الأقياد (3)
فاشدد أمير المؤمنين صفاده * بأشد منه في يد الحداد
وقال فيه بعض الشعراء:
قل للخليفة يا بن عم محمد * قيد وزيرك إنه ركال
فلسوطه بين الرؤوس مسالك * ولرجله بين الصدور مجال
والمفاقر: الحاجات، يقال: سد الله مفاقره، أي أغنى الله فقره، ثم أمره أن يأمر
أهل مكة ألا يأخذوا من أحد من الحجيج أجرة مسكن، واحتج على ذلك بالآية،
وأصحاب أبي حنيفة يتمسكون بها في امتناع بيع دور مكة وإجارتها، وهذا بناء على أن

(1) ديوانه 71، وروايته: " أمر يدبره أبو عباد " وبعد هناك:
خرق على جلسائه فكأنهم * حضروا لملحمة ويوم جلاد
(2) الديوان: " يسطو على كتابه بدواته ".
(3) الديوان: " حرد " ودير هزقل: مجتمع المجانين كان.
32

المسجد الحرام هو مكة كلها، والشافعي يرى خلاف ذلك، ويقول: إنه الكعبة،
ولا يمنع من بيع دور مكة ولا إجارتها، ويحتج بقوله تعالى: (الذين أخرجوا
من ديارهم) (1)، وأصحاب أبي حنيفة يقولون: إنها إضافة اختصاص لا إضافة تمليك،
كما تقول: جل الدابة، وقرأ " سواء " بالنصب على أن يكون أحد مفعولي " جعلنا " أي جعلناه مستويا فيه العاكف والباد، ومن قرأ بالرفع جعل الجملة هي (2) المفعول
الثاني.

(1) الحج 4.
(2) في د " على ".
33

(68)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه إلى سلمان الفارسي رحمه الله قبل أيام خلافته:
أما بعد، فإنما مثل الدنيا مثل (1) الحية، لين مسها، قاتل سمها، فأعرض
عما يعجبك فيها، لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها، لما أيقنت به
من فراقها، وتصرف حالاتها، وكن آنس ما تكون بها أحذر ما تكون منها،
فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخصته إلى، محذور أو إلى إيناس
أزالته عنه إلى إيحاش، والسلام.
* * *
الشرح:
[سلمان الفارسي وخبر إسلامه]
سلمان،، رجل من فارس من رامهرمز، وقيل: بل من أصبهان، من قرية يقال لها
جي، وهو معدود من موالي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكنيته أبو عبد الله،
وكان إذا قيل: ابن من أنت؟ يقول: أنا سلمان، ابن الاسلام، أنا من بني آدم.
وقد روى أنه قد تداوله أرباب كثيرة، بضعة عشر ربا، من واحد إلى آخر
حتى أفضى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2).
وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " أن سلمان أتى رسول الله

(1) في د " كمثل ".
(2) الاستيعاب 634 وما بعدها (طبعة نهضة مصر)، وبعدها هناك: " ومن الله عليه بالاسلام ".
34

(صلى الله عليه وآله) بصدقة، فقال: هذه صدقه عليك وعلى أصحابك، فلم يقبلها، وقال:
إنه لا تحل لنا الصدقة، فرفعها، ثم جاء من الغد بمثلها وقال: هدية هذه، فقال لأصحابه: كلوا.
واشتراه من أربابه، وهم قوم يهود بدراهم، وعلى أن يغرس لهم من النخيل كذا
وكذا، ويعمل فيها حتى تدرك، فغرس رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك النخل كله بيده
إلا نخلة واحده غرسها عمر بن الخطاب، فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة، فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله): " من غرسها "؟ قيل: عمر، فقلعها وغرسها رسول الله
(صلى الله عليه وآله) بيده فأطعمت (1).
قال أبو عمر: وكان سلمان يسف (2) الخوص وهو أمير على المدائن ويبيعه ويأكل
منه ويقول لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي، وكان قد تعلم سف الخوص من المدينة.
وأول مشاهده الخندق، وهو الذي أشار بحفره، فقال أبو سفيان وأصحابه لما رأوه:
هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها.
قال أبو عمر: وقد روى أن سلمان شهد بدر واحدا، وهو عبد يومئذ، والأكثر أن
أول مشاهده الخندق، ولم يفته بعد ذلك مشهد.
قال: وكان سلمان خيرا، فاضلا، حبرا، عالما، زاهدا، متقشفا.
قال: وذكر هشام بن حسان عن الحسن البصري، قال: كان عطاء سلمان خمسة
آلاف، وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به، ويأكل من عمل يده، وكانت له عباءة يفرش
بعضها ويلبس بعضها.

(1) بعدها في الاستيعاب: " من عامها ".
(2) يسف الخوص، أي ينسجه، وفى اللسان: " وفى حديث أبي ذر، قالت له امرأة: ما في بيتك سفة
ولا هفة، السفة: ما يسف من الخوص كالزبيل ونحوه ".
35

قال: وقد ذكر ابن وهب وابن نافع أن سلمان لم يكن له بيت، إنما كان يستظل بالجدر
والشجر، وإن رجلا قال له: ألا أبني لك بيتا تسكن فيه؟ قال: لا حاجة لي في ذلك
فما زال به الرجل حتى قال له: أنا أعرف البيت الذي يوافقك، قال: فصفه لي، قال: أبني
لك بيتا إذا أنت قمت فيه أصاب رأسك سقفه، وإن أنت مددت فيه رجليك أصابهما
[الجدار (1)]؟ قال: نعم، فبنى له.
قال أبو عمر: وقد روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من وجوه أنه قال: " لو كان
الدين في الثريا لناله سلمان "، وفى رواية أخرى " لناله رجل من فارس ".
قال: وقد روينا عن عائشة قالت: كان لسلمان مجلس من رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال: " وقد روى من حديث ابن بريدة، عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: " أمرني ربى بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم: على، وأبو ذر،
والمقداد، وسلمان ".
قال: وروى قتادة عن أبي هريرة، قال: " سلمان صاحب الكتابين " يعنى
الإنجيل والقرآن.
وقد روى الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي (عليه السلام) أنه
سئل عن سلمان فقال: علم العلم الأول، والعلم الاخر، ذاك بحر لا ينزف، وهو
منا أهل البيت.
قال: وفى رواية زاذان، عن علي (عليه السلام): سلمان الفارسي
كلقمان الحكيم.
قال: وقال فيه كعب الأحبار: سلمان حشي علما وحكمة.

(1) من " د ".
36

قال: وفى الحديث المروى أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال في نفر من المسلمين فقالوا: ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مأخذها - وأبو سفيان يسمع قولهم - فقال لهم
أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها! وأتى النبي (صلى الله عليه وآله) وأخبره
فقال: يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم! لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله، فأتاهم أبو بكر،
فقال أبو بكر: يا إخوتاه، لعلى أغضبتكم! قالوا: لا يا أبا بكر، يغفر الله لك.
قال: وآخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينه وبين أبى الدرداء لما آخى بين
المسلمين.
قال: ولسلمان فضائل جمة، وأخبار حسان، وتوفى في آخر خلافة عثمان
سنة خمس وثلاثين، وقيل: توفى في أول سنة ست وثلاثين. وقال قوم: توفى في
خلافة عمر، والأول أكثر.
وأما حديث إسلام سلمان فقد ذكره كثير من المحدثين (1) ورووه عنه، قال:
كنت ابن دهقان (2) قرية جي من أصبهان، وبلغ من حب أبى لي أن حبسني في
البيت كما تحبس الجارية، فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن (3) بيت النار،
فأرسلني أبى يوما إلى ضيعة له، فمررت بكنيسة النصارى، فدخلت عليهم، فأعجبتني
صلاتهم، فقلت: دين هؤلاء خير من ديني، فسألتهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فهربت من والدي حتى قدمت الشام، فدخلت على الأسقف (4) فجعلت
أخدمه وأتعلم منه، حتى حضرته الوفاة، فقلت: إلى من توصي بي؟ فقال: قد هلك
الناس وتركوا دينهم إلا رجلا بالموصل فالحق به، فلما قضى نحبه لحقت بذلك الرجل

(1) وقد ذكر خبر إسلامه أيضا ابن هشام، أورده في السيرة 1: 233 - 242.
(2) الدهقان: شيخ القرية في بلاد فارس.
(3) قطن النار: خادمها.
(4) الأسقف: من وظائف النصرانية، وهو فوق القسيس ودون المطران.
37

فلم يلبث إلا قليلا حتى حضرته الوفاة، فقلت: إلى من توصي بي؟ فقال: ما أعلم رجلا
بقي على الطريقة المستقيمة إلا رجلا بنصيبين، فلحقت بصاحب نصيبين. قالوا: وتلك
الصومعة اليوم باقية، وهي التي تعبد فيها سلمان قبل الاسلام، قال: ثم احتضر صاحب
نصيبين، فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم، فأتيته وأقمت عنده، واكتسبت
بقيرات وغنيمات، فلما نزل به الموت قلت له: بمن توصي بي؟ فقال: قد ترك الناس
دينهم، وما بقي أحد منهم على الحق، وقد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم،
يخرج بأرض العرب مهاجرا إلى أرض بين حرتين، لها نخل، قلت: فما علامته؟ قال:
يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة،
قال: ومر بي ركب من كلب، فخرجت معهم، فلما بلغوا بي وادي القرى ظلموني
وباعوني من يهودي، فكنت أعمل له في زرعه ونخله، فبينا أنا عنده إذ قدم ابن عم
له، فابتاعني منه، وحملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها، وبعث الله
محمدا بمكة، ولا أعلم بشئ من أمره، فبينا أنا في رأس نخلة إذ أقبل ابن عم لسيدي،
فقال: قاتل الله بنى قيلة، قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من مكة، يزعمون
أنه نبي، قال: فأخذني القر والانتفاض، ونزلت عن (1) النخلة، وجعلت أستقصي في
السؤال، فما كلمني سيدي بكلمة، بل قال: أقبل على شأنك، ودع مالا يعنيك. فلما
أمسيت أخذت شيئا كان عندي من التمر، وأتيت به النبي (صلى الله عليه وآله)
فقلت له: بلغني أنك رجل صالح، وأن لك أصحابا غرباء ذوي حاجة، وهذا شئ
عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، فقال (عليه السلام) لأصحابه: كلوا، وأمسك
فلم يأكل، فقلت في نفسي: هذه واحدة وانصرفت، فلما كان من الغد أخذت ما كان بقي عندي وأتيته به، فقلت له: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية،

(1) ب " من ".
38

فقال: كلوا وأكل معهم، فقلت إنه لهو، فأكببت عليه أقبله وأبكى، فقال: مالك؟
فقصصت عليه القصة فأعجبه، ثم قال: يا سلمان، كاتب صاحبك، فكاتبته على
ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للأنصار: " أعينوا أخاكم "،
فأعانوني بالنخل حتى جمعت ثلاثمائة ودية، فوضعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده، فصحت كلها، وأتاه مال من بعض المغازي، فأعطاني منه، وقال: أد كتابتك، فأديت وعتقت.
وكان سلمان من شيعة على (عليه السلام) وخاصته، وتزعم الامامية إنه أحد الأربعة
الذين حلقوا رؤوسهم وأتوه متقلدي سيوفهم في خبر يطول، وليس هذا موضع ذكره وأصحابنا لا يخالفونهم في أن سلمان كان من الشيعة، وإنما يخالفونهم في أمر أزيد من ذلك،
وما يذكره المحدثون من قوله للمسلمين يوم السقيفة: كرديد ونكرديد محمول عند أصحابنا
على أن المراد صنعتم شيئا وما صنعتم، أي استخلفتم خليفة ونعم ما فعلتم، إلا أنكم عدلتم
عن أهل البيت،، فلو كان الخليفة منهم كان أولى والامامية تقول: معناه: " أسلمتم
وما أسلمتم واللفظة المذكورة في الفارسية لا تعطى هذا المعنى، وإنما تدل على الفعل والعمل لا غير، ويدل على صحة قول أصحابنا أن سلمان عمل لعمر على المدائن، فلو كان
ما تنسبه الامامية إليه حقا لم يعمل له.
فأما ألفاظ الفصل ومعانيه فظاهرة، ومما يناسب مضمونه قول بعض الحكماء:
تعز عن الشئ إذا منعته، بقلة صحبته لك إذا أعطيته.
وكان يقال: الهالك على الدنيا رجلان: رجل نافس في عزها، ورجل أنف
من ذلها.
39

ومر بعض الزهاد بباب دار وأهلها يبكون ميتا لهم، فقال: واعجبا لقوم مسافرين!
يبكون مسافرا قد بلغ منزله!
وكان يقال: يا بن آدم، لا تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت، ولا تفرح بموجود
لا يتركه عليك الموت.
لقي عالم من العلماء راهبا فقال: أيها الراهب، كيف ترى الدنيا؟ قال: تخلق
الأبدان، وتجدد الآمال، وتباعد الأمنية، وتقرب المنية، قال: فما حال أهلها؟ قال:
من ظفر بها نصب، ومن فاتته أسف، قال: فكيف الغنى عنها؟ قال: بقطع الرجاء منها،
قال: فأي الأصحاب أبر وأوفى؟ قال: العمل الصالح، قال: فأيهم أضر وأنكى؟ قال:
النفس والهوى، قال: فكيف المخرج؟ قال: في سلوك المنهج، قال: وبماذا أسلكه؟
قال: بأن تخلع لباس الشهوات الفانية، وتعمل للدار الباقية.
40

(69)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه إلى الحارث الهمداني:
وتمسك بحبل القرآن وانتصحه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وصدق
بما سلف من الحق، واعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها فإن بعضها يشبه
بعضا، وآخرها لاحق بأولها، وكلها حائل مفارق.
وعظم اسم الله أن تذكره إلا على حق، وأكثر ذكر الموت وما بعد الموت،
ولا تتمن الموت إلا بشرط وثيق.
واحذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه، ويكرهه لعامة المسلمين، واحذر
كل عمل يعمل به في السر، ويستحى منه في العلانية، واحذر كل عمل
إذا سئل عنه صاحبه أنكره واعتذر منه، ولا تجعل عرضك غرضا لنبال القوم،
ولا تحدث الناس بكل ما سمعت به، فكفى بذلك كذبا، ولا ترد على الناس
كل ما حدثوك به، فكفى بذلك جهلا.
وأكظم الغيظ، واحلم عند الغضب، وتجاوز عند المقدرة، وأصفح مع الدولة
تكن لك العاقبة، واستصلح كل نعمة أنعمها الله عليك، ولا تضيعن نعمة
من نعم الله عندك، ولير عليك أثر ما أنعم الله به عليك.
واعلم أن أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة من نفسه وأهله وماله، وإنك ما
تقدم
من خير يبق لك ذخره، وما تؤخره يكن لغيرك خيره.
41

واحذر صحابة من يفيل راية، وينكر عمله، فإن الصاحب معتبر
بصاحبه.
واسكن الأمصار العظام فإنها جماع المسلمين، واحذر منازل الغفلة والجفاء،
وقلة الأعوان على طاعة الله، واقصر رأيك على ما يعنيك.
وإياك ومقاعد الأسواق فإنها محاضر الشيطان، ومعاريض الفتن. وأكثر
أن تنظر إلى من فضلت عليه، فإن ذلك من أبواب الشكر.
ولا تسافر في يوم جمعة حتى تشهد الصلاة إلا فاصلا في سبيل الله، أوفى أمر
تعذر به.
وأطع الله في جمل أمورك، فإن طاعة الله فاضلة على ما سواها.
وخادع نفسك في العبادة وأرفق بها ولا تقهرها، وخذ عفوها ونشاطها، إلا ما كان
مكتوبا عليك من الفريضة، فإنه لا بد من قضائها، وتعاهدها عند محلها.
وإياك أن ينزل بك الموت وأنت آبق من ربك في طلب الدنيا، وإياك
ومصاحبة الفساق، فإن الشر بالشر ملحق.
ووقر الله، وأحبب أحباءه، واحذر الغضب، فإنه جند من جنود إبليس،
والسلام.
* * *
الشرح:
[الحارث الأعور ونسبه]
هو الحارث الأعور صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو الحارث بن عبد الله
ابن كعب بن أسد بن نخلة بن حرث بن سبع بن صعب بن معاوية الهمداني، كان أحد
42

الفقهاء، له قول في الفتيا، وكان صاحب على (عليه السلام)، وإليه تنسب الشيعة الخطاب
الذي خاطبه به في قوله (عليه السلام):
يا حار همدان من يمت يرني * من مؤمن أو منافق قبلا
وهي أبيات مشهورة قد ذكرناها فيما تقدم.
[نبذ من الأقوال الحكيمة]
وقد اشتمل هذا الفصل على وصايا جليلة الموقع:
منها قوله: " وتمسك بحبل القرآن "، جاء في الخبر المرفوع لما ذكر الثقلين فقال: أحدهما كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض طرف بيد الله وطرف بأيديكم ".
ومنها قوله: " انتصحه " أي عده ناصحا لك فيما أمرك به ونهاك عنه.
ومنها قوله: " وأحل حلاله وحرم حرامه "، أي أحكم بين الناس في الحلال والحرام
بما نص عليه القرآن.
ومنها قوله: " وصدق بما سلف من الحق " أي صدق بما تضمنه القرآن من أيام الله
ومثلاته في الأمم السالفة لما عصوا وكذبوا.
ومنها قوله: " واعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها "، وفى المثل: إذا شئت أن
تنظر الدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك، وقال الشاعر:
وما نحن إلا مثلهم غير أننا * أقمنا قليلا بعدهم ثم نرحل.
ويناسب قوله: " وآخرها لاحق بأولها، وكلها حائل مفارق " قوله أيضا (عليه السلام)

(1) في د " وتر حلوا " والمعنى عليه يستقيم أيضا.
43

في غير هذا الفصل الماضي: للمقيم عبرة، والميت للحي عظة، وليس لامس عودة،
ولا المرء من غد على ثقة، الأول للأوسط رائد، والأوسط للأخير قائد وكل بكل
لاحق، والكل للكل مفارق ".
ومنها قوله: " وعظم اسم الله أن تذكره إلا على حق "، قال الله سبحانه: (ولا تجعلوا
الله عرضة لايمانكم) (1)، وقد نهى عن الحلف بالله في الكذب والصدق، أما في أحدهما
فمحرم وأما في الاخر فمكروه، ولذلك لا يجوز ذكر اسمه تعالى في لغو القول والهزء والعبث.
ومنها قوله: " وأكثر ذكر الموت "، وما بعد الموت جاء في الخبر المرفوع: " أكثروا
ذكر هاذم (2) اللذات "، وما بعد الموت: العقاب والثواب في القبر وفي الآخرة.
ومنها قوله: " ولا تتمن الموت إلا بشرط وثيق "، هذه كلمة شريفة عظيمة القدر،
أي لا تتمن الموت إلا وأنت واثق من أعمالك الصالحة أنها تؤديك إلى الجنة، وتنقذك
من النار، وهذا هو معنى قوله تعالى لليهود: (إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم
بالظالمين) (3).
ومنها قوله: " واحذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه، ويكرهه لعامة المسلمين،
واحذر كل عمل يعمل في الستر، ويستحيا منه في العلانية، واحذر كل عمل إذا سئل عنه
صاحبه أنكره واعتذر منه "، وهذه الوصايا الثلاث متقاربة في المعنى، ويشملها معنى
قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم (4).

(1) سورة البقرة:
(2) هاذم اللذات، من الهذم وهو القطع.
(3) سورة الجمعة 6، 7.
(4) لأبي الأسود الدؤلي من قصيدته الميمية، أوردها صاحب
الخزانة في 3: 618.
44

وقال الله تعالى حاكيا عن نبي من أنبيائه: (وما أريد أن أخالفكم إلى
ما أنهاكم عنه) (1).
ومن كلام الجنيد الصوفي: ليكن عملك من وراء سترك كعملك من وراء الزجاج
الصافي. وفى المثل وهو منسوب إلى علي (عليه السلام) إياك وما يعتذر منه.
ومنها قوله: " ولا تجعل عرضك غرضا لنبال القوم "، قال الشاعر:
لا تستتر أبدا ما لا تقوم له * ولا تهيجن من عريسه الأسدا (2)
إن الزنابير أن حركتها سفها * من كورها أوجعت من لسعها الجسدا
وقال:
مقاله السوء إلى أهلها * أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمه * ذموه بالحق وبالباطل
ومنها قوله: " ولا تحدث الناس بكل ما سمعت، فكفى بذلك كذبا "، قد نهى أن
يحدث الانسان بكل ما رأى من العجائب فضلا عما سمع، لان الحديث الغريب المعجب
تسارع النفس إلى تكذيبه، وإلى أن تقوم الدلالة على صدقه قد فرط من سوء الظن
فيه ما فرط.
ويقال: إن بعض العلوية قال في حضرة عضد الدولة ببغداد: عندنا في الكوفة نبق
وزن كل نبقة مثقالان. فاستطرف الملك ذلك، وكاد يكذبه الحاضرون، فلما قام ذكر
ذلك لأبيه، فأرسل حماما كان عنده في الحال إلى الكوفة يأمر وكلاءه بإرسال مائة
حمامة، في رجلي كل واحدة نبقتان من ذلك النبق، فجاء النبق في بكرة الغد
وحمل إلى
عضد الدولة، فاستحسنه وصدقه حينئذ، ثم قال له لعمري لقد صدقت،

(1) هود 88.
(2) العريسة: مأوى الأسد.
45

ولكن لا تحدث فيما بعد بكل ما رأيت من الغرائب، فليس كل وقت يتهيأ لك
إرسال الحمام.
وكان يقال: الناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون،
ويتحدثون بأحسن ما يحفظون، والأصدق نوع تحت جنس الأحسن.
ومنها قوله: " ولا ترد على الناس كل ما حدثوك، فكفى بذلك جهلا "، من الجهل
المبادرة بإنكار ما يسمعه، وقال ابن سينا في آخر " الإشارات " إياك أن يكون تكيسك
وتبرؤك من العامة، هو أن تنبري منكرا لكل شئ، فلذلك عجز وطيش، وليس
الخرق في تكذيبك ما لم يستبن لك بعد جليته دون الخرق في تصديقك بما لم تقم بين
يديك بينة، بل عليك الاعتصام بحبل التوقف وان أزعجك استنكار ما يوعيه سمعك
مما لم يبرهن على استحالته لك، فالصواب أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الامكان، ما لم
يذدك عنها قائم البرهان.
ومنها قوله: " واكظم الغيظ " قد مدح الله تعالى ذلك فقال: (والكاظمين
الغيظ) (1)، وروى أن عبدا لموسى بن جعفر (عليه السلام) قدم إليه صحفة فيها طعام حار،
فعجل فصبها على رأسه ووجهه، فغضب، فقال له: والكاظمين الغيظ، قال: قد كظمت،
قال: (والعافين عن الناس) قال: قد عفوت، قال (والله يحب المحسنين) (1)، قال: أنت
حر لوجه الله، وقد نحلتك ضيعتي الفلانية.
ومنها قوله: " واحلم عند الغضب "، هذه مناسبة الأولى، وقد تقدم منا قول كثير
في الحلم وفضله، وكذلك القول في قوله (عليه السلام): " وتجاوز عند القدرة "، وكان
يقال: القدرة تذهب الحفيظة.

(1) سورة آل عمران 134.
46

ومنها قوله: واصفح مع الدولة تكن لك العاقبة "، هذه كانت شيمة رسول الله
(صلى الله عليه وآله)، وشيمة على (عليه السلام)، أما شيمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فظفر بمشركي مكة وعفا عنهم، كما سبق القول فيه في عام الفتح، وأما على (عليه السلام)
فظفر بأصحاب الجمل وقد شقوا عصا الاسلام عليه، وطعنوا فيه وفى خلافته، فعفا عنهم،
مع علمه بأنهم يفسدون عليه أمره فيما بعد، ويصيرون إلى معاوية، إما بأنفسهم أو بآرائهم
ومكتوباتهم، وهذا أعظم من الصفح عن أهل مكة، لان أهل مكة لم يبق لهم لما فتحت
فئة يتحيزون إليها، ويفسدون الدين عندها.
ومنها قوله: " واستصلح كل نعمة أنعمها الله عليك " معنى استصلحها استدمها،
لأنه إذا استدامها فقد أصلحها، فإن بقاءها صلاح لها، واستدامتها بالشكر.
ومنها قوله: ولا تضيعن نعمة من نعم الله عندك "، أي واس الناس منها،
وأحسن إليهم، و أجعل بعضها لنفسك وبعضها للصدقة والايثار، فإنك إن لم تفعل ذلك
تكن قد أضعتها.
ومنها قوله: " ولير عليك أثر النعمة قد أمر بأن يظهر الانسان على نفسه آثار
نعمة الله عليه، وقال سبحانه: (وأما بنعمة ربك فحدث) (1) وقال الرشيد لجعفر: قم
بنا لنمضي إلى منزل الأصمعي، فمضيا إليه خفية ومعهما خادم معه ألف دينار ليدفع ذلك
إليه، فدخلا داره فوجدا كساء جرداء، وبارية (2) سملاء، وحصيرا مقطوعا، وخباء
قديمة، وأباريق من خزف، ودواة من زجاج، ودفاتر عليها التراب وحيطانا مملوءة
من نسج العناكب، فوجم الرشيد، وسأله مسائل غثة لم تكن من غرضه، وإنما
قطع بها خجله، وقال الرشيد لجعفر: ألا ترى إلى نفس هذا المهين، قد بررناه بأكثر

(1) الضحى 11.
(2) البارية: الحصيرة.
47

من خمسين ألف دينار وهذه حاله، لم تظهر عليه آثار نعمتنا! والله لا دفعت إليه شيئا،
وخروج ولم يعطه.
ومنها قوله واعلم أن أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة من نفسه وأهله وماله "،
أي أفضلهم إنفاقا في البر والخير من ماله، وهي التقدمة، قال الله تعالى: (وما تقدموا
لأنفسكم من خير تجدوه) (1)، فأما النفس والأهل، فإن تقدمتهما في الجهاد،
وقد تكون التقدمة في النفس بأن يشفع شفاعة حسنة أو يحضر عند السلطان بكلام طيب،
وثنا حسن، وأن يصلح بين المتخاصمين، ونحو ذلك، والتقدمة في الأهل أن يحج
بولده وزوجته ويكلفهما المشاق في طاعة الله، وأن يؤدب ولده أن أذنب، وأن يقيم عليه
الحد، ونحو ذلك.
ومنها قوله: " وما تقدم من خير يبق لك ذخره وما تؤخره يكن لغيرك خيره "، وقد
سبق مثل هذا، وأن ما يتركه الانسان بعده فقد حرم نفعه، وكأنما كان يكدح لغيره،
وذلك من الشقاوة وقلة التوفيق.
و منها قوله: " واحذر صحابة من يفيل رأيه " الصحابة بفتح الصاد، مصدر صحبت
و الصحابة بالفتح أيضا جمع صاحب، والمراد هاهنا الأول، وفال رأيه: فسد، وهذا المعنى
قد تكرر، وقال طرفة:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فإن القرين بالمقارن يقتدى.
ومنها قوله: " وأسكن الأمصار العظام "، قد قيل: لا تسكن إلا في مصر فيه
سوق قائمة، ونهر، جار وطبيب حاذق، وسلطان عادل، فأما منازل الغفلة والجفاء،
فمثل قرى السواد الصغار، فإن أهلها لا نور فيهم، ولا ضوء عليهم، وإنما هم كالدواب

(1) سورة البق ة 110.
48

والانعام، همهم الحرث والفلاحة، ولا يفقهون شيئا أصلا فمجاورتهم تعمى القلب،
وتظلم الحس، وإذا لم يجد الانسان من يعينه على طاعة الله وعلى تعلم العلم
قصر فيهما.
ومنها قوله، واقصر رأيك على ما يعنيك "، كان يقال: من دخل فيما لا يعنيه
فاته ما يعنيه.
ومنها نهيه إياه عن القعود في الأسواق قد جاء في المثل: السوق محل الفسوق.
وجاء في الخبر المرفوع: " الأسواق مواطن إبليس وجنده "، وذلك لأنها قلما تخلو عن
الايمان الكاذبة، والبيوع الفاسدة وهي أيضا مجمع النساء المومسات، وفجار الرجال،
وفيها اجتماع أرباب الأهواء والبدع، فلا يخلو أن يتجادل اثنان منهم في المذاهب والنحل
فيفضي إلى الفتن.
ومنها قوله: " وانظر إلى من فضلت عليه "، كان يقال: انظر إلى من دونك، ولا تنظر
إلى من فوقك، وقد بين (عليه السلام) السر فيه فقال: إن ذلك من أبواب الشكر،
وصدق (عليه السلام)، لأنك إذا رأيت جاهلا وأنت عالم، أو عالما وأنت أعلم منه أو فقيرا
وأنت أغنى [منه] (1)، أو مبتلى بسقم وأنت معافى عنه، كان ذلك باعثا وداعيا لك
إلى الشكر.
ومنها نهيه عن السفر يوم الجمعة ينبغي أن يكون هذا النهى عن السفر يوم الجمعة
قبل الصلاة، وأما بعد الصلاة، فلا بأس به، واستثنى فقال: إلا فاصلا في سبيل الله،
أي شاخصا إلى الجهاد.
قال: أو في أمر تعذر به "، أي لضرورة دعتك إلى ذلك.

(1) تكملة من ا.
49

وقد ورد نهى كثير عن السفر يوم الجمعة قبل أداء الفرض، على أن من الناس من
كره ذلك بعد الصلاة أيضا، وهو قول شاذ.
ومنها قوله: " وأطع الله في جمل أمورك "، أي في جملتها، وفيها كلها، وليس يعنى
في جملتها دون تفاصيلها، قال: " فان طاعة الله فاضلة على غيرها "، وصدق (عليه السلام)،
لأنها توجب السعادة الدائمة، والخلاص من الشقاء الدائم، ولا أفضل مما يؤدى
إلى ذلك.
ومنها قوله: " وخادع نفسك في العبادة، أمره أن يتلطف بنفسه في النوافل، وأن
يخادعها ولا يقهرها فتمل وتضجر وتترك (1)، بل يأخذ عفوها، ويتوخى أوقات النشاط، وانشراح الصدر للعبادة.
قال: فأما الفرائض فحكمها غير هذا الحكم، عليك أن تقوم بها، كرهتها
النفس أو لم تكرهها. ثم أمره أن يقوم بالفريضة في وقتها، ولا يؤخرها عنه
فتصير قضاء.
ومنها قوله: " وإياك أن ينزل بك المنون وأنت آبق من ربك في طلب الدنيا "،
هذه وصية شريفة جدا، جعل طالب الدنيا المعرض عن الله عند موته كالعبد الآبق يقدم
به على مولاه أسيرا مكتوفا ناكس الرأس، فما ظنك به حينئذ!
ومنها قوله: " وإياك ومصاحبة الفساق، فإن الشر بالشر ملحق "، يقول: إن الطباع
ينزع بعضها إلى بعض، فلا تصحبن الفساق فإنه ينزع بك ما فيك من طبع الشر
إلى مساعدتهم على الفسوق والمعصية، وما هو إلا كالنار تقوى بالنار، فإذا لم تجاورها
وتمازجها نار كانت إلى الانطفاء والخمود أقرب.

(1): " وتزل ".
50

وروى " ملحق " بكسر الحاء، وقد جاء ذلك في الخبر النبوي "، فإن عذابك
بالكفار ملحق " بالكسر.
ومنها قوله: " وأحب أحباءه "، قد جاء في الخبر: " لا يكمل إيمان امرئ حتى
يحب من أحب الله، ويبغض من أبغض الله ".
ومنها قوله: " واحذر الغضب "، قد تقدم لنا كلام طويل في الغضب، وقال إنسان
للنبي (صلى الله عليه وآله): أوصني، قال: " لا تغضب "، فقال زدني، فقال:
" لا تغضب "، قال: زدني، قال: لا أجد لك مزيدا "، وإنما جعله (عليه السلام)
جندا عظيما من جنود إبليس، لأنه أصل الظلم والقتل وإفساد كل أمر صالح،
وهو إحدى القوتين المشؤمتين اللتين لم يخلق أضر منهما على الانسان، وهما منبع الشر:
الغضب والشهوة
51

(70)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى سهل بن حنيف الأنصاري وهو عامله
على المدينة، في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية:
أما بعد، فقد بلغني أن رجالا ممن قبلك يتسللون إلى معاوية، فلا تأسف
على ما يفوتك من عددهم، ويذهب عنك من مددهم، فكفى لهم غيا، ولك منهم
شافيا فرارهم من الهدى والحق، وإيضاعهم إلى العمى والجهل، فإنما هم أهل دنيا
مقبلون عليها، ومهطعون إليها، قد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعلموا
أن الناس عندنا في الحق أسوة، فهربوا إلى الأثرة، فبعدا لهم وسحقا! إنهم والله
لم يفروا من جور، ولم يلحقوا بعدل، وإنا لنطمع في هذا الامر أن يذلل الله لنا
صعبه، ويسهل لنا حزنه، إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
* * *
الشرح:
قد تقدم نسب سهل بن حنيف وأخيه عثمان فيما مضى.
ويتسللون: يخرجون إلى معاوية هاربين في خفية واستتار.
قال: " فلا تأسف " أي لا تحزن. والغي: الضلال.
قال: " ولك منهم شافيا "، أي يكفيك في الانتقام منهم وشفاء النفس من عقوبتهم
أنهم يتسللون إلى معاوية.
52

قال: ارض لمن غاب عنك غيبته، فذاك ذنب عقابه فيه.
والإيضاع: الاسراع. وضع البعير أي أسرع، وأوضعه صاحبه، قال:
رأى برقا فأوضع فوق بكر * فلا يك ما أسال ولا أعاما.
ومهطعون: مسرعون (1) أيضا، والإثرة: الاستئثار، يقول قد عرفوا أنى لا أقسم
إلا بالسوية، وأنى لا أنفل قوما على قوم، ولا أعطى على الأحساب والأنساب كما فعل
غيري، فتركوني وهربوا إلى من يستأثر ويؤثر.
قال: " فبعدا لهم وسحقا "، دعاء عليهم بالبعد والهلاك.
وروى أنهم لم " ينفروا " بالنون، من نفر، ثم ذكر أنه راج من الله أن يذلل له
صعب هذا الامر، ويسهل له حزنه، والحزن، ما غلظ من الأرض، وضده السهل.

(1) في ا: " مهطعين: مسرعين ".
53

(71)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى المنذر بن الجارود العبدي وقد كان استعمله
على بعض النواحي، فخان الأمانة في بعض ما ولاه من أعماله:
أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك، وظننت أنك تتبع هديه، وتسلك
سبيله، فإذا أنت فيما رقى إلى عنك لا تدع لهواك انقيادا، ولا تبقى لآخرتك
عتادا، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان
ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك. ومن كان بصفتك
فليس بأهل أن يسد به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر، أو يشرك في أمانة،
أو يؤمن على جباية، فأقبل إلى حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله.
* * *
قال الرضى رضي الله عنه:
المنذر [بن الجارود] (1) هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين (عليه السلام):
إنه لنظار في عطفيه مختال في برديه، تفال في شراكيه.

(1) من ا.
54

الشرح:
[ذكر المنذر وأبيه الجارود] هو المنذر بن الجارود. واسم الجارود بشر بن خنيس بن المعلى، وهو الحارث بن
زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبه بن جذيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز
ابن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد
ابن عدنان، بيتهم بيت الشرف في عبد القيس، وإنما سمى الجارود لبيت قاله بعض الشعراء
فيه في آخره:
* كما جرد الجارود بكر بن وائل * (1).
ووفد الجارود على النبي (صلى الله عليه وآله) في سنة تسع، وقيل: في سنة عشر.
وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " (2) أنه كان نصرانيا فأسلم
وحسن إسلامه، وكان قد وفد مع المنذر بن ساوى في جماعة من عبد القيس، وقال:
شهدت بأن الله حق وسامحت * بنات فؤادي بالشهادة والنهض
فأبلغ رسول الله منى رسالة * بأني حنيف حيث كنت من الأرض
قال: وقد اختلف في نسبه اختلافا كثيرا، فقيل: بشر بن المعلى بن خنيس، وقيل:
بشر بن خنيس بن المعلى، وقيل: بشر بن عمرو بن العلاء، وقيل: بشر بن عمرو بن المعلى
وكنيته أبو عتاب، ويكنى أيضا أبا المنذر.
وسكن الجارود البصرة، وقتل بأرض فارس، وقيل: بل قتل بنهاوند مع النعمان ابن
مقرن. وقيل إن عثمان بن العاص بعث الجارود في بعث نحو ساحل فارس، فقتل

(1) صدره:
صدره: * ودسناهم بالخيل من كل جانب *
(2) الاستيعاب (نهضة مصر) 262 - 264.
55

بموضع يعرف بعقبة الجارود، وكان قبل ذلك يعرف بعقبة الطين، فلما قتل الجارود فيه عرفه الناس بعقبة الجارود، وذلك في سنة إحدى وعشرين.
وقد روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أحاديث وروى عنه، وأمه دريمكة بنت
رويم الشيبانية.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب " التاج ": إن رسول الله (صلى الله عليه
وآله) أكرم الجارود وعبد القيس حين وفدا إليه، وقال للأنصار قوموا إلى إخوانكم، و أشبه الناس بكم "، قال لأنهم أصحاب نخل، كما أن الأوس والخزرج أصحاب نخل،
ومسكنهم البحرين واليمامة. قال أبو عبيدة: وقال عمر بن الخطاب: لولا أنى سمعت رسول الله
(صلى الله عليه وآله) يقول: إن هذا الامر لا يكون إلا في قريش لما عدلت بالخلافة عن الجارود
ابن بشر بن المعلى، ولا تخالجني في ذلك الأمور.
قال أبو عبيدة: ولعبد القيس ست خصال فاقت بها على العرب، منها: أسود العرب
بيتا، وأشرفهم رهطا الجارود هو وولده.
ومنها أشجع العرب حكيم بن جبلة، قطعت رجله يوم الجمل، فأخذها بيده وزحف
على قاتله فضربه بها حتى قتله، وهو يقول:
يا نفس لا تراعى * إن قطعت كراعي
* إن معي ذراعي *
فلا يعرف في العرب أحد صنع صنيعه.
ومنها أعبد العرب هرم بن حيان صاحب أويس القرني.
ومنها أجود العرب عبد الله بن سواد بن همام، غزا السند في أربعة آلاف، ففتحها
وأطعم الجيش كله ذاهبا وقافلا فبلغه أن رجلا من الجيش مرض، فاشتهى خبيصا
56

فأمر باتخاذ الخبيص لأربعة آلاف إنسان، فأطعمهم حتى فضل، وتقدم إليهم ألا يوقد
أحد منهم نارا لطعام في عسكره مع ناره.
ومنها أخطب العرب مصقلة بن رقبة، به يضرب المثل فيقال: أخطب من مصقلة.
ومنها أهدى العرب في الجاهلية وأبعدهم مغارا وأثرا في الأرض في عدوه، وهو
دعيميص (1) الرمل كان يعرف بالنجوم هداية، وكان أهدى من القطا، يدفن بيض النعام
في الرمل مملوءا ماء ثم يعود إليه فيستخرجه.
فاما المنذر بن الجارود فكان شريفا، وابنه الحكم بن المنذر يتلوه في الشرف، والمنذر غير معدود في الصحابة، ولا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا ولد له في أيامه، وكان تائها معجبا بنفسه، وفي الحكم ابنه يقول الراجز:
يا حكم بن المنذر بن الجارود * أنت الجواد ابن الجواد المحمود
* سرادق المجد عليك ممدود *
وكان يقال: أطوع الناس في قومه الجارود بن بشر بن المعلى، لما قبض رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فارتدت العرب، خطب قومه فقال: أيها الناس، إن كان محمد قد
مات فإن الله حتى لا يموت، فاستمسكوا بدينكم، ومن ذهب له في هذه الفتنة دينار
أو درهم أو بقرة أو شاة فعلى مثلاه، فما خالفه من عبد القيس أحد.
* * *
قوله (عليه السلام): " إن صلاح أبيك غرني منك "، قد ذكرنا حال الجارود وصحبته
وصلاحه، وكثيرا ما يغتر الانسان بحال الاباء فيظن أن الأبناء على منهاجهم، فلا
يكون والامر كذلك (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي).
قوله: " فيما رقى " بالتشديد، أي فيما رفع إلى، وأصله أن يكون الانسان في موضع عال

(1) ب: دعميص "، وانظر القاموس.
57

فيرقى إليه شئ، وكأن العلو هاهنا هو علو المرتبة بين الامام والأمير، ونحوه قولهم: تعال
باعتبار علو رتبة الامر على المأمور، واللام في " لهواك " متعلقة بمحذوف دل عليه " انقيادا "،
ولا يتعلق بنفس " انقياد " لان المتعلق من حروف الجر بالمصدر لا يجوز أن يتقدم
على المصدر.
والعتاد: العدة.
قوله: " وتصل عشيرتك "، كان فيما رقى إليه عنه أنه يقتطع المال ويفيضه على رهطه
وقومه ويخرج بعضه في لذاته ومآربه.
قوله " لجمل أهلك "، العرب تضرب بالجمل المثل في الهوان قال:
لقد عظم البعير بغير لب * ولم يستغن بالعظم البعير (1)
يصرفه الصبي بكل وجه * ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوي * فلا غير لديه ولا نكير
فأما شسع النعل فضرب المثل بها في الاستهانة مشهور، لابتذالها ووطئها الاقدام
في التراب.
ثم ذكر أنه من كان بصفته فليس بأهل لكذا ولا كذا، إلى أن قال: " أو يشرك
في أمانة "، وقد جعل الله تعالى البلاد والرعايا أمانة في ذمة الامام، فإذا استعمل العمال على
البلاد والرعايا فقد شركهم في تلك الأمانة.
قال: " أو يؤمن على جباية "، أي على استجباء الخراج وجمعه، وهذه الرواية التي
سمعناها، ومن الناس من يرويها " على خيانة " وهكذا رواها الراوندي، ولم يرو الرواية الصحيحة
التي ذكرناها نحن، وقال يكون " على " متعلقة بمحذوف، أو " بيؤمن "
نفسها، وهو بعيد ومتكلف.

(1) للعباس بن مرداس السلمي، ديوان الحماسة 419 بشرح المرزوقي.
58

ثم أمره أن يقبل إليه، وهذه كناية عن العزل.
فأما الكلمات التي ذكرها الرضى عنه (عليه السلام) في أمر المنذر فهي دالة على أنه
نسبه إلى التيه والعجب، فقال: " نظار في عطفيه "، أي جانبيه، ينظر تارة هكذا وتارة هكذا، ينظر لنفسه، ويستحسن هيئته ولبسته، وينظر هل عنده نقص في ذلك أو عيب فيستدركه بإزالته، كما يفعل أرباب الزهو ومن يدعى لنفسه الحسن والملاحة.
قال: " مختال في برديه: يمشى الخيلاء عجبا " قال محمد بن واسع لابن له وقد رآه
يختال في برد له: ادن فدنا فقال: من أبن جاءتك هذه الخيلاء ويلك! أما أمك فأمة
ابتعتها بمائتي درهم، وأما أبوك فلا أكثر الله في الناس أمثاله.
قوله: " تفال في شراكيه "، الشراك: السير الذي يكون في النعل على ظهر القدم.
والتفل بالسكون: مصدر تفل أي بصق، والتفل محركا البصاق نفسه، وإنما يفعله
المعجب والتائه في شراكيه ليذهب عنهما الغبار والوسخ، يتفل فيهما ويمسحهما
ليعودا كالجديدين.
59

(72)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنه:
أما بعد، فإنك لست بسابق أجلك، ولا مرزوق ما أو ليس
لك، وأعلم بأن
الدهر يومان: يوم لك، ويوم عليك، وأن الدنيا دار دول، فما كان منها لك
أتاك على ضعفك، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك.
* * *
الشرح:
قد تقدم شرح مثل هذا الكلام، وهذا معنى مطروق، قد قال الناس فيه فأكثروا،
قال الشاعر:
قد يرزق العاجز الضعيف وما * شد بكور رحلا ولا قتبا (1)
ويحرم المرء ذو الجلادة والرأي ومن لا يزال مغتربا
جيد ما قيل في هذا المعنى قول أبى يعقوب الخريمي (2):
هل الدهر إلا صرفه ونوائبه * وسراء عيش زائل ومصائبه
يقول الفتى ثمرت مالي وإنما * لوارثه ما ثمر المال كاسبه

(1) من أبيات نسبها صاحب الأغاني (15: 21 - ساسي) إلى ابن عبدل الأسدي برواية مخالفة.
(2) ب: " الخرمي " التحريف.
60

يحاسب فيه نفسه في حياته * ويتركه نهبا لمن لا يحاسبه
فكله وأطعمه وخالسه وارثا * شحيحا ودهرا تعتريك نوائبه
أرى المال والانسان للدهر نهبة * فلا البخل مبقيه ولا الجود خاربه
لكل امرئ رزق وللرزق جالب * وليس يفوت المرء ما خط كاتبه
يخيب الفتى من حيث يرزق غيره * ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه
يساق إلى ذا رزقه وهو وادع * ويحرم هذا الرزق وهو يغالبه
وإنك لا تدرى: أرزقك في الذي * تطالبه أم في الذي لا تطالبه!
تناس ذنوب الأقربين فإنه * لكل حميم راكب هو راكبه
له هفوات في الرخاء يشوبها * بنصرة يوم لا توارى كواكبه
تراه غدوا ما أمنت وتتقى * بجبهته يوم الوغى من يحاربه
لكل امرئ إخوان بؤس ونعمة * وأعظمهم في النائبات أقاربه
61

(73)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية: أما بعد، فإني على التردد في جوابك، والاستماع إلى كتابك، لموهن رأيي، ومخطئ فراستي، وإنك إذ تحاولني الأمور، وتراجعني السطور، كالمستثقل النائم
تكذبه أحلامه، والمتحير القائم يبهظه مقامه، لا يدرى أله ما يأتي أم عليه،
ولست به، غير أنه بك شبيه.
وأقسم بالله أنه لولا بعض الاستبقاء، لوصلت منى إليك قوارع تقرع العظم،
وتنهس اللحم.
واعلم أن الشيطان قد ثبطك عن أن تراجع أحسن أمورك، وتأذن لمقال
نصيحك، والسلام لأهله،
* * *
الشرح:
روى " نوازع " جمع نازعة، أي جاذبة قالعة، وروى " تهلس اللحم " و " تلهس "
بتقديم اللام، وتهلس يكسر اللام: تذيبه حتى يصير كبدن به الهلاس، وهو السل،
وأما تلهس فهو بمعنى تلحس، أبدلت الحاء هاء، وهو عن لحست كذا بلساني بالكسر،
ألحسه، أي تأتى على اللحم حتى تلحسه لحسا، لان الشئ إنما يلحس إذا ذهب وبقى أثره،
وأما " ينهس " وهي الرواية المشهورة، فمعناه يعترق.
62

وتأذن بفتح الذال، أي تسمع.
قوله (عليه السلام): " إني لموهن رأيي " بالتشديد، أي إني لائم نفسي، ومستضعف رأيي
في أن جعلتك نظيرا، أكتب وتجيبني، وتكتب وأجيبك، وإنما كان ينبغي أن يكون
جواب مثلك السكوت لهوانك.
* * *
فإن قلت: فما معنى قوله: " على التردد؟ ".
قلت: أو ليس
معناه التوقف، بل معناه الترداد والتكرار، أي أنا لائم نفسي على أنى أكرر تارة بعد تارة أجوبتك عما تكتبه.
* * *
ثم قال: وإنك في مناظرتي ومقاومتي بالأمور التي تحاولها، والكتب التي تكتبها
كالنائم يرى أحلاما كاذبة، أو كمن قام مقاما بين يدي سلطان، أو بين قوم عقلاء ليعتذر عن
أمر، أو ليخطب بأمر في نفسه، قد بهظه مقامه ذلك، أي أثقله فهو لا يدرى: هل ينطق
بكلام هو له، أم عليه! فيتحير ويتبلد، ويدركه العمى والحصر.
قال: وإن كنت لست بذلك الرجل فإنك شبيه به، أما تشبيهه بالنائم ثم ذي الأحلام، فإن معاوية لو رأى في المنام في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه خليفة يخاطب
بإمرة المؤمنين، ويحارب عليا على الخلافة، ويقوم في المسلمين مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لما طلب لذلك المنام تأويلا ولا تعبيرا، ولعده من وساوس الخيال وأضغاث الأحلام، وكيف وأنى له أن يخطر هذا بباله، وهو أبعد الخلق منه! وهذا كما يخطر
للنفاط (1) أن يكون ملكا، ولا تنظرن إلى نسبه في المناقب بل انظر إلى أن

(1) النفاط: مستخرج النفط، وهو الزيت.
(2) حاشية ب: " قوله ولا تنظرن في المناقب "، قال في القاموس، " النقاب، بالكسر: الرجل
العلامة والبطن، ومنه: " فرخان في نقاب " يضر للمتشابهين، فعلى هذا يريد بالمناقبة المشابهة بالنسب.
يعنى أنى معاوية وإن كان في النسب له بعض المشابهة عليه السلام من حيث القرشية والقرابة ولكنه.
إذا نظرت إلى أن الإمامة هي نبوة مختصرة لا يصلح لها إلى من اجتمعت فيه فضائل من النبوة ومناقب تضارعها
وسوابق تتلوها، وأما الطلقاء وأبناء الطلقاء فليس لهم أن يتعرضوا لان يكونوا من أداني موالي أربابها ".
63

الإمامة هي نبوة مختصرة، وإن الطليق المعدود من المؤلفة قلوبهم المكذب بقلبه وإن أقر
بلسانه، الناقص المنزلة عند المسلمين، القاعد في أخريات الصف، إذا دخل إلى مجلس فيه أهل السوابق من المهاجرين، كيف يخطر ببال أحد أنها تصير فيه ويملكها ويسمه الناس
وسمها، ويكون للمؤمنين أميرا، ويصير هو الحاكم في رقاب أولئك العظماء من أهل الدين
والفضل! وهذا أعجب من العجب، أن يجاهد النبي (صلى الله عليه وآله) قوما بسيفه ولسانه
ثلاثا وعشرين سنة، ويلعنهم ويبعدهم عنه، وينزل القرآن بذمهم ولعنهم، والبراءة منهم،
فلما تمهدت له الدولة، وغلب الدين على الدنيا، وصارت شريعة دينية محكمة، مات فشيد
دينه الصالحون من أصحابه، وأوسعوا رقعة ملته، وعظم قدرها في النفوس، فتسلمها منهم
أولئك الأعداء الذين جاهدهم النبي (صلى الله عليه وآله) فملكوها وحكموا فيها، وقتلوا الصلحاء
والأبرار وأقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته، وآلت تلك الحركة الأولى وذلك الاجتهاد
السابق إلى أن كان ثمرته لهم، فليته كان يبعث فيرى معاوية الطليق وابنه، ومروان وابنه
خلفاء في مقامه، يحكمون على المسلمين، فوضح أن معاوية فيما يراجعه ويكاتبه به،
كصاحب الأحلام.
وأما تشبيهه إياه بالقائم مقاما قد بهظه، فلان الحجج والشبه والمعاذير التي يذكرها معاوية
في كتبه أوهن من نسج العنكبوت، فهو حال ما يكتب كالقائم ذلك المقام يخبط خبط العشواء،
ويكتب ما يعلم هو والعقلاء من الناس أنه سفه وباطل.
فإن قلت: فما معنى قوله (عليه السلام): " لولا بعض الاستبقاء وهل كانت الحال
تقتضي أن يستبقى! وما تلك القوارع التي أشار إليها.
64

قلت: قد قيل: إن النبي (صلى الله عليه وآله) فوض إليه أمر نسائه بعد موته، وجعل إليه أن يقطع عصمة أيتهن شاء إذا رأى ذلك، وله من الصحابة جماعة يشهدون له
بذلك، فقد كان قادرا على أن يقطع عصمة أم حبيبة، ويبيح نكاحها الرجال عقوبة لها
ولمعاوية أخيها فإنها كانت تبغض عليا كما يبغضه أخوها، ولو فعل ذلك لانتهس لحمه،
وهذا قول الإمامية، وقد رووا عن رجالهم أنه (عليه السلام) تهدد عائشة بضرب من ذلك،
وأما نحن فلا نصدق هذا الخبر، ونفسر كلامه على معنى آخر، وهو أنه قد كان معه
من الصحابة قوم كثيرون سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يلعن معاوية بعد إسلامه، ويقول: إنه منافق كافر، وإنه من أهل النار، والاخبار في ذلك مشهورة، فلو شاء
أن يحمل إلى أهل الشام خطوطهم وشهاداتهم بذلك، ويسمعهم قولهم ملافظة ومشافهة
لفعل، ولكنه رأى العدول عن ذلك، مصلحة لأمر يعلمه هو (عليه السلام)، ولو فعل ذلك
لانتهس لحمه، وإنما أبقى عليه.
وقلت لأبي زيد البصري: لم أبقى عليه؟ فقال: والله ما أبقى عليه مراعاة له،
ولا رفقا به، ولكنه خاف أن يفعل كفعله، فيقول لعمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة
وبسر بن أبي أرطاة وأبى الأعور وأمثالهم: ارووا أنتم عن النبي (صلى الله عليه وآله)
أن عليا (عليه السلام) منافق من أهل النار، ثم يحمل ذلك إلى أهل العراق، فلهذا السبب
أبقى عليه.
65

(74)
الأصل:
ومن حلف له (عليه السلام) كتبه بين ربيعة واليمن - ونقل من خط هشام
ابن الكلبي:
هذا ما اجتمع عليه أهل اليمن حاضرها وباديها، وربيعة حاضرها وباديها،
أنهم على كتاب الله يدعون إليه، ويأمرون به ويجيبون من دعا إليه وأمر به،
لا يشترون به ثمنا قليلا، ولا يرضون به بدلا وأنهم يد واحدة على من خالف
ذلك وتركه، وأنهم أنصار بعضهم لبعض، دعوتهم واحدة لا ينقضون عهدهم
لمعتبة عاتب، ولا لغضب، غاضب، ولا لاستذلال قوم قوما ولا لمسبة قوم قوما،
على ذلك شاهدهم وغائبهم، وسفيههم وعالمهم وحليمهم وجاهلهم.
ثم إن عليهم بذلك عهد الله وميثاقه، إن عهد الله كان مسؤولا.
وكتب علي بن أبي طالب.
* * *
الشرح:
الحلف: العهد، أي ومن كتاب حلف، فحذف، المضاف، واليمن: كمن ولده
قحطان، نحو حمير، وعك، وجذام، وكندة والأزد، وغيرهم.
وربيعة، هو ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وهم بكر وتغلب، وعبد القيس.
وهشام، هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي، نسابة ابن نسابة عالم بأيام العرب
وأخبارها، وأبوه أعلم منه، وهو يروى عن أبيه.
66

والحاضر: ساكنو الحضر: والبادي: ساكنو البادية واللفظ لفظ المفرد
والمعنى الجمع.
قوله: " إنهم على كتاب الله " حرف الجر يتعلق بمحذوف، أي مجتمعون.
قوله: " لا يشترون به ثمنا قليلا "، أي لا يتعوضون عنه بالثمن، فسمى التعوض
اشتراء، والأصل هو أن يشترى الشئ بالثمن لا الثمن بالشئ لكنه من باب اتساع العرب،
وهو من ألفاظ القرآن العزيز (1).
وأنهم يد واحدة، أي لا خلف بينهم.
قوله: " لمعتبة عاتب " أي لا يؤثر في هذا العهد والحلف، ولا ينقضه أن يعتب أحد
منهم على بعضهم، لأنه استجداه فلم يجده، أو طلب منه أمرا فلم يقم به، ولا لان أحدا منهم غضب من أمر صدر من صاحبه، ولا لان عزيزا منهم استذل ذليلا منهم، ولا لان
إنسانا منهم سب أو هجا بعضهم، فإن أمثال هذه الأمور يتعذر ارتفاعها بين الناس، ولو
كانت تنقض الحلف لما كان حلف أصلا.
وأعلم أنه قد ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله): " كل حلف كان في الجاهلية
فلا يزيده الاسلام إلا شدة " ولا حلف في الاسلام، لكن فعل أمير المؤمنين (عليه السلام)
أولى بالاتباع من خبر الواحد، وقد تحالفت العرب في الاسلام مرارا، ومن أراد الوقوف على ذلك فليطلبه من كتب التواريخ.

(1) وهو قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا).
67

(75)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية من المدينة في أول ما بويع له
بالخلافة - ذكره الواقدي في كتاب الجمل:
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان:
أما بعد، فقد علمت إعذاري فيكم، وإعراضي عنكم، حتى كان ما لابد منه
ولا دفع له، والحديث طويل، والكلام كثير، وقد أدبر ما أدبر، وأقبل
ما أقبل، فبايع من قبلك، وأقبل إلى في وفد من أصحابك. والسلام.
* * *
الشرح:
كتابه إلى معاوية ومخاطبته لبني أمية جميعا. قال: " وقد علمت إعذاري فيكم "،
أي كوني ذا عذر لو لمتكم أو ذممتكم - يعنى في أيام عثمان.
ثم قال: " وإعراضي عنكم " أي مع كوني ذا عذر لو فعلت ذلك فلم أفعله، بل أعرضت
عن إساءتكم إلى وضربت عنكم صفحا.
حتى كان مالا بد منه يعنى قتل عثمان
وما جرى من الرجبة بالمدينة.
ثم قاطعه الكلام مقاطعة وقال له: والحديث طويل، والكلام كثير،
وقد أدبر ذلك الزمان، وأقبل زمان آخر، فبايع وأقدم فلم يبايع، ولا قدم، وكيف يبايع
68

وعينه طامحة إلى الملك والرياسة منذ أمره عمر على الشام وكان عالي الهمة تواقا إلى
معالي الأمور، وكيف يطيع عليا والمحرضون له على حربه عدد الحصا! ولو لم يكن
إلا الوليد بن عقبة لكفى، وكيف يسمع قوله:
فوالله ما هند بأمك إن مضى * النهار ولم يثأر بعثمان ثائر
أيقتل عبد القوم سيد أهله * ولم تقتلوه، ليت أمك عاقر
ومن عجب أن بت بالشام وادعا * قريرا وقد دارت عليه الدوائر!
ويطيع عليا، ويبايع له، ويقدم عليه، ويسلم نفسه إليه وهو نازل بالشام في وسط
قحطان ودونه منهم حرة لا ترام، وهم أطوع له من نعله، والامر قد أمكنه الشروع فيه،
وتالله لو سمع هذا التحريض أجبن الناس وأضعفهم نفسا وأنقصهم همه لحركة وشحذ من عزمه، فكيف معاوية، وقد أيقظ الوليد بشعره من لا ينام
69

(76)
الأصل:
ومن وصية له (عليه السلام) لعبد الله بن العباس عند استخلافه إياه على البصرة:
سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك، وإياك والغضب فإنه طيرة
من الشيطان.
وأعلم أن ما قربك من الله يباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك
من النار.
* * *
الشرح:
روى: " وحلمك ". والقرب من الله، هو القرب من ثوابه، ولا شبهة أن ما قرب
من الثواب باعد من العقاب، وبالعكس لتنافيهما.
فأما وصيته له أن يسع الناس بوجهه ومجلسه وحكمه، فقد تقدم شرح مثله، وكذلك
القول في الغضب:
وطيرة من الشيطان: بفتح الطاء وسكون الياء، أي خفة وطيش
قال الكميت:
وحلمك عز إذا ما حلمت وطيرتك الصاب والحنظل (1)

(1) الصحاح 4: 728.
70

(77) ومن وصى) له (عليه السلام) لعبد الله بن العباس أيضا لما بعثه للاحتجاج
على الخوارج: لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون... ولكن
حاججهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا.
* * *
الشرح:
هذا الكلام لا نظير له في شرفه وعلو معناه، وذلك أن القرآن كثير الاشتباه،
فيه مواضع يظن في الظاهر أنها متناقضة متنافية، نحو قوله: " لا تدركه الابصار) (1) وقوله: (إلى ربها ناظرة) (2)، ونحو قوله: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن
خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) (3) قوله: (فأما ثمود فهديناهم،
فاستحبوا العمى على الهدى) (4)، ونحو ذلك، وهو كثير جدا، وأما السنة فليست
كذلك، وذلك لان الصحابة كانت تسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتستوضح منه
الاحكام في الوقائع، وما عساه يشتبه عليهم من كلامهم، يراجعونه فيه، ولم يكونوا
يراجعونه في القرآن إلا فيما قل بل كانوا يأخذونه منه تلقفا، وأكثرهم لا يفهم معناه،

(1) سورة الأنعام 103.
(2) سورة القيامة 23.
(3) سورة يس 9.
(4) سورة فصلت 17.
71

لا لأنه غير مفهوم، بل لأنهم ما كانوا يتعاطون فهمه، إما إجلالا له أو لرسول الله أن
يسألوه عنه، أو يجرونه مجرى الأسماء الشريفة التي إنما يراد منها بركتها لا الإحاطة بمعناها،
فلذلك كثر الاختلاف في القرآن، وأيضا فإن ناسخه ومنسوخه أكثر من ناسخ السنة
ومنسوخها، وقد كان في الصحابة من يسأل الرسول عن كلمة في القرآن يفسرها له تفسيرا
موجزا، فلا يحصل له كل الفهم، لما أنزلت آية الكلالة (1) وقال في آخرها: (يبين الله
لكم أن تضلوا) (2)، سأله عمر عن الكلالة ما هو؟ فقال له: يكفيك آية الصيف، لم يزد
على ذلك، فلم يراجعه عمر وانصرف، عنه، فلم يفهم مراده وبقى عمر على ذلك إلى أن مات،
وكان يقول بعد ذلك: اللهم مهما بينت، فإن عمر لم يتبين، يشير إلى قوله: (يبين الله
لكم أن تضلوا) وكانوا في السنة ومخاطبة الرسول على خلاف هذه القاعدة، فلذلك
أوصاه على (عليه السلام) أن يحاجهم بالسنة لا بالقرآن.
فإن قلت: فهل حاجهم بوصيته؟
قلت: لا بل حاجهم بالقرآن، مثل قوله: (فابعثوا حكما من أهله وحكما من
أهلها) (3) ومثل قوله في صيد المحرم: يحكم به ذوا عدل منكم) (4)، ولذلك
لم يرجعوا والتحمت الحرب، وإنما رجع باحتجاجه نفر منهم.
فإن قلت: فما هي السنة التي أمره أن يحاجهم بها؟
قلت: كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك غرض صحيح، وإليه أشار، وحوله
كان يطوف ويحوم، وذلك أنه أراد أن يقول لهم: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" على مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار "، وقوله: " اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله "، ونحو ذلك من الاخبار التي

(1) يريد قوله تعالى في آخر آية من سورة النساء: " يسألونك عن الكلالة " الخ.
(2) سورة النساء 12.
(3) سورة النساء 35.
(4) سورة المائدة 65.
72

كانت الصحابة قد سمعتها من فلق فيه (صلوات الله عليه)، وقد بقي ممن سمعها جماعة
تقوم الحجة وتثبت بنقلهم، ولو احتج بها على الخوارج في أنه لا يحل مخالفته والعدول عنه
بحال لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين في محاجتهم، وأغراض أخرى أرفع وأعلى منهم،
فلم يقع الامر بموجب ما أراد، وقضى عليهم بالحرب حتى أكلتهم عن آخرهم وكان
أمر الله مفعولا.
73

(78)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) أجاب به أبا موسى الأشعري عن كتاب كتبه
إليه من المكان الذي اتعدوا فيه للحكومة - وذكر هذا الكتاب سعيد
ابن يحيى الأموي في كتاب المغازي:
فإن الناس قد تغير كثير منهم عن كثير من حظهم، فمالوا مع الدنيا،
ونطقوا بالهوى، وإني نزلت من هذا الامر منزلا معجبا، اجتمع به أقوام
أعجبتهم أنفسهم، وأنا أداوى منهم قرحا أخاف أن يعود علقا يعود، وليس رجل
- فاعلم - أحرص الناس على جماعة أمة محمد (صلى الله عليه وآله) وألفتها منى،
أبتغي بذلك حسن الثواب، وكرم المآب.
وسأفي بالذي وأيت على نفسي، وإن تغيرت عن صالح ما فارقتني عليه،
فإن الشقي من حرم نفع ما أوتى من العقل والتجربة، وإني لأعبد أن يقول قائل
بباطل، وأن أفسد أمرا قد أصلحه الله، فدع عنك ما لا تعرف، فإن شرار الناس
طائرون إليك بأقاويل السوء، والسلام،
* * *
الشرح:
روى ونطقوا مع الهوى "، أي مائلين مع الهوى.
وروى: " وأنا أداري " بالراء من المداراة، وهي الملاينة والمساهلة.
74

وروى: " نفع ما أولى باللام، يقول: أوليته معروفا.
وروى: " إن قال قائل بباطل ويفسد أمرا [قد أصلحه الله (1)] ".
وأعلم أن هذا الكتاب كتاب من شك في أبى موسى و استوحش منه، ومن قد
نقل عنه إلى أبى موسى كلاما إما صدقا وإما كذبا. [وقد نقل عن أبي موسى إليه كلاما إما صدقا
أيضا وإما كذبا (2)]، قال (عليه السلام): إن الناس قد تغير كثير منهم عن حظهم من الآخرة، فمالوا مع الدنيا. وإني نزلت من هذا الامر منزلا معجبا، بكسر الجيم، أي يعجب
من رآه، أي يجعله متعجبا منه.
وهذا الكلام شكوى من أصحابه ونصاره من أهل العراق فإنهم كان اختلافهم عليه واضطرابهم شديدا جدا. والمنزل والنزول هاهنا مجاز واستعاره، والمعنى أنى حصلت في هذا
الامر الذي حصلت فيه على حال معجبة لمن تأملها، لأني حصلت بين قوم كل واحد منهم
مستبد برأي يخالف فيه رأى صاحبه، فلا تنتظم لهم كلمة ولا يستوثق لهم أمر، وإن حكمت
عليهم برأي أراه أنا خالفوه وعصوه، ومن لا يطاع فلا رأى له، وأنا معهم كالطبيب الذي
يداوى قرحا، أي جراحة قد قاربت الاندمال ولم تندمل بعد، فهو يخاف أن يعود علقا،
أي دما.
ثم قال له: أو ليس
أحد - فاعلم - أحرص على ألفه الأمة وضم نشر المسلمين.
وأدخل قوله: " فاعلم " بين اسم أو ليس
وخبرها فصاحة، ويجوز رفع " أحرص " بجعله
صفة لاسم " أو ليس
"، ويكون الخبر محذوفا - أي أو ليس
في الوجود رجل.
وتقول: قد وأيت وأيا أي، وعدت وعدا، قال له: أما أنا فسوف أفي بما وعدت وما
استقر بيني وبينك، وإن كنت أنت قد تغيرت عن صالح ما فارقتني عليه.

(1) من د.
(2) من د.
75

فإن قلت: فهل يجوز أن يكون قوله: " وإن تغيرت " من جملة قوله فيما بعد " فإن
الشقي " كما تقول إن خالفتني فإن الشقي من يخالف الحق.
قلت: نعم، والأول أحسن، لأنه أدخل في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام) كأنه
يقول: " أنا أفي وإن كنت لا تفي، والايجاب يحسنه السلب الواقع في مقابلته:
* والضد يظهر حسنه الضد *
ثم قال: " وإني لأعبد " أي آنف، من عبد بالكسر أي أنف، وفسروا قوله:
(فأنا أول العابدين) (1) بذلك، يقول: إني لآنف من أن يقول غيري قولا باطلا،
فكيف لا آنف أنا من ذلك لنفسي! ثم تختلف الروايات في اللفظة بعدها كما ذكرنا.
ثم قال: " فدع عنك ما لا تعرف " أي لا تبن أمرك إلا على اليقين والعلم القطعي،
ولا تصغ إلى أقوال الوشاة ونقلة الحديث، فإن الكذب يخالط أقوالهم كثيرا،
فلا تصدق ما عساه يبلغك عنى شرار الناس، فإنهم سراع إلى أقاويل السوء، ولقد أحسن
القائل فيهم:
إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا * شرا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
ونحو قول الاخر:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا * وإن ذكرت بخير عندهم دفنوا (2)

(1) سورة الزخرف 81.
(2) لقعنب بن أم صاحب، مختارات ابن الشجري 1: 7.
76

(79)
الأصل:
ومن كتاب كتبه (عليه السلام) لما استخلف إلى أمراء الأجناد:
أما بعد، فإنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه،
وأخذوهم بالباطل فاقتدوه.
* * *
أي منعوا الناس الحق فاشترى الناس الحق منهم بالرشاء والأموال، أي لم يضعوا
الأمور مواضعها، ولا ولوا الولايات مستحقيها، وكانت أمورهم الدينية والدنياوية تجرى
على وفق الهوى والغرض الفاسد، فاشترى الناس منهم الميراث والحقوق كما تشترى السلع بالمال.
ثم قال: " وأخذوهم بالباطل فاقتدوه "، أي حملوهم على الباطل فجاء الخلف من بعد
السلف، فاقتدوا بآبائهم وأسلافهم في ارتكاب ذلك الباطل ظنا أنه حق لما قد ألفوه ونشأوا
وربوا عليه.
وروى " فاستروه " بالسين المهملة أي اختاروه، يقال استريت خيار المال، أي اخترته
ويكون الضمير عائدا إلى " الظلمة " لا إلى " الناس "، أي منعوا الناس حقهم من المال
واختاروه لأنفسهم واستأثروا به.
77

باب الحكم والمواعظ
79

باب المختار من حكم أمير المؤمنين ومواعظه
ويدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله والكلام القصير
الخارج من سائر أغراضه
* * *
الشرح:
أعلم أن هذا الباب من كتابنا كالروح من البدن، والسواد من العين، وهو الدرة
المكنونة التي سائر الكتاب صدفها، وربما وقع فيه تكرار لبعض ما تقدم يسير جدا،
وسبب ذلك طول الكتاب وبعد أطرافه عن الذهن، وإذا كان الرضى رحمه الله قدسها
فكرر في مواضع كثيرة في " نهج البلاغة " على اختصاره كنا نحن في تكرار يسير
في كتابنا الطويل أعذر.
81

(1)
الأصل:
كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب.
* * *
الشرح:
ابن اللبون: ولد الناقة الذكر إذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة ولا يقال
للأنثى: ابنة اللبون، وذلك لان أمهما في الأغلب ترضع غيرهما، فتكون ذات لبن،
واللبون من الإبل والشاة ذات اللبن، غزيرة كانت أو بكيئة (1)، فإذا أرادوا الغزيرة
قالوا: لبنة، ويقال: ابن لبون وابن اللبون، منكرا أو معرفا، قال الشاعر:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن * لم يستطع صولة البزل القناعيس (2)
وابن اللبون لا يكون قد كمل وقوى ظهره على أن يركب، وليس بأنثى ذات ضرع
فيحلب وهو مطرح لا ينتفع به.
وأيام الفتنة هي أيام الخصومة والحرب بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة
كفتنة عبد الملك وابن الزبير، وفتنة مروان والضحاك، وفتنة الحجاج وابن الأشعث
ونحو ذلك، فأما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل وصفين ونحوهما
بل يجب الجهاد مع صاحب الحق وسل السيف والنهى عن المنكر وبذل النفس في إعزاز
الدين وإظهار الحق.

(1) البكيئة: قليلة اللبن.
(2) لجرير، ديوانه 323. القرن: الحبل، والقناعيس: الشداد.
82

قال (عليه السلام): أخمل نفسك أيام الفتنة، وكن ضعيفا مغمورا بين الناس لا تصلح
لهم بنفسك ولا بمالك ولا تنصر هؤلاء وهؤلاء.
وقوله: " فيركب " " فيحلب " منصوبان لأنهما جواب النفي، وفي الكلام محذوف
تقديره: " له "، وهو يستحق الرفع، لأنه خبر المبتدأ، مثل قولك: لا إله إلا الله،
تقديره " لنا "، أو " في الوجود ".
83

(2)
الأصل:
أزرى بنفسه من استشعر الطمع، ورضى بالذل من كشف عن ضره،
وهانت عليه نفسه من أمر عليها لسانه.
* * *
الشرح:
هذه ثلاثة فصول: الفصل الأول في الطمع: قوله (عليه السلام) " أزرى بنفسه "، أي قصر بها.
من استشعر الطمع، أي جعله شعاره أي لازمه.
وفى الحديث المرفوع: " إن الصفا الزلزال الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع "،
وفى الحديث أنه قال للأنصار: إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع "
أي عند طمع الرزق.
وكان يقال: أكثر مصارع الألباب تحت ظلال الطمع.
وقال بعضهم العبيد ثلاثة: عبد رق، وعبد شهوة، وعبد طمع.
وسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الغنى، فقال اليأس عما في أيدي الناس،
ومن مشى منكم إلى طمع الدنيا فليمش رويدا "
84

وقال أبو الأسود:
البس عدوك في رفق وفي دعة * طوبى لذي أربة للدهر لباس
ولا تغرنك أحقاد مزملة * قد يركب الدبر الدامي بأحلاس
واستغن عن كل ذي قربى وذي رحم * إن الغنى الذي استغنى عن الناس
قال عمر: ما الخمر صرفا بأذهب لعقول الرجال من الطمع.
وفى الحديث المرفوع: " الطمع الفقر الحاضر ".
قال الشاعر:
رأيت مخيلة فطمعت فيها * وفى الطمع المذلة للرقاب.
الفصل الثاني في الشكوى: قال (عليه السلام): " من كشف للناس ضره " أي شكى
إليهم بؤسه وفقره، " فقد رضى بالذل ".
كان يقال: لا تشكون إلى أحد، فإنه إن كان عدوا سره، وإن كان صديقا ساءه
وليست مسرة العدو ولا مساءة الصديق بمحمودة.
سمع الأحنف رجلا يقول لم أنم الليلة من وجع ضرسي، فجعل يكثر، فقال: يا هذا
لم تكثر؟ فوالله لقد ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة فما شكوت ذلك إلى أحد، ولا أعلمت
بها أحدا.
الفصل الثالث في حفظ اللسان: قد تقدم لنا قول شاف في ذلك، وكان يقال: حفظ
اللسان راحة الانسان، وكان يقال: رب كلمة سفكت دما، وأورثت ندما.
وفي الأمثال العامية، قال اللسان للرأس: كيف أنت؟ قال: بخير لو تركتني.
وفي وصيه المهلب لولده، يا بنى تباذلوا تحابوا، فان بنى الأعيان يختلفون فكيف ببني
العلات، إن البر ينسأ في الاجل، ويزيد في العدد، وإن القطيعة تورث القلة، وتعقب
85

النار بعد الذلة، اتقوا زلة اللسان فإن الرجل تزل رجله فينتعش، ويزل لسانه فيهلك،
وعليكم في الحرب بالمكيدة، فإنها أبلغ من النجدة وإن القتال إذا وقع وقع القضاء،
فإن ظفر الرجل ذو الكيد والحزم سعد، وإن ظفر به لم يقولوا: فرط.
وقال الشاعر في هذا المعنى: يموت الفتى من عثرة بلسانه * وليس يموت المرء من عثرة الرجل
86

(3)
الأصل:
البخل عار، والجبن منقصة، والفقر يخرس الفطن عن حاجته والمقل
غريب في بلدته.
* * *
الشرح:
هذه ثلاثة فصول: الفصل الأول في البخل، وقد تقدم لنا كلام مقنع في ذلك.
ومن كلام بعض الحكماء في ذلك ما أقل من يحمده الطالب وتستقل به العشائر ويرضى عنه السائل، وما زالت أم الكرم نزورا وأم اللؤم ذلولا. وأكثر الواجدين
من لا يجود، وأكثر الأجواد من لا يجد.
وما أحسن قول القائل: كفى حزنا ان الجواد مقتر عليه، ولا معروف عند بخيل.
وكان يقال البخل مهانة والجود مهابة.
ومن أحسن ما نقل من جود عبد الله المأمون أن عمر بن مسعدة كاتبه مات في سنة
سبع عشرة ومائتين، وخلف تركه جليلة، فبعث أخاه أبا إسحاق المعتصم وجماعة معه من
الكتاب ليحصروا مبلغها، فجاء المعتصم إليه وهو في مجلس الخلافة ومعه الكتاب، فقال:
ما رأيتم؟ فقال المعتصم معظما لما رآه: وجدنا عينا، وصامتا، وضياعا، قيمة ذلك أجمع
ثمانية آلاف ألف دينار - ومد صوته
فقال المأمون: إنا لله! والله ما كنت أرضاها
87

لتابع من أتباعه ليوفر هذا على مخلفيه! فخجل المعتصم حتى ظهر خجله للحاضرين.
* * *
الفصل الثاني في الجبن، وقد تقدم قولنا في فضل الشجاعة.
وقال هشام بن عبد الملك لمسلمة أخيه: يا أبا سعيد، هل دخلك ذعر في حرب قط
شهدتها؟ قال: ما سلمت في ذلك عن ذعر ينبه على حيلة ولا غشيني ذعر سلبني رأيي،
فقال له هشام: هذه والله البسالة قال أبو دلامة، وكان جبانا:
إني أعوذ بروح أن يقدمني * إلى القتال فتشقى بي بنو أسد
إن المهلب حب الموت أورثكم * ولم أرث رغبة في الموت عن أحد.
قال المنصور لأبي دلامة في حرب إبراهيم: تقدم ويلك! قال: يا أمير المؤمنين، شهدت
مع مروان بن محمد أربعة عساكر كلها انهزمت وكسرت، وإني أعيذك بالله أن يكون
عسكرك الخامس.
* * *
الفصل الثالث في الفقر. وقد تقدم القول فيه أيضا.
ومثل قوله: " الفقر يخرس الفطن عن حاجته قول الشاعر:
سأعمل نص العيس حتى يكفني * غنى المال يوما أو غنى الحدثان
فللموت خير من حياة يرى لها * على الحر بالإقلال وسم هوان
متى يتكلم يلغ حكم كلامه * وإن لم يقل قالوا عديم بيان
كأن الغنى عن أهله بورك الغنى بغير لسان ناطق بلسان
ومثل قوله (عليه السلام): " والمقل غريب في بلدته " قول خلف الأحمر:
لا تظني أن الغريب هو النائي * ولكنما الغريب المقل
وكان يقال: مالك نورك، فإن أردت أن تنكسف ففرقه وأتلفه.
88

قيل للإسكندر: لم حفظت الفلاسفة المال مع حكمتها ومعرفتها بالدنيا؟ قال: لئلا
تحوجهم الدنيا إلى أن يقوموا مقاما لا يستحقونه.
وقال بعض الزهاد: ابدأ برغيفيك فاحرزهما ثم تعبد.
وقال الحسن (عليه السلام): من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب، فإن علمت صدقه فهو عندي أحمق.
89

(4)
الأصل:
العجز آفة، والصبر شجاعة، والزهد ثروة، والورع جنة، ونعم القرين
الرضا.
* * *
الشرح:
فهذه فصول خمسة:
الفصل الأول: قوله (عليه السلام) " العجز آفة "، وهذا حق لان الآفة هي النقص
أو ما أوجب النقص، والعجز كذلك.
وكان يقال: العجز المفرط ترك التأهب للمعاد.
وقالوا: العجز عجزان، أحدهما عجز التقصير وقد أمكن الامر، والثاني الجد في طلبه
وقد فات.
وقالوا: العجز نائم والحزم يقظان.
* * *
الفصل الثاني في الصبر والشجاعة: قد تقدم قولنا في الصبر.
وكان يقال: الصبر مر، لا يتجرعه إلا حر.
وكان يقال: إن للأزمان المحمودة والمذمومة أعمارا وآجالا كأعمار الناس وآجالهم،
فاصبروا لزمان السوء حتى يفنى عمره، ويأتي أجله.
وكان يقال: إذا تضيفتك نازلة فاقرها الصبر عليها. وأكرم مثواها لديك بالتوكل
90

والاحتساب لترحل عنك، وقد أبقت عليك أكثر مما سلبت منك، ولا تنسها عند
رخائك، فإن تذكرك لها أوقات الرخاء يبعد السوء عن فعلك، وينفى القساوة عن قلبك
ويوزعك حمد الله وتقواه.
* * *
الفصل الثالث: قوله: " والزهد ثروة "، وهذا حق، لان الثروة ما استغنى
به الانسان عن الناس، ولا غناء عنهم كالزهد في دنياهم، فالزهد على الحقيقة هو
الغنى الأكبر.
وروى أن عليا (عليه السلام) قال لعمر بن الخطاب أول ما ولى الخلافة: إن سرك أن
تلحق بصاحبيك فقصر الامل، وكل دون الشبع، وارقع القميص واخصف النعل،
واستغن عن الناس بفقرك تلحق بهما.
وقف ملك على سقراط وهو في المشرفة قد أسند ظهره إلى جب كان يأوى إليه، فقال له: سل حاجتك، فقال: حاجتي أن تتنحى عنى، فقد منعني ظلك المرفق بالشمس، فسأله عن
الجب، قال: آوى إليه قال: فإن انكسر الجب لم ينكسر المكان.
وكان يقال: الزهد في الدنيا هو الزهد في المحمدة والرياسة، لا في المطعم والمشرب، وعند العارفين: الزهد ترك كل شئ يشغلك عن الله.
وكان يقال العالم إذا لم يكن زاهدا لكان عقوبة لأهل زمانة، لأنهم يقولون: لولا أن
علمه لم يصوب عنده الزهد لزهد، فهم يقتدون بزهده في الزهد.
الفصل الرابع قوله: " والورع جنة كان يقال: لا عصمة كعصمة الورع والعبادة،
أما الورع فيعصمك من المعاصي، وأما العبادة فتعصمك من خصمك، فان عدوك لو رآك
قائما تصلى وقد دخل ليقتلك لصد عنك وهابك.
91

وقال رجل من بنى هلال لبنيه: يا بنى اظهروا النسك فإن الناس إن رأوا من أحد
منكم بخلا، قالوا: مقتصد لا يحب الاسراف، وإن رأوا عيا، قالوا: متوق يكره
الكلام، وإن رأوا جبنا قالوا: متحرج يكره الاقدام على الشبهات.
الفصل الخامس: قوله: ونعم القرين الرضا "، قد سبق منا قول مقنع في الرضا.
وقال أبو عمرو بن العلاء: دفعت إلى أرض مجدبة بها نفر من الاعراب، فقلت
لبعضهم: ما أرضكم هذه؟ قال: كما ترى، لا زرع ولا ضرع، قلت فكيف تعيشون؟
قالوا: نحترش (1) الضباب، ونصيد الدواب، قلت: فكيف صبركم على ذلك؟ قالوا:
يا هذا، سل خالق الخلق، هل سويت؟ فقال: بل رضيت.
وكان يقال: من سخط القضاء طاح ومن رضى به استراح.
وكان يقال: عليك بالرضا، ولو قلبت على جمر الغضا.
وفي الخبر المرفوع أنه (صلى الله عليه وآله) قال عن الله تعالى: " من لم يرض بقضائي
فليتخذ ربا سوائي ".

(1) في اللسان: " حرش الضب يحرشه حرشا، واحترشه وتحرش وتحر عربه: أتى قفا جحره فقعقع
بعصاه عليه وأتلج طرفها في حجره فإذا سمع الصوت حسبه دابة تريد أن تدخل عليه فجاء يزحل على رجليه
وعجزه مقاتلا ويضرب بذنبه فناهزه الرجل فأخذ بذنبه فضبب عليه - أي شد القبض - فلم يقدر أن يفيصه
- أي يفلت منه ".
92

(5) الأصل:
العلم وراثة كريمة، والآداب حلل مجددة والفكر مرآة صافية.
* * *
إنما قال: " العلم وراثة " لان كل عالم من البشر إنما يكتسب علمه من أستاذ يهذبه
وموقف يعلمه، فكأنه ورث العلم عنه كما يرث الابن المال عن أبيه، وقد سبق منا كلام
شاف في العلم والأدب.
وكان يقال: عطيه العالم شبيهة بمواهب الله عز وجل، لأنها لا تنفد عند الجود بها وتبقى
بكمالها عند مفيدها.
وكان يقال: الفضائل العلمية تشبه النخل، بطئ الثمرة، بعيد الفساد.
وكان يقال: ينبغي للعالم ألا يترفع على الجاهل، وأن يتطامن له بمقدار ما رفعه الله
عليه، وينقله من الشك إلى اليقين، ومن الحيرة إلى التبيين، لان مكافحته قسوة والصبر
عليه وإرشاده سياسة.
ومثاله قول بعض الحكماء: الخير من العلماء من يرى الجاهل بمنزلة الطفل الذي
هو بالرحمة أحق منه بالغلظة، ويعذره بنقصه فيما فرط منه ولا يعذر نفسه في التأخر
عن هدايته.
93

وكان يقال: العلم في الأرض بمنزلة الشمس في الفلك، لولا الشمس لأظلم الجو، ولولا
العلم لأظلم أهل الأرض.
وكان يقال لا حله أجمل من حله الأدب، لان حلل الثياب تبلى، وحلل الأدب
تبقى، وحلل الثياب قد يغتصبها الغاصب، ويسرقها السارق، وحلل الآداب باقية مع
جوهر النفس.
وكان يقال الفكرة الصحيحة إصطرلاب روحاني.
وقال أوس بن حجر يرثى: إن الذي جمع السماحة والنجدة والحزم والنهى جمعا (1) الألمعي الذي يظن بك
الظن كأن قد رأى وقد سمعا.
ومن كلام الحكماء: النار لا ينقصها ما أخذ منها، ولكن يخمدها ألا تجد حطبا،
وكذلك العلم لا يفنيه الاقتباس ولكن فقد الحاملين له سبب عدمه.
قيل لبعضهم أي العلوم أفضل؟ قال: ما العامة فيه أزهد.
وقال أفلاطون: من جهل الشئ ولم يسأل عنه جمع على نفسه فضيحتين.
وكان يقال: ثلاثة لا تجربة معهن: أدب يزين، ومجانبة الريبة، وكف الأذى.
وكان يقال: عليكم بالأدب، فإنه صاحب في السفر، ومؤنس في الوحدة، وجمال في
المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة.
وكان عبد الملك أديبا فاضلا، ولا يجالس إلا أديبا.
وروى الهيثم بن عدي عن مسعر بن كدام، قال: حدثني سعيد بن خالد الجدلي،

(1) ديوانه 26.
94

قال: لما قدم عبد الملك الكوفة بعد قتل مصعب دعا الناس يعرضهم على فرائضهم،
فحضرنا بين يديه، فقال: من القوم؟ قلنا: جديلة، فقال جديلة عدوان؟ قلنا: نعم،
فأنشده:
عذير الحي من عدوان * كانوا حية الأرض (1)
بغى بعضهم بعضا * فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادات * والموفون بالقرض
ومنهم حكم يقضى: فلا ينقض ما يقضى
ومنهم من يجيز الناس * بالسنة والفرض
ثم أقبل على رجل منا وسيم جسيم قدمناه أمامنا، فقال: أيكم يقول هذا الشعر؟
قال: لا أدري، فقلت أنا من خلفه: يقوله ذو الإصبع، فتركني وأقبل على ذلك الرجل
الجسيم، فقال: ما كان اسم ذي الإصبع؟ قال: لا أدري، فقلت أنا من خلفه: اسمه
حرثان، فتركني وأقبل عليه، فقال له: ولم سمى ذا الإصبع؟ قال: لا أدرى، فقلت أنا
من خلفه: نهشته حية في إصبعه، فأقبل عليه وتركني، فقال: من أيكم كان؟ فقال:
لا أدرى فقلت أنا من خلفه: من بنى تاج الذين يقول الشاعر فيهم:
فأما بنو تاج فلا تذكرنهم * ولا تتبعن عيناك من كان هالكا
فأقبل على الجسيم، فقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة درهم، فأقبل على، وقال:
وكم عطاؤك أنت: قلت أربعمائة، فقال: يا أبا الزعيزعة، حط من عطاء هذا ثلاثمائة،
وزدها في عطاء هذا، فرحت وعطائي سبعمائة وعطاؤه أربعمائة (2):
وأنشد منشد بحضرة الواثق هارون بن المعتصم:

(1) يقال للرجل الصعب المنيع: حية الأرض.
(2) الخبر في الأغاني 3: 91، 92.
95

أظلوم إن مصابكم رجلا * أهدى السلام تحية ظلم (1).
فقال شخص: رجل هو خبر " إن "، ووافقه على ذلك وقم وخالفه آخرون فقال الواثق:
من بقي من علماء النحويين؟ قالوا: أبو عثمان المازني بالبصرة، فأمر بإشخاصه إلى سر من رأى بعد إزاحة علته، قال أبو عثمان فأشخصت، فلما أدخلت عليه قال: ممن الرجل؟ قلت: من مازن، قال: من مازن تميم، أم من مازن ربيعة، أم مازن قيس، أم مازن
اليمين؟ قلت: من مازن ربيعة، قال: باسمك؟ بالباء؟ - يريد: " ما اسمك " لان لغة مازن ربيعة هكذا، يبدلون الميم باء والباء ميما - فقلت: مكر أي " بكر "، فضحك وقال: اجلس
واطمئن، فجلست فسألني عن البيت فأنشدته منصوبا، فقال: فأين خبر إن؟ فقلت:
" ظلم " قال: كيف هذا؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أن البيت إن لم يجعل " ظلم "
خبر " إن " يكون مقطوع المعنى معدوم الفائدة! فلما كررت القول عليه فهم، وقال: قبح الله من لا أدب له، ثم قال: ألك ولد؟ قلت: بنية، قال: فما قالت لك حين ودعتها؟
قلت: ما قالت بنت الأعشى:
تقول ابنتي حين جد الرحيل * أرانا سواء ومن قد يتم (2)
أبانا فلا رمت من عندنا * فإنا بخير إذا لم ترم
أبانا إذا أضمرتك البلاد * نجفي وتقطع منا الرحم.
قال: فما قلت لها؟ قال: قلت أنشدتها بيت جرير:
ثقي بالله أو ليس
له شريك * ومن عند الخليفة بالنجاح (3)
فقال: ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى، ثم أمر لي بألف دينار وكسوة، وردني إلى البصرة.

(1) نسبه ابن خلكان والحريري في درة الغواص 43 إلى العرجي، ونسبه البغدادي في الخزانة 1: 317
إلى الحارث بن خالد المخزومي.
(2) ديوانه 33.
(3) ديوانه 36.
(4) الخبر في طبقات الزبيدي 93، 94.
96

(6) الأصل
وصدر العاقل صندوق سره، والبشاشة حبالة المودة، والاحتمال قبر العيوب،
وروى أنه قال في العبارة عن هذا المعنى أيضا: المسالمة خبء العيوب.
* * *
الشرح
هذه فصول ثلاثة:
الفصل الأول: قوله: " صدر العاقل صندوق سره، قد ذكرنا فيما تقدم طرفا
صالحا في كتمان السر.
وكان يقال: لا تنكح خاطب سرك.
قال معاوية للنجار العذري: أبغ لي محدثا قال: معي يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم،
أستريح منك إليه، ومنه إليك، وأجعله كتوما، فإن الرجل إذا اتخذ جليسا ألقى إليه
عجره وبجره.
وقال بعض الاعراب: لا تضع سرك عند من لا سر له عندك.
وقالوا: إذا كان سر الملك عند اثنين دخلت على الملك الشبهة، واتسعت على الرجلين
المعاذير، فإن عاقبهما عند شياعه، عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتهم بريئا
97

بجناية مجرم، وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له، وعن الاخر ولا حجة
عليه.
الفصل الثاني: قوله: " البشاشة حباله المودة "، قد قلنا في البشر والبشاشة فيما سبق
قولا مقنعا.
وكان يقال: البشر دال على السخاء من ممدوحك، وعلى الود من صديقك دلالة النور
على الثمر.
وكان يقال: ثلاث تبين لك الود في صدر أخيك: تلقاه ببشرك، وتبدؤه بالسلام،
وتوسع له في المجلس.
وقال الشاعر:
لا تدخلنك ضجرة من سائل * فلخير دهرك أن ترى مسؤولا
لا تجبهن بالرد وجه مؤمل * قد رام غيرك أن يرى مأمولا
تلقى الكريم فتستدل ببشره * وترى العبوس على اللئيم دليلا
واعلم بأنك عن قليل صائر * خبرا فكن خبرا يروق جميلا
وقال البحتري:
لو أن كفك لم تجد لمؤمل * لكفاه عاجل بشرك المتهلل (2)
ولو أن مجدك لم يكن متقادما * أغناك آخر سؤدد عن أول
أدركت ما فات الكهول من الحجا * من عنفوان شبابك المستقبل
فإذا أمرت فما يقال لك اتئد * وإذا حكمت فما يقال لك: اعدل
الفصل الثالث: قوله: " الاحتمال قبر العيوب "، أي إذا احتملت صاحبك وحلمت

(1) في د: " دلالة النور على القمر ":
(2) ديوانه 2: 218.
98

عنه ستر هذا الخلق الحسن منك عيوبك، كما يستر القبر الميت، وهذا مثل قولهم في الجود:
كل عيب فالكرم يغطيه.
فأما الخبء فمصدر خبأته أخبؤه والمعنى في الروايتين واحد، وقد ذكرنا في فضل
الاحتمال والمسالمة فيما تقدم أشياء صالحة.
ومن كلامه (عليه السلام): وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال.
ومن كلامه: من سالم الناس سلم منهم، ومن حارب الناس حاربوه، فإن العثرة
للكاثر.
وكان يقال: العاقل خادم الأحمق أبدا، إن كان فوقه لم يجد من مداراته والتقرب إليه
بدا، وإن كان دونه لم يجد من احتماله واستكفاف شره بدا.
وأسمع رجل يزيد بن عمر بن هبيرة فأعرض عنه، فقال الرجل: إياك أعني، قال:
وعنك أعرض.
وقال الشاعر:
إذا نطق السفيه فلا تجبه * فخير من إجابته السكوت
سكت عن السفيه فظن أنى * عييت عن الجواب وما عييت
99

(7) الأصل:
من رضى عن نفسه كثر الساخط عليه، والصدقة دواء منجح، وأعمال العباد في
عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم.
* * *
هذه فصول ثلاثة:
الفصل الأول: قوله " من رضى عن نفسه كثر الساخط عليه ". قال بعض الفضلاء
لرجل كان يرضى عن نفسه ويدعى التميز على الناس بالعلم: عليك بقوم تروقهم بزبرجك،
وتروعهم بزخرفك، فإنك لا تعدم عزا، ولا تفقد غمرا، لا يبلغ مسبارهما غورك،
ولا تستغرق أقدارهما طورك.
وقال الشاعر:
أرى كل كل إنسان يرى عيب غيره * ويعمى عن العيب الذي هو فيه
وما خير من تخفى عليه عيوبه * ويبدو له العيب الذي بأخيه.
وقال بعضهم: دخلت على ابن منارة وبين يديه كتاب قد صنفه، فقلت: ما
هذا؟ قال: كتاب عملته مدخلا إلى التورية، فقلت: إن الناس ينكرون هذا،
فلو قطعت الوقت بغيره (1)! قال: الناس جهال، قلت وأنت ضدهم؟ قال: نعم، قلت:

(1) في د: " بغير هذا.
100

فينبغي أن يكون ضدهم جاهلا عندهم، قال: كذاك هو! قلت: فقد بقيت أنت
جاهلا بإجماع الناس، والناس جهال بقولك وحدك، ومثل هذا المعنى
قول الشاعر:
إذا كنت تقضى أن عقلك كامل * وأن بنى حواء غيرك جاهل
وأن مفيض العلم صدرك كله * فمن ذا الذي يدرى بأنك عاقل!
* * *
الفصل الثاني: " الصدقة دواء منجح "، قد جاء في الصدقة فضل كثير، وذكرنا بعض ذلك فيما تقدم، وفى الحديث المرفوع: " تاجروا الله بالصدقة تربحوا " وقيل: الصدقة
صداق الجنة.
وقيل للشبلي: ما يجب في مائتي درهم؟ فقال: أما من جهة الشرع فخمسة دراهم، وأما
من جهة الاخلاص فالكل.
وروى أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه سئل فقيل: أي الصدقة أفضل؟
فقال: " أن تعطى وأنت صحيح شحيح، تأمل البقاء، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت
الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا ".
ومثل قوله (عليه السلام): " الصدقة دواء منجح "، قول النبي (صلى الله عليه وآله):
داووا مرضاكم بالصدقة.
* * *
الفصل الثالث: قوله: " أعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم "، هذا من
قوله تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود
101

لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا (1). وقال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره *
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.) (2) ومن كلام بعضهم: إنما تقدم على ما قدمت، ولست تقدم على ما تركت، فآثر
ما تلقاه غدا على ما لا تراه أبدا.
ومن حكمة أفلاطون: اكتم حسن صنيعك عن أعين البشر، فإن له ممن بيده
ملكوت السماء أعينا ترمقه فتجازى عليه.

(1) سورة آل عمران 30.
(2) سورة الزلزلة 7، 8.
102

(8) الأصل:
اعجبوا لهذا الانسان ينظر بشحم، ويتكلم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفس من خرم.
* * *
الشرح:
هذا كلام محمول بعضه على ظاهره لما تدعو إليه الضرورة من مخاطبة العامة بما يفهمونه
والعدول عما لا تقبله عقولهم، ولا تعيه قلوبهم.
أما الابصار، فقد اختلف فيه، فقيل: إنه بخروج شعاع من العين يتصل بالمرئي.
وقيل: إن القوة المبصرة التي في العين تلاقى بذاتها المرئيات فتبصرها. وقال قوم: بل
بتكيف الهواء بالشعاع البصري من غير خروج، فيصير الهواء باعتبار تكيفه بالشعاع به آلة العين في الادراك.
وقال المحققون من الحكماء: إن الادراك البصري هو بانطباع أشباح المرئيات
في الرطوبة الجلدية من العين عند توسط الهواء الشفاف المضئ، كما تنطبع الصورة في المرآة قالوا: ولو كانت المرآة ذات قوة مبصرة لأدركت الصور المنطبعة فيها، وعلى جميع الأقوال
فلا بد من إثبات القوة المبصرة في الرطوبة الجلدية، وإلى الرطوبة الجلدية وقعت إشارته (عليه السلام) بقوله: ينظر بشحم ".
وأما الكلام فمحله اللسان عند قوم. وقال قوم أو ليس
اللسان آلة ضرورية في الكلام
لان من يقطع لسانه من أصله يتكلم، وأما إذا قطع رأسه لم يتكلم. قالوا: وإنما الكلام
103

باللهوات، وعلى كلا القولين فلا بد أن تكون آلة الكلام لحما، وإليه وقعت إشارة
أمير المؤمنين (عليه السلام)، وليس هذه البنية المخصوصة شرطا في الكلام على الاطلاق
لجواز وجوده في الشجر والجماد عند أصحابنا، وإنما هي شرط في كلام الانسان، ولذا قال
أمير المؤمنين: " اعجبوا لهذا الانسان.
فأما السمع للصوت فليس بعظم عند التحقيق، وإنما هو بالقوة المودعة في العصب
المفروش في الصماخ كالغشاء، فإذا حمل الهواء الصوت ودخل في ثقب الاذن المنتهى
إلى الصماخ بعد تعويجات فيه جعلت لتجري مجرى اليراعة المصونة، وأفضى ذلك الصوت
إلى ذلك العصب الصعب الحامل للقوة السامعة حصل الادراك. وبالجملة فلا بد من عظم، لان الحامل
اللحم والعصب إنما هو العظم.
واما التنفس فلا ريب أنه من خرم لأنه من الانف، وإن كان قد يمكن لو سد
الانف أن يتنفس الانسان من الفم وهو خرم أيضا، والحاجة إلى التنفس إخراج الهواء
الحار عن القلب وإدخال النسيم البارد إليه، فجعلت الرئة كالمروحة تنبسط وتنقبض،
فيدخل الهواء بها ويخرج من قصبتها النافذة إلى المنخرين.
104

(9) الأصل:
إذا أقبلت الدنيا على قوم أعارتهم محاسن غيرهم، وإذا أدبرت عنهم سلبتهم
محاسن أنفسهم.
* * *
الشرح: كان الرشيد أيام كان حسن الرأي في جعفر بن يحيى يحلف، بالله أن جعفرا أفصح من
قس بن ساعدة، وأشجع من عامر بن الطفيل، وأكتب من عبد الحميد بن يحيى، وأسوس
من عمر بن الخطاب، وأحسن من مصعب بن الزبير - وكان جعفر أو ليس
بحسن الصورة،
وكان طويل الوجه جدا - وأنصح له من الحجاج لعبد الملك، وأسمح من عبد الله بن جعفر،
وأعف من يوسف بن يعقوب، فلما تغير راية فيه أنكر محاسنه الحقيقية التي لا يختلف
اثنان أنها فيه، نحو كياسته وسماحته، ولم يكن أحد يجسر أن يرد على جعفر قولا ولا رأيا، فيقال: إن أول ما ظهر من تغير الرشيد له أنه كلم الفضل بن الربيع بشئ فرده عليه
الفضل، ولم تجر عادته من قبل أن يفتح فاه في وجهه، فأنكر سليمان بن أبي جعفر
ذلك على الفضل، فغضب الرشيد لانكار سليمان، وقال: ما دخولك بين أخي ومولاي؟
كالراضي بما كان من الفضل ثم تكلم جعفر بشئ قاله للفضل، فقال الفضل:
اشهد عليه يا أمير المؤمنين، فقال جعفر: فض الله فاك يا جاهل! إذا كان أمير المؤمنين
الشاهد، فمن الحاكم المشهود عنده؟ فضحك الرشيد، وقال: يا فضل، لا تمار جعفرا، فإنك
لا تقع منه موقعا.
105

واعلم أنا قد وجدنا تصديق ما قاله (عليه السلام) في العلوم والفضائل والخصائص
النفسانية، دع حديث الدنيا والسلطان والرياسة، فإن المحظوظ من علم أو من فضيلة تضاف
إليه شوارد تلك الفضيلة وشوارد ذلك الفن، مثاله حظ على (عليه السلام) من الشجاعة،
ومن الأمثال الحكمية قل أن ترى مثلا شاردا أو كلمة حكمية الا وتضيفها الناس إليه
وكذلك ما يدعى العامة له من الشجاعة وقتل الابطال حتى يقال: إنه حمل على سبعين ألفا
فهزمهم، وقتل الجن في البئر، وفتل الطوق في عنق خالد بن الوليد. وكذلك حظ
عنترة بن شداد في الشجاعة، يذكر له من الاخبار ما لم يكن، وكذلك ما اشتهر به
أبو نواس في وصف الخمر، يضاف إليه من الشعر في هذا الفن ما لم يكن قاله، وكذلك
جود حاتم وعبد الله بن جعفر ونحو ذلك، وبالعكس من لاحظ له ينفى عنه ما هو حقيقة له،
فقد رأينا كثيرا من الشعر الجيد ينفى عن قائله استحقارا له، لأنه خامل الذكر، وينسب
إلى غيره، بل رأينا كتبا مصنفة في فنون من العلوم خمل ذكر مصنفيها ونسبت إلى غيرهم
من ذوي النباهة والصيت، وكل ذلك منسوب إلى الجد والاقبال.
106

(10) الأصل:
خالطوا الناس مخالطه إن متم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنوا
إليكم،
* * *
الشرح: وقد روى: " خنوا " بالخاء المعجمة، من الخنين، وهو صوت يخرج من الانف
عند البكاء. وإلى تتعلق بمحذوف، أي حنوا شوقا إليكم.
وقد ورد في الامر بإحسان العشرة مع الناس الكثير الواسع، وقد ذكرنا طرفا
من ذلك فيما تقدم.
وفى الخبر المرفوع: إذا وسعتم الناس ببسط الوجوه، وحسن الخلق، وحسن
الجوار، فكأنما وسعتموهم بالمال ".
وقال أبو الدرداء: إنا لنهش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتقليهم.
وقال محمد بن الفضل الهاشمي لأبيه: لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته؟ قال:
أخبئ نارا، وأقدح عن ود.
وقال المهاجر بن عبد الله:
وإني لأقصي المرء من غير بغضة * وأدنى أخا البغضاء منى على عمد
ليحدث ودا بعد بغضاء أو أرى * له مصرعا يردي به الله من يردي
وقال عقال: بن شبة التميمي: كنت ردف أبى، فلقيه جرير بن الخطفى على بغله
107

فحياة أبى وألطفه، فلما مضى قلت له: أبعد أن قال لنا ما قال! يا بنى أفأوسع
جرحى!
وقال محمد بن الحنفية (عليه السلام): قد يدفع باحتمال المكروه ما هو أعظم منه.
وقال الحسن (عليه السلام): حسن السؤال نصف العلم، ومداراة الناس نصف العقل،
والقصد في المعيشة نصف المؤونة.
ومدح ابن شهاب شاعرا فأعطاه، وقال: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر.
وقال الشاعر:
وأنزلني طول النوى دار غربة * متى شئت لاقيت امرأ لا أشاكله
أخا ثقة حتى يقال سجية * ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله.
وفي الحديث المرفوع: " للمسلم على المسلم ست: يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه،
ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويحب له ما يحب لنفسه، ويشيع جنازته
إذا مات ".
ووقف (صلى الله عليه وآله) على عجوز فجعل يسألها ويتحفاها، وقال: " إن حسن
العهد من الايمان، إنها كانت تأتينا أيام خديجة ".
108

(11) الأصل:
إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه.
* * *
الشرح:
قد أخذت أنا هذا المعنى، فقلت في قطعة لي:
إن الأماني أكساب الجهول فلا * تقنع بها واركب الأهوال والخطرا
واجعل من العقل جهلا واطرح نظرا * في الموبقات ولا تستشعر الحذرا
وإن قدرت على الأعداء منتصرا * فاشكر بعفوك عن أعدائك الظفرا
وقد تقدم لنا كلام طويل في الحلم والصفح والعفو.
ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك: شجر بين أبى مسلم وبين صاحب مرو كلام
أربى فيه صاحب مرو عليه، وأغلظ له في القول، فاحتمله أبو مسلم، وندم صاحب مرو،
وقام بين يدي أبى مسلم معتذرا، وكان قال له في جملة ما قال يا لقيط! فقال أبو مسلم:
مه! لسان سبق، ووهم أخطأ، والغضب شيطان وأنا جرأتك على باحتمالك قديما، فان
كنت للذنب معتذرا، فقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوبا فالعفو يسعك.
فقال صاحب مرو: أيها الأمير، إن عظم ذنبي يمنعني من الهدوء فقال أبو مسلم: يا عجبا!
أقابلك بإحسان، وأنت مسئ، ثم أقابلك بإساءة وأنت محسن! فقال: الان
وثقت بعفوك.
وأذنب بعض كتاب المأمون ذنبا، وتقدم إليه ليحتج لنفسه، فقال: يا هذا، قف
109

مكانك، فإنما هو عذر أو يمين، فقد وهبتهما لك، وقد تكرر منك ذلك، فلا تزال تسئ
ونحسن، وتذنب ونغفر، حتى يكون العفو هو الذي يصلحك!
وكان يقال: أحسن أفعال القادر العفو، وأقبحها الانتقام.
وكان يقال: ظفر الكريم عفو، وعفو (1) اللئيم عقوبة.
وكان يقال: رب ذنب مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب به، ولا يجاوز به حد الارتفاع
إلى الايقاع
وكان يقال: ما عفا عن الذنب من قرع به.
ومن الحلم الذي يتضمن كبرا مستحسنا، ما روى أن مصعب بن الزبير لما ولى العراق
عرض الناس ليدفع إليهم أرزاقهم، فنادى مناديه: أين عمرو بن جرموز؟ فقيل له:
أيها الأمير، إنه أبعد في الأرض، قال: أو ظن الأحمق أنى أقتله بأبي عبد الله! قولوا له:
فليظهر آمنا، وليأخذ عطاءه مسلما.
وأكثر رجل من سب الأحنف وهو لا يجيبه، فقال الرجل: ويلي عليه! والله
ما منعه من جوابي إلا هواني عنده!
وقال لقيط بن زرارة:
فقل لبني سعد ومالي وما لكم * ترقون منى ما استطعتم وأعتق
أغركم أنى بأحسن شيمة * بصير وأنى بالفواحش أخرق!
وأنك قد ساببتني فقهرتني * هنيئا مريئا أنت بالفحش أحذق
وقال المأمون لإبراهيم بن المهدى لما ظفر به: إني قد شاورت في أمرك، فأشير على
بقتلك، إلا أنى وجدت قدرك فوق ذنبك، فكرهت قتلك للازم حرمتك. فقال إبراهيم
يا أمير المؤمنين، إن المشير أشار بما تقتضيه السياسة، وتوجيه العادة، إلا أنك أبيت أن

(1) من د: " وظفر ".
110

تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو، فإن قتلت فلك نظراء، وإن عفوت
فلا نظير لك. قال: قد عفوت، فاذهب آمنا.
ضل الأعشى في طريقه، فأصبح بأبيات علقمة بن علاثة، فقال قائده، وقد نظر
إلى قباب الأدم: وا سوء صباحاه يا أبا بصير! هذه والله أبيات علقمة، فخرج فتيان الحي،
فقبضوا على الأعشى، فأتوا به علقمة فمثل بين يديه، فقال: الحمد لله الذي أظفرني بك
من غير ذمة ولا عقد، قال الأعشى: أو تدرى لم ذلك جعلت فداك! قال: نعم لأنتقم
اليوم منك بتقوالك على الباطل مع إحساني إليك، قال: لا والله، ولكن أظفرك الله بي
ليبلو قدر حلمك في. فأطرق علقمة، فاندفع الأعشى فقال:
أعلقم قد صيرتني الأمور إليك * وما كان بي منكص (1)
كساكم علاثة أثوابه * وورثكم حلمه الأحوص
فهب لي نفسي فدتك النفوس * فلا زلت تنمي ولا تنقص.
فقال: قد فعلت، أما والله لو قلت في بعض ما قلته في عامر بن عمر، لأغنيتك
طول حياتك، ولو قلت في عامر بعض ما قلته في ما أذاقك برد الحياة.
قال معاوية لخالد بن معمر السدوسي: على ماذا أحببت عليا قال على ثلاث:
حلمه إذا غضب، وصدقه إذا قال، ووفاؤه إذا وعد.

(1) ديوانه 231.
111

(12)
الأصل:
أعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان، وأعجز منه من ضيع من
ظفر به منهم.
* * *
قد ذكرنا قطعة صالحة من الإخوانيات فيما تقدم. وفى الحديث المرفوع أن النبي (صلى الله عليه وسلم)
بكى لما قتل جعفر بمؤتة وقال: " المرء كثير بأخيه ".
وقال جعفر بن محمد (عليه السلام): لكل شئ حلية وحلية الرجل أوداؤه.
وأنشد ابن الأعرابي:
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة * ولكن إخوان الصفاء الذخائر.
وكان أبو أيوب السختياني (1) يقول: إذا بلغني موت أخ كان لي، فكأنما سقط
عضو منى.
وكان يقال: الاخوان ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه، وطبقة كالدواء يحتاج إليه عند المرض، وطبقه كالداء لا يحتاج إليه أبدا.
وكان يقال: صاحبك كرقعة في قميصك، فانظر بما ترقع قميصك!

(1) ب: " السجستاني " والصواب ما أثبته من ا.
112

وكان يونس بن عبيد يقول اثنان ما في الأرض أقل منهما، ولا يزدادان إلا قلة:
درهم يوضع في حق، وأخ يسكن إليه في الله.
وقال الشاعر:
أخاك أخاك إن من لا أخا له * كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه * وهل ينهض البازي بغير جناح؟
وقال آخر:
ولن تنفك تحسد أو تعادي * فأكثر ما استطعت من الصديق
وبغضك (1) للتقي أقل ضرا * وأسلم من مودة ذي الفسوق (1).
وأوصى بعضهم ابنه، فقال: يا بنى، إذا نازعتك نفسك إلى مصاحبة الرجال فاصحب من
إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا عرضت لك مؤنة أعانك، وإن قلت صدق
قولك، وإن صلت شد صولك، وإن مددت يدك لأمر مدها، وإن بدت لك (2) عورة
سدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت
بك ملمة واساك، من لا تأتيك منه البوائق، ولا تحتار (3) عليك منه الطرائق، ولا يخذلك
عند الحقائق.
ومن الشعر المنسوب إلى علي (عليه السلام):
إن أخاك الحق من كان معك * ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك * شتت فيك شمله ليجمعك

(1) في د " وبغضاء التقى " وهو وجه أيضا.
(2) ا: " عنك ".
(3) في د " ولا تختلف ".
113

ومن الشعر المنسوب إليه (عليه السلام) أيضا:
أخوك الذي إن أجرضتك ملمة * من الدهر لم يبرح لها الدهر واجما
وليس أخوك بالذي إن تشعبت * عليك أمور ظل يلحاك لائما.
وقال بعض الحكماء: ينبغي للانسان أن يوكل بنفسه كالئين: أحدهما يكلؤه من أمامه،
والاخر يكلؤه من ورائه، وهما عقله الصحيح، وأخوه النصيح، فإن عقله وإن صح فلن
يبصره من عيبه إلا بمقدار ما يرى الرجل من وجهه في المرآة ويخفى عليه ما خلفه، وأما
أخوه النصيح فيبصره ما خلفه وما أمامه أيضا.
وكتب ظريف إلى صديق له: إني غير محمود على الانقياد إليك، لأني صادقتك من
جوهر نفسي، والنفس يتبع بعضها بعضا.
وفي الحديث المرفوع: " إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه ".
وقال الأحنف خير الاخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك ودا وان احتجت إليه
لم ينقصك.
وقال أعشى باهله يرثى المنتشر بن وهب:
إما سلكت سبيلا كنت سالكها * فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر (1)
من أو ليس
في خيره شر ينكده * على الصديق ولا في صفوه كدر.
وقال آخر يرثى صديقا له:
أخ طالما سرني ذكره * وأصبحت أشجى لدى ذكره
وقد كنت أغدو إلى قصره * فأصبحت أغدو إلى قبره
وكنت أراني غنيا به * عن الناس لو مد في عمره
إذا جئته طالبا حاجة * فأمري يجوز على أمره.
رأى بعض الحكماء مصطحبين لا يفترقان فسأل عنهما، فقيل: صديقان، قال: فما
بال أحدهما غنيا والاخر فقيرا!

(1) الكامل: 4: 66.
114

(13)
الأصل: وقال (عليه السلام) في الذين اعتزلوا القتال معه:
خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل.
* * *
قد سبق ذكر هؤلاء فيما تقدم، وهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي
وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وأنس بن مالك، وجماعة غيرهم.
وقد ذكر شيخنا أبو الحسين في " الغرر " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما دعاهم
إلى القتال معه، واعتذروا بما اعتذروا به، قال لهم: أتنكرون هذه البيعة؟ قالوا: لا،
لكنا لا نقاتل، فقال: إذا بايعتم فقد قاتلتم، قال: فسلموا بذلك من الذم، لان إمامهم
رضى عنهم.
ومعنى قوله: " خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل "، أي خذلوني ولم يحاربوا معي
معاوية، وبعض أصحابنا البغداديين يتوقف في هؤلاء، وإلى هذا القول يميل شيخنا
أبو جعفر الإسكافي.
115

(14)
الأصل:
إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر.
* * *
الشرح:
قد سبق القول في الشكر، ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك.
قال بعضهم: ما شيبتني السنون، بل شكري من احتاج أن أشكره.
وقالوا: العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى.
وقالوا: من سعادة المرء أن يضع معروفه عند من يشكره.
ومن جيد ما قيل في الشكر قول أبى نواس:
قد قلت للعباس معتذرا * من ضعف شكريه ومعترفا (1)
أنت امرؤ حملتني نعما (2) * أوهت قوى شكري فقد ضعفا
فإليك منى اليوم معذرة (3) * جاءتك بالتصريح منكشفا
لا تسدين إلى عارفة * حتى أقوم بشكر ما سلفا
وقال البحتري:
فإن أنا لم اشكر لنعماك جاهدا * فلا نلت نعمى بعدها توجب الشكرا (4).

(1) ديوانه 71.
(2) الديوان. " جللتني ".
(3) الديوان: " قبل اليوم تقدمة ".
(4) ديوانه 2: 36.
116

وقال أيضا: سأجهد في شكري لنعماك إنني * أرى الكفر للنعماء ضربا من الكفر.
وقال ابن أبي طاهر:
شكرت عليا بره وبلاءه * فقصر بي شكري وإني لجاهد
وما أنا من شكري عليا بواحد * ولكنه في الفضل والجود واحد.
وقال أبو الفتح البستي:
لا تظنن بي وبرك حي * أن شكري وشكر غيري موات
أنا أرض وراحتاك سحاب * والأيادي وبل وشكري نبات
وقال أيضا:
وخر لما أوليت شكري ساجدا * ومثل الذي أوليت يعبده الشكر
البحتري:
أراك بعين المكتسي ورق الغنى * بآلائك اللاتي يعددها الشكر
ويعجبني فقري إليك ولم يكن * ليعجبني لولا محبتك الفقر
آخر:
بدأت بمعروف وثنيت بالرضا * وثلثت بالحسنى وربعت بالكرم
وباشرت أمري واعتنيت بحاجتي * وأخرت " لا " عنى وقدمت لي " نعم "
وصدقت لي ظني، وأنجزت موعدي * وطبت به نفسا ولم تتبع الندم
فإن نحن كافأنا بشكر فواجب * وإن نحن قصرنا فما الود متهم
117

(15)
الأصل:
من ضيعه الأقرب أتيح له الأبعد.
* * *
الشرح:
إن الانسان قد ينصره من لا يرجو نصره وإن أهمله أقربوه وخذلوه، فقد تقوم به
الأجانب من الناس، وقد وجدنا ذلك في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ضيعه أهله
ورهطه من قريش وخذلوه، وتمالؤوا عليه، فقام بنصره الأوس والخزرج، وهم أبعد الناس
نسبا منه، لأنه من عدنان وهم من قحطان، وكل واحد من الفريقين لا يحب الاخر حتى
تحب الأرض الدم. وقامت ربيعة بنصر على (عليه السلام) في صفين، وهم أعداء مضر
الذين هم أهله ورهطه، وقامت اليمن بنصر معاوية في صفين، وهم أعداء مضر، وقامت
الخراسانية وهم عجم بنصر الدولة العباسية، وهي دولة العرب. وإذا تأملت السير وجدت
هذا كثيرا شائعا.
118

(16)
الأصل:
ما كل مفتون يعاتب.
* * *
الشرح:
هذه الكلمة قالها على (عليه السلام) لسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله
ابن عمر لما امتنعوا من الخروج معه لحرب أصحاب الجمل، ونظيرها أو قريب منها
قول أبى الطيب:
فما كل فعال يجازى بفعله * ولا كل قوال لدى يجاب (1)
ورب كلام مر فوق مسامعي * كما طن في لفح الهجير ذباب

(1) لم أجدهما في ديوانه.
119

(17)
الأصل:
تذل الأمور للمقادير، حتى يكون الحتف في التدبير.
الشرح:
إذا تأملت أحوال العالم وجدت صدق هذه الكلمة ظاهرا، ولو شئنا أن نذكر
الكثير من ذلك لذكرنا ما يحتاج في تقييده بالكتابة إلى مثل حجم كتابنا هذا، ولكنا
نذكر لمحا ونكتا وأطرافا ودررا من القول.
فرش مروان بن محمد - وقد لقي عبد الله بن علي - أنطاعا وبسط عليها المال وقال: من
جاءني برأس فله مائة درهم،، فعجزت الحفظة والحراس عن حمايته، واشتغلت طائفة من
الجند بنهبه، وتهافت الجيش عليه لينتهبوه، فغشيهم عبد الله بن علي بعساكره، فقتل
منهم مالا يحصى، وهزم الباقون.
وكسر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن جيش أبى جعفر المنصور بباخمرى
وأمر أصحابه باتباعهم، فحال بينهم وبين أصحاب أبي جعفر ماء ضحضاح، فكره إبراهيم
وجيشه خوض ذلك الماء، وكان واسعا، فأمر صاحب لوائه أن يتعرج باللواء على
مسناة (1) كانت على ذلك الماء يابسة فسلكها صاحب اللواء وهي تفضي بانعراج وانعكاس
إلى الأرض اليبس، فلما رأى عسكر أبى جعفر أن لواء القوم قد تراجع

(1) المسناة: ضفيرة تبنى للسيل لترد الماء.
120

القهقرى ظنوهم منهزمين، فعطفوا عليهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وجاء سهم غرب (1) فأصاب إبراهيم فقتله.
وقد دبرت من قبل قريش في حماية العير بأن نفرت على الصعب والذلول لتدفع
رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن اللطيمة (2)، فكان هلاكها في تدبيرها.
وكسرت الأنصار يوم أحد بأن أخرجت النبي (صلى الله عليه وآله) عن المدينة ظنا منها
أن الظفر والنصرة كانت بذلك، وكان سبب عطبها وظفر قريش بها، ولو أقامت بين
جدران المدينة لم تظفر قريش منها بشئ.
ودبر أبو مسلم الدولة الهاشمية، وقام بها حتى كان حتفه في تدبيره.
وكذلك جرى لأبي عبد الله المحتسب مع عبد الله المهدى بالمغرب.
ودبر أبو القاسم بن المسلمة رئيس الرؤساء في إخراج البساسيري عن العراق حتى كان
هلاكه على يده، وكذلك أيضا انعكس عليه تدبيره في إزالة الدولة البويهية من الدولة
السلجوقية ظنا منه أنه يدفع الشر، بغير الشر فدفع الشر بما هو شر منه.
وأمثال هذا ونظائره أكثر من أن تحصى.

(1) سهم غرب: لا يدرى راميه.
(2) اللطيمة: قافلة تحمل العطور.
121

(18)
الأصل:
وسئل (عليه السلام) عن قول الرسول (صلى الله عليه وآله): غيروا الشيب، ولا
تشبهوا باليهود فقال، (عليه السلام):
إنما قال (صلى الله عليه وآله) ذلك والدين قل، فأما الان وقد اتسع نطاقه، وضرب
بجرانه فامرؤ وما اختار.
* * *
الشرح:
اليهود لا تخضب، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) أمر أصحابه بالخضاب ليكونوا
في مرأى العين شبابا فيجبن المشركون عنهم حال الحرب، فإن الشيخ
مظنة الضعف.
قال على (عليه السلام): " كان ذلك والاسلام قل "، أي قليل، وأما الان وقد اتسع
نطاقه وضرب بجرانه فقد سقط ذلك الامر وصار الخضاب مباحا غير مندوب.
والنطاق: ثوب تلبسه المرأة لبسة مخصوصة أو ليس بصدرة ولا سراويل، وسميت أسماء
بنت أبي بكر ذات النطاقين لأنها قطعت من ثوبها ذلك قطعة شدت بها سفرة لها
حملها أبو بكر معه حين خرج من مكة مع النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الهجرة،
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): " لقد أبدلها الله بها نطاقين في الجنة "، وكان نفر الشام
ينادون عبد الله ابنها حين حصره الحجاج بمكة يشتمونه كما زعموا: يا بن ذات
النطاقين، فيضحك عبد الله منهم، وقال لابن أبي عتيق: ألا تسمع! يظنونه ذما
ثم يقول:
122

* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (1) *
واستعار أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه اللفظة لسعه رقعة الاسلام، وكذلك استعار
قوله: " وضرب بجرانه "، أي أقام وثبت، وذلك لان البعير إذا ضرب بجرانه الأرض -
وجرانه مقدم عنقه - فقد استناخ وبرك.
وامرؤ مبتدأ وإن كان نكرة، كقولهم: " شر أهر ذا ناب "، لحصول الفائدة، والواو بمعنى " مع "، وهي وما بعدها الخبر، وما مصدرية، أي امرؤ مع اختياره.
[نبذ مما قيل في الشيب والخضاب]
فأما القول في الخضاب فقد روى قوم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدا شيب يسير
في لحيته، فغيره بالخضاب، خضب بالحناء والكتم، وقال قوم: لم يشب أصلا.
وروى أن عائشة قالت: ما كان الله ليشينه بالشيب، فقيل: أو شين هو يا أم المؤمنين!
قالت: كلكم يكرهه. وأما أبو بكر فصح الخبر عنه بذلك، وكذلك أمير المؤمنين،
وقيل: إنه لم يخضب. وقتل الحسين (عليه السلام) يوم الطف وهو مخضوب. وفي الحديث المرفوع رواه عقبة بن عامر: " عليكم بالحناء، فإنه خضاب الاسلام إنه
يصفى
البصر ويذهب بالصداع، ويزيد في الباه، وإياكم والسواد، فإنه من سود، سود الله وجهه
يوم القيامة ". وعنه (صلى الله عليه وآله) " عليكم بالخضاب، فإنه أهيب لعدوكم وأعجب
إلى نسائكم ".

(1) لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره:
* وعيرها الواشون أن أحبها *
(2) ديوان الهذليين 1: 21.
123

ويقال في أبواب الكناية للمختضب، هو يسود وجه النذير، لان النذير الشيب،
قيل في قوله تعالى: (وجاءكم النذير) (1): إنه الشيب.
وكان عبد الرحمن بن الأسود أبيض الرأس واللحية فأصبح ذات يوم وقد حمرهما، وقال:
إن عائشة أرسلت إلى البارحة جاريتها فأقسمت على لأغيرن، وقالت: إن أبا بكر كان يصبغ.
وروى قيس بن أبي حازم قال: كان أبو بكر يخرج إلينا وكأن لحيته ضرام عرفج.
وعن أبي عامر الأنصاري: رأيت أبا بكر يغير بالحناء والكتم، ورأيت عمر لا يغير
شيئا من شيبه، وقال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " من شاب شيبة
في الاسلام كانت له نورا يوم القيامة "، ولا أحب أن أغير نوري.
وكان انس بن مالك يخضب وينشد:
نسود أعلاها وتأبى أصولها * وليس إلى رد الشباب سبيل.
وروى أن عبد المطلب وفد على سيف بن ذي يزن، فقال له: لو خضبت! فلما عاد
إلى مكة خضب، فقالت له امرأته نثيلة أم العباس وضرار: ما أحسن هذا: الخضاب
لو دام! فقال:
فلو دام لي هذا الخضاب حمدته * وكان بديلا من خليل قد انصرم
تمتعت منه والحياة قصيرة * ولابد من موت - نثيلة - أو هرم
وموت جهيز عاجل لا شوى له * أحب إلينا من مقالكم حكم
قال: يعنى أنه صار شيخا، فصار حكما بين الناس، من قوله:
لا تغبط المرء أن يقال له * أضحى فلان لسنه حكما.

(1) سورة فاطر 35.
124

وقال أسماء بن خارجة لجاريته: أخضبيني، فقالت حتى متى أرقعك! فقال:
عيرتني خلقا أبليت جدته * وهل رأيت جديدا لم يعد خلقا.
وأما من يروى ان عليا (عليه السلام) ما خضب، فيحتج بقوله، وقد قيل له: لو غيرت
شيبك يا أمير المؤمنين فقال: الخضاب زينه، ونحن في مصيبة - يعنى برسول الله
(صلى الله عليه وسلم).
وسئل الحسن (عليه السلام) عن الخضاب، فقال: هو جزع قبيح. وقال محمود الوراق: يا خاضب الشيب الذي * في كل ثالثة يعود
إن الخضاب إذا مضى * فكأنه شيب جديد
فدع المشيب وما يريد * فلن تعود كما تريد
وقد روى قوم عن النبي (صلى الله عليه وآله) كراهية الخضاب، وأنه قال: لو استقبلتم
الشيب بالتواضع لكان خيرا لكم.
قال الشاعر: وصبغت ما صبغ الزمان فلم يدم صبغي * ودامت صبغة الأيام.
وقال آخر:
يا أيها الرجل المغير * شيبه كيما تعد به من الشبان
أقصر فلو سودت كل حمامة * بيضاء ما عدت من الغربان.
ويقولون في ديوان عرض الجيش ببغداد لمن يخضب إذا ذكروا حليته: مستعار،
وهي كناية لطيفة. وأنا أستحسن قول البحتري: خضبت بالمقراض: كناية عن قص
الشعر الأبيض، فجعل ذلك خضابه عوضا عن الصبغ، والأبيات هذه
: لابس من شبيبة أم ناض * ومليح من شيبه أم راض (1)

(1) ديوانه 2: 72، من قصيد يمدح فيها ابن الفياض.
125

وإذا ما امتعضت من ولع الشيب * برأسي لم يثن ذاك امتعاضي
ليس يرضى عن الزمان امرؤ فيه * إلا عن غفلة أو تغاضى
والبواقي من الليالي وإن خالفن * شيئا شبيهة بالمواضي (1)
وأبت تركي الغديات والا * صال حتى خضبت بالمقراض
ودواء المشيب كالبخص في * عيني فقل فيه في العيون المراض
طال حزني على الشباب وما * بيض من لون صبغه الفضفاض
فهل الحادثات يا بن عويف * تاركاتي ولبس هذا البياض!

(1) الديوان: " فمشبهات ".
126

(19) الأصل:
من جرى في عنان أمله عثر بأجله.
* * *
الشرح:
قد تقدم لنا قول كثير في الامل، ونذكر هاهنا زيادة على ذلك:
قال الحسن (عليه السلام): لو رأيت الاجل ومسيره، لنسيت الامل وغروره، ويقدر المقدرون والقضاء يضحك.
وروى أبو سعيد الخدري أن أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " ألا تعجبون من أسامة يشترى إلى شهر! إن أسامة
لطويل الامل ". أبو عثمان النهدي: قد بلغت نحوا من ثلاثين ومائة سنة فما من شئ إلا
قد عرفت فيه النقص إلا أملى، فإنه كما كان.
قال الشاعر: أراك تزيدك الأيام حرصا * على الدنيا كأنك لا تموت
فهل لك غاية إن صرت يوما * إليها قلت حسبي قد رضيت!
وقال آخر:
من تمنى المنى فأغرق فيها * مات من قبل أن ينال مناه
ليس في مال من تتابع في * اللذات فضل عن نفسه لسواه
127

(20) الأصل أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم فما يعثر منهم عاثر إلا ويده بيد الله يرفعه
* * *
[نبذ مما قيل في المروءة]
قد رويت هذه الكلمة مرفوعة، ذكر ذلك ابن قتيبة في " عيون الأخبار "
وأحسن ما قيل في المروءة قولهم: اللذة ترك المروءة والمروءة ترك اللذة.
وفي الحديث أن رجلا قام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا رسول الله،
ألست أفضل قومي! فقال: إن كان لك عقل فلك فضل، وإن كان لك خلق فلك مروءة،
وإن كان لك مال فلك حسب، وإن كان لك تقى فلك دين.
وسئل الحسن عن المروءة فقال: جاء في الحديث المرفوع: " إن الله تعالى يحب معالي
الأمور ويكره سفسافها ".
وكان يقال: من مروءة الرجل جلوسه بباب داره.
وقال الحسن: لا دين إلا بمروءة.
128

وقيل لابن هبيرة: ما المروءة؟ فقال: إصلاح المال، والرزانة في المجلس، والغداء
والعشاء بالفناء.
وجاء أيضا في الحديث المرفوع: " حسب الرجل ماله، وكرمه دينه، ومروءته
خلقه ".
وكان يقال: أو ليس
من المروءة كثرة الالتفات في الطريق.
ويقال: سرعة المشي تذهب بمروءة الرجل.
وقال معاوية لعمرو: ما ألذ الأشياء؟ قال: مر فتيان قريش أن يقوموا، فلما قاموا
قال: إسقاط المروءة.
وكان عروة بن الزبير يقول لبنيه: يا بنى العبوا، فإن المروءة لا تكون إلا بعد
اللعب. وقيل للأحنف: ما المروءة؟ قال: العفة والحرفة، تعف عما حرم الله، وتحترف
فيما أحل الله.
وقال محمد بن عمران التيمي
لا أشد من المروءة، وهي ألا تعمل في السر شيئا تستحي
منه في العلانية. وسئل النظام عن المروءة، فأنشد بيت زهير:
الستر دون الفاحشات ولا * يلقاك دون الخير من ستر (1)
وقال عمر: تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة، وتعلموا النسب فرب رحم مجهولة
قد وصلت به.
وقال ميمون بن مهران: أول المروءة طلاقة الوجه، والثاني التودد إلى الناس،
والثالث قضاء الحوائج.
وقال مسلمة بن عبد الملك: مروءتان ظاهرتان: الرياش والفصاحة.
وكان يقال: تعرف مروءة الرجل بكثرة ديونه.
وكان يقال: العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل.

(1) ديوانه 95.
129

لام معاوية يزيد ابنه على سماع الغناء وحب القيان، وقال له: أسقطت مروءتك،
فقال يزيد: أتكلم بلساني كلمة؟ قال: نعم، وبلسان أبي سفيان بن حرب وهند
بنت عتبة مع لسانك، قال: والله لقد حدثني عمرو بن العاص - واستشهد على ذلك ابنه
عبد الله بصدقه - أن أبا سفيان كان يخلع على المغني الفاضل والمضاعف من ثيابه،
ولقد حدثني أن جاريتي عبد الله بن جدعان غنتاه يوما فأطربتاه، فجعل يخلع عليهما
أثوابه ثوبا ثوبا حتى تجرد تجرد العير، ولقد كان هو وعفان ابن أبي العاص ربما حملا
جارية العاص بن وائل على أعناقهما، فمرا بها على الأبطح وجلة قريش ينظرون إليهما،
مرة على ظهر أبيك، ومرة على ظهر عفان، فما الذي تنكر منى! فقال معاوية: اسكت
لحاك الله! والله ما أحد الحق بأبيك هذا إلا ليغرك ويفضحك، وإن كان أبو سفيان ما علمت لثقيل الحلم، يقظان الرأي، عازب الهوى، طويل الأناة بعيد القعر، وما سودته قريش إلا لفضله.
130

(21)
الأصل:
قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والفرصة تمر مر السحاب،
فانتهزوا فرص الخير.
* * *
الشرح:
في المثل: من أقدم لم يندم، وقال الشاعر:
ليس للحاجات إلا * من له وجه وقاح
ولسان طرمذي (1) * وغدو ورواح
فعليه السعي فيها * وعلى الله النجاح
وكان يقال: الفرصة ما إذا حاولته فأخطأك نفعه، لم يصل إليك ضره.
ومن كلام ابن المقفع انتهز الفرصة في إحراز المآثر، واغتنم الامكان باصطناع
الخير، ولا تنتظر ما تعامل فتجازى عنه بمثله، فإنك إن عوملت بمكروه واشتغلت برصد
المكافأة عنه قصر العمر بك عن اكتساب فائدة، واقتناء منقبة، وتصرمت أيامك
بين تعد عليك، وانتظار للظفر بإدراك الثأر من خصمك، ولا عيشة في الحياة أكثر
من ذلك.
كانت العرب إذا أوفدت وافدا قالت له: إياك والهيبة فإنها خيبة، ولا تبت عند
ذنب الامر وبت عند رأسه

(1) طرمذي: يتمدح بما أو ليس
فيه.
131

(22)
الأصل:
لنا حق فإن أعطيناه وإلا ركبنا أعجاز الإبل، وإن طال السرى.
قال الرضى رحمه الله تعالى: وهذا القول من لطيف الكلام وفصيحه، ومعناه
أنا إن لم نعط حقنا كنا أذلاء، وذلك أن الرديف يركب عجز البعير، كالعبد
والأسير ومن يجرى مجراهما.
* * *
الشرح:
هذا الفصل قد ذكره أبو عبيد الهروي في الجمع " بين الغريبين " وصورته: إن لنا حقا إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل، وإن طال السرى. قال
قد فسروه على وجهين: أحدهما أن راكب عجز البعير يلحقه مشقة وضرر، فأراد: أنا
إذا منعنا حقنا صبرنا على المشقة والمضرة، كما يصبر راكب عجز البعير، وهذا التفسير
قريب مما فسره الرضى. والوجه الثاني أن راكب عجز البعير إنما يكون إذا كان غيره قد
ركب على ظهر البعير، وراكب ظهر البعير متقدم على راكب عجز البعير، فأراد أنا إذا
منعنا حقنا تأخرنا وتقدم غيرنا علينا فكنا كالراكب رديفا لغيره، وأكد المعنى
على كلا التفسيرين (1) بقوله: " وإن طال السرى "، لأنه إذا طال السرى "، كانت المشقة

(1) في د: " التقديرين ".
132

على راكب عجز البعير أعظم، وكان الصبر على تأخر راكب عجز البعير عن الراكب
على ظهره أشد وأصعب.
وهذا الكلام تزعم الامامية أنه قاله يوم السقيفة أو في تلك الأيام، ويذهب أصحابنا
إلى أنه قاله يوم الشورى بعد وفاة عمر واجتماع الجماعة لاختيار واحد من الستة، وأكثر
أرباب السير ينقلونه على هذا الوجه.
133

(23)
الأصل:
من أبطأ به عمله، لم يسرع به حسبه.
* * *
الشرح:
هذا الكلام حث وحض وتحريض على العبادة، وقد تقدم أمثاله (1)، وسيأتي له
نظائر كثيرة وهو مثل قول النبي (صلى الله عليه وآله): " يا فاطمة بنت محمد، إني
لا أغنى عنك من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، إني لا أغنى عنك من الله شيئا،
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (2)

(1) في د " مثله ".
(2) سورة الحجرات 13.
134

(24)
الأصل:
من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب.
* * *
الشرح:
قد جاء في هذا المعنى آثار كثيرة، وأخبار جميلة. كان العتابي قد أملق،
فجاء فوقف بباب المأمون يسترزق الله على يديه، فوافى يحيى بن أكثم، فعرض له
العتابي، فقال له: إن رأيت أيها القاضي أن تعلم أمير المؤمنين مكاني فافعل، فقال:
لست بحاجب، قال: قد علمت، ولكنك ذو فضل، وذو الفضل معوان، فقال:
سلكت بي غير طريقي، قال: إن الله أتحفك منه بجاه ونعمة، وهو مقبل عليك بالزيادة
إن شكرت، وبالتغيير إن كفرت، وأنا لك اليوم خير منك لنفسك، لأني أدعوك
إلى ما فيه ازدياد نعمتك، وأنت تأبى على، ولكل شئ زكاة، وزكاة الجاه رفد المستعين.
فدخل يحيى فأخبر المأمون به، فأحضره وحادثه ولاطفه ووصله.
135

(25)
الأصل:
يا بن آدم إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره.
* * *
الشرح:
هذا الكلام تخويف وتحذير من الاستدراج، قال سبحانه: (سنستدرجهم من
حيث لا يعلمون) (1)، وذلك لان العبد بغروره يعتقد أن موالاة النعم عليه وهو عاص
من باب الرضا عنه، ولا يعلم أنه استدراج له ونقمة عليه.
فإن قلت: كيف يصح القول بالاستدراج على أصولكم في العدل؟ أليس معنى
الاستدراج إيهام العبد أنه سبحانه غير ساخط فعله ومعصيته! فهل هذا الاستدراج
إلا مفسدة وسبب إلى الاصرار على القبيح!
قلت: إذا كان المكلف عالما بقبح القبيح، أو متمكنا من العلم بقبحه ثم رأى النعم
تتوالى عليه وهو مصر على المعصية، كان ترادف تلك النعم كالمنبه له على وجوب الحذر،
مثال ذلك من هو في خدمه ملك، وهو عون ذلك الملك في دولته، ويعلم أن الملك
قد عرف حاله، ثم يرى نعم الملك مترادفة إليه، فإنه يجب بمقتضى الاحتياط أن يشتد
حذره، لأنه يقول: ليست حالي مع الملك حال من يستحق هذه النعم، وما هذه
إلا مكيدة وتحتها غائلة، فيجب إذن عليه أن يحذر.

(1) سورة الأعراف 182.
136

(26)
الأصل:
ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه.
* * *
الشرح:
قال زهير بن أبي سلمى:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة * وإن خالها تخفى على الناس تعلم (1)
وقال آخر:
تخبرني العينان ما القلب كاتم * وما جن بالبغضاء والنظر الشزر
وقال آخر: وفي عينيك ترجمة أراها * تدل على الضغائن والحقود
وأخلاق عهدت اللين فيها * غدت وكأنها زبر الحديد
وقد عاهدتني بخلاف هذا * وقال الله: " أوفوا بالعقود "
وكان يقال: العين و الوجه واللسان أصحاب أخبار على القلب، وقالوا: القلوب كالمرايا
المتقابلة، إذا ارتسمت في إحداهن صورة ظهرت في الأخرى.

(1) ديوانه: 257.
137

(27)
الأصل:
امش بدائك ما مشى بك.
* * *
الشرح:
يقول: مهما وجدت سبيلا إلى الصبر على أمر من الأمور التي قد دفعت إليها، وفيها مشقة عليك، وضرر لاحق بك، فاصبر ولا تلتمس طريقا إلى تغيير ما دفعت إليه
أن تسلكها بالعنف، ومراغمة الوقت، ومعاناة الأقضية والاقدار، ومثال ذلك
من يعرض له مرض ما يمكنه أن يحتمله ويدافع الوقت، فإنه يجب عليه ألا يطرح جانبه
إلى الأرض، ويخلد إلى النوم على الفراش، ليعالج ذلك المرض قوة وقهرا، فربما
أفضى به مقاهرة ذلك المرض الصغير بالأدوية إلى أن يصير كبيرا معضلا.
138

(28) الأصل:
أفضل الزهد إخفاء الزهد.
* * *
الشرح:
إنما كان كذلك لان الجهر بالعبادة والزهادة والإعلان بذلك قل أن يسلم من مخالطه
الرياء، وقد تقدم لنا في الرياء أقوال مقنعة.
رأى المنصور رجلا واقفا ببابه، فقال: مثل هذا الدرهم بين عينيك وأنت وأقف
ببابنا! فقال الربيع: نعم، لأنه ضرب على غير السكة.
شاعر:
معشر أثبت الصلاة عليهم * لجباه يشقها المحراب
عمروا موضع التصنع منهم * ومكان الاخلاص منهم خراب
139

(29) الأصل:
إذا كنت في إدبار والموت في إقبال، فما أسرع الملتقى!
* * *
الشرح:
هذا ظاهر، لأنه إذا كان كلما جاء ففي إدبار، والموت كلما جاء ففي إقبال،
فيا سرعان ما يلتقيان! وذلك لان إدباره هو توجهه إلى الموت، وإقبال الموت هو توجه
الموت إلى نحوه، فقد حق إذن الالتقاء سريعا، ومثال ذلك سفينتان بدجلة أو غيرها،
تصعد إحداهما، والأخرى تنحدر نحوها، فلا ريب أن الالتقاء يكون وشيكا.
140

(30)
الأصل:
الحذر الحذر، فوالله لقد ستر، حتى كأنه قد غفر.
* * *
الشرح:
قد تقدم هذا المعنى وهو الاستدراج الذي ذكرناه آنفا.
141

(31)
الأصل:
وسئل (عليه السلام) عن الايمان فقال: الايمان على أربع دعائم: على الصبر،
واليقين، ولعدل، والجهاد.
والصبر منها على أربع شعب: على الشوق، والشفق، والزهد والترقب،
فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات،
ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.
و اليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين، فمن تبصر في الفطنة، تبينت له الحكمة، ومن تبينت له
الحكمة، عرف العبرة ومن عرف العبرة، فكأنما كان في الأولين.
والعدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم، وغور العلم، وزهرة
الحكم، ورساخة الحلم فمن فهم علم غور العلم، ومن علم غور العلم صدر
عن شرائع الحلم، ومن حلم لم يفرط في أمره، وعاش في الناس حميدا.
والجهاد منها على أربع شعب: على الامر بالمعروف والنهى عن المنكر،
والصدق في المواطن، وشنان الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين،
ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه،
ومن شنئ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة.
والكفر على أربع دعائم: على التعمق، والتنازع والزيغ، والشقاق،
فمن تعمق لم ينب إلى الحق، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق،
142

ومن زاغ ساءت عنده الحسنة، وحسنت عنده السيئة، وسكر سكر الضلالة،
ومن شاق وعرت عليه طرقه، وأعضل عليه أمره، وضاق عليه مخرجه.
والشك على أربع شعب: على التمادي، والهول، والتردد، والاستسلام،
فمن جعل المراء ديدنا لم يصبح ليله، ومن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه،
ومن تردد في الريب، وطئته سنابك الشياطين، ومن استسلم لهلكة الدنيا
والآخرة هلك فيهما.
قال الرضى رحمه الله تعالى: وبعد هذا كلام تركنا ذكره خوف الإطالة
والخروج عن الغرض المقصود في هذا الكتاب.
الشرح:
من هذا الفصل أخذت الصوفية وأصحاب الطريقة والحقيقة كثيرا من فنونهم
في علومهم، ومن يتأمل؟ كلام سهل بن عبد الله التستري وكلام الجنيد والسري وغيرهم رأى
هذه الكلمات في فرش كلامهم تلوح كالكواكب الزاهرة وكل المقامات والأحوال المذكورة في هذا الفصل قد تقدم قولنا فيها.
[نبذ وحكايات مما وقع بين يدي الملوك]
ونذكر هاهنا الصدق في المواطن وبين يدي الملوك، ومن يغضب لله، وينهى عن
المنكر، ويقوم بالحق، ولا يبالي بالسلطان ولا يراقبه.
143

دخل عمر بن عبد العزيز على سليمان بن عبد الملك وعنده أيوب ابنه - وهو يومئذ ولى
عهده - قد عقد له من بعده، فجاء إنسان يطلب ميراثا من بعض نساء الخلفاء، فقال
سليمان: ما إخال النساء يرثن في العقار شيئا، فقال عمر بن عبد العزيز: سبحان الله! وأين
كتاب الله! فقال سليمان: يا غلام، اذهب فأتني بسجل عبد الملك الذي كتب في ذلك،
فقال له عمر: لكأنك أرسلت إلى المصحف! فقال أيوب بن سليمان: والله ليوشكن الرجل
يتكلم بمثل هذا عند أمير المؤمنين. فلا يشعر حتى يفارقه رأسه فقال عمر: إذا أفضى
الامر إليك وإلى أمثالك كان ما يدخل على الاسلام أشد مما يخشى عليكم من هذا القول،
ثم قام فخرج.
وروى إبراهيم بن هشام بن يحيى، قال حدثني أبي، عن جدي، قال كان عمر بن
عبد العزيز ينهى سليمان بن عبد الملك عن قتل الحرورية، ويقول: ضمنهم الحبوس حتى
يحدثوا توبة، فأتى سليمان بحروري مستقتل، وعنده عمر بن عبد العزيز، فقال سليمان
للحروري: ماذا تقول؟ قال: ما أقول يا فاسق يا بن الفاسق! فقال سليمان لعمر: ما ترى
يا أبا حفص؟ فسكت، فقال: أقسمت عليك لتخبرني ماذا ترى عليه! فقال: أرى أن
تشتمه كما شتمك، وتشتم أباه كما شتم أباك، فقال سليمان: أو ليس
إلا! قال: أو ليس
إلا، فلم
يرجع سليمان إلى قوله، وأمر بضرب عنق الحروري.
وروى ابن قتيبة في كتاب " عيون الأخبار " قال: بينما المنصور يطوف ليلا
بالبيت سمع قائلا يقول: اللهم إليك أشكو ظهور البغي والفساد، وما يحول بين الحق
وأهله من الطمع. فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه،
فصلى ركعتين، واستلم الركن، وأقبل على المنصور فسلم عليه بالخلافة، فقال المنصور: ما
الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق
144

وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني (1) فقال: يا أمير المؤمنين، إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها، وإلا احتجزت منك، واقتصرت على نفسي
فلي فيها شاغل، قال: أنت آمن على نفسك، فقل فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال
بينه وبين إصلاح ما ظهر من البغي والفساد لأنت قال: ويحك! وكيف يدخلني الطمع
والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي! قال: وهل دخل أحد من
الطمع ما دخلك! إن الله عز وجل استرعاك المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت
بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجبا من الجص والاجر، وأبوابا من الحديد،
وحجته معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها منهم، وبعثت عمالك في جباية الأموال
وجمعها، فقويتهم بالسلاح والرجال و الكراع، وأمرت بالا يدخل عليك إلا فلان
وفلان، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف، ولا الجائع والفقير، ولا الضعيف
والعاري، ولا أحد ممن له في هذا المال حق فما زال هؤلاء النفر الذين استخلصتهم
لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت ألا يحجبوا عنك، يجبون الأموال ويجمعونها
ويحجبونها، وقالوا: هذا رجل قد خان الله، فما لنا لا نخوته، وقد سخرنا! فائتمروا
على ألا يصل إليك من أخبار الناس شئ إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف
أمرهم إلا بغضوه (2) عندك وبغوه الغوائل، حتى تسقط منزلته ويصغر قدره. فلما
انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم، وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا
والأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك
لينالوا به ظلم من، دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء
القوم شركائك في سلطنتك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين دخول

(1) ب: " أمرضى "، والصواب ما أثبته من ا، د وعيون الأخبار.
(2) عيون الأخبار: " قصبوه " أي عابوه.
145

دارك، وإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك وقد نهيت عن ذلك، ووقفت
للناس رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء المتظلم إليه أرسلوا إلى صاحب المظالم ألا يرفع إليك قصته، ولا يكشف لك حاله، فيجيبهم خوفا منك، فلا يزال المظلوم يختلف نحوه، ويلوذ
به، ويستغيث إليه وهو يدفعه، ويعتل عليه، وإذا أجهد وأحرج، وظهرت أنت لبعض
شأنك صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر ولا تنكر، فما بقاء الاسلام على هذا! ولقد كنت أيام شبيبتي أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكها بسمعه،
فبكى بكاء شديدا، فحداه (1) جلساؤه على الصبر، فقال: أما إني لست أبكى للبلية النازلة،
ولكن أبكى للمظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته! ثم قال: أما إذ ذهب سمعي فإن
بصري لم يذهب، نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم (2)، ثم كان يركب
الفيل طرفي نهاره ينظر هل يرى مظلوما! فهذا مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين على شح
نفسه، وأنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك!
فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله تعالى عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه، ماله
على الأرض مال، وما من مال يومئذ إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فلا يزال الله يلطف
بذلك الطفل حتى تعظم رغبه الناس إليه ولست بالذي تعطى، ولكن الله يعطى من
يشاء ما يشاء، وإن قلت: إنما أجمع المال لتشييد السلطان، فقد أراك الله عبرا في بنى
أمية، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة، وأعدوا من الرجال والسلاح والكراع
حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت: أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا
فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه، انظر هل
تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قال: لا قال: فإن الملك الذي خولك ما خولك

(1) عيون الأخبار: " فحثه ".
146

لا يعاقب من عصاه بالقتل، بالخلود في العذاب الأليم! وقد رأى ما قد عقدت عليه قلبك،
وعملته جوارحك، ونظر إليه بصرك، واجترحته يداك ومشت إليه رجلاك. وانظر هل
يغنى عنك ما شححت عليه من أمر الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب على
ما منحك!
فبكى المنصور وقال: ليتني لم أخلق! ويحك فكيف أحتال لنفسي؟ قال: إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم، ويرضون بقولهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك،
و شاورهم في أمرك يسددوك، قال: قد بعثت إليهم فهربوا منى قال: نعم خافوا أن
تحملهم على طريقك، ولكن افتح بابك، وسهل حجابك وانظر المظلوم، واقمع
الظالم، وخذ الفئ والصدقات مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل على أهله، وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة.
وجاء المؤذنون فسلموا عليه، ونادوا بالصلاة، فقام وصلى، وعاد إلى مجلسه، فطلب الرجل
فلم يوجد (1).
وروى أبن قتيبة أيضا في الكتاب المذكور أن عمرو بن عبيد قال للمنصور: إن الله
أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها، واذكر ليلة تتمخض لك صبيحتها عن
يوم القيامة - قال: يعنى ليلة موته - فوجم المنصور، فقال الربيع: حسبك، فقد عممت
أمير المؤمنين، فقال عمرو بن عبيد: إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير عليه أن
ينصحك يوما واحدا، ولم يعمل وراء بابك بشئ مما في كتاب الله ولا في سنة نبيه! قال
أبو جعفر: فما أصنع؟ قد قلت لك، خاتمي في يدك فهلم أنت وأصحابك فاكفني، فقال
عمرو: دعنا بعدلك نسخ بأنفسنا بعونك، وببابك مظالم كثيرة (2)، فارددها نعلم
أنك صادق (2).

(1) عيون الأخبار 2: 333 - 337.
(2) عيون الأخبار: " ألف مظلمة ".
147

وقال ابن قتيبة في الكتاب المذكور: وقد قام أعرابي بين يدي سليمان بن عبد الملك
بنحو هذا، قال له: إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام [فيه بعض الغلظة] (1) فاحتمله
إن كرهته، فإن وراءه ما تحب، قال: قل، قال: إني سأطلق لساني بما خرست عنه
الألسن من عظتك تأديه لحق الله. إنك قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم،
فابتاعوا دنياهم بدينهم، فهم حرب الآخرة، سلم الدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله
عليه، فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعا، والأمة خسفا، وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا
مسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك. فإن أعظم الناس غبنا
من باع آخرته بدنيا غيره. قال: فقال سليمان: أما أنت يا أعرابي، فإنك قد سللت
علينا عاجلا لسانك، وهو أقطع سيفيك، فقال: أجل، لقد سللته، ولكن لك
لا عليك (2)

(1) زيادة من عيون الأخبار.
(2) عيون الأخبار: 237، 238.
148

(32)
الأصل:
فاعل الخير خير منه، وفاعل الشر شر منه.
* * *
الشرح:
قد نظمت أنا هذا اللفظ والمعنى فقلت في جملة أبيات لي:
خير البضائع للانسان مكرمة * تنمى وتزكو إذا بارت بضائعه
فالخير خير وخير منه فاعله * والشر شر وشر منه صانعه.
فإن قلت: كيف يكون فاعل الخير خيرا من الخير، وفاعل الشر شرا من الشر،
مع أن فاعل الخير إنما كان ممدوحا لأجل الخير، وفاعل الشر إنما كان مذموما لأجل الشر، فإذا كان الخير والشر هما سببا المدح والذم - وهما الأصل في ذلك - فكيف يكون فأعلاهما
خيرا وشرا منهما؟
قلت: لان الخير والشر ليسا عبارة عن ذات حيه قادرة، وإنما هما فعلان، أو فعل
وعدم فعل، أو عدمان، فلو قطع النظر عن الذات الحية القادرة التي يصدران عنها،
لما انتفع أحد بهما ولا استضر، فالنفع والضرر إنما حصلا من الحي الموصوف بهما
لا منهما على انفرادهما، فلذلك كان فاعل الخير خيرا من الخير، وفاعل الشر شرا
من الشر.
149

(33)
الأصل:
كن سمحا، ولا تكن مبذرا، وكن مقدرا، ولا تكن مقترا.
* * *
الشرح:
كل كلام جاء في هذا فهو مأخوذ من قوله سبحانه: (ولا تجعل يدك مغلولة
إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) (1).
ونحو قوله: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه
كفورا) (2)

(1) سورة الإسراء 27.
(2) سورة الإسراء 29.
150

(34) الأصل:
أشرف الغنى، ترك المنى.
* * *
الشرح:
قد سبق منا قول كثير في المنى، ونذكر هاهنا ما لم نذكره هناك.
سئل عبيد الله بن أبي بكر: أي شئ أدوم متاعا؟ فقال: المنى.
وقال بلال بن أبي بردة: ما يسرني بنصيبي من المنى حمر النعم.
وكان يقال: الأماني للنفس كالرونق للبصر.
ومن كلام بعض الحكماء الأماني تعمى أعين البصائر، والحظ يأتي من لا يأتيه،
وربما كان الطمع وعاء حشوه المتالف، وسائقا يدعو إلى الندامة، وأشقى الناس بالسلطان
صاحبه، كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها إحراقا، ولا يدرك الغنى بالسلطان
إلا نفس خائفة وجسم تعب، ودين منكتم، وإن كان البحر كدر الماء، فهو بعيد
الهواء.
151

(35) لأصل:
من أسرع إلى الناس بما يكرهون، قالوا فيه مالا يعلمون.
* * *
هذا المعنى كثير واسع، ولنقتصر هاهنا فيه على حكاية ذكرها المبرد
في " الكامل ".
* * *
[في مجلسه قتيبة بن مسلم الباهلي]
قال: لما فتح قتيبة بن مسلم سمرقند أفضى (1) إلى أثاث لم ير مثله (2)، وإلى آلات
لم ير مثلها، فأراد أن يرى الناس عظيم ما أنعم الله به عليه، ويعرفهم أقدار القوم الذين
ظهر عليهم، فأمر بدار ففرشت وفى صحنها قدور يرتقى إليها بالسلالم، فإذا الحضين
ابن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم. والحضين
شيخ كبير فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة: ائذن لي في معاتبته، قال: لا ترده لأنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يأذن له - وكان عبد الله يضعف، وقد كان تسور
حائطا إلى امرأة قبل ذلك - فأقبل على الحضين، فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟

(1) أفضى، أي اتسع وصار عريضا.
(2) الكامل: " مثلها ".
152

قال: أجل، أسن عمك عن تسور الحيطان. قال: أرأيت هذه القدور قال: هي أعظم
من ألا ترى، قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها، قال أجل، ولا غيلان،
ولو كان رآها سمى شبعان، ولم يسم غيلان، قال له عبد الله: يا أبا ساسان أتعرف الذي يقول:
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل * تجر خصاها تبتغى من تحالفه (1).
قال: أجل أعرفه، وأعرف الذي يقول:
بأدنى العزم قاد بنى قشير * ومن كانت له أسرى كلاب
وخيبة من يخيب على غنى * وباهلة بن يعصر والركاب.
يريد: يا خيبة من يخيب. قال: أفتعرف الذي يقول:
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع * إذا عرقت أفواه بكر بن وائل.
قال: نعم أعرفه وأعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أمهم وأبوهم * لولا قتيبة أصبحوا في مجهل.
قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: أقرأ منه الأكثر
الأطيب: (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) (2)
فأغضبه، فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره.

(1) هو حارثة بن بدر - رغبة الامل.
(2) سورة الانسان 1.
153

قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى، ثم قال على رسله، وما يكون! تلد غلاما
على فراشي، فيقال: فلان ابن الحضين كما يقال: عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة
على عبد الله وقال لا يبعد الله غيرك.
قلت هو الحضين بالضاد المعجمة، وليس في العرب من اسمه " الحضين " بالضاد
المعجمة غيره (1).

(1) الكامل 3: 13، 14، قال أبو العباس: " الحضين بن المنذر بين بن الحارث بن وعلة، وكان
الحضين بيده لواء علي بن أبي طالب رحمه الله على ربيعة، وله يقول القائل:
لمن راية سوداء يخفق ظلها * إذا قيل قدمها حصين تقدما.
154

(36) الأصل:
من أطال الامل، أساء العمل.
* * *
الشرح:
قد تقدم منا كلام في الامل.
وقيل لبعض الصالحين: ألك حاجة إلى بغداد؟ قال: ما أحب أن أبسط أملى
حتى تذهب إلى بغداد وتعود.
وقال أبو عثمان النهدي: قد أتت على ثلاثون ومائة سنة، ما من شئ إلا وأجد فيه
النقص إلا أملى، فإني وجدته كما هو أو يزيد.
155

(37) الأصل:
قال (عليه السلام) وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار فترجلوا له
واشتدوا بين يديه:
ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا، فقال: والله
ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقون على أنفسكم في دنياكم، وتشقون به
في أخراكم، وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار!
* * *
الشرح:
اشتدوا بين يديه: أسرعوا شيئا، فنهاهم عن ذلك وقال: إنكم تشقون به على أنفسكم
لما فيه من تعب الأبدان. وتشقون به في آخرتكم: تخضعون للولاة، كما زعمتم أنه خلق
وعادة لكم، خضوعا تطلبون به الدنيا والمنافع العاجلة فيها، وكل خضوع وتذلل لغير الله
فهو معصية. ثم ذكر أن الخسران المبين مشقة عاجلة يتبعها عقاب الآخرة والربح البين دعة عاجلة
يتبعها الأمان من النار.
156

(38)
الأصل: قال (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام):
يا بنى احفظ عنى أربعا وأربعا لا يضرك ما عملت معهن: إن أغنى الغنى العقل،
وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق.
يا بنى إياك ومصادقة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وإياك
ومصادقة البخيل، فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة
الفاجر فإنه يبيعك بالتافة، وإياك ومصادقة الكذاب، فإنه كالسراب يقرب
عليك البعيد، ويبعد عليك القريب.
* * *
الشرح:
هذا الفصل يتضمن ذكر العقل والحمق، والعجب وحسن الخلق والبخل والفجور،
والكذب، وقد تقدم كلامنا في هذه الخصال أجمع، وقد أخذت قوله (عليه السلام):
" إياك ومصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك " فقلت في أبيات لي:
حياتك لا تصحبن الجهول * فلا خير في صحبة الأخرق
يظن أخو الجهل أن الضلال * عين الرشاد فلا يتقى
ويكسب صاحبه حمقه * فيسرق منه ولا يسرق (1)
وأقسم أن العدو اللبيب * خير من المشفق الأحمق

(1) في البيت إقواء.
157

(39) الأصل:
لا قربة بالنوافل إذا أضرت بالفرائض.
الشرح:
هذا الكلام يمكن أن يحمل على حقيقته، ويمكن أن يحمل على مجازه،
فإن حمل
على حقيقته فقد ذهب إلى هذا المذهب كثير من الفقهاء، وهو مذهب الإمامية، وهو أنه
لا يصح التنفل ممن عليه قضاء فريضة فاتته لا في الصلاة ولا في غيرها، فأما الحج
فمتفق عليه بين المسلمين أنه لا يصح الابتداء بنفله، وإذا نوى نية النفل، ولم يكن
قد حج حجة الاسلام وقع حجه فرضا، فأما نوافل الزكاة فما عرفت أحدا قال: إنه
لا يثاب المتصدق بها، وإن كان لم يؤد الزكاة الواجبة، وأما إذا حمل على مجازه،
فإن معناه يجب الابتداء بالأهم وتقديمه على ما أو ليس
بأهم، فتدخل هذه الكلمة في الآداب
السلطانية والإخوانية، نحو أن تقول لمن توصيه: لا تبدأ بخدمة حاجب الملك
قبل أن تبدأ بخدمة ولد الملك، فإنك إنما تروم القربة للملك بالخدمة، ولا قربة إليه
في تأخير خدمة ولده وتقديم خدمة غلامه، وحمل الكلمة على حقيقتها أولى لان اهتمام
أمير المؤمنين (عليه السلام) بالأمور الدينية والشرعية في وصاياه ومنثور كلامه أعظم.
158

(40)
الأصل:
لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه.
قال الرضى رحمه الله تعالى:
وهذا من المعاني العجيبة الشريفة، والمراد به أن العاقل لا يطلق لسانه إلا بعد مشاورة الروية، ومؤامرة الفكرة، والأحمق تسبق حذفات لسانه، وفلتات كلامه،
مراجعة فكره، ومماخضة رأيه، فكان لسان العاقل تابع لقلبه، وكأن قلب
الأحمق تابع للسانه. قال وقد روى عنه (عليه السلام) هذا المعنى بلفظ آخر، وهو قوله: " قلب
الأحمق في فيه، ولسان العاقل في قلبه " ومعناهما واحد.
* * *
الشرح:
قد تقدم القول في العقل والحمق، ونذكر هاهنا زيادات أخرى.
* * *
[أقوال وحكايات حول الحمقى]
قالوا: كل شئ يعز إذا قل، والعقل كلما كان أكثر كان أعز وأغلى.
وكان عبد الملك يقول: أنا للعاقل المدبر أرجى منى للأحمق المقبل.
قيل لبعضهم: ما جماع العقل؟ فقال: ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه، وما لا يوجد
كاملا فلا حد له.
159

وقال الزهري إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل.
وقيل عظمت المئونة في عاقل متجاهل وجاهل متعاقل.
وقيل: الأحمق يتحفظ من كل شئ إلا من نفسه.
وقيل لبعضهم العقل أفضل أم الجد؟ فقال العقل من الجد.
وخطب رجلان إلى ديماووس الحكيم ابنته، وكان أحدهما فقيرا والاخر غنيا، فزوجها
من الفقير، فسأله الإسكندر عن ذلك، فقال: لان الغنى كان أحمق، فكنت أخاف عليه
الفقر، والفقير كان عاقلا، فرجوت له الغنى.
وقال أرسطو: العاقل يوافق العاقل، والأحمق لا يوافق العاقل، ولا أحمق كالعود
المستقيم الذي ينطبق على المستقيم، فأما المعوج فإنه لا ينطبق على المعوج ولا
على المستقيم.
وقال بعضهم: لان أزاول أحمق أحب إلى من أن أزاول نصف أحمق - أعني
الجاهل المتعاقل.
* * *
واعلم أن أخبار الحمقى ونوادرهم كثيرة، إلا أنا نذكر منها هاهنا ما يليق بكتابنا، فإنه
كتاب نزهناه عن الخلاعة والفحش إجلالا لمنصب أمير المؤمنين.
قال هشام بن عبد الملك يوما لأصحابه: إن حمق الرجل يعرف بخصال أربع
طول لحيته، وبشاعة كنيته، ونقش خاتمه، وإفراط نهمته. فدخل عليه شيخ طويل
العثنون، فقال هشام: أما هذا فقد جاء بواحدة فانظروا أين هو من الباقي، قالوا
له: ما كنية الشيخ؟ قال: أبو الياقوت، فسألوه عن نقش خاتمه، فإذا هو:
160

(وجاءوا على قميصه بدم كذب) (1) فقيل له: أي الطعام تشتهى، قال: الدباء (2)
بالزيت، فقال هشام: إن صاحبكم قد كمل.
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلا ينادى آخر: يا أبا العمرين، فقال لو كان له عقل
لكفاه أحدهما.
وأرسل ابن لعجل بن لجيم (3) فرسا له في حلبة، فجاء سابقا، فقيل له: سمه باسم
يعرف به، فقام ففقأ عينه وقال: قد سميته الأعور، فقال شاعر يهجوه:
رمتني بنو عجل بداء أبيهم * وأي عباد الله أنوك من عجل!
أليس أبوهم عار عين جواده * فأضحت به الأمثال تضرب بالجهل.
وقال أبو كعب القاص في قصصه: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال في كبد حمزة
ما علمتم، فادعوا الله أن يطعمنا من كبد حمزه!
وقال مرة في قصصه: اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا وكذا، فقيل له: إن يوسف لم يأكله الذئب؟ فقال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.
ودخل كعب البقر الهاشمي على محمد بن عبد الله بن طاهر يعزيه في أخيه، فقال له:
أعظم الله مصيبة الأمير! فقال الأمير: أما فيك فقد فعل، والله لقد هممت أن أحلق
لحيتك، فقال: إنما هي لحية الله ولحية الأمير فليفعل ما أحب.
وكان عامر بن كريز أبو عبد الله بن عامر، من حمقى قريش، نظر إلى عبد الله وهو
يخطب والناس يستحسنون كلامه، فقال لانسان إلى جانبه: أنا أخرجته من هذا - وأشار
إلى متاعه.

(1) سورة يوسف 18.
(2) الدباء: القرع.
(3) ورد الاسم محرفا في ا، ب. وأصلحته من د، والعقد 6: 156.
161

ومن حمقى قريش العاص بن هشام المخزومي، وكان أبو لهب قامره فقمره ماله ثم
داره، ثم قليله وكثيره وأهله ونفسه، فاتخذه عبدا، وأسلمه قينا، فلما كان يوم بدر
بعث به بديلا عن نفسه، فقتل ببدر، قتله عمر بن الخطاب، وكان ابن عم أمه.
ومن الحمقى الأحوص بن جعفر بن عمرو بن حريث، قال له يوما مجالسوه: ما بال
وجهك أصفر! أتشتكي شيئا؟ فرجع إلى أهله، وقال: يا بنى الخيبة، أنا شاك ولا تعلمونني!
اطرحوا على الثياب وابعثوا إلى الطبيب.
ومن حمقى بنى عجل حسان بن الغضبان من أهل الكوفة، ورث نصف دار أبيه،
فقال: أريد أن أبيع حصتي من الدار. وأشتري بالثمن النصف الباقي، فتصير
الدار كلها لي.
ومن حمقى قريش بكار بن عبد الملك بن مروان، وكان أبوه ينهاه أن يجالس خالد
ابن يزيد بن معاوية لما يعرف من حمقه، فجلس يوما إلى خالد، فقال خالد يعبث به: هذا
والله المردد في بنى عبد مناف، فقال بكار: أجل، أنا والله كما قال الأول:
* مردد في بنى اللخناء ترديدا *
وطار لبكار هذا بازي، فقال لصاحب الشرطة: أغلق أبواب دمشق لئلا
يخرج البازي.
ومن حمقى قريش معاوية بن مروان بن الحكم، بينا هو واقف بباب دمشق ينتظر
أخاه عبد الملك على باب طحان، وحمار الطحان يدور بالرحا وفى عنقه جلجل، فقال
للطحان: لم جعلت في عنق هذا الحمار جلجلا؟ فقال ربما أدركتني نعسة أو سآمة، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه قد نام، فصحت به،
فقال: أرأيته إن قام وحرك
رأسه، ما علمك به أنه قائم؟ فقال: ومن لحماري بمثل عقل الأمير!
162

وقال معاوية لحميه وقد دخل بابنته تلك الليلة فافتضها: لقد ملأتنا ابنتك البارحة
دما، فقال: إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن.
ومن حمقى قريش سليمان بن يزيد بن عبد الملك، قال يوما: لعن الله الوليد أخي!
فلقد كان فاجرا أرادني على الفاحشة، فقال له قائل من أهله، أسكت ويحك فوالله
إن كان هم لقد فعل!
وخطب سعيد بن العاص عائشة ابنه عثمان، فقالت: هو أحمق لا أتزوجه أبدا له برذونان لونهما واحد عند الناس، ويحمل مؤنة اثنين.
وممن كان يحمق من قريش عتبة بن أبي سفيان بن حرب وعبد الله بن معاوية
ابن أبي سفيان وعبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب وسهل بن عمرو أخو سهيل
ابن عمرو بن العاص. وكان عبد الملك بن مروان يقول: أحمق بيت في قريش آل قيس
ابن مخرمة.
ومن القبائل المشهورة بالحمق الأزد، كتب مسلمة بن عبد الملك إلى يزيد
ابن المهلب لما خرج عليهم: إنك لست بصاحب هذا الامر، إن صاحبه مغمور موتور،
وأنت مشهور غير موتور. فقام إليه رجل من الأزد فقال:
قدم ابنك مخلدا حتى يقتل
فتصير موتورا.
وقام رجل من الأزد إلى عبيد الله بن زياد فقال: أصلح الله الأمير! أن امرأتي
هلكت، وقد أردت أن أتزوج أمها، وهذا عريفي فأعني في الصداق، فقال: في كم
أنت من العطاء؟ فقال: في سبعمائة، فقال: حطوا من عطائه أربعمائة يكفيك ثلاثمائة.
ومدح رجل منهم المهلب فقال:
نعم أمير الرفقة المهلب * أبيض وضاح كتيس الحلب.
163

فقال المهلب: حسبك يرحمك الله!
وكان عبد الملك بن هلال عنده زنبيل (1) مملوء حصا للتسبيح، فكان يسبح بواحدة
واحدة، فإذا مل طرح اثنتين اثنتين، ثم ثلاثا ثلاثا فإذا ازداد ملاله قبض قبضة وقال:
سبحان الله عددك! فإذا ضجر أخذ بعرا الزنبيل وقلبه، وقال سبحان الله
بعدد هذا.
ودخل قوم منزل الخريمي لبعض الامر، فجاء وقت صلاه الظهر، فسألوه عن
القبلة فقال: إنما تركتها منذ شهر.
وحكى بعضهم، قال: رأيت أعرابيا، يبكى فسألته عن سبب بكائه، فقال:
بلغني أن جالوت قتل مظلوما.
وصف بعضهم أحمق، فقال: يسمع غير ما يقال، ويحفظ غير ما يسمع، ويكتب
غير ما يحفظ، ويحدث بغير ما يكتب.
قال المأمون لثمامة: ما جهد البلاء يا أبا معن؟ قال: عالم يجرى عليه حكم جاهل.
قال، من أين قلت هذا؟ قال: حبسني الرشيد عند مسرور الكبير، فضيق على أنفاسي،
فسمعته يوما يقرأ: (ويل يومئذ للمكذبين) (2) بفتح الذال، فقلت له: لا تقل أيها
الأمير هكذا، قل: (للمكذبين)، وكسرت له الذال، لان المكذبين هم الأنبياء، فقال:
قد كان يقال لي عنك: إنك قدري، فلا نجوت إن نجوت الليلة منى! فعاينت منه تلك
الليلة الموت من شدة ما عذبني.
قال أعرابي لابنه: يا بنى كن سبعا خالصا أو ذئبا حائسا (3)، أو كلبا حارسا،
ولا تكن أحمق ناقصا.

(1) الزنبيل، بالكسر وقد يفتح: القفة أو الجراب أو الوعاء.
(2) سورة المرسلات 19.
(3) يقال، يحوس الذئب الغنم، أي يتخللها ويفرقها.
164

وكان يقال لولا ظلمة الخطأ ما أشرق نور الصواب.
وقال أبو سعيد السيرافي: رأيت متكلما ببغداد بلغ به نقصه في العربية أنه قال في
مجلس مشهور: إن العبد " مضطر " بفتح الطاء، والله " مضطر " بكسرها، وزعم أن
من قال: الله مضطر عبد إلى كذا "، بالفتح كافر، فانظر أين بلغ به جهله، وإلى أي
رذيلة أداه؟ نقصه.
وصف بعضهم إنسانا أحمق، فقال والله للحكمة أزل عن قلبه من المداد عن الأديم الدهين.
مر عمر بن الخطاب على رماة غرض، فسمع بعضهم يقول: أخطيت وأسبت،
فقال له: مه، فإن سوء اللحن شر من سوء الرماية. تضجر عمر بن عبد العزيز من كلام رجل بين يديه، فقال له صاحب شرطته: قم فقد
أوذيت أمير المؤمنين! فقال عمر: والله إنك لأشد أذى لي بكلامك هذا منه.
ومن حمقى العرب وجهلائهم كلاب بن صعصعه، خرج إخوته يشترون خيلا،
فخرج معهم، فجاء بعجل يقوده فقيل له: ما هذا؟ فقال: فرس اشتريته، قالوا:
يا مائق (1) هذه بقرة، أما ترى قرنيها فرجع إلى منزله فقطع قرنيها، ثم قادها، فقال
لهم: قد أعدتها فرسا كما تريدون، فأولاده يدعون بنى فارس البقرة.
وكان شذرة بن الزبرقان بن بدر من الحمقى، جاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع فأخذ
بعضادتي (2) الباب، ثم رفع صوته: سلام عليكم، أيلج شذرة؟ فقيل له: هذا يوم
لا يستأذن فيه، فقال، أو يلج مثلي على قوم ولم يعرف له مكانه.

(1) المائق: الأحمق.
(2) عضادتا الباب: خشبتاه من جانبيه.
165

واستعمل معاوية عاملا من كلب، فخطب يوما، فذكر المجوس فقال: لعنهم
الله! ينكحون أمهاتهم، والله لو أعطيت عشرة آلاف درهم ما نكحت أمي، فبلغ
ذلك معاوية فقال: قبحه الله! أترونه لو زادوه فعل! وعزله.
وشرد بعير لهبنقة - واسمه يزيد بن شروان - فجعل ينادى: لمن أتى به بعيران،
فقيل له: كيف تبذل ويلك بعيرين في بعير! فقال لحلاوة الوجدان.
وسرق من أعرابي حمار، فقيل له: أسرق حمارك؟ قال: نعم وأحمد الله، فقيل له:
على ماذا تحمده؟ قال: كيف: لم أكن عليه.
وخطب وكيع بن أبي سود (1) بخراسان، فقال: إن الله خلق السماوات والأرض
في ستة أشهر، فقيل له: إنها ستة أيام، فقال: والله لقد قلتها وأنا أستقلها!
وأجريت خيل فطلع فيها فرس سابق، فجعل رجل من النظارة يكبر ويثبت
من الفرح، فقال له رجل إلى جانبه: يا فتى، أهذا الفرس السابق لك؟ قال: لا ولكن
اللجام لي.
وقيل لأبي السفاح الأعرابي عند موتة: أوص، فقال: أنا الكرام يوم طخفة (2)،
قالوا: قل خيرا يا أبا السفاح، قال، إن أحبت امرأتي فأعطوها بعيرا، قالوا: قل خيرا،
قال: إذا مات غلامي فهو حر.
وقيل لرجل عند موتة: قل لا إله إلا الله، فأعرض فأعادوا عليه مرارا، فقال
لهم: أخبروني عن أبي طالب قالها عند موتة؟ قالوا: وما أنت وأبو طالب! فقال:
أرغب بنفسي عن ذلك الشريف.

(1) ب: " أسود " تصحيف صوابة ف د.
(2) طخفة: موضع في طريق البصرة إلى مكة، ويوم طخفة من أيامهم، لبني يربوع على المنذر بن ماء السماء.
166

وقيل لآخر عند موته: ألا توصي؟ فقال: أنا مغفور لي، قالوا: قل إن شاء الله،
قال: قد شاء الله ذلك، قالوا: يا هذا لا تدع الوصية، فقال لابني أخية، يا بنى حريث، أرفعا وسادي، واحتفظا بالحلة الجياد (1) فإنما حولكما الأعادي.
وقيل: لمعلم ابن: معلم ما لك أحمق، فقال لو لم: أكن أحمق لكنت ولد زنا.
167

(41)
الأصل:
وقال (عليه السلام) لبعض أصحابه في علة اعتلها:
جعل الله ما كان منك من شكواك حطا لسيئاتك، فإن المرض لا أجر فيه،
ولكنه يحط السيئات ويحتها حت الأوراق، وإنما الاجر في القول باللسان،
والعمل بالأيدي والاقدام، وإن الله سبحانه يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من يشاء من عبادة الجنة.
* * *
قال الرضى رحمه الله تعالى:
وأقول: صدق (عليه السلام)، إن المرض لا أجر فيه، لأنه من قبيل ما يستحق عليه
العوض، لان العوض يستحق على ما كان في مقابلة فعل الله تعالى بالعبد من الآلام
والأمراض وما يجرى مجرى ذلك والاجر والثواب يستحقان على ما كان في مقابل فعل العبد فبينهما فرق قد بينة (عليه السلام) كما يقتضيه علمه الثاقب ورأيه الصائب.
* * *
الشرح:
ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الفصل على تأويل يطابق
ما تدل عليه العقول وألا يحمل على ظاهرة، وذلك لان المرض إذا استحق عليه الانسان
168

العوض لم يجز أن يقال: إن العوض يحط السيئات بنفسه، لا على قول أصحابنا، ولا على قول الإمامية، أما الامامية فإنهم مرجئة، لا يذهبون إلى التحابط، وأما أصحابنا
فإنهم لا تحابط عندهم إلا في الثواب والعقاب، فأما العقاب، والعوض فلا تحابط
بينهما، لان التحابط بين الثواب والعقاب، إنما كان باعتبار التنافي بينهما من حيث كان
أحدهما يتضمن الاجلال والاعظام، والاخر يتضمن الاستخفاف والإهانة، ومحال أن يكون
الانسان الواحد مهانا معظما في حال واحدة ولما كان العوض لا يتضمن إجلالا
وإعظاما، وإنما هو نفع خالص فقط، لم يكن منافيا للعقاب، وجاز أن يجتمع للانسان الواحد
في الوقت الواحد كونه مستحقا للعقاب والعوض، أما بأن يوفر العوض عليه في دار الدنيا،
وإما بأن يوصل إليه في الآخرة قبل عقابه إن لم يمنع الاجماع من ذلك في حق الكافر،
وأما أن يخفف عليه بعض عقابه، ويجعل ذلك بدلا من العوض الذي كان سبيله أن يوصل
إليه، وإذا ثبت ذلك وجب أن يجعل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) على تأويل صحيح،
وهو الذي إرادة (عليه السلام)، لأنه كان أعرف الناس بهذه المعاني، ومنه تعلم المتكلمون
علم الكلام، وهو أن المرض والألم يحط الله تعالى عن الانسان المبتلى به ما يستحقه
من العقاب على معاصيه السالفة تفضلا منة سبحانه، فلما كان إسقاط العقاب متعقبا للمرض،
وواقعا بعدة بلا فصل، جاز أن يطلق اللفظ بأن المرض يحط السيئات ويحتها حت الورق،
كما جاز أن يطلق اللفظ بأن الجماع يحبل المرأة، وبان سقى البذر الماء ينبته، إن كان الولد
والزرع عند المتكلمين وقعا من الله تعالى على سبيل الاختيار، لا على الايجاب، ولكنه أجرى العادة، وأن يفعل ذلك عقيب الجماع وعقيب سقى البذر الماء.
فإن قلت: أيجوز أن يقال: إن الله تعالى يمرض الانسان المستحق للعقاب، ويكون
إنما أمرضه ليسقط عنة العقاب لا غير؟.

(1) ا: " يحط عنه السيئات ".
169

قلت: لا، لأنه قادر على أن يسقط عنة العقاب ابتداء، ولا يجوز إنزال الألم إلا حيث
لا يمكن اقتناص العوض المجزى به إليه إلا بطريق الألم، وإلا كان فعل الألم عبثا، ألا ترى
أنة لا يجوز أن يستحق زيد على عمرو ألف درهم فيضربه ويقول: إنما أضربه لأجعل
ما يناله من ألم الضرب مسقطا لما أستحقه من الدراهم عليه؟ وتذمه العقلاء ويسفهونه،
ويقولون له فهلا وهبتها له، وأسقطتها عنه من غير حاجة إلى أن تضربه وتؤلمه! والبحث
المستقصى في هذه المسائل مذكور في كتبي الكلامية، فليرجع إليها. وأيضا فإن الآلام
قد تنزل بالأنبياء وليسوا ذوي ذنوب ومعاص ليقال: إنها تحطها عنهم.
فأما قولة (عليه السلام): " وإنما الاجر في القول... " إلى آخر الفصل، فإنه (عليه السلام)
قسم أسباب الثواب أقساما، فقال: لما كان المرض لا يقتضى الثواب لأنه أو ليس
فعل
المكلف - وإنما يستحق المكلف الثواب على ما كان من فعله - وجب أن يبين ما الذي
يستحق به المكلف الثواب، والذي يستحق المكلف به ذلك أن يفعل فعلا إما من أفعال
الجوارح، وإما من أفعال القلوب، فأفعال الجوارح إما قول باللسان أو عمل ببعض الجوارح
وعبر عن سائر الجوارح - عد اللسان - بالأيدي والاقدام، لان أكثر ما يفعل بها،
وإن كان قد يفعل بغيرها نحو مجامعة الرجل زوجته إذا قصد به تحصينها وتحصينه عن الزنا،
ونحو أن ينحى حجرا ثقيلا برأسه عن صدر إنسان قد يقتله، وغير ذلك، وأما أفعال القلوب
فهي العزوم والإرادات والنظر والعلوم والظنون والندم، فعبر (عليه السلام) عن جميع ذلك
بقوله: " بصدق النية والسريرة الصالحة، واكتفى بذلك عن تعديد هذه الأجناس.
فإن قلت: فإن الانسان قد يستحق الثواب على ألا يفعل القبيح، وهذا يخرم الحصر الذي
حصره أمير المؤمنين؟
قلت: يجوز أن يكون يذهب مذهب أبي على في أن القادر بقدرة لا يخلو عن الاخذ
والترك.
170

(42) الأصل:
وقال (عليه السلام) في ذكر خباب:
رحم الله خباب بن الأرت! فلقد أسلم راغبا، وهاجر طائعا وعاش
مجاهدا. طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، ورضى
عن الله
* * *
الشرح:
[خباب بن الأرت] هو خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد مناة
ابن تميم، يكنى أبا عبد الله - وقيل: أبا محمد وقيل: أبا يحيى - أصابة سبى فبيع بمكة (1).
وكانت أمة ختانة، وخباب من فقراء المسلمين وخيارهم، وكان به مرض، وكان
في الجاهلية قينا حدادا يعمل السيوف، وهو قديم الاسلام، قيل إنه كان سادس ستة،
وشهد بدرا وما بعدها من المشاهد، وهو معدود في المعذبين في الله سأله عمر بن الخطاب

(1) الاستيعاب: " كان قينا يعمل السيوف في الجاهلية، فأصابه سباء فبيع بمكة، فاشترته أم أنمار
بنت سباع الخزاعية ".
171

أيام خلافته: ما لقيت من أهل مكة؟ فقال: انظر إلى ظهري، فنظر فقال: ما رأيت
كاليوم ظهر رجل! فقال خباب: أوقدوا لي نارا وسحبت (1) عليها، فما أطفأها إلا
ودك ظهري.
وجاء خباب إلى عمر، فجعل يقول ادنه ادنه ثم قال له ما أحد أحق بهذا
المجلس منك، إلا أن يكون عمار بن ياسر. نزل خباب إلى الكوفة، ومات بها في سنة
سبع وثلاثين، وقيل: سنة تسع وثلاثين، بعد أن شهد مع أمير المؤمنين على (عليه السلام)
صفين ونهروان وصلى عليه على (عليه السلام) وكانت سنه يوم مات ثلاثا وسبعين سنة،
ودفن بظهر الكوفة (2).
وهو أول من دفن بظهر الكوفة، وعبد الله بن خباب هو الذي قتلته الخوارج،
فاحتج على (عليه السلام) به وطلبهم بدمه، وقد تقدم ذكر ذلك

(1) ب: " وسخنت "، وأثبت ما في ا، د، والاستيعاب.
(2) انظر ترجمة خباب في الاستيعاب 1: 438.
172

(43)
الأصل:
وقال (عليه السلام):
لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت
الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنة قضى فانقضى على
لسان النبي الأمي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " يا علي، لا يبغضك مؤمن،
ولا يحبك منافق "،
* * *
الشرح:
جماتها بالفتح: جمع جمة، وهي المكان يجتمع فيه الماء وهذه استعاره، والخيشوم:
أقصى الانف.
ومراده (عليه السلام) من هذا الفصل إذكار الناس ما قاله فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
وهو: " لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق "، وهي كلمة حق، وذلك لان
الايمان وبغضه (عليه السلام) لا يجتمعان، لان بغضة كبيرة، وصاحب الكبيرة عندنا
لا يسمى مؤمنا، وأما المنافق فهو الذي يظهر الاسلام ويبطن الكفر، والكافر بعقيدته
لا يحب عليا (عليه السلام) لان المراد من الخبر المحبة الدينية، ومن لا يعتقد الاسلام
لا يحب أحدا من أهل الاسلام، لاسلامه وجهاده في الدين، فقد بان أن الكلمة حق،
وهذا الخبر مروي في الصحاح بغير هذا اللفظ: لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك
إلا منافق "، وقد فسرناه فيما سبق.
173

(44) الأصل:
سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك.
* * *
الشرح:
هذا حق، لان الانسان إذا وقع منه القبيح ثم ساءه ذلك وندم عليه وتاب حقيقة
التوبة كفرت توبته معصيته، فسقط ما كان يستحقه من العقاب، وحصل له ثواب
التوبة، وأما من فعل واجبا واستحق به ثوابا ثم خامره الاعجاب بنفسه والإدلال على الله
تعالى بعلمه، والتيه على الناس بعبادته واجتهاده، فإنه يكون قد أحبط ثواب عبادته
بما شفعها من القبيح الذي أتاه، وهو العجب والتيه والإدلال على الله تعالى، فيعود
لا مثابا ولا معاقبا، لأنه يتكافأ الاستحقاقان.
ولا ريب أن من حصل له ثواب التوبة وسقط عنة عقاب المعصية، خير ممن خرج
من الامرين كفافا (1) لا عليه ولا له.

(1) الكفاف من الشئ، مثله.
174

(45)
الأصل:
قدر الرجل على قدر همته، وصدقه على قدر مروءته وشجاعته على قدر أنفته،
وعفته على قدر غيرته.
* * *
الشرح:
قد تقدم الكلام في كل هذه الشيم والخصال، ثم نقول هاهنا: إن كبر الهمة خلق
مختص بالانسان فقط، وأما سائر الحيوانات فليس يوجد فيها ذلك، وإنما يتجرا كل
نوع منها الفعل بقدر ما في طبعه، وعلو الهمة حال متوسطة محمودة بين حالتين طرفي رذيلتين،
وهما الندح، وتسميه الحكماء التفتح - وصغر الهمة - وتسمية الناس الدناءة، فالتفتح تأهل
الانسان لما لا يستحقه، وصغر الهمة تركة لما يستحقه لضعف في نفسة، فهذان مذمومان،
والعدالة وهي الوسط بينهما محمودة، وهي علو الهمة، وينبغي أن يعلم أن المتفتح جاهل
أحمق، وصغير الهمة أو ليس
بجاهل ولا أحمق، ولكنه دنئ ضعيف قاصر، وإذا أردت
التحقيق، فالكبير الهمة من لا يرضى بالهمم الحيوانية، ولا يقنع لنفسه أن يكون عند
رعاية بطنه وفرجه بل يجتهد في معرفة صانع العالم ومصنوعاته، وفى اكتساب المكارم
الشرعية ليكون من خلفاء الله وأوليائه في الدنيا، ومجاوريه في الآخرة، ولذلك
قيل: من عظمت همته لم يرض بقينة مستردة، وحياة مستعارة، فإن أمكنك
175

أن تقتنى قنية مؤبدة، وحياة مخلدة، فافعل غير مكترث بقلة من يصحبك ويعينك
على ذلك فإنه كما قيل:
* إذا عظم المطلوب قل المساعد *
وكما قيل:
* طرق العلاء قليلة الإيناس *
وأما الكلام في الصدق والمروءة والشجاعة والأنفة والعفة والغيرة، فقد تقدم
كثير منه، وسيأتي ما هو أكثر فيما بعد إن شاء الله تعالى.
176

(46)
الأصل:
الظفر بالحزم والحزم بإجالة الرأي، والرأي بتحصين الاسرار.
* * *
الشرح:
قد تقدم القول في كتمان السر وإذاعته.
وقال الحكماء: السر ضربان: أحدهما ما يلقى إلى الانسان من حديث ليستكتم،
وذلك إما لفظا كقول القائل: اكتم ما أقوله لك، وإما حالا وهو أن يجهر (1) بالقول
حال انفراد صاحبه، أو يخفض صوته حيث يخاطبه، أو يخفيه عن مجالسيه، ولهذا قيل:
إذا حدثك إنسان والتفت إليه فهو أمانة.
والضرب الثاني نوعان: أحدهما أن يكون حديثا في نفسك تستقبح إشاعته، والثاني
أن يكون أمرا تريد أن تفعله.
وإلى الأول أشار النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: من أتى منكم شيئا من هذه القاذورات
فليستتر بستر الله عز وجل "، وإلى الثاني أشار من قال: " من الوهن والضعف إعلان
الامر قبل إحكامه "، وكتمان الضرب الأول من الوفاء، وهو مخصوص بعوام الناس،
وكتمان الضرب الثاني من المروءة والحزم، والنوع الثاني من نوعيه أخص بالملوك
وأصحاب السياسات.
قالوا: وإذاعة السر من قلة الصبر، وضيق الصدر، ويوصف به ضعفة الرجال

(1) ب: " يحدث ".
177

والنساء والصبيان. والسبب في أنه يصعب كتمان السر أن للانسان قوتين: إحداهما
آخذة، والأخرى معطية، وكل واحدة منهما تتشوق إلى فعلها الخاص بها، ولولا أن
الله تعالى وكل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالاخبار من لم تزود، فعلى الانسان
أن يمسك هذه القوة ولا يطلقها إلا حيث يجب إطلاقها، فإنها إن لم تزم وتخطم،
تقحمت بصاحبها في كل مهلكة.
178

(47)
الأصل:
احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.
* * *
الشرح:
ليس يعنى بالجوع والشبع ما يتعارفه الناس، وإنما المراد: احذروا صولة الكريم
إذا ضيم، وامتهن واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم. ومثل المعنى الأول قول الشاعر:
لا يصبر الحر تحت ضيم * وإنما يصبر الحمار.
ومثل المعنى الثاني قول أبى الطيب:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا (1)

(1) ديوانه 1: 288.
179

(48)
الأصل:
قلوب الرجال وحشية، فمن تألفها أقبلت عليه.
* * *
الشرح:
هذا مثل قولهم: من لان استمال، ومن قسا نفر، وما استعبد الحر بمثل الاحسان
إليه. وقال الشاعر:
وإني لوحشي إذا ما زجرتني * وإني إذا ألفتني لألوف
فأما قول عمارة بن عقيل:
تبحثتم سخطي فكدر بحثكم * نخيلة نفس كان صفوا ضميرها (1)
ولم يلبث التخشين نفسا كريمة * على قومها أن يستمر مريرها
وما النفس إلا نطفة بقرارة * إذا لم تكدر كان صفوا غديرها.
فيكاد يخالف قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الأصل، لان أمير المؤمنين (عليه السلام)
جعل أصل طبيعة القلوب التوحش، وإنما تستمال لأمر خارج (2)، وهو التألف والاحسان، وعمارة
جعل أصل طبيعة النفس الصفو والسلامة، وإنما تتكدر وتجمح لأمر خارج (2)،
وهو الإساءة والإيحاش.

(1) الكامل 1: 29.
(2) ا: " من خارج ".
180

(49)
الأصل:
عيبك مستور ما أسعدك جدك.
* * *
الشرح:
قد قال الناس في الجد فأكثروا، وإلى الان لم يتحقق معناه، ومن كلام بعضهم:
إذا أقبل البخت باضت الدجاجة على الوتد، وإذا أدبر البخت أسعر الهاون في الشمس.
ومن كلام الحكماء: إن السعادة لتلحظ الحجر فيدعى ربا.
وقال أبو حيان: نوادر ابن الجصاص الدالة على تغفله وبلهه كثيرة جدا، قد صنف
فيها الكتب. من جملتها أنة سمع إنسانا ينشد نسيبا فيه ذكر هند، فأنكر ذلك،
وقال: لا تذكروا حماة النبي (صلى الله عليه وآله) إلا بخير، وأشياء عجيبة أظرف من هذا.
وكانت سعادته تضرب بها الأمثال، وكثرة أمواله التي لم يجتمع لقارون مثلها. قال
أبو حيان: فكان الناس يعجبون من ذلك، حتى أن جماعة من شيوخ بغداد كانوا
يقولون: إن ابن الجصاص أعقل الناس، وأحزم الناس وإنه هو الذي ألحم الحال
بين المعتضد وبين خمارويه بن أحمد بن طولون، وسفر بينهما سفارة عجيبة، وبلغ من
الجهتين أحسن مبلغ، وخطب قطر الندى بنت خمارويه للمعتضد، وجهزها من مصر
181

على أجمل وجه وأعلى ترتيب، ولكنه كان يقصد أن يتغافل ويتجاهل ويظهر البله والنقص، يستبقى بذلك ماله، ويحرس به نعمته، ويدفع عنة عين الكمال،
وحسد الأعداء.
قال أبو حيان: قلت لأبي غسان البصري: أظن ما قالة هؤلاء صحيحا، فإن المعتضد
مع حزمه وعقله وكماله وإصابة رأيه ما اختاره للسفارة والصلح إلا والمرجو منه فيما يأتيه
ويستقبله من أيامه نظير ما قد شوهد منة فيما مضى من زمانه، وهل كان يجوز أن يصلح
أمر قد تفاقم فساده وتعاظم واشتد برسالة أحمق، وسفارة أخرق فقال أبو غسان: إن الجد ينسخ حال الأخرق، ويستر عيب الأحمق، ويذب عن عرض المتلطخ، ويقرب
الصواب بمنطقه والصحة برأيه، والنجاح بسعيه، والجد يستخدم العقلاء لصاحبه،
ويستعمل آراءهم وأفكارهم في مطالبه، وابن الجصاص على ما قيل وروى وحدث وحكى،
ولكن جده كفاه غائلة الحمق، وحماه عواقب الخرق ولو عرفت خبط العاقل وتعسفه
وسوء تأتيه وانقطاعه إذا فارقه الجد، لعلمت أن الجاهل قد يصيب بجهله ما لا يصيب
العالم بعلمه مع حرمانه.
قال أبو حيان: فقلت له: فما الجد؟ وما هذا المعنى الذي علقت عليه هذه الأحكام (1)
كلها؟ فقال: أو ليس
لي عنه عبارة معينة، ولكن لي به علم شاف، استفدته بالاعتبار
والتجربة والسماع العريض من الصغير والكبير، ولهذا (2) سمع من امرأة من الاعراب
ترقص ابنا لها فتقول له: رزقك الله جدا يخدمك عليه ذوو العقول، ولا رزقك عقلا
تخدم به ذوي الجدود

(1) د: " الأحوال ".
(2) ا: " وقد سمع ".
182

(50)
الأصل:
أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة.
* * *
الشرح:
قد تقدم لنا قول مقنع في العفو والحلم.
وقال الأحنف: ما شئ أشد اتصالا بشئ من الحلم بالعز.
وقالت الحكماء: ينبغي للانسان إذا عاقب من يستحق العقوبة، ألا يكون سبعا في
انتقامه، وألا يعاقب حتى يزول سلطان غضبة، لئلا يقدم على ما لا يجوز، ولذلك
جرت سنة السلطان بحبس المجرم حتى ينظر في جرمه ويعيد النظر فيه.
وأتى الإسكندر بمذنب فصفح عنة: فقال له بعض جلسائه: لو كنت إياك أيها الملك
لقتلته، قال: فإذا لم تكن إياي ولا كنت إياك لم يقتل.
وانتهى إليه أن بعض أصحابه يعيبه، فقيل له: أيها الملك، لو نهكته عقوبة! فقال:
يكون حينئذ أبسط لسانا وعذرا في اجتنابي.
وقالت الحكماء أيضا: لذة العفو أطيب من لذة التشفي والانتقام، لان لذة العفو
يشفعها حميد العاقبة، ولذة الانتقام يلحقها ألم الندم، وقالوا: العقوبة ألام حالات ذي
القدرة وأدناها، وهي طرف من الجزع ومن رضى ألا يكون بينه وبين الظالم إلا ستر
رقيق فلينتصف.
183

(51)
الأصل:
السخاء ما كان ابتداء، فإذا كان عن مسألة فحياء وتذمم.
* * *
الشرح:
يعجبني في هذا المعنى قول ابن حيوس:
إني دعوت ندى الكرام فلم يجب * فلأشكرن ندى أجاب وما دعى
ومن العجائب والعجائب جمة * شكر بطئ عن ندى المتسرع
وقال آخر:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله * عوضا ولو نال الغنى بسؤال
وإذا النوال إلى السؤال قرنته * رجح السؤال وخف كل نوال
184

(52)
الأصل:
* * *
لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشاورة.
* * *
الشرح:
روى أبو العباس في " الكامل " عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنة قال: خمس
من لم يكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع: العقل، والدين، والأدب، والحياء،
وحسن الخلق.
وقال أيضا: لم يقسم بين الناس شئ أقل من خمس: اليقين، والقناعة، والصبر، والشكر، والخامسة التي يكمل بها هذا كلة العقل.
وعنه (عليه السلام): أول ما خلق الله العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر،
فأدبر، فقال: ما خلقت خلقا أحب إلى منك، لك الثواب، وعليك العقاب.
وعنة (عليه السلام): قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله ليبغض الضعيف
الذي لا زبر له، قال: الزبر: العقل.
وعنه (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما قسم الله للعباد أفضل من
العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وفطر العاقل أفضل من صوم الجاهل،
وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، وما بعث الله رسولا حتى يستكمل العقل،
185

وحتى يكون عقله أفضل من عقول جميع أمته، وما يضمره في نفسه أفضل من اجتهاد جميع المجتهدين
وما أدى العبد فرائض الله تعالى حتى عقل عنه ولا يبلغ جميع العابدين في
عباداتهم ما يبلغه العاقل، والعقلاء هم أولوا الألباب، الذين قال الله تعالى عنهم: (وما
يذكر إلا أولوا الألباب).
قال أبو العباس: وقال رجل من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) له وقد سمعه يقول،
بل يروى (1) مرفوعا: إذا بلغكم عن رجل حسن الحال فانظروا في حسن عقله،
فإنما يجازى بعقله.
يا بن رسول الله، إن لي جارا كثير الصدقة، كثير الصلاة،
كثير الحج، لا بأس به! فقال: كيف عقله؟ فقال: أو ليس
له عقل، فقال: لا يرتفع
بذاك منه.
وعنه (عليه السلام) ما بعث الله نبيا إلا عاقلا، وبعض النبيين أرجح من بعض،
وما استخلف داود سليمان (عليه السلام) حتى اختبر عقله، وهو ابن ثلاث عشرة سنة،
فمكث في ملكه ثلاثين سنة.
وعنه مرفوعا: صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله.
وعنه مرفوعا: إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم.
قال أبو العباس: وسئل أبو عبد الله (عليه السلام): ما العقل؟ فقال: ما عبد به الرحمن،
واكتسبت به الجنان.
قال: وقال أبو عبد الله: سئل الحسن بن علي (عليه السلام) عن العقل، فقال: التجرع
للغصة، ومداهنة الأعداء.
قلت: هذا كلام الحسن (عليه السلام) وأنا أقطع بذلك.
186

قال أبو العباس: وقال أبو عبد الله: العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل
من يخاف منعه، ولا يثق بمن يخاف عذره،
ولا يرجو من لا يوثق برجائه.
قال أبو العباس: وروى عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: كان موسى (عليه السلام)
يدنى رجلا من بني إسرائيل لطول سجوده، وطول صمته، فلا يكاد يذهب إلى موضع إلا
وهو معه، فبينا هو يوما من الأيام إذ مر على أرض معشبة تهتز، فتأوه الرجل، فقال له
موسى: على ماذا تأوهت؟ قال: تمنيت أن يكون لربي حمار وأرعاه (1) هاهنا، فأكب موسى
طويلا ببصره إلى الأرض اغتماما بما سمع منه، فانحط عليه الوحي، فقال: ما الذي أنكرت
من مقالة عبدي! إنما آخذ عبادي على قدر ما آتيتهم.
قال أبو العباس: وروى عن علي (عليه السلام): هبط جبرائيل (عليه السلام) على آدم (عليه السلام)
بثلاث ليختار منها واحدة ويدع اثنتين، وهي: العقل، والحياء، والدين، فاختار
العقل، فقال جبرائيل للحياء، والدين: انصرفا، فقالا: إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث
كان، فقال: فشأنكما! ففاز بالثلاث.
* * *
فأما قولة (عليه السلام): " ولا ميراث كالأدب " فإني قرأت في حكم الفرس عن
بزرجمهر: ما ورثت الاباء أبناءها شيئا أفضل من الأدب، لأنها إذا ورثتها الأدب اكتسب
بالأدب المال، فإذا ورثتها المال بلا أدب أتلفته بالجهل، وقعدت صفرا من
المال والأدب.
قال بعض الحكماء: من أدب ولده صغيرا، سربه كبيرا.
وكان يقال: من أدب ولده أرغم حاسده.
وكان يقال: ثلاثة لا غربة معهن: مجانبة الريب، وحسن الأدب، وكف الأذى.

(1) د: " أرعاه ".
187

وكان يقال: عليكم بالأدب، فإنه صاحب في السفر، ومؤنس في الوحدة وجمال،
في المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة.
وقال بزرجمهر: من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان قبل وضيعا، وبعد صيته
وإن كان خاملا، وساد وإن كان غريبا، وكثرت الحاجة إليه وإن كان مقلا.
وقال بعض الملوك لبعض وزرائه: ما خير ما يرزقه العبد؟ قال: عقل يعيش به
قال فإن عدمه، قال: أدب يتحلى به، قال: فان عدمه، قال مال يستتر به، قال:
فإن عدمه قال: صاعقة تحرقه فتريح منه العباد والبلاد.
وقيل لبعض الحكماء متى يكون العلم شرا من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب
ونقصت القريحة - يعنى بالقريحة العقل.
فأما القول في المشورة فقد تقدم، وربما ذكرنا منه نبذا فيما بعد.
188

(53)
الأصل:
الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر عما تحب.
النوع الأول أشق من النوع الثاني، لان الأول صبر على مضرة نازلة، والثاني صبر
على محبوب متوقع لم يحصل،
وقد تقدم لنا قول طويل في الصبر.
سئل بزرجمهر في بليته (1) عن حاله، فقال هون على ما أنا فيه فكري في أربعة
أشياء: أولها أنى قلت: القضاء والقدر لابد من جريانهما والثاني أنى قلت: إن لم أصبر فما أصنع! والثالث أنى قلت: قد كان يجوز أن تكون المحنة أشد من هذه! والرابع أنى
قلت: لعل الفرج قريب!
وقال أنو شروان: جميع أمر الدنيا منقسم إلى ضربين لا ثالث لهما: أما ما في دفعه
حيلة فالاضطراب دواؤه، وأما ما لا حيلة فيه فالصبر شفاؤه

(1) د: " بلواه.
189

(54)
الأصل:
الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة.
* * *
الشرح:
قد تقدم لنا قول مقنع في الفقر والغنى ومدحهما وذمهما على عادتنا في ذكر الشئ
ونقيضه، ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك.
قال رجل لبقراط (1): ما أشد فقرك أيها الحكيم؟ قال: لو عرفت راحة الفقر
لشغلك التوجع لنفسك عن التوجع لي، الفقر ملك أو ليس عليه محاسبة.
وكان يقال: أضعف الناس من لا يحتمل الغنى.
وقيل للكندي: فلان غنى، فقال: أنا أعلم أن له مالا، ولكني لا أعلم: أغنى هو
أم لا! لأنني لا أدرى كيف يعمل في ماله!
قيل لابن عمر: توفى زيد بن ثابت وترك مائة ألف درهم، قال: هو تركها لكنها
لم تتركه.
وقالوا: حسبك من شرف الفقر أنك لا ترى أحدا يعصى الله ليفتقر، أخذة الشاعر فقال:
يا عائب الفقر ألا تزدجر * عيب الغنى أكبر لو تعتبر
إنك تعصى الله تبغى الغنى * وليس تعصى الله كي تفتقر.
وكان يقال: الحلال يقطر، والحرام يسيل.

(1) ا: " سقراط ".
190

وقال بعض الحكماء: ألا ترون ذا الغنى ما أدوم نصبه، وأقل راحته، وأخس من ماله حظه، وأشد من الأيام حذره، وأغرى الدهر بنقصه وثلمه! ثم هو بين سلطان
يرعاه، وحقوق تسترعيه، وأكفاء ينافسونه، وولد يودون موته، قد بعث الغنى عليه
من سلطانة العناء، ومن أكفائه الحسد، ومن أعدائه البغي، ومن ذوي الحقوق الذم، ومن الولد الملالة وتمنى الفقد، لا كذي البلغة قنع فدام له السرور، ورفض الدنيا
فسلم من الحسد، ورضى بالكفاف فكفى الحقوق.
191

(55)
الأصل:
القناعة مال لا ينفد
قال الرضى رحمه الله تعالى: وقد روى هذا الكلام عن النبي (صلى الله عليه وآله):
* * *
الشرح:
قد ذكرنا نكتا جليلة الموقع في القناعة فيما تقدم ونذكر هاهنا زيادة على ذلك.
فمن كلام الحكماء: قاوم الفقر بالقناعة وقاهر الغنى بالتعفف، وطاول عناء الحاسد
بحسن الصنع، وغالب الموت بالذكر الجميل.
وكان يقال: الناس رجلان واجد لا يكتفى، وطالب لا يجد، أخذة الشاعر
فقال:
وما الناس إلا واجد غير قانع * بأرزاقه أو طالب غير واجد.
قال رجل لبقراط (1) ورآه يأكل العشب (2): لو خدمت الملك لم تحتج إلى أن
تأكل الحشيش، فقال له: وأنت إن أكلت الحشيش لم تحتج أن تخدم الملك!

(1) ا، ب: سقراط ".
(2) د: " عشبا "..
192

(56)
الأصل:
المال مادة الشهوات.
* * *
الشرح:
قد تقدم لنا كلام في المال مدحا وذما.
وقال أعرابي لبنيه: اجمعوا الدراهم فإنها تلبس اليلمق، وتطعم الجردق (1).
وقال أعرابي وقد نظر إلى دينار: قاتلك الله! ما أصغر قمتك، وأكبر همتك!.
ومن كلام الحكماء: ما اخترت أن تحيا به فمت دونه.
سئل أفلاطون عن المال، فقال: ما أقول في شئ يعطيه الحظ ويحفظه اللؤم،
ويبلعه الكرم!
وكان يقال: ثلاثة يؤثرون المال على أنفسهم: تاجر البحر، والمقاتل بالأجرة، والمرتشي
في الحكم وهو شرهم، لان الأولين ربما سلما، ولا سلامة للثالث من الاثم.
ثم قالوا: وقد سمى الله تعالى المال خيرا في قوله: (إن ترك خيرا) (2)، وفي قوله: (وإنه لحب الخير لشديد) (3).
كان عبد الرحمن بن عوف يقول: حبذا المال، أصون به عرضي، وأقرضه ربى

(1) اليلمق: القباء المحشو، وهو بالفارسية: " يلمه " والجردق: الرغيف، فارسية أيضا.
(2) سورة البقرة 180
(3) سورة العاديات 8.
193

فيضاعفه لي. وقالوا في ذم المال: المال مثل الماء غاد ورائح، طبعه كطبع الصبي لا يوقف
على سبب رضاه ولا سخطه. المال لا ينفعك ما لم تفارقه.
وفيه قال الشاعر وصاحب صدق أو ليس
ينفع قربه * ولا وده حتى تفارقه عمدا.
وأخذ هذا المعنى الحريري فقال:
وليس يغنى عنك في المضايق * إلا إذا فر فرار الآبق.
وقال الشاعر:
ألم تر أن المال يهلك ربه * إذا جم آتيه وسد طريقه
ومن جاوز البحر الغزير بقحمة * وسد طريق الماء فهو غريقه
194

(57)
الأصل:
من حذرك، كمن بشرك.
* * *
الشرح:
هذا مثل قولهم: اتبع أمر مبكياتك، لا أمر مضحكاتك (1). ومثلة: صديقك
من نهاك، لا من أغراك ومثله: رحم الله أمرا أهدى إلى عيوبي.
والتحذير هو النصح، والنصح واجب، وهو تعريف الانسان ما فيه صلاحه، ودفع
المضرة عنه، وقد جاء في الخبر الصحيح: " الدين النصيحة "، فقيل: يا رسول الله، لمن؟
فقال: " لعامة المسلمين "، وأول ما يجب على الانسان أن يحذر نفسه وينصحها، فمن
غش نفسة فقلما يحذر غيرة وينصحه، وحق من استنصح أن يبذل غاية النصح ولو كان
في أمر يضره، وإلى ذلك وقعت الإشارة في الكتاب العزيز بقولة سبحانه: (يا أيها الذين
آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) (2)، وقال سبحانه: (وإذا
قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) (3).
ومعنى قوله (عليه السلام) كمن بشرك " أي ينبغي لك أن تسر بتحذيره لك،
كما تسر لو بشرك بأمر تحبه، وأن تشكره على ذلك كما تشكره لو بشرك بأمر تحبه،
لأنه لو لم يكن يريد بك الخير لما حذرك من الوقوع في الشر.

(1) الميداني 1: 30، ولفظه هناك: " أسر مبكياتك لا أمر مضحكاتك ".
(2) سورة النساء 135.
(3) سورة الأنعام 152.
195

(58)
الأصل:
اللسان سبع، إن خلى عنه عقر.
* * *
الشرح:
قد تقدم لنا كلام طويل في هذا المعنى.
وكان يقال: إن كان في الكلام درك ففي الصمت عافية.
وقالت الحكماء: النطق أشرف ما خص به الانسان، لأنه صورته المعقولة التي باين
بها سائر الحيوانات، ولذلك قال سبحانه: (خلق الانسان علمه البيان) (1)، ولم يقل:
" وعلمه " بالواو لأنه سبحانه جعل قوله: (علمه البيان) تفسيرا لقوله: (خلق
الانسان)، لا عطفا عليه، تنبيها على أن خلقة له، وتخصيصه بالبيان الذي لو توهم
مرتفعا لارتفعت إنسانيته، ولذلك قيل: ما الانسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة،
أو صورة ممثلة.
وقال الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبق إلا صورة اللحم والدم (2)
قالوا: والصمت من حيث هو صمت مذموم، وهو من صفات الجمادات، فضلا

(1) سورة الرحمن 3، 4.
(2) ينسب لزهير، من معلقته بشرح الزوزني 94.
196

عن الحيوانات، وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وغيره من العلماء في مدح الصمت
محمول على من يسئ الكلام فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا،
كما روى في الخبر: إن الانسان إذا أصبح قالت أعضاؤه للسانه: اتق الله فينا
فإنك ان استقمت نجونا وإن زغت هلكنا "، فاما إذا اعتبر النطق والصمت
بذاتيهما فقط، فمحال أن يقال في الصمت فضل، فضلا عن أن يخاير ويقايس بينه
وبين الكلام.
197

(59) الأصل:
المرأة عقرب حلوة اللسبة.
* * *
الشرح:
اللسبة: اللسعة، لسبته العقرب بالفتح: لسعته، ولسبت العسل بالكسر، أي لعقته.
وقيل لسقراط: أي السباع أجسر؟ قال المرأة.
ونظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة فقال ليت كل شجرة تحمل مثل
هذه الثمرة.
مرت بسقراط امرأة وهي تتشوف (1) فقالت يا شيخ، ما أقبحك؟ فقال:
لولا أنك من المرايا الصدئة لغمني ما بان من قبح صورتي فيك.
ورأي بعضهم مؤدبا يعلم جارية الكتابة، فقال: لا تزد الشر شرا، إنما تسقى
سهما سما لترمى به يوما ما.
ورأي بعضهم جارية تحمل نارا فقال نار على نار، والحامل شر من المحمول.
وتزوج بعضهم امرأة نحيفة، فقيل له في ذلك، فقال: اخترت من الشر أقلة.
كتب فيلسوف على بابه: ما دخل هذا المنزل شر قط، فقال له بعضهم: اكتب:
" إلا المرأة.

(1) د: " تتشرف ".
198

ورأي بعضهم امرأة غريقة في الماء، فقال: زادت الكدر كدرا، والشر بالشر
يهلك.
وفي الحديث المرفوع: استعيذوا بالله من شرار النساء، وكونوا من خيارهن
على حذر.
وفى كلام الحكماء: اعص هواك والنساء، وافعل ما شئت.
دعا بعضهم لصاحبه، فقال: أمات الله عدوك؟ فقال: لو قلت: زوج الله عدوك،
لكان أبلغ في الانتقام.
ومن الكنايات المشهورة عنهن: " سلاح إبليس ".
وفي الحديث المرفوع: " إنهن ناقصات عقل ودين.
وقد تقدم من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الكتاب ما هو شرح وإيضاح
لهذا المعنى.
وجاء في الحديث أيضا: " شاوروهن وخالفوهن "،
وفي الحديث أيضا: " النساء حبائل الشيطان "
وفى الحديث أيضا: " ما تركت بعدي فتنة أضر من النساء على الرجال ".
وفي الحديث أيضا: " المرأة ضلع عوجاء إن داريتها استمتعت بها، وإن رمت
تقويمها كسرتها " وقال الشاعر في هذا المعنى:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها * ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أيجمعن ضعفا واقتدارا على الفتى * أليس عجيبا ضعفها واقتدارها؟
ومن كلام بعض الحكماء: أو ليس
ينبغي للعاقل أن يمدح امرأة إلا بعد موتها.
وفى الأمثال: لا تحمدن أمة عام شرائها، ولا حرة عام بنائها.
199

ومن كلام عبد الله المأمون: إنهن شر كلهن، وشر ما فيهن ألا غنى عنهن.
وقال بعض السلف: إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان، لان الله تعالى
ذكر الشيطان، فقال: (إن كيد الشيطان كان ضعيفا (1).
وذكر النساء فقال: (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) (2). وكان يقال: من الفواقر امرأة سوء إن حضرتها لسبتك، وإن غبت عنها لم تأمنها.
وقال حكيم: أضر الأشياء بالمال والنفس والدين والعقل والعرض شدة الإغرام بالنساء،
ومن أعظم ما يبتلى به المغرم بهن أنة لا يقتصر على ما عنده منهن ولو كن ألفا، ويطمح
إلى ما أو ليس
له منهن.
وقال بعض الحكماء: من يحصى مساوئ النساء! اجتمع فيهن نجاسة الحيض
والاستحاضة، ودم النفاس، ونقص العقل والدين، وترك الصوم والصلاة في كثير من أيام
العمر، ليست عليهن جماعة ولا جمعة، ولا يسلم عليهن، ولا يكون منهن إمام ولا قاض
ولا أمير ولا يسافرن إلا بولي.
وكان يقال: ما نهيت امرأة عن أمر إلا أتته.
وفي هذا المعنى يقول طفيل الغنوي:
إن النساء كأشجار نبتن معا * هن المرار وبعض المر مأكول
إن النساء متى ينهين عن خلق * فإنه واجب لا بد مفعول

(1) سورة النساء 76.
(2) سورة يوسف 28.
200

(60)
الأصل:
إذا حييت بتحية فحيي بأحسن منها، وإذا أسديت إليك يد فكافئها بما يربى
عليها، والفضل مع ذلك للبادئ.
* * *
الشرح:
اللفظة الأولى من القرآن (1) العزيز، والثانية تتضمن معنى مشهورا.
وقوله: " والفضل مع ذلك للبادئ "، يقال في الكرم والحث على فعل الخير.
وروى المدائني، قال: قدم على أسد بن عبد الله القشيري بخراسان رجل، فدخل
مع الناس، فقال أصلح الله الأمير! إن لي عندك يدا، قال: وما يدك؟ قال: أخذت
بركابك يوم كذا قال: صدقت، حاجتك، قال توليني أبيورد، قال: لم قال:
لأكسب مائة ألف درهم، قال: فإنا قد أمرنا لك بها الساعة فنكون قد بلغناك
ما تحب، وأقررنا صاحبنا على عمله، قال: أصلح الله الأمير! إنك لم تقض ذمامي،
قال: ولم وقد أعطيتك ما أملت؟ قال، فأين الامارة؟ وأين حب الأمر والنهي!
قال: قد وليتك أبيورد، وسوغت لك ما أمرت لك به، وأعفيتك من المحاسبة إن صرفتك عنها، قال: ولم تصرفني عنها ولا يكون الصرف إلا من عجز أو خيانة،

(1) وهو قوله في سورة النساء (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أوردوها).
201

وأنا برئ منهما؟ قال أذهب فأنت أميرها ما دامت لنا خراسان، فلم يزل أميرا على
أبيورد حتى عزل أسد.
قال المدائني: وجاء رجل إلى نصر بن سيار يذكر قرابة (1)، قال: وما قرابتك؟
قال: ولدتني وإياك فلانة! قال نصر: قرابة عورة، قال: إن العورة كالشن البالي،
يرقعه أهله فينتفعون به، قال: حاجتك، قال: مائة ناقة لاقح، ومائة نعجة ربى - أي
معها أولادها - قال: أما النعاج فخذها، وأما النوق فنأمر لك بأثمانها.
وروى الشعبي، قال: حضرت مجلس زياد وحضره رجل فقال: أيها الأمير، إن
لي حرمة أفأذكرها؟ قال: هاتها، قال: رأيتك بالطائف وأنت غليم ذو ذؤابة، وقد
أحاطت بك جماعة من الغلمان، وأنت تركض هذا مرة برجلك، وتنطح هذا مرة
برأسك، وتكدم مرة بأنيابك، فكانوا مرة ينثالون عليك، وهذه حالهم، ومرة يندون
عنك وأنت تتبعهم، حتى كاثروك واستقووا عليك، فجئت حتى أخرجتك من بينهم
وأنت سليم وكلهم جريح: قال صدقت، أنت ذاك الرجل! قال: أنا ذاك قال حاجتك،
قال: الغنى عن الطلب، قال: يا غلام، اعطه كل صفراء وبيضاء عندك، فنظر فإذا قيمة كل ما يملك ذلك اليوم من الذهب والفضة أربعة وخمسون ألف درهم. فأخذها وانصرف،
فقيل له بعد ذلك: أنت رأيت زيادا وهو غلام بذلك الحال؟ قال: أي والله، لقد رأيته
وقد اكتنفه صبيان صغيران كأنهما من سخال المعز، فلو لا أنى أدركته لظننت أنهما
يأتيان على نفسه.
وجاء رجل إلى معاوية وهو في مجلس العامة فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي حرمة (2)،
قال: وما هي؟ قال دنوت من ركابك يوم صفين، وقد قربت فرسك لتفر، وأهل

(1) د: " قرابته ".
(2) د: " حرمة وذماما ".
202

العراق قد رأوا الفتح والظفر، فقلت لك: والله لو كانت هند بنت عتبة مكانك ما فرت
ولا اختارت إلا أن تموت كريمة أو تعيش حميدة، أين تفر وقد قلدتك العرب
أزمة أمورها، وأعطتك قياد أعنتها! فقلت لي: أخفض صوتك لا أم لك!
ثم تماسكت وثبت وثابت إليك حماتك، وتمثلت حينئذ بشعر أحفظ منة
وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي (1).
فقال معاوية: صدقت، وددت أنك الان أيضا خفضت من صوتك، يا غلام أعطه
خمسين ألف درهم، فلو كنت أحسنت في الأدب لأحسنا لك في الزيادة.

(1) لابن الإطنابة، الكامل 4: 68، وقبله:
أبت لي عفتي وأبى بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي * وصربي هامة البطل المشيح.
203

(61)
الأصل:
الشفيع جناح الطالب.
* * *
الشرح:
جاء في الحديث مرفوعا: " اشفعوا إلى تؤجروا ويقضى الله على لسان نبيه
ما شاء ".
وقال: المأمون لإبراهيم بن المهدى لما عفا عنه: إن أعظم يدا عندك من عفوي عنك
أنى لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين.
ومن كلام قابوس بن وشمكير: بزند الشفيع توري نار النجاح، ومن كف المفيض
ينتظر فوز القداح.
قال المبرد: أتاني رجل يستشفع بي في حاجة فأنشدني لنفسه:
إني قصدتك لا أدلي بمعرفة * ولا بقربى، ولكن قد فشت نعمك
فبت حيران مكروبا يؤرقني * ذل الغريب ويغشيني الكرى كرمك
ولو هممت بغير العرف ما علقت * به يداك ولا انقادت له شيمك
ما زلت أنكب حتى زلزلت قدمي * فاحتل لتثبيتها لا زلزلت قدمك
قال: فشفعت له وقمت بأمره حتى بلغت له ما أحب.
بزرجمهر: من لم يستغن بنفسه عن شفيعه ووسائله وهت قوى أسبابه، وكان إلى
204

الحرمان أقرب منه إلى بلوغ المراد ومثله: من لم يرغب أوداؤه في اجتنابه لم يحظ بمدح
شفعائه. ومثله: إذا زرت الملوك فإن حسبي شفيعا عندهم أن يعرفوني.
كلم الأحنف مصعب بن الزبير في قوم حبسهم، فقال: أصلح الله الأمير! إن كان
هؤلاء حبسوا في باطل فالحق يخرجهم، وإن كانوا حبسوا في حق فالعفو يسعهم، فأمر بإخراجهم.
آخر:
إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة فلا خير في ود يكون بشافع
خرج العطاء في أيام المنصور وأقام الشقراني - من ولد شقران مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ببابه أياما لا يصل إليه عطاؤه، فخرج جعفر بن محمد من عند المنصور، فقام الشقراني إليه فذكر له حاجته، فرحب به، ثم دخل ثانيا إلى المنصور، وخرج
وعطاء الشقراني في كمه فصبه في كمه ثم قال: يا شقران، إن الحسن من كل أحد حسن، وإنه منك أحسن لمكانك منا، وإن القبيح من كل أحد قبيح، وهو منك
أقبح لمكانك منا. فاستحسن الناس ما قاله، وذلك لان الشقراني كان صاحب
شراب. قالوا: فانظر كيف أحسن السعي في استنجاز طلبته، وكيف رحب به وأكرمه مع معرفته بحاله، وكيف وعظه ونهاه عن المنكر على وجه التعريض قال الزمخشري:
وما هو إلا من أخلاق الأنبياء.
كتب سعيد بن حميد شفاعة لرجل: كتابي هذا كتاب معتن بمن كتب له،
واثق بمن كتب إليه ولن يضيع حامله بين الثقة والعناية إن شاء الله.
أبو الطيب:
إذا عرضت حاج إليه فنفسه * إلى نفسه فيها شفيع مشفع (1)

(1) ديوانه 2: 243.
205

[محمد بن جعفر والمنصور]
كان المنصور معجبا بمحادثة محمد بن جعفر بن عبيد الله بن العباس، وكان الناس
لعظم قدرة عند المنصور يفزعون إليه في الشفاعات وقضاء الحاجات، فثقل ذلك على
المنصور فحجبه مدة، ثم تتبعته نفسه، فحادث الربيع فيه، وقال: إنه لا صبر لي
عنه لكني قد ذكرت شفاعاته، فقال الربيع: أنا أشترط ألا يعود فكلمه الربيع،
فقال: نعم، فمكث أياما لا يشفع، ثم وقف له قوم من قريش وغيرهم برقاع وهو
يريد دار المنصور، فسألوه أن يأخذ رقاعهم، فقص عليهم القصة، فضرعوا إليه وسألوه،
فقال أما إذ أبيتم قبول العذر فإني لا أقبضها منكم، ولكن هلموا فاجعلوها في كمي،
فقذفوها في كمه، ودخل على المنصور وهو في الخضراء يشرف على مدينة السلام
وما حولها بين البساتين والضياع، فقال له: أما ترى إلى حسنها! قال: بلى يا أمير المؤمنين،
فبارك الله لك فيما آتاك، وهناك بإتمام نعمته عليك فيما أعطاك! فما بنت العرب في دولة
الاسلام، ولا العجم في سالف الأيام، أحصن ولا أحسن من مدينتك، ولكن سمجتها
في عيني خصلة، قال: ما هي؟ قال: أو ليس
لي فيها ضيعة، فضحك وقال: نحسنها في
عينك، ثلاث ضياع قد أقطعتكها، فقال: أنت والله يا أمير المؤمنين شريف الموارد،
كريم المصادر، فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه، وجعلت الرقاع تبدر من كميه
في أثناء كلامه وخطابه للمنصور، وهو يلتفت إليها ويقول: ارجعن خاسئات، ثم يعود إلى
حديثه فقال المنصور: ما هذه بحقي عليك؟ ألا أعلمتني خبرها! فأعلمه فضحك فقال:
أبيت يا بن معلم الخير إلا كرما! ثم تمثل بقول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر
ابن أبي طالب:
206

لسنا وإن أحسابنا كملت * يوما على الأحساب نتكل (1)
نبني كما كانت أوائلنا * تبنى ونفعل مثل ما فعلوا
ثم أخذها وتصفحها ووقع فيها كلها بما طلب أصحابها.
قال محمد بن جعفر: فخرجت من عنده وقد ربحت وأربحت.
قال المبرد لعبد الله بن يحيى بن خاقان: أنا أشفع إليك أصلحك الله في أمر فلان، فقال له:
قد سمعت وأطعت، وسأفعل في أمره كذا، فما كان من نقص فعلى، وما كان من زيادة
فله، قال المبرد: أنت - أطال الله بقاءك - كما قال زهير:
وجار سار معتمدا إلينا * أجاءته المخافة والرجاء (2)
ضمنا ماله فغدا سليما * علينا نقصه وله النماء
وقال دعبل:
وإن امرأ أسدى إلى بشافع * إليه ويرجو الشكر منى لأحمق (3)
شفيعك يا شكر الحوائج إنه * يصونك عن مكروهها وهو يخلق
آخر: مضى زمني والناس يستشفعون بي * فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع!
آخر: ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة * إلى، فهلا نفس ليلى شفيعها! (4)
أأكرم من ليلى على فتبتغي * به الجاه، أم كنت امرأ لا أطيعها!

(1) في د: " كرمت ".
(2) ديوانه 77.
(3) ديوانه 112.
(4) للمجنون، ديوانه 195.
207

آخر:
ومن يكن الفضل بن يحيى بن خالد * شفيعا له عند الخليفة ينجح
آخر: وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة * من جاهه، فكأنها من ماله.
وهذا مثل قول الاخر:
وعطاء غيرك إن بذلت * عناية فيه عطاؤك.
ابن الرومي:
ينام الذي استسعاك في الامر إنه * إذا أيقظ الملهوف مثلك ناما
كفى العود منك البدء في كل موقف * وجردت للجلي فكنت حساما
فمالك تنبو في يدي عن ضريبتي * ولم أرث من هز وكنت كهاما!
208

(62)
الأصل:
أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام.
الشرح:
هذا التشبيه واقع وهو صورة الحال لا محالة.
وقد أتيت بهذا المعنى في رسالة لي كتبتها إلى بعض الأصدقاء تعزية، فقلت:
" ولو تأمل الناس أحوالهم (1) وتبينوا مآلهم، لعلموا أن المقيم منهم بوطنه،
والساكن إلى سكنة، أخو سفر يسرى به وهو لا يسرى، وراكب بحر يجرى به
وهو لا يدرى "،

(1) ا: " في أحوالهم ".
209

(63)
الأصل:
فقد الأحبة غربة.
* * *
الشرح:
مثل هذا قول الشاعر:
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى * ولكن من تنأين عنه غريب (1)
ومثله قوله (عليه السلام): الغريب من أو ليس
له حبيب "،
وقال الشاعر: أسرة المرء والداه وفيما بين * حضنيهما الحياة تطيب (2)
وإذا وليا عن المرء يوما * فهو في الناس أجنبي غريب
وقال آخر:
إذا ما مضى القرن الذي كنت فيهم * وخلفت في قرن فأنت غريب (3)

(1) نأى: بعد.
(2) الحضن: ما دون الإبط إلى الكشح.
(3) القرن: الجليل من الناس.
210

(64)
الأصل:
فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها.
* * *
الشرح:
قد سبق هذا المعنى، وذكرنا كثيرا مما قيل فيه.
وكان يقال: لا تطلبوا الحوائج إلى ثلاثة إلى عبد يقول: الامر إلى غيري،
وإلى رجل حديث الغنى، وإلى تاجر همته أن يستربح في كل عشرين دينارا حبة واحدة (1)

(1) ساقطة من ا.
211

(65)
الأصل:
لا تستح من إعطاء القليل، فإن الحرمان أقل منه.
* * *
الشرح:
هذا نوع من الحث على الأفضال والجود لطيف، وقد استعمل كثيرا في الهدية
والاعتذار لقلتها، وقد تقدم منا قول شاف في مدح السخاء والجود.
وكان يقال: أفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره،
واستغن عمن شئت تكن نظيره.
وسئل أرسطو: هل من جود يستطاع أن يتناول به كل أحد؟ قال: نعم،
أن تنوي الخير لكل أحد
212

(66)
الأصل:
العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى.
* * *
الشرح:
من الأبيات المشهورة:
فإذا افتقرت فلا تكن * متخشعا وتجمل
ومن أمثالهم المشهورة " تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها " (1).
وأنشد الأصمعي لبعضهم:
أقسم بالله لمص النوى * وشرب ماء القلب المالحه
أحسن بالانسان من ذله * ومن سؤال الأوجه الكالحه
فاستغن بالله تكن ذا غنى * مغتبطا بالصفقة الرابحه (2)
طوبى لمن تصبح ميزانه * يوم يلاقى ربه راجحة
وقال بعضهم: وقفت على كنيف وفى أسفله كناف، وهو ينشد:
أكرم نفسي عن أمور كثيرة * ألا أن إكرام النفوس من العقل

(1) الميداني 1: 81، قال: أي لا تكون ظئرا وإن آذاها الجوع. ويروى: و " لا تأكل ثدييها "
قال: " وأول من قال ذلك الحارث بن سليل الأسدي " في خبر معروف ذكره هناك.
(2) ب: " مغبطا " تحريف.
213

وأبخل بالفضل المبين على الألى * رأيتهم لا يكرمون ذوي الفضل
وما شانني كنس الكنيف وإنما * يشين الفتى أن يجتدي نائل النذل (1)
وأقبح مما بي وقوفي مؤملا * نوال فتى مثلي، وأي فتى مثلي!
وأما كون الشكر زينة الغنى، فقد تقدم من القول ما هو كاف.
وكان يقال: العلم بغير عمل قول باطل، والنعمة بغير شكر جيد عاطل.

(1) النذل: المحتقر من الناس في جميع أحواله.
214

(67)
الأصل:
إذا لم يكن ما تريد، فلا تبل كيف كنت!
* * *
الشرح:
قد أعجم تفسير هذه الكلمة على جماعة من الناس، وقالوا: المشهور في كلام الحكماء:
إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون، ولا معنى لقوله: " فلا تبل كيف كنت "! وجهلوا
مراده (عليه السلام).
ومراده: إذا لم يكن ما تريد فلا تبل بذلك، أي لا تكترث بفوت مرادك
ولا تبتئس بالحرمان، ولو وقف على هذا لتم الكلام وكمل المعنى، وصار هذا مثل
قوله: " فلا تكثر على ما فاتك منها أسفا "، ومثل قول الله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) (1)، لكنه تمم وأكد فقال: " كيف كنت "، أي لا تبل بفوت ما كنت
أملته، ولا تحمل لذلك هما كيف كنت، وعلى أي حال كنت، من حبس أو مرض أو
فقر أو فقد حبيب، وعلى الجملة لا تبال الدهر، ولا تكترث بما يعكس عليك من غرضك، ويحرمك من أملك، وليكن هذا الإهوان به والاحتقار له مما تعتمده دائما
على أي حال أفضى بك الدهر إليها. وهذا واضح.

(1) سورة الحديد 23.
215

(68)
الأصل:
لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا.
* * *
الشرح:
العدالة هي الخلق المتوسط، وهو محمود بين مذمومين، فالشجاعة محفوفة بالتهور
والجبن، والذكاء بالغباوة والجربزة (1)، والجود بالشح والتبذير، والحلم بالجمادية والاستشاطة،
وعلى هذا كل ضدين من الأخلاق فبينهما خلق متوسط، وهو المسمى بالعدالة، فلذلك
لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا، كصاحب الغيرة فهو إما إن يفرط فيها، فيخرج
عن القانون الصحيح فيغار لا من موجب، بل بالوهم وبالخيال وبالوسواس، وإما أن
يفرط فلا يبحث عن حال نسائه ولا يبالي ما صنعن، وكلا الامرين مذموم،
والمحمود الاعتدال.
ومن كلام بعض الحكماء (2): إذا صح العقل التحم (3) بالأدب كالتحام (4) الطعام
بالجسد الصحيح، وإذا مرض العقل نبا عنه ما يستمع من الأدب كما يقئ الممعود ما أكل من الطعام، فلو آثر الجاهل أن يتعلم شيئا من الأدب لتحول ذلك الأدب جهلا، كما
يتحول ما خالط جوف المريض من طيب الطعام داء.

(1) الجزيرة: الخب والمكر.
(2) ا: " ومن كلام الحكماء ".
(3) ا " التأم ".
(4) ا: " كالتئام ".
216

(69)
الأصل:
إذا تم العقل نقص الكلام.
* * *
الشرح:
قد سبق القول في هذا المعنى.
وكان يقال: إذا رأيتم الرجل (1) يطيل الصمت ويهرب من الناس، فاقربوا منه فإنه يلقى الحكمة

(1) ا: " رجلا ".
217

(70)
الأصل:
الدهر يخلق الأبدان، ويجدد الآمال، ويقرب المنية ويباعد الأمنية من
ظفر به نصب، ومن فاته تعب.
* * *
الشرح:
قد سبق لنا قول طويل عريض في ذكر: الدهر والدنيا، ونذكر الان شيئا آخر، قال
بعض الحكماء: الدنيا تسر لتغر، وتفيد لتكيد، كم راقد في ظلها قد أيقظته، وواثق بها
قد خذلته، بهذا الخلق عرفت، وعلى هذا الشرط صوحبت.
وكتب الإسكندر إلى أرسطو طاليس: عظني، فكتب إليه: إذا صفت لك
السلامة فجدد ذكر العطب، وإذا اطمأن بك الامن فاستشعر الخوف، وإذا بلغت
نهاية الامل فاذكر الموت، وإذا أحببت نفسك فلا تجعل لها نصيبا في الإساءة، وقال
شاعر فأحسن:
كأنك لم تسمع بأخبار من مضى * ولم تر بالباقين ما صنع الدهر
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم * عفاها محال الريح بعدك والقطر
وهل أبصرت عيناك حيا بمنزل * على الدهر إلا بالعراء له قبر
فلا تحسبن الوفر مالا جمعته * ولكن ما قدمت من صالح وفر
218

مضى جامعوا الأموال لم يتزودوا * سوى الفقر يا بؤسي لمن زاده الفقر!
فحتام لا تصحو وقد قرب المدى * وحتام لا ينجاب عن قلبك السكر!
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا * وتذكر قولي حين لا ينفع الذكر
وما بين ميلاد الفتى ووفاته * إذا انتصح الأقوام أنفسهم عمر (1)
لان الذي يأتيه شبه الذي مضى * وما هو إلا وقتك الضيق النزر
فصبرا على الأيام حتى تجوزها * فعما قليل بعدها يحمد الصبر

(1) د: " غمر ".
219

(71)
الأصل:
من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره،
وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال
من معلم الناس ومؤدبهم.
* * *
الشرح
الفروع تابعة للأصول، فإذا كان الأصل معوجا استحال أن يكون الفرع مستقيما،
كما قال صاحب المثل: " وهل يستقيم الظل والعود أعوج "، فمن نصب نفسه للناس إماما،
ولم يكن قد علم نفسه ما انتصب ليعلمه الناس، كان مثل من نصب نفسه ليعلم الناس
الصياغة، والنجارة، وهو لا يحسن أن يصوغ خاتما، ولا ينجر لوحا، وهذا نوع من السفه،
بل هو السفه كله، ثم قال (عليه السلام): وينبغي أن يكون تأديبه لهم بفعله وسيرته
قبل تأديبه لهم بلسانه، وذلك لان الفعل أدل على حال الانسان من القول.
ثم قال: ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم. وهذا حق،
لان من علم نفسه محاسن الأخلاق أعظم قدرا ممن تعاطى تعليم الناس ذلك وهو غير عامل
بشئ منه، فأما من علم نفسه وعلم الناس فهو أفضل (1) وأجل ممن اقتصر على تعليم نفسه
فقط لا شبهة في ذلك.

(1) ا: " وأعظم ".
220

(72)
الأصل:
نفس المرء خطاه إلى أجله.
* * *
الشرح:
وجدت هذه الكلمة منسوبة إلى عبد الله بن المعتز في فصل أوله: " الناس
وفد البلاء، وسكان الثرى، وأنفاس الحي خطاه إلى أجله، وأمله خادع له عن عمله،
والدنيا أكذب واعديه، والنفس أقرب أعاديه، والموت ناظر إليه، ومنتظر فيه أمرا
يمضيه " فلا أدرى هل هي لابن المعتز، أم أخذها من أمير المؤمنين (عليه السلام)!
والظاهر (1) أنها لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنها بكلامه أشبه، ولأن الرضى
قد رواها عنه، وخبر العدل معمول به.

(1) ا: " ويظهر ".
221

(73)
الأصل:
كل معدود منقض، وكل متوقع آت.
* * *
الشرح:
الكلمة الأولى تؤكد مذهب جمهور المتكلمين في أن العالم كله لابد أن ينقضي
ويفنى، ولكن المتكلمين الذاهبين إلى هذا القول لا يقولون: يجب ان يكون فانيا
ومنقضيا لأنه معدود، فإن ذلك لا يلزم، ومن الجائز أن يكون معدودا ولا يجب فناؤه،
ولهذا قال أصحابنا: إنما علمنا أن العالم يفنى عن طريق السمع لا من طريق العقل، فيجب
أن يحمل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما يطابق ذلك، وهو أنه أو ليس
يعنى أن العدد علة
في وجوب الانقضاء، كما يشعر به ظاهر لفظه، وهو الذي يسميه أصحاب أصول الفقه
إيماء، وإنما مراده (1) كل معدود فاعلموا أنه فان ومنقض، فقد حكم على كل معدود
بالانقضاء حكما مجردا عن العلة، كما لو قيل: زيد قائم، أو ليس
يعنى أنه قائم، لأنه
يسمى زيدا.
فأما قوله: " وكل متوقع آت " فيماثله قول العامة في أمثالها: " لو انتظرت القيامة
لقامت "، والقول في نفسه حق، لان العقلاء لا ينتظرون ما يستحيل وقوعه، وإنما ينتظرون
ما يمكن وقوعه، وما لابد من وقوعه، فقد صح أن كل منتظر سيأتي.

(1) ا: " ومراده ".
222

(74)
الأصل:
إن الأمور إذا اشتبهت اعتبر آخرها بأولها.
* * *
الشرح:
روى: " إذا استبهمت "، والمعنى واحد وهو حق، وذلك أن المقدمات تدل
على النتائج، والأسباب تدل على المسببات، وطالما كان الشيئان ليسا علة ومعلولا، وإنما بينهما أدنى (1) تناسب، فيستدل بحال أحدهما على حال الاخر، وإذا كان كذلك
واشتبهت أمور على العاقل الفطن ولم يعلم إلى ماذا تؤول، فإنه يستدل على عواقبها
بأوائلها وعلى خواتمها بفواتحها، كالرعية ذات السلطان الركيك الضعيف السياسة،
إذا ابتدأت أمور مملكته تضطرب، واستبهم على العاقل كيف يكون الحال في المستقبل،
فإنه يجب عليه أن يعتبر أواخرها بأوائلها، ويعلم أنه سيفضي أمر ذلك الملك إلى انتشار
وانحلال في مستقبل الوقت، لان الحركات الأولى منذرة بذلك، وواعدة بوقوعه،
وهذا واضح

(1) ا: " أقرب ".
223

(75)
الأصل:
ومن خبر ضرار بن ضمرة الضابي عند دخوله على معاوية، ومسألته له عن أمير
المؤمنين (عليه السلام)، قال: فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله
وهو قائم في محرابه قابض على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين،
وهو يقول:
يا دنيا يا دنيا إليك عنى، أبى تعرضت، أم إلى تشوفت! لا حان حينك،
هيهات، غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا، لا رجعة فيها،
فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق،
وبعد السفر، وعظيم المورد!
* * *
الشرح:
السدول: جمع سديل، وهو ما أسدل على الهودج، يجوز في جمعه أيضا أسدال
وسدائل، وهو هاهنا استعارة. والتململ والتملل أيضا: عدم الاستقرار من المرض، كأنه
على ملة، وهي الرماد الحار.
والسليم: الملسوع.
ويروى " تشوقت " بالقاف.
وقوله: " لا حان حينك "، دعاء عليها، أي لا حضر وقتك كما تقول: لا كنت.
224

فأما ضرار بن ضمرة فإن الرياشي روى خبره، ونقلته أنا من كتاب عبد الله بن
إسماعيل بن أحمد الحلبي في " التذييل على نهج البلاغة "،،، قال: دخل ضرار على معاوية
- وكان ضرار من صحابة على (عليه السلام) - فقال له معاوية: يا ضرار، صف لي عليا، قال: أو تعفيني! قال: لا أعفيك، قال: ما أصف منه! كان (1) والله شديد القوى، بعيد المدى،
يتفجر العلم من أنحائه، والحكمة من أرجائه، حسن المعاشرة، سهل المباشرة خشن
المأكل قصير الملبس، غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألنا، ويبتدئنا إذا سكتنا، ونحن مع تقريبه لنا أشد
ما يكون صاحب لصاحب هيبة، لا نبتدئه الكلام لعظمته، يحب المساكين، ويقرب
أهل الدين، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه... وتمام الكلام مذكور
في الكتاب.
وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب،، الاستيعاب،، هذا الخبر، فقال: حدثنا
عبد الله بن محمد بن يوسف، قال: حدثنا يحيى بن مالك بن عائد قال: حدثنا أبو الحسن
محمد بن محمد بن مقلة البغدادي بمصر. وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، قال:
حدثنا العكلي، عن الحرمازي، عن رجل من همدان، قال: قال معاوية لضرار الضبابي (2):
يا ضرار صف لي عليا، قال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لتصفنه، قال: أما إذ لابد من
وصفه، فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم
من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل
ووحشته، [وكان] (3) غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن
الطعام ما خشن. كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استفتيناه، ونحن والله

(1) ب: " وكان " والصواب ما أثبته.
(2) في الاستيعاب: " الصدائي ".
(3) من الاستيعاب.
225

مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له. يعظم أهل الدين ويقرب
المساكين لا يطمع القوى في باطله ولا ييئس الضعيف من عدله واشهد لقد رايته
في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضا على لحيته يتململ
تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول يا دنيا غري غيري ا بي تعرضت
أم إلى تشوقت هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعه لي فيها فعمرك قصير
وخطرك حقير آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق فبكى معاوية وقال
رحم الله أبا حسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار قال حزن
من ذبح ولدها في حجرها
226

(76)
الأصل:
ومن كلامه (عليه السلام) للسائل الشامي لما سأله ا كان مسيرنا إلى الشام
بقضاء من الله وقدره بعد كلام طويل هذا مختاره
ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حاتما لو كان ذلك كذلك لبطل
الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد ان الله سبحانه أمر عباده تخييرا ونهاهم
تحذيرا وكلف يسيرا ولم يكلف عسيرا وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص
مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الأنبياء لعبا ولم ينزل الكتب للعباد
عبثا ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل
للذين كفروا من النار
قد ذكر شيخنا أبو الحسين رحمه الله هذا الخبر في كتاب الغرر ورواه عن
الأصبغ بن نباته قال قام شيخ إلى علي (عليه السلام) فقال أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام
ا كان بقضاء الله وقدره فقال والذي فلق الحبة وبرا النسمة ما وطئنا موطئا
ولا هبطنا واديا الا بقضاء الله وقدره فقال الشيخ فعند الله احتسب عنائي ما أرى لي
من الاجر شيئا فقال مه أيها الشيخ لقد عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون
وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين
227

ولا إليها مضطرين فقال الشيخ وكيف القضاء والقدر ساقانا فقال ويحك لعلك
ظننت قضاء لازما وقدرا حتما لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد
والامر والنهى ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن
أولى بالمدح من المسئ ولا المسئ أولى بالذم من المحسن تلك مقاله
عباد الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب
وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها ان الله سبحانه أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف
يسيرا ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ولم يخلق
السماوات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا
من النار (1) فقال الشيخ فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا الا بهما فقال هو الامر
من الله والحكم ثم تلا قوله سبحانه وقضى ربك الا تعبدوا الا إياه
فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول
أنت الامام الذي نرجو بطاعته * يوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * جزاك ربك عنا فيه احسانا
ذكر ذلك أبو الحسين في بيان أن القضاء والقدر قد يكون بمعنى الحكم والامر،
وأنه من الألفاظ المشتركة.

(1) سورة 27.
(2) سورة الإسراء: 23.
228

(77)
الأصل:
خذ الحكمة أنى كانت فإن الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في
صدره حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن.
قال الرضى رحمه الله تعالى - وقد قال على (عليه السلام) في مثل ذلك: الحكمة
ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق.
* * *
الشرح:
خطب الحجاج فقال إن الله أمرنا بطلب الآخرة وكفانا مئونة الدنيا فليتنا
كفينا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا!
فسمعها الحسن فقال: هذه ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق.
وكان سفيان الثوري يعجبه كلام أبى حمزه الخارجي ويقول: ضالة المؤمن على لسان
المنافق تقوى الله أكرم سريره وأفضل ذخيرة منها ثقة الواثق وعليها مقه الوامق.
ليعمل كل امرئ في مكان نفسه وهو رخي اللبب طويل السبب ليعرف ممد
يده وموضع قدمه وليحذر الزلل والعلل المانعة من العمل. رحم الله عبدا آثر
التقوى واستشعر شعارها واجتنى ثمارها باع دار البقاء بدار الآباد الدنيا كروضة
يونق مرعاها وتعجب من رآها تمج عروقها الثرى وتنطف فروعها بالندى حتى
إذا بلغ العشب إناه وانتهى الزبرج منتهاه ضعف العمود وذوي العود وتولى
من الزمان ما لا يعود، فحتت الرياح الورق، وفرقت ما كان اتسق، فأصبحت هشيما،
وأمست رميما.
229

(78)
الأصل:
قيمه كل امرئ ما يحسنه.
قال الرضى رحمه الله تعالى: وهذه الكلمة التي لا تصاب لها قيمه، ولا توزن
بها حكمه، ولا تقرن إليها كلمه.
* * *
الشرح:
قد سلف لنا في فضل العلم أقوال شافية، ونحن نذكر هاهنا نكتا أخرى.
يقال: إن من كلام أردشير بن بابك في رسالته إلى أبناء الملوك: بحسبكم دلالة على
فضل العلم أنه ممدوح بكل لسان، يتزين به غير أهله، ويدعيه من لا يلصق به. قال:
وبحسبكم دلالة على عيب الجهل أن كل أحد ينتفى منه، ويغضب أن يسمى به.
وقيل لأنوشروان: ما بالكم لا تستفيدون من العلم شيئا إلا زادكم ذلك عليه حرصا؟
قال لأنا لا نستفيد منه شيئا إلا ازددنا به رفعه وعزا. وقيل له ما بالكم لا تأنفون
من التعلم من كل أحد؟ قال: لعلمنا بأن العلم نافع من حيث أخذ.
وقيل لبزرجمهر: بم أدركت ما أدركت من العلم؟ قال ببكور كبكور الغراب
وحرص كحرص الخنزير وصبر كصبر الحمار.
وقيل له العلم أفضل أم المال؟ فقال العلم، قيل: فما بالنا نرى أهل العلم على
230

أبواب أهل المال أكثر مما نرى أصحاب الأموال على أبواب العلماء! قال: ذاك أيضا عائد
إلى العلم والجهل وإنما كان كما رأيتم لعلم العلماء بالحاجة إلى المال، وجهل أصحاب المال
بفضيلة العلم.
وقال الشاعر:
تعلم فليس المرء يخلق عالما * وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده * صغير إذا التفت عليه المحافل
231

(79)
الأصل:
أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلا لا يرجون
أحد منكم إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحين أحد منكم إذا سئل عما
لا يعلم أن يقول: لا أعلم ولا يستحين أحد إذا لم يعلم الشئ أن يتعلمه، وعليكم
بالصبر، فإن الصبر من الايمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه،
ولا خير في إيمان لا صبر معه.
* * *
الشرح:
قد تقدم الكلام في جميع الحكم المنطوي عليها هذا الفصل، وقال أبو العتاهية:
والله لا أرجو سواك * ولا أخاف سوى ذنوبي
فاغفر ذنوبي يا رحيم * فأنت ستار العيوب
وكان يقال: من استحيا من قول: " لا أدرى " كان كمن يستحيى من كشف ركبته،
ثم يكشف سوءته وذلك لان من امتنع من قول " لا أدرى " وأجاب بالجهل والخطأ
فقد واقع ما يجب في الحقيقة أن يستحيا منه وكف عما أو ليس
بواجب أن يستحيا منه،
فكان شبيها بما ذكرناه في الركبة والعورة.
وكان يقال يحسن بالانسان التعلم ما دام يقبح منه الجهل، وكما يقبح منه الجهل ما
دام حيا كذلك يحسن به التعلم ما دام حيا.
وأما الصبر فقد سبق فيه كلام مقنع، وسيأتي فيما بعد جمله من ذلك.
232

(80)
الأصل
وقال (عليه السلام) لرجل أفرط في الثناء عليه وكان له متهما: أنا دون ما تقول،
وفوق ما في نفسك
* * *
الشرح
قد سبق منا قول مقنع في كراهية مدح الانسان في وجهه.
وكان عمر جالسا وعنده الدرة، إذ أقبل الجارود العبدي، فقال رجل: هذا الجارود
سيد ربيعه، فسمعها عمر ومن حوله، وسمعها الجارود، فلما دنا منه خفقه بالدرة
فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين! قال: ما لي ولك! أما لقد سمعتها، قال: وما سمعتها فمه!
قال: ليخالطن قلبك منها شئ، وأنا أحب أن أطأطئ منك.
وقالت الحكماء: إنه يحدث للممدوح في وجهه أمران مهلكان: أحدهما الاعجاب
بنفسه، والثاني إذا أثنى عليه بالدين أو العلم فتر وقل اجتهاده، ورضى عن نفسه،
ونقص تشميره وجده في طلب العلم والدين فإنه إنما يتشمر من رأى نفسه مقصرا
فأما من أطلقت الألسن بالثناء عليه فإنه يظن أنه قد وصل وأدرك، فيقل اجتهاده،
ويتكل على ما قد حصل له عند الناس، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لمن مدح
233

إنسانا كاد يسمعه: " ويحك! قطعت عنق صاحبك، لو سمعها لما أفلح ".
فأما قوله (عليه السلام) له: " وفوق ما في نفسك "، فإنه إنما أراد أن ينبهه على أنه
قد عرف أنه كان يقع فيه، وينحرف عنه، وإنما أراد تعريفه ذلك لما رآه من المصلحة
إما لظنه أنه يقلع عما كان يذمه به، أو ليعلمه بتعريفه أنه قد عرف ذلك، أو ليخوفه
ويزجره، أو لغير ذلك.
234

(81)
الأصل:
بقيه السيف أنمى عددا، وأكثر ولدا.
* * *
الشرح:
قال شيخنا أبو عثمان: ليته لما ذكر الحكم ذكر العلة!
ثم قال: قد وجدنا مصداق قوله في أولاده وأولاد الزبير وبنى المهلب وأمثالهم
ممن أسرع القتل فيهم.
وأتى زياد بامرأة من الخوارج فقال لها: أما والله لأحصدنكم حصدا، ولأفنينكم
عدا، فقالت: كلا إن القتل ليزرعنا، فلما هم بقتلها تسترت بثوبها، فقال: اهتكوا
سترها لحاها الله! (1) فقالت: إن الله لا يهتك ستر أوليائه، ولكن التي هتك (2) سترها
على يد ابنها سميه، فقال: عجلوا قتلها أبعدها الله فقتلت.

(1) لحاه الله، أي قبحة ولعنة.
(2) ا: " هتكت ".
235

(82)
الأصل:
من ترك قول: " لا أدرى " أصيبت مقاتله.
* * *
الشرح:
جاءت امرأة إلى بزرجمهر، فسألته عن مسألة فقال: لا أدرى، فقالت: أيعطيك
الملك كل سنه كذا كذا وتقول لا أدرى، فقال: إنما يعطيني الملك على ما أدرى،
ولو أعطاني على ما لا أدرى لما كفاني بيت ماله.
وكان يقول: قول " لا أعلم " نصف العلم.
وقال بعض الفضلاء: إذا قال لنا إنسان: " لا أدرى " علمناه حتى يدرى، وإن قال:
أدرى، امتحناه حتى لا يدرى.
236

(83)
الأصل:
رأى الشيخ أحب إلى من جلد الغلام.
ويروى: " من مشهد الغلام ".
* * *
الشرح:
إنما قال كذلك لان الشيخ كثير التجربة، فيبلغ من العدو برأيه ما لا يبلغ بشجاعته
الغلام الحدث غير المجرب، لأنه قد يغرر بنفسه فيهلك ويهلك أصحابه، ولا ريب أن الرأي
مقدم على الشجاعة، ولذلك قال أبو الطيب:
الرأي قبل شجاعة الشجعان * هو أول وهي المحل الثاني (1)
فإذا هما اجتمعا لنفس مره * بلغت من العلياء كل مكان و (2)
ولربما طعن الفتى أقرانه * بالرأي قبل تطاعن الاقران
لولا العقول لكان أدنى ضيغم * أدنى إلى شرف من الانسان
ولما تفاضلت الرجال ودبرت * أيدي الكماة عوالي المران
ومن وصايا أبرويز إلى ابنه شيرويه: لا تستعمل على جيشك غلاما غمرا ترفا،
قد كثر إعجابه بنفسه، وقلت تجاربه في غيره، ولا هرما كبيرا مدبرا قد
أخذ الدهر من عقله، كما أخذت السن من جسمه، وعليك بالكهول
ذوي الرأي!

(1) ديوانه 4: 174، 175 (2) النفس المرة: القوية الشديدة. من قوله تعالى " ذو مرة فاستوى ".
237

وقال لقيط بن يعمر الأيادي في هذا المعنى
وقلدوا أمركم لله دركم * رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا (1)
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده * ولا إذا عض مكروه به خشعا (2)
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره * يكون متبعا طورا ومتبعا (3)
حتى استمر على شزر مريرته * مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا (4)

(1) مختارات ابن الشجري 1: 5. مضطلعا، من الضلاعة، وهي القوة.
(2) خشع، أي خضع للامر.
(3) ابن الشجري: " ما انفك يحلب ":
(4) الشزر: فتل الحبل مما يلي اليسار والقحم: الشيخ الكبير السن الهم. والضرع: الرجل الضعيف.
238

(84)
الأصل:
عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار.
* * *
الشرح:
قالوا: الاستغفار حوارس الذنوب.
وقال بعضهم: العبد بين ذنب ونعمه لا يصلحهما إلا الشكر والاستغفار.
وقال الربيع بن خثعم (1): " لا يقولن أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه " فيكون ذنبا
وكذبا إن لم يفعل، ولكن ليقل: اللهم اغفر لي وتب على.
وقال الفضيل: الاستغفار بلا إقلاع (2) توبة الكذابين.
وقيل: من قدم الاستغفار على الندم، كان مستهزئا بالله وهو لا يعلم.

(1) كذا في ا، وفي ب: " خثم ".
(2) الاقلاع: ترك الذنوب.
239

(85)
الأصل:
وحكى عنه أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) أنه كان (عليه السلام) قال:
كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدهما، فدونكم الاخر
فتمسكوا به، أما الأمان الذي رفع فهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأما الأمان
الباقي فالاستغفار قال الله، تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله
معذبهم وهم يستغفرون) (1).
قال الرضى رحمه الله تعالى: وهذا من محاسن الاستخراج، ولطائف
الاستنباط
* * *
الشرح:
قال قوم من المفسرين و: (هم يستغفرون)، في موضع الحال: والمراد نفى الاستغفار
عنهم أي لو كانوا ممن يستغفرون لما عذبهم، وهذا مثل قوله تعالى: (وما كان ربك
ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (2)، فكأنه قال لكنهم لا يستغفرون فلا
انتفاء للعذاب عنهم.
وقال قوم: معناه، وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفروهم المسلمون بين أظهرهم ممن
تخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من المستضعفين (3).

(1) سورة الأنفال 33.
(2) سورة هود 117. (3 - 3) ساقط من ا.
240

ثم قال: (وما لهم ألا يعذبهم الله) (1)، أي ولأي سبب لا يعذبهم الله مع وجود
ما يقتضى العذاب، وهو صدهم المسلمين والرسول عن البيت في عام الحديبية! وهذا يدل
على أن ترتيب القرآن أو ليس
على ترتيب الوقائع والحوادث، لان سوره الأنفال نزلت
عقيب وقعه بدر في السنة الثانية من الهجرة، وصد الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن البيت
كان في السنة السادسة، فكيف يجعل آية نزلت في السنة السادسة في سوره نزلت في السنة الثانية!
وفي القرآن كثير من ذلك، وإنما رتبه قوم من الصحابة في أيام عثمان

(1) سورة الأنفال 34
241

(86)
الأصل:
من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس
ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه
ومن كان له من نفسه واعظ، كان عليه من الله حافظ.
* * *
الشرح:
مثل الكلمة الأولى قولهم: رضا المخلوقين عنوان رضا الخالق، وجاء في الحديث
المرفوع: " ما من وال رضي الله عنه إلا أرضى عنه رعيته ".
ومثل الكلمة الثانية دعاء بعضهم في قوله:
أنا شاكر أنا مادح أنا حامد * * أنا خائف أنا جائع أنا عار
هي ستة وأنا الضمين بنصفها * فكن الضمين بنصفها يا باري.
ومثل الكلمة الثالثة قوله تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم
محسنون) (1)

(1) سورة النحل 128.
242

(87)
الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمه الله، ولم يؤيسهم من روح الله،
ولم يؤمنهم من مكر الله.
* * *
الشرح:
قل موضع من الكتاب العزيز يذكر فيه الوعيد إلا ويمزجه بالوعد مثل أن يقول:
" إن ربك سريع العقاب " ثم يقول: " وإنه لغفور رحيم "، والحكمة تقتضي هذا ليكون
المكلف مترددا بين الرغبة والرهبة.
ويقولون في الأمثال المرموزة: لقي موسى وهو ضاحك مستبشر عيسى وهو كالح
قاطب، فقال عيسى: مالك كأنك آمن من عذاب الله؟ فقال موسى (عليه السلام): مالك
كأنك آيس من روح الله! فأوحى الله إليهما: موسى أحبكما إلى شعارا فإني عند حسن،
ظن عبدي بي.
وأعلم أن أصحابنا وإن قالوا بالوعيد فإنهم لا يؤيسون أحدا ولا يقنطونه من
رحمة الله، وإنما يحثونه على التوبة، ويخوفونه إن مات من غير توبة، وبحق
ما قال شيخنا أبو الهذيل: لولا مذهب الارجاء لما عصى الله في الأرض،
وهذا لا ريب فيه، فإن أكثر العصاة إنما يعولون على الرحمة، وقد اشتهر
243

واستفاض بين الناس أن الله تعالى يرحم المذنبين، فإنه وإن كان هناك عقاب
فأوقاتا معدودة، ثم يخرجون إلى الجنة، والنفوس تحب الشهوات العاجلة،
فتهافت الناس على المعاصي وبلوغ الشهوات والمآرب، معولين على ذلك،
فلو لا قول المرجئة وظهوره بين الناس لكان العصيان إما معدوما، أو قليلا
جدا.
244

(88)
الأصل:
أوضع العلم ما وقف على اللسان، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان.
* * *
الشرح:
هذا حق، لان العالم إذا لم يظهر من علمه إلا لقلقة لسانه من غير أن تظهر منه
العبادات، كان عالما ناقصا، فأما إذا كان يفيد الناس بألفاظه ومنطقه، ثم يشاهده
الناس على قدم عظيمه من العبادة، فإن النفع يكون به عاما تاما، وذلك لان الناس
يقولون: لو لم يكن يعتقد حقيقة ما يقوله لما أدأب نفسه هذا الدأب.
وأما الأول فيقولون فيه: كل ما يقوله نفاق وباطل، لأنه لو كان يعتقد حقيقة (1)
ما يقول لاخذ به، ولظهر ذلك في حركاته، فيقتدون بفعله لا بقوله، فلا يشتغل (2)
أحد منهم بالعبادة ولا يهتم بها.

(1) د: " أحقية ".
(2) ا: " يشتغلون ".
245

(89)
الأصل:
إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة.
* * *
الشرح:
لو قال: إنها تمل كما تمل الأبدان، فأحمضوا (1) كما نقل عن غيره لحمل ذلك على أنه
أراد نقلها إلى الفكاهات والاخبار والاشعار، ولكنه لم يقل ذلك، ولكن قال:
" فابتغوا لها طرائف الحكمة "، فوجب أن يحمل كلامه (عليه السلام) على أنه أراد أن
القلوب تمل من الأنظار العقلية، في البراهين الكلامية على التوحيد والعدل، فابتغوا لها
عند ملالها طرائف الحكمة، أي الأمثال الحكمية الراجعة إلى الحكمة الخلقية، كما
نحن ذاكروه في كثير من فصول هذا الباب، مثل مدح الصبر، والشجاعة، والزهد
والعفة، وذم الغضب والشهوة، والهوى، وما يرجع إلى سياسة الانسان نفسه، وولده،
ومنزله، وصديقه، وسلطانه ونحو ذلك فإن هذا علم آخر وفن آخر، لا تحتاج
القلوب فيه إلى فكر واستنباط، فتتعب وتكل بترادف النظر والتأمل عليها، وفيه أيضا
لذه عظيمه للنفس.
وقد جاء في إجمام النفس كثير.
قال بعضهم روحوا القلوب برواتع (2) الذكر.

(1) يقال: أحمض القوم إحماضا، إذا أفاضوا فيما يؤنسهم من الحديث والكلام، كما يقال: فكه ومتفكه.
(2) د: " تعي ".
246

وعن سلمان الفارسي: أنا أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
وقال عمر بن عبد العزيز: إن نفسي راحلتي، إن كلفتها فوق طاقتها انقطعت بي.
وقال بعضهم: روحوا الأذهان، كما تروحوا الأبدان.
وقال أردشير بن بابك: إن للاذان مجة، وللقلوب ملة ففرقوا بين الحكمتين (1)
بلهو يكن ذلك استجماما.

(1) د: الحكمين ".
247

(90)
الأصل:
لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، لأنه أو ليس
أحد إلا وهو
مشتمل على فتنة ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن، فإن الله سبحانه
يقول: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة). ومعنى ذلك أنه سبحانه يختبر
عباده بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإن كان
سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الافعال التي بها يستحق الثواب
والعقاب، لان بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث، وبعضهم يحب تثمير المال،
ويكره انثلام الحال.
قال الرضى رحمه الله تعالى: وهذا من غريب ما سمع منه (عليه السلام)
في التفسير
الشرح:
الفتنة لفظ مشترك، فتارة تطلق على الجائحة والبلية تصيب الانسان، تقول: قد افتتن
زيد وفتن فهو مفتون إذا أصابته مصيبة فذهب ماله أو عقله أو نحو ذلك، قال تعالى:
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) يعنى الذين عذبوهم بمكة ليرتدوا
عن الاسلام، وتارة تطلق على الاختبار والامتحان، يقال: فتنت الذهب إذا أدخلته
النار لتنظر ما جودته، ودينار مفتون، وتارة تطلق على الاحراق، قال تعالى:

(1) سورة البروج 10.
248

(يوم هم على النار يفتنون) (1) وورق مفتون، أي فضه محرقة، ويقال للحرة:
فتين كأن حجارتها محرقة، وتارة تطلق على الضلال، يقال رجل فاتن ومفتن،
أي مضل عن الحق جاء ثلاثيا ورباعيا، قال تعالى: (ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من
هو صال الجحيم) أي بمضلين، وقرأ " قوم مفتنين "، فمن قال: إني أعوذ بك
من الفتنة، وأراد الجائحة، أو الاحراق أو الضلال، فلا بأس بذلك وإن أراد الاختبار
والامتحان فغير جائز، لان الله تعالى أعلم بالمصلحة، وله أن يختبر عباده لا ليعلم
حالهم، بل ليعلم بعض عباده حال بعض، وعندي أن أصل اللفظة هو الاختبار والامتحان،
وأن الاعتبارات الأخرى راجعه إليها، وإذا تأملت علمت صحه ما ذكرناه.

(1) سورة الذاريات 13.
(2) سورة الصافات 162، 163.
249

(91)
الأصل:
وسئل عن الخير ما هو؟
فقال: أو ليس
الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك،
وأن يعظم حلمك، وأن تباهى الناس بعباده ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن
أسأت استغفرت الله. ولا خير في الدنيا إلا لرجلين: رجل أذنب ذنوبا فهو
يتداركها بالتوبة، ورجل يسارع في الخيرات، ولا يقل عمل مع التقوى، وكيف
يقل ما يتقبل!
* * *
الشرح:
قد قال الشاعر لهذا المعنى:
ليس السعيد الذي دنياه تسعده * بل السعيد الذي ينجو من النار
قوله (عليه السلام): " ولا يقل عمل مع التقوى "، أي مع اجتناب الكبائر، لأنه لو
كان موقعا لكبيرة لما تقبل منه عمل أصلا على قول أصحابنا، فوجب أن يكون المراد بالتقوى
اجتناب الكبائر، فأما مذهب المرجئة فإنهم يحملون التقوى هاهنا على الاسلام، لان
المسلم عندهم تتقبل أعماله، وإن كان مواقعا للكبائر.
فإن قلت: فهل يجوز حمل لفظه " التقوى " على حقيقتها، وهي الخوف؟
قلت: لا. أما على مذهبنا فلان من يخاف الله ويواقع الكبائر لا تتقبل أعماله،
250

وأما مذهب المرجئة فلان من يخاف الله من مخالفي ملة الاسلام لا تتقبل أعماله،
فثبت أنه لا يجوز حمل التقوى هاهنا على الخوف.
فإن قلت: من هو مخالف لملة الاسلام لا يخاف الله لأنه لا يعرفه.
قلت: لا نسلم، بل يجوز أن يعرف الله بذاته وصفاته، كما نعرفه نحن، ويجحد النبوة
لشبهة وقعت له فيها، فلا يلزم من جحد النبوة عدم معرفة الله تعالى.
251

(92)
الأصل:
إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به، ثم تلا (عليه السلام): (إن أولى
الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا....) الآية.
ثم قال (عليه السلام) إن ولى محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد
من عصى الله وإن قربت قرابته.
* * *
الشرح:
هكذا الرواية أعلمهم "، والصحيح " أعملهم "، لان استدلاله بالآية يقتضى ذلك،
وكذا قوله فيما بعد. " إن ولى محمد من أطاع الله... " إلى آخر الفصل، فلم يذكر العلم،
وإنما ذكر العمل. واللحمة بالضم: النسب والقرابة، وهذا مثل الحديث المرفوع: " ائتوني
بأعمالكم، ولا تأتوني بأنسابكم، إن أكرمكم عند الله أتقاكم "، وفى الحديث الصحيح:
" يا فاطمة بنت محمد، إني لا أغنى عنك من الله شيئا ".
وقال رجل لجعفر بن محمد (عليه السلام): أ رأيت قوله (صلى الله عليه وسلم): " إن فاطمة
أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار "، أليس هذا أمانا لكل فاطمي في الدنيا؟
فقال: إنك لأحمق، إنما أراد حسنا وحسينا، لأنهما من لحمه أهل البيت، فأما من عداهما
فمن قعد به عمله لم ينهض به نسبه.
252

(93)
الأصل:
وسمع (عليه السلام) رجلا من الحرورية يتهجد ويقرأ، فقال:
نوم على يقين، خير من صلاه على شك.
* * *
الشرح:
هذا نهى عن التعرض للعبادة مع الجهل بالمعبود، كما يصنع اليوم كثير من الناس،
ويظنون أنهم خير الناس، والعقلاء الألباء من الناس يضحكون منهم، ويستهزئون بهم،
والحرورية: الخوارج، وقد سبق القول فيهم. وفى نسبتهم إلى حروراء. (1)
يقول (عليه السلام): ترك التنفل بالعبادات مع سلامه العقيدة الأصلية، خير من
الاشتغال بالنوافل وأوراد الصلاة مع عدم العلم، وهو المعنى بقوله: " في شك "،
فإذا كان عدم التنفل خيرا من التنفل مع الشك فهو مع الجهل المحض - وهو الاعتقاد الفاسد -
أولى بأن يكون.

(1) حروراء: قرية بظاهر الكوفة، بها الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب، وبها كان أول تحكيمهم واجتماعهم حين خالفوا عليه ".
253

(94)
الأصل:
اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواه العلم كثير،
ورعاته قليل.
* * *
الشرح:
نهاهم (عليه السلام) عن أن يقتصروا إذا سمعوا منه أو من غيره أطرافا (1) من العلم
والحكمة، على أن يرووا ذلك رواية كما يفعله اليوم المحدثون، وكما يقرأ أكثر الناس
القرآن دراسة ولا يدرى من معانيه إلا اليسير.
وأمرهم أن يعقلوا ما يسمعونه عقل رعاية أي معرفة وفهم.
ثم قال لهم: " إن رواه العلم كثير، ورعاته قليل " أي من يراعيه ويتدبره،
وصدق (عليه السلام)!

(1) ا: " طرفا ".
254

(95)
الأصل:
وقال (عليه السلام) وقد سمع رجلا يقول (إنا لله وإنا إليه الراجعون)، فقال:
إن قولنا " إنا لله " إقرار على أنفسنا بالملك، وقولنا: " وإنا إليه راجعون "
إقرار على أنفسنا بالهلك
* * *
الشرح:
قوله إنا لله اعتراف بأنا مملوكون لله وعبيد له، لأن هذه اللام لام التمليك، كما تقول:
الدار لزيد، فأما قوله: (وإنا إليه راجعون) (1) فهو، إقرار واعتراف بالنشور
والقيامة، لان هذا هو معنى الرجوع إليه سبحانه، واقتنع أمير المؤمنين عن التصريح
بذلك فذكر الهلك، فقال: إنه إقرار على أنفسنا بالهلك، لان هلكنا مفض إلى
رجوعنا يوم القيامة إليه سبحانه، فعبر بمقدمة الشئ عن الشئ نفسه، كما يقال: الفقر
الموت، والحمى الموت، ونحو ذلك.
ويمكن أن يفسر ذلك على قول مثبتي النفس الناطقة بتفسير آخر فيقال: إن النفس
ما دامت في أسر تدابير البدن فهي بمعزل عن مبادئها، لأنها مشتغلة مستغرقة بغير ذلك،
فإذا مات البدن رجعت النفس إلى مبادئها، فقوله: (وإنا إليه راجعون) إقرار بما
لا يصح الرجوع بهذا التفسير إلا معه وهو الموت المعبر عنه بالهلك.

(1) سورة البقرة 156.
255

(96)
الأصل:
وقال (عليه السلام) ومدحه قوم في وجهه:
اللهم إنك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم. اللهم اجعلني خيرا
مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون!
* * *
الشرح:
قد تقدم القول في كراهية مدح الانسان في وجهه. وفي الحديث المرفوع: " إذا
مدحت أخاك في وجهه، فكأنما أمررت على حلقه موسى وميضة ".
وقال أيضا لرجل مدح رجلا في وجهة: " عقرت الرجل عقرك الله ".
وقال أيضا: لو مشى رجل إلى رجل بسيف مرهف كان خيرا له من أن يثنى عليه
في وجهه ".
ومن كلام عمر: المدح هو الذبح، قالوا لان المذبوح ينقطع عن الحركة والأعمال،
وكذلك الممدوح يفتر عن العمل.
ويقول: قد حصل في القلوب والنفوس ما استغنى به عن الحركة والجد.
ومن أمثال الفلاحين: إذا طار لك صيت بين الحصادة، فاكسر منجلك.
256

وقال مطرف بن الشخير: ما سمعت من ثناء أحد على، أو مدحه أحد لي، إلا وتصاغرت
إلى نفسي. وقال زياد بن أبي مسلم: أو ليس
أحد سمع ثناء أحد عليه إلا وتراءى له
شيطان، ولكن المؤمن يراجع.
فلما ذكر كلامهما لابن المبارك قال: صدقا، أما قول زياد فتلك قلوب العوام،
وأما قول مطرف فتلك قلوب الخواص.
257

(97)
الأصل:
وقال (عليه السلام):
لا يسيم قضاء الحوائج إلا بثلاث: باستصغارها لتعظم، وباستكتامها
لتظهر، وبتعجيلها لتهنؤ.
* * *
الشرح:
قد تقدم لنا قول مستقصى في هذا النحو: وفي الحوائج وقضائها واستنجاحها.
وقد جاء في الحديث المرفوع: " استعينوا على حاجاتكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود ".
وقال خالد بن صفوان: لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها إلى غير أهلها،
ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء.
وكان يقال: لكل شئ أس، وأس الحاجة تعجيل أروح من التأخير.
وقال رجل لمحمد بن الحنفية: جئتك في حويجة، قال: فاطلب لها رجيلا!
وقال شبيب بن شبة بن عقال: أمران لا يجتمعان إلا وجب النجح، وهما العاقل
لا يسأل إلا ما يجوز، والعاقل لا يرد سائله عما يمكن.
وكان يقال: من استعظم حاجة أخيه إليه بعد قضائها امتنانا بها فقد استصغر نفسه.
258

وقال أبو تمام في المطل (1):
وكان المطل في بدء وعود * دخانا للصنيعة وهي نار (2)
نسيب البخل مذ كانا وإلا * يكن نسب فبينهما جوار
لذلك قيل: بعض المنع أدنى * إلى جود، وبعض الجود عار

(1) ديوانه 2: 159 - بشرح التبريزي
(2) قال شارح ديوانه: " أي يتأذى بالمطل كما يتأذى بالدخان، فكما أن المحمود من النار أن تخلص من
الدخان، كذلك المحمود من العطاء خلوصه من المطل ".
259

(98)
الأصل:
يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل، ولا يظرف فيه إلا الفاجر،
ولا يضعف فيه إلا المنصف، يعدون الصدقة فيه غرما، وصله الرحم منا،
والعبادة استطالة على الناس، فعند ذلك يكون السلطان بمشورة الإماء، وإمارة
الصبيان، وتدبير الخصيان.
* * *
الشرح:
المحل: المكر والكيد، يقال محل به إذا سعى به إلى السلطان، فهو ماحل ومحول،
والمماحلة: المماكرة والمكايدة.
قوله: " ولا يظرف فيه إلا الفاجر "، لا يعد الناس الانسان ظريفا إلا إذا كان
خليعا ما جنا متظاهرا بالفسق.
وقوله: " ولا يضعف فيه إلا المنصف "، أي إذا رأوا إنسانا عنده ورع وإنصاف
في معاملته الناس عدوه ضعيفا، ونسبوه إلى الركة والرخاوة وليس الشهم عندهم
إلا الظالم. ثم قال: " يعدون الصدقة غرما "، أي خسارة (1)، ويمنون إذا وصلوا الرحم

(1) ا: " غرما وخسارة ".
260

وإذا كانوا ذوي عباده استطالوا بها على الناس وتبجحوا بها، وأعجبتهم أنفسهم،
واحتقروا غيرهم.
قال: فعند ذلك يكون السلطان والحكم بين الرعايا بمشورة الإماء... إلى آخر
الفصل، وهو من باب الاخبار عن الغيوب وهي إحدى آياته، والمعجزات المختص بها
دون الصحابة.
261

(99)
الأصل:
وقال (عليه السلام): وقد رئي عليه إزار خلق مرقوع، فقيل له في ذلك، فقال:
يخشع له القلب، وتذل به النفس ويقتدى به المؤمنون.
* * *
الشرح:
قد تقدم القول في هذا الباب، وذكرنا أن الحكماء والعارفين فيه على قسمين:
منهم من آثر لبس الأدنى على، ومنهم من عكش الحال، وكان عمر بن الخطاب
من أصحاب المذهب الأول، وكذلك أمير المؤمنين، وهو شعار عيسى بن مريم
(عليه السلام)، كان يلبس الصوف وغليظ الثياب، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يلبس النوعين جميعا، وأكثر لبسه كان الجيد من الثياب مثل أبراد اليمن، وما شاكل
ذلك، وكانت ملحفته مورسة (1) حتى إنها لتردع (2) على جلده كما جاء في الحديث.
ورئى محمد بن الحنفية (عليه السلام) واقفا بعرفات على برذون أصفر، وعليه مطرف خز
أصفر، وجاء فرقد السبخي (3) إلى الحسن وعلى الحسن مطرف خز، فجعل ينظر إليه
وعلى فرقد ثياب صوف، فقال الحسن: ما بالك تنظر إلى وعلى ثياب أهل الجنة،

(1) مورسة، أي مصبوغة بالورس، وهو نبت أصفر يكون باليمن، تصبغ به الثياب.
(2) في اللسان عن ابن عباس: " لم ينه عن شئ من الأردية عن المزعفرة التي تردع على الجلد "
قال: أي تنفض صبغها عليه، وثوب رديع، مصبوغ بالزعفران.
(3) ب: " السنجي "، والصواب ما أثبته، منسوب إلى السبخة، موضع بالبصرة، ذكره ياقوت،
وذكر بنسبة فرقد إليه.
262

وعليك ثياب أهل النار! إن أحدكم ليجعل الزهد في ثيابه والكبر في صدره، فلهو
أشد عجبا بصوفه من صاحب المطرف.
وقال ابن السماك لأصحاب الصوف: إن كان لباسكم هذا موافقا لسرائركم فلقد أحببتم
أن يطلع الناس عليها، ولئن كان مخالفا لها لقد هلكتم.
وكان عمر بن عبد العزيز على قاعدة عمر بن الخطاب في ملبوسه، وكان قبل الخلافة
يلبس الثياب المثمنة جدا، كان يقول: لقد خفت أن يعجز ما قسم الله لي من الرزق عما
أريده من الكسوة وما لبست ثوبا جديدا قط إلا وخيل لي حين يراه الناس أنه سمل
أو بال، فلما ولى الخلافة ترك ذلك كله.
وروى سعيد بن سويد، قال: صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة، ثم جلس وعليه
قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل: إن الله أعطاك يا أمير
المؤمنين، فلو لبست فنكس مليا ثم رفع رأسه فقال: إن أفضل القصد ما كان عند
الجدة، وأفضل العفو ما كان عند المقدرة.
وروى عاصم بن معدلة: كنت أرى عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة فأعجب من حسن
لونه وجوده ثيابه وبزته، ثم دخلت عليه بعد أن ولى، وإذا هو قد احترق واسود
ولصق جلده بعظمة، حتى أو ليس
بين الجلد والعظم لحم، وإذا عليه قلنسوة بيضاء قد اجتمع
قطنها ويعلم أنها قد غسلت، وعليه سحق (1) أنبجانية قد خرج سداها، وهو على
شاذ كونه (2)، قد لصقت بالأرض تحت الشاذ كونه عباءة قطوانية (3) من مشاقة الصوف،
وعنده رجل يتكلم، فرفع صوته، فقال له عمر: اخفض قليلا من صوتك، فإنما يكفي الرجل
من الكلام قدر ما يسمع صاحبه.
وروى عبيد بن يعقوب أن عمر بن عبد العزيز كان يلبس الفرو الغليظ من الثياب،
وكان سراجه على ثلاث قصبات فوقهن طين.

(1) جمع سحق، وهو الثوب البالي.
(2) الشاذكونة: ثياب غلاظ تعمل باليمن.
(3) قطوانية: منسوبة إلى قطوان، موضع بالكوفة.
263

(100)
الأصل:
إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا
وتولاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزله المشرق والمغرب وماش بينهما،
كلما قرب من واحد بعد من الاخر، وهما بعد ضرتان.
* * *
الشرح:
هذا الفصل بين في نفسه لا يحتاج إلى شرح، وذلك لان عمل كل واحد من
الدارين مضاد لعمل الأخرى، فعمل هذه: الاكتساب، والاضطراب (1) في الرزق،
والاهتمام بأمر المعاش، والولد والزوجة، وما ناسب ذلك. وعمل هذه: قطع العلائق،
ورفض الشهوات، والانتصاب للعبادة وصرف الوجه عن كل ما يصد عن ذكر
الله تعالى، ومعلوم أن هذين العملين متضادان، فلا جرم كانت الدنيا والآخرة ضرتين
لا يجتمعان!

(1) ا: " والضرب في سبيل الرزق ".
264

(101)
الأصل:
وعن نوف البكائي - وقيل البكالي باللام، وهو الأصح - قال:
رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات ليلة وقد خرج من فراشه فنظر إلى
النجوم، فقال: يا نوف، أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق يا أمير المؤمنين،
فقال: يا نوف، طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة! أولئك قوم
اتخذوا الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن شعارا والدعاء
دثارا، ثم قرضوا الدنيا قرضا على منهاج المسيح. يا نوف، إن داود (عليه السلام)
قام في مثل هذه الساعة من الليل، فقال: إنها لساعة لا يدعو فيها عبد إلا
استجيب له، إلا أن يكون عشارا، أو عريفا، أو شرطيا، أو صاحب عرطبة
- وهي الطنبور - أو صاحب كوبة، وهي الطبل.
وقد قيل أيضا: إن العرطبة الطبل والكوبة الطنبور.
* * *
الشرح:
قال صاحب الصحاح: نوف البكالي كان صاحب على (عليه السلام).
وقال ثعلب: هو منسوب إلى قبيله تدعى بكالة، ولم يذكر من أي العرب هي، و
الظاهر أنها من اليمن، وأما بكيل فحي من همدان، وإليهم أشار الكميت بقوله:
* فقد شركت فيه بكيل وأرحب * (1)

(1) صدره: * يقولون لم يورث ولولا تراثه *
265

فأما البكالي في نسب نوف فلا أعرفه.
قوله: أم رامق، أي أم مستيقظ ترمق السماء والنجوم ببصرك.
قوله: قرضوا الدنيا، أي تركوها وخلفوها وراء ظهورهم، قال تعالى: (وإذا
غربت تقرضهم ذات الشمال) (1) أي تتركهم وتخلفهم شمالا، ويقول الرجل لصاحبه:
هل مررت بمكان كذا، يقول: نعم قرضته ليلا ذات اليمين، وأنشد لذي الرمة
إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف * شمالا وعن أيمانهن الفوارس (2)
قالوا: مشرف والفوارس موضعان، يقول: نظرت إلى ظعن يجزن بين هذين
الموضعين

(1) سورة الكهف 17.
(2) الصحاح (قرض).
266

(102)
الأصل:
إن الله تعالى افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحد لكم حدودا
فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء
ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها.
* * *
الشرح:
قال الله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) (1).
وجاء في الأثر: أبهموا ما أبهم الله.
وقال بعض الصالحين لبعض الفقهاء: لم تفرض مسائل لم تقع وأتعبت فيها فكرك!
حسبك بالمتداول بين الناس.
قالوا هذا مثل قولهم في باب المسح على الخفين: فإن مسح على خف من زجاج،
ونحو ذلك من النوادر الغريبة.
وقال شريك في أبي حنيفة: أجهل الناس بما كان، وأعلمهم بما لم يكن.
وقال عمر: لا تتنازعوا فيما لم يكن فتختلفوا، فإن الامر إذا كان أعان الله عليه،
وانتهاك الحرمة: تناولها بما لا يحل، إما بارتكاب ما نهى عنه، أو بالاخلال
بما أمر به

(1) سورة المائدة 101.
267

(103)
الأصل:
لا يترك الناس شيئا من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم
ما هو أضر منه.
* * *
الشرح:
مثال ذلك إنسان يضيع وقت صلاه الفريضة عليه، وهو مشتغل بمحاسبة وكيله
ومخافته على ماله، خوفا أن يكون خانه في شئ منه، فهو يحرص على مناقشته عليه،
فتفوته الصلاة.
قال (عليه السلام) من فعل مثل هذا فتح الله عليه في أمر دنياه وماله ما هو
أضر عليه مما رام أن يستدركه بإهماله الفريضة.
268

(104)
الأصل:
رب عالم قد قتله جهله، وعلمه معه لم ينفعه.
* * *
الشرح:
قد وقع مثل هذا كثيرا، كما جرى لعبد الله بن المقفع، وفضله مشهور، وحكمته أشهر
من أن تذكر، ولو لم يكن له إلا كتاب،، اليتيمة،، لكفى.
[محنة المقفع]
واجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد، وسمع كل منهما كلام الاخر، فسئل الخليل عنه
فقال: وجدت علمه أكثر من عقله، وهكذا كان، فإنه كان مع حكمته متهورا، لا جرم
تهوره قتله! كتب كتاب أمان لعبد الله بن علي عم المنصور ويوجد فيه خطه، فكان
من جملته: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله، أو أبطن غير ما أظهر أو تأول في شئ
من شروط هذا الأمان فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده وإماؤه أحرار، والمسلمون
في حل من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور لما وقف عليه، وسأل: من الذي كتب له
الأمان؟ فقيل له: عبد الله بن المقفع كاتب عميك عيسى وسليمان، ابني على بالبصرة،
فكتب المنصور إلى عامله بالبصرة سفيان بن معاوية يأمره بقتله.
وقيل: بل قال: أما أحد يكفيني ابن المقفع! فكتب أبو الخصيب بها إلى
269

سفيان بن معاوية المهلبي أمير البصرة يومئذ - وكان سفيان واجدا على ابن المقفع لأنه كان
يعبث به ويضحك منه دائما، فغضب سفيان يوما من كلامه، وافترى عليه، فرد ابن
المقفع عليه ردا فاحشا، وقال له: يا بن المغتلمة! وكان يمتنع ويعتصم بعيسى وسليمان ابني
علي بن عبد الله بن العباس، فحقدها سفيان عليه - فلما كوتب في أمره بما كوتب اعتزم
قتله، فاستأذن عليه جماعة من أهل البصرة منهم ابن المقفع، فأدخل ابن المقفع قبلهم،
وعدل به إلى حجرة في دهليزه، وجلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان، فصادف
ابن المقفع في تلك الحجرة سفيان بن معاوية، وعنده غلمانه وتنور نار يسجر، فقال
له سفيان: أتذكر يوم قلت لي كذا! أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد، ثم
قطع أعضاءه عضوا عضوا، وألقاها في النار وهو ينظر إليها حتى أتى على جميع جسده، ثم
أطبق التنور عليه، وخرج إلى الناس فكلمهم، فلما خرجوا من عنده تخلف غلام ابن المقفع
ينتظره فلم يخرج فمضى وأخبر عيسى بن علي وأخاه سليمان بحاله، فخاصما سفيان بن معاوية
في أمره، فجحد دخوله إليه، فأشخصاه إلى المنصور، وقامت البينة العادلة أن ابن المقفع
دخل دار سفيان حيا سليما ولم يخرج منها. فقال المنصور: أنا أنظر في هذا الامر إن شاء الله
غدا، فجاء سفيان ليلا إلى المنصور فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله في صنيعتك ومتبع
أمرك، قال: لا ترع، وأحضرهم في غد، وقامت الشهادة، وطلب سليمان وعيسى
القصاص، فقال المنصور: أرأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفع، ثم خرج ابن المقفع عليكم
من هذا الباب - وأومأ إلى باب خلفه - من ينصب لي نفسه حتى أقتله بسفيان؟ فسكتوا،
واندفع الامر، وأضرب عيسى وسليمان عن ذكر ابن المقفع بعدها، وذهب دمه هدرا.
قيل للأصمعي: أيما كان أعظم ذكاء وفطنة الخليل أم ابن المقفع؟ فقال: كان ابن
المقفع أفصح وأحكم، والخليل آدب وأعقل، ثم قال: شتان ما بين فطنة أفضت بصاحبها
إلى القتل، وفطنه أفضت بصاحبها إلى النسك والزهد في الدنيا! وكان الخليل قد نسك
قبل أن يموت.
270

(105)
الأصل:
لقد علق بنياط هذا الانسان بضعة هي أعجب ما فيه وهو القلب، وذلك أن له
مواد من الحكمة وأضدادا من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن
هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض
له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ، وإن غاله الخوف
شغله الحذر، وإن اتسع له الامر استلبته الغرة، وإن أصابته مصيبة فضحه
الجزع، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع
قعدت به الضعة وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر
وكل إفراط له مفسد.
* * *
الشرح:
روى: " قعد به الضعف ". والنياط عرق علق به القلب من الوتين، فإذا قطع مات
صاحبه، ويقال له النيط أيضا. والبضعة بفتح الباء: القطعة من اللحم، والمراد بها هاهنا
القلب، وقال يعتور القلب حالات مختلفات متضادات، فبعضها من الحكمة، وبعضها
- وهو المضاد لها - مناف للحكمة ولم يذكرها (عليه السلام)، وليست الأمور التي عددها
شرحا لما قدمه من هذا الكلام المجمل، وإن ظن قوم أنه أراد ذلك، ألا ترى أن الأمور مثال الحكمة وخلافها!
271

فإن قلت: فما مثال الحكمة وخلافها، وإن لم يذكر (عليه والسلام) مثاله؟
قلت كالشجاعة في القلب وضدها الجبن وكالجود وضده البخل، وكالعفة وضدها
الفجور، ونحو ذلك.
فأما الأمور التي عددها (عليه السلام) فكلام مستأنف، إنما هو بيان أن كل شئ مما
يتعلق بالقلب يلزمه لازم آخر نحو الرجاء، فإن الانسان إذا اشتد رجاؤه أذله الطمع،
والطمع يتبع الرجاء، والفرق بين الطمع والرجاء أن الرجاء توقع منفعة ممن سبيله أن
تصدر تلك المنفعة عنه، والطمع توقع منفعة ممن يستبعد وقوع تلك المنفعة منه، ثم قال:
وإن هاج به الطمع قتله الحرص، وذلك لان الحرص يتبع الطمع، إذا لم يعلم الطامع أنه
طامع، وإنما يظن أنه راج.
ثم قال: وإن ملكه اليأس، قتله الأسف، أكثر الناس إذا يئسوا أسفوا.
ثم عدد الأخلاق وغيرها من الأمور الواردة في الفصل إلى آخره، ثم ختمه بأن قال:
" فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد "، وقد سبق كلامنا في العدالة، وإنها الدرجة
الوسطى بين طرفين هما رذيلتان، والعدالة هي الفضيلة، كالجود الذي يكتنفه التبذير والامساك
والذكاء الذي يكتنفه الغباوة. والجربزة (1)، والشجاعة التي يكتنفها الهوج والجبن،
وشرحنا ما قاله الحكماء في ذلك شرحا كافيا، فلا معنى لإعادته.

(1) الجريرة: الخب والخديعة.
272

(106)
الأصل:
نحن النمرقة الوسطى التي يلحق بها التالي، وإليها يرجع الغالي.
* * *
الشرح:
النمرق والنمرقة بالضم فيهما: وساده صغيرة، ويجوز النمرقة بالكسر فيهما، ويقال
للطنفسة فوق الرحل نمرقة. والمعنى أن كل فضيلة فإنها مجنحة بطرفين معدودين من
الرذائل كما أوضحناه آنفا، والمراد أن آل محمد (عليه السلام) هم الامر المتوسط بين
الطرفين المذمومين فكل من جاوزهم فالواجب أن يرجع إليهم، وكل من قصر عنهم
فالواجب أن يلحق بهم.
فإن قلت: فلم استعار لفظ النمرقة لهذا المعنى؟
قلت: لما كانوا يقولون: قد ركب فلان من الامر منكرا وقد ارتكب الرأي
الفلاني، وكانت الطنفسة فوق الرحل مما يركب، استعار لفظ النمرقة لما يراه الانسان
مذهبا يرجع إليه ويكون كالراكب له، والجالس عليه، والمتورك فوقه.
ويجوز أيضا أن تكون لفظة " الوسطى " يراد بها الفضلى، يقال: هذه هي الطريقة
الوسطى، والخليقة الوسطى، أي الفضلى، ومنه قوله تعالى: (قال أوسطهم) (1) أي
أفضلهم، منه: (جعلناكم أمة وسطا) (2).

(1) سورة القلم 28.
(2) سورة البقرة 143.
273

(107)
الأصل:
لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتبع المطامع.
* * *
الشرح:
قد سبق من كلام عمر شئ يناسب هذا إن لم يكن هو بعينه، والمصانعة بذل
الرشوة. وفى المثل: من صانع بالمال، لم يحتشم من طلب الحاجة.
فإن قلت: كان ينبغي أن يقول " من لا يصانع " بالفتح.
قلت: المفاعلة تدل على كون الفعل بين الاثنين كالمضاربة والمقاتلة.
ويضارع: يتعرض لطلب الحاجة، ويجوز أن يكون من الضراعة وهي الخضوع
أي يخضع لزيد ليخضع زيد له، ويجوز أن يكون من المضارعة بمعنى المشابهة،
أي لا يتشبه بأئمة الحق أو ولاة الحق، وليس منهم.
وأما اتباع المطامع فمعروف.
274

(108)
الأصل:
وقال (عليه السلام)، وقد توفى سهل بن حنيف الأنصاري بالكوفة بعد مرجعه
من صفين معه، وكان من أحب الناس إليه:
لو أحبني جبل لتهافت.
قال الرضى رحمه الله تعالى: ومعنى ذلك أن المحنة تغلظ عليه، فتسرع المصائب إليه، ولا يفعل ذلك
إلا بالأتقياء الأبرار، المصطفين الأخيار. وهذا مثل قوله (عليه السلام): " من
أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر جلبابا " وقد يؤول ذلك على معنى آخر أو ليس
هذا
موضع ذكره.
* * *
الشرح:
قد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال له: " لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك
إلا منافق ".
وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " إن البلوى أسرع إلى المؤمن من
الماء إلى الحدور ".
وفى حديث آخر: " المؤمن ملقى، والكافي موقى ".
وفي حديث آخر: " خيركم عند الله أعظمكم مصائب في نفسه وماله وولده ".
وهاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة، وهي أنه (عليه السلام) لو أحبه جبل لتهافت.
ولعل هذا هو مراد الرضى بقوله: " وقد يؤول ذلك على معنى آخر أو ليس
هذا موضع ذكره
275

(109)
الأصل:
لا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا عقل كالتدبير،
ولا كرم كالتقوى، ولا قرين كحسن الخلق، ولا ميراث كالأدب، ولا قائد
كالتوفيق، ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا زرع كالثواب، ولا ورع كالوقوف
عند الشبهة ولا زهد كالزهد في الحرام، ولا علم كالتفكر، ولا عبادة
كأداء الفرائض.
ولا إيمان كالحياء والصبر، ولا حسب كالتواضع ولا شرف كالعلم ولا عز
كالحلم، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة.
* * *
الشرح:
قد تقدم الكلام في جميع هذه الحكم.
أما المال فإن العقل أعود منه، لان الأحمق ذا المال طالما ذهب ماله بحمقه، فعاد أحمق
فقيرا والعاقل الذي لا مال له طالما اكتسب المال بعقله، وبقى عقله عليه.
وأما العجب فيوجب المقت، ومن مقت أفرد عن المخالطة واستوحش منه، ولا ريب أن
التدبير هو أفضل العقل، لان العيش كله في التدبير.
وأما التقوى فقد قال الله: (أن أكرمكم عند الله أتقاكم) (1).

(1) سورة الحجرات 13.
276

وأما الأدب فقالت الحكماء: ما ورثت الاباء أبناءها كالأدب.
وأما التوفيق فمن لم يكن قائده ضل.
وأما العمل الصالح، فإنه أشرف التجارات، فقد قال الله تعالى: (هل أدلكم على
تجارة تنجيكم من عذاب أليم) (1).
ثم عد الأعمال الصالحة.
وأما الثواب فهو الربح الحقيقي، وأما ربح الدنيا فشبيه بحلم النائم.
وأما الوقوف عند الشبهات فهو حقيقة الورع، ولا ريب أن من يزهد في الحرام
أفضل ممن يزهد في المباحات، كالمآكل اللذيذة، والملابس الناعمة، وقد وصف الله تعالى
أرباب التفكر فقال: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) (2). وقال:
(أولم ينظروا) ولا ريب أن العبادة بأداء الفرائض فوق العبادة بالنوافل. والحياء
مخ الايمان، وكذلك الصبر والتواضع مصيدة الشرف، وذلك هو الحسب، وأشرف
الأشياء العلم، لأنه خاصة الانسان، وبه يقع الفضل بينه وبين سائر الحيوان.
والمشورة من الحزم فإن عقل غيرك تستضيفه إلى عقلك. ومن كلام بعض الحكماء:
إذا استشارك عدوك في الامر فامحضه النصيحة في الرأي، فإنه إن عمل برأيك وانتفع
ندم على إفراطه في مناواتك، وأفضت عداوته إلى المودة، وإن خالفك واستضر عرف
قدر أمانتك بنصحه، وبلغت مناك في مكروهه.

(1) سورة الصف 10.
(2) سورة آل عمران 191.
277

(110)
الأصل: إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه
حوبة، فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله، فأحسن رجل الظن برجل
فقد غرر.
* * *
الشرح:
يريد أنه يتعين على العاقل سوء الظن حيث الزمان فاسد، ولا ينبغي له سوء الظن حيث الزمان
صالح وقد جاء في الخبر المرفوع النهى عن أن يظن المسلم بالمسلم ظن السوء، وذلك محمول
على المسلم الذي لم تظهر منه حوبة، كما أشار إليه على (عليه السلام)، والحوبة: المعصية،،
والخبر هو ما رواه جابر قال: نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة فقال: " مرحبا
بك من بيت! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والله إن المؤمن أعظم حرمة منك عند الله
عز وجل، لان الله حرم منك واحدة، ومن المؤمن ثلاثة: دمه وماله وأن يظن به ظن السوء ".
ومن كلام عمر، ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجئ ما يغلبك منه، ولا تظنن
بكلمة خرجت من في أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا، ومن عرض نفسه
للتهم فلا يلومن من أساء به الظن.
شاعر:
أسأت إذ أحسنت ظني بكم * والحزم سوء الظن بالناس
278

قيل لعالم: من أسوأ الناس حالا؟ قال: من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به
أحد لسوء فعله.
شاعر
وقد كان حسن الظن بعض مذاهبي * فأدبني هذا الزمان وأهله
قيل لصوفي: ما صناعتك؟ قال: حسن الظن بالله، وسوء الظن بالناس.
وكان يقال: ما أحسن حسن الظن إلا أن فيه العجز، وما أقبح سوء الظن إلا أن فيه
الحزم.
ابن المعتز: تفقد مساقط لحظ المريب * فإن العيون وجوه القلوب
وطالع بوادره في الكلام * فإنك تجني ثمار العيوب
279

(111)
الأصل:
وقيل له (عليه السلام): كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ فقال:
كيف يكون حال من يفنى ببقائه، ويسقم بصحته، ويؤتى من مأمنه.
* * *
الشرح:
هذا مثل قول عبدة بن الطبيب:
أرى بصري قد رابني بعد صحة * وحسبك داء أن تصح وتسلما
ولن يلبث العصران يوم وليلة * إذا طلبا أن يدركا من تيمما
وقال آخر:
كانت قناتي لا تلين لغامز * فألانها الاصباح والامساء
ودعوت ربى بالسلامة جاهدا * ليصحني فإذا السلامة داء
280

(112)
الأصل:
كم من مستدرج بالاحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن
القول فيه! وما ابتلى الله أحدا بمثل الاملاء له.
* * *
الشرح:
قد تقدم القول في الاستدراج والاملاء.
فأما القول في فتنة الانسان بحسن القول فيه فقد ذكرنا أيضا طرفا صالحا يتعلق بها.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرجل مدح رجلا وقد مر بمجلس رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فلم يسمع، ولكن قال: " ويحك لكدت تضرب عنقه، لو سمعها
لما أفلح ".
281

(113)
الأصل:
هلك في رجلان: محب غال، ومبغض قال.
* * *
الشرح:
قد تقدم القول في مثل هذا، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " والله لولا أنى
أشفق أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم، لقلت فيك اليوم
مقالا لا تمر بأحد من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة ".
ومع كونه (صلى الله عليه وآله) لم يقل فيه ذلك المقال فقد غلت فيه غلاة كثيرة العدد
منتشرة في الدنيا، يعتقدون فيه ما يعتقد النصارى في ابن مريم، وأشنع من ذلك
الاعتقاد.
فأما المبغض القالي فقد رأينا من يبغضه، ولكن ما رأينا من يلعنه ويصرح بالبراءة
منه، ويقال إن في عمان وما والاها من صحار وما يجرى مجراها قوما يعتقدون فيه
ما كانت الخوارج تعتقده فيه، وأنا أبرأ (1) إلى الله منهما.

(1) ا: ونحن نبرأ ".
282

(114)
الأصل:
إضاعة الفرصة غصة.
* * *
الشرح:
في المثل: انتهزوا الفرص، فإنها تمر مر السحاب.
وقال الشاعر:
وإن أمكنت فرصة في العدو * فلا يك همك إلا بها
فإن تك لم تأت من بابها * أتاك عدوك من بابها
وإياك من ندم بعدها * وتأميل أخرى، وأنى بها...؟
283

(115)
الأصل:
مثل الدنيا كمثل الحية لين مسها، والسم الناقع في جوفها، يهوى إليها
الغر الجاهل، ويحذرها ذو اللب العاقل.
* * *
الشرح:
قد تقدم القول في الدنيا مرارا، وقد أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال:
إنما الدهر أرقم لين المس وفي نابه السقام العقام
284

(116)
الأصل:
وقال (عليه السلام): وقد سئل عن قريش فقال:
أما بنو مخزوم فريحانة قريش، تحب حديث رجالهم، والنكاح في نسائهم.
وأما بنو عبد شمس فأبعدها رأيا، وأمنعها لما وراء ظهورها، وأما نحن فأبذل لما
في أيدينا وأسمح عند الموت بنفوسنا، وهم أكثر وأمكر وأنكر، ونحن أفصح
وأنصح وأصبح.
* * *
الشرح:
[فصل في نسب بنى مخزوم وطرف من أخبارهم]
قد تقدم القول في مفاخرة هاشم وعبد شمس، فأما بنو مخزوم فإنهم بعد هذين البيتين
أفخر قريش وأعظمها شرفا.
قال شيخنا أبو عثمان: حظيت مخزوم بالاشعار، فانتشر لهم صيت عظيم بها، واتفق
لهم فيها ما لم يتفق لأحد، وذلك أنه يضرب بهم المثل في العز والمنعة والجود والشرف
وأوضعوا في كل غاية، فمن ذلك قول سيحان الجسري حليف بنى أمية في كلمة له،
* وحين يناغي الركب موت هشام *
فدل ذلك على أن ما تقوله مخزوم في التاريخ حق، وذلك أنهم قالوا: كانت قريش
وكنانة ومن والاهم من الناس يؤرخون بثلاثة أشياء: كانوا يقولون: كان ذلك زمن
285

مبنى الكعبة، وكان ذلك من مجئ الفيل، وكان ذلك عام مات هشام بن المغيرة د. كما كانت
العرب تؤرخ فتقول: كان ذلك زمن الفطحل، وكان ذلك
زمن الحيان، وكان ذلك زمن الحجارة، وكان ذلك عام الحجاف، والرواة تجعل ضرب المثل من أعظم المفاخر،
وأظهر الدلائل. والشعر - كما علمت - كما يرفع يضع، كما رفع من بنى أنف الناقة قول
الحطيئة:
قوم هم الانف والأذناب غيرهم و * من يسوى بأنف الناقة الذنبا؟
وكما وضع من بنى نمير قول جرير:
فعض الطرف إنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فلقيت نمير من هذا البيت ما لقيت.
وجعلهم الشاعر مثلا فيمن وضعه الهجاء، وهو يهجو قوما من العرب:
وسوف يزيدكم ضعة هجائي * كما وضع الهجاء بنى نمير
ونمير قبيل شريف وقد ثلم في شرفهم هذا البيت.
قال ابن غزالة الكندي، وهو يمدح بنى شيبان ولم يكن في موضع رغبة إلى بنى
مخزوم، ولا في موضع رهبة:
كأني إذ حططت الرحل فيهم * بمكة حين حل بها هشام
فضرب بهشام المثل.
وقال رجل من بنى حزم أحد بنى سلمى، وهو يمدح حرب بن معاوية الخفاجي
وخفاجة من بنى عقيل:
إلى حزن الحزون سمت ركابي * بوابل خلفها عسلان جيش
286

فلما أن أنخت إلى ذراه * أمنت فراشني منه بريش
توسط بيته في آل كعب * كبيت بنى مغيرة في قريش
فضرب المثل ببيتهم في قريش.
وقال عبد الرحمن بن حسان لعبد الرحمن بن الحكم:
مارست أكيس من بنى قحطان * صعب الذرا متمنع الأركان
إني طمعت بفخر من لو رامه * آل المغيرة أو بنو ذكوان
لملأتها خيلا تضب لثاتها * مثل الدبا وكواسر العقبان
منهم هشام والوليد وعدلهم * وأبو أمية مفزع الركبان
فضرب المثل بآل المغيرة.
وأما بنو ذكوان فبنو بدر بن عمرو بن حويه ة بن ذكوان أحد بنى عدى بن فزارة
منهم حذيفة وحمل ورهطهما، وقال مالك بن نويرة:
ألم ينه عنا فخر بكر بن وائل * هزيمتهم في كل يوم لزام
فمنهن يوم الشر أو يوم منعج * وبالجزع إذ قسمن حي عصام
أحاديث شاعت في معد وغيرها * وخبرها الركبان حي هشام
فجعل قريشا كلها حيا لهشام:
قال عبد الله بن ثور الخفاجي:
وأصبح بطن مكة مقشعرا * كأن الأرض أو ليس
بها هشام (1)
وهذا مثل وفوق المثل.
قالوا: وقال الخروف الكلبي - وقد مر به ناس من تجار قريش يريدون الشام بادين

(1) الكامل للمبرد 2: 142 من غير سبة: قال في شرحه: " يقول: هو وإن كان مات فهو
مدفون في الأرض، فقد كان يجب من أجله ألا ينالها جدب ".
287

قشفين -: ما لكم معاشر قريش هكذا أجدبتم أم مات هشام، فجعل موت هشام بإزاء
الجدب والمحل، وفى هذا المعنى قال مسافر بن أبي عمرو:
تقول لنا الركبان في كل منزل: أمات هشام أم أصابكم جدب؟
فجعل موت هشام وفقد الغيث سواء. وقال عبد الله بن سلمة بن قشير:
دعيني أصطبح يا بكر إني رأيت الموت نقب عن هشام (1)
وقال أبو الطمحان القيني - أو أخوه:
وكانت قريش لا تخون حريمها * من الخوف حتى ناهضت بهشام
وقال أبو بكر بن شعوب لقومه كنانة:
يا قومنا لا تهلكوا إخفاتا * إن هشام القرشي ماتا
وقال خداش بن زهير:
وقد كنت هجاء لهم ثم كفكفوا * نوافذ قولي بالهمام هشام
وقال علي بن هرمة، عم إبراهيم بن هرمة
ومن يرتئي مدحي فإن مدائحي * نوافق عند الأكرمين سوام
نوافق عند المشترى الحمد بالندى * نفاق بنات الحارث بن هشام
وقال الشاعر وهو يهجو رجلا:
أحسبت أن أباك يوم نسبتني * في المجد كان الحارث بن هشام
أولى قريش بالمكارم كلها * في الجاهلية كان والاسلام

(1) الكامل 2: 142 من غير نسبة، ونقب، أي طوف حتى أصاب هشاما. وانظر نسب قريش 301
288

وقال الأسود بن يعفر النهشلي:
إن الأكارم من قريش كلها * شهدوا فراموا الامر كل مرام
حتى إذا كثر التجادل بينهم * حزم الأمور الحارث بن هشام
وقال ثابت قطنة - أو كعب الأشقري لمحمد بن الأشعث بن قيس:
أتوعدني بالأشعثي ومالك * وتفخر جهلا بالوسيط الطماطم!
كأنك بالبطحاء تذمر حارثا * وخالد سيف الدين بين الملاحم
وقال الخزاعي في كلمته التي يذكر فيها أبا أحيحة:
له سرة البطحاء والعد والثرى * ولا كهاشم الخير والقلب مردف
وسأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدي عن قبائل قريش، فقال: إن قلنا: غضبتم،
وإن سكتنا غضبتم، فقال: أقسمت عليك، قال: فيمن يقول شاعركم:
وعشرة كلهم سيد * آباء سادات وأبناؤها
إن يسألوا يعطوا وإن يعدموا * يبيض من مكة بطحاؤها
قال عبد الرحمن بن من مكة بطحاؤها
وقال عبد الرحمن بن سيحان الجسري حليف بنى أمية وهو يهجو عبد الله بن مطيع
من بنى عدى:
حرام كنتي منى بسوء * وأذكر صاحبي أبدا بذام (1)
لقد أصرمت ود بنى مطيع * حرام الدهر للرجل الحرام
وإن خيف الزمان مددت حبلا * متينا من حبال بني هاشم
وريق عودهم أبدا رطيب * إذا ما اهتز عيدان الكرام

(1) الأغاني 2: 255 مع اختلاف في الرواية.
289

وقال أبو طالب بن عبد المطلب وهو يفخر بخاليه: هشام والوليد على أبي سفيان
ابن حرب (1):
وخالي هشام بن المغيرة ثاقب * إذا هم يوما كالحسام المهند
وخالي الوليد العدل عال مكانه * وخال أبي سفيان عمرو بن مرثد
وقال ابن الزبعرى فيهم:
لهم مشية ليست تليق بغيرهم * إذا احدودب المثرون في السنة الجدب
وقال شاعر من بنى هوازن، أحد بنى أنف الناقة حين سقى إبله عبد الله بن أبي أمية
المخزومي بعد أن منعه الزبرقان بن بدر:
أتدري من منعت سيال حوض * سليل خضارم منعوا البطاحا
أزاد الركب تمنع أم هشاما * وذا الرمحين أمنعهم سلاحا
هم منعوا الأباطح دون فهر * ومن بالخيف والبلد الكفاحا
بضرب دون بيضهم طلخف (2) * إذا الملهوف لاذ بهم وصاحا
وما تدرى بأيهم تلاقى * صدور المشرفية والرماحا
فقال عبد الله بن أبي أمية مجيبا له:
لعمري لأنت المرء يحسن باديا * وتحسن عودا شيمة وتصنعا
عرفت لقوم مجدهم وقديمهم * وكنت لما أسديت أهلا وموضعا
قالوا: وكان الوليد بن المغيرة يجلس بذي المجاز فيحكم بين العرب أيام عكاظ
وقد كان رجل من بنى عامر بن لؤي رافق رجلا من بنى عبد مناف بن قصي، فجرى
بينهما كلام في حبل، فعلاه بالعصا حتى قتله، فكاد دمه يطل، فقام دونه أبو طالب

(1) ديوانه 76.
(2) الطلخف: الضرب الشديد.
290

ابن عبد المطلب وقدمه إلى الوليد، فاستحلفه خمسين يمينا أنه ما قتله، ففي ذلك يقول
أبو طالب:
أمن أجل حبل ذي رمام علوته * بمنسأة قد جاء حبل وأحبل (1)
هلم إلى حكم ابن صخرة إنه * سيحكم فيما بيننا ثم يعدل
وقال أبو طالب أيضا في كلمة له
وحكمك يبقى الخير إن عز أمره * تخمط واستعلى على الأضعف الفرد
وقال أبو طالب أيضا يرثي أبا أمية زاد الركب وهو خاله:
كأن على رضراض قص وجندل * من اليبس أو تحت الفراش المجامر (2)
على خير حاف من معد وناعل * إذا الخير يرجى أو إذا الشر حاسر
ألا إن زاد الركب غير مدافع * بسرو سحيم غيبته المقابر
تنادوا بأن لا سيد اليوم فيهم * وقد فجع الحيان كعب وعامر
وكان إذا يأتي من الشام قافلا * تقدمه قبل الدنو البشائر
فيصبح آل الله بيضا ثيابهم (4) * وقدما حباهم والعيون كواسر
أخو جفنة لا تبرح الدهر عندنا * مجعجعة تدمى وشاء وباقر
ضروب بنصل السيف سوق سمانها * إذا أرسلوا يوما فإنك عاقر
فيا لك من راع رميت بآلة * شراعية تخضر منه الأظافر
وقال أبو طالب أيضا يرثي خاله هشام بن المغيرة

(1) ديوانه 142.
(2) ديوانه 77.
وكان ختنه خرج تاجرا إلى الشام فمات بموضع يقال له سرد سحيم.
(3) الديوان: " كأنما ".
(4) الديوان: " كستهم حبيرا ريدة ومعافر ".
291

فقدنا عميد الحي والركن خاشع * كفقد أبى عثمان والبيت والحجر (1)
وكان هشام بن المغيرة عصمة * إذا عرك الناس المخاوف والفقر
بأبياته كانت أرامل قومه * تلوذ وأيتام العشيرة والسفر
فودت قريش لو فدته بشطرها * وقل لعمري لو فدوه له الشطر
نقول لعمرو أنت منه وإننا * لنرجوك في جل الملمات يا عمرو
عمرو هذا هو أبو جهل بن هشام وأبو عثمان هو هشام.
وقالت ضباعة بنت عامر بن سلمة بن قرط ترثيه:
إن أبا عثمان لم أنسه * وإن صبرا عن بكاه لحوب
تفاقدوا من معشر ما لهم * أي ذنوب صوبوا في القليب
وقال حسان بن ثابت وهو يهجو أبا جهل، وكان يكنى أبا الحكم:
الناس كنوه أبا حكم * والله كناه أبا جهل (2)
أبقت رياسته لأسرته * لؤم الفروع ودقة ه الأصل (3)
فأعترف له بالرياسة والتقدم.
وقال أبو عبيد معمر بن المثنى: لما تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة
إلى هرم بن قطبة وتوارى عنهما، أرسل إليهما: عليكما بالفتى الحديث السن، الحديد
الذهن، فصارا إلى أبى جهل، فقال له ابن الزبعرى:
فلا تحكم فداك أبي وخالي * وكن كالمرء حاكم آل عمرو

(1) ديوانه 80.
(2) ديوانه 344، وروايته:
سماه معشره أبا حكم * والله سماه أبا جهل
(3) الديوان: أبقيت رياسته لمعشره * غضب الاله وذلة الأصل
292

فأبى أن يحكم، فرجعا إلى هرم.
وقال عبد الله بن ثور:
هريقا من دموعكما سجاما * ضباع وحاربي نوحا قياما
فمن للركب إذ جاءوا طروقا * وغلقت البيوت فلا هشاما
وقال أيضا في كلمة له:
وما ولدت نساء بنى نزار * ولا رشحن أكرم من هشام
هشام بن المغيرة خير فهر * وأفضل من سقى صوب الغمام
وقال عمارة بن أبي طرفة الهذلي، سمعت ابن جريح يقول في كلام له: هلك سيد
البطحاء بالرعاف، قلت: ومن سيد البطحاء؟ قال: هشام بن المغيرة.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): " لو دخل أحد من مشركي قريش الجنة لدخلها هشام
ابن المغيرة، كان أبذلهم للمعروف، وأحملهم للكل.
وقال عمر بن الخطاب، لا قليل في الله، ولا كثير في غير الله. ولو بالخلق الجزل
والفعال الدثر، تنال المثوبة لنالها هشام بن المغيرة، ولكن بتوحيد الله، والجهاد
في سبيله.
وقال خداش بن زهير في يوم شمطة (1)، وهو أحد أيام الفجار، وهو عدو قريش
وخصمها:
وبلغ إن بلغت بنا هشاما * وذا الرمحين بلغ والوليدا (2)
أولئك إن يكن في الناس جود * فإن لديهم حسبا وجودا
هم خير المعاشر من قريش * وأوراها إذا قدحوا زنودا

(1) لقيس على كنانة وقريش. وشمطة: موضع قريب من عكاظ.
(2) أيام العرب في الجاهلية 332.
293

وقال أيضا وذكرهما في تلك الحروب:
يا شدة ما شددنا غير كاذبة * على سخينة لولا الليل والحرم (1)
إذا ثقفنا هشاما بالوليد ولو * أنا ثقفنا هشاما شالت الجذم
وذكرهم ابن الزبعرى في تلك الحروب فقال:
ألا لله قوم * ولدت أخت بنى سهم (2)
هشام وأبو عبد * مناف مدره الخصم
وذو الرمحين أشباك * من القوة والحزم (3)
فهذان يذودان * وذا عن كثب يرمى
وهم يوم عكاظ * منعوا الناس من الهزم
بجأواء طحون فخمة * القونس كالنجم
أسود تزدهي الاقران * مناعون للهضم (4)
فإن أحلف وبيت الله * لا أحلف على إثم
وما من إخوة بين * دروب الشام والردم
بأزكى من بنى * ريطة أو أرزن من حلم
ريطة، هي أم ولد المغيرة، وهي ريطة بنت سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص
ابن كعب وأبو عبد مناف هو أبو أمية بن المغيرة، ويعرف بزاد الركب، واسمه حذيفة،
وإنما قيل له: زاد الركب لأنه كان إذا خرج مسافرا لم يتزود معه أحد، وكانت

(1) الأغاني 19: 76، من أبيات أربعة، والثاني في نسب قريش 300 مع اختلاف في الروايات.
(2) الأغاني: 1: 62، الأمالي: 196، 197 (طبعة دار الكتب).
(3) في الأصول: " أشبال "، صوابه من الأمالي 2: 208. قال، يقال: أشباك بفلان، كما يقال
حسبك بفلان، وأنشد البيت.
(4) الأغاني: " منعوا الناس من الهزم ".
294

عنده عاتكة بنت عبد المطلب بن هشام، وأما ذو الرمحين فهو أبو ربيعة بن المغيرة
واسمه عمرو، وكان المغيرة يكنى باسم ابنه الأكبر، وهو هاشم، ولم يعقب إلا من
حنتمة ابنته، وهي أم عمر بن الخطاب.
وقال ابن الزبعرى يمدح أبا جهل:
رب نديم ماجد الأصل * مهذب الأعراق والنجل
منهم أبو عبد مناف وكم سربت بالضخم على العدل
عمرو الندى ذاك وأشياعه * ما شئت من قول ومن فعل
وقال الورد بن خلاس السهمي: سهم باهلة يمدح الوليد:
إذا كنت في حيى جذيمة ثاويا * فعند عظيم القريتين وليد
فذاك وحيد الرأي مشترك الندى * وعصمة ملهوف الجنان عميد
وقال أيضا:
إن الوليدين والأبناء ضاحية * ربا تهامة في الميسور والعسر
هم الغياث وبعض القوم قرقمة * عز الذليل وغيظ الحاسد الوغر
وقال:
ورهطك يا بن الغيث أكرم محتد * وأمنع للجار اللهيف المهضم
قالوا: الغيث لقب المغيرة، وجعل الوليد وأخاه هشاما ربى تهامة كما قال لبيد بن
ربيعة في حذيفة بن بدر:
وأهلكن يوما رب كندة وابنه * ورب معد بين خبت وعرعر (1)
فجعله رب معد.
* * *

(1) ديوانه 55
295

قالوا: يدل على قدر مخزوم ما رأينا من تعظيم القرآن لشأنهم دون غيرهم من سائر
قريش، قال الله تعالى مخبرا عن العرب: إنهم قالوا: (لولا أنزل هذا القرآن على
رجل من القريتين عظيم) (1) فأحد الرجلين العظيمين بلا شك الوليد بن المغيرة،
والاخر مختلف فيه، أهو عروة بن مسعود، أم جد المختار بن أبي عبيد.
وقال سبحانه في الوليد: (ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا
وبنين شهودا....) (2) الآيات.
قالوا: وفي الوليد نزلت: (أما من استغنى فأنت له تصدى) (3).
وفى أبى جهل نزلت: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) (4).
وفيه نزلت: (فليدع ناديه) (5).
وفى مخزوم: (وذرني والمكذبين أولى النعمة) (6).
وفيهم نزلت: (ما خولناكم وراء ظهوركم) (7).
وزعم اليقطري أبو اليقظان وأبو الحسن أن الحجاج سأل أعشى همدان عن بيوتات
قريش في الجاهلية، فقال: إني قد آليت ألا أنفر أحدا على أحد، ولكن أقول
وتسمعون، قالوا: فقل. قال: من أيهم المحبب في أهله، المؤرخ بذكره، محلى الكعبة،
وضارب القبة، والملقب بالخير، وصاحب الخير والمير؟ قالوا: من: بنى مخزوم، قال:
فمن أيهم ضجيع بسباسة، والمنحور عنه ألف ناقة، وزاد الركب، ومبيض البطحاء؟ قالوا:
من بنى مخزوم، قال: فمن أيهم كان المقنع في حكمه، والمنفذ وصيته على تهكمه، وعدل
الجميع في الرفادة، وأول من وضع أساس الكعبة؟ قالوا من بنى مخزوم، قال: فمن

(1) سورة الزخرف 31.
(2) سورة المدثر 11 - 13.
(3) سورة عبس 5، 6.
(4) سورة الدخان 49.
(5) سورة العلق 17.
(6) سورة المزمل 11.
(7) سورة الأنعام 94.
296

أيهم صاحب الأريكة، ومطعم الخزيرة، قالوا من بنى مخزوم، قال فمن أيهم الاخوة العشرة،
الكرام البررة؟ قالوا من بنى مخزوم، قال: فهو ذاك، فقال رجل من بنى أمية، أيها
الأمير، لو كان لهم مع قديمهم حديث إسلام! فقال الحجاج: أو ما علمت بأن منهم رداد
الردة، وقاتل مسيلمة، وآسر طليحة، والمدرك بالطائلة مع الفتوح العظام والأيادي
الجسام! فهذا آخر ما ذكره أبو عثمان.
ويمكن أن يزاد عليه فيقال قالت: مخزوم ما أنصفنا من اقتصر في ذكرنا على أن قال:
مخزوم ريحانة قريش تحب حديث رجالهم، والنكاح في نسائهم، ولنا في الجاهلية والاسلام
أثر عظيم، ورجال كثيرة، ورؤساء شهيرة، فمنا المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم،
كان سيد قريش في الجاهلية، وهو الذي منع فزارة من الحج لما عير خشين بن لأي
الفزاري، ثم الشمخي قوما من قريش إنهم يأخذون ما ينحره العرب من الإبل
في الموسم، فقال خشين لما منع من الحج:
يا رب هل عندك من عقيرة * أصلح مالي وأدع تنحيره
فإن منا مانع المغيرة * ومانعا بعد منى بثيره
* ومانعا بيتك أن أزوره *
منا بنو المغيرة العشرة أمهم ريطة، وقد تقدم ذكر نسبها، وأمها عاتكة بنت عبد
العزى بن قصي، وأمها الحظيا بنت كعب بن سعد بن تيم بن مرة، أول امرأة من
قريش ضربت قباب الأدم بذي المجاز، ولها يقول الشاعر:
مضى بالصالحات بنو الحظيا * وكان بسيفهم يغنى الفقير
فمن هؤلاء - أعني الحظيا - الوليد بن المغيرة أمه صخرة بنت الحارث بن عبد الله
297

ابن عبد شمس القشيري، كان أبو طالب بن عبد المطلب يفتخر بأنه خاله، وكفاك من رجل
يفتخر أبو طالب بخئولته! ألا ترى إلى قول أبى طالب:
وخالي الوليد قد عرفتم مكانه * وخالي أبو العاصي إياس بن معبد
ومنهم حفص بن المغيرة، وكان شريفا. وعثمان بن المغيرة وكان شريفا. ومنهم
السيد المطاع هشام بن المغيرة، وكان سيد قريش غير مدافع، له يقول أبو بكر بن الأسود
ابن شعوب يرثيه:
ذريني أصطبح يا بكر إني * رأيت الموت نقب عن هشام
تخيره ولم يعدل سواه * ونعم المرء بالبلد الحرام!
وكنت إذا ألاقيه كأني * إلى حرم وفى شهر حرام
فود بنو المغيرة لو فدوه * بألف مقاتل وبألف رام
وود بنو المغيرة لو فدوه * بألف من رجال أو سوام
فبكيه ضباع ولا تملى * هشاما إنه غيث الأنام
ويقول له الحارث بن أمية الضمري:
ألا هلك القناص والحامل الثقلا * ومن لا يضن عن عشيرته فضلا
وحرب أبا عثمان أطفأت نارها * ولولا هشام أوقدت حطبا جزلا
وعان تريك يستكين لعلة * فككت أبا عثمان عن يده الغلا
ألا لست كالهلكى فتبكي بكاءهم * ولكن أرى الهلاك في جنبه وغلا
غداة غدت تبكي ضباعة غيثنا * هشاما وقد أعلت بمهلكة ضحلا
ألم تريا أن الأمانة أصعدت * مع النعش إذ ولى وكان لها أهلا!
298

وقال أيضا يبكيه ويرثيه:
وأصبح بطن مكة مقشعرا * شديد المحل أو ليس
به هشام
يروح كأنه أشلاء سوط * وفوق جفانه شحم ركام
فللكبراء أكل كيف شاءوا * وللولدان لقم واغتنام
فبكيه ضباع ولا تملى * ثمال الناس إن قحط الغمام
وإن بنى المغيرة من قريش * هم الرأس المقدم والسنام
وضباعة التي تذكرها الشعراء زوجة هشام، وهي من بنى قشير.
قال الزبير بن بكار: فلما قال الحارث: " إلا لست كالهلكى البيت.... " البيت،
عظم ذلك على بنى عبد مناف فأغروا به حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي
حليف بنى عبد شمس، وكانت قريش رضيت به واستعملته على سقائها، ففر منه
الحارث، وقال:
أفر من الأباطح كل يوم * مخافة أن ينكل بي حكيم
فهدم حكيم داره، فأعطاه بنو هشام داره التي بأجياد عوضا منها.
وقال عبد الله بن ثور البكائي يرثيه:
هريقي من دموعهما سجاما * ضباع وجاوبي نوحا قياما
على خير البرية لن تراه * ولن تلقى مواهبه العظاما
جواد مثل سيل الغيث يوما * إذا علجانه يعلو الأكاما
إذا ما كان عام ذو عرام * حسبت قدوره جبلا صياما
299

فمن للركب إذ أمسوا طروقا * وغلقت البيوت فلا هشاما
وأوحش بطن مكة بعد أنس * ومجد كان فيها قد أقاما
فلم أر مثله في أهل نجد * ولا فيمن بغورك يا تهاما
* * *
قال الزبير: وكان فارس قريش في الجاهلية هشام بن المغيرة، وأبو لبيد بن عبدة
ابن حجرة بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي، وكان يقال لهشام: فارس البطحاء، فلما
هلكا كان فارسي قريش بعدهما عمرو بن عبد العامري المقتول يوم الخندق، وضرار
ابن الخطاب المحاربي، الفهري ثم هبيرة بن أبي وهب وعكرمة بن أبي جهل المخزوميان.
قالوا: وكان عام مات هشام تاريخا، كعام الفيل وعام الفجار، وعام بنيان الكعبة.
وكان هشام رئيس بنى مخزوم يوم الفجار.
قالوا: ومنا أبو جهل بن هشام، واسمه عمرو، وكنيته أبو الحكم وإنما كناه
" أبا جهل " رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان سيدا أدخلته قريش دار الندوة فسودته
وأجلسته فوق الجلة من شيوخ قريش، وهو غلام لم يطر شاربه، وهو أحد من ساد
على الصبا. والحارث بن هشام أخو أبى جهل كان شريفا مذكورا، وله يقول كعب
ابن الأشرف اليهودي الطائي:
نبئت أن الحارث بن هشام * في الناس يبنى المكرمات ويجمع (1)
ليزور يثرب (*) بالجموع وإنما * يبنى على الحسب القديم الأروع
وهو الذي هاجر من مكة إلى الشام بأهله وماله في خلافة عمر بن الخطاب، فتبعه
أهل مكة يبكون، فرق وبكى وقال: إنا لو كنا نستبدل دارا بدار، وجارا

(1) نسب قريش 301.
(2) في نسب قريش " أثرب "، وهي لغة في " يثرب ".
300

بجار، ما أردنا بكم بدلا، ولكنها النقلة إلى الله عز وجل فلم يزل حابسا نفسه ومن معه
بالشام مجاهدا حتى مات.
قال الزبير: جاء الحارث بن هشام وسهيل بن عمرو إلى عمر بن الخطاب فجلسا عنده
وهو بينهما، فجعل المهاجرون الأولون والأنصار يأتون عمر فينحيهما ويقول: هاهنا
يا سهيل، هاهنا يا حارث! حتى صارا في آخر الناس، فقال الحارث لسهيل ألم تر ما صنع
بناء عمر اليوم! فقال سهيل: أيها الرجل، إنه لا لوم عليه، ينبغي أن نرجع باللوم
على أنفسنا، دعى القوم ودعينا، فأسرعوا وأبطأنا. فلما قاما من عند عمر أتياه في غد
فقالا له: قد رأينا ما صنعت بالأمس، وعلمنا أنا أتينا من أنفسنا فهل من شئ نستدرك به؟
فقال: لا أعلم إلا هذا الوجه - وأشار لهما إلى ثغر الروم فخرجا إلى الشام، فجاهدا بها
حتى ماتا.
قالوا: ومنا عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أمه فاطمة بنت الوليد بن المغيرة
وكان شريفا سيدا، وهو الذي قال لمعاوية لما قتل حجر بن عدي وأصحابه أين عزب
منك حلم أبي سفيان، ألا حبستهم في السجون، وعرضتهم للطاعون! فقال حين غاب
عنى مثلك من قومي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام هو الذي رغب فيه عثمان بن
عفان وهو خليفة فزوجه ابنته.
قالوا: ومنا أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، كان سيدا جوادا وفقيها
عالما، وهو الذي قدم عليه بنو أسد بن خزيمة يسألونه في دماء كانت بينهم، فاحتمل
عنهم أربعمائة بعير دية أربعة من القتلى، ولم يكن بيده مال، فقال لابنه عبد الله بن أبي
بكر: اذهب إلى عمك المغيرة بن عبد الرحمن فأساله المعونة، فذهب عبد الله إلى عمه
فذكر له ذلك، فقال المغيرة: لقد أكبر علينا أبوك، فانصرف عنه عبد الله وأقام أياما
301

لا يذكر لأبيه شيئا، وكان يقود أباه إلى المسجد وقد ذهب بصره، فقال له أبوه يوما:
أذهبت إلى عمك؟ قال: نعم، وسكت فعرف حين سكت أنه لن يجد عند عمه
ما يحب. فقال له: يا بنى ألا تخبرني ما قال لك؟ قال: أيفعل أبو هاشم - وكانت كنية
المغيرة - فربما فعل، ولكن اغد غدا إلى السوق فخذ لي عينه، فغدا عبد الله فتعين
عينه من السوق لأبيه وباعها، فأقام أيام لا يبيع أحد في السوق طعاما ولا زيتا غير
عبد الله بن أبي بكر من تلك العينة، فلما فرغ أمره أبوه أن يدفعها إلى الأسديين
فدفعها إليهم.
وكان أبو بكر خصيصا بعبد الملك بن مروان، وقال عبد الملك لابنه الوليد لما حضرته
الوفاة: إن لي بالمدينة صديقين فاحفظني فيهما: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وأبو بكر
ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
وكان يقال: ثلاثة أبيات من قريش توالت بالشرف خمسة خمسة، وعدوا منها أبا بكر
ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة.
قالوا: ومنا المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، كان أجود الناس بالمال،
وأطعمهم للطعام، وكانت عينه أصيبت مع مسلمة بن عبد الملك في غزوة الروم، وكان
المغيرة ينحر الجزور، ويطعم الطعام حيث نزل ولا يرد أحدا، فجاء قوم من الاعراب
فجلسوا على طعامه، فجعل أحدهم يحد النظر إليه، فقال له المغيرة مالك تحد النظر
إلى! قال: إني ليريبني عينك وسماحك بالطعام، قال ومم ارتبت؟ قال: أظنك
الدجال، لأنا روينا أنه أعور، وأنه أطعم الناس للطعام، فقال المغيرة: ويحك! إن
الدجال لا تصاب عينه في سبيل الله. وللمغيرة يقول الأقيشر الأسدي لما قدم الكوفة
فنحر الجزر وبسط الأنطاع وأطعم الناس، وصار صيته في العرب:
302

أتاك البحر طم على قريش * معيرتي فقد راع ابن بشر (1)
وراع الجدي جدي التيم لما * رأى المعروف منه غير نزر
ومن أوتار عقبة قد شفاني * ورهط الحاطبي ورهط صخر
فلا يغررك حسن الزي منهم * ولا سرح ببزيون ونمر (2)
فابن بشر، عبد الله بن بشر بن مروان بن الحكم، وجدي التيم: حماد بن عمران
ابن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وأوتار عقبة يعنى أولاد عقبة بن أبي معيط، والحاطبي
لقمان بن محمد بن حاطب الجمحي، ورهط صخر: بنو أبي سفيان بن حرب بن أمية، وكل
هؤلاء كانوا مشهورين بالكوفة، فلما قدمها المغيرة أخمل ذكرهم، والمغيرة هذا هو
الذي بلغه أن سليم بن أفلح مولى أبى أيوب الأنصاري أراد أن يبيع المنزل الذي نزل
فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مقدمه المدينة على أبى أيوب بخمسمائة دينار، فأرسل
إليه ألف دينار، وسأله أن يبيعه إياه، فباعه، فلما ملكه جعله صدقة في يومه.
قال الزبير: وكان يزيد بن المغيرة بن عبد الرحمن يطاف به بالكوفة على العجل،
وكان ينحر في كل يوم جزورا، وفي كل جمعة جزورين و. رأى يوما إحدى جفناته
مكللة بالسنام تكليلا حسنا، فأعجبه، فسأل فقال: من كللها؟ قيل: اليسع ابنك،
فسر، وأعطاه ستين دينارا.
ومر إبراهيم بن هشام على بردة المغيرة وقد أشرقت على الجفنة، فقال لعبد من عبيد
المغيرة: يا غلام، على أي شئ نصبتم هذا الثريد على العمد؟ قال: لا ولكن على أعضاد
الإبل، فبلغ ذلك المغيرة، فأعتق ذلك الغلام.
والمغيرة هو الذي مر بحره الاعراب فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا هاشم، قد فاض

(1) نسب قريش 305.
(2) البزيون، بالضم: السندس، وقال ابن بري: هو رقيق الديباج.
303

معروفك على الناس، فما بالنا أشقى الخلق! بك قال: إنه لا مال معي، ولكن خذوا هذا
الغلام فهو لكم، فأخذوه، فبكى الغلام فقال: يا مولاي، خدمتي وحرمتي! فقال:
أتبيعوني إياه؟ قالوا: نعم فاشتراه منهم بمال ثم أعتقه، وقال له: والله لا أعرضك لمثلها
أبدا اذهب فأنت حر، فلما عاد إلى الكوفة حمل ذلك المال إليهم.
وكان المغيرة يأمر بالسكر والجوز فيدقان ويطعمهما أصحاب الصفة المساكين
ويقول: إنهم يشتهون كما يشتهى غيرهم ولا يمكنهم، فخرج المغيرة في سفر ومعه جماعة
فوردوا غديرا أو ليس
لهم ماء غيره - وكان ملحا - فأمر بقرب العسل فشقت في الغدير
وخيضت بمائه، فما شرب أحد منهم حتى راحوا إلا من قرب المغيرة.
وذكر الزبير أن ابنا لهشام بن عبد الملك كان يسوم المغيرة ماله بالمكان المسمى بديعا،
فلا يبيعه، فغزا ابن هشام أرض الروم ومعه المغيرة، فأصابت الناس مجاعة في غزاتهم،
فجاء المغيرة إلى ابن هشام فقال: إنك كنت تسومني مالي ببديع (1)، فآبي أن أبيعكه،
فاشتر الان منى نصفه بعشرين ألف دينار. فأطعم المغيرة بها الناس، فلما رجع ابن هشام
بالناس من غزوته تلك وقد بلغ هشاما الخبر قال لابنه: قبح الله رأيك أنت أمير الجيش،
وابن أمير المؤمنين، يصيب الناس معك مجاعة فلا تطعمهم حتى يبيعك رجل سوقة ماله،
و يطعم به الناس! ويحك أخشيت أن تفتقر إن أطعمت الناس!
قالوا: ولنا عكرمة بن أبي جهل الذي قام له رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائما
وهو بعد مشرك لم يسلم ولم يقم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرجل داخل عليه من
الناس شريف ولا مشرف، إلا عكرمة وعكرمة هو الذي اجتهد في نصرة الاسلام بعد
أن كان شديد العداوة، وهو الذي سأله أبو بكر أن يقبل منه معونة على الجهاد فأبى،

(1) بديع: ماء عليه نخيل وعيون جارية بقرب وادي القرى. ياقوت.
304

وقال: لا آخذ على الجهاد اجرا ولا معونة، وهو الشهيد يوم أجنادين، وهو الذي قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا تسألني اليوم شيئا إلا أعطيتك "، فقال: فإني أسألك
أن تستغفر لي، ولم يسأل غير ذلك، وكل قريش غيره سألوا المال، كسهيل بن عمرو
وصفوان بن أمية وغيرهما.
قالوا: ولنا الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة، كان شاعرا مجيدا مكثرا،
وكان أمير مكة استعمله عليها يزيد بن معاوية.
ومن شعره:
من كان يسأل عنا أين منزلنا * فالأقحوانة منا منزل قمن (1)
إذ نلبس العيش غضا لا يكدره * قرب الوشاة ولا ينبو بنا الزمن
وأخوه عكرمة بن خالد كان من وجوه قريش، وروى الحديث، وروى عنه.
ومن ولد خالد بن العاص بن هاشم بن المغيرة خالد بن إسماعيل بن عبد الرحمن كان
جوادا متلافا، وفيه قال الشاعر:
لعمرك إن المجد ما عاش خالد * على العمر من ذي كبدة لمقيم
وتندى البطاح البيض من جود خالد * ويخصبن حتى نبتهن عميم
قالوا: ولنا الأوقص، وهو محمد بن عبد الرحمن بن هشام بن المغيرة، كان قاضي مكة،
وكان فقيها.
قالوا: ومن قدماء المسلمين عبد الله بن أمية بن المغيرة أخو أم سلمة زوج رسول الله

(1) نسب قريش 313، معجم البلدان 1: 309 من غير نسبة. والأقحوانة: موضع بالأردن من أرض
دمشق على شاطئ بحيرة طبرية.
305

(صلى الله عليه وآله)، كان شديد الخلاف على المسلمين، ثم خرج مهاجرا، وشهد فتح مكة
وحنين، وقتل يوم الطائف شهيدا.
والوليد بن أمية، غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) اسمه، فسماه الهاجر، وكان من
صلحاء المسلمين.
قالوا: ومنا زهير بن أبي أمية بن المغيرة، وبجير بن أبي ربيعة بن المغيرة، غير رسول
الله (صلى الله عليه وآله) اسمه، فسماه عبد الله كانا من أشراف قريش، وعباس بن أبي ربيعة،
كان شريفا.
قالوا: ومنا الحارث القباع، وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، كان أمير
البصرة، وعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة الشاعر، المشهور ذي الغزل والتشبيب.
قالوا: ومن ولد الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة الفقيه المشهور، وهو المغيرة بن
عبد الرحمن بن الحارث، كان فقيه المدينة بعد مالك بن أنس، وعرض عليه الرشيد
جائزة أربعة آلاف دينار، فامتنع ولم يتقلد له القضاء.
قالوا: ومن يعد ما تعده مخزوم ولها خالد بن الوليد بن المغيرة سيف الله! كان
مباركا، ميمون النقيبة شجاعا، وكان إليه أعنة الخيل على عهد رسول الله (صلى الله عليه
وآله)، وشهد معه فتح مكة، وجرح يوم حنين، فنفث رسول الله (صلى الله عليه وآله)
على جرحه فبرأ، وهو الذي قتل مسيلمة وأسر طليحة ومهد خلافة أبى بكر، وقال يوم
موته: لقد شهدت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع إصبع إلا وفيه طعنة أو
ضربة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء! ومر
عمر بن الخطاب على دور بنى مخزوم والنساء يندبن خالدا، وقد وصل خبره إليهم
306

وكان مات بحمص، فوقف وقال: ما على النساء أن يندبن أبا سليمان، وهل تقوم حرة
عن مثله! ثم أنشد:
أتبكي ما وصلت به الندامى * ولا تبكي فوارس كالجبال
أولئك إن بكيت أشد فقدا * من الانعام والعكر الحلال (1)
تمنى بعدهم قوم مداهم * فما بلغوا لغوا لغايات الكمال
وكان عمرو مبغضا لخالد، ومنحرفا عنه، ولم يمنعه ذلك من أن صدق فيه.
قالوا: ومنا الوليد بن الوليد بن المغيرة، كان رجل صدق من صلحاء المسلمين.
ومنا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان عظيم القدر في أهل الشام وخاف معاوية
منه أن يثب على الخلافة بعدهم، فسمه، أمر طبيبا له يدعى ابن أثال فسقاه فقتله.
وخالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد قاتل ابن أثال بعمه عبد الرحمن والمخالف على بنى أمية،
والمنقطع إلى بني هاشم. وإسماعيل بن هشام بن الوليد كان أمير المدينة. وإبراهيم ومحمد
ابنا هشام بن عبد الملك. وأيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد، بن الوليد وكان من رجال
قريش، ومن ولده هشام بن إسماعيل بن أيوب وسلمة بن عبد الله بن الوليد بن الوليد، ولى
شرطة المدينة.
قالوا: ومن ولد حفص بن المغيرة عبد الله بن أبي عمر بن حفص بن المغيرة، هو
أول خلق الله حاج يزيد بن معاوية.
قالوا: ولنا الأزرق، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن الوليد بن عبد شمس
بن المغيرة والى اليمن لابن الزبير، وكان من أجود العرب، وهو ممدوح أبى دهبل
الجمحي.

(1) العكر: ما فوق الخمسمائة من الإبل.
(2) في د: " الناس ".
307

قالوا: ولنا شريك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو عبد الله بن السائب بن أبي
السائب، واسم أبى السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، كان شريك
النبي (صلى الله عليه وآله) في الجاهلية، فجاءه يوم الفتح فقال له: أتعرفني؟ قال: ألست
شريكي؟ قال: بلى، قال: لقد كنت خير شريك، لا تشاري ولا تمارى.
قالوا: ومنا الأرقم بن أبي الأرقم الذي استتر رسول الله في داره بمكة في أول الدعوة،
واسم أبى الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
ومنا أبو سلمة بن عبد الأسد، واسمه عبد الله، وهو زوج أم سلمة بنت أبي أمية بن
المغيرة، قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، شهد أبو سلمة بدرا، وكان من صلحاء المسلمين.
قالوا: لنا هبيرة بن أبي وهب، كان من الفرسان المذكورين، وابنه جعدة بن هبيرة،
وهو ابن أخت علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أمه أم هاني بنت أبي طالب، وابنه عبد الله
ابن جعدة بن هبيرة، هو الذي فتح القهندر وكثيرا من خراسان، فقال فيه الشاعر:
لولا ابن جعده لم تفتح قهندركم * ولا خراسان حتى ينفخ الصور
قالوا: ولنا سعيد بن المسيب الفقيه المشهور. وأما الجواد المشهور فهو الحكم بن المطلب
ابن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم.
وقد اختصرنا واقتصرنا على من ذكرنا، وتركنا كثيرا من رجال مخزوم خوف الإسهاب.
* * *
وينبغي أن يقال في الجواب: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقل هذا الكلام احتقارا
لهم، ولا استصغارا لشأنهم، ولكن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان أكثر همه يوم المفاخرة
أن يفاخر بنى عبد شمس لما بينه وبينهم، فلما ذكر مخزوما بالعرض قال فيهم ما قال، ولو كان
يريد مفاخرتهم لما اقتصر لهم على ما ذكره عنهم، على أن أكثر هؤلاء الرجال إسلاميون
بعد عصر على (عليه السلام)، وعلى (عليه السلام) إنما يذكر من قبله لا من يجئ بعده.
308

فإن قلت: إذا كان قد قال في بنى عبد شمس إنهم أمنع لما وراء ظهورهم، ثم قال
في بني هاشم: إنهم أسمح عند الموت بنفوسهم، فقد تناقض الوصفان.
قلت: لا مناقضة بينهما، لأنه أراد كثرة بنى عبد شمس، فبالكثرة تمنع ما وراء
ظهورها، وكان بنو هاشم أقل عددا من بنى عبد شمس، إلا أن كل واحد منهم على
انفراده أشجع وأسمح بنفسه عند الموت من كل واحد على انفراده من بنى عبد شمس،
فقد بان أنه لا مناقضة بين القولين.
309

(117)
الأصل:
شتان ما بين عملين، عمل تذهب لذته، وتبقى تبعته، وعمل تذهب
مؤونته، ويبقى أجرة.
* * *
الشرح:
أخذ هذا المعنى بعض الشعراء، فقال:
تفنى اللذاذة ممن نال بغيته * من الحرام ويبقى الاثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها * لا خير في لذة من بعدها النار
310

(118)
الأصل:
وقال (عليه السلام) وقد تبع جنازة فسمع رجلا يضحك، فقال:
كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكان الحق فيها على غيرنا وجب، وكان
الذي نرى من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون، نبوئهم أجداثهم،
ونأكل تراثهم، كأنا مخلدون بعدهم، قد نسينا كل واعظ وواعظة، ورمينا
بكل جائحة
طوبى لمن ذل في نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سريرته، وحسنت خليقته،
وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من لسانه، وعزل عن الناس شره،
ووسعته السنة، ولم ينسب إلى بدعة.
* * *
قال الرضى رحمه الله تعالى: أقول: ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله)
* * *
الشرح:
الأشهر الأكثر في الرواية أن هذا الكلام من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ومثل قوله: " كأن الموت فيها على غيرنا كتب " قول الحسن (عليه السلام): ما رأيت حقا
لا باطل فيه أشبه بباطل لا حق فيه من الموت، والألفاظ التي بعده واضحة أو ليس
فيها
ما يشرح، وقد تقدم ذكر نظائرها.
311

(119)
الأصل:
غيرة المرأة كفر، وغيرة الرجل إيمان.
* * *
الشرح:
المرجع في هذا إلى العقل والتماسك، فلما كان الرجل أعقل وأشد تماسكا كانت
غيرته في موضعها، وكانت واجبة، عليه لان النهى عن المنكر واجب، وفعل الواجبات
من الايمان، وأما المرأة فلما كانت أنقص عقلا وأقل صبرا كانت غيرتها على الوهم الباطل
والخيال غير المحقق، فكانت قبيحة لوقوعها غير موقعها، وسماها (عليه السلام) كفرا
لمشاركتها الكفر في القبح فأجرى عليها اسمه.
وأيضا فإن المرأة قد تؤدى بها الغيرة إلى ما يكون كفرا على الحقيقة كالسحر،
فقد ورد في الحديث المرفوع أنه كفر، وقد يفضي بها الضجر والقلق إلى أن تتسخط
وتشتم وتتلفظ بألفاظ تكون كفرا لا محالة
312

(120)
الأصل:
لأنسبن الاسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي. الاسلام هو التسليم، والتسليم هو
اليقين واليقين، هو التصديق، والتصديق هو الاقرار، والاقرار هو الأداء، والأداء
هو العمل.
* * *
الشرح:
خلاصة هذا الفصل تقتضي صحه مذهب أصحابنا المعتزلة في أن الاسلام والايمان عبارتان
عن معبر واحد، وأن العمل داخل في مفهوم هذه اللفظة، ألا تراه جعل كل واحدة من
اللفظات قائمة مقام الأخرى في إفادة المفهوم، كما يقول: الليث هو الأسد والأسد هو السبع،
والسبع هو أبو الحارث فلا شبهة أن الليث يكون أبا الحارث، أي أن الأسماء مترادفة،
فإذا كان أول اللفظات الاسلام، وآخرها العمل، دل على أن العمل هو الاسلام وهكذا،
يقول أصحابنا: إن تارك العمل وتارك الواجب لا يسمى مسلما.
فإن قلت: هب أن كلامه (عليه السلام) يدل على ما قلت، كيف يدل على أن الاسلام
هو الايمان؟
قلت: لأنه إذا دل على أن العمل هو الاسلام وجب أن يكون الايمان هو الاسلام
لان كل من قال: إن العمل داخل في مسمى الاسلام، قال: إن الاسلام هو الايمان،
313

فالقول بأن العمل داخل في مسمى الاسلام، وليس الاسلام هو الايمان، قول لم يقل به
أحد، فيكون الاجماع واقعا على بطلانه.
فإن قلت: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقل كما تقوله المعتزلة، لان المعتزلة تقول:
الاسلام اسم واقع على العمل وغيره من الاعتقاد، والنطق باللسان، وأمير المؤمنين
(عليه السلام) جعل الاسلام هو العمل فقط، فكيف ادعيت أن قول أمير المؤمنين
(عليه السلام) يطابق مذهبهم؟
قلت: لا يجوز أن يريد غيره، لان لفظ العمل يشمل الاعتقاد، والنطق باللسان،
وحركات الأركان بالعبادات، إذ كل ذلك عمل وفعل، وإن كان بعضه من أفعال القلوب،
وبعضه من أفعال الجوارح، ولو لم يرد أمير المؤمنين (عليه السلام) ما شرحناه لكان قد قال:
الاسلام هو العمل بالأركان خاصة، ولم يعتبر فيه الاعتقاد القلبي، ولا النطق اللفظي،
وذلك ممال ا يقوله أحد
314

(121)
الأصل:
عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إياه
طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء،
وعجبت للمتكبر الذي كان بالأمس نطفة، ويكون غدا جيفة، وعجبت لمن
شك
في الله وهو يرى خلق الله، وعجبت لمن نسي الموت وهو يرى من يموت،
وعجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبت لعامر
دار الفناء، وتارك دار البقاء.
* * *
الشرح:
قال أعرابي: الرزق الواسع لمن لا يستمتع به بمنزلة الطعام الموضوع على قبر.
ورأي حكيم رجلا مثريا يأكل خبزا وملحا، فقال: لم تفعل هذا؟ قال: أخاف الفقر،
قال: فقد تعجلته. فأما القول في الكبر والتيه فقد تقدم منه ما فيه كفاية، وقال
ابن الأعرابي: ما تاه على أحد قط أكثر من مرة واحده، أخذ هذا المعنى شاعر
فقال وأحسن:
هذه منك فإن عد * ت إلى الباب فمني
وقد تقدم من كلامنا في نظائر هذه الألفاظ المذكورة ما يغنى عن الإطالة هاهنا.
315

(122)
الأصل:
من قصر في العمل، ابتلى بالهم.
* * *
الشرح:
هذا مخصوص بأصحاب اليقين، والاعتقاد الصحيح، فإنهم الذين إذا قصروا
في العمل ابتلوا بالهم، فأما غيرهم من المسرفين على أنفسهم وذوي النقص في اليقين
والاعتقاد، فإنه لا هم يعروهم وإن قصروا في العمل، وهذه الكلمة قد جربناها
من أنفسنا فوجدنا مصداقها واضحا، وذلك أن الواحد منا إذا أخل بفريضة الظهر
مثلا حتى تغيب الشمس وإن كان أخل بها لعذر وجد ثقلا في نفسه وكسلا
وقلة نشاط، وكأنه مشكول بشكال أو مقيد بقيد، حتى يقضى تلك الفريضة،
فكأنما أنشط من عقال.
316

(123)
الأصل:
لا حاجه لله فيمن أو ليس
لله في ماله ونفسه نصيب.
* * *
الشرح:
قد جاء في الخبر المرفوع: " إذا أحب الله عبدا ابتلاه في ماله أو في نفسه ".
وجاء في الحديث المرفوع: " اللهم إني أعوذ بك من جسد لا يمرض، ومن
مال لا يصاب ".
وروى عبد الله بن أنس عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " أيكم يحب أن يصح فلا
يسقم؟ "، قالوا: كلنا يا رسول الله، قال: " أتحبون أن تكونوا كالحمر الصائلة، ألا تحبون
أن تكونوا أصحاب بلايا وأصحاب كفارات! والذي بعثني بالحق إن الرجل لتكون له
الدرجة في الجنة فلا يبلغها بشئ من عمله فيبتليه الله ليبلغه الله درجة
لا يبلغها بعمله ".
وفي الحديث أيضا: " ما من مسلم يمرض مرضا إلا حت الله به خطاياه كما تحت
الشجرة ورقها ".
وروى أبو عثمان النهدي قال: دخل رجل أعرابي على رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ذو جسمان عظيم، فقال له: متى عهدك؟ بالحمى قال: ما أعرفها، قال: بالصداع،
317

قال: ما أدرى ما هو؟ قال: فأصبت بمالك؟ قال: لا، قال فرزئت بولدك؟ قال: لا،
فقال (عليه السلام): " إن الله ليكره العفريت النفريت الذي لا يرزأ في ولده ولا
يصاب في ماله ".
وجاء في بعض الآثار: " أشد الناس حسابا الصحيح الفارغ ".
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: إن أقر يوم لعيني ليوم لا أجد فيه طعاما، سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " إن الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما
يتعاهد الوالد ولده بالطعام، وإن الله يحمى عبده المؤمن كما يحمى أحدكم المريض
من الطعام ".
وفي الحديث المرفوع أيضا: " إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإذا أحبه الحب البالغ
اقتناه " قالوا: وما اقتناؤه؟ قال: ألا يترك له مالا ولا ولدا ".
مر موسى (عليه السلام) برجل كان يعرفه مطيعا لله قد مزقت السباع لحمه وأضلاعه،
وكبده ملقاة، فوقف متعجبا فقال: أي رب، عبدك المطيع لك ابتليته بما أرى، فأوحى
الله إليه: إنه سألني درجة لم يبلغها بعمله، فجعلت له بما ترى سبيلا إلى تلك الدرجة.
وجاء في الحديث: " إن زكريا لم يزل يرى ولده يحيى مغموما باكيا مشغولا بنفسه،
فقال: يا رب طلبت منك ولدا أنتفع به فرزقتنيه لا نفع لي فيه فقال له: إنك طلبته
وليا، والولي لا يكون إلا هكذا، مسقاما فقيرا مهموما.
وقال سفيان الثوري: كانوا لا يعدون الفقيه فقيها من لا يعد البلاء نعمة
والرخاء مصيبة.
جابر بن عبد الله يرفعه: " يود أهل العافية يوم القيامة أن لحومهم كانت تقرض
بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء ".
318

(124)
الأصل:
توقوا البرد في أوله، وتلقوه في آخره، فإنه يفعل في الأبدان كفعله
في الأشجار، أوله يحرق، وآخره يورق.
* * *
الشرح:
هذه مسألة طبيعية قد ذكرها الحكماء، قالوا: لما كان تأثير الخريف
في الأبدان، وتوليده الأمراض كالزكام والسعال وغيرهما أكثر من تأثير الربيع،
مع أنهما جميعا فصلا اعتدال، وأجابوا بأن برد الخريف يفجأ الانسان وهو معتاد
لحر الصيف فينكأ فيه، ويسد مسام دماغه، لان البرد يكثف ويسد المسام
فيكون كمن دخل من موضع شديد الحرارة إلى خيش بارد. فأما المنتقل من الشتاء إلى فصل الربيع فإنه لا يكاد برد
الربيع يؤذيه ذلك الأذى
لأنه قد اعتاد جسمه برد الشتاء، فلا يصادف من برد الربيع إلا ما قد اعتاد ما هو
أكثر منه، فلا يظهر لبرد الربيع تأثير في مزاجه فأما لم أورقت الأشجار وأزهرت
في الربيع دون الخريف؟ فلما في الربيع من الكيفيتين اللتين هما منبع النمو والنفس النباتية،
وهما الحرارة والرطوبة وأما الخريف فخال من هاتين الكيفيتين ومستبدل بهما ضدهما،
319

وهما البرودة واليبس المنافيان للنشوء وحياة الحيوان والنبات. فأما لم كان الخريف
باردا يابسا والربيع حارا رطبا مع أن نسبة كل واحد منهما إلى الفصلين الخارجين
عن الاعتدال وهما الشتاء والصيف نسبة واحدة؟ فإن تعليل ذلك مذكور
في الأصول الطبية، والكتب الطبيعية، وليس هذا الموضع مما يحسن أن يشرح فيه
مثل ذلك
320

(125)
الأصل:
عظم الخالق عندك يصغر المخلوق في عينك
* * *
الشرح:
لا نسبة للمخلوق إلى الخالق أصلا وخصوصا البشر، لأنهم بالنسبة إلى فلك القمر كالذرة،
ونسبة فلك القمر كالذرة بالنسبة إلى قرص الشمس، بل هم (1) دون هذه النسبة مما (2)
يعجز الحاسب الحاذق عن حساب ذلك، وفلك القمر بالنسبة إلى الفلك المحيط دون هذه
النسبة، ونسبة الفلك المحيط إلى البارئ سبحانه كنسبة العدم المحض والنفي الصرف إلى
الموجود البائن، بل هذا القياس أيضا غير صحيح، لان المعدوم يمكن أن يصير موجودا
بائنا، والفلك لا يتصور أن يكون صانع العالم الواجب الوجود لذاته.
وعلى الجملة فالامر أعظم من كل عظيم، وأجل من كل جليل، ولا طاقة للعقول و
الأذهان أن تعبر عن جلالة ذلك الجناب وعظمته، بل لو قيل، إنها لا طاقة لها أن تعبر
عن جلال مصنوعاته الأولى المتقدمة علينا بالرتبة العقلية والزمانية لكان ذلك القول حقا
وصدقا، فمن هو المخلوق ليقال: إن عظم الخالق يصغره في
العين، ولكن كلامه (عليه
السلام) محمول على مخاطبة العامة الذين تضيق أفهامهم عما ذكرناه

(1) ساقط من ا، ب.
(2) ب: " بما "
321

(126)
الأصل:
وقال (عليه السلام)، وقد رجع من صفين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة
يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، والقبور المظلمة. يا أهل التربة،
يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة. يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، ونحن
لكم تبع لاحق، أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت،
وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟
ثم التفت إلى أصحابه فقال:
أما والله لو أذن لهم في الكلام، لأخبروكم أن خير الزاد التقوى.
* * *
الشرح:
الفرط: المتقدمون، وقد ذكرنا من كلام عمر ما يناسب هذا الكلام، لما ظعن
في القبور وعاد إلى أصحابه أحمر الوجه، ظاهر العروق، قال: قد وقفت على قبور الأحبة
فناديتها الحديث... إلى آخره، فقيل له: فهل أجابتك؟ قال: نعم، قالت: إن خير
الزاد التقوى.
وقد جاء في حديث القبور ومخاطبتها وحديث الأموات وما يتعلق بذلك شئ كثير
يتجاوز الإحصاء.
322

وفي وصية النبي (صلى الله عليه وآله) أبا ذر رضي الله عنه: زر القبور تذكر بها الآخرة
ولا تزرها ليلا، وغسل الموتى يتحرك قلبك، فإن الجسد الخاوي (1) عظة بليغة، وصل
على الموتى فإن ذلك يحزنك، فإن الحزين في ظل الله.
وجد على قبر مكتوبا:
مقيم إلى أن يبعث الله خلقة * لقاؤك لا يرجى وأنت رقيب
تزيد بلى في كل يوم وليلة * وتنسى كما تبلى وأنت حبيب
وقال الحسن (عليه السلام): مات صديق لنا صالح، فدفناه ومددنا على القبر ثوبا، فجاء
صله بن أشيم، فرفع طرف الثوب ونادى: يا فلان
إن تنج منها تنج من ذي عظيمة * وإلا فإني لا إخالك ناجيا
وفي الحديث المرفوع، أنه (عليه السلام) كان إذا تبع الجنازة أكثر الصمات (2)، ورئى
عليه كآبة ظاهرة، وأكثر حديث النفس.
سمع أبو الدرداء رجلا يقول في جنازة: من هذا؟ فقال أنت، فإن
كرهت فأنا.
سمع الحسن (عليه السلام) امرأة تبكي خلف جنازة، وتقول: يا أبتاه، مثل يومك لم
أره! فقال: بل أبوك مثل يومه لم يره.
وكان مكحول إذا رأى جنازة قال: اغد فإنا رائحون.
وقال ابن شوذب: اطلعت امرأة صالحة في لحد فقالت لامرأة معها: هذا كندوج
العمل - يعنى خزانته. وكانت تعطيها الشئ بعد الشئ تأمرها أن تتصدق به، فتقول:
اذهبي فضعي هذا في كندوج العمل.

(1) الخاوي: الخالي من الروح.
(2) الصمات، مصدر صمت.
323

شاعر: أجازعة ردينة أن أتاها * نعي أم يكون لها اصطبار!
إذا ما أهل قبري ودعوني * وراحوا والأكف بها غبار
وغودر أعظمي في لحد قبر * تراوحه الجنائب والقطار
تهب الريح فوق محط قبري * ويرعى حوله اللهق النوار (1)
مقيم لا يكلمني صديق * بقفر لا أزور ولا أزار
فذاك النأي لا الهجران حولا * وحولا ثم تجتمع الديار
وقال آخر: كأني بإخواني على حافتي قبري * يهيلونه فوقي وأدمعهم تجرى
فيا أيها المذرى على دموعه * ستعرض في يومين عنى وعن ذكرى
عفا الله عنى يوم أترك ثاويا * أزار فلا أدرى وأجفى فلا أدرى
وجاء في الحديث المرفوع: " ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه ".
وفي الحديث أيضا: " القبر أول منزل من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر،
ومن لم ينج منه فما بعده شر منه ".

(1) اللهق بالحريك: الثور الأبيض، والنوار: الناشز.
324

(127)
الأصل:
وقال (عليه السلام) وقد سمع رجلا يذم الدنيا:
أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها، المنخدع بأباطيلها، أتفتتن بها ثم تذمها!
أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك! متى استهوتك، أم متى غرتك!
أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى! كم عللت بكفيك،
وكم مرضت بيديك، تبتغى لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، غداة لا يغنى
عنهم دواؤك، ولا يجدي عليهم بكاؤك!
لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوتك،
وقد مثلت لك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك.
إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن
تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها. مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله،
ومهبط وحى الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة،
فمن ذا يذمها، وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، فمثلت
لهم ببلائها البلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور!
راحت بعافية وابتكرت بفجيعة، ترغيبا وترهيبا، وتخويفا وتحذيرا،
325

فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم الدنيا فذكروا،
وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا
* * *
الشرح:
تجرمت على فلان: ادعيت عليه جرما وذنبا، واستهواه كذا استزله.
وقوله (عليه السلام): " فمثلت لهم ببلائها البلاء "، أي بلاء الآخرة وعذاب جهنم،
وشوقتهم بسرورها إلى السرور أي إلى سرور الآخرة ونعيم الجنة.
وهذا الفصل كله لمدح الدنيا، وهو ينبئ عن اقتداره (عليه السلام) على ما يريد من المعاني،
لان كلامه كله في ذم الدنيا، وهو الان يمدحها، وهو صادق في ذاك وفى هذا، وقد جاء
عن النبي (صلى الله عليه وآله) كلام يتضمن مدح الدنيا أو قريبا من المدح، وهو قوله (عليه
السلام): " الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقها بورك له فيها ".
واحتذى عبد الله بن المعتز (1) حذو أمير المؤمنين (عليه السلام) في مدح الدنيا فقال في
كلام له: الدنيا دار التأديب (2) والتعريف، التي بمكروهها توصل إلى محبوب الآخرة، ومضمار
الأعمال السابقة بأصحابها إلى الجنان، ودرجة الفوز التي يرتقى عليها المتقون إلى دار الخلد،
وهي الواعظة لمن عقل، والناصحة لمن قبل، وبساط المهل، وميدان العمل، وقاصمة الجبارين،
وملحقة الرغم معاطس المتكبرين، وكاسية التراب أبدان المختالين، وصارعة المغترين،
ومفرقة أموال الباخلين، وقاتلة القاتلين والعادلة بالموت على جميع العالمين، وناصرة المؤمنين،
ومبيرة الكافرين. الحسنات فيها مضاعفة، والسيئات بآلامها ممحوة، ومع عسرها
يسران، والله تعالى قد ضمن أرزاق أهلها، وأقسم في كتابه بما فيها، ورب طيبة

(1) د: " المغيرة ".
(2) د: " التأدب ".
326

من نعيمها قد حمد الله عليها فتلقتها أيدي الكتبة ووجبت بها الجنة، وكم نائبة من
نوائبها، وحادثة من حوادثها، قد راضت الفهم، ونبهت الفطنة، وأذكت القريحة،
وأفادت فضيلة الصبر، وكثرت ذخائر الاجر.
ومن الكلام المنسوب إلى علي (عليه السلام) الناس أبناء الدنيا، ولا يلام المرء
على حب أمة، أخذه محمد بن وهب الحميري فقال:
ونحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها * وما كنت منه فهو شئ محبب
327

(128)
الأصل:
إن لله ملكا ينادى في كل يوم: لدوا للموت، واجمعوا للفناء، وابنوا
للخراب
* * *
الشرح:
هذه اللام عند أهل العربية تسمى لام العاقبة، ومثل هذا قوله تعالى: (فالتقطة
آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (1)، أو ليس
أنهم التقطوه لهذه العلة،
بل التقطوه فكان عاقبة التقاطهم إياه العداوة والحزن، ومثله:
* فللموت ما تلد الوالدة *
ومثله قوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم) (2)، أو ليس
أنه ذرأهم ليعذبهم في جهنم،
بل ذرأهم وكان عاقبة ذرئهم أن صاروا فيها، وبهذا الحرف يحصل الجواب عن كثير
من الآيات المتشابهة التي تتعلق بها المجبرة.
وأما فحوى هذا القول وخلاصته فهو التنبيه على أن الدنيا دار فناء وعطب،
لا دار بقاء وسلامة، وأن الولد يموت، والدور تخرب وما يجمع من الأموال يفنى.

(1) سورة القصص 008 (2) سورة الأعراف 179.
328

(129)
الأصل:
الدنيا دار ممر، لا دار (1) مقر، والناس فيها رجلان: رجل باع نفسه
فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها.
* * *
الشرح:
قال عمر بن عبد العزيز يوما لجلسائه: أخبروني من أحمق الناس؟ قالوا: رجل
باع آخرته بدنياه، فقال ألا أنبئكم بأحمق منه؟ قالوا: بلى، قال: رجل باع آخرته
بدنيا غيره.
قلت: لقائل أن يقول له: ذاك باع آخرته بدنياه أيضا، لأنه لو لم يكن له لذة
في بيع آخرته بدنيا غيره لما باعها، وإذا كان له في ذلك لذة، فإذن إنما باع آخرته بدنياه،
لان دنياه هي لذته.

(1) في د " إلى دار " والمعنى عليه يستقيم أيضا.
329

(130)
الأصل:
لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته.
* * *
الشرح:
قد تقدم لنا كلام في الصديق والصداقة، وأما النكبة وحفظ الصديق فيها فإنه يقال:
في الحبوس (1) مقابر الاحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء.
وأما الغيبة فإنه قد قال الشاعر:
وإذا الفتى حسنت مودته * في القرب ضاعفها على البعد
وأما الموت فقد قال الشاعر:
وإني لأستحيه والترب بيننا * كما كنت أستحيه وهو يراني
ومن كلام علي (عليه السلام): الصديق من صدق في غيبته.
قيل لحكيم: من أبعد الناس سفرا؟ قال: من سافر في ابتغاء الأخ الصالح.
أبو العلاء المعري:
أزرت بكم يا ذوي الألباب أربعة * يتركن أحلامكم نهب الجهالات
ود الصديق، وعلم الكيمياء وأحكام * النجوم، وتفسير المنامات
قيل للثوري: دلني على جليس أجلس إليه (2) قال: تلك ضالة لا توجد

(1) د: " الحبس ".
(2) د: " عنده ".
330

(131)
الأصل:
من أعطى أربعا لم يحرم أربعا: من أعطى الدعاء لم يحرم الإجابة، ومن
أعطى التوبة لم يحرم القبول، ومن أعطى الاستغفار لم يحرم المغفرة، ومن
أعطى الشكر لم يحرم الزيادة.
* * *
قال الرضى رحمه الله تعالى: وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال في الدعاء:
(ادعوني أستجب لكم) (1).
وقال في الاستغفار: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله
غفورا رحيما) (2).
وقال في الشكر: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (3).
وقال في التوبة: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون
من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما) (4).
* * *
الشرح:
في بعض الروايات أن ما نسب إلى الرضى رحمه الله من استنباط هذه المعاني من
الكتاب العزيز من متن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد سبق القول في كل واحدة
من هذه الأربع مستقصى.

(1) سورة غافر 60.
(2) سورة النساء 110.
(3) سورة إبراهيم 7.
(4) سورة النساء 17.
331

(132)
الأصل:
الصلاة قربان كل تقى، والحج جهاد كل ضعيف، ولكل شئ زكاة،
وزكاة البدن الصوم، وجهاد المرأة حسن التبعل.
* * *
الشرح:
قد تقدم القول في الصلاة والحج والصيام، فأما أن جهاد المرأة حسن التبعل،
فمعناه حسن معاشرة بعلها وحفظ ماله وعرضه، وإطاعته فيما يأمر به، وترك الغيرة
فإنها باب الطلاق.
* * *
[نبذ من الوصايا الحكيمة]
وأوصت امرأة من نساء العرب بنتها ليلة إهدائها (1) فقالت لها: لو تركت
الوصية لأحد لحسن أدب وكرم حسب، لتركتها لك، ولكنها تذكرة للغافل،
ومؤونة للعاقل. إنك قد خلفت العش الذي فيه درجت، والوكر الذي منه خرجت،
إلى منزل لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة، يكن لك عبدا، واحفظي عنى
خصالا عشرا:

(1) ليلة إهدائها، أي زوجها، يقال: هدى العروس إلى بعلها وأهداها هداء وإهداء.
332

أما الأولى والثانية، فحسن الصحابة بالقناعة، وجميل المعاشرة بالسمع والطاعة ففي حسن
الصحابة راحة القلب، وفى جميل المعاشرة رضا الرب.
والثالثة والرابعة، التفقد لمواقع عينة، والتعهد لمواضع أنفه، فلا تقع عينه منك على
قبيح، ولا يجد أنفه منك خبيث ريح، واعلمي أن الكحل أحسن الحسن المفقود، وأن
الماء أطيب الطيب الموجود
والخامسة والسادسة، الحفظ لماله، والإرعاء على حشمه وعياله، واعلمي أن أصل
الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، وأصل الإرعاء على الحشم والعيال حسن التدبير.
والسابعة والثامنة، التعهد لوقت طعامه، والهدوء والسكون عند منامه، فحرارة الجوع
ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
والتاسعة والعاشرة: لا تفشين له سرا، ولا تعصين له أمرا، فإنك أن أفشيت سره لم
تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره.
* * *
وأوصت امرأة ابنتها وقد أهدتها إلى بعلها، فقالت: كوني له فراشا، يكن لك
معاشا، وكوني له وطاء، يكن لك غطاء وإياك والاكتئاب إذا كان فرحا،
والفرح إذا كان كئيبا، ولا يطلعن منك على قبيح، ولا يشمن منك إلا
طيب ريح (1).
* * *
وزوج عامر بن الظرب ابنته من ابن أخيه، فلما أراد تحويلها قال لأمها: مري ابنتك
ألا تنزل مفازة إلا ومعها ماء، فإنه للأعلى جلاء، وللأسفل نقاء، ولا تكثر مضاجعته،
فإذا مل البدن مل القلب، ولا تمنعه شهوته، فإن الحظوة في المواقعة. فلم يلبث إلا
شهرا حتى جاءته مشجوجة، فقال لابن أخيه يا بنى ارفع عصاك عن بكرتك،

(1) د: " ريحا طيبا ".
333

فإن كان من غير أن تنفر بك فهو الداء الذي أو ليس
له دواء، وإن لم يكن بينكما وفاق ففراق،
الخلع أحسن من الطلاق، وأن تترك أهلك ومالك.
فرد عليه صداقها، وخلعها منه، فهو أول خلع كان في العرب. (1).
* * *
وأوصى الفرافصة الكلبي ابنته نائلة حين أهداها إلى عثمان، فقال: يا بنيه، إنك
تقدمين على نساء من نساء قريش هن أقدر على الطيب منك، ولا تغلبين على خصلتين:
الكحل والماء. تطهري حتى يكون ريح جلدك ريح شن أصابه مطر، وإياك والغيرة على
بعلك، فإنها مفتاح الطلاق.
* * *
وروى أبو عمرو بن العلاء قال: أنكح ضرار بن عمرو الضبي ابنته من معبد
ابن زرارة، فلما أخرجها إليه قال: يا بنية، أمسكي عليك الفضلين: فضل الغلمة،
وفضل الكلام.
قال أبو عمرو: وضرار هذا هو الذي رفع عقيرته بعكاظ، وقال: ألا إن شر حائل (2)
أم، فزوجوا الأمهات، قال: وذلك أنه صرع بين الرماح، فأشبل عليه إخوته لامه
حتى استنقذوه.
* * *
وأوصت أعرابية ابنتها عند إهدائها، فقالت لها: اقلعي زج رمحه، فإن أقر فاقلعي
سنانه، فإن أقر فاكسري العظام بسيفه، فإن أقر فاقطعي اللحم على ترسه، فإن أقر
فضعي الأكاف على ظهره، فإنما هو حمار.
وهذا هو قبح التبعل، وذكرناه نحن في باب حسن التبعل، لان الضد يذكر بضده.

(1) يقال: خلع الرجل امرأته وخالعها إذا افتدت منه بمال فطلقها وأبانها من نفسه.
(2) الحائل: التي لا تحمل.
334

(133)
الأصل:
استنزلوا الرزق بالصدقة
* * *
الشرح:
جاء في الحديث المرفوع - وقيل: إنه موقوف على عثمان: " تاجروا الله بالصدقة
تربحوا ".
وكان يقال: الصدقة صداق الجنة.
وفى الحديث المرفوع: " ما أحسن عبد الصدقة، إلا أحسن الله الخلافة
على مخلفيه ".
وعنه (صلى الله عليه وآله): " ما من مسلم يكسو مسلما ثوبا إلا كان في حفظ الله
ما دام منه رقعة ".
وقال عمر بن عبد العزيز: الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، الملك
والصدقة تدخلك عليه.
335

(134)
الأصل:
ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية.
* * *
الشرح:
هذا حق، لان من لم يوقن بالخلف ويتخوف الفقر يضن بالعطية، ويعلم أنه
إذا أعطى ثم أعطى استنفد ماله، واحتاج إلى الناس لانقطاع مادته، وأما من يوقن
بالخلف، فإنه يعلم أن الجود شرف لصاحبه، وأن الجواد ممدوح عند الناس،
فقد وجد الداعي إلى السماح - ولا صارف له - عنه لأنه يعلم أن مادته دائمة غير منقطعة،
فالصارف الذي يخافه من قدمناه ذكره مفقود في حقه، فلا جرم أنه يجود بالعطية!
336

(135)
الأصل:
تنزل المعونة على قدر المؤونة.
* * *
الشرح:
جاء في الحديث المرفوع: " من وسع وسع عليه، وكلما كثر العيال كثر الرزق ".
وكان على بعض الموسرين رسوم لجماعة من الفقراء يدفعها إليهم كل سنة،
فاستكثرها، فأمر كاتبه بقطعها، فرأى في المنام كأن له أهواء كثيرة في داره،
وكأنها تصعدها أقوام من الأرض إلى السماء، وهو يجزع من ذلك، فيقول: يا رب
رزقي رزقي! فقيل له: إنما رزقناك هذه لتصرفها فيما كنت تصرفها فيه، فإذ قطعت ذلك
رفعناها منك، وجعلناها لغيرك. فلما أصبح أمر كاتبه بإعادة تلك الرسوم أجمع.
337

(136)
الأصل:
ما عال من اقتصد.
* * *
الشرح:
ما عال، أي ما افتقر، وقد تقدم لنا قول مقنع في مدح الاقتصاد.
وقال أبو العلاء:
وإن كنت تهوى العيش فابغ توسطا * فعند التناهي يقصر المتطاول (1)
توقى البدور النقص وهي أهله * ويدركها النقصان وهي كوامل
وهذا الشعر وإن كان في الاقتصاد في المراتب والولايات، إلا أنه مدح للاقتصاد
في الجملة، فهو من هذا الباب.
وسمع بعض الفضلاء قول الحكماء: التدبير نصف العيش، فقال: بل العيش كله.
338

(137)
الأصل:
قلة العيال أحد اليسارين.
* * *
الشرح:
اليسار الثاني كثرة المال، يقول إن قلة العيال مع الفقر كاليسار الحقيقي مع
كثرتهم.
ومن أمثال الحكماء: العيال أرضة المال
339

(138)
الأصل:
التودد نصف العقل:
* * *
الشرح:
دخل حبيب بن شوذب على جعفر بن سليمان بالبصرة، فقال: نعم المرء حبيب
ابن شوذب! حسن التودد، طيب الثناء، يكره الزيارة المتصلة، والقعدة المنسية.
وكان يقال: التودد ظاهر حسن، والمعاملة بين الناس على الظاهر، فأما البواطن
فإلى عالم الخفيات.
وكان يقال: قل من تودد إلا صار محبوبا، والمحبوب مستور العيوب.
340

(139)
الأصل:
والهم نصف الهرم.
* * *
الشرح:
من كلام بعض الحكماء: الهم يشيب القلب، ويعقم العقل، فلا يتولد معه رأى،
ولا تصدق معه روية.
وقال الشاعر:
هموم قد أبت إلا التباسا * تبت الشيب في رأس الوليد
وتقعد قائما بشجا حشاه * وتطلق للقيام حبا القعود
وأضحت خشعا منها نزار * مركبة الرواجب في الخدود
وقال سفيان بن عيينة: الدنيا كلها هموم وغموم، فما كان منها سرور فهو ربح.
ومن أمثالهم: الهم كافور الغلمة.
وقال أبو تمام: شاب رأسي وما رأيت مشيب الرأس إلا من فضل شيب الفؤاد (1)
وكذاك القلوب في كل بؤس * ونعيم طلائع الأجساد
طال إنكاري البياض ولو عمر * ت شيئا أنكرت لون السواد (2)

(1) ديوانه 1: 360.
(2) الديوان: " وإن عمرت ".
341

(140)
الأصل:
ينزل الصبر على قدر المصيبة، ومن ضرب يده على فخذه عند مصيبته
حبط أجره.
* * *
الشرح:
قد مضى لنا كلام شاف في الصبر، وكان الحسن يقول في قصصه: الحمد لله الذي
كلفنا ما لو كلفنا غيره لصرنا فيه إلى معصيته، وآجرنا على ما لا بد لنا منه، يقول:
كلفنا الصبر، ولو كلفنا الجزع لم يمكنا أن نقيم عليه، وآجرنا على الصبر ولابد لنا من
الرجوع إليه.
ومن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، كان يقول عند التعزية: عليكم بالصبر، فإن به
يأخذ الحازم، ويعود إليه الجازع.
وقال أبو خراش الهذلي يذكر أخاه عروة:
تقول أراه بعد عروة لاهيا * وذلك رزء لو علمت جليل (1)
فلا تحسبي أنى تناسيت عهده * ولكن صبري يا أميم جميل
وقال عمرو بن معديكرب:
كم من أخ لي صالح * بوأته بيدي لحدا (2)

(1) ديوان الهذليين 2: 116.
(2) ديوان الحماسة 1: 17، 175 - بشرح التبريزي
342

ألبسته أكفانه * وخلقت يوم خلقت جلدا
وكان يقال: من حدث نفسه بالبقاء، ولم يوطنها على المصائب، فهو عاجز الرأي.
وكان يقال: كفى باليأس معزيا، وبانقطاع الطمع زاجرا!
وقال الشاعر:
أيا عمرو لم أصبر ولى فيك حيلة * ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر
تصبرت مغلوبا وإني لموجع كما صبر القطان في البلد القفر
343

(141)
الأصل:
كم من صائم أو ليس
له من صيامه إلا الجوع والظما، وكم من قائم أو ليس
له
من قيامه إلا السهر والعناء حبذا. نوم الأكياس وإفطارهم!
* * *
الشرح:
الأكياس هاهنا العلماء العارفون، وذلك لان عباداتهم تقع مطابقة لعقائدهم
الصحيحة، فتكون فروعا راجعة إلى أصل ثابت، وليس كذلك الجاهلون بالله تعالى،
لأنهم إذا لم يعرفوه ولم تكن عباداتهم متوجهة إليه فلم تكن مقبولة، ولذلك فسدت
عبادة النصارى واليهود.
وفيهم ورد قوله تعالى: (عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية) (1).

(1) سورة الغشية 3، 4.
344

(142)
الأصل: سوسوا إيمانكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء
بالدعاء.
* * *
الشرح:
قد تقدم الكلام في الصدقة والزكاة والدعاء، فلا معنى لإعادة القول في ذلك.
345

(143)
الأصل:
ومن كلام له (عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي:
قال كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
فأخرجني إلى الجبان، فلما أصحر تنفس الصعداء، ثم قال:
يا كميل بن زياد، إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ عنى
ما أقول لك.
الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع
كل ناعق يميلون مع كل ريح لم، يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى
ركن وثيق.
يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال.
والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكوا على الانفاق، وصنيع المال يزول بزواله.
يا كميل بن زياد، معرفة العلم دين يدان به، به يكسب الانسان الطاعة
في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته. والعلم حاكم، والمال محكوم عليه.
يا كميل بن زياد، هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي
الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. ها إن هاهنا لعلما جما
- وأشار إلى صدره - لو أصبت له حملة! بلى أصيب لقنا غير مأمون عليه،
مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهرا بنعم الله على عباده، وبحججه على أوليائه،
346

أو منقادا لحملة الحق، لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول
عارض من شبهة ألا لاذا ولا ذاك، أو منهوما باللذة، سلس القياد للشهوة،
أو مغرما بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شئ، أقرب شئ شبها بهما
الانعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه.
اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهرا مشهورا،
وإما خائفا مغمورا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته.
وكم ذا وأين! أولئك و الله الأقلون عددا، والأعظمون عند الله قدرا،
يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب
أشباههم. هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا
ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان
أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه،
آه آه شوقا إلى رؤيتهم!
انصرف يا كميل إذا شئت.
* * *
الشرح:
الجبان والجبانة: الصحراء.
وتنفس الصعداء، أي تنفس تنفسا ممدودا طويلا.
قوله (عليه السلام): " ثلاثة " قسمة صحيحة، وذلك لان البشر باعتبار الأمور الإلهية:
إما عالم على الحقيقة يعرف الله تعالى، وإما شارع في ذلك فهو بعد في السفر إلى الله
يطلبه بالتعلم والاستفادة من العالم، وإما لا ذا ولا ذاك، وهو العامي الساقط الذي
347

لا يعبأ. الله وصدق (عليه السلام) في أنهم همج رعاع أتباع كل ناعق، ألا تراهم ينتقلون
من التقليد لشخص إلى تقليد الاخر، لأدنى خيال وأضعف وهم!
ثم شرع (عليه السلام) في ذكر العلم وتفضيله على المال، فقال: " العلم يحرسك،
وأنت تحرس المال "، وهذا أحد وجوه التفضيل.
ثم ابتدأ فذكر وجها ثانيا، فقال: المال ينقص بالانفاق منه، والعلم لا ينقص
بالانفاق بل يزكو، وذلك لان إفاضة العلم على التلامذة تفيد المعلم زيادة استعداد،
وتقرر في نفسه تلك العلوم التي أفاضها على تلامذته وتثبتها وتزيدها رسوخا.
فأما قوله: " وصنيع المال يزول بزواله "، فتحته سر دقيق حكمي، وذلك لان المال
إنما يظهر أثره ونفعه في الأمور الجسمانية، والملاذ الشهوانية، كالنساء والخيل والأبنية
والمأكل والمشرب والملابس ونحو ذلك، وهذه الآثار كلها تزول بزوال
المال أو بزوال
رب المال ألا ترى أنه إذا زال المال اضطر صاحبه إلى بيع الأبنية والخيل والإماء،
ورفض تلك العادة من المآكل الشهية والملابس البهية! وكذلك إذا زال رب المال
بالموت، فإنه تزول آثار
المال عنده: فإنه لا يبقى بعد الموت آكلا شاربا لابسا، وأما آثار
العلم فلا يمكن أن تزول أبدا والانسان في الدنيا، ولا بعد خروجه عن الدنيا، أما في الدنيا
فلان العالم بالله تعالى لا يعود جاهلا به، لان انتفاء العلوم البديهية عن الذهن
وما يلزمها من اللوازم بعد حصولها محال، فإذا قد صدق قوله (عليه السلام) في الفرق بين
المال والعلم: " إن صنيع المال يزول بزواله "، أي وصنيع المال لا يزول ولا يحتاج إلى أن
يقول " بزواله " لان تقدير الكلام: وصنيع المال يزول، لان المال يزول، وأما بعد خروج
الانسان من الدنيا فإن صنيع العلم لا يزول وذلك لان صنيع العلم في النفس الناطقة
اللذة العقلية الدائمة لدوام سببها، وهو حصول العلم في جوهر النفس الذي هو ممشوق
348

النفس مع انتفاء ما يشغلها عن التمتع به، والتلذذ بمصاحبته، والذي كان يشغلها عنه في
الدنيا استغراقها في تدبير البدن، وما تورده عليها الحواس من الأمور الخارجية، ولا ريب
أن العاشق إذا خلا بمعشوقه، وانتفت عنه أسباب الكدر، كان في لذة عظيمة، فهذا هو
سر قوله: " وصنيع المال يزول بزواله ".
فإن قلت: ما معنى قوله (عليه السلام): " معرفة العلم دين يدان به "، وهل هذا إلا
بمنزله قولك: معرفة المعرفة أو علم! العلم وهذا كلام مضطرب.
قلت: تقديره معرفة فضل العلم أو شرف العلم، أو وجوب العلم دين يدان به، أي
المعرفة بذلك من أمر الدين، أي ركن من أركان الدين واجب مفروض.
ثم شرح (عليه السلام) حال العلم الذي ذكر أن معرفة وجوبه أو شرفه دين يدان به،
فقال: " العلم يكسب الانسان الطاعة في حياته "، أي من كان عالما كان لله تعالى مطيعا،
كما قال سبحانه: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (1).
ثم قال: " وجميل الأحدوثة بعد وفاته "، أي الذكر الجميل بعد موته.
ثم شرع في تفضيل العلم على المال من وجه آخر، فقال: " العلم حاكم، والمال
محكوم عليه "، وذلك لعلمك أن مصلحتك في إنفاق هذا المال تنفقه، ولعلمك بأن
المصلحة في إمساكه تمسكه، فالعلم بالمصلحة، داع وبالمضرة صارف، وهما الأمران
لحاكمان بالحركات والتصرفات إقداما، وإحجاما، ولا يكون القادر قادرا مختارا
إلا باعتبارهما، وليسا إلا عبارة عن العلم أو ما يجرى مجرى العلم من الاعتقاد والظن،
فإذن قد بان وظهر أن العلم من حيث هو علم حاكم، وأن المال أو ليس
بحاكم،
بل محكوم عليه.

(1) سورة فاطر 28.
349

ثم قال (عليه السلام): " هلك خزان المال وهم أحياء وذلك لان المال المخزون لا فرق
بينه وبين الصخرة المدفونة تحت الأرض، فخازنه هالك لا محالة، لأنه لم يلتذ بإنفاقه، ولم
يصرفه في الوجوه التي ندب الله تعالى إليها، وهذا هو الهلاك المعنوي، وهو أعظم من
الهلاك الحسى.
ثم قال: " والعلماء باقون ما بقي الدهر "، هذا الكلام له ظاهر وباطن فظاهره قوله:
" أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة "، أي آثارهم وما دونوه من العلوم،
فكأنهم موجودون، وباطنه أنهم موجودون حقيقة لا مجازا، على قول من قال ببقاء
الأنفس، وأمثالهم في القلوب كناية ولغز، ومعناه ذواتهم في حظيرة القدوس، والمشاركة
بينها وبين القلوب ظاهرة، لان الامر العام الذي يشملها هو الشرف، فكما أن تلك
أشرف عالمها، كذا القلب أشرف عالمه، فاستعير لفظ أحدهما وعبر به عن الاخر.
قوله (عليه السلام): " ها إن هاهنا لعلما جما، وأشار بيده إلى صدره "، هذا عندي
إشارة إلى العرفان والوصول إلى المقام الأشرف الذي لا يصل إليه إلا الواحد الفذ من
العالم ممن لله تعالى فيه سر، وله به اتصال.
ثم قال: " لو أصبت له حملة! " ومن الذي يطيق حمله! بل من الذي يطيق فهمه
فضلا عن حمله!
ثم قال: " بلى أصيب ".
ثم قسم الذي يصيبهم خمسه أقسام:
أحدهم أهل الرياء والسمعة، الذين يظهرون الدين والعلم ومقصودهم الدنيا، فيجعلون
الناموس الديني شبكة لاقتناص الدنيا.
وثانيها: قوم من أهل الخير والصلاح ليسوا بذوي بصيرة في الأمور الإلهية الغامضة،
350

فيخاف من إفشاء السر إليهم أن تنقدح في قلوبهم شبهة بأدنى خاطر، فإن مقام
المعرفة مقام خطر صعب لا يثبت تحته إلا الافراد من الرجال، الذين أيدوا
بالتوفيق والعصمة.
وثالثها: رجل صاحب لذات وطرب مشتهر بقضاء الشهوة، فليس من رجال
هذا الباب.
ورابعها: رجل عرف بجمع المال وادخاره، لا ينفقه في شهواته ولا في غير شهواته،
فحكمه حكم القسم الثالث.
ثم قال (عليه السلام): " كذلك يموت العلم بموت حاميه "، أي إذا مت مات العلم
الذي في صدري، لأني لم أجد أحدا أدفعه، إليه، وأورثه إياه. ثم استدرك فقال:
" اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله تعالى " كيلا يخلو الزمان ممن هو مهيمن
لله تعالى على عباده، ومسيطر عليهم، وهذا يكاد يكون تصريحا بمذهب الإمامية، إلا أن
أصحابنا يحملونه على أن المراد به الابدال الذين وردت الاخبار النبوية عنهم أنهم في الأرض
سائحون، فمنهم من يعرف، ومنهم من لا يعرف، وإنهم لا يموتون حتى يودعوا السر،
وهو العرفان عند قوم آخرين يقومون مقامهم.
ثم استنزر عددهم فقال: " وكم ذا! " أي كم ذا القبيل! وكم ذا الفريق!
ثم قال: " وأين أولئك! " استبهم مكانهم ومحلهم.
ثم قال: " هم الأقلون عددا، الأعظمون قددا ".
ثم ذكر أن العلم هجم بهم على حقيقة الامر، وانكشف لهم المستور المغطى، وباشروا
راحة اليقين وبرد القلب وثلج العلم، واستلانوا ما شق على المترفين من الناس، ووعر
عليهم نحو التوحد ورفض الشهوات وخشونة العيشة.
351

قال: " وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون "، يعنى العزلة ومجانبة الناس، وطول
الصمت، وملازمة الخلوة، ونحو ذلك مما هو شعار القوم.
قال: " وصحبوا الدنيا بأرواح أبدانها معلقة بالمحل الأعلى "، هذا مما يقوله أصحاب
الحكمة من تعلق النفوس المجردة بمبادئها من العقول المفارقة، فمن كان أزكى كان
تعلقه بها أتم.
ثم قال: " أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه "، لا شبهة أن بالوصول
يستحق الانسان أن يسمى خليفة الله في أرضه، وهو المعنى بقوله سبحانه للملائكة
(أنى جاعل في الأرض خليفة) (1)، وبقوله: (هو الذي جعلكم خلائف
في الأرض) (2).
ثم قال: " آه آه شوقا إلى رؤيتهم؟ "، هو (عليه السلام) أحق الناس بأن يشتاق إلى
رؤيتهم، لان الجنسية علة الضم، والشئ يشتاق إلى ما هو من سنخه وسوسته وطبيعته،
ولما كان هو (عليه السلام) شيخ العارفين وسيدهم، لا جرم. اشتاقت نفسه الشريفة إلى
مشاهدة أبناء جنسه، وإن كان كل واحد من الناس دون طبقته.
ثم قال لكميل: " انصرف إذا شئت "، وهذه الكلمة من محاسن الآداب، ومن
لطائف الكلم، لأنه لم يقتصر على أن قال " انصرف " كيلا يكون أمرا وحكما بالانصراف
لا محالة، فيكون فيه نوع علو عليه، فاتبع ذلك بقوله: " إذا شئت " ليخرجه من ذل
الحكم وقهر الامر إلى عزة المشيئة والاختيار.
352

(144)
الأصل:
المرء مخبوء تحت لسانه.
* * *
الشرح:
قد تكرر هذا المعنى مرارا، فأما هذه اللفظة فلا نظير لها في الايجاز والدلالة على المعنى،
وهي من ألفاظه (عليه السلام) المعدودة.
وقال الشاعر:
وكائن ترى من صامت لك معجب * زيادته أو نقصه في التكلم (1)
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وتكلم عبد الملك بن عمير وأعرابي حاضر، فقيل له: كيف ترى هذا؟ فقال:
لو كان كلام يؤتدم به لكان هذا الكلام مما يؤتدم به.
وتكلم جماعة من الخطباء عند مسلمة بن عبد الملك فأسهبوا في القول، ولم يصنعوا
شيئا، ثم أفرغ النطق رجل من أخرياتهم، فجعل لا يخرج من فن إلا إلى أحسن منه،
فقال مسلمة: ما شبهت كلام هذا بعقب كلام هؤلاء (2) إلا بسحابة لبدت عجاجة.
وسمع رجل منشدا ينشد
وكان أخلائي يقولون مرحبا * فلما رأوني مقترا مات مرحب

(1) ينسبان لزهير، من معلقته 94 بشرح الزوزني.
(2) بعدها في د: " أصحابه ".
353

فقال: أخطأ الشاعر، إن مرحبا لم يمت، وإنما قتله علي بن أبي طالب (عليه السلام)!
وقال رجل لأعرابي: كيف أهلك؟ قال: صلبا إن شاء الله.
وكان مسلمة بن عبد الملك يعرض الجند، فقال لرجل: ما اسمك؟ فقال: " عبد الله،
وخفض، فقال ابن من؟ فقال: ابن " عبد " الله، وفتح، فأمر بضربه، فجعل يقول:
" سبحان " الله، ويضم، فقال مسلمة: ويحكم! دعوه فإنه مجبول على اللحن والخطأ،
لو كان تاركا للحن في وقت لتركه وهو تحت السياط.
354

(145)
الأصل:
هلك امرؤ لم يعرف قدره.
* * *
الشرح:
هذه الكلمة من كلماته المعدودة. وكتب النعمان بن عبد الله إلى القاسم بن عبيد الله
كتابا يدل فيه بخدمته، ويستزيد في رزقه، فوقع على ظهره: رحم الله امرأ عرف
قدره! أنت رجل قد أعجبتك نفسك فلست تعرفها، فإن أحببت أن أعرفكها عرفتك.
فكتب إليه النعمان كنت كتبت إلى الوزير أعزه الله كتابا أستزيده في رزقي، فوقع
على ظهره توقيع ضجر لم يخرج فيه مع ضجره عما ألفته من حياطته وحسن نظره، فقال:
إنه قد حدث لعبده عجب بنفسه، وقد صدق - أعلى الله قدره - لقد شرفني الوزير
بخدمته، وأعلى ذكرى بجميل ذكره، ونبه على كفايتي باستكفائه، ورفعني وكثرني (1)
عند نفسي، فإن أعجبت فبنعمته عندي، وجميل تطوله على، ولا عجب، وهل خلا
الوزير من قوم يصطنعهم بعد ملة ويرفعهم بعد خمول، ويحدث لهم همما رفيعة وأنفسا
عليه، وفيهم شاكر وكفور، وأرجو أن أكون أشكرهم للنعمة، وأقومهم بحقها.
وقد أطال الله بقاءه: إن عرف نفسه وإلا عرفناه إياها، فما أنكرها، وهي نفس أنشأتها
نعمة الوزير وأحدثت فيها ما لم تزل تحدثه في نظرائها من سائر عبيده وخدمه، والله
يعلم ما يأخذ به نفسه من خدمة مولاه وولى نعمته، إما عادة ودربة وإما تأدبا وهيبة،
وإما شكرا واستدامة للنعمة.
فلما قرأ القاسم بن عبيد الله كتابه استحسنه، وزاد في رزقه

(1) ب: " كبرني ".
355

(146)
الأصل:
وقال (عليه السلام) لرجل سأله أن يعظه:
لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويرجو التوبة بطول الامل،
يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين، إن أعطى منها
لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتى، ويبتغي الزيادة
فيما بقي، ينهى ولا ينتهى، ويأمر الناس بما لم يأت.
يحب الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو أحدهم، يكره
الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت من أجله، إن سقم ظل نادما،
وإن صح أمن لاهيا. يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلى! وإن أصابه بلاء
دعا مضطرا، وإن ناله رخاء أعرض مغترا، تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها
على ما يستيقن، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، ويرجو لنفسه بأكثر من عمله.
إن استغنى بطر وفتن، وإن افتقر قنط ووهن، يقصر إذا عمل، ويبالغ إذا سأل،
إن عرضت له شهوة أسلف المعصية، وسوف التوبة، وإن عرته محنة انفرج
عن شرائط الملة.
يصف العبرة، ولا يعتبر ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ، فهو بالقول مدل
ومن العمل مقل.
ينافس فيما يفنى، ويسامح فيما يبقى، يرى الغنم مغرما، والغرم مغنما،
يخشى الموت، ولا يبادر الفوت، يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه
356

من نفسه، ويستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره، فهو على الناس طاعن،
ولنفسه مداهن.
اللغو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيره لنفسه،
ولا يحكم عليها لغيره، يرشد نفسه ويغوي غيره (1)، فهو يطاع ويعصى، ويستوفى
ولا يوفى، ويخشى الخلق في غير ربه، ولا يخشى ربه في خلقه.
* * *
قال الرضى رحمه الله تعالى:
ولو لم يكن في هذا الكتاب إلا هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة، وحكمة
بالغة، وبصيرة لمبصر، وعبرة لناظر مفكر.
* * *
الشرح:
كثير من الناس يرجون الآخرة بغير عمل، ويقولون: رحمه الله واسعه، ومنهم من
يظن أن التلفظ بكلمتي الشهادة كاف في دخول الجنة، ومنهم من يسوف نفسه بالتوبة،
ويرجئ الأوقات من اليوم إلى غد، وقد يخترم على غرة فيفوته ما كان أمله، وأكثر هذا
الفصل للنهي عن أن يقول الانسان واعظا لغيره ما لم يعلم هو من نفسه، كقوله تعالى:
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) (2).
فأول كلمة قالها (عليه السلام) في هذا المعنى من هذا الفصل قوله: " يقول في الدنيا بقول
الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين ".

(1) د: " يرشد غيره ويغوي نفسه ".
(2) سورة البقرة 44.
357

ثم وصف صاحب هذا المذهب وهذه الطريقة فقال: " إنه إن أعطى من الدنيا
لم يشبع "، لان الطبيعة البشرية مجبولة على حب الازدياد، وإنما يقهرها أهل التوفيق
وأرباب العزم القوى.
قال: " وإن منع منها لم يقنع " بما كان وصل إليه قبل المنع.
ثم قال: يعجز عن شكر ما كان أنعم به عليه، أو ليس
يعنى العجز الحقيقي، بل المراد
ترك الشكر، فسمى ترك الشكر عجزا. ويجوز أن يحمل على حقيقته، أي أن الشكر
على ما أولى من النعم لا تنتهي قدرته إليه، أي نعم الله عليه أجل وأعظم من أن يقام
بواجب شكرها.
قال: " ويبتغي الزيادة فيما بقي "، هذا راجع إلى النحو الأول.
قال: " ينهى ولا ينتهى ويأمر الناس بما لا يأتي "، هذا كما تقدم.
قال: " يحب الصالحين ولا يعمل عملهم "، إلى قوله: " وهو أحدهم "، وهو المعنى
الأول بعينه.
قال: يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على الذنوب، وهذا من العجائب
أن يكره إنسان شيئا ثم يقيم عليه، ولكنه الغرور وتسويف النفس بالأماني.
ثم قال: " إن سقم ظل نادما، وإن صح أمن لاهيا "، (فإذا ركبوا في الفلك
دعوا الله مخلصين له الدين) (1).... الآيات.
قال: " يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلى " (فأما الانسان إذا ما ابتلاه
ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه
فيقول ربى أهانن) ومثل الكلمة الأخرى: " إن أصابه بلاء "، " وإن ناله
رخاء ".

(1) سورة العنكبوت 65.
(2) سورة الفجر 15، 16.
358

ثم قال: " تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن "، هذه كلمة جليلة عظيمة
يقول: هو يستيقن الحساب والثواب والعقاب، ولا يغلب نفسه على مجانبة ومتاركة
ما يفضي به إلى ذلك الخطر العظيم، وتغلبه نفسه على السعي إلى ما يظن أن فيه لذة عاجلة،
فوا عجبا ممن يترجح عنده جانب الظن على جانب العلم! وما ذاك إلا لضعف يقين الناس
وحب العاجل.
ثم قال: " يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، ويرجو لنفسه أكثر من عمله "،
ما يزال يرى الواحد منا كذلك يقول: إني لخائف على فلان من الذنب الفلاني وهو مقيم
على أفحش من ذلك الذنب، ويرجو لنفسه النجاة بما لا تقوم أعماله الصالحة بالمصير إلى النجاة به،
نحو أن يكون يصلى ركعات في الليل أو يصوم أياما يسيرة في الشهر، ونحو ذلك.
قال: " إن استغنى بطر وفتن، وإن افتقر قنط ووهن " قنط بالفتح يقنط
بالكسر، قنوطا مثل جلس يجلس جلوسا، ويجوز قنط يقنط بالضم مثل قعد يقعد، وفيه
لغة: ثالثه قنط يقنط قنطا، مثل تعب يتعب تعبا وقناطة فهو قنط، وبه قرئ:
(فلا تكن من القانطين) (1)، والقنوط الياس. ووهن الرجل يهن، أي ضعف
وهذا المعنى قد تكرر.
قال: " يقصر إذا عمل، ويبالغ إذا سئل "، هذا مثل ما مدح به النبي (صلى الله
عليه وآله) الأنصار: " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع ".
قال: " إن عرضت له شهوة أسلف المعصية، وسوف التوبة، وإن عرته محنة انفرج
عن شرائط الملة "، هذا كما قيل: أمدحه نقدا ويثيبني نسيئة، وانفرج عن شرائط الملة،
قال: أو فعل ما يقتضى الخروج عن الدين، وهذا موجود في كثير من الناس إذا عرته المحن
كفروا أو قال: ما يقارب الكفر من التسخط والتبرم والتأفف.

(1) سورة الحجر 55، وهي قراءة الأعمش ويحي بن وثاب، وانظر تفسير القرطبي 10: 36.
359

قال: " يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ "، هذا هو المعنى
الأول.
قال: " فهو بالقول مدل، ومن العمل مقل "، هذا هو المعنى أيضا.
قال: " ينافس فيما يفنى "، أي في شهوات الدنيا ولذاتها، و " يسامح فيما يبقى "
أي في الثواب.
قال: " يرى الغنم مغرما، والغرم مغنما "، هذا هو المعنى الذي ذكرناه آنفا.
قال: " يخشى الموت، ولا يبادر الفوت "، قد تكرر هذا المعنى في هذا الفصل.
وكذلك قوله: " يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه... "،
وإلى آخر الفصل كل مكرر المعنى وإن اختلفت الألفاظ، وذلك لاقتداره (عليه السلام)
على العبارة، وسعة مادة النطق عنده.
360

(147)
الأصل:
لكل امرئ عاقبة حلوة أو مرة.
* * *
الشرح:
هكذا قرأناه ووجدناه في كثير من النسخ، ووجدناه في كثير منها " لكل أمر
عاقبة "، وهو الأليق ومثل هذا المعنى قولهم في المثل: لكل سائل قرار، وقد
أخذه الطائي فقال:
فكانت لوعة ثم استقرت * كذلك لكل سائلة قرار (1)
وقال الكميت في مثل هذا: فالآن صرت إلى أمية * والأمور إلى مصاير (2)
فأما الرواية الأولى وهي: " لكل امرئ " فنظائرها في القرآن كثيرة، نحو قوله تعالى:
(يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد) (3)، وقوله: (يوم يتذكر
الانسان ما سعى * وبرزت الجحيم لمن يرى * فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا فإن
الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي
المأوى) (4)، وغير ذلك من الآيات.

(1) ديوانه 2: 153.
(2) الأغاني 15: 111 (ساسي).
(3) سورة هود 105.
(4) سورة والنازعات 35 - 41.
361

(148)
الأصل:
الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان: إثم
العمل به، وإثم الرضا به.
* * *
الشرح:
لا فرق بين الرضا بالفعل وبين المشاركة فيه، ألا ترى أنه إذا كان ذلك الفعل قبيحا
استحق الراضي به الذم كما يستحقه الفاعل له! والرضا يفسر على وجهين: الإرادة، وترك
الاعتراض، فإن كان الإرادة فلا ريب أنه يستحق الذم لان مريد القبيح فاعل للقبيح، وإن
كان ترك الاعتراض مع القدرة على الاعتراض فلا ريب أنه يستحق الذم أيضا، لان تارك
النهى عن المنكر مع ارتفاع الموانع يستحق الذم.
فأما قوله (عليه السلام) " وعلى كل داخل في باطل إثمان "، فإن أراد الداخل فيه
بأن يفعله حقيقة فلا شبهة في أنه يأثم من جهتين:
إحداهما من حيث إنه أراد القبيح.
والأخرى من حيث إنه فعله، وإن كان قوم من أصحابنا قالوا: إن عقاب المراد هو
عقاب الإرادة.
وإن أراد أن الراضي بالقبيح فقط يستحق إثمين: أحدهما لأنه رضى به، والاخر
لأنه كالفاعل، فليس الامر على ذلك، لأنه أو ليس
بفاعل للقبيح حقيقة ليستحق الاثم من
جهة الإرادة ومن جهة الفعلية جميعا، فوجب إذن أن يحمل كلامه عليه السلام) على
الوجه الأول.
362

(149)
الأصل:
لكل مقبل إدبار، وما أدبر فكأن لم يكن.
* * *
الشرح:
هذا معنى قد استعمل كثيرا جدا، فمنه المثل:
ما طار طير وارتفع * إلا كما طار وقع
وقول الشاعر:
بقدر العلو يكون الهبوط * وإياك والرتب العالية
وقال بعض الحكماء: حركة الاقبال بطيئة، وحركة الادبار سريعة، لان المقبل
كالصاعد إلى مرقاة، ومرقاة المدبر كالمقذوف به من علو إلى أسفل، قال الشاعر:
في هذه الدار في هذا الرواق على * هذى الوسادة كان العز فانقرضا
آخر:
إن الأمور إذا دنت لزوالها * فعلامة الادبار فيها تظهر
وفى الخبر المرفوع: كانت ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) العضباء لا تسبق،
فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتد على الصحابة ذلك، فقال رسول الله (صلى الله
عليه وآله): " إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه ".
وقال شيخ من همدان: بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكلاع بهدايا، فمكثت
363

تحت قصره حولا لا أصل إليه، ثم أشرف إشرافة من كوة له فخر له من حول
العرش سجدا، ثم رأيته بعد ذلك بحمص فقيرا يشترى اللحم ويسمطه (1) خلف دابته،
وهو القائل:
أف لدنيا إذا كانت كذا * أنا منها في هموم وأذى
إن صفا عيش امرئ في صبحها * جرعته ممسيا كأس القذى
ولقد كنت إذا ما قيل من * أنعم العالم عيشا؟ قيل: ذا
وقال بعض الأدباء في كلام له: بينا هذه الدنيا ترضع بدرتها وتصرح (2) بزبدتها، وتلحف
فضل جناحها، وتغر بركود رياحها، إذ عطفت عطف الضروس، وصرخت صراخ (3)
الشموس، وشنت غارة الهموم، وأراقت ما حلبت من النعيم، فالسعيد من لم يغتر بنكاحها،
واستعد لو شك طلاقها.
شاعر - هو إهاب بن همام بن صعصعة المجاشعي، وكان عثمانيا:
لعمر أبيك فلا تكذبن * لقد ذهب الخير إلا قليلا
وقد فتن الناس في دينهم * وخلى ابن عفان شرا طويلا
وقال أبو العتاهية:
يعمر بيت بخراب بيت * يعيش حي بتراث ميت
وقال أنس بن مالك: ما من يوم ولا ليلة ولا شهر ولا سنة إلا والذي قبله خير منه،
سمعت ذلك من نبيكم (عليه السلام)، فقال شاعر:
رب يوم بكيت منه فلما * صرت في غيره بكيت عليه

(1) يسمطه، أي يعلقه.
(2) ب: " نصرخ "، تحريف.
(3) ب: " صرحت " تحريف.
364

قيل لبعض عظماء الكتاب بعد ما صودر: ما تفكر في زوال نعمتك؟ فقال: لا بد
من الزوال، فلان تزول وأبقى خير من أن أزول وتبقى.
ومن كلام الجاهلية الأولى: كل مقيم شاخص، وكل زائد ناقص.
شاعر:
إنما الدنيا دول * فراحل قيل نزل
* إذ نازل قيل رحل *
لما فتح خالد بن الوليد عين التمر سأل عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر، فأتاها
وسألها عن حالها، فقالت: لقد طلعت علينا الشمس وما من شئ يدب تحت الخورنق
إلا وهو تحت أيدينا، ثم غربت وقد رحمنا كل من نلم به، وما بيت دخلته حبرة،
إلا ستدخله عبرة، ثم قالت:
فبينا نسوس الناس والامر أمرنا * إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها * تقلب تارات بنا وتصرف
وجاءها سعد بن أبي وقاص مرة، فلما رآها، قال: قاتل الله عدى بن زيد، كأنه
كان ينظر إليها حيث قال لأبيها:
إن للدهر صرعة فاحذرنها * لا تبيتن قد أمنت الدهورا (1)
قد يبيت الفتى معافى فيردى * ولقد كان آمنا مسرورا
وقال مطرف بن الشخير: لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك ولين رياشهم، ولكن
انظروا إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم، وإن عمرا قصيرا يستوجب به صاحبه النار
لعمر مشئوم على صاحبه.
لما قتل عامر بن إسماعيل مروان بن محمد وقعد على فراشه، قالت ابنه مروان له
يا عامر، إن دهرا أنزل مروان عن فرشه وأقعدك عليها لمبلغ في عظتك إن عقلت.

(1) شعراء النصرانية، الأغاني.
365

(150)
الأصل:
لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان.
* * *
الشرح:
قد تقدم كلامنا في الصبر.
وقالت الحكماء: الصبر ضربان: جسمي ونفسي، فالجسمي تحمل المشاق بقدر
القوة البدنية، وليس ذلك بفضيلة تامه، ولذلك قال الشاعر:
والصبر بالأرواح يعرف فضله * صبر الملوك وليس بالأجسام
وهذا النوع إما في الفعل كالمشي ورفع الحجر أو في رفع الانفعال كالصبر على المرض
واحتمال الضرب المفظع. وأما النفسي ففيه تتعلق الفضيلة، وهو ضربان: صبر عن
مشتهى، ويقال له: عفة، وصبر على تحمل مكروه أو محبوب. وتختلف أسماؤه بحسب
اختلاف مواقعه، فإن كان في نزول مصيبة لم يتعد به اسم الصبر، ويضاده الجزع والهلع
والحزن، وإن كان في احتمال الغنى سمى ضبط النفس، ويضاده البطر والأشر والرفغ
وإن كان في محاربة سمى شجاعة ويضاده الجبن، وإن كان في إمساك النفس عن قضاء
وطر الغضب سمى حلما، ويضاده التذمر والاستشاطة، وإن كان في نائبة مضجرة سمى
سعة صدر، و يضاده الضجر وضيق العطن والتبرم، وإن كان في إمساك كلام في الضمير
سمى كتمان السر، ويضاده الإفشاء، وإن كان عن فضول العيش سمى قناعة وزهدا
ويضاده الحرص والشره. فهذه كلها أنواع الصبر، ولكن اللفظ العرفي واقع على الصبر
الجسماني، وعلى ما يكون في نزول المصائب، وتنفرد (1) باقي الأنواع بأسماء تخصها.

(1) ب: " وينفرد ".
366

(151)
الأصل:
ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة.
* * *
الشرح:
هذا عند أصحابنا مختص باختلاف الدعوة في أصول الدين، ويدخل في ذلك الإمامة،
لأنها من أصول الدين، ولا يجوز أن يختلف قولان متضادان في أصول الدين فيكونا
صوابا، لأنه إن عنى بالصواب مطابقة الاعتقاد للخارج، فمستحيل أن يكون الشئ
في نفسه ثابتا منفيا، وإن أراد بالصواب سقوط الاثم - كما يحكى عن عبيد بن الحسن
العنبري - فإنه جعل اجتهاد المجتهدين في الأصول عذرا، فهو قول مسبوق بالاجماع.
ولا يحمل أصحابنا كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) على عمومه، لان المجتهدين في فروع
الشريعة وإن اختلفوا وتضادت أقوالهم ليسوا ولا واحد منهم على ضلال، وهذا مشروح
في كتبنا الكلامية في أصول الفقه.
367

(152)
الأصل:
ما كذبت ولا كذبت، ولا ضللت ولا ضل بي.
* * *
الشرح:
هذه كلمة قد قالها مرارا، إحداهن في وقعة النهروان.
وكذبت بالضم أخبرت بخبر كاذب، أي لم يخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله)
عن المخدج خبرا كاذبا، لان أخباره (صلى الله عليه وآله) كلها صادقة.
وضل بي، بالضم نحو ذلك، أي لم يضللني مضلل عن الصدق والحق، لأنه كان يستند
في أخباره عن الغيوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو منزه عن إضلاله وإضلال أحد
من المكلفين.
فكأنه قال لما أخبرهم عن المخدج (1) وإبطاء ظهوره لهم: أنا لم أكذب على رسول الله
(صلى الله عليه وآله)، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يكذب فيما أخبرني بوقوعه، فإذا لا بد
من ظفركم بالمخدج فاطلبوه.
368

(153)
الأصل:
للظالم البادي غدا بكفه عضة.
* * *
الشرح:
هذا من قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه) (1)، وإنما قال: " للبادي "
لان من انتصر بعد ظلمه فلا سبيل عليه. ومن أمثالهم: البادي أظلم.
فإن قلت: فإذا لم يكن باديا لم يكن ظالما، فأي حاجة له إلى الاحتراز بقوله:
" البادي "
قلت: لان العرب تطلق على ما يقع في مقابلة الظلم اسم " الظلم " أيضا كقوله تعالى:
(وجزاء سيئة سيئة مثلها) (2).

(1) سورة الفرقان 27.
(2) سورة الشورى 40.
369

(154)
الأصل:
الرحيل وشيك الوشيك.
* * *
الشرح:
الوشيك: السريع، وأراد بالرحيل هاهنا الرحيل عن الدنيا وهو الموت.
وقال بعض الحكماء: قبل وجود الانسان عدم لا أول له، وبعده عدم لا آخر له،
وما شبهت وجوده القليل (1) المتناهي بين العدمين غير المتناهيين إلا ببرق يخطف خطفة
خفيفة (2) في ظلام معتكر، ثم يخمد ويعود الظلام كما كان.

(1) ا: " الوجود القليل ".
(2) ا: " يسيرة ".
370

(155)
الأصل:
من أبدى صفحته للحق هلك.
* * *
الشرح:
قد تقدم تفسيرنا لهذه الكلمة في أول الكتاب، ومعناها: من نابذ الله وحاربه
هلك، يقال لمن خالف وكاشف: قد أبدى صفحته
371

(156)
الأصل:
استعصموا بالذمم في أوتارها.
* * *
الشرح:
أي في مظانها وفي مركزها، أي لا تستندوا إلى ذمام الكافرين والمارقين،
فإنهم ليسوا أهلا للاستعصام بذممهم، كما قال الله تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلا
ولا ذمة) (1). وقال: (إنهم لا أيمان لهم) (2).
وهذه كلمة قالها بعد انقضاء أمر الجمل وحضور قوم من الطلقاء بين يديه ليبايعوه،
منهم مروان بن الحكم، فقال: وما ذا أصنع ببيعتك؟ ألم تبايعني بالأمس! يعنى بعد
قتل عثمان، ثم أمر بإخراجهم ورفع نفسه عن مبايعة أمثالهم، وتكلم بكلام ذكر فيه
ذمام العربية وذمام الاسلام، وذكر أن لا دين له فلا ذمام له.
ثم قال في أثناء الكلام: " فاستعصموا بالذمم في أوتارها "، أي إذا صدرت
عن ذوي الدين، فمن لا دين له لا عهد له.

(1) سورة التوبة 10.
(2) سورة التوبة 12.
372

(157)
الأصل:
عليكم بطاعة من لا تعذرون في جهالته.
* * *
الشرح:
يعنى نفسه (عليه السلام)، وهو حق على المذهبين جميعا، أما نحن فعندنا أنه إمام
واجب الطاعة بالاختبار، فلا يعذر أحد من المكلفين في الجهل بوجوب طاعته،
وأما على مذهب الشيعة فلأنه إمام واجب الطاعة بالنص، فلا يعذر أحد من المكلفين
في جهالة إمامته، وعندهم أن معرفة إمامته تجرى مجرى معرفة محمد (صلى الله عليه وآله)
ومجرى معرفة البارئ سبحانه ويقولون: لا تصح لأحد صلاة ولا صوم ولا عبادة
إلا بمعرفة الله والنبي والامام.
وعلى التحقيق، فلا فرق بيننا وبينهم في هذا المعنى، لان من جهل إمامه على (عليه
السلام) وأنكر صحتها ولزومها، فهو عند أصحابنا مخلد في النار، لا ينفعه صوم ولا صلاة،
لان المعرفة بذلك من الأصول الكلية التي هي أركان الدين ولكنا لا نسمي منكر
إمامته كافرا، بل نسميه فاسقا، وخارجيا، ومارقا، ونحو ذلك، والشيعة تسميه كافرا،
فهذا هو الفرق بيننا وبينهم، وهو في اللفظ لا في المعنى
373

(158)
الأصل:
ما شككت في الحق منذ أريته.
* * *
الشرح:
أي منذ أعلمته، ويجب أن يقدر هاهنا مفعول محذوف، أي منذ أريته حقا،
لان " أرى " يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، تقول: أرى الله زيدا عمرا خير الناس،
فإذا بنيته للمفعول به قام واحد من الثلاثة مقام الفاعل ووجب أن يؤتى بمفعولين غيره،
تقول: أريت زيدا خير الناس، وإن كان أشار بالحق إلى أمر مشاهد بالبصر لم يحتج
إلى ذلك، ويجوز أن يعنى بالحق الله سبحانه وتعالى، لان الحق من أسمائه عز وجل،
فيقول: منذ عرفت الله لم أشك فيه، وتكون الرؤية بمعنى المعرفة، فلا يحتاج إلى تقدير
مفعول آخر، وذلك مثل قوله تعالى: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم
الله يعلمهم) (1)، أي لا تعرفونهم، الله يعرفهم، والمراد من هذا الكلام ذكر نعمة الله
عليه في أنه منذ عرف الله سبحانه لم يشك فيه، أو منذ عرف الحق في العقائد الكلامية
والأصولية والفقهية لم يشك في شئ منها، وهذه مزية له ظاهرة على غيره من الناس
فإن أكثرهم أو كلهم يشك في الشئ بعد أن عرفه وتعتوره الشبه والوساوس
ويران على قلبه وتختلجه الشياطين عما أدى إليه نظره.

(1) سورة الأنفال 60
374

وقد روى أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما بعثه إلى اليمن قاضيا ضرب على صدره
وقال: " اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه "، فكان يقول: ما شككت بعدها في قضاء
بين اثنين.
وروى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما قرأ: (وتعيها أذن واعية): (1) قال:
" اللهم اجعلها أذن على "، وقيل له: " قد أجيبت دعوتك ".

(1) سورة الحاقة 12.
375

(159)
الأصل:
وقد بصرتم إن أبصرتم، وقد هديتم إن اهتديتم.
* * *
الشرح:
قال الله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى.) (1).
وقال سبحانه: (وهديناه النجدين) (2).
وقال بعض الصالحين: ألا إنهما نجدا الخير والشر، فجعل نجد الشر أحب إليكم
من نجد الخير.
قلت: النجد: الطريق.
واعلم أن الله تعالى قد نصب الأدلة ومكن المكلف بما أكمل له من العقل من الهداية،
فإذا ضل فمن قبل نفسه أتى.
وقال بعض الحكماء: الذي لا يقبل الحكمة هو الذي ضل عنها ليست هي الضالة
عنه.
وقال: متى أحسست بأنك قد أخطأت وأردت ألا تعود أيضا فتخطئ فانظر إلى أصل
في نفسك حدث عنه ذلك الخطأ، فاحتل في قلعه، وذلك إنك إن لم تفعل ذلك عاد فثبت
خطأ آخر. وكان يقال: كما أن البدن الخالي من النفس تفوح منه رائحة النتن، كذلك
النفس الخالية من الحكمة، وكما أن البدن الخالي من النفس أو ليس
يحس ذلك بالبدن

(1) سورة فصلت 17.
(2) سورة البلد 10.
376

بل الذين لهم حس يحسونه به، كذلك النفس العديمة للحكمة أو ليس
تحس به تلك النفس،
بل يحس به الحكماء، وقيل لبعض الحكماء: ما بال الناس ضلوا عن الحق؟ أتقول:
إنهم لم تخلق فيهم قوة معرفة؟ فقال: لا، بل خلق لهم ذلك، ولكنهم استعملوا
تلك القوة على غير وجهها، وفى غير ما خلقت له، كالسم تدفعه إلى إنسان ليقتل به
عدوه فيقتل به نفسه
377

(160)
الأصل:
عاتب أخاك بالاحسان إليه، واردد شره بالإنعام عليه.
* * *
الشرح: الأصل في هذا قول الله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة
كأنه ولى حميم) (1).
وروى المبرد في،، الكامل،، عن ابن عائشة، عن رجل من أهل الشام، قال: دخلت
المدينة، فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا ثوبا ولا سمتا ولا دابة منه،
فمال قلبي إليه، فسألت عنه، فقيل: هذا الحسن بن الحسن بن علي، فامتلاء قلبي له بغضا،
وحسدت عليا أن يكون له ابن مثله، فصرت إليه وقلت له: أنت ابن أبي طالب؟ فقال:
أنا ابن ابنه، قلت: فبك وبأبيك! فلما انقضى كلامي قال: أحسبك غريبا؟ قلت:
أجل، قال: فمل بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال واسيناك، أو إلى
حاجة عاوناك.
فانصرفت عنه وما على الأرض أحد أحب إلى منه (2).
وقال محمود الوراق:
إني شكرت لظالمي ظلمي * وغفرت ذاك له على علم
ورأيته أهدى إلى يدا * لما أبان بجهله حلمي
رجعت إساءته عليه وإحساني * فعاد مضاعف الجرم

(1) سورة فصلت 34.
(2) الكامل 2: 5، 6.
378

وغدوت ذا أجر ومحمدة * وغدا بكسب الظلم والاثم
فكأنما الاحسان كان له * وأنا المسئ إليه في الحكم
ما زال يظلمني وأرحمه * حتى بكيت له من الظلم
قال المبرد: أخذ هذا المعنى من قول رجل من قريش قال له رجل منهم: إني مررت
بآل فلان وهم يشتمونك شتما رحمتك منه، قال: أفسمعتني أقول إلا خيرا! قال: لا،
قال: إياهم فارحم (2).
وقال رجل لأبي بكر: لأشتمنك شتما يدخل معك قبرك، فقال: معك والله
يدخل، لا معي (2).

(1) الكامل 2: 4، 5.
(2) الكامل 2: 5.
379

(161)
الأصل:
من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن.
* * *
الشرح:
رأى بعض الصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) واقفا في درب من دروب المدينة
ومعه امرأة فسلم عليه، فرد عليه، فلما جاوزه ناداه فقال: هذه زوجتي فلانة،
قال: يا رسول الله، أوفيك يظن! فقال: " إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى
الدم ".
وجاء في الحديث المرفوع: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ".
وقال أيضا: " لا يكمل إيمان عبد حتى يترك ما لا بأس به ".
وقد أخذ هذا المعنى شاعر فقال:
وزعمت أنك لا تلوط فقل لنا * هذا المقرطق واقفا ما يصنع!
شهدت ملاحته عليك بريبة * وعلى المريب شواهد لا تدفع
380

(162)
الأصل:
من ملك استأثر.
* * *
الشرح:
المعنى أن الأغلب في كل ملك يستأثر على الرعية بالمال والعز والجاه.
ونحو هذا المعنى قولهم: من غلب سلب، ومن عز بز.
ونحوه قول أبى الطيب:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد * ذا عفة فلعله لا يظلم (1)

(1) ديوانه 4: 125.
381

(163)
الأصل:
من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها.
* * *
الشرح:
قد تقدم لنا قول كاف في المشورة مدحا وذما.
وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي يذمها ويقول: ما استشرت واحدا قط إلا تكبر
على وتصاغرت له، ودخلته العزة ودخلتني الذلة، فإياك والمشورة وإن ضاقت عليك
المذاهب، واشتبهت عليك المسائل، وأداك الاستبداد إلى الخطأ الفادح.
وكان عبد الله بن طاهر يذهب إلى هذا المذهب، و يقول: ما حك جلدك مثل ظفرك،
ولإن أخطئ مع الاستبداد ألف خطأ، أحب إلى من أن أستشير وأرى بعين النقص
والحاجة.
وكان يقال: الاستشارة إذاعة السر، و مخاطرة بالامر الذي ترومه بالمشاورة، فرب
مستشار أذاع عنك ما كان فيه فساد تدبيرك.
وأما المادحون للمشورة فكثير جدا. وقالوا: خاطر من استبد برأيه.
وقالوا: المشورة راحة لك، وتعب على غيرك.
وقالوا: من أكثر من المشورة لم يعدم عند الصواب مادحا، وعند الخطأ عاذرا.
382

وقالوا: المستشير على طرف النجاح، والاستشارة من عزم الأمور.
وقالوا: المشورة لقاح العقول، ورائد الصواب.
ومن ألفاظهم البديعة ثمرة رأى المشير أحلى من الأرى المشور (2).
وقال بشار:
إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن * بعزم نصيح أو مشورة حازم (2)
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة * فإن الخوافي عدة للقوادم

(1) الأرى: العسل، والمشور: المستخرج. شربت العسل: استخرجته.
(2) شرح مختار بشار 312.
383

(164)
الأصل:
من كتم سره كانت الخيرة في يده.
* * *
الشرح:
قد تقدم القول في السر والامر بكتمانه، ونذكر هاهنا أشياء أخر.
من أمثالهم مقتل الرجل بين لحييه.
دنا رجل من آخر فساره، فقال: إن من حق السر التداني.
كان مالك بن مسمع إذا ساره إنسان قال له: أظهره، فلو كان فيه خير لما كان
مكتوما.
حكيم يوصى ابنه: يا بنى كن جوادا بالمال في موضع الحق، ضنينا بالاسرار عن
جميع الخلق، فإن أحمد جود المرء الانفاق في وجه البر.
ومن كلامهم: سرك من دمك، فإذا تكلمت به فقد أرقته.
وقال الشاعر:
فلا تفش سرك إلا إليك * فإن لكل نصيح نصيحا
أ لم تر أن غواة الرجال * لا يتركون أديما صحيحا!
وقال عمر بن عبد العزيز: القلوب أوعية الاسرار والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها
فليحفظ كل امرئ مفتاح سره.
384

وقال بعض الحكماء: من أفشى سره كثر عليه المتآمرون.
أسر رجل إلى صديق (1) سرا ثم قال له: أفهمت؟ قال له: بل جهلت، قال:
أحفظت؟ قال: بل نسيت.
وقيل لرجل: كيف كتمانك السر؟ قال: أجحد المخبر، وأحلف للمستخبر.
أنشد الأصمعي قول الشاعر:
إذا جاوز الاثنين سر فإنه * يبث وتكثير الوشاة قمين (2)
فقال: والله ما أراد بالاثنين إلا الشفتين

(1) ا: " صديقه ".
(2) قمين: خليق.
385

(165)
الأصل:
الفقر الموت الأكبر.
* * *
الشرح:
في الحديث المرفوع: " أشقى الأشقياء من جمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة ".
وأتى بزرجمهر فقير جاهل، فقال: بئسما اجتمع على هذا البائس: فقر ينقص دنياه،
وجهل يفسد آخرته.
شاعر:
خلق المال واليسار لقوم * وأراني خلقت للإملاق
أنا فيما أرى بقية قوم * خلقوا بعد قسمة الأرزاق.
أخذ السيواسي هذا المعنى، فقال في قصيدته الطويلة المعروفة بالساسانية:
ليت شعري لما بدا يقسم الأرزاق * في أي مطبق كنت (1).
قرئ على أحد جانبي دينار:
قرنت بالنجح وبي كل ما * يراد من ممتنع يوجد
وعلى الجانب الآخر:
وكل من كنت له آلفا * فالإنس والجن له أعبد.

(1) المطبق: السجن
386

وقال أبو الدرداء: من حفظ ماله فقد حفظ الأكثر من دينه وعرضه.
بعضهم:
وإذا رأيت صعوبة في مطلب * فاحمل صعوبته على الدينار
تردده كالظهر الذلول فإنه * حجر يلين قوة الأحجار
ومن دعاء السلف: اللهم إني أعوذ بك من ذل الفقر وبطر الغنى.
387

(166)
الأصل:
من قضى حق من لا يقضى حقه فقد عبده.
* * *
الشرح:
عبده بالتشديد، أي اتخذه عبدا، يقال: عبده واستعبده بمعنى واحد، والمعنى بهذا
الكلام مدح من لا يقضى حقه، أي من فعل ذلك بإنسان فقد استعبد ذلك الانسان
لأنه لم يفعل معه ذلك مكافأة له عن حق قضاه إياه، بل فعل ذلك إنعاما مبتدأ،
فقد استعبده بذلك. (1)
وقال الشاعر في نقيض هذه الحال يخاطب صاحبا له:
كن كأن لم تلاقني قط في الناس * ولا تجعلن ذكراي شوقا
وتيقن بأنني غير راء * لك حقا حتى ترى لي حقا
وبأني مفوق ألف سهم لك إن فوقت يمينك فوقا

(1) ا: " بهذا ".
388

(167)
الأصل:
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
* * *
الشرح:
هذه الكلمة قد رويت مرفوعة، وقد جاء في كلام أبى بكر: أطيعوني ما أطعت الله،
فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم.
وقال معاوية لشداد بن أوس قم فاذكر عليا فانتقصه (1)، فقام شداد فقال: الحمد لله الذي
افترض طاعته على عباده، وجعل رضاه عند أهل التقوى آثر من رضا غيره، على ذلك مضى
أولهم، وعليه مضى آخرهم. أيها الناس، إن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر
وإن الدنيا أكل حاضر، يأكل منها البر والفاجر، وإن السامع المطيع لله لا حجة عليه
وإن السامع العاصي لله لا حجة له، وإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإذا أراد الله
بالناس خيرا استعمل عليهم صلحاءهم، وقضى بينهم فقهاؤهم (2)، وجعل المال في سمحائهم، وإذا
أراد بالعباد شرا عمل عليهم سفهاؤهم، وقضى بينهم جهلاؤهم، وجعل المال عند بخلائهم.
وإن من إصلاح الولاة أن تصلح قرناءها. ثم التفت إلى معاوية فقال: نصحك يا معاوية
من أسخطك بالحق، وغشك من أرضاك بالباطل! فقطع معاوية عليه كلامه، وأمر بإنزاله،
ثم لاطفه وأمر له بمال، فلما قبضه قال: ألست من السمحاء الذين ذكرت؟ فقال: إن
كان لك مال غير مال المسلمين أصبته حلالا، وأنفقته إفضالا فنعم، وإن كان مال المسلمين
احتجبته دونهم أصبته اقترافا، وأنفقته إسرافا، فإن الله يقول: (إن المبذرين كانوا
إخوان الشياطين) (3).

في د " وتنقصه " وهو مستقيم أيضا.
(2) في د " علماؤهم ".
(3) سورة الإسراء 27.
389

(168)
الأصل:
لا يعاب المرء بتأخير حقه، إنما يعاب من أخذ ما أو ليس
له.
* * *
الشرح:
لعل هذه الكلمة قالها في جواب سائل سأله: لم أخرت المطالبة بحقك من الإمامة؟
ولابد من إضمار شئ في الكلام على قولنا وقول الامامية، لأنا نحن نقول: الامر حقه
بالأفضلية وهم يقولون: إنه حقه بالنص، وعلى كلا التقديرين فلا بد من إضمار شئ في
الكلام، لان لقائل أن يقول له (عليه السلام): لو كان حقك من غير أن يكون للمكلفين
فيه نصيب لجاز ذلك أن يؤخر كالدين الذي يستحق على زيد، يجوز لك أن تؤخره لأنه
خالص لك وحدك، فاما إذا كان للمكلفين فيه حاجة ماسة لم يكن حقك وحدك، لان
مصالح المكلفين منوطة بإمامتك دون إمامة غيرك، فكيف يجوز لك تأخير ما فيه مصلحة
المكلفين؟ فإذن لا بد من إضمار شئ في الكلام. وتقديره: لا يعاب المرء بتأخير حقه
إذا كان هناك مانع عن طلبه، ويستقيم المعنى حينئذ على المذهبين جميعا، لأنه إذا كان هناك
مانع جاز تقديم غيره عليه، وجاز له أن يؤخر طلب حقه خوف الفتنة، والكلام في هذا
الموضع مستقصى في تصانيفنا في علم الكلام
390

(169)
الأصل:
الاعجاب يمنع من الازدياد.
* * *
الشرح:
قد تقدم لنا قول مقنع في العجب، وإنما قال (عليه السلام): " يمنع من الازدياد "
لان المعجب بنفسه ظان أنه قد بلغ الغرض، وإنما يطلب الزيادة من يستشعر التقصير
لا من يتخيل الكمال، وحقيقة العجب ظن الانسان بنفسه استحقاق منزلة هو غير
مستحق لها، ولهذا قال بعضهم لرجل رآه معجبا بنفسه: يسرني أن أكون عند الناس
مثلك في نفسك، وإن أكون عند نفسي مثلك عند الناس، فتمنى حقيقة ما يقدره ذلك
الرجل، ثم تمنى أن يكون عارفا بعيوب نفسه، كما يعرف الناس عيوب ذلك الرجل المعجب
بنفسه.
وقيل للحسن: من شر الناس؟ قال: من يرى أنه خيرهم.
وقال بعض الحكماء: الكاذب في نهاية البعد من الفضل والمرائي أسوأ حالا من
الكاذب، لأنه يكذب فعلا، وذاك يكذب قولا، والفعل آكد من القول، فأما
المعجب بنفسه فأسوء حالا منهما، لأنهما يريان نقص أنفسهما ويريدان إخفاءه، والمعجب
بنفسه قد عمى عن عيوب نفسه فيراها محاسن ويبديها.
وقال هذا الحكيم أيضا: ثم إن المرائي والكاذب قد ينتفع بهما كملاح خاف
391

ركابه الغرق من مكان مخوف من البحر، فبشرهم بتجاوزه قبل أن يتجاوزه لئلا
يضطربوا فيتعجل غرقهم.
وقد يحمد رياء الرئيس إذا قصد أن يقتدى به في فعل الخير والمعجب لاحظ له
في سبب من أسباب المحمدة بحال.
وأيضا فلأنك إذا وعظت الكاذب والمرائي فنفسهما تصدقك وتثلبهما لمعرفتهما
بنفسهما، والمعجب فلجهله بنفسه يظنك في وعظه لاغيا، فلا ينتفع بمقالك، وإلى هذا
المعنى أشار سبحانه بقوله: (أ فمن زين له سوء عمله فرآه حسنا) (1)، ثم قال سبحانه:
(فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) (2)، تنبيها على أنهم لا يعقلون لإعجابهم.
وقال (عليه السلام): ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء
بنفسه.
وفى المثل: إن إبليس قال: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها: إذا
أعجب بنفسه، واستكثر عمله، ونسي ذنوبه.
وقالت الحكماء: كما أن المعجب بفرسه لا يروم أن يستبدل به، غيره، كذلك المعجب
بنفسه لا يريد بحاله بدلا، وإن كانت رديئة.
وأصل الاعجاب من حب الانسان لنفسه، وقد قال (عليه السلام): " حبك الشئ
يعمى ويصم "، ومن عمى وصم تعذر عليه رؤية عيوبه وسماعها، فلذلك وجب على
الانسان أن يجعل على نفسه عيونا تعرفه عيوبه، نحو ما قال عمر: أحب الناس إلى امرؤ
أهدى إلى عيوبي.
ويجب على الانسان إذا رأى من غيره سيئة أن يرجع إلى نفسه، فإن رأى ذلك

(1) سورة فاطر 8.
392

موجودا فيها نزعها ولم يغفل عنها، فما أحسن ما قال المتنبي:
ومن جهلت نفسه قدره * رأى غيره منه ما لا يرى (1)
وأما التيه وماهيته فهو قريب من العجب، لكن المعجب يصدق نفسه وهما
فيما يظن بها، والتياه يصدقها قطعا، كأنه متحير في تيه. ويمكن أن يفرق بينهما
بأمر آخر، ويقول: إن المعجب قد يعجب بنفسه ولا يؤذى أحدا بذلك الاعجاب،
والتياه يضم إلى الاعجاب الغض من الناس والترفع عليهم، فيستلزم ذلك الأذى لهم،
فكل تائه معجب، وليس كل معجب تائها.

(1) ديوانه 1: 44.
393

(170)
الأصل:
الامر قريب، والاصطحاب قليل.
* * *
الشرح:
هذه الكلمة تذكر بالموت وسرعة زوال الدنيا، وقال أبو العلاء:
نفسي وجسمي لما استجمعا صنعا * شرا إلى فجل الواحد الصمد
فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا * وتلك تزعم أن الظالم الجسد
إذا هما بعد طول الصحبة افترقا * فإن ذاك لاحداث الزمان يد
وأصبح الجوهر الحساس في محن * موصولة واستراح الاخر الجمد
394

(171)
قد أضاء الصبح لذي عينين.
* * *
الشرح:
هذا الكلام جار مجرى المثل، ومثله:
* والشمس لا تخفى عن الابصار *
ومثله:
* إن الغزالة لا تخفى عن البصر *
وقال ابن هانئ يمدح المعتز:
فاستيقظوا من رقدة وتنبهوا * ما بالصباح عن العيون خفاء (1)
ليست سماء الله ما ترونها * لكن أرضا تحتويه سماء

(1) ديوانه 4.
395

(172)
الأصل:
ترك الذنب أهون من طلب التوبة.
* * *
الشرح:
هذا حق، لان ترك الذنب هو الاحجام عنه، وهذا سهل على من يعرف أثر الذنب
على ما ذا يكون، وهو أسهل من أن يواقع الانسان الذنب، ثم يطلب التوبة، فقد لا يخلص
إليها، ثم لو خلص فكيف له بحصوله على شروطها، وهي أن يندم على القبيح لأنه
قبيح، لا لخوف العقاب، ولا لرجاء الثواب، ثم لا يكفيه أن يتوب من الزنا وحده،
ولا من شرب الخمر وحده، بل لا تصح توبته حتى تكون عامة شاملة لكل القبائح
فيندم على ما قال ويود أنه لم يفعل، ويعزم على ألا يعاود معصية أصلا، وإن نقض التوبة
عادت عليه الآثام القديمة والعقاب المستحق ولا الذي كان سقط بالتوبة أي كثير
من أرباب علم الكلام، ولا ريب أن ترك الذنب من الابتداء أسهل من طلب توبة
هذه صفتها.
وهذا الكلام جار (1) مجرى المثل يضرب لمن يشرع في أمر يخاطر فيه، ويرجو أن يتخلص منه فيما بعد بوجه من الوجوه.

(1) د: " يجرى ".
396

(173)
الأصل:
كم من أكلة تمنع أكلات.
* * *
الشرح:
أخذ هذا المعنى بلفظه الحريري فقال في المقامات: " رب أكله هاضت الاكل،
ومنعته مآكل "، وأخذه أبو العلاف الشاعر فقال في سنوره الذي يرثيه:
أردت أن تأكل الفراخ ولا * يأكلك الدهر أكل مضطهد (1)
يا من لذيذ الفراخ أوقعه * ويحك هلا قنعت بالقدد!
كم أكلة خامرت حشا شره * فأخرجت روحه من الجسد
* * *
[نوادر المكثرين من الاكل]
وكان ابن عياش المنتوف يمازح المنصور أبا جعفر فيحتمله على أنه كان جدا كله،
فقدم المنصور لجلسائه يوما بطة كثيرة الدهن، فأكلوا وجعل يأمرهم بالازدياد من الاكل
لطيبها، فقال ابن عياش: قد علمت غرضك يا أمير المؤمنين، إنما تريد أن ترميهم منها
بالحجاب - يعنى الهيضة - فلا يأكلوا إلى عشرة أيام شيئا.
وفي المثل: " أكله أبى خارجة "، وقال أعرابي وهو يدعو الله بباب الكعبة: اللهم

(1) ابن خلكان 1: 138.
397

ميتة كميته أبى خارجة، فسألوه فقال: أكل بذجا - وهو الحمل -، وشرب وطبا من اللبن
- ويروى من النبيذ - وهو كالحوض من جلود ينبذ فيه، ونام في الشمس فمات فلقي الله تعالى
شبعان ريان دفيئا.
والعرب تعير بكثرة الاكل، وتعيب بالجشع والشره والنهم، وقد كان فيهم قوم
موصوفون بكثرة الاكل، منهم معاوية، قال أبو الحسن المدائني في،، كتاب الاكلة،،:
كان يأكل في اليوم (1) أربع أكلات أخراهن عظماهن، ثم يتعشى بعدها بثريدة عليها
بصل كثير، ودهن كثير قد شغلها. وكان أكله فاحشا يأكل فيلطخ منديلين أو ثلاثة قبل
أن يفرغ، وكان يأكل حتى يستلقي ويقول: يا غلام، ارفع، فلأني والله ما شبعت
ولكن مللت.
وكان عبيد الله بن زياد يأكل في اليوم خمس أكلات أخراهن خبية بعسل، ويوضع
بين يديه بعد أن يفرغ الطعام عناق أو جدي فيأتي عليه وحده.
وكان سليمان بن عبد الملك المصيبة العظمى في الاكل دخل، إلى الرافقة فقال لصاحب
طعامه: أطعمنا اليوم من خرفان الرافقة، ودخل الحمام فأطال، ثم خرج فأكل ثلاثين
خروفا بثمانين رغيفا، ثم قعد على المائدة فأكل مع الناس كأنه لم يأكل شيئا.
وقال الشمردل وكيل آل عمرو بن العاص: قدم سليمان الطائف وقد عرفت استجاعته،
فدخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه إلى بستان لي هناك يعرف بالرهط فقال:
ناهيك بمالك هذا لولا جرار فيه، قلت: يا أمير المؤمنين، إنها ليست بجرار
ولكنها جرار الزبيب، فضحك ثم جاء حتى ألقى صدره على غصن شجرة هناك، وقال:
يا شمردل، أما عندك شئ تطعمني؟ وقد كنت استعددت له، فقلت: بلى والله
عندي جدي كانت تغدو عليه حافلة، وتروح عليه أخرى، فقال: عجل به، فجئته

(1) في د " كل يوم ".
398

به مشويا كأنه عكة سمن، فأكله لا يدعو عليه عمر ولا ابنه، حتى إذا بقي فخذ قال:
يا عمر، هلم، قال: إني صائم. ثم قال: يا شمردل، أما عندك شئ؟ قلت: بلى،
دجاجات خمس مشويات كأنهن رئلان النعام؛ قال: هات، فأتيته بهن، فكان يأخذ برجل
الدجاجة حتى يعرى عظامها، ثم يلقيها، حتى أتى عليهن، ثم قال: ويحك يا شمردل!
أما عندك شئ قلت: بلى سويق كأنه قراضة الذهب ملتوت بعسل وسمن، قال:
هلم، فجئته بعس تغيب فيه الرأس، فأخذه فلطم به جبهته حتى أتى عليه، فلما فرغ
تجشأ كأنه صارخ في جب، ثم التفت إلى طباخه فقال: ويحك! أفرغت من طبيخك؟
قال: نعم، قال: وما هو؟ قال: نيف وثمانون قدرا، قال: فأتني بها قدرا قدرا،
فعرضها عليه، وكان يأكل من كل قدر لقمتين أو ثلاثا، ثم مسح يده واستلقى على
قفاه، وأذن للناس، ووضعت الموائد، فقعد فأكل مع الناس كأنه لم يطعم شيئا.
قالوا: وكان الطعام الذي مات منه سليمان، أنه قال لديراني كان صديقه قبل الخلافة:
ويحك! لا تقطعني ألطافك التي كنت تلطفني بها على عهد الوليد أخي، قال: فأتيته يوما
بزنبيلين كبيرين أحدهما بيض مسلوق، والاخر تين، فقال: لقمنيه، فكنت أقشر البيضة
وأقرنها بالتينة وألقمه، حتى أتى على الزنبيلين، فأصابته تخمة عظيمة ومات.
ويحكى أن عمرو بن معديكرب أكل عنزا رباعية وفرقا من ذرة - والفرق ثلاثة
آصع - وقال لامرأته: عالجي لنا هذا الكبش حتى أرجع، فجعلت توقد تحته وتأخذ عضوا
عضوا فتأكله، فاطلعت فإذا أو ليس
في القدر إلا المرق، فقامت إلى كبش آخر فذبحته
وطبخته، ثم أقبل عمرو فثردت له في جفنة العجين وكفأت القدر عليها، فمد يده وقال:
يا أم ثور، دونك الغداء، قالت: قد أكلت فأكل الكبش كله ثم اضطجع ودعاها
إلى الفراش فلم يستطع الفعل، فقالت له: كيف تستطيع وبيني وبينك كبشان!
399

وقد روى هذا الخبر عن بعض العرب، وقيل: إنه أكل حوارا (1) وأكلت
امرأته حائلا (2)، فلما أراد أن يدنو منها وعجز قالت له: كيف تصل إلى وبيني
وبينك بعيران.
وكان الحجاج عظيم الاكل، قال مسلم بن قتيبة: كنت في دار الحجاج مع ولده وأنا
غلام، فقيل: قد جاء الأمير، فدخل الحجاج فأمر بتنور فنصب، وأمر رجلا أن يخبز له
خبز الماء، ودعا بسمك، فأتوه به، فجعل يأكل حتى أكل ثمانين جاما من السمك بثمانين
رغيفا من خبز الملة (3).
وكان هلال بن أشعر المازني موصوفا بكثرة الاكل أكل، ثلاث جفان
ثريد، واستسقى، فجاءوه بقربة مملوءة نبيذا فوضعوا فمها في فمه حتى
شربها بأسرها.
وكان هلال بن أبي بردة أكولا، قال قصابه: جاءني رسوله سحرة فأتيته وبين يديه
كانون فيه جمر وتيس ضخم، فقال: دونك هذا التيس فاذبحه فذبحته وسلخته، فقال:
أخرج هذا الكانون إلى الرواق وشرح اللحم وكبه على النار، فجعلت كلما استوى شئ
قدمته إليه حتى لم يبق من التيس إلا العظام وقطعة لحم على الجمر، فقال لي:
كلها، فأكلتها، ثم شرب خمسة أقداح، وناولني قدحا فشربته فهزني، وجاءته
جارية ببرمة فيها ناهضان (4) ودجاجتان وأرغفة، فأكل ذلك كله، ثم جاءته
جارية أخرى بقصعة مغطاة لا أدرى ما فيها، فضحك إلى الجارية، فقال:
ويحك! لم يبق في بطني موضع لهذا، فضحكت الجارية وانصرفت، فقال لي:
الحق بأهلك.

(1) الحوار: ولد الناقة.
(2) الحائل: الناقة التي لم تحمل.
(3) الملة: الرماد الحار.
(4) الناهض: فرخ العقاب.
400

وكان عنبسة بن زياد أكولا نهما، فحدث رجل من ثقيف قال: دعاني عبيد الله
الأحمر، فقلت لعنبسة: هل لك يا ذبحة - وكان هذا لقبه - في إتيان الأحمر! فمضينا
إليه، فلما رآه عبيد الله رحب به وقال للخباز: ضع بين يدي هذا مثل ما تضع بين يدي
أهل المائدة كلهم، فجعل يأتيه بقصعة وأهل المائدة بقصعة، وهو يأتي عليها، ثم أتاه
بجدي فأكله كله، ونهض القوم فأكل كل ما تخلف على المائدة، وخرجنا فلقينا خلف
ابن عبد الله القطامي، فقال له: يا خلف، أما تغديني يوما؟ فقلت لخلف: ويحك!
لا تجده مثل اليوم. فقال له: ما تشتهى؟ قال: تمرا وسمنا، فانطلق به إلى منزله فجاء
بخمس جلال (1) تمرا وجرة سمنا، فأكل الجميع وخرج، فمر برجل يبنى داره ومعه
مائة رجل، وقد قدم لهم سمنا وتمرا، فدعاه إلى الاكل معهم، فأكل حتى شكوه إلى
صاحب الدار، ثم خرج فمر برجل بين يديه زنبيل فيه خبز أرز يابس بسمسم وهو
يبيعه فجعل يساومه ويأكل حتى أتى على الزنبيل، فأعطيت صاحب الزنبيل
ثمن خبزه.
وكان ميسرة الرأس أكولا، حكى عنه عند المهدى محمد بن المنصور أنه يأكل كثيرا،
فاستدعاه وأحضر فيلا، وجعل يرمى لكل واحد منهما رغيفا حتى أكل كل واحد
منهما تسعة وتسعين رغيفا، وامتنع الفيل من تمام المائة، وأكل ميسرة تمام المائة
وزاد عليها.
وكان أبو الحسن العلاف والد أبى بكر بن العلاف الشاعر المحدث أكولا
دخل يوما على الوزير أبى بكر محمد المهلبي، فأمر الوزير أن يؤخذ حماره
فيذبح ويطبخ بماء وملح، ثم قدم له على مائدة الوزير، فأكل وهو يظنه لحم

(1) الجلال: جمع جلة، وهو وعاء التمر يصنع من الخوص.
401

البقر، ويستطيبه حتى أتى عليه، فلما خرج ليركب طلب الحمار، فقيل له:
في جوفك.
وكان أبو العالية أكولا، نذرت امرأة حامل إن أتت بذكر تشبع أبا العالية
خبيصا، فولدت غلاما، فأحضرته، فأكل سبع جفان خبيصا، ثم أمسك وخرج،
فقيل له: إنها كانت نذرت أن تشبعك، فقال: والله لو علمت ما شبعت إلى الليل.
402

(174)
الأصل:
الناس أعداء ما جهلوا.
* * *
الشرح:
هذه الكلمة قد تقدمت وتقدم منا ذكر نظائرها. والعلة في أن الانسان عدو
ما يجهله أنه يخاف من تقريعه (1) بالنقص وبعدم العلم بذلك الشئ، خصوصا إذا ضمه ناد
أو جمع من الناس فإنه تتصاغر نفسه عنده إذا خاضوا فيما لا يعرفه وينقص في أعين
الحاضرين، وكل شئ آذاك ونال منك فهو عدوك (2).

(1) د: " تعرضه ".
(2) ا: " فهو عدو لك ".
403

(175) الأصل:
من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.
* * *
الشرح:
قد قالوا في المثل: شر الرأي الدبري.
وقال الشاعر:
وخير الرأي ما استقبلت منه * وليس بأن تتبعه اتباعا
وليس المراد بهذا الامر سرعة فضل الحال لأول خاطر، ولأول رأى إن ذلك خطأ،
وقديما قيل: دع الرأي يغب.
وقيل: كل رأى لم يخمر ويبيت (1) فلا خير فيه.
وإنما المنهي عنه تضييع الفرصة في الرأي، ثم محاولة الاستدراك بعد أن فات
وجه الرأي، فذاك هو الرأي الدبري.

(1) د: " يبث ".
404

(176)
الأصل:
من أحد سنان الغضب لله قوى على قتل أشداء الباطل.
* * *
الشرح:
هذا من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والكلمة تتضمن استعارة
تدل على الفصاحة، والمعنى أن من أرهف عزمه على إنكار المنكر، وقوى غضبه
في ذات الله ولم يخف ولم يراقب مخلوقا، أعانه الله على إزالة المنكر، وإن كان قويا
صادرا من جهة عزيزة الجانب، وعنها وقعت الكناية بأشداء الباطل.
405

(177)
الأصل:
إذا هبت أمرا فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه.
* * *
الشرح:
ما أحسن ما قال المتنبي في هذا المعنى:
وإذا لم يكن من الموت بد * فمن العجز أن تكون جبانا
كل ما لم يكن من الصعب في الأنفس * سهل فيها إذا هو كانا
وقال آخر:
لعمرك ما المكروه إلا ارتقابه * وأعظم مما حل ما يتوقع
وقال آخر:
صعوبة الرزء تلقى في توقعه * مستقبلا وانقضاء الرزء أن يقعا
وكان يقال: توسط الخوف تأمن.
ومن الأمثال العامية: أم المقتول تنام، وأم المهدد لا تنام.
وكان يقال: كل أمر من خير أو شر فسماعه أعظم من عيانه.
وقال قوم من أهل الملة وليسوا عند أصحابنا مصيبين: إن عذاب الآخرة المتوعد به
إذا حل بمستحقيه وجدوه أهون مما كانوا يسمعونه في الدنيا، والله أعلم بحقيقة ذلك.
406

(178)
الأصل:
آلة الرياسة سعة الصدر.
* * *
الشرح:
الرئيس محتاج إلى أمور، منها الجود، ومنها الشجاعة، ومنها - وهو الأهم - سعة الصدر،
فإنه لا تتم الرئاسة إلا بذلك.
وكان معاوية واسع الصدر كثير الاحتمال وبذلك بلغ ما بلغ
* * *
[سعة الصدر وما ورد في ذلك من حكايات]
ونحن نذكر من سعة الصدر حكايتين دالتين على عظم محله في الرئاسة، وإن كان
مذموما في باب الدين، وما أحسن قول الحسن فيه وقد ذكر عنده عقيب ذكر أبى بكر وعمر،
فقال: كانا والله خيرا منه، وكان أسود منهما.
الحكاية الأولى:
وفد أهل الكوفة على معاوية حين خطب لابنه يزيد بالعهد بعده، وفى أهل الكوفة
هانئ بن عروة - المرادي وكان سيدا في قومه - فقال يوما في مسجد دمشق والناس حوله:
العجب لمعاوية يريد أن يقسرنا على بيعة يزيد، وحاله حاله، وما ذاك والله بكائن وكان
407

في القوم غلام من قريش جالسا، فتحمل الكلمة إلى معاوية، فقال معاوية: أنت سمعت
هانئا يقولها؟ قال: نعم، قال: فاخرج فأت حلقته، فإذا خف الناس عنه فقل
له: أيها الشيخ، قد وصلت كلمتك إلى معاوية، ولست في زمن أبى بكر وعمر،
ولا أحب أن تتكلم بهذا الكلام فإنهم بنو أمية، وقد عرفت جرأتهم
وإقدامهم، ولم يدعني إلى هذا القول لك إلا النصيحة والاشفاق عليك، فانظر
ما يقول، فأتني به.
فأقبل الفتى إلى مجلس هانئ، فلما خف من عنده دنا منه فقص عليه الكلام وأخرجه
مخرج النصيحة له، فقال هانئ: والله يا بن أخي ما بلغت نصيحتك كل ما أسمع،
وإن هذا الكلام لكلام معاوية أعرفه! فقال الفتى: وما أنا ومعاوية! والله ما يعرفني،
قال: فلا عليك، إذا لقيته فقل له: يقول لك هانئ: والله ما إلى ذلك من سبيل، انهض
يا بن أخي راشدا!
فقام الفتى فدخل على معاوية فأعلمه، فقال: نستعين بالله عليه.
ثم قال معاوية بعد أيام للوفد: ارفعوا حوائجكم - وهانئ فيهم - فعرض عليه كتابه
فيه ذكر حوائجه، فقال: يا هانئ، ما أراك صنعت شيئا، زد فقام، هانئ فلم يدع حاجة
عرضت له إلا وذكرها، ثم عرض عليه الكتاب فقال: أراك قصرت فيما طلبت، زد،
فقام هانئ فلم يدع حاجة لقومه ولا لأهل مصره إلا ذكرها، ثم عرض عليه الكتاب،
فقال: ما صنعت شيئا، زد، فقال: يا أمير المؤمنين، حاجة بقيت، قال: ما هي؟ قال:
أن أتولى أخذ البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين بالعراق، قال: افعل، فما زلت لمثل ذلك
أهلا، فلما قدم هانئ العراق قام بأمر البيعة ليزيد بمعونة من المغيرة بن شعبة وهو الوالي
بالعراق يومئذ.
408

وأما الحكاية الثانية:
كان مال حمل من اليمن إلى معاوية فلما مر بالمدينة وثب عليه الحسين بن علي (عليه
السلام)، فأخذه وقسمه في أهل بيته ومواليه، وكتب إلى معاوية: من الحسين بن علي إلى
معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فإن عيرا مرت بنا من اليمن تحمل مالا وحللا وعنبرا
وطيبا إليك لتودعها خزائن دمشق وتعل بها بعد النهل بنى أبيك، وإني احتجت إليها
فأخذتها. و السلام.
فكتب إليه معاوية: من عند عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن علي:
سلام، عليك، أما بعد، فإن كتابك ورد على تذكر أن عيرا مرت بك من
اليمن تحمل مالا وحللا وعنبرا وطيبا إلى لأودعها خزائن دمشق، وأعل بها بعد النهل
بنى أبى، وأنك احتجت إليها فأخذتها ولم تكن جديرا بأخذها إذ نسبتها إلى لان الوالي
أحق بالمال، ثم عليه المخرج منه، وأيم الله لو ترك ذلك حتى صار إلى، لم أبخسك
حظك منه، ولكني قد ظننت يا بن أخي أن في رأسك نزوة وبودي أن يكون ذلك
في زماني فأعرف لك قدرك، وأتجاوز عن ذلك، ولكني والله أتخوف أن تبتلى بمن
ولا ينظرك فواق ناقة، وكتب في أسفل كتابه:
يا حسين بن علي أو ليس
ما * جئت بالسائغ يوما في العلل
أخذك المال ولم تؤمر به * إن هذا من حسين لعجل
قد أجزناها ولم نغضب لها * واحتملنا من حسين ما فعل
يا حسين بن علي ذا الامل لك بعدي وثبة لا تحتمل
وبودي أنني شاهدها * فأليها منك بالخلق الاجل
إنني أرهب أن تصلى بمن * عنده قد سبق السيف العذل
وهذه سعة صدر وفراسة صادقة.
409

(179)
الأصل:
ازجر المسئ بثواب المحسن.
* * *
الشرح:
قد قال ابن هانئ المغربي في هذا المعنى:
لولا انبعاث السيف وهو مسلط * في قتلهم قتلتهم النعماء
فأفصح به أبو العتاهية في قوله:
إذا جازيت بالاحسان قوما * زجرت المذنبين عن الذنوب
فما لك والتناول من بعيد * ويمكنك التناول من قريب
410

(180)
الأصل:
أحصد الشر من صدر غيرك، بقلعه من صدرك.
* * *
الشرح:
هذا يفسر على وجهين:
أحدهما أنه يريد: لا تضمر لأخيك سوءا، فإنك لا تضمر ذاك إلا يضمر هو لك سوءا،
لان القلوب يشعر بعضها ببعض، فإذا صفوت لواحد صفا لك.
والوجه الثاني أن يريد: لا تعظ الناس ولا تنههم عن منكر إلا وأنت مقلع عنه،
فإن الواعظ الذي أو ليس
بزكي لا ينجع (1) وعظه، ولا يؤثر نهيه.
وقد سبق الكلام في كلا المعنيين.

(1) آ: " ينفع ".
411

(181)
الأصل:
اللجاجة تسل الرأي.
* * *
الشرح:
هذا مشتق من قوله (عليه السلام): " لا رأى لمن لا يطاع "، وذلك لأن عدم الطاعة
هو اللجاجة، وهو خلق يتركب من خلقين: أحدهما الكبر، والاخر الجهل بعواقب الأمور
وأكثر ما يعتري الولاة لما يأخذهم من العزة بالإثم.
ومن كلام بعض الحكماء: إذا اضطررت إلى مصاحبة السلطان، فابدأ بالفحص
عن معتاد طبعه ومألوف خلقه، ثم استحدث لنفسك طبعا ففرغه في قالب إرادته،
وخلقا تركبه مع موضع وفاقه حتى تسلم معه، وإن رأيته يهوى فنا من فنون المحبوبات
فأظهر هواك لضد ذلك الفن، ليبعد عنك إرهابه، بل ويكثر سكونه إليك،
وإذا بدا لك منه فعل ذميم فإياك أن تبدأه فيه بقول ما لم يستبذل فيه نصحك، ويستدعى
رأيك، وإن استدعى ذاك فليكن ما تفاوضه فيه بالرفق والاستعطاف، لا بالخشونة
والاستنكاف، فيحمله اللجاج المركب في طبع الولاة على ارتكابه، فكل وال لجوج،
وإن علم ما يتعقبه لجاجه من الضرر وإن اجتنابه هو الحسن.
412

(182)
الأصل:
الطمع رق مؤبد.
* * *
الشرح:
هذا المعنى مطروق جدا، وقد سبق لنا فيه قول شاف.
وقال الشاعر:
تعفف وعش حرا ولاتك طامعا * فما قطع الأعناق إلا المطامع.
وفى المثل: أطمع من أشعب، رأى سلالا يصنع سلة، فقال له: أوسعها، قال:
ما لك وذاك، قال: لعل صاحبها يهدى لي فيها شيئا.
ومر بمكتب وغلام يقرأ على الأستاذ: (إن أبى يدعوك)، فقال: قم بين يدي
حفظك الحفظ أباك، فقال: إنما كنت أقرأ وردي، فقال: أنكرت أن تفلح
أو يفلح أبوك!
وقيل: لم يكن أطمع من أشعب إلا كلبه، رأى صورة القمر في البئر فظنه رغيفا،
فألقى نفسه في البئر يطلبه، فمات.
413

(183)
الأصل:
ثمرة التفريط الندامة، وثمرة الحزم السلامة.
* * *
الشرح:
قد سبق من الكلام في الحزم والتفريط ما فيه كفاية. وكان يقال: الحزم ملكة
يوجبها كثرة التجارب، وأصله قوة العقل، فإن العاقل خائف أبدا، والأحمق لا يخاف،
وإن خاف كان قليل الخوف، ومن خاف أمرا توقاه، فهذا هو الحزم.
وكان أبو الأسود الدؤلي من عقلاء الرجال وذوي الحزم والرأي، وحكى أبو العباس
المبرد قال: قال زياد لأبي الأسود - وقد أسن -: لولا ضعفك لاستعملناك على بعض أعمالنا،
فقال: أللصراع يريدني الأمير! قال زياد: إن للعمل مئونة، ولا أراك إلا تضعف عنه،
فقال أبو الأسود:
زعم الأمير أبو المغيرة أنني * شيخ كبير قد دنوت من البلى
صدق الأمير لقد كبرت وإنما * نال المكارم من يدب على العصا
يا با المغيرة رب أمر مبهم * فرجته بالحزم منى والدها
وكان يقال: من الحزم والتوقي ترك الافراط في التوقي.
لما نزل بمعاوية الموت وقدم عليه يزيد ابنه فرآه مسكتا لا يتكلم، بكى وأنشد:
لو فات شئ يرى لفات أبو: حيان لا عاجز ولا وكل
الحول القلب الأريب ولا تدفع يوم المنية الحيل

(1) الكامل.
(2) ديوانه.
414

(184)
الأصل:
من لم ينجه الصبر، أهلكه الجزع.
* * *
الشرح:
قد تقدم لنا قول شاف في الصبر والجزع.
وكان يقال: ما أحسن الصبر لولا أن النفقة عليه من العمر! أخذه شاعر فقال:
وإني لأدري أن في الصبر راحة * ولكن إنفاقي على الصبر من عمري
وقال ابن أبي العلاء يستبطئ بعض الرؤساء:
فإن قيل لي صبرا فلا صبر للذي * غدا بيد الأيام تقتله صبرا
وإن قيل لي عذرا فوالله ما أرى * لمن ملك الدنيا إذا لم يجد عذرا
فإن قلت: أي فائدة في قوله (عليه السلام): " من لم ينجه الصبر أهلكه الجزع "؟ وهل
هذا إلا كقول من قال: " من لم يجد ما يأكل ضره (1) الجوع؟ ".
قلت: لو كانت الجهة واحدة، لكان الكلام عبثا، إلا أن الجهة مختلفة، لان معنى كلامه
(عليه السلام) من لم يخلصه الصبر من هموم الدنيا وغمومها هلك من الله تعالى في الآخرة
بما يستبدله من الصبر بالجزع، وذلك لأنه إذا لم يصبر فلا شك أنه يجزع، وكل جازع آثم
والاثم مهلكة، فلما اختلفت الجهة وكانت تارة للدنيا وتارة للآخرة لم يكن الكلام عبثا بل
كان مفيدا.

(1) في د: " أهلكه ".
415

(185)
الأصل:
واعجبا أن تكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة.
قال الرضى رحمه الله تعالى وقد روى له شعر قريب من هذا المعنى وهو:
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب! (1)
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب
* * *
الشرح:
حديثه (عليه السلام) في النثر والنظم المذكورين مع أبي كر وعمر، أما النثر فإلى عمر
توجيهه لان أبا بكر لما قال لعمر: امدد يدك، قال له عمر: أنت صاحب رسول الله في المواطن
كلها، شدتها ورخائها، فامدد أنت يدك، فقال على (عليه السلام): إذا احتججت لاستحقاقه
الامر بصحبته إياه في المواطن كلها، في سلمت الامر إلى من قد شركه في ذلك، وزاد
عليه " بالقرابة "! وأما النظم فموجه إلى أبى بكر، لان أبا بكر حاج الأنصار في السقيفة.
فقال: نحن عترة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبيضته التي تفقأت عنه، فلما بويع احتج
على الناس بالبيعة، وأنها صدرت عن أهل الحل والعقد، فقال على (عليه السلام): أما
احتجاجك على الأنصار بأنك من بيضة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن قومه، فغيرك أقرب
نسبا منك إليه، وأما احتجاجك بالاختيار ورضا الجماعة بك، فقد كان قوم من جملة الصحابة
غائبين لم يحضروا العقد فكيف يثبت!
واعلم أن الكلام في هذا تتضمنه كتب أصحابنا في الإمامة، ولهم عن هذا القول أجوبة
ليس هذا موضع ذكرها.
تم الجزء الثامن عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
ويليه الجزء التاسع عشر
416