الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ١٩
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات:

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء التاسع عشر
دار احياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

الطبعة الثانية
(1967 م - 1387 ه‍)
جميع الحقوق محفوظة
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
قم - إيران 1404 ه‍ ق
2

بيان
يشتمل هذا الجزء على شرح طائفة من مختار حكم أمير المؤمنين، ومواعظه وأجوبة
مسائله والكلام القصير الخارج في سائر أغراضه، وهو القسم الثاني مما اختاره له الشريف
الرضى في كتاب " نهج البلاغة "، وينتهي هذا القسم في أثناء الجزء التالي.
وقد روجع على الجزء الرابع من المجموعة الخامسة من النسخة المصورة عن أصلها
المحفوظ بمكتبة المتحف البريطاني برقم 126، وهي التي رمزت لها بالحرف ا.
وأصل هذا الجزء يقع في تسعين ورقة مسطرتها 25 سطرا، في كل سطر 13 كلمة تقريبا،
مكتوب بخط نسخ معتاد قليل الشكل، وأم يتضح اسم ناسخه ولا تاريخ نسخه، ويبدو
أنه كتب في القرن الحادي عشر.
كما روجع على ما يقابله من المجلد الأخير من النسخة المحفوظة بدار الكتب برقم
1868 - أدب، وهي التي رمزت لها بالحرف د، وسبق وصفها في مقدمة الجزء السادس
عشر من هذه الطبعة. وعلى النسخة المطبوعة في طهران سنة 1271 عن أصلها المخطوط
في هذا التاريخ، والتي رمزت لها بالحرف ب.
والله الموفق للصواب.
7 ربيع الأول سنة 1383 ه‍
28 يوليه سنة 1963 م محمد أبو الفضل إبراهيم
3

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
(586 - 656)
تحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
5

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل
(186)
الأصل:
إنما المرء في الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، ونهب تبادره المصائب، ومع
كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص، ولا ينال العبد نعمة إلا بفراق
أخرى، ولا يستقبل يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله، فنحن أعوان
المنون، وأنفسنا نصب الحتوف، فمن أين نرجو البقاء، وهذا الليل والنهار لم
يرفعا من شئ شرفا، إلا أسرعا الكره في هدم ما بنيا، وتفريق ما جمعا!
الشرح:
قد سبق ذرء (1) من هذا الكلام في أثناء خطبته عليه السلام، وقد ذكرنا نحن أشياء
كثيرة في الدنيا وتقلبها بأهلها.
ومن كلام بعض الحكماء: طوبى للهارب من زخارف الدنيا، والصاد عن زهرة
دمنتها، والخائف عند أمانها، والمتهم لضمانها، والباكي عند ضحكها إليه، والمتواضع
عند اعزازها له، والناظر بعين عقله إلى فضائحها، والمتأمل لقبح مصارعها، والتارك

(1) ذرء: أي طرف.
7

لكلابها على جيفها، والمكذب لمواعيدها، والمتيقظ لخدعها، والمعرض عن لمعها،
والعامل في إمهالها، والمتزود قبل إعجالها.
قوله: (تنتضل) النضل شئ يرمى، ويروى (تبادره) أي تتبادره،
والغرض: الهدف.
والنهب: المال المنهوب غنيمة، وجمعه نهاب.
وقد سبق تفسير قوله: (لا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى)، وقلنا: إن الذي
حصلت له لذة الجماع حال ما هي حاصلة له، لا بد أن يكون مفارقا لذة الأكل والشرب،
وكذلك من يأكل ويشرب يكون مفارقا حال أكله وشربه لذة الركض على الخيل
في طلب الصيد، ونحو ذلك.
قوله: (فنحن أعوان المنون) لأنا نأكل، ونشرب، ونجا مع، ونركب الخيل،
والإبل، ونتصرف في الحاجات والمآرب، والموت إنما يكون بأحد هذه الأسباب، أما من
أخلاط تحدثها المآكل والمشارب، أو من سقطة يسقط الانسان من دابة هو راكبها،
أو من ضعف يلحقه من الجماع المفرط، أو لمصادمات واصطكاكات تصيبه عند تصرفه
في مآربه وحركته وسعيه، ونحو ذلك، فكأنا نحن أعنا الموت على أنفسنا.
قوله: (نصب الحتوف) يروى: بالرفع والنصب، فمن رفع فهو خبر المبتدأ، ومن
نصبه جعله ظرفا.
8

(187)
الأصل
لا خير في الصمت عن الحكم، كما إنه لا خير في القول بالجهل.
قد تكرر ذكر هذا القول، وتكرر منا شرحه (1) وشرح نظائره.
وكان يقال ما الانسان لولا اللسان الا بهيمة مهملة، أو صورة ممثلة.
وكان يقال اللسان عضو إن مرنته مرن (2)، وإن تركته خزن (3)

(1) ا (شرح له).
(2) ا: (تمرن).
(3) خزن: تغير وفسد.
9

(188)
الأصل
يا بن آدم، ما كسبت فوق قوتك، فأنت فيه خازن لغيرك.
الشرح:
أخذ هذا المعنى بعضهم، فقال:
ما لي أراك الدهر تجمع دائبا * البعل عرسك لا أبا لك تجمع!.
وعاد الحسن البصري عبد الله بن الأهتم في مرضه الذي مات فيه، فأقبل عبد الله
يصرف بصره إلى صندوق في جانب البيت، ثم قال للحسن: يا أبا سعيد، فيه مائة الف
لم يؤد منها زكاة، ولم توصل بها رحم، قال الحسن: ثكلتك أمك! فلم أعددتها؟
قال، لروعة الزمان، ومكاثرة الاخوان، وجفوه السلطان.
ثم مات، فحضر الحسن جنازته، فلما دفن صفق (1) بإحدى راحتيه الأخرى، وقال:
إن هذا تاه شيطانه، فحذره روعة زمانه، وجفوة سلطانه، ومكاثرة إخوانه، فيما
استودعه الله إياه فادخره، ثم خرج منه كئيبا حزينا، لم يؤد زكاة، ولم يصل رحما.
ثم التفت فقال: أيها الوارث، كل هنيئا، فقد أتاك هذا المال حلالا، فلا يكن عليك
وبالا، أتاك ممن كان له جموعا منوعا، يركب فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، من باطل
جمعه، ومن حق منعه لم ينتفع به في حياته، وضره بعد وفاته، جمعه فأوعاه، وشده
فأوكاه (2) إلى يوم القيامة، يوم ذي حسرات، وإن أعظم الحسرات أن ترى مالك
في ميزان غيرك، بخلت بمال أوتيته من رزق الله إن تنفقه في طاعة الله، فخزنته
لغيرك، فأنفقه في مرضاة ربه، يا لها حسرة لا تقال، ورحمة لا تنال! إنا لله
وإنا إليه راجعون!

(1) صفق بإحدى راحتيه الأخرى أي ضرب عليها.
(2) أوكاه: أحكم رباطه، من الوكاء، وهو رباط القربة.
10

(189)
الأصل:
إن للقلوب شهوة وإقبالا، وإدبارا، فأتوها من قبل شهوتها واقبالها، فإن
القلب إذا أكره عمى.
الشرح:
قد تقدم القول في هذا المعنى.
والعلة في كون القلب يعمى إذا أكره على ما لا يحبه، أن القلب عضو من الأعضاء،
يتعب ويستريح كما تتعب الجثة عند استعمالها وأحمالها، وتستريح عند ترك العمل، كما
يتعب اللسان عند الكلام الطويل، ويستريح عند الامساك، وإذا تواصل (1)
إكراه القلب على أمر لا يحبه ولا يؤثره تعب، لان فعل غير المحبوب متعب، ألا
ترى أن جماع غير المحبوب يحدث من الضعف أضعاف ما يحدثه جماع المحبوب،
والركوب إلى مكان غير محبوب متعب ولا يشتهى يتعب البدن اضعاف ما يتعبه
الركوب إلى تلك المسافة إذا كان المكان محبوبا، وإذا أتعب القلب وأعيا، عجز عن
إدراك ما نكلفه إدراكه، لان فعله هو الادراك، وكل عضو يتعب فإنه يعجز (2)
عن فعله الخاص به، فإذا عجز القلب عن فعله الخاص به وهو العلم والإدراك،
فذاك هو عماه.

(1) ا: (توصل).
(2) ا: (عاجز).
11

(190)
الأصل:
وكان عليه السلام يقول
متى أشفى غيظي إذا غضبت! أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي: لو صبرت!
أم حين أقدر عليه، فيقال لي: لو عفوت!
الشرح:
قد تقدم القول في الغضب مرارا.
وهذا الفصل فصيح لطيف المعنى، قال: لا سبيل لي إلى شفاء غيظي عند غضبي،
لأني إما أن أكون قادرا على الانتقام فيصدني عن تعجيله قول القائل لو غفرت لكان
أولى! وأما ألا أكون قادرا على الانتقام فيصدني عنه كوني غير قادر عليه، فإذن
لا سبيل لي إلى الانتقام عند الغضب.
وكان يقال العقل كالمرآة المجلوة يصدئه الغضب، كما تصدأ المرآة بالخل، فلا يثبت
فيها صورة القبح والحسن.
واجتمع سفيان الثوري وفضيل (1) بن عياض فتذاكرا الزهد، فأجمعا على أن
أفضل الأعمال الحلم عند الغضب، والصبر عند الطمع.

(1) ا: (الفضل).
12

(191)
الأصل:
وقال عليه السلام وقد مر بقذر على مزبلة: هذا ما بخل به الباخلون.
وفى خبر آخر إنه قال: هذا ما كنتم تتنافسون فيه بالأمس!
الشرح:
قد سبق القول في مثل هذا، وأن الحسن البصري مر على مزبلة، فقال: انظروا
إلى بطهم ودجاجهم وحلوائهم وعسلهم وسمنهم، والحسن إنما أخذه من كلام أمير المؤمنين
عليه السلام، وقال ابن وكيع في قول المتنبي:
لو أفكر العاشق في منتهى * حسن الذي يسبيه لم يسبه (1)
إنه أراد: لو أفكر في حاله وهو في القبر، وقد تغيرت محاسنه، وسالت عيناه،
قال وهذا مثل قولهم: لو أفكر الانسان فيما يؤول إليه الطعام لعافته نفسه.
وقد ضرب العلماء مثلا للدنيا ومخالفه آخرها أولها، ومضادة مباديها عواقبها،
فقالوا إن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة، وسيجد
الانسان عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة
اللذيذة إذا طبختها المعدة وبلغت غاية نضجها، وكما أن الطعام كلما كان ألذ طعما وأظهر
حلاوة، كان رجيعه أقذر وأشد نتنا، فكذلك كل شهوة في القلب أشهى وألذ وأقوى،

(1) ديوانه 1: 212.
13

فإن نتنها وكراهتها والتأذي بها عند الموت أشد، بل هذه الحال في الدنيا مشاهدة، فإن
[من] (1) نهبت داره، وأخذ أهله وولده وماله، تكون مصيبته وألمه وتفجعه في
الذي فقد بمقدار لذته به، وحبه له، وحرصه عليه، فكل ما كان في الوجود أشهى
وألذ، فهو عند الفقد أدهى وأمر، ولا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا.
وقد روى أن النبي صلى الله عليه وآله قال للضحاك بن سفيان الكلابي: ألست
تؤتى بطعامك وقد قزح و ملح (2)، ثم تشرب عليه اللبن والماء! قال: بلى، قال،
فإلى ماذا يصير؟ قال، إلى ما قد علمت يا رسول الله، قال، فإن الله عز وجل ضرب
مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم.
وروى أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن أنت ضربت
مثلا لابن آدم فانظر ما يخرج من ابن آدم، وإن كان قزحه وملحه إلى ماذا صار.
وقال الحسن رحمه الله قد رأيتهم يطيبونه بالطيب والأفاويه (3) ثم يرمونه حيث
رأيتم، قال الله عز وجل: (فلينظر الانسان إلى طعامه) (4)، قال ابن عباس
إلى رجيعة. وقال رجل لابن عمر: إني أريد أن أسألك واستحيى، فقال: لا تستحي وسل، قال: إذا قضى أحدنا حاجته فقام، هل ينظر إلى ذلك منه؟ فقال: نعم، إن الملك يقول له انظر هذا ما بخلت به، انظر إلى ماذا صار!

(1) تكملة من د.
(2) يقال: قزح القدر كمنع، جعل فيها بزر البصل والتابل.
(3) الأفاوه: جمع أفواه، وهي التوابل.
(4) سورة عبس 24.
14

(192)
الأصل:
لم يذهب من مالك ما وعظك
مثل هذا قولهم إن المصائب أثمان التجارب.
وقيل لعالم فقير بعد أن كان غنيا أين مالك؟ قال: تجرت (1) فيه فابتعت به تجربة
الناس والوقت، فاستفدت أشرف العوضين (2)

(1) ا: (تاجرت).
(2) ا: (الشيئين).
15

(193)
الأصل:
إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة.
الشرح:
هذا قد تكرر، وتكرر منا ذكر ما قيل في إجمام النفس، والتنفيس عنها من
كرب الجد بروح الإحماض (1) وفسرنا معنى قوله عليه السلام: (فابتغوا لها طرائف الحكمة)
وقلنا المراد الا يجعل الانسان وقته كله مصروفا إلى الأنظار العقلية في البراهين الكلامية
والحكمية، بل ينقلها من ذلك أحيانا إلى النظر في الحكمة الخلقية فإنها حكمة لا تحتاج
إلى إتعاب النفس والخاطر.
فأما القول في الدعابة فقد ذكرناه أيضا فيما تقدم، وأوضحنا أن كثيرا من أعيان
الحكماء والعلماء كانوا ذوي دعابة مقتصدة لا مسرفة، فإن الاسراف فيها يخرج صاحبه
إلى الخلاعة، ولقد أحسن من قال:
أفد طبعك المكدود بالجد راحه * تجم وعلله بشئ من المزح (2)
ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن * بمقدار ما يعطى الطعام من الملح (3)

(1) الإحماض: التنقل من الجد إلى المزح.
(2) المكدود: المجهد.
(3) أي على قدر من الاعتدال.
16

(194)
الأصل:
وقال عليه السلام لما سمع قول الخوارج لا حكم إلا لله، كلمة حق
يراد بها باطل.
معنى قوله سبحانه: (إن الحكم إلا لله) (1)، أي إذا أراد شيئا من أفعال
نفسه فلا بد من وقوعه، بخلاف غيره من القادرين بالقدرة فإنه لا يجب حصول
مرادهم إذا أرادوه، الا ترى ما قبل هذه الكلمة: (يا بنى لا تدخلوا من باب واحد
وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شئ إن الحكم الا لله)
خاف عليهم من الإصابة بالعين إذا دخلوا من باب واحد، فأمرهم أن يدخلوا من أبواب
متفرقة، ثم قال لهم: (وما أغنى عنكم من الله من شئ)، أي إذا أراد الله بكم سوءا لم يدفع
عنكم ذلك السوء ما أشرت به عليكم من التفرق، ثم قال: (إن الحكم إلا لله)
أي ليس حي من الاحياء ينفذ حكمه لا محالة ومراده لما هو من أفعاله إلا الحي القديم
وحده، فهذا هو معنى هذه الكلمة، وضلت الخوارج عندها فأنكروا على أمير المؤمنين
عليه السلام موافقته على التحكيم، وقالوا كيف يحكم وقد قال الله سبحانه: (إن الحكم
إلا لله)، فغلطوا لموضع اللفظ المشترك، وليس هذا الحكم هو ذلك الحكم، فإذن هي
كلمة حق يراد بها باطل، لأنها حق على المفهوم الأول، ويريد بها الخوارج نفى كل
ما يسمى حكما إذا صدر عن غير الله تعالى، وذلك باطل، لان الله تعالى قد أمضى حكم
المخلوقين في كثير من الشرائع.

(1) سورة يوسف 67.
17

(195)
الأصل:
وقال عليه السلام في صفة الغوغاء:
هم الذين إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا.
وقيل: بل قال عليه السلام: هم الذين إذا اجتمعوا ضروا، وإذا تفرقوا نفعوا،
فقيل قد علمنا مضرة اجتماعهم، فما منفعة افتراقهم؟ فقال عليه السلام:
يرجع أهل المهن إلى مهنهم، فينتفع الناس بهم، كرجوع البناء إلى
بنائه، والنساج إلى منسجه، والخباز إلى مخبزه.
الشرح:
كان الحسن إذا ذكر الغوغاء وأهل السوق قال: قتلة الأنبياء، وكان يقال العامة
كالبحر إذا هاج أهلك راكبه. وقال بعضهم لا تسبوا الغوغاء فإنهم يطفئون الحريق،
وينقذون الغريق، ويسدون البثوق (1).
وقال شيخنا أبو عثمان: الغاغة والباغة (2) والحاكة كأنهم أعذار عام واحد، ألا
ترى إنك لا تجد أبدا في كل بلدة وفي كل عصر هؤلاء بمقدار واحد وجهة واحدة
من السخف والنقص والخمول والغباوة، وكان المأمون يقول كل شر وظلم (3) في العالم

(1) البثوق: الشقوق في الأنهار.
(2) الباغة: الحمقى.
(3) في د: (وضر).
18

فهو صادر عن العامة والغوغاء، لأنهم قتلة الأنبياء والمغرون (1) بين العلماء،
والنمامون بين الأوداء (2)، ومنهم اللصوص، وقطاع الطريق، والطرارون (3)،
والمحتالون والساعون إلى السلطان (4)، فإذا كان يوم القيامة حشروا على عادتهم في السعاية
فقالوا: (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من
العذاب والعنهم لعنا كبيرا) (5)

(1) في د (والمفرقون).
(2) في د (الأولياء).
(3) الطرارون: (المروجون للسلع).
(4) ا: الحكام.
(5) سورة الأحزاب 67.
19

(196)
الأصل:
وقال عليه السلام وقد أتى بجان ومعه غوغاء فقال:
لا مرحبا بوجوه لا ترى إلا عند كل سوأة.
الشرح:
أخذ هذا اللفظ المستعين بالله وقد أدخل عليه ابن أبي الشوارب القاضي ومعه الشهود
ليشهدوا عليه إنه قد خلع نفسه من الخلافة وبايع للمعتز بالله، فقال: لا مرحبا بهذه الوجوه
التي لا ترى إلا يوم (1) سوء.
وقال من مدح الغوغاء والعامة إن في الحديث المرفوع: إن الله ينصر هذا الدين بقوم
لا خلاق لهم.
وكان الأحنف يقول أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار.
وقال الشاعر
وإني لأستبقي أمرا السوء عده * لعدوه عريض من الناس جائب (2)
أخاف كلاب الأبعدين وهرشها * إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب

(1) د (إلا عند السوء).
(2) الجائب: المتنقل من مكان إلى مكان.
20

(197)
الأصل:
إن مع كل انسان ملكين يحفظانه، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، وإن
الاجل جنة حصينة.
الشرح:
قد تقدم هذا، وقلنا: إنه ذهب كثير من الحكماء هذا المذهب، وإن لله تعالى
ملائكة موكله تحفظ البشر من التردي في بئر، ومن أصابه سهم معترض في
طريق، ومن رفس دابة، ومن نهش حية، أو لسع عقرب، و نحو ذلك. والشرائع
أيضا قد وردت بمثله [وإن] (1) الاجل جنة، أي درع، و لهذا في علم الكلام مخرج
صحيح، وذلك لان أصحابنا يقولون إن الله تعالى إذا علم أن في بقاء زيد إلى وقت
كذا لطفا له أو لغيره من المكلفين صد من يهم بقتله عن قتله بألطاف يفعلها تصده
عنه أو تصرفه عنه بصارف، أو يمنعه عنه بمانع، كي لا يقطع ذلك الانسان بقتل زيد
الألطاف التي يعلم الله إنها مقربة من الطاعة، ومبعدة من المعصية (2) لزيد
أو لغيره، فقد بان أن الاجل على هذا التقدير جنة حصينة لزيد، من حيث كان الله
تعالى باعتبار ذلك الاجل مانعا من قتله وإبطال حياته، ولا جنة أحصن من ذلك.

(1) من د، وفى ب: (وأما).
(2) د (عن القبيح).
21

(198)
الأصل:
وقال عليه السلام وقد قال له طلحة والزبير: نبايعك على أنا شركاؤك في
هذا الامر، فقال:
[لا] (1) ولكنكما شريكان في القوة والاستعانة، وعونان على العجر
والأود.
الشرح:
قد ذكرنا هذا فيما تقدم حيث شرحنا بيعة المسلمين لعلى عليه السلام كيف وقعت
بعد مقتل عثمان، ولقد أحسن فيما قال لهما لما سألاه أن يشركاه في الامر، فقال: أما
المشاركة في الخلافة فكيف يكون ذلك؟ وهل يصح أن يدبر أمر الرعية إمامان!
* وهل يجمع السيفان ويحك في غمد (2) *.
وإنما تشركاني في القوة والاستعانة أي إذا قوى أمري وأمر الاسلام بي قويتما
أنتما أيضا، وإذا عجزت عن أمر، أو تأود على أمر - أي أعوج - كنتما عونين لي
ومساعدين على إصلاحه.
فإن قلت: فما معنى قوله: (والاستعانة)؟
قلت: الاستعانة هاهنا الفوز والظفر، كانوا يقولون للقامر يفوز قدحه قد جرى
ابنا عنان. وهما خطان يخطان في الأرض يزجر بهما الطير، واستعان الانسان، إذا قال
وقت الظفر والغلبة هذه الكلمة.

(1) تكملة من (د).
(2) عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره: * تريدين كيما تجمعيني وخالدا *
ديوان الهذليين 1: 159.
22

(199)
الأصل:
أيها الناس، اتقوا الله الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم، وبادروا
الموت الذي إن هربتم منه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم، وإن
نسيتموه ذكركم.
الشرح:
قد تقدم منا كلام كثير في ذكر الموت، ورأي الحسن البصري رجلا يجود
بنفسه، فقال: إن أمرا هذا آخره، لجدير أن يزهد في أوله، وإن أمرا هذا أوله لجدير
أن يخاف من آخره.
ومن كلامه فضح الموت الدنيا.
وقال خالد بن صفوان: لو قال قائل الحسن أفصح الناس لهذه الكلمة لما كان مخطئا.
وقال لرجل في جنازة: أترى هذا الميت لو عاد إلى الدنيا لكان يعمل عملا صالحا؟ قال:
نعم، قال: فإن لم يكن ذلك فكن أنت ذاك.
23

(200)
الأصل:
لا يزهدنك في المعروف من لا يشكره لك، فقد يشكرك عليه من
لا يستمتع بشئ منه، وقد يدرك من شكر الشاكر أكثر مما أضاع الكافر،
والله يحب المحسنين.
الشرح:
قد أخذت أنا هذا المعنى فقلت من جملة قصيدة لي حكمية:
لا تسدين إلى ذي اللؤم مكرمة * فإنه سبخ لا ينبت الشجرا
فإن زرعت فمحفوظ بمضيعة * وأكل زرعك شكر الغير إن كفرا
وقد سبق منا كلام طويل في الشكر.
ورأي العباس بن المأمون يوما بحضرة المعتصم خاتما في يد إبراهيم بن المهدى،
فاستحسنه، فقال له: ما فص هذا الخاتم، ومن أين حصلته؟ فقال إبراهيم: هذا خاتم
رهنته في دولة أبيك، وافتككته في دولة أمير المؤمنين، فقال العباس: فإن لم
تشكر أبى على حقنه دمك، فأنت لا تشكر أمير المؤمنين على فكه خاتمك.
وقال الشاعر
لعمرك ما المعروف في غير أهله * وفي أهله إلا كبعض الودائع
فمستودع ضاع الذي كان عنده * ومستودع ما عنده غير ضائع
وما الناس في شكر الصنيعة عندهم * وفي كفرها إلا كبعض المزارع
فمزرعة طابت وأضعف نبتها * ومزرعة أكدت على كل زارع
24

(201)
الأصل:
كل وعاء يضيق بما جعل فيه، إلا وعاء العلم فإنه يتسع به.
الشرح:
هذا الكلام تحته سر عظيم، ورمز إلى معنى شريف غامض، ومنه أخذ مثبتوا
النفس الناطقة الحجة على قولهم، ومحصول ذلك أن القوى الجسمانية يكلها ويتعبها
تكرار أفاعيلها عليها، كقوة البصر يتعبها تكرار إدراك المرئيات، حتى ربما أذهبها
وأبطلها أصلا، وكذلك قوة السمع يتعبها تكرار الأصوات، عليها وكذلك غيرها
من القوى الجسمانية، ولكنا وجدنا القوة العاقلة بالعكس من ذلك (1) فان
الانسان كلما تكررت عليه المعقولات ازدادت قوته العقلية سعة وانبساطا واستعدادا
لادراك أمور أخرى غير ما أدركته من قبل، حتى كان تكرار المعقولات عليها
يشحذها (2) ويصقلها، فهي إذن مخالفة في هذا الحكم للقوى الجسمانية، فليست منها،
لأنها لو كانت منها لكان حكمها حكم واحد من أخواتها، وإذا لم تكن جسمانية
فهي مجردة، وهي التي نسميها بالنفس الناطقة.

(1) ا: (هذا).
(2) يشحذها: يحدها.
25

(202)
الأصل:
أول عوض الحليم من حلمه، أن الناس أنصاره على الجاهل.
الشرح:
قد تقدم من أقوالنا في الحلم ما في بعضه كفاية.
وفى الحكم القديمة: لا تشن حسن الظفر بقبح الانتقام.
وكان يقال اعف عمن أبطأ عن الذنب، وأسرع إلى الندم.
وكان يقال شاور الأناة والتثبت وذاكر الحفيظة (1) عند هيجانها ما في عواقب
العقوبة من الندم، وخاصمها بما يؤدى إليه الحلم من الاغتباط.
وكان يقال ينبغي للحازم أن يقدم على عذابه وصفحة تعريف المذنب بما جناه،
والا نسب حلمه إلى الغفلة وكلال حد الفطنة. وقالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله
يوم فتح مكة: إنهم فعلوا بك ثم فعلوا، يغرونه بقريش، فقال: (إنما سميت محمدا
لأحمد).

(1) الحفيظة: الحمية والغضب.
26

(203)
الأصل:
إن لم تكن حليما فتحلم، فإنه قل من تشبه بقوم إلا أوشك أن
يكون منهم.
الشرح:
التحلم تكلف الحلم، والذي قاله عليه السلام صحيح في مناهج الحكمة، وذلك
لان من تشبه بقوم وتكلف التخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، واستمر على ذلك
ومرن عليه الزمان الطويل، اكتسب رياضه قوية، وملكة تامة، وصار ذلك التكلف
كالطبع له، وانتقل عن الخلق الأول، ألا ترى أن الأعرابي الجلف الجافي إذا دخل
المدن والقرى وخالط أهلها وطال مكثه فيهم انتقل عن خلق الاعراب الذي نشأ
عليه، وتلطف طبعه، وصار شبيها بساكني المدن، وكالأجنبي عن ساكني الوبر، وهذا
قد وجدناه في حيوانات أخرى غير البشر كالبازي والصقر والفهد التي تراض حتى
تذل وتأنس وتترك طبعها القديم، بل قد شاهدناه في الأسد، وهو أبعد الحيوان
من الانس.
وذكر ابن الصابي إن عضد الدولة بن بويه كانت له أسود يصطاد بها كالفهود
فتمسكه عليه حتى يدركه فيذكيه، وهذا من العجائب الطريفة.
27

(204)
الأصل:
من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن خاف امن، ومن اعتبر
أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم.
الشرح:
قد جاء في الحديث المرفوع: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا).
قوله: (ومن خاف امن) أي من اتقى الله أمن من عذابه يوم القيامة.
ثم قال: (ومن اعتبر أبصر) أي من قاس الأمور بعضها ببعض، واتعظ بآيات الله
وأيامه أضاءت بصيرته، ومن أضاءت بصيرته فهم، ومن فهم علم.
فان قلت: الفهم هو العلم، فأي حاجة له إلى أن يقول (ومن فهم علم)؟
قلت: الفهم هاهنا هو معرفة المقدمات، ولا بد أن يستعقب معرفة المقدمات معرفة النتيجة، فمعرفة
النتيجة هو العلم، فكأنه قال: من اعتبر تنور قلبه بنور الله تعالى
ومن تنور قلبه عقل المقدمات البرهانية، ومن عقل المقدمات البرهانية علم النتيجة الواجبة
عنها، وتلك هي الثمرة الشريفة التي في مثلها يتنافس المتنافسون.
28

(205)
الأصل:
وقال عليه السلام:
لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها. وتلا عقيب
ذلك: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم
الوارثين).
الشرح:
الشماس مصدر شمس الفرس إذا منع من ظهره.
والضروس الناقة السيئة الخلق تعض حالبها، والامامية تزعم أن ذلك وعد منه
بالامام الغائب الذي يملك الأرض في آخر الزمان. وأصحابنا يقولون إنه وعد بإمام
يملك الأرض ويستولي على الممالك، ولا يلزم من ذلك إنه لا بد أن يكون موجودا، وإن
كان غائبا إلى أن يظهر، بل يكفي في صحة هذا الكلام أن يخلق في آخر الوقت.
وبعض أصحابنا يقول إنه إشارة إلى ملك السفاح والمنصور وابني المنصور بعده.
فإنهم الذين أزالوا ملك بنى أمية، وهم بنو بني هاشم
، وبطريقهم عطفت الدنيا على بنى
عبد المطلب عطف الضروس.
وتقول الزيدية إنه لا بد من أن يملك الأرض فاطمي يتلوه جماعة من الفاطميين على
مذهب زيد، وإن لم يكن أحد منهم الان موجودا.
29

(206)
الأصل:
اتقوا الله تقاه من شمر تجريدا، وجد تشميرا، وأكمش في مهل، وبادر عن
وجل، ونظر في كره الموئل، وعاقبة المصدر، ومغبة المرجع.
الشرح:
لو قال: (وجرد تشميرا)، لكان قد أتى بنوع مشهور من أنواع البديع، لكنه
لم يحفل بذلك، وجرى على مقتضى طبعه من البلاغة الخالية من التكلف والتصنع، على
أن ذلك قد روى، والمشهور الرواية الأولى.
وأكمش جد وأسرع، ورجل كميش، أي جاد
وفى مهل أي في مهلة العمل قبل أن يضيق عليه وقته بدنو الاجل.
30

(207)
الأصل:
الجود حارس الاعراض، والحلم فدام السفيه، والعفو زكاة الظفر، والسلو
عوضك ممن غدر، والاستشارة عين الهداية.
وقد خاطر من استغنى برأيه، والصبر يناضل الحدثان، والجزع من أعوان
الزمان، وأشرف الغنى، ترك المنى.
وكم من عقل أسير عند هوى أمير! ومن التوفيق حفظ التجربة، والمودة
قرابة مستفادة، ولا تأمنن ملولا.
الشرح:
مثل قوله: (الجود حارس الاعراض) قولهم كل عيب فالكرم يغطيه.
والفدام: خرقة تجعل على فم الإبريق، فشبه الحلم بها، فإنه يرد السفيه عن السفه كما
يرد الفدام الخمر عن خروج القذى منها إلى الكأس.
فأما (والعفو زكاة الظفر) فقد تقدم أن لكل شئ زكاة، وزكاة الجاه رفد
المستعين، وزكاة الظفر العفو.
وأما (السلو عوضك ممن غدر) فمعناه أن من غدر بك من أحبائك وأصدقائك
فاسل عنه وتناسه، واذكر ما عاملك به من الغدر، فإنك تسلو عنه ويكون ما استفدته
من السلو عوضا عن وصاله الأول، قال الشاعر:
31

اعتقني سوء ما صنعت من الرق * فيا بردها على كبدي
فصرت عبدا للسوء فيك وما * أحسن سوء قبلي إلى أحد.
وقد سبق القول في الاستشارة، وإن المستغنى برأيه مخاطر، وكذلك القول في الصبر.
والمناضلة: المراماة.
وكذلك القول في الجزع، وإن الانسان إذا جزع عند المصيبة فقد أعان الزمان
على نفسه، وأضاف إلى نفسه مصيبة أخرى.
وسبق أيضا القول في المنى، وإنها من بضائع النوكى (1).
وكذلك القول في الهوى، وإنه يغلب الرأي وياسره.
وكذلك القول في التجربة، وقولهم من حارب المجرب حلت به الندامة، وإن
من أضاع التجربة فقد أضاع عقله ورأيه.
وقد سبق القول في المودة، وذكرنا قولهم الصديق نسيب الروح، والأخ نسيب
الجسم، وسبق القول في الملال.
وقال العباس بن الأحنف:
لو كنت عاتبة لسكن عبرتي * أملى رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم يكن لي حيلة * صد الملول خلاف صد العاتب

(1) جمع أنوك، وهو الأحمق.
32

(208)
الأصل:
عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله.
الشرح:
قد تقدم القول في العجب، ومعنى هذه الكلمة أن الحاسد لا يزال مجتهدا في إظهار
معايب المحسود وإخفاء محاسنه، فلما كان عجب الانسان بنفسه كاشفا عن نقص عقله
كان كالحاسد الذي دأبه إظهار عيب المحسود ونقصه.
وكان يقال من رضى عن نفسه كثر الساخط عليه.
وقال مطرف بن الشخير: لان أبيت نائما، وأصبح نادما أحب إلى من أن أبيت
قائما وأصبح نادما (1).

(1) ا: (متعجبا).
33

(209)
الأصل:
أغض على القذى والألم ترض ابدا
الشرح:
نظير هذا قول الشاعر
ومن لم يغمض عينه عن صديقه * وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة * يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب.
وقال الشاعر:
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى * ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه (1).
وكان يقال أغض عن الدهر وإلا صرعك.
وكان يقال لا تحارب الأيام وإن جنحت دون مطلوبك منها، واصحبها بسلاسة
القياد، فإنك إن تصحبها بذلك تعطك بعد المنع، وتلن لك بعد القساوة، وإن أبيت
عليها قادتك إلى مكروه صروفها.

(1) لبشار، ديوانه 1: 309.
34

(210)
الأصل:
من لان عوده كثفت أغصانه.
الشرح:
تكاد هذه الكلمة أن تكون إيماء إلى قوله تعالى: (والبلد الطيب يخرج نباته
بإذن ربه) (1)، ومعنى هذه الكلمة أن من حسن خلقه، ولانت كلمته، كثر محبوه
وأعوانه وأتباعه.
ونحوه قوله: (من لانت كلمته وجبت محبته).
وقال تعالى: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) (2)، وأصل
هذه الكلمة مطابق للقواعد الحكمية، أعني الشجرة ذات الأغصان حقيقة، وذلك لان
النبات كالحيوان في القوى النفسانية، أعني الغاذية والمنمية، وما يخدم الغاذية من القوى
الأربع، وهي الجاذبة، والماسكة، والدافعة، والهاضمة، فإذا كان اليبس غالبا على شجرة
كانت أغصانها أخف، وكان عودها أدق، وإذا كانت الرطوبة غالبة كانت أغصانها أكثر،
وعودها أغلظ، وذلك لاقتضاء اليبس الذبول، واقتضاء الرطوبة الغلظ والعبالة والضخامة،
ألا ترى أن الانسان الذي غلب اليبس على مزاجه، لا يزال مهلوسا (3) نحيفا، والذي
غلبت الرطوبة عليه لا يزال ضخما عبلا.

(1) سورة الأعراف 58.
(2) سورة آل عمران 159.
(3) رجل مهلوس: هلسه الداء وخامره.
35

(211)
الأصل:
الخلاف يهدم الرأي.
الشرح:
هذا مثل قوله عليه السلام في موضع آخر: (لا رأى لمن لا يطاع).
ويروى لا أمرة لمن لا يطاع.
وفي أخبار قصير وجذيمة (لو كان يطاع لقصير أمر!).
وكان يقال اللجاج يشحذ الزجاج، ويثير العجاج.
وقال دريد بن الصمة
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى * فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد (1)
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى * غوايتهم وإنني غير مهتدي.
وكان يقال أهدى رأى الرجل ما نفذ حكمه، فإذا خولف فسد.
ومن كلام أفلاطون اللجاج عسر انطباع المعقولات في النفس، وذلك إما لفرط
حدة تكون في الانسان، وإما لغلظ طبع فلا ينقاد للرأي (2).

(1) ديوان الحماسة 2: 304 - بشرح التبريزي.
(2) ا: (لرأى).
36

(212)
الأصل:
من نال استطال.
الشرح:
يجوز أن يريد به: من أثرى ونال من الدنيا حظا استطال على الناس.
ويجوز أن يريد به: من جاد استطال بجوده.
يقال: نالني فلان بكذا أي جاد به على، ورجل نال، أي جواد ذو نائل،
ومثله: (1) رجل طان أي ذو طين، ورجل مال أي ذو مال.

(1) ا: (أن يقال).
37

(213)
الأصل:
في تقلب الأحوال، علم جواهر الرجال
الشرح:
معناه لا تعلم أخلاق الانسان إلا بالتجربة، واختلاف الأحوال عليه.
وقديما قيل ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل (1).
وقال الشاعر
لا تحمدن أمرا حتى تجربه * ولا تذمنه إلا بتجريب
وقالوا: التجربة محك، وقالوا: مثل الانسان مثل البطيخة، ظاهرها مونق، وقد
يكون في باطنها العيب والدود، وقد يكون طعمها حامضا وتفها.
وقالوا للرجل المجرب يمدحونه: قد آل وائل عليه.
وقال الشاعر يمدح:
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره (2) * يكون متبعا طورا ومتبعا
حتى استمرت على شزر مريرته * مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا (3)

(1) مثل، وانظر الميداني 1: 91.
(2) يحلب أشطره، أي أنه قد جرب الأمور وعاناها، والكلام على التمثيل.
(3) في اللسان عن الجوهري: (شيخ قحم، أي هم، مثل قحل، وفى حديث ابن عمر: (ابغني خادما
لا يكون قحما فانيا، ولا صغيرا ضرعا، القحم: الشيخ الهم الكبير). الضرع: الضاوي الجسم الضعيف.
38

(214)
الأصل:
حسد الصديق من سقم المودة.
الشرح:
إذا حسدك صديقك على نعمة أعطيتها لم تكن صداقته صحيحة، فإن الصديق حقا
من يجرى مجرى نفسك، والانسان لم يحسد نفسه.
وقيل لحكيم ما الصديق؟ فقال: إنسان هو أنت، إلا إنه غيرك.
وأخذ هذا المعنى أبو الطيب فقال:
ما الخل إلا من أود بقلبه * وأرى بطرف لا يرى بسوائه (1)
ومن أدعية الحكماء: اللهم اكفني بوائق الثقات، واحفظني من كيد الأصدقاء.
وقال الشاعر
احذر عدوك مرة * واحذر صديقك الف مرة
فلربما انقلب الصديق * فكان أعرف بالمضرة
وقال آخر: (2)
احذر مودة ماذق * شاب المرارة بالحلاوة (3)

(1) ديوانه 1: 4.
(2) ا: (غيره).
(3) الماذق: الذي يخلط الود بغيره.
39

يحصى الذنوب عليك * أيام الصداقة للعداوة
وذكر خالد بن صفوان شبيب بن شيبة، فقال: ذاك رجل ليس له صديق في السر
ولا عدو في العلانية.
وقال الشاعر:
إذا كان دواما أخوك مصارما * موجهه في كل أوب ركائبه
فخل له ظهر الطريق ولا تكن * مطية رحال كثير مذاهبه
40

(215)
الأصل:
أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.
الشرح:
قد تقدم منا قول في هذا المعنى.
ومنه قول الشاعر (1):
طمعت بليلى أن تريع وإنما (2) * تقطع أعناق الرجال المطامع (3)
وقال آخر:
إذا حدثتك النفس إنك قادر * على ما حوت أيدي الرجال فكذب
وإياك والأطماع إن وعودها * رقارق آل أو بوارق خلب (4)

(1) هو المجنون، ديوانه 186، وينسب لقيس بن ذريح، وينسب أيضا للبعيث، وانظر تخريجه
في الديوان.
(2) تريع: ترجع وتعود، كذا فسره صاحب اللسان، واستشهد بالبيت ونسبه إلى البعيث.
(3) بعده في الديوان:
ودانيت ليلى في خلاء ولم يكن شهود على ليلى عدول مقانع.
(4) الرقارق: السراب.
41

(216)
الأصل:
ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن.
الشرح:
هذا مثل قول أصحاب أصول الفقه لا يجوز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر
الواحد، لان المظنون لا يرفع المعلوم.
ولفظ الثقة هاهنا مرادف للفظ العلم، فكأنه قال: لا يجوز أن يزال ما علم بطريق
قطعية لأمر ظني.
فإن قلت: أليس البراءة الأصلية معلومة بالعقل، ومع ذلك ترفع بالأمارات الظنية
كأخبار الآحاد؟
قلت: ليست البراءة الأصلية معلومة بالعقل مطلقا، بل مشروطة بعدم ما يرفعها من
طريق علمي أو ظني، ألا ترى أن أكل الفاكهة وشرب الماء معلوم بالعقل حسنه،
ولكن لا مطلقا، بل بشرط انتفاء ما يقتضى قبحه، فإنا لو أخبرنا إنسان أن هذه الفاكهة
أو هذا الماء مسموم لقبح منا الاقدام على تناولهما، وإن كان قول ذلك المخبر الواحد
لا يفيد العلم القطعي (1).

(1) ا: (علما قطعيا).
42

(217)
الأصل:
بئس الزاد إلى المعاد، العدوان على العباد.
الشرح:
قد تقدم من قولنا (1) في الظلم والعدوان ما فيه كفاية.
وكان يقال عجبا لمن عومل فأنصف، إذا عامل كيف يظلم! وأعجب منه: من
عومل فظلم إذا عامل كيف يظلم!
وكان يقال العدو عدوان عدو ظلمته، وعدو ظلمك، فإن اضطرك الدهر إلى
أحدهما فاستعن بالذي ظلمك، فإن الاخر موتور

(1) ا: (لنا أقوال).
43

(218)
الأصل:
من أشرف أفعال الكريم غفلته عما يعلم.
الشرح:
كان يقال التغافل من السؤدد.
وقال أبو تمام:
ليس الغبي بسيد في قومه * لكن سيد قومه المتغابي (1)
وقال طاهر بن الحسين بن مصعب:
ويكفيك من قوم شواهد أمرهم * فخذ صفوهم قبل امتحان الضمائر
فإن امتحان القوم يوحش منهم * وما لك إلا ما ترى في الظواهر
وإنك إن كشفت لم تر مخلصا * وأبدى لك التجريب خبث السرائر
وكان يقال بعض (2) التغافل فضيلة، وتمام الجود الامساك عن ذكر المواهب، ومن
الكرم أن تصفح عن التوبيخ، وأن تلتمس ستر (3) هتك الكريم.

(1) ديوانه 1: 93.
(2) ساقطة من ا.
(3) الستر: تغطية الشئ، وفى الحديث: (إن الله حي ستير يحب الستر).
44

(219)
الأصل:
من كساه الحياء ثوبه، لم ير الناس عيبه.
الشرح:
قد سبق منا قول كثير في الحياء.
[فصل في الحياء وما قيل فيه]
وكان يقال الحياء تمام الكرم، والحلم تمام العقل.
وقال بعض الحكماء: الحياء انقباض النفس عن القبائح، وهو من خصائص
الانسان، لأنه لا يوجد في الفرس ولا في الغنم والبقر، ونحو ذلك من أنواع
الحيوانات، فهو كالضحك الذي يختص به نوع الانسان، وأول ما يظهر من قوة
الفهم في الصبيان الحياء، وقد جعله الله تعالى في الانسان ليرتدع به عما تنزع إليه
نفسه من القبيح، فلا يكون كالبهيمة، وهو خلق مركب من جبن وعفة، ولذلك
لا يكون المستحي فاسقا، ولا الفاسق مستحيا (1)، لتنافي اجتماع العفة والفسق، وقلما
يكون الشجاع مستحيا والمستحي شجاعا لتنافي اجتماع الجبن والشجاعة، ولعزة وجود
ذلك ما يجمع الشعراء بين المدح بالشجاعة والمدح بالحياء نحو قول القائل:
يجرى الحياء الغض من قسماتهم في حين يجرى من أكفهم الدم.

(1) ب: (مستحييا).
45

وقال آخر:
كريم يغض الطرف فضل حيائه * ويدنو وأطراف الرماح دوان.
ومتى قصد به الانقباض فهو مدح للصبيان دون المشايخ، ومتى قصد به ترك القبيح
فهو مدح لكل أحد، وبالاعتبار الأول قيل الحياء بالأفاضل قبيح، وبالاعتبار الثاني
ورد أن الله ليستحي من ذي شيبة في الاسلام أن يعذبه، أي يترك تعذيبه ويستقبح
لكرمه ذلك.
فأما الخجل فحيرة تلحق النفس لفرط الحياء، ويحمد في النساء والصبيان ويذم
بالاتفاق في الرجال.
فأما القحة فمذمومة بكل لسان، إذ هي انسلاخ من الانسانية، وحقيقتها
لجاج النفس في تعاطى القبيح، واشتقاقها من حافر وقاح أي صلب
ولهذه المناسبة قال الشاعر:
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة * فأعد منها حافرا للأشهب.
وما أصدق قول الشاعر
صلابة الوجه لم تغلب على أحد * إلا تكامل فيه الشر واجتمعا.
فأما كيف يكتسب الحياء، فمن حق الانسان إذا هم بقبيح أن يتصور أجل
من نفسه إنه يراه، فإن الانسان يستحيى ممن يكبر في نفسه أن يطلع على عيبه
ولذلك لا يستحيى من الحيوان غير الناطق، ولا من الأطفال الذين لا يميزون، ويستحيى
من العالم أكثر مما يستحيى من الجاهل ومن الجماعة أكثر مما يستحيى من الواحد،
والذين يستحيى الانسان منهم ثلاثة البشر، ونفسه، والله تعالى، أما البشر فهم أكثر
46

من يستحيى منه الانسان في غالب الناس، ثم نفسه، ثم خالقه، وذلك لقلة توفيقه
وسوء اختياره.
واعلم أن من استحيا من الناس ولم يستحيى من نفسه فنفسه عنده أخس من غيره،
ومن استحيا منهما ولم يستحى من الله تعالى فليس عارفا، لأنه لو كان عارفا بالله لما
استحيا من المخلوق دون الخالق، ألا ترى أن الانسان لا بد أن يستحيى من الذي
يعظمه ويعلم أنه يراه أو يستمع بخبره فيبكته، ومن لا يعرف الله تعالى كيف يستعظمه!
وكيف يعلم إنه يطلع عليه! وفي قول رسول الله صلى الله عليه وآله (استحيوا من الله
حق الحياء)، أمر في ضمن كلامه هذا بمعرفته سبحانه وحث عليها، وقال سبحانه:
(ألم يعلم بأن الله) (1)، يرى تنبيها على أن العبد إذا علم أن ربه يراه استحيا من
ارتكاب الذنب.
وسئل الجنيد رحمه الله عما يتولد منه الحياء من الله تعالى، فقال: أن يرى العبد
آلاء الله سبحانه ونعمه عليه، ويرى تقصيره في شكره.
فإن قال قائل: فما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله (من لا حياء له فلا
إيمان له).
قيل له: لان الحياء أول ما يظهر من إمارة العقل في الانسان، وأما الايمان فهو
آخر المراتب، ومحال حصول المرتبة الآخرة لمن لم تحصل له المرتبة الأولى، فالواجب إذن
أن من لا حياء له فلا إيمان له.
وقال عليه السلام: (الحياء شعبة من الايمان).
وقال: (الايمان عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء).

(1) سورة العلق 14.
47

(220)
الأصل:
بكثرة الصمت تكون الهيبة، وبالنصفة يكثر المواصلون، وبالإفضال تعظم
الاقدار، وبالتواضع تتم النعمة، وباحتمال المؤن يجب السؤدد، وبالسيرة العادلة
يقهر المناوئ، وبالحلم عن السفيه تكثر الأنصار عليه.
الشرح:
قال يحيى بن خالد: ما رأيت أحدا قط صامتا إلا هبته حتى يتكلم، فإما أن تزداد
تلك الهيبة أو تنقص. ولا ريب أن الانصاف سبب انعطاف القلوب إلى المنصف، وأن
الإفضال والجود يقتضى عظم القدر، لأنه إنعام، والمنعم مشكور، والتواضع طريق إلى
تمام النعمة، ولا سؤدد الا باحتمال المؤن، كما قال أبو تمام:
والحمد شهد لا ترى مشتاره * يجنيه إلا من نقيع الحنظل (1)
غل لحامله ويحسبه الذي * لم يوه عاتقه خفيف المحمل.
والسيرة العادلة سبب لقهر الملك الذي يسير بها أعداءه، ومن حلم عن سفيه وهو
قادر على الانتقام منه نصره الناس كلهم عليه، واتفقوا كلهم على ذم ذلك السفيه وتقبيح
فعله (2)، والاستقراء واختبار العادات تشهد بجميع ذلك.

(1) ديوانه 3: 42.
(2) ب: (قفله) (تصحيف).
48

(221)
الأصل:
العجب لغفلة الحساد، عن سلامة الأجساد!
الشرح:
إنما لم يحسد الحاسد على صحة الجسد لأنه صحيح الجسد، فقد شارك في الصحة،
وما يشارك الانسان غيره فيه لا يحسده عليه، ولهذا أرباب الحسد إذا مرضوا حسدوا
الأصحاء على الصحة.
فإن قلت: فلماذا تعجب أمير المؤمنين عليه السلام؟
قلت: لكلامه عليه السلام وجه، وهو أن الحسد لما تمكن في أربابه، وصار
غريزة فيهم، تعجب كيف لا يتعدى هذا الخلق الذميم إلى أن يحسد الانسان غيره
على ما يشاركه فيه، فان زيدا إذا أبغض عمرا بغضا شديدا ود أن تزول عنه نعمته إليه،
وإن كان ذا نعمة كنعمته (1)، بل ربما كان أقوى وأحسن حالا.
ويجوز أن يريد معنى آخر، وهو تعجبه من غفلة الحساد، على أن الحسد مؤثر في سلامة
أجسادهم، ومقتض سقمهم، وهذا أيضا واضح.

(1) ا: (مثل نعمته).
49

(222)
الأصل:
الطامع في وثاق الذل.
الشرح:
من أمثال البحتري قوله:
واليأس إحدى الراحتين ولن ترى * تعبا كظن الخائب المكدود (1)
وكان يقال ما طمعت إلا وذلت - يعنون النفس.
وفى البيت المشهور:
* تقطع أعناق الرجال المطامع (2) *
وقالوا عز من قنع، وذل من طمع.
وقد تقدم القول في الطمع مرارا.

(1) ديوانه 1: 127.
(2) للمجنون، ديوانه ص 186، وصدره:
* طمعت بليلى أن تريع وإنما *
50

(223)
الأصل:
وقال عليه السلام وقد سئل عن الايمان
الايمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان.
الشرح:
قد تقدم قولنا في هذه المسألة.
وهذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة بعينه، لان العمل بالأركان عندنا داخل في مسمى
الايمان - أعني فعل الواجبات، فمن لم يعمل لم يسم مؤمنا وإن عرف بقلبه وأقر بلسانه،
وهذا خلاف قول المرجئة من الأشعرية والامامية، والحشوية.
فان قلت: فما قولك في النوافل هل هي داخلة في مسمى الايمان أم لا؟
قلت: في هذا خلاف بين أصحابنا، وهو مستقصى في كتبي (1) الكلامية.

(1) في د: (كتبنا).
51

(224)
الأصل:
من أصبح على الدنيا حزينا، فقد أصبح لقضاء الله ساخطا.
ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به، فإنما يشكو ربه.
ومن أتى غنيا فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه.
ومن قرأ القرآن فمات فدخل النار، فهو كان ممن يتخذ آيات الله هزوا.
ومن لهج قلبه بحب الدنيا التاط منها بثلاث: هم لا يغبه، وحرص
لا يتركه، وأمل لا يدركه.
الشرح:
إذا كان الرزق بقضاء الله وقدره، فمن حزن لفوات شئ منه فقد سخط قضاء الله
وذلك معصية، لان الرضا بقضاء الله واجب، وكذلك من شكا مصيبة حلت به، فإنما
يشكو فاعلها لا هي، لأنها لم تنزل به من تلقاء نفسها، وفاعلها هو الله، ومن اشتكى الله
فقد عصاه، والتواضع للأغنياء تعظيما لغناهم أو رجاء شئ مما في أيديهم فسق.
وكان يقال لا يحمد التيه إلا من فقير على غنى
فأما قوله عليه السلام: (ومن قرأ القرآن فمات فدخل النار، ممن كان يتخذ
آيات الله هزوا).
فلقائل أن يقول قد يكون مؤمنا بالقرآن ليس بمتخذ له هزوا، ويقرؤه ثم
52

يدخل النار، لأنه أتى بكبيرة أخرى نحو القتل والزنا والفرار من الزحف
وأمثال ذلك!
والجواب أن معنى كلامه عليه السلام هو إن من قرأ القرآن فمات فدخل النار
لأجل قراءته القرآن فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا، أي يقرؤه هازئا به، ساخرا
منه، مستهينا بمواعظه وزواجره، غير معتقد إنه من عند الله.
فإن قلت: إنما دخل من ذكرت النار، لا لأجل قراءته القرآن، بل لهزئه به،
وجحوده إياه، وأنت قلت: معنى كلامه إنه من دخل النار لأجل قراءته القرآن
فهو ممن كان يستهزئ بالقرآن!
قلت: بل إنما دخل النار لأنه قرأه على صفه الاستهزاء والسخرية، ألا ترى أن
الساجد للصنم يعاقب لسجوده له على جهة العبادة والتعظيم، وإن كان لولا ما يحدثه مضافا
للسجود من أفعال القلوب لما عوقب.
ويمكن أن يحمل كلامه عليه السلام على تفسير آخر، فيقال إنه عنى بقوله: إنه
كما كان ممن يتخذ آيات الله هزوا: إنه يعتقد أنها من عند الله، ولكنه لا يعمل بموجبها
كما يفعله الان كثير من الناس.
قوله عليه السلام: (التاط بقلبه) أي لصق. ولا يغبه، أي لا يأخذه غبا، بل
يلازمه دائما، وصدق عليه السلام فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وحب الدنيا هو
الموجب للهم والغم والحرص والأمل والخوف على ما اكتسبه أن ينفد، وللشح بما
حوت يده، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة.
53

(225)
الأصل:
كفى بالقناعة ملكا، وبحسن الخلق نعيما.
الشرح:
قد تقدم القول في هذين، وهما القناعة وحسن الخلق.
وكان يقال يستحق الانسانية من حسن خلقه، ويكاد السيئ الخلق يعد
من السباع.
وقال بعض الحكماء: حد القناعة هو الرضا بما دون الكفاية، والزهد: الاقتصار
على الزهيد، أي القليل، وهما متقاربان، وفي الأغلب إنما الزهد هو رفض الأمور
الدنيوية مع القدرة عليها، وأما القناعة فهي إلزام النفس الصبر عن المشتهيات التي
لا يقدر عليها، وكل زهد حصل عن قناعة فهو تزهد، وليس بزهد، وكذلك
قال بعض الصوفية: القناعة أول الزهد، تنبيها على أن الانسان يحتاج أولا إلى قدع
نفسه وتخصصه بالقناعة ليسهل عليه تعاطى الزهد، والقناعة التي هي الغنى بالحقيقة، لان
الناس كلهم فقراء من وجهين: أحدهما لافتقارهم إلى الله تعالى كما قال: (يا أيها
الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد) (1).
والثاني لكثرة حاجاتهم فأغناهم لا محالة أقلهم حاجة، ومن سد مفاقره بالمقتنيات
فما في انسدادها مطمع، وهو كمن يرقع الخرق بالخرق، ومن يسدها بالاستغناء عنها
بقدر وسعه والاقتصار على تناول ضرورياته فهو الغنى المقرب من الله سبحانه، كما أشار
إليه في قصة طالوت: (إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم
يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفه بيده) (2)، قال أصحاب المعاني والباطن: هذا
إشارة إلى الدنيا.

(1) سورة فاطر 15.
(2) سورة البقرة 249.
54

(226)
الأصل:
وسئل عليه السلام عن قول الله عز وجل (فلنحيينه حياة طيبة) (1)، فقال:
هي القناعة.
الشرح:
لا ريب أن الحياة الطيبة هي حياه الغنى، وقد بينا أن الغنى هو القنوع، لأنه
إذا كان الغنى عدم الحاجة فأغنى الناس أقلهم حاجة إلى الناس، ولذلك كان الله تعالى
أغنى الأغنياء لأنه لا حاجة به إلى شئ، وعلى هذا دل النبي بقوله صلى الله عليه وآله:
(ليس الغنى بكثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس).
وقال الشاعر:
فمن أشرب اليأس كان الغني * ومن أشرب الحرص كان الفقيرا.
وقال الشاعر:
غنى النفس ما يكفيك من سد خلة * فان زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
وقال بعض الحكماء: المخير بين أن يستغنى عن الدنيا وبين أن يستغنى بالدنيا
كالمخير بين أن يكون مالكا أو مملوكا.
ولهذا قال عليه السلام: (تعس عبد الدينار والدرهم، تعس فلا انتعش، وشيك
فلا انتقش) (2).

(1) سورة النحل 97.
(2) ب: (شبك) تحريف، قال ابن الأثير: أي إذا دخلت
فيه شوكة لا أخرجها من موضعها، وبه سمى المنقاش الذي ينقش به).
55

وقيل لحكيم لم لا تغتم؟ قال: لأني لم أتخذ ما، يغمني فقده.
وقال الشاعر:
فمن سره ألا يرى ما يسوءه * فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا.
وقال أصحاب هذا الشأن: القناعة من وجه صبر، ومن وجه جود، لان الجود
ضربان: جود بما في يدك منتزعا، وجود عما في يد غيرك متورعا، وذلك أشرفهما،
ولا يحصل الزهد في الحقيقة إلا لمن يعرف الدنيا ما هي، ويعرف عيوبها وآفاتها، ويعرف
الآخرة وافتقاره إليها، ولا بد في ذلك من العلم، ألا ترى إلى قوله تعالى: (قال الذين
يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون انه لذو حظ عظيم * وقال
الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها
إلا الصابرون) (1).
ولأن الزاهد في الدنيا راغب في الآخرة وهو يبيعها بها، كما قال الله تعالى: (إن
الله اشترى من المؤمنين...) (2) الآية.
والكيس لا يبيع عينا بأثر، إلا إذا عرفهما وعرف فضل ما يبتاع على ما يبيع.

(1) سورة القصص 79، 80.
(2) سورة التوبة 111.
56

(227)
الأصل:
شاركوا الذين قد أقبل عليهم الرزق، فإنه أخلق للغنى، وأجدر
بإقبال الحظ.
الشرح:
قد تقدم القول في الحظ والبخت.
وكان يقال الحظ يعدى كما يعدى الجرب، وهذا يطابق كلمة أمير المؤمنين عليه السلام
لان مخالطة المجدود ليست كمخالطة غير المجدود (1)، فإن الأولى تقتضي الاشتراك في
الحظ والسعادة، والثانية تقتضي الاشتراك في الشقاء والحرمان.
والقول في الحظ وسيع جدا.
وقال بعضهم: البخت على صورة رجل أعمى أصم أخرس، وبين يديه جواهر
وحجارة، وهو يرمى بكلتا يديه.
وكان مالك بن أنس فقيه المدينة، وأخذ الفقه عن الليث بن سعد، وكانوا
يزدحمون عليه والليث جالس لا يلتفتون إليه، فقيل لليث: إن مالكا إنما أخذ
عنك فما لك خاملا وهو أنبه الناس ذكرا! فقال: دانق بخت خير من جمل
بختي حمل علما.
وقال الرضى:
أسيغ الغيظ من نوب الليالي * وما يحفلن بالحنق المغيظ (2)
وأرجو الرزق من خرق دقيق * يسد بسلك حرمان غليظ (3)
وأرجع ليس في كفى منه * سوى عض اليدين على الحظوظ

(1) عبارة د: (ليست كمخالطة المحدود)، وبها يستقيم المعنى أيضا.
(2) ديوانه 1: 453.
(3) في الديوان: (من خرت)، والخرت: الثقب.
57

(228)
الأصل:
وقال عليه السلام في قوله عز وجل: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) (1):
العدل الانصاف، والاحسان التفضل.
الشرح:
هذا تفسير صحيح اتفق عليه المفسرون كافه، وإنما دخل الندب تحت الامر لان له
صفة زائدة على حسنه، وليس كالمباح الذي لا له صفة زائدة على حسنه.
وقال الزمخشري، العدل هو الواجب، لان الله عز وجل عدل فيه على عباده،
فجعل ما فرضه عليهم منه واقعا تحت طاقتهم، والاحسان الندب، وإنما علق أمره بهما
جميعا، لان الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط، فيجبره الندب، ولذلك قال رسول الله
صلى الله عليه وآله لانسان علمه الفرائض فقال: والله لا زدت فيها ولا نقصت منها:
(أفلح إن صدق)، فعقد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط، وقال
صلى الله عليه وآله: (استقيموا، ولن تحصوا)، فليس ينبغي أن يترك ما يجبر كسر
التفريط من النوافل (2).
ولقائل أن يقول إن كان إنما سمى الواجب عدلا لأنه داخل تحت طاقة المكلف
فليسم الندب عدلا لأنه داخل تحت طاقة المكلف، وأما قوله: إنما أمر بالندب لأنه
يجبر ما وقع فيه التفريط من الواجب، فلا يصح على مذهبه، وهو من أعيان المعتزلة
لأنه لو جبرت النافلة بالتفريط في الواجب لكانت واجبة مثله، وكيف يقول الزمخشري
هذا ومن قول مشايخنا إن تارك صلاة واحدة من الفرائض لو صلى مائة الف ركعة من
النوافل لم يكفر ثوابها عقاب ترك تلك الصلاة!

(1) سورة النحل 50.
(2) تفسير الكشاف 2: 490.
58

(229)
الأصل:
وقال عليه السلام:
من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة.
قال الرضى رحمه الله تعالى:
ومعنى ذلك أن ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير والبر وإن كان يسيرا فإن
الله تعالى يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا، واليدان هاهنا عبارة (1) عن النعمتين
ففرق عليه السلام بين نعمة العبد ونعمة الرب ذكره، بالقصيرة والطويلة،
فجعل تلك قصيرة وهذه طويلة، لان نعم الله أبدا تضعف على نعم المخلوقين
أضعافا كثيرة، إذ كانت نعم الله أصل النعم كلها، فكل نعمة إليها ترجع،
ومنها تنزع.
الشرح:
هذا الفصل قد شرحه الرضى رحمه الله، فأغنى عن التعرض بشرحه.

(1) في ب: (عبارتان) تحريف.
59

(230)
الأصل:
وقال عليه السلام لابنه الحسن: لا تدعون إلى مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب،
فإن الداعي إليها باغ، والباغي مصروع.
الشرح:
[مثل من شجاعة على]
قد ذكر عليه السلام الحكمة، ثم ذكر العلة، وما سمعنا انه عليه السلام دعا إلى
مبارزة قط، وإنما كان يدعى هو بعينه، أو يدعو من يبارز، فيخرج إليه فيقتله، دعا
بنو ربيعة بن عبد بن شمس بنى بني هاشم
إلى البراز يوم بدر، فخرج عليه السلام فقتل الوليد
واشترك هو وحمزة عليه السلام في قتل عتبة، ودعا طلحة بن أبي طلحة إلى البراز يوم
أحد، فخرج إليه فقتله، ودعا مرحب إلى البراز يوم خيبر فخرج إليه فقتله.
فأما الخرجة التي خرجها يوم الخندق إلى عمرو بن عبد ود فإنها أجل من أن يقال
جليلة، وأعظم من أن يقال عظيمة، وما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهذيل وقد سأله سائل:
أيما أعظم منزلة عند الله على أم أبو بكر؟ فقال: يا بن أخي، والله لمبارزة على عمرا يوم
الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلها وتربى عليها فضلا عن أبي بكر
وحده. وقد روى عن حذيفة بن اليمان ما يناسب هذا، بل ما هو أبلغ منه، روى قيس بن الربيع
عن أبي هارون العبدي، عن ربيعة بن مالك السعدي، قال: أتيت حذيفة بن اليمان فقلت:
يا أبا عبد الله، إن الناس يتحدثون (1) عن علي بن أبي طالب ومناقبه، فيقول لهم أهل

(1) ب: (يستحدثون) تحريف.
60

البصيرة: إنكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل، فهل أنت محدثي بحديث عنه أذكره
للناس؟ فقال يا ربيعة، وما الذي تسألني عن علي، وما الذي أحدثك عنه! والذي
نفس حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال أمة محمد صلى الله عليه وآله في كفه الميزان منذ
بعث الله تعالى محمدا إلى يوم الناس هذا، ووضع عمل واحد من أعمال على في الكفة
الأخرى لرجح على أعمالهم كلها، فقال ربيعة: هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد
ولا يحمل، إني لأظنه إسرافا يا أبا عبد الله! فقال حذيفة: يا لكع، وكيف لا يحمل!
وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه فملكهم الهلع والجزع، ودعا
إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه على فقتله! والذي نفس حذيفة بيده لعمله
ذلك اليوم أعظم أجرا من أعمال أمة محمد صلى الله عليه وآله إلى هذا اليوم وإلى أن
تقوم القيامة.
وجاء في الحديث المرفوع: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ذلك اليوم حين
برز إليه: (برز الايمان كله إلى الشرك كله).
وقال أبو بكر بن عياش: لقد ضرب علي بن أبي طالب عليه السلام ضربة ما كان
في الاسلام أيمن منها ضربته عمرا يوم الخندق، ولقد ضرب على ضربة ما كان في
الاسلام أشام منها - يعنى ضربة ابن ملجم لعنه الله.
وفي الحديث المرفوع أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما بارز على عمرا ما زال رافعا
يديه مقمحا (1) رأسه نحو السماء، داعيا ربه قائلا: اللهم إنك أخذت منى عبيدة يوم
بدر، وحمزة يوم أحد، فاحفظ على اليوم عليا، (رب لا تذرني فردا وأنت خير
الوارثين) (2).
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: والله ما شبهت يوم الأحزاب، قتل على عمرا

(1) أقمح رأسه: كشفها.
(2) سورة الأنبياء 49.
61

وتخاذل المشركين بعده، إلا بما قصه الله تعالى من قصة طالوت وجالوت في قوله:
(فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت) (1).
وروى عمرو بن أزهر، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن أن عليا عليه السلام لما قتل
عمرا احتز رأسه وحمله فألقاه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله، فقام أبو بكر وعمر
فقبلا رأسه، ووجه رسول الله صلى الله عليه وآله يتهلل، فقال: هذا النصر! أو قال:
هذا أول النصر.
وفي الحديث المرفوع إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوم قتل عمرو: (ذهبت
ريحهم، ولا يغزوننا بعد اليوم، ونحن نغزوهم إن شاء الله).
[قصة غزوة الخندق]
وينبغي أن نذكر ملخص هذه القصة من مغازي الواقدي وابن إسحاق، قالا خرج
عمرو بن عبد ود يوم الخندق وقد كان شهد بدرا فارتث (2) جريحا، ولم يشهد أحدا،
فحضر الخندق شاهرا سيفه (3) معلما، مدلا بشجاعته وبأسه، وخرج معه ضرار بن
الخطاب الفهري وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله
بن المغيرة المخزوميون، فطافوا بخيولهم على الخندق إصعادا وانحدارا، يطلبون موضعا
ضيقا يعبرونه، حتى وقفوا على أضيق موضع فيه في المكان المعروف بالمزار،
فاكرهوا خيولهم على العبور فعبرت، وصاروا مع المسلمين على أرض واحدة ورسول
الله صلى الله عليه وآله جالس وأصحابه قيام على رأسه، فتقدم عمرو بن عبد ود فدعا

(1) سورة البقرة 251.
(2) ارتثت: حمل من المعركة جريحا وبه رمق.
(3) ب: (نفسه) تحريف.
62

إلى البراز مرارا، فلم يقم إليه أحد، فلما أكثر، قام علي عليه السلام فقال: أنا أبارزه
يا رسول الله، فأمره بالجلوس، وأعاد عمرو النداء و الناس سكوت كان على رؤوسهم
الطير، فقال عمرو: أيها الناس، إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا
في النار، أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة أو يقدم عدوا له إلى النار!
فلم يقم إليه أحد، فقام علي عليه السلام دفعة ثانية وقال أنا له يا رسول الله، فأمره
بالجلوس، فجال عمرو بفرسه مقبلا ومدبرا، وجاءت عظماء الأحزاب فوقفت من
وراء الخندق ومدت أعناقها تنظر، فلما رأى عمرو أن أحدا لا يجيبه، قال:
ولقد بححت من النداء * بجمعهم: هل من مبارز!
ووقفت مذ جبن المشيع * موقف القرن المناجز
إني كذلك لم أزل * متسرعا قبل الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى * والجود من خير الغرائز
فقام علي عليه السلام فقال: يا رسول الله، إئذن لي في مبارزته، فقال: ادن،
فدنا فقلده سيفه، و عممه بعمامته، وقال: امض لشأنك، فلما انصرف قال: (اللهم أعنه
عليه)، فلما قرب منه قال له مجيبا إياه عن شعره:
لا تعجلن فقد أتاك * مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة * يرجو بذاك نجاة فائز
إني لآمل أن أقيم * عليك نائحة الجنائز
من ضربة فوهاء يبقى * ذكرها عند الهزاهز
فقال عمرو: من أنت! وكان عمرو شيخا كبيرا قد جاوز الثمانين، وكان نديم
أبى طالب بن عبد المطلب في الجاهلية، فانتسب علي عليه السلام له وقال: أنا علي بن أبي
طالب، فقال: أجل، لقد كان أبوك نديما لي وصديقا، فارجع فإني لا أحب أن
63

أقتلك - كان شيخنا أبو الخير مصدق بن شبيب النحوي يقول إذا مررنا في القراءة
عليه بهذا الموضع والله ما أمره بالرجوع إبقاء عليه، بل خوفا منه، فقد عرف قتلاه
ببدر وأحد، وعلم أنه إن ناهضه قتله، فاستحيا أن يظهر الفشل، فأظهر الابقاء
والإرعاء، وإنه لكاذب فيهما - قالوا فقال له علي عليه السلام: لكني أحب أن
أقتلك، فقال: يا بن أخي، إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، فارجع وراءك
خير لك، فقال على: إن قريشا تتحدث عنك إنك قلت: لا يدعوني
أحد إلى ثلاث إلا أجبت ولو إلى واحدة منها، قال: اجل، فقال علي عليه السلام:
فإني أدعوك إلى الاسلام، قال: دع عنك هذه، قال: فإني أدعوك إلى أن ترجع بمن
تبعك من قريش إلى مكة، قال: إذن تتحدث نساء قريش عنى أن غلاما خدعني،
قال: فإني أدعوك إلى البراز، فحمى عمرو وقال: ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرومها
منى، ثم نزل فعقر فرسه - وقيل ضرب وجهه ففر - وتجاولا، فثارت لهما غبرة
وارتهما عن العيون، إلى أن سمع الناس التكبير عاليا من تحت الغبرة، فعلموا أن عليا
قتله، وانجلت الغبرة عنهما، وعلى راكب صدره يحز رأسه، وفر أصحابه ليعبروا
الخندق، فظفرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله، فإنه قصر فرسه، فوقع في
الخندق، فرماه المسلمون بالحجارة، فقال: يا معاشر الناس، قتله أكرم من هذه، فنزل
إليه علي عليه السلام فقتله، وأدرك الزبير هبيرة بن أبي وهب فضربه فقطع
ثفر (1) فرسه وسقطت درع كان حملها من ورائه، فأخذها الزبير، وألقى عكرمة
رمحه، وناوش عمر بن الخطاب ضرار بن عمرو، فحمل عليه ضرار حتى إذا وجد عمر
مس الرمح رفعه عنه، وقال: إنها لنعمة مشكورة، فاحفظها يا بن الخطاب، إني
كنت آليت ألا تمكنني يداي من قتل قرشي فاقتله. وانصرف ضرار راجعا
إلى أصحابه، وقد كان جرى له معه مثل هذه في يوم أحد. وقد ذكر هاتين القصتين
معا محمد بن عمر الواقدي في كتاب المغازي (2)

(1) الثفر: السير في مؤخر السرج.
(2) وانظر سيرة ابن هشام 3: 241.
64

(231)
الأصل:
خيار خصال النساء شرار خصال الرجال: الزهو والجبن والبخل، فإذا
كانت المرأة مزهوة لم تمكن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال
بعلها، وإذا كانت جبانة فرقت من كل شئ يعرض لها.
الشرح:
أخذ هذا المعنى الطغرائي شاعر العجم فقال:
الجود والاقدام في فتيانهم * والبخل في الفتيات والاشفاق
والطعن في الأحداق دأب رماتهم * والراميات سهاما الأحداق
وله:
قد زاد طيب أحاديث الكرام بها * ما بالكرائم من جبن ومن بخل.
وفي حكمة أفلاطون من أقوى الأسباب في محبة الرجل لامرأته واتفاق ما بينهما
أن يكون صوتها دون صوته بالطبع، وتميزها دون تميزه، وقلبها أضعف من قلبه،
فإذا زاد من هذا عندها شئ على ما عند الرجل تنافرا على مقداره.
وتقول زهى الرجل علينا فهو مزهو، إذا افتخر، وكذلك نخي فهو منخو،
من النخوة، ولا يجوز زها (1) إلا في لغة ضعيفة.
وفرقت: خافت. والفرق: الخوف.

(1) عن ابن السكيت.
65

(232)
الأصل:
وقيل له عليه السلام صف لنا العاقل، فقال هو الذي يضع
الشئ مواضعه.
فقيل: فصف لنا الجاهل، قال: قد قلت.
قال الرضى رحمه الله تعالى: يعنى أن الجاهل هو الذي لا يضع الشئ مواضعه،
فكأن ترك صفته صفه له، إذ كان بخلاف وصف العاقل.
الشرح:
هذا مثل الكلام الذي تنسبه العرب إلى الضب. قالوا اختصمت الضبع والثعلب
إلى الضب، فقالت الضبع يا أبا الحسل (1) إني التقطت تمرة، قال: طيبا جنيت، قالت:
وإن هذا أخذها منى، قال: حظ نفسه أحرز، قالت: فإني لطمته، قال: كريم
حمى حقيقته، قالت: فلطمني، قال: حر انتصر، قالت: اقض بيننا، قال:
قد فعلت.

(1) الحسل: ولد الضب.
66

(233)
الأصل:
والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم
الشرح:
العراق جمع عرق، وهو العظم عليه شئ من اللحم، وهذا من الجموع النادرة، نحو
رخل ورخال وتوأم وتؤام (1) ولا يكون شئ أحقر ولا أبغض إلى الانسان من عراق
خنزير في يد مجذوم، فإنه لم يرض بأن يجعله في يد مجذوم - وهو غاية ما يكون من
التنفير - حتى جعله عراق خنزير.
ولعمري لقد صدق - وما زال صادقا - ومن تأمل سيرته في حالتي خلوه من العمل
وولايته الخلافة عرف صحة هذا القول.

(1) ب: (تنام) تحريف.
67

(234)
الأصل:
إن قوما عبدوا الله رغبه فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة
فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.
الشرح:
هذا مقام جليل تتقاصر عنه قوى أكثر البشر، وقد شرحناه فيما تقدم، وقلنا:
إن العبادة لرجاء الثواب تجارة ومعاوضة، وإن العبادة لخوف العقاب لمنزلة من
يستجدي لسلطان قاهر يخاف سطوته.
وهذا معنى قوله: (عبادة العبيد)، أي خوف السوط والعصا، وتلك ليس عبادة
نافعة، وهي كمن يعتذر إلى إنسان خوف أذاه ونقمته، لا لان ما يعتذر منه قبيح لا ينبغي
له فعله، فأما العبادة لله تعالى شكرا لأنعمه فهي عبادة نافعة، لان العبادة شكر مخصوص،
فإذا أوقعها على هذا الوجه فقد أوقعها الموقع الذي وضعت عليه.
فأما أصحابنا المتكلمون فيقولون: ينبغي أن يفعل الانسان الواجب لوجه وجوبه،
ويترك القبيح لوجه قبحه، وربما قالوا: يفعل الواجب لأنه واجب، ويترك القبيح
لأنه قبيح، والكلام في هذا الباب مشروح مبسوط (1) في الكتب الكلامية.

(1) ساقطة من ا.
68

(235)
الأصل:
المرأة شر كلها، وشر ما فيها إنه لا بد منها.
الشرح:
حلف إنسان عند بعض الحكماء إنه ما دخل بابي شر قط، فقال الحكيم: فمن
أين دخلت امرأتك!
وكان يقال أسباب فتنة النساء ثلاثة: عين ناظرة، وصورة مستحسنة، وشهوة
قادرة، فالحكيم من لا يردد النظرة حتى يعرف حقائق الصورة، ولو أن رجلا رأى
امرأة فأعجبته ثم طالبها فامتنعت، هل كان إلا تاركها! فإن تأبى عقله عليه في مطالبتها
كتأبيها عليه في مساعفتها قدع (1) نفسه عن لذته قدع الغيور إياه عن حرمة مسلم.
وكان يقال من أتعب نفسه في الحلال من النساء لم يتق إلى الحرام منهن
كالطليح (2) مناه أن يستريح.

(1) قدع نفسه: منعها وحد من شهوتها.
(2) الطليح: المتعب.
69

(236)
الأصل:
من أطاع التواني ضيع الحقوق، ومن أطاع الواشي ضيع الصديق.
الشرح:
قد تقدم الكلام في التواني والعجز، وتقدم أيضا الكلام في الوشاية والسعاية.
ورفع إلى كسرى أبرويز إن النصارى الذين يحضرون باب الملك يعرفون
بالتجسس إلى ملك الروم، فقال: من لم يظهر له ذنب لم يظهر منا عقوبة له.
ورفع إليه أن بعض الناس ينكر إصغاء الملك إلى أصحاب الاخبار، فوقع هؤلاء
بمنزله مداخل الضياء إلى البيت المظلم، وليس لقطع مواد النور مع الحاجة إليه وجه
عند العقلاء.
قال أبو حيان: أما الأصل في التدبير فصحيح، لان الملك محتاج إلى الاخبار، لكن
الاخبار تنقسم إلى ثلاثة أوجه:
خبر يتصل بالدين، فالواجب عليه أن يبالغ ويحتاط في حفظه وحراسته وتحقيقه
ونفى القذى عن طريقه وساحته.
وخبر يتصل بالدولة ورسومها، فينبغي أن يتيقظ في ذلك خوفا من كيد ينفذ،
وبغى يسرى.
وخبر يدور بين الناس في منصرفهم وشأنهم وحالهم، متى زاحمتهم فيه اضطغنوا
70

عليك، وتمنوا زوالي ملكك، وأرصدوا العداوة لك، وجهروا إلى عدوك وفتحوا
له باب الحيلة إليك.
وإنما لحق الناس من هذا الخبر هذا العارض، لان في منع الملك إياهم عن تصرفاتهم
وتتبعه لهم في حركاتهم، كربا على قلوبهم، ولهيبا في صدورهم، ولا بد لهم في الدهر الصالح
والزمان المعتدل، والخصب المتتابع، والسبيل الامن، والخير المتصل، من فكاهة وطيب
واسترسال وأشر وبطر، وكل ذلك من آثار النعمة الدارة، والقلوب القارة، فإن
أغضى الملك بصره على هذا القسم عاش محبوبا، وإن تنكر لهم فقد استأسدهم
أعداء. والسلام.
71

(237)
الأصل:
الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها.
قال الرضى رحمه الله تعالى:
وقد روى ما يناسب هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عجب
أن يشتبه الكلامان فإن مستقاهما من قليب، ومفرغهما من ذنوب!
الشرح:
الذنوب الدلو الملأى، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب، ومعنى الكلمة أن الدار
المبنية بالحجارة المغصوبة ولو بحجر واحد، لا بد أن يتعجل خرابها، وكأنما ذلك الحجر
رهن على حصول التخرب، أي كما أن الرهن لا بد أن يفتك، كذلك لا بد لما جعل
ذلك الحجر رهنا عليه أن يحصل.
وقال ابن بسام لأبي علي بن مقلة لما بنى داره بالزاهر ببغداد من الغصب
وظلم الرعية:
بجنبك داران مهدومتان * ودارك ثالثة تهدم
فليت السلامة للمنصفين * دامت فكيف لمن يظلم.
72

والداران دار أبى الحسن بن الفرات، ودار محمد بن داود بن الجراح.
وقال فيه أيضا:
قل لابن مقلة مهلا لا تكن عجلا * فإنما أنت في أضغاث أحلام
تبنى بأنقاض دور الناس مجتهدا * دارا ستنقض أيضا بعد أيام (1)
وكان ما تفرسه ابن بسام فيه حقا، فإن داره نقضت حتى سويت بالأرض في أيام
الراضي بالله.

(1) تنقض: تقوض وتهدم.
73

(238)
الأصل:
يوم المظلوم على الظالم، أشد من يوم الظالم على المظلوم.
الشرح:
قد تقدم الكلام في الظلم مرارا.
وكان يقال أذكر عند الظلم عدل الله تعالى فيك، وعند القدرة قدرة الله
تعالى عليك.
وإنما كان يوم المظلوم على الظالم أشد من يومه على المظلوم لان ذلك اليوم يوم
الجزاء الكلى، والانتقام الأعظم، وقصارى (1) أمر الظالم في الدنيا أن يقتل غيره
فيميته ميتة واحدة، ثم لا سبيل له بعد أماتته إلى أن يدخل عليه ألما آخر، وأما يوم
الجزاء فإنه يوم لا يموت الظالم فيه فيستريح (2)، بل عذابه دائم متجدد، نعوذ بالله
من سخطه وعقابه!

(1) ا: (وقصر).
(2) ا: (لا يستريح فيه الظالم).
74

(239)
الأصل:
إتق الله بعض التقى وإن قل، واجعل بينك وبين الله سترا وإن رق.
الشرح:
يقال في المثل ما لا يدرك كله لا يترك كله.
فالواجب على من عسرت عليه التقوى بأجمعها أن يتقى الله في البعض، وأن يجعل
بينه وبينه سترا وإن كان رقيقا.
وفى أمثال العامة: اجعل بينك وبين الله روزنة (2)، والروزنة لفظة صحيحة معربة،
أي لا تجعل ما بينك وبينه مسدودا مظلما بالكلية.

(1) في اللسان: (الروزنة: الكوة، وفى المحكم: الخرق في أعلى السقف. وعن التهذيب: يقال
للكوة النافذة الروزن، قال وأحسبه معربا.
75

(240)
الأصل:
إذا ازدحم الجواب، خفى الصواب
الشرح:
هذا نحو أن يورد الانسان إشكالا في بعض المسائل النظرية بحضرة جماعة
من أهل النظر، فيتغالب القوم ويتسابقون إلى الجواب عنه، كل منهم
يورد ما خطر له.
فلا ريب أن الصواب يخفى حينئذ، وهذه الكلمة في الحقيقة أمر للناظر البحاث
أن يتحرى الانصاف في بحثه ونظره مع رفيقه، وألا يقصد المراء (1) والمغالبة والقهر.

(1) المراء: الجدال.
76

(241)
الأصل:
إن لله تعالى في كل نعمة حقا، فمن أداه زاده منها، ومن قصر فيه خاطر
بزوال نعمته.
الشرح:
قد تقدم الكلام في هذا المعنى.
وجاء في الخبر: من أوتى نعمة فادى حق الله منها برد اللهفة، وإجابة الدعوة
وكشف المظلمة، كان جديرا بدوامها [ومن قصر قصر به] (1).

(1) تكملة من د.
77

(242)
الأصل:
إذا كثرت المقدرة قلت الشهوة (1).
الشرح:
هذا مثل قولهم كل مقدور عليه مملول، ومثل قول الشاعر.
* وكل كثير عدو الطبيعة *.
ومثل قول الاخر:
وأخ كثرت عليه حتى ملني * والشئ مملول إذا هو يرخص
يا ليته إذ باع ودي باعه * ممن يزيد عليه لا من ينقص.
ولهذا الحكم علة في العلم العقلي، وذلك أن النفس عندهم غنية بذاتها، مكتفية
بنفسها، غير محتاجة إلى شئ خارج عنها، وإنما عرضت لها الحاجة والفقر إلى ما هو
خارج عنها لمقارنتها الهيولي، وذلك أن أمر الهيولي بالضد من أمر النفس في
الفقر والحاجة، ولما كان الانسان مركبا من النفس والهيولي عرض له الشوق
إلى تحصيل العلوم والقنيات (2) لانتفاعه بهما، والتذاذه بحصولهما، فأما العلوم فإنه يحصلها
في شبيه بالخزانة، له يرجع إليها متى شاء، ويستخرج منها ما أراد، أعني القوى النفسانية
التي هي محل الصور والمعاني على ما هو مذكور في موضعه. وأما القنيات والمحسوسات

(1) د: (المشورة).
(2) القنيات: جمع قنية، بالضم والكسر: ما اكتسبه الانسان.
78

فإنه يروم منها مثل ما يروم من تلك، وأن يودعها خزانة محسوسة خارجة عن
ذاته، لكنه يغلط في ذلك من حيث يستكثر منها، إلى أن يتنبه بالحكمة على ما ينبغي
أن يقتنى منها، وإنما حرص على ما منع لان الانسان إنما يطلب ما ليس عنده، لان
تحصيل الحاصل محال، والطلب إنما يتوجه إلى المعدوم، لا إلى الموجود، فإذا حصله سكن
وعلم أنه قد ادخره، ومتى رجع إليه وحده إن كان مما يبقى بالذات، خزنه وتشوق إلى
شئ آخر منه، ولا يزال كذلك إلى أن يعلم أن الجزئيات لا نهاية لها وما لا نهاية له، فلا
مطمع في تحصيله، ولا فائدة في النزوع إليه، ولا وجه لطلبه سواء كان معلوما أو محسوسا،
فوجب أن يقصد من المعلومات إلى الأهم ومن المقتنيات إلى ضرورات البدن
ومقيماته، ويعدل عن الاستكثار منها، فإن حصولها كلها مع أنها لا نهاية لها غير
ممكن، وكلما فضل عن الحاجة وقدر الكفاية فهو مادة الأحزان والهموم، وضروب
المكاره. والغلط في هذا الباب كثير، وسبب ذلك طمع الانسان في الغنى من معدن الفقر، لان
الفقر هو الحاجة، والغنى هو الاستقلال، إلى أن يحتاج إليه، ولذلك
قيل: إن الله تعالى غنى مطلقا، لأنه غير محتاج البتة، فأما من كثرت قنياته فإنه
يستكثر حاجاته بحسب كثرة قنياته، وعلى قدرها رغبة إلى الاستكثار بكثرة
وجوه فقره و، قد بين ذلك في شرائع الأنبياء، وأخلاق الحكماء، فأما الشئ
الرخيص الموجود كثيرا فإنما يرغب عنه، لأنه معلوم أنه إذا التمس وجد
والغالي فإنما يقدر عليه في الأحيان ويصيبه الواحد بعد الواحد، وكل إنسان يتمنى أن
يكون ذلك الواحد ليصيبه وليحصل له ما لا يحصل لغيره.
79

(243)
الأصل:
إحذروا نفار النعم، فما كل شارد بمردود.
الشرح:
هذا أمر بالشكر على النعمة وترك المعاصي، فإن المعاصي تزيل النعم كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها * فإن المعاصي تزيل النعم
وقال بعض السلف: كفران النعمة بوار، وقلما أقلعت نافرة فرجعت في نصابها،
فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار، ولا تحسب أن سبوغ
ستر الله عليك غير متقلص عما قليل عنك إذا أنت لم ترج لله وقارا.
وقال أبو عصمه: شهدت سفيان وفضيلا (1) فما سمعتهما يتذاكران إلا النعم،
يقولان: أنعم الله سبحانه علينا بكذا، وفعل بنا كذا.
وقال الحسن (2): إذا استوى يوماك فأنت ناقص، قيل له: كيف ذاك؟ قال:
إن زادك الله اليوم نعما فعليك أن تزداد غدا له شكرا.
وكان يقال الشكر جنة (3) من الزوال، وأمنة من الانتقال.
وكان يقال إذا كانت النعمة وسيمة فاجعل الشكر لها تميمة (4).

(1) هو فضيل بن عياض.
(2) هو الحسن البصري.
(3) جنة: وقاية.
(4) التميمة: العوذة.
80

(244)
الأصل:
الكرم أعطف من الرحم.
الشرح:
مثل هذا المعنى قول أبى تمام لابن الجهم:
ألا يكن نسب يؤلف بيننا * أدب أقمناه مقام الوالد (1)
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا * عذب تحدر من غمام واحد
ومن قصيدة لي في بعض أغراضي:
ووشائج الآداب عاطفة * الفضلاء فوق وشائج النسب (2)

(1) ديوانه 1: 407، وقبله:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا نعدو ونسري في إخاء تالد
(2) في الأصول: (الأنساب)، ولا يستقيم الوزن.
81

(245)
الأصل:
من ظن بك خيرا فصدق ظنه.
الشرح:
هذا قد تقدم في وصيته عليه السلام لولده الحسن.
ومن كلام بعضهم: إني لأستحي أن يأتيني الرجل يحمر وجهه تارة من
الخجل، أو يصفر أخرى من خوف الرد قد ظن بي الخير وبات عليه وغدا على أن
أرده (1) خائبا.

(1) ا: (يرد).
82

(246)
الأصل:
أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه.
الشرح:
لا ريب أن الثواب على قدر المشقة، لأنه كالعوض عنها (1)، كما أن العوض
الحقيقي عوض عن الألم، ولهذا قال صلى الله عليه وآله: (أفضل العبادة أحمزها) (2).
أي أشقها.

(1) ا: (منها).
(2) نقله ابن الأثير 1: 258 قال: يقال: رجل حامز الفؤاد وحميزه، أي شديد.
83

(247)
الأصل:
عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم، وحل العقود، ونقض الهمم.
الشرح: هذا أحد الطرق إلى معرفه البارئ سبحانه، وهو أن يعزم الانسان على أمر،
ويصمم رأيه عليه، ثم لا يلبث أن يخطر الله تعالى بباله خاطرا صارفا له عن
ذلك الفعل، ولم يكن في حسابه، أي لولا أن في الوجود (1) ذاتا مدبرة لهذا العالم لما
خطرت الخواطر التي لم تكن محتسبة، وهذا فصل يتضمن كلاما دقيقا يذكره
المتكلمون في الخاطر الذي يخطر من غير موجب لخطوره، فإنه لا يجوز أن يكون
الانسان أخطره بباله، وإلا لكان ترجيحا من غير مرجح لجانب الوجود على جانب
العدم، فلا بد أن يكون المخطر له بالبال شيئا خارجا عن ذات الانسان، وذاك هو
الشئ المسمى بصانع العالم.
وليس هذا الموضع مما يحتمل استقصاء القول في هذا المبحث.
ويقال أن عضد الدولة وقعت في يده قصة وهو يتصفح القصص، فأمر بصلب
صاحبها ثم أتبع الخادم خادما آخر يقول له قل للمطهر - وكان وزيره - لا يصلبه،
ولكن أخرجه من الحبس فاقطع يده اليمنى، ثم أتبعه خادما ثالثا، فقال: بل تقول له
يقطع أعصاب رجليه، ثم أتبعه خادما آخر فقال له: ينقله إلى القلعة بسيراف في قيوده
فيجعله هناك، فاختلفت دواعيه في ساعة واحدة أربع مرات.

(1) في ب: (الجود) تحريف.
84

(248)
الأصل:
مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا مرارة الآخرة.
الشرح:
لما كانت الدنيا (1) ضد الآخرة، وجب أن يكون أحكام هذه ضد أحكام هذه،
كالسواد يجمع البصر والبياض يفرق البصر، والحرارة توجب الخفة، والبرودة توجب
الثقل، فإذا كان في الدنيا أعمال هي مرة المذاق على الانسان قد ورد الشرع
بإيجابها فتلك الأفعال تقتضي (2) وتوجب لفاعلها ثوابا حلو المذاق في الآخرة.
وكذاك بالعكس ما كان من المشتهيات الدنياوية التي قد نهى الشرع عنها توجب،
- وإن كانت حلوة المذاق - مرارة العقوبة في الآخرة.

(1) ا: (الحياة الدنيا ضد الحياة الآخرة).
(2) ا: (تقضى).
85

(249)
الأصل:
فرض الله الايمان تطهيرا من الشرك، والصلاة تنزيها عن الكبر،
والزكاة تسبيبا للرزق، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، والحج تقوية للدين،
والجهاد عزا للاسلام، والامر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهى عن المنكر
ردعا للسفهاء، وصلة الرحم منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، وإقامة
الحدود إعظاما للمحارم، وترك شرب الخمر تحصينا للعقل، ومجانبة السرقة
إيجابا للعفة، وترك الزنا تحصينا للنسب، وترك اللواط تكثيرا للنسل،
والشهادات استظهارا على المجاحدات، وترك الكذب تشريفا للصدق، والسلام
أمانا من المخاوف، والأمانة نظاما للأمة، والطاعة تعظيما للإمامة.
الشرح:
هذا الفصل يتضمن بيان تعليل العبادات إيجابا وسلبا.
قال عليه السلام: فرض الله الايمان تطهيرا من الشرك، وذلك لان الشرك
نجاسة حكمية لا عينية، وأي شئ يكون أنجس من الجهل أو أقبح! فالايمان هو
تطهير القلب من نجاسة ذلك الجهل.
وفرضت الصلاة تنزيها من الكبر، لان الانسان يقوم فيها قائما، والقيام مناف
للتكبر وطارد له، ثم يرفع يديه بالتكبير وقت الاحرام بالصلاة فيصير على هيئة
من يمد عنقه ليوسطه السياف، ثم يستكتف كما يفعله العبيد الأذلاء بين يدي
86

السادة العظماء، ثم يركع على هيئة من يمد عنقه ليضربها السياف، ثم يسجد فيضع
أشرف أعضائه وهو جبهته على أدون المواضع وهو التراب. ثم تتضمن الصلاة من
الخضوع والخشوع والامتناع من الكلام والحركة الموهمة لمن رآها أن صاحبها خارج عن الصلاة، وما في غضون الصلاة من الأذكار المتضمنة الذل والتواضع لعظمة
الله تعالى.
وفرضت الزكاة تسبيبا للرزق، كما قال الله تعالى: (وما أنفقتم من شئ فهو
يخلفه) (1)، وقال (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له) (2).
وفرض الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، قال النبي صلى الله عليه وآله حاكيا عن الله
تعالى: (الصوم لي وأنا أجزى به)، وذلك لأن الصوم أمر لا يطلع عليه أحد، فلا
يقوم به على وجهه إلا المخلصون.
وفرض الحج تقويه للدين، وذلك لما يحصل للحاج في ضمنه من المتاجر والمكاسب،
قال الله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) (3).
وأيضا فان المشركين كانوا يقولون لولا أن أصحاب محمد كثير وأولو قوة لما حجوا، فإن
الجيش الضعيف يعجز عن الحج من المكان البعيد.
وفرض الجهاد عزا للاسلام، وذلك ظاهر، قال الله تعالى: (و لولا دفع الله الناس
بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) (4)،
وقال سبحانه: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله
وعدوكم) (5).

(1) سورة سبأ 39.
(2) سورة الحديد 11.
(3) سورة الحج 28.
(4) سورة الحج 40.
(5) سورة الأنفال 60.
87

وفرض الامر بالمعروف مصلحة للعوام، لان الامر بالعدل والانصاف ورد الودائع،
وأداء الأمانات إلى أهلها، وقضاء الديون، والصدق في القول، وإيجاز الوعد، وغير
ذلك من محاسن الأخلاق، مصلحة للبشر عظيمة لا محالة.
وفرض النهى عن المنكر ردعا للسفهاء، كالنهي عن الظلم والكذب والسفه،
وما يجرى مجرى ذلك.
وفرضت صلة الرحم منماة للعدد، قال النبي صلى الله عليه وآله: (صلة الرحم تزيد في
العمر وتنمى العدد).
وفرض القصاص حقنا للدماء، قال سبحانه: (ولكم في القصاص حياة يا أولى
الألباب) (1).
وفرضت إقامة الحدود إعظاما للمحارم، وذلك لأنه إذا أقيمت الحدود امتنع كثير
من الناس عن المعاصي التي تجب الحدود فيها، وظهر عظم تلك المعاصي عند العامة فكانوا
إلى تركها أقرب.
وحرم شرب الخمر تحصينا للعقل، قال قوم لحكيم: اشرب الليلة معنا، فقال:
أنا لا أشرب ما يشرب عقلي، وفى الحديث المرفوع (أن ملكا ظالما خير إنسانا بين أن
يجامع أمه أو يقتل نفسا مؤمنة أو يشرب الخمر حتى يسكر، فرأى أن الخمر أهونها،
فشرب حتى سكر، فلما غلبه قام إلى أمه فوطئها، وقام إلى تلك النفس المؤمنة فقتلها)،
ثم قال عليه السلام: (الخمر جماع الاثم، الخمر أم المعاصي).
وحرمت السرقة إيجابا للعفة، وذلك لان العفة خلق شريف، والطمع خلق دنئ،
فحرمت السرقة ليتمرن الناس على ذلك الخلق الشريف، ويجانبوا ذلك الخلق الذميم،
وأيضا حرمت لما في تحريمها من تحصين أموال الناس.

(1) سورة البقرة 179.
88

وحرم الزنا تحصينا للنسب، فإنه يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب،
وألا ينسب أحد بتقدير ألا يشرع النكاح إلى أب، بل يكون نسب الناس
إلى أمهاتهم، وفي ذلك قلب الحقيقة، وعكس الواجب، لان الولد مخلوق من ماء الأب،
وإنما الام وعاء وظرف.
وحرم اللواط تكثيرا للنسل، وذلك اللواط بتقدير استفاضته بين الناس
والاستغناء به عن النساء يفضي إلى انقطاع النسل والذرية، وذلك خلاف ما يريد
الله تعالى من بقاء هذا النوع الشريف الذي ليس في الأنواع مثله في الشرف، لمكان
النفس الناطقة التي هي نسخة ومثال للحضرة الإلهية، ولذلك سمت الحكماء الانسان
العالم الصغير.
وحرم الاستمناء باليد وإتيان البهائم للمعنى الذي لأجله حرم اللواط، وهو
تقليل النسل، ومن مستحسن الكلمات النبوية قوله عليه السلام في الاستمناء باليد:
(ذلك الوأد الخفي) لان الجاهلية كانت تئد البنات أي تقتلهن خنقا، وقد
قدمنا ذكر سبب ذلك، فشبه عليه السلام إتلاف النطفة التي هي ولد بالقوة بإتلاف
الولد بالفعل.
وأوجبت الشهادات على الحقوق استظهارا على المجاحدات، قال النبي صلى الله عليه
وآله: (لو أعطى الناس بدعاويهم لاستحل قوم من قوم دماءهم وأموالهم)، ووجب
ترك الكذب تشريفا للصدق، وذلك لان مصلحة العامة إنما تتم وتنتظم بالصدق،
فإن الناس يبنون أكثر أمورهم في معاملاتهم على الاخبار، فإنها أعم من العيان
والمشاهدة، فإذا لم تكن صادقة وقع الخطأ في التدبيرات، وفسدت أحوال الخلق.
وشرع رد السلام أمانا من المخاوف، لان تفسير قول القائل (سلام عليكم)
أي لا حرب بيني وبينكم بل بيني وبينكم السلام، وهو الصلح.
89

وفرضت الإمامة نظاما للأمة، وذلك لان الخلق لا يرتفع الهرج والعسف والظلم
والغضب والسرقة عنهم إلا بوازع قوى، وليس يكفي في امتناعهم قبح القبيح،
ولا وعيد الآخرة، بل لا بد لهم من سلطان قاهر ينظم مصالحهم، فيردع ظالمهم، ويأخذ
على أيدي سفهائهم.
وفرضت الطاعة تعظيما للإمامة، وذلك لان أمر الإمامة لا يتم إلا بطاعة الرعية،
وإلا فلو عصت الرعية إمامها لم ينتفعوا بإمامته ورئاسته عليهم
90

(250)
الأصل:
وكان عليه السلام يقول:
احلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بأنه برئ من حول الله وقوته، فإنه إذا
حلف بها كاذبا عوجل، وإذا حلف بالله الذي لا إله إلا هو لم يعاجل، لأنه قد
وحد الله سبحانه وتعالى.
الشرح:
[ما جرى بين يحيى بن عبد الله وبين ابن المصعب عند الرشيد]
روى أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني في كتاب مقاتل الطالبيين إن
يحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام لما أمنه الرشيد بعد خروجه
بالديلم وصار إليه بالغ في إكرامه وبره، فسعى به بعد مدة عبد الله بن مصعب الزبيري
إلى الرشيد - وكان يبغضه - وقال له: إنه قد عاد يدعو إلى نفسه سرا، وحسن له
نقض أمانه، فأحضره وجمع بينه وبين عبد الله بن مصعب ليناظره فيما قذفه به ورفعه عليه
فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد، وادعى عليه الحركة في الخروج وشق العصا، فقال
يحيى: يا أمير المؤمنين، أتصدق هذا على وتستنصحه، وهو ابن عبد الله بن الزبير،
الذي أدخل أباك عبد الله وولده الشعب، وأضرم عليهم النار حتى خلصه (1) أبو عبد الله
الجدلي، صاحب علي بن أبي طالب عليه السلام منه عنوة، وهو الذي ترك الصلاة على

(1) مقاتل الطالبيين: (تخلصه).
91

رسول الله صلى الله عليه وآله وأربعين جمعة في خطبته، فلما التاث عليه الناس قال:
إن له أهيل سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشرأبوا لذكره، فأكره
أن أسرهم أو أقر أعينهم (1)، وهو الذي كان يشتم أباك ويلصق به العيوب حتى ورم
كبده، ولقد ذبحت بقرة يوما لأبيك فوجدت كبدها سوداء قد نقبت، فقال على
ابنه: أما ترى كبد هذه البقرة يا أبت! فقال: يا بنى هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك،
ثم نفاه إلى الطائف، فلما حضرته الوفاة قال لابنه على: يا بنى إذا مت فالحق بقومك
من بنى عبد مناف بالشام، ولا تقم في بلد لابن الزبير فيه أمره، فاختار له صحبة يزيد
بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير، ووالله إن عداوة هذا يا أمير المؤمنين لنا جميعا
بمنزله سواء، ولكنه قوى على بك، وضعف عنك، فتقرب بي إليك ليظفر منك بي
بما يريد، إذا لم يقدر على مثله منك، وما ينبغي لك أن تسوغه ذلك في، فإن معاوية بن أبي
سفيان وهو أبعد نسبا منك إلينا ذكر الحسن بن علي يوما فسبه، فساعده
عبد الله بن الزبير على ذلك، فزجره وانتهره، فقال: إنما ساعدتك يا أمير المؤمنين،
فقال: إن الحسن لحمي آكله ولا أوكله. ومع هذا فهو الخارج مع أخي محمد على أبيك
المنصور أبى جعفر، والقائل لأخي في قصيدة طويلة أولها
إن الحمامة يوم الشعب من وثن (2) * هاجت فؤاد محب دائم الحزن
يحرض أخي فيها على الوثوب والنهوض إلى الخلافة، ويمدحه ويقول له
لا عز ركنا نزار عند سطوتها * إن أسلمتك ولا ركنا ذوي يمن
ألست أكرمهم عودا إذا انتسبوا * يوما وأطهرهم ثوبا من الدرن!

(1) مقاتل الطالبيين: (فلا أحب أن أقر عينهم بذكره).
92

وأعظم الناس عند الناس منزلة * وأبعد الناس من عيب ومن وهن!
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها * أن الخلافة فيكم يا بنى حسن
إنا لنأمل أن ترتد الفتنا * بعد التدابر والبغضاء والإحن
حتى يثاب على الاحسان محسننا * ويأمن الخائف المأخوذ بالدمن
وتنقضي دولة أحكام قادتها * فينا كأحكام قوم عابدي وثن
فطالما قد بروا بالجور أعظمنا * بري الصناع قداح النبع بالسفن.
فتغير وجه الرشيد عند سماع هذا الشعر، وتغيظ على ابن مصعب، فابتدأ ابن
مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلا هو وبأيمان البيعة إن هذا الشعر ليس له، وإنه لسديف،
فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره، وما حلفت كاذبا ولا صادقا بالله قبل هذا،
وإن الله عز وجل إذا مجده العبد في يمينه فقال: والله الطالب الغالب الرحمن الرحيم
استحيا أن يعاقبه، فدعني أن أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا إلا عوجل قال،
فحلفه، قال: قل: برئت من حول الله وقوته، واعتصمت بحولي وقوتي، وتقلدت
الحول والقوة من دون الله، استكبارا على الله واستعلاء عليه، واستغناء عنه إن كنت
قلت هذا الشعر! فامتنع عبد الله من الحلف بذلك فغضب الرشيد، وقال للفضل بن
الربيع يا عباسي ما له لا يحلف إن كان صادقا! هذا طيلساني على، وهذه ثيابي لو
حلفني بهذه اليمين إنها لي لحلفت. فوكز الفضل عبد الله برجله و - كان له فيه هوى -
وقال له احلف ويحك! فجعل يحلف بهذه اليمين، ووجهه متغير، وهو يرعد،
فضرب يحيى بين كتفيه، وقال: يا بن مصعب، قطعت عمرك، لا تفلح
بعدها أبدا!
قالوا فما برح من موضعه حتى عرض له أعراض الجذام، استدارت عيناه،
93

وتفقأ وجهه، وقام إلى بيته فتقطع وتشقق لحمه وانتثر شعره، ومات بعد ثلاثة أيام،
وحضر الفضل بن الربيع جنازته، فلما جعل في القبر انخسف اللحد به حتى خرجت
منه غبرة شديدة، وجعل الفضل يقول التراب التراب! فطرح التراب وهو يهوى، فلم
يستطيعوا سده حتى سقف بخشب، وطم عليه، فكان الرشيد يقول بعد ذلك للفضل
أرأيت يا عباسي ما أسرع، ما أديل ليحيى (1) من ابن مصعب (2)!

(1) ب: (من يحيى).
(2) مقاتل الطالبيين 474 - 478.
94

(251)
الأصل:
يا بن آدم، كن وصى نفسك، واعمل في مالك ما تؤثر أن يعمل فيه
من بعدك.
الشرح:
لا ريب أن الانسان يؤثر أن يخرج ماله بعد موته في وجوه البر والصدقات
والقربات ليصل ثواب ذلك إليه، لكنه يضن بإخراجه وهو حي في هذه الوجوه لحبه
العاجلة وخوفه من الفقر والحاجة إلى الناس في آخر العمر، فيقيم وصيا يعمل ذلك في
ماله بعد موته.
وأوصى أمير المؤمنين عليه السلام الانسان أن يعمل في ماله وهو حي ما يؤثر أن
يجعل فيه وصية بعد موته، وهذه حالة لا يقدر عليها (1) إلا من أخذ التوفيق بيده.

(1) ا: (عليها أحد).
95

(252)
الأصل:
الحدة ضرب من الجنون، لان صاحبها يندم، فإن لم يندم
فجنونه مستحكم.
الشرح:
كان يقال الحدة كنية الجهل.
وكان يقال لا يصح لحديد رأى، لان الحدة تصدئ العقل كما يصدئ الخل
المرآة، فلا يرى صاحبه فيه صورة حسن فيفعله، ولا صورة قبيح فيجتنبه.
وكان يقال أول الحدة جنون وآخرها ندم.
وكان يقال لا تحملنك الحدة على اقتراف الاثم، فتشفي غيظك، وتسقم دينك.
96

(253)
الأصل:
صحة الجسد من قلة الحسد.
الشرح:
معناه أن القليل الحسد لا يزال معافى في بدنه، والكثير الحسد يمرضه ما يجده
في نفسه من مضاضة المنافسة، وما يتجرعه من الغيظ، ومزاج البدن يتبع
أحوال النفس.
قال المأمون: ما حسدت أحدا قط إلا أبا دلف على قول الشاعر فيه
إنما الدنيا أبو دلف * بين بادية ومحتضرة (1)
فإذا ولى أبو دلف * ولت الدنيا على أثره.
وروى أبو الفرج الأصبهاني عن عبدوس بن أبي دلف قال: حدثني أبي، قال: قال
لي المأمون: يا قاسم، أنت الذي يقول فيك علي بن جبلة
* إنما الدنيا أبو دلف *
البيتين، فقلت مسرعا وما ينفعني ذلك يا أمير المؤمنين مع قوله في
أبا دلف، يا أكذب الناس كلهم * سواي فإني في مديحك أكذب

(1) الأغاني 8: 255.
97

ومع قول بكر بن النطاح في
أبا دلف أن الفقير بعينه * لمن يرتجى جدوى يديك ويأمله
أرى لك بابا مغلقا متمنعا * إذا فتحوه عنك فالبؤس داخله
كأنك طبل هائل الصوت معجب * خلى من الخيرات تعس مداخله
وأعجب شئ فيك تسليم إمرة * عليك على طنز وإنك قابله
قال: فلما انصرفت قال المأمون لمن حوله: لله دره! حفظ هجاء نفسه حتى انتفع
به عندي، وأطفأ لهيب المنافسة.
98

(254)
الأصل:
وقال عليه السلام لكميل بن زياد النخعي:
يا كميل، مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو
نائم، فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلبا سرورا إلا و خلق
الله له من ذلك السرور لطفا، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره،
حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الإبل.
الشرح:
قال عمرو بن العاص لمعاوية: ما بقي من لذتك؟ فقال: ما من شئ يصيبه الناس
من اللذة إلا وقد أصبته حتى مللته، فليس شئ عندي اليوم ألذ من شربه ماء بارد
في يوم صائف، ونظري إلى بنى وبناتي يدرجون حولي، فما بقي من لذتك أنت؟
فقال: أرض اغرسها وآكل ثمرتها، لم يبق لي لذة غير ذلك. فالتفت معاوية إلى
وردان غلام عمرو، فقال: فما بقي من لذتك يا وريد؟ فقال: سرور أدخله قلوب الاخوان،
وصنائع أعتقدها في أعناق الكرام، فقال معاوية لعمرو: تبا لمجلسي ومجلسك! لقد
غلبني وغلبك هذا العبد، ثم قال: يا وردان، أنا أحق بهذا منك، قال: قد
أمكنتك (1) فافعل.

(1) في (أمكنك).
99

فإن قلت: السرور عرض، فكيف يخلق الله تعالى منه لطفا؟
قلت: من هاهنا هي مثل (من) في قوله: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة
في الأرض يخلفون) (1)، أي عوضا منكم.
ومثله
فليت لنا من ماء زمزم شربة * مبردة باتت على طهيان (2)
أي ليت لنا شربة مبردة باتت على طهيان، وهو اسم جبل بدلا وعوضا من
ماء زمزم.

(1) سورة الزخرف 60.
(2) البيت للأحول الكندي - اللسان طها.
100

(255)
الأصل:
إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة.
الشرح:
قد تقدم القول في الصدقة.
وقالت الحكماء: أفضل العبادات الصدقة، لان نفعها يتعدى، ونفع الصلاة
والصوم لا يتعدى.
وجاء في الأثر أن عليا عليه السلام عمل ليهودي في سقى نخل له في حياة رسول
الله صلى الله عليه وآله بمد من شعير، فخبزه قرصا، فلما هم أن يفطر عليه، أتاه سائل
يستطعم، فدفعه إليه، وبات طاويا وتاجر الله تعالى بتلك الصدقة، فعد الناس هذه الفعلة
من أعظم السخاء، وعدوها أيضا من أعظم العبادة.
وقال بعض شعراء الشيعة يذكر إعادة الشمس عليه، وأحسن فيما قال:
جاد بالقرص والطوى ملء جنبيه * وعاف الطعام وهو سغوب (1)
فأعاد القرص المنير عليه * القرص والمقرض الكرام كسوب (2)

(1) السغوب: الجائع.
(2) في د (والقرض للكرام)، وهو وجه أيضا.
101

(256)
الأصل:
الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله.
الشرح:
معناه أنه إذا اعتيد من العدو أن يغدر ولا يفي بأقواله وإيمانه وعهوده، لم يجز
الوفاء له، ووجب أن ينقض عهوده ولا يوقف مع العهد المعقود بيننا وبينه، فإن الوفاء لمن
هذه حاله ليس بوفاء عند الله تعالى، بل هو كالغدر في قبحه، والغدر بمن هذه (1) حاله
ليس بقبيح، بل هو في الحسن كالوفاء لمن يستحق الوفاء عند الله تعالى.

(1) ا: (ذلك).
102

(257)
الأصل:
كم من مستدرج بالاحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن
القول فيه، وما ابتلى الله سبحانه أحدا بمثل الاملاء له.
قال الرضى رحمه الله تعالى:
وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم، إلا أن فيه هاهنا زيادة جيدة.
الشرح:
قد تقدم الكلام في الاستدراج والاملاء.
وقال بعض الحكماء: احذر النعم المتواصلة إليك أن تكون استدراجا،
كما يحذر المحارب من اتباع عدوه في الحرب إذا فر من بين يديه من الكمين،
وكم من عدو فر مستدرجا، ثم إذ هو عاطف وكم من ضارع في يديك ثم
إذ هو خاطف.
103

(258)
الأصل:
ومن كلامه عليه السلام المتضمن ألفاظا من الغريب تحتاج إلى تفسير قوله عليه
السلام في حديثه:
فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدين بذنبه، فيجتمعون إليه كما يجتمع
قزع الخريف.
قال الرضى رحمه الله تعالى:
يعسوب الدين: السيد العظيم المالك لأمور الناس يومئذ، والقزع: قطع
الغيم التي لا ماء فيها.
الشرح:
أصاب في اليعسوب، فأما القزع فلا يشترط فيها أن تكون خالية من الماء، بل
القزع قطع من السحاب رقيقة سواء كان فيها ماء أو لم يكن، الواحدة قزعه بالفتح،
وإنما غره قول الشاعر يصف جيشا بالقلة والخفة
* كان رعاله قزع الجهام (1) *.
وليس يدل ذلك على ما ذكره، لان الشاعر أراد المبالغة، فإن الجهام الذي
لا ماء فيه إذا كان أقطاعا متفرقة خفيفة، كان ذكره أبلغ فيما يريده من التشبيه،
وهذا الخبر من أخبار الملاحم التي كان يخبر بها عليه السلام، وهو يذكر فيه المهدى الذي
يوجد عند أصحابنا في آخر الزمان. ومعنى قوله: (ضرب بذنبه) أقام وثبت بعد

(1) ب: (الهجام) تصحيف.
104

اضطرابه، وذلك لان اليعسوب فحل النحل وسيدها، وهو أكثر زمانه طائر
بجناحيه، فإذا ضرب بذنبه الأرض فقد أقام وترك الطيران والحركة.
فإن قلت: فهذا يشبه مذهب الإمامية في أن المهدى خائف مستتر ينتقل في
الأرض، وإنه يظهر آخر الزمان ويثبت ويقيم في دار ملكه.
قلت: لا يبعد على مذهبنا أن يكون الامام المهدى الذي يظهر في آخر الزمان
مضطرب الامر، منتشر الملك في أول أمره لمصلحة يعلمها الله تعالى، ثم بعد ذلك
يثبت ملكه، وتنتظم أموره.
وقد وردت لفظة اليعسوب عن أمير المؤمنين عليه السلام في غير هذا الموضع، قال
يوم الجمل لعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وقد مر به قتيلا: (هذا يعسوب قريش)،
أي سيدها.
105

(259)
الأصل:
وفي حديثه - عليه السلام: هذا الخطيب الشحشح.
قال: يريد الماهر بالخطبة، الماضي فيها، وكل ماض في كلام أو سير
فهو شحشح. والشحشح في غير هذا الموضع: البخيل الممسك.
الشرح:
قد جاء الشحشح بمعنى الغيور، والشحشح بمعنى الشجاع، والشحشح بمعنى المواظب على الشئ الملازم له، والشحشح: الحاوي، ومثله الشحشحان.
وهذه الكلمة قالها علي عليه السلام لصعصعة بن صوحان العبدي رحمه الله، وكفى
صعصعة بها فخرا أن يكون مثل علي عليه السلام يثنى عليه بالمهارة وفصاحة اللسان،
وكان صعصعة من أفصح الناس، ذكر ذلك شيخنا أبو عثمان الجاحظ (1)

(1) البيان والتبيين 1: 97.
106

(260)
الأصل:
ومنه: إن للخصومة قحما.
قال: يريد بالقحم المهالك، لأنها تقحم أصحابها في المهالك والمتالف في الأكثر
فمن ذلك قحمة الاعراب، وهو أن تصيبهم السنة فتتفرق أموالهم، فذلك تقحمها
فيهم. وقيل فيه وجه آخر، وهو أنها تقحمهم بلاد الريف، أي تحوجهم إلى دخول
الحضر عند محول البدو.
الشرح:
أصل هذا البناء للدخول في الامر على غير روية ولا تثبت، قحم الرجل في الامر
بالفتح قحوما، وأقحم فلان فرسه البحر فانقحم، واقتحمت أيضا البحر دخلته مكافحة،
وقحم الفرس فارسه تقحيما على وجهه، إذا رماه، وفحل مقحام، أي يقتحم الشول
من غير إرسال فيها.
وهذه الكلمة قالها أمير المؤمنين حين وكل عبد الله بن جعفر في الخصومة عنه،
وهو شاهد.
وأبو حنيفة لا يجيز الوكالة على هذه الصورة، ويقول: لا تجوز إلا من غائب أو
مريض، وأبو يوسف ومحمد يجيزانها أخذا بفعل أمير المؤمنين عليه السلام.
107

(261)
الأصل:
ومنه: إذا بلغ النساء نص الحقاق فالعصبة أولى.
قال: ويروى (نص الحقائق)، والنص منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها كالنص في
السير لأنه أقصى ما تقدر عليه الدابة، ويقال نصصت الرجل عن الامر إذا
استقصيت مسألته لتستخرج ما عنده فيه، ونص الحقائق يريد به الادراك، لأنه منتهى
الصغر، والوقت الذي يخرج منه الصغير إلى حد الكبر، وهو من أفصح الكنايات
عن هذا الامر وأغربها، يقول فإذا بلغ النساء ذلك فالعصبة أولى بالمرأة من أمها إذا
كانوا محرما مثل الاخوة والأعمام، وبتزويجها إن أرادوا ذلك.
والحقاق: محاقة الام للعصبة في المرأة، وهو الجدال، والخصومة، وقول كل
واحد منهما للآخر: أنا أحق منك بهذا، يقال منه: حاققته حقاقا، مثل جادلته
جدالا. قال: وقد قيل إن نص الحقاق بلوغ العقل وهو الادراك، لأنه عليه السلام
إنما أراد منتهى الامر الذي تجب به الحقوق والاحكام.
قال: ومن رواه (نص الحقائق) فإنما أراد جمع حقيقة، هذا معنى ما ذكره
أبو عبيد القاسم بن سلام.
قال: والذي عندي أن المراد بنص الحقاق هاهنا بلوغ المرأة إلى الحد الذي يجوز
فيه تزويجها وتصرفها في حقوقها، تشبيها بالحقاق من الإبل، وهي جمع حقة وحق،
وهو الذي استكمل ثلاث سنين ودخل في الرابعة، وعند ذلك يبلغ إلى الحد الذي
يمكن فيه من ركوب ظهره ونصه في سيره، والحقائق أيضا: جمع حقة،
108

فالروايتان جميعا ترجعان إلى مسمى واحد، وهذا أشبه بطريقة العرب من المعنى
المذكور أولا.
الشرح:
أما ما ذكره أبو عبيد فإنه لا يشفى الغليل، لأنه فسر معنى النص، ولم يفسر معنى
نص الحقائق، بل قال: هو عبارة عن الادراك، لأنه منتهى الصغر، والوقت الذي
يخرج منه الصغير إلى حد الكبر، ولم يبين من أي وجه يدل لفظ نص الحقاق على ذلك،
ولا اشتقاق الحقاق وأصله، ليظهر من ذلك مطابقة اللفظ للمعنى الذي أشير إليه.
فاما قوله: (الحقاق هاهنا مصدر حاقة يحاقه)، فلقائل أن يقول إن كان هذا هو
مقصوده عليه السلام فقبل الادراك يكون الحقاق أيضا، لان كل واحدة من القرابات
تقول للأخرى: أنا أحق بها منك، فلا معنى لتخصيص ذلك بحال البلوغ، إلا أن يزعم
زاعم أن الام قبل البلوغ لها الحضانة، فلا ينازعها قبل البلوغ في البنت أحد ولكن في
ذلك خلاف كثير بين الفقهاء.
وأما التفسير الثاني، وهو أن المراد بنص الحقاق منتهى الامر الذي تجب به الحقوق
فإن أهل اللغة لم ينقلوا عن العرب إنها استعملت الحقاق في الحقوق، ولا يعرف هذا
في كلامهم.
فأما قوله: (ومن رواه نص الحقائق)، فإنما أراد جمع حقيقة، فلقائل أن يقول
وما معنى الحقائق إذا كانت جمع حقيقة هاهنا؟ وما معنى أضافة (نص) إلى (الحقائق)
جمع حقيقة، فان أبا عبيدة لم يفسر ذلك مع شدة الحاجة إلى تفسيره!
وأما تفسير الرضى - رحمه الله - فهو أشبه من تفسير أبى عبيدة، إلا أنه قال في آخره:
109

والحقائق أيضا جمع حقه، فالروايتان ترجعان إلى معنى واحد. وليس الامر على ما ذكر
من أن الحقائق جمع حقة، ولكن الحقائق جمع حقاق، والحقاق جمع حق، وهو ما كان
من الإبل ابن ثلاث سنين، وقد دخل في الرابعة، فاستحق أن يحمل عليه وينتفع به،
فالحقائق إذن جمع الجمع لحق لا لحقه، ومثل أفال وأفائل. قال: ويمكن أن يقال:
الحقاق هاهنا الخصومة، يقال ما له فيه حق ولا حقاق أي ولا خصومة، ويقال لمن
ينازع في صغار الأشياء إنه لبرق الحقاق، أي خصومته في الدنئ من الامر، فيكون
المعنى إذا بلغت المرأة الحد الذي يستطيع الانسان فيه الخصومة والجدال فعصبتها أولى
بها من أمها، والحد الذي تكمل فيه المرأة والغلام للخصومة والحكومة والجدال
والمناظرة هو سن البلوغ.
110

(262)
الأصل:
ومنه: أن الايمان يبدو لمظة في القلب، كلما ازداد الايمان ازدادت اللمظة.
قال: اللمظة مثل النكتة أو نحوها من البياض، ومنه قيل: فرس ألمظ إذا كان
بجحفلته شئ من البياض.
الشرح:
قال أبو عبيدة: هي لمظة بضم اللام، والمحدثون يقولون لمظة بالفتح، والمعروف
من كلام العرب الضم، مثل الدهمة والشهبة والحمرة. قال: وقد رواه بعضهم (لمطة)
بالطاء المهملة، وهذا لا نعرفه.
قال: وفي هذا الحديث حجة على من أنكر أن يكون الايمان يزيد وينقص (1)،
ألا تراه يقول كلما ازداد الايمان ازدادت اللمظة.

(1) ا: (أو ينقص).
111

(263)
الأصل:
ومنه: أن الرجل إذا كان له الدين الظنون يجب عليه أن يزكيه لما مضى
إذا قبضه.
قال الظنون: الذي لا يعلم صاحبه أيقضيه من الذي هو عليه أم لا،
فكأنه الذي يظن به ذلك، فمرة يرجوه، ومرة لا يرجوه، وهو من أفصح
الكلام، وكذلك كل أمر تطلبه ولا تدرى على أي شئ أنت منه فهو ظنون،
وعلى ذلك قول الأعشى:
من يجعل الجد الظنون الذي * جنب صوب اللجب الماطر (1)
مثل الفراتي إذا ما طما * يقذف بالبوصي والماهر
والجد: البئر العادية في الصحراء. والظنون: التي لا يعلم هل فيها ماء
أم لا
الشرح:
قال أبو عبيدة: في هذا الحديث من الفقه إن من كان له دين على الناس فليس
عليه أن يزكيه حتى يقبضه، فإذا قبضه زكاة لما مضى، وإن كان لا يرجوه، قال:
وهذا يرده قول من قال: إنما زكاته على الذي عليه المال، لأنه (2) المنتفع به، قال:

(1) ديوانه 141.
(2) ا: (لأنه الذي ينتفع به).
112

وكما يروى عن إبراهيم، والعمل عندنا على قول علي عليه السلام، فأما ما ذكره الرضى
من أن الجد هي البئر العادية في الصحراء، فالمعروف عند أهل اللغة أن الجد البئر التي
تكون في موضع كثير الكلأ، ولا تسمى البئر العادية في الصحراء الموات جدا،
وشعر الأعشى لا يدل على ما فسره الرضى، لأنه إنما شبه علقمة بالبئر والكلأ، يظن أن
فيها ماء لمكان الكلأ، ولا يكون موضع الظن هذا هو مراده ومقصوده، ولهذا قال:
الظنون، ولو كانت عادية في بيداء مقفرة لم تكن ظنونا، بل كان يعلم أنه لا ماء فيها،
فسقط عنها اسم الظنون.
113

(264)
الأصل:
ومنه: إنه شيع جيشا يغزيه فقال: اعزبوا عن النساء ما استعطتم.
ومعناه اصدفوا عن ذكر النساء وشغل القلوب بهن، وامتنعوا من المقاربة لهن،
لان ذلك يفت في عضد الحمية، ويقدح في معاقد العزيمة، ويكسر عن العدو،
ويلفت عن الابعاد في الغزو، فكل من امتنع من شئ فقد أعزب عنه،
والعازب والعزوب: الممتنع من الأكل والشرب.
الشرح:
التفسير صحيح، لكن قوله: (من امتنع من شئ فقد أعزب عنه) ليس بجيد،
والصحيح (فقد عزب عنه) ثلاثي، والصواب: وكل من منعته من شئ فقد أعزبته
عنه تعديه بالهمزة، كما تقول أقمته وأقعدته، والفعل ثلاثي قام وقعد، والدليل على
أن الماضي ثلاثي هاهنا. قوله: (والعازب والعزوب: الممتنع من الأكل والشرب، ولو
كان رباعيا لكان (المعزب) وهو واضح، وعلى هذا تكون الهمزة في أول الحرف
همزة وصل مكسورة، كما في (اضربوا) لان المضارع يعزب بالكسر.
114

(265)
الأصل:
ومنه: كالياسر الفالج، ينتظر أول فوزه من قداحه.
قال: الياسرون هم الذين يتضاربون بالقداح على الجزور، والفالج: القاهر
الغالب، يقال: قد فلج عليهم وفلجهم، قال الراجز:
* لما رأيت فالجا قد فلجا *
الشرح:
أول الكلام أن المرء المسلم ما لم يغش دناءة يخشع لها إذا ذكرت، ويغري به لئام
الناس، كالياسر الفالج ينتظر أول فوزه من قداحه، أو داعي الله، فما عند الله خير
للأبرار، يقول هو بين خيرتين: إما أن يصير إلى ما يحب من الدنيا، فهو بمنزلة صاحب
القدح المعلى، وهو أوفرها نصيبا، أو يموت فما عند الله خير له وأبقى (1).
وليس يعنى بقوله: الفالج: القامر الغالب فسره الرضى رحمه الله، لان الياسر
الغالب القامر لا ينتظر أول فوزه من قداحه، وكيف ينتظر وقد غلب! وأي حاجة له
إلى الانتظار! ولكنه يعنى بالفالج الميمون النقيبة الذي له عادة مطردة أن يغلب، وقل
أن يكون مقهورا.

(1) ا: (أبقى له).
115

(266)
الأصل:
ومنه: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله فلم يكن أحد منا أقرب إلى
العدو منه.
قال: معنى ذلك أنه إذا عظم الخوف من العدو، واشتد عضاض الحرب فزع
المسلمون إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسه، فينزل الله تعالى النصر
عليهم به، ويأمنون ما كانوا يخافونه بمكانه.
وقوله: (إذا احمر البأس): كناية عن اشتداد الامر، وقد قيل في ذلك
أقوال، أحسنها أنه شبه حمى الحرب بالنار التي تجمع الحرارة والحمرة
بفعلها ولونها، ومما يقوى ذلك قول الرسول صلى الله عليه وآله وقد رأى مجتلد
الناس يوم حنين وهي حرب هوازن: (الان حمى الوطيس)، والوطيس: مستوقد
النار، فشبه رسول الله صلى الله عليه وآله ما استحر من جلاد القوم باحتدام النار
وشدة التهابها.
الشرح:
الجيد في تفسير هذا اللفظ أن يقال: البأس الحرب نفسها، قال الله تعالى: (والصابرين
في البأساء والضراء وحين البأس) (1)، وفى الكلام حذف مضاف تقديره

(1) سورة البقرة 177.
116

إذا احمر موضع الباس، وهو الأرض التي عليها معركة القوم، واحمرارها لما يسيل
عليها من الدم.
[نبذ من غريب كلام الامام على وشرحه لأبي عبيد]
ولما كان تفسير الرضى رحمه الله قد تعرض للغريب من كلامه عليه السلام،
ورأينا إنه لم يذكر من ذلك إلا اليسير، آثرنا أن نذكر جملة من غريب كلامه عليه
السلام مما نقله أرباب الكتب المصنفة في غريب الحديث عنه عليه السلام.
فمن ذلك ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه: لان أطلى بجواء
قدر أحب إلى من أن أطلى بزعفران.
قال أبو عبيد: هكذا الرواية عنه: (بجواء قدر)، قال: وسمعت الأصمعي يقول
إنما هي الجاوة، وهي الوعاء الذي يجعل القدر فيه وجمعها جياء.
قال: وقال أبو عمرو: يقال لذلك الوعاء جواء وجياء، قال: ويقال للخرقة التي
ينزل بها الوعاء عن الأثافي جعال.
ومنها قوله عليه السلام حين أقبل يريد العراق فأشار إليه الحسن بن علي عليه
السلام أن يرجع: والله لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد.
قال أبو عبيد: قال الأصمعي: اللدم صوت الحجر، أو الشئ يقع على الأرض،
وليس بالصوت الشديد، يقال منه لدم الدم بالكسر، وإنما قيل ذلك للضبع، لأنهم
إذا أرادوا أن يصيدوها رموا في جحرها بحجر خفيف، أو ضربوا بأيديهم فتحسبه
117

شيئا تصيده فتخرج لتأخذه فتصاد، وهي زعموا أنها من أحمق الدواب، بلغ من حمقها
أن يدخل عليها فيقال أم عامر نائمة، أو ليست هذه! و الضبع، هذه أم عامر
فتسكت حتى تؤخذ، فأراد علي عليه السلام: إني لا أخدع كما تخدع الضبع باللدم.
ومنها قوله عليه السلام: من وجد في بطنه رزا فلينصرف و ليتوضأ.
قال أبو عبيد: قال أبو عمرو: إنما هو أرزأ مثل أرز الحية، وهو دورانها
وحركتها، فشبه دوران الريح في بطنه بذلك.
قال: وقال الأصمعي: هو الرز، يعنى الصوت في البطن من القرقرة ونحوها
قال الراجز:
كأن في ربابه الكبار * رز عشار جلن في عشار (1)
وقال أبو عبيد: فقه هذا الحديث أن ينصرف فيتوضأ ويبنى على صلاته ما لم
يتكلم، وهذا إنما هو قبل أن يحدث.
قلت: والذي أعرفه من الأرز إنه الانقباض لا الدوران والحركة، يقال أرز فلان
بالفتح وبالكسر، إذ تضام وتقبض من بخله فهو أروز، والمصدر أرزا وأروزا،
قال رؤبة:
* فذاك يخال أروز الأرز (2) *
فأضاف الاسم إلى المصدر كما يقال عمر العدل وعمرو الدهاء، لما كان العدل
والدهاء أغلب أحوالهما، وقال أبو الأسود الدؤلي يذم إنسانا إذا سئل أزر، وإذا
دعى اهتز - يعنى إلى الطعام، وفي الحديث: (إن الاسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز
الحية إلى جحرها) أي يجتمع إليها وينضم بعضه إلى بعض فيها.

(1) اللسان (أرز)، ونسبه إلى رؤبة.
(2) اللسان (أرز).
118

ومنها قوله: لئن وليت بنى أمية لأنفضنهم نفض القصاب التراب (1) الوذمة.
وقد تقدم منا شرح ذلك والكلام فيه.
ومنها قوله في ذي الثدية المقتول بالنهروان: إنه مودن اليد أو مثدن أو مخدج اليد.
قال أبو عبيدة: قال الكسائي وغيره: المودن اليد: القصير اليد، ويقال أودنت
الشئ أي قصرته، وفيه لغة أخرى، ودنته فهو مودون، قال حسان يذم رجلا:
وأمك سوداء مودونة * كأن أناملها الحنظب
وأما مثدن اليد، بالثاء فان بعض الناس قال: نراه أخذه من الثندوة، وهي أصل
الثدي، فشبه يده في قصرها واجتماعها بذلك، فإن كان من هذا فالقياس أن يقال
مثند، لان النون قبل الدال في الثندوة، إلا أن يكون من المقلوب، فذاك كثير في كلامهم.
وأما مخدج اليد فإنه القصير اليد أيضا، أخذ من أخداج الناقة ولدها، وهو أن
تضعه لغير تمام في خلقه، قال: وقال الفراء: إنما قيل ذو الثدية، فأدخلت الهاء فيها،
وإنما هي تصغير (ثدي)، والثدي مذكر، لأنها كأنها بقية ثدي قد ذهب أكثره فقللها
كما تقول لحيمة وشحيمة، فأنث على هذا التأويل، قال: وبعضهم يقول: ذو اليدية، قال
أبو عبيد: ولا أرى الأصل كان إلا هذا، ولكن الأحاديث كلها تتابعت بالثاء
ذو الثدية.
ومنها قوله عليه السلام لقوم وهو يعاتبهم: ما لكم لا تنظفون عذراتكم!
قال العذرة: فناء الدار، وإنما سميت تلك الحاجة عذرة لأنها بالأفنية كانت تلقى،

(1) قال الأصمعي: سألني شعبة عن هذا الحرف، فقلت: ليس هو هكذا، إنما هو نفض القصاب الوذام:
التربة. والتربة: التي سقطت في التراب فتتربت، والقصاب ينفضها.
119

فكنى عنها بالعذرة كما كنى عنها بالغائط، وإنما الغائط الأرض المطمئنة، وقال الحطيئة
يهجو قوما:
لعمري لقد جربتكم فوجدتكم * فباح الوجوه سيئ العذرات.
ومنها قوله عليه السلام: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع.
قال أبو عبيد: التشريق هاهنا صلاة العيد، وسميت تشريقا لإضاءة
وقتها، فإن وقتها إشراق الشمس وصفاؤها وإضاءتها، وفى الحديث المرفوع: (من ذبح قبل التشريق
فليعد)، أي قبل صلاة العيد.
قال: وكان أبو حنيفة يقول: التشريق هاهنا هو التكبير في دبر الصلاة،
يقول لا تكبير إلا على أهل الأمصار تلك الأيام، لا على المسافرين أو من هو في
غير مصر.
قال أبو عبيد: وهذا كلام لم نجدا أحدا يعرفه، إن التكبير يقال له التشريق،
وليس يأخذ به أحد من أصحابه لا أبو يوسف ولا محمد، كلهم يرى التكبير على
المسلمين جميعا حيث كانوا في السفر و الحضر وفي الأمصار وغيرها.
ومنها قوله عليه السلام: (استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم
وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصعل أصمع حمش الساقين قاعدا عليها وهي تهدم).
قال أبو عبيدة: هكذا يروى (أصعل) وكلام العرب المعروف (صعل) وهو
الصغير الرأس، وكذا رؤوس الحبشة، ولهذا قيل للظليم: صعل، وقال عنترة يصف
ظليما:
صعل يلوذ بذي العشيرة بيضه * كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم
120

قال: وقد أجاز بعضهم أصعل في الصعل، وذكر إنها لغة لا أدرى عمن هي!
والأصمع: الصغير الاذن، وامرأة صمعاء.
وفي حديث ابن عباس إنه كان لا يرى بأسا أن يضحى بالصمعاء. وحمش الساقين
بالتسكين: دقيقها.
ومنها: إن قوما أتوه برجل فقالوا إن هذا يؤمنا ونحن له كارهون، فقال له: إنك
لخروط، أتؤم قوما هم لك كارهون!
قال أبو عبيد الخروط: المتهور في الأمور، الراكب برأسه جهلا، ومنه قيل
انخرط علينا فلان، أي أندرا بالقول السيئ والفعل. قال: وفقه هذا الحديث إنه
ما أفتى عليه السلام بفساد صلاته لأنه لم يأمره بالإعادة، ولكنه كره له أن يؤم قوما
هم له كارهون.
ومنها: أن رجلا اتاه وعليه ثوب من قهز، فقال: إن بنى فلان ضربوا بنى فلانة
بالكناسة، فقال عليه السلام: صدقني سن بكره.
قال أبو عبيد: هذا مثل تضربه العرب للرجل يأتي بالخبر على وجهه ويصدق
فيه. ويقال أن أصله إن الرجل ربما باع بعيره فيسأل المشترى عن سنه
فيكذبه، فعرض رجل بكرا له فصدق في سنه، فقال الآخر: صدقني سن بكره،
فصار مثلا.
والقهز بكسر القاف: ثياب بيض يخالطها حرير، ولا أراها عربية، وقد استعملها
العرب، قال ذو الرمة يصف البزاة البيض:
121

من الورق أو صقع كان رؤوسها * من القهز والقوهي بيض المقانع.
ومنها: ذكر عليه السلام آخر الزمان والفتن، فقال: خير أهل ذلك الزمان كل
نومه، أولئك مصابيح الهدى، ليسوا بالمسابيح ولا المذاييع البذر.
وقد تقدم شرح ذلك.
ومنها: إن رجلا سافر مع أصحاب له فلم يرجع حين رجعوا، فاتهم أهله أصحابه
ورفعوهم إلى شريح، فسألهم البينة على قتله، فارتفعوا إلى علي عليه السلام، فأخبروه
بقول شريح، فقال:
أوردها سعد وسعد مشتمل * يا سعد لا تروى بهذاك الإبل
ثم قال: إن أهون السقي التشريع، ثم فرق بينهم وسألهم، فاختلفوا، ثم أقروا
بقتلهم، فقتلهم به.
قال أبو عبيد: هذا مثل، أصله إن رجلا أورد إبله ماء لا تصل إليه الإبل إلا
بالاستقاء، ثم اشتمل ونام وتركها لم يستسق لها، والكلمة الثانية مثل أيضا، يقول
إن أيسر ما كان ينبغي أن يفعل بالإبل أن يمكنها من الشريعة ويعرض عليها الماء.
يقول أقل ما كان يجب على شريح أن يستقصى في المسألة والبحث عن خبر الرجل
ولا يقتصر على طلب البينة.
122

ومنها قوله، وقد خرج على الناس وهم ينتظرونه للصلاة قياما: (ما لي
أراكم سامدين).
قال أبو عبيد: أي قائمين، وكل رافع رأسه فهو سامد، وكانوا يكرهون
أن ينتظروا الامام قياما ولكن قعودا، والسامد في غير هذا الموضع: اللاهي
اللاعب، ومنه قوله تعالى: (وأنتم سامدون) (1)، وقيل السمود الغناء
بلغة حمير.
ومنها إنه خرج فرأى قوما يصلون قد سدلوا ثيابهم، فقال: كأنهم اليهود
خرجوا من فهرهم.
قال أبو عبيد: فهرهم بضم الفاء: موضع مدراسهم الذي يجتمعون فيه كالعيد
يصلون فيه ويسدلون ثيابهم، وهي كلمة نبطية أو عبرانية أصلها بهر بالباء
فعربت بالفاء.
والسدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه، فإن ضمه فليس
بسدل، وقد رويت فيه الكراهة عن النبي صلى الله عليه وآله.
ومنها أن رجلا أتاه في فريضة وعنده شريح، فقال: أتقول أنت فيها أيها
العبد الأبظر!
قال أبو عبيد: هو الذي في شفته العليا طول ونتوء في وسطها محاذي الانف.
قال: وإنما نراه قال لشريح: (أيها العبد)، لأنه كان قد وقع عليه سبى في الجاهلية.

(1) سورة النجم 61.
123

ومنها إن الأشعث قال له وهو على المنبر: غلبتنا عليك هذه الحمراء، فقال عليه
السلام: من يعذرني من هؤلاء الضياطرة، يتخلف أحدهم يتقلب على فراشه وحشاياه
كالعير ويهجر هؤلاء للذكر! أأطردهم؟ إني إن طردتهم لمن الظالمين، والله لقد سمعته
يقول والله ليضربنكم على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا.
قال أبو عبيد: الحمراء: العجم والموالي، سموا بذلك لان الغالب على ألوان العرب
السمرة، والغالب على ألوان العجم البياض والحمرة. والضياطرة: الضخام الذين لا نفع
عندهم ولا غناء، واحدهم ضيطار.
ومنها: قوله عليه السلام: اقتلوا الجان ذا الطفيتين، والكلب الأسود ذا الغرتين.
قال أبو عبيد: الجان حيه بيضاء، والطفية في الأصل: خوصه المقل، وجمعها طفي،
ثم شبهت الخطتان على ظهر الحية بطفيتين. والغرة: البياض في الوجه.
[نبذ من غريب كلام الامام على وشرحه لابن قتيبة]
وقد ذكر ابن قتيبة في غريب الحديث له عليه السلام كلمات أخرى:
فمنها قوله: من أراد البقاء - ولا بقاء - فليباكر الغداء، وليخفف الرداء، وليقل
غشيان النساء. فقيل له يا أمير المؤمنين، وما خفة الرداء في البقاء؟ فقال: الدين.
124

قال ابن قتيبة: قوله: (الرداء الدين) مذهب في اللغة حسن جيد، ووجه صحيح،
لان الدين أمانة، وأنت تقول هو لك على وفي عنقي حتى أؤديه إليك، فكان
الدين لازم للعنق، والرداء موضعه صفحتا العنق، فسمى الدين رداء وكنى عنه به،
وقال الشاعر:
إن لي حاجة إليك فقالت * بين أذني وعاتقي ما تريد
يريد بقوله: (بين أذني وعاتقي ما تريد) في عنقي، والمعنى إني قد ضمنته فهو على،
وإنما قيل للسيف رداء لان حمالته تقع موقع الرداء، وهو في غير هذا الموضع العطاء،
يقال فلان غمر الرداء أي واسع العطاء، قال: وقد يجوز أن يكون كنى بالرداء عن
الظهر، لأنه يقع عليه، يقول فليخفف ظهره ولا يثقله بالدين، كما قال الآخر: (خماص
الأزر)، يريد خماص البطون.
وقال: وبلغني نحو هذا الكلام عن أبي عبيد، قال: قال فقيه العرب: من سره النساء
- ولا نساء - فليبكر العشاء، وليباكر الغداء، وليخفف الرداء، وليقل غشيان النساء
قال: فالنسء التأخير، ومنه: (إنما النسئ زيادة في الكفر) (1).
وقوله: فليبكر العشاء، أي فليؤخره، قال الشاعر:
* فأكريت العشاء إلى سهيل *
ويجوز أن يريد فلينقص العشاء، قال الشاعر:
* والطل لم يفضل ولم يكر *.

(1) سورة التوبة 27.
125

ومنها: إنه أتى عليه السلام بالمال فكوم كومة من ذهب وكومة من فضة، فقال:
يا حمراء ويا بيضاء احمري وابيضي وغري غيري.
هذا جناي وخياره فيه * وكل جان يده إلى فيه
قال ابن قتيبة: هذا مثل ضربه، وكان الأصمعي يقوله (وهجانه فيه)، أي خالصه،
وأصل المثل لعمرو بن عدي ابن أخت جذيمة الأبرش، كان يجنى الكمأة مع
أتراب له، فكان أترابه يأكلون ما يجدون، وكان عمرو يأتي به خاله ويقول هذا
القول (1).
ومنها حديث أبي جاب قال: جاء عمى من البصرة يذهب بي وكنت عند أمي،
فقالت: لا أتركك تذهب به، ثم أتت عليا عليه السلام فذكرت ذلك له، فجاء عمى
من البصرة، فقال: نعم والله لأذهبن به وإن رغم أنفك، فقال علي عليه السلام: كذبت
والله، وولقت ثم ضرب بين يديه بالدرة.
قال: ولقت مثل كذبت وكذلك ولعت بالعين، وكانت عائشة تقرأ: (إذ تلقونه
بألسنتكم) (2) وقال الشاعر:
* وهن من الاحلاف والولعان (3) *
يعنى النساء أي من أهل الاحلاف.
ومنها قوله عليه السلام: إن من ورائكم أمورا متماحلة ردحا وبلاء مكلحا مبلحا،

(1) ا: (الكلام).
(2) سورة النور 15.
(3) اللسان (ولع)، وصدره:
* لخلابة العينين كذابة المنى *
126

قال ابن قتيبة: المتماحلة الطوال: يعنى فتنا يطول أمرها ويعظم، ويقال رجل
متماحل وسبسب متماحل، والردح جمع رداح، وهي العظيمة، يقال للكتيبة إذا عظمت:
رداح، ويقال للمرأة العظيمة العجيزة: رداح.
قال: ومنه حديث أبي موسى، وقيل له زمن على ومعاوية: أهي أهي، فقال:
إنما هذه الفتنة حيضه من حيضات الفتن، وبقيت الرداح المظلمة التي من أشرف
أشرفت له.
ومكلحا أي يكلح الناس بشدتها، يقال كلح الرجل وأكلحه، الكلحة الهم.
والمبلح، من قولهم: بلح الرجل إذا انقطع من الإعياء، فلم يقدر على أن يتحرك،
وأبلحه السير، وقال الأعشى:
* واشتكى الأوصال منه وبلح (1) *.
ومنها قوله عليه السلام يوم خيبر:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة * كليث غابات كريه المنظرة
* أفيهم بالصاع كيل السندرة *
قال ابن قتيبة: كانت أم علي عليه السلام سمته وأبو طالب غائب حين ولدته
أسدا باسم أبيها أسد بن بني هاشم
بن عبد مناف، فلما قدم أبو طالب غير اسمه وسماه
عليا. وحيدرة: اسم من أسماء الأسد، والسندرة شجرة يعمل منها القسي
والنبل، قال:
* حنوت لهم بالسندري المؤثر *
فالسندرة في الرجز يحتمل أن تكون مكيالا يتخذ من هذه الشجرة، سمى باسمها
كما يسمى القوس بنبعة. قال: وأحسب إن كان الامر كذلك إن الكيل بها قد كان

(1) ديوانه 239، وصدره:
* وإذا حمل عبئا بعضهم *
127

جزافا فيه إفراط، قال: ويحتمل أن تكون السندرة هاهنا امرأة كانت تكيل
كيلا وافيا أو رجلا.
ومنها قوله عليه السلام: من يطل أير أبيه يتمنطق به
قال ابن قتيبة: هذا مثل ضربه، يريد من كثرت إخوته عز واشتد ظهره،
وضرب المنطقة إذا كانت تشد الظهر مثلا لذلك، قال الشاعر:
فلو شاء ربى كان أير أبيكم * طويلا كأير الحارث بن سدوس (1)
قيل كان للحارث بن سدوس أحد وعشرون ذكرا، وكان ضرار بن عمرو
الضبي يقول ألا إن شر حائل أم، فزوجوا الأمهات، وذلك إنه صرع، فأخذته
الرماح، فاشتبك عليه إخوته لامه حتى خلصوه.
قال: فأما المثل الاخر وهو قولهم من يطل ذيله يتمنطق به، فليس من المثل
الأول في شئ، وإنما معناه من وجد سعة وضعها في غير موضعها، وأنفق في غير ما يلزمه
الانفاق فيه.
ومنها قوله: خير بئر في الأرض زمزم، وشر بئر في الأرض برهوت.
قال ابن قتيبة: هي بئر بحضرموت يروى أن فيها أرواح الكفار.
قال: وقد ذكر أبو حاتم عن الأصمعي عن رجل من أهل حضرموت قال: نجد
فيها الرائحة المنتنة الفظيعة جدا، ثم نمكث حينا فيأتينا الخبر بان عظيما من عظماء
الكفار قد مات، فنرى إن تلك الرائحة منه، قال: وربما سمع منها مثل أصوت الحاج،
فلا يستطيع أحد أن يمشى بها.

(1) اللسان (نطق)، من غير نسبة.
128

ومنها قوله عليه السلام: إيما رجل تزوج امرأة مجنونة، أو جذماء، أو برصاء،
أو بها قرن، فهي امرأته، إن شاء أمسك، وإن شاء طلق.
قال ابن قتيبة: القرن بالتسكين: العفلة الصغيرة، ومنه حديث شريح إنه اختصم إليه
في قرن بجارية، فقال: أقعدوها فإن أصاب الأرض فهو عيب، وإن لم يصب الأرض
فليس بعيب.
ومنها قوله عليه السلام: لود معاوية إنه ما بقي من بنى بني هاشم
نافخ ضرمة
إلا طعن في نيطه.
قال ابن قتيبة: الضرمة النار، وما بالذار نافخ ضرمة، أي ما بها أحد.
قال: وقال أبو حاتم عن أبي زيد: طعن فلان في نيطه أي في جنازته، ومن ابتدأ في
شئ أو دخل فيه فقد طعن فيه، قال: ويقال: النيط الموت، رماه الله بالنيط، قال: وقد
روى (إلا طعن) بضم الطاء، وهذا الراوي يذهب إلى أن النيط نياط القلب، وهي
علاقته التي يتعلق بها، فإذا طعن إنسان في ذلك المكان مات.
ومنها قوله عليه السلام: إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام أن ابن لي بيتا في
الأرض، فضاق بذلك ذرعا، فأرسل الله إليه السكينة، وهي ريح خجوج،
فتطوقت (1) حول البيت كالحجفة.
وقال ابن قتيبة: الخجوج من الرياح: السريعة المرور، ويقال أيضا: خجوجاء،
قال ابن احمر:

(1) كذا في ب، وفى ا، د: (فتطوت).
129

هوجاء رعبلة الرواح * خجوجاة الغدو رواحها شهر (1).
قال: وهذا مثل حديث علي عليه السلام الاخر، وهو إنه قال: السكينة لها
وجه كوجه الانسان، وهي بعد ريح هفافة، أي خفيفة سريعة، والحجفة:
الترس.
ومنها إن مكاتبا لبعض بنى أسد، قال: جئت بنقد أجلبه إلى الكوفة، فانتهيت به إلى
الجسر، فإني لأسربه عليه إذا اقبل مولى لبكر بن وائل يتخلل الغنم ليقطعها،
فنفرت نقده، فقطرت الرجل في الفرات، فغرق، فأخذت. فارتفعنا إلى علي عليه
السلام فقصصنا عليه القصة، فقال: انطلقوا فان عرفتم النقدة بعينها فادفعوها إليهم.
وإن اختلطت عليكم فادفعوا شرواها من الغنم إليهم.
قال ابن قتيبة: النقد: غنم صغار، الواحدة نقدة، ومنه قولهم في المثل: (أذل
من النقد).
وقوله: (أسر به) أي أرسله قطعة قطعة. وشرواها: مثلها.
ومنها قوله عليه السلام في ذكر المهدى من ولد الحسين عليه السلام، قال: إنه
رجل أجلى الجبين، أقنى الانف، ضخم البطن، أربل الفخذين، أفلج الثنايا، بفخذه
اليمنى شامة.
قال ابن قتيبة: الأجلى والأجلح شئ واحد، والقنا في الانف: طوله ودقة أرنبته

(1) اللسان 3: 71، قال: (يصف الريح).
130

وحدب في وسطه. والأربل الفخذين: المتباعد ما بينهما، وهو كالأفحج، تربل الشئ،
أي انفرج، والفلج: صفرة في الأسنان.
ومنها قوله عليه السلام: إن بنى أمية لا يزالون يطعنون في مسجل ضلالة، ولهم
في الأرض أجل حتى يهريقوا الدم الحرام في الشهر الحرام، والله لكأني أنظر إلى
غرنوق من قريش يتخبط في دمه، فإذا فعلوا ذلك لم يبق لهم في الأرض عاذر، ولم يبق
لهم ملك، على وجه الأرض.
قال ابن قتيبة: هو من قولك: ركب فلان مسجله، إذا جد في أمر هو فيه
كلاما كان أو غيره، وهو من السجل وهو الصب. والغرنوق: الشاب.
قلت: والغرنوق: القرشي الذي قتلوه، ثم انقضى أمرهم عقيب قتله إبراهيم الامام،
وقد اختلفت الرواية في كيفية قتله، فقيل: قتل بالسيف، وقيل: خنق في جراب فيه
نورة، وحديث أمير المؤمنين عليه السلام يسند الرواية الأولى.
ومنها ما روى إنه اشترى قميصا بثلاثة دراهم ثم قال: الحمد لله الذي هذا من
رياشه.
قال ابن قتيبة: الريش والرياش واحد، وهو الكسوة، قال عز وجل: (قد أنزلنا
عليكم لباسا يوارى سوآتكم وريشا)، وقرئ (ورياشا).
ومنها قوله عليه السلام: لا قود إلا بالأسل.
قال ابن قتيبة: هو ما أرهف وأرق من الحديد، كالسنان والسيف والسكين،
ومنه قيل أسله الذراع لما استدق منه، قال: وأكثر الناس على هذا المذهب
131

وقوم من الناس يقولون: قد يجوز أن القود بغير الحديد كالحجر والعصا إن كان
المقتول قتل بغير ذلك.
ومنها إنه عليه السلام رأى رجلا في الشمس، فقال: قم عنها فإنها مبخرة مجفرة،
تثقل الريح، وتبلى الثوب، وتظهر الداء الدفين.
قال ابن قتيبة: مبخرة: تورث البخر في الفم. ومجفرة: تقطع عن النكاح
وتذهب شهوة الجماع، يقال جفر الفحل عن الإبل، إذا أكثر الضراب حتى يمل
وينقطع، ومثله قذر، وتقذر، قذورا، ومثله اقطع فهو مقطع.
وجاء في الحديث إن عثمان بن مظعون قال: يا رسول الله، إني رجل تشق على
العزبة في المغازي، أفتأذن لي في الخصاء؟ قال: لا ولكن عليك بالصوم
فإنه مجفر.
قال: وقد روى عبد الرحمن عن الأصمعي عمه، قال: تكلم اعرابي فقال:
لا تنكحن واحده فتحيض إذا حاضت، وتمرض إذا مرضت، ولا تنكحن اثنتين
فتكون بين ضرتين ولا تنكحن ثلاثا فتكون بين أثاف، ولا تنكحن أربعا
فيفلسنك ويهرمنك، وينحلنك ويجفرنك فقيل له لقد حرمت ما أحل الله، فقال:
سبحان الله! كوزان، وقرصان، وطمران وعبادة الرحمن، وقوله: (تثفل الريح
)، أي تنتنها، والاسم الثفل، ومنه الحديث (وليخرجن ثفلات). والداء الدفين،
المستتر الذي قد قهرته الطبيعة، فالشمس تعينه على الطبيعة وتظهره.
ومنها قوله عليه السلام وهو يذكر مسجد الكوفة في زاويته: فار التنور، وفيه
هلك يغوث ويعوق، وهو الفاروق، ومنه يستتر جبل الأهواز، ووسطه على روضة من
132

رياض الجنة، وفيه ثلاث أعين أنبتت بالضغث، تذهب الرجس، وتطهر المؤمنين: عين
من لبن، وعين من دهن، وعين من ماء، جانبه الأيمن ذكر، وفى جانبه الأيسر
مكر، ولو يعلم الناس ما فيه من الفضل لأتوه ولو حبوا.
قال ابن قتيبة: قوله: (أنبتت بالضغث) أحسبه الضغث الذي ضرب أيوب أهله.
والعين التي ظهرت لما ركض الماء برجله. قال: والباء في (بالضغث) زائدة، تقديره:
أنبتت الضغث، كقوله تعالى: (تنبت بالدهن (1))، وكقوله: (يشرب بها عباد الله (2)).
وأما قوله: (في جانبه الأيمن ذكر)، فإنه يعنى الصلاة. (وفى جانبه الأيسر
مكر) أراد به المكر به حتى قتل عليه السلام في مسجد الكوفة.
ومنها إن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث أبا رافع مولاه يتلقى جعفر بن أبي
طالب لما قدم من الحبشة، فأعطاه علي عليه السلام حتيا وعكة سمن، وقال له: أنا أعلم
بجعفر إنه إن علم ثراه مرة واحدة ثم أطعمه، فادفع هذا السمن إلى أسماء بنت عميس
تدهن به بنى أخي من صمر البحر، وتطعمهم من الحتي.
قال ابن قتيبة الحتي: سويق يتخذ من المقل، قال الهذلي يذكر أضيافه:
لا در دري إن أطعمت نازلكم * قرف الحتي وعندي البر مكنوز

(1) سورة المؤمنين 20.
(2) سورة الدهر 6.
133

وقوله: (ثراه مرة) أي بله دفعة واحدة وأطعمه الناس، والثرى الندا. وصمر
البحر: نتنه وغمقه، ومنه قيل للدبر الصمارى.
ومنها قوله عليه السلام يوم الشورى لما تكلم الحمد لله: الذي اتخذ محمدا منا نبيا،
وابتعثه إلينا رسولا، فنحن أهل بيت النبوة، ومعدن الحكمة، أمان لأهل الأرض،
ونجاة لمن طلب، إن لنا حقا إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل، وإن
طال السرى، لو عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله عهدا لجالدنا عليه حتى نموت،
أو قال لنا قولا لأنفذنا قوله على رغمنا. لن يسرع أحد قبلي إلى صلة رحم ودعوة
حق، والامر إليك يا بن عوف على صدق النية، وجهد النصح، واستغفر الله
لي ولكم.
قال ابن قتيبة: أي أن معناه ركبنا مركب الضيم والذل، لان راكب عجز البعير
يجد مشقة، لا سيما إذا تطاول به الركوب على تلك الحال، ويجوز أن يكون أراد: نصبر
على أن نكون أتباعا لغيرنا، لان راكب عجز البعير يكون ردفا لغيره.
ومنها قوله عليه السلام لما قتل ابن آدم أخاه: غمص الله الخلق ونقص الأشياء
قال ابن قتيبة: يقال: غمصت فلانا أغمصه واغتمصته، إذا استصغرته واحتقرته، قال:
ومعنى الحديث أن الله تعالى نقص الخلق من عظم الأبدان وطولها من القوة والبطش
وطول العمر ونحو ذلك.
ومنها إن سلامة الكندي قال: كان علي عليه السلام يعلمنا الصلاة على
134

رسول الله صلى الله عليه وآله فيقول: اللهم داحي المدحوات، وبارئ المسموكات،
وجبار القلوب على فطراتها، شقيها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك، ونوامي
بركاتك، ورأفة تحياتك، على محمد عبدك ورسولك، الفاتح لما أغلق، والخاتم لما
سبق، والمعلن الحق بالحق، والدامغ جيشات الأباطيل، كما حملته فاضطلع بأمرك
لطاعتك، مستوفزا في مرضاتك، لغير نكل في قدم، ولا وهن في عزم، داعيا لوحيك،
حافظا لعهدك، ماضيا على نفاذ أمرك، حتى أورى قبسا لقابس، آلاء الله تصل بأهله
أسبابه به، هديت القلوب بعد خوضات الفتن والاثم، موضحات الاعلام، ونائرات
الاحكام، ومنيرات الاسلام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك
يوم الدين، وبعيثك نعمة، ورسولك بالحق رحمة. اللهم افسح له مفسحا في عدلك،
واجزه مضاعفات الخير من فضلك، مهنات غير مكدرات، من فوز ثوابك المحلول،
وجزل عطائك المعلول، اللهم اعل على بناء البانين بناءه، وأكرم مثواه لديك ونزله،
وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة، مرضى المقالة، ذا منطق عدل،
وخطه فصل، وبرهان عظيم.
قال ابن قتيبة: داحي المدحوات، أي باسط الأرضين، وكان الله تعالى خلقها ربوة
ثم بسطها: قال سبحانه: (والأرض بعد ذلك دحاها) (1) وكل شئ بسطته فقد دحوته
ومنه قيل لموضع بيض النعامة: أدحى، لأنها تدحوه للبيض أي توسعه، ووزنه إفعول.
وبارئ المسموكات: خالق السماوات. وكل شئ رفعته وأعليته فقد سمكته، وسمك
البيت والحائط ارتفاعه، قال الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول

(1) سورة النازعات 30.
135

وقوله: جبار القلوب على فطراتها. من قولك جبرت العظم فجبر إذا كان
مكسورا فلامته وأقمته، كأنه أقام القلوب وأثبتها على ما فطرها عليه من معرفته
والاقرار به، شقيها وسعيدها، قال: ولم أجعل إجبارا هاهنا، من أجبرت فلانا
على الامر إذا أدخلته فيه كرها، وقسرته، لأنه لا يقال من أفعل فعال، لا أعلم ذلك
إلا أن بعض القراء قرأ: (أهديكم سبيل الرشاد) (1) بتشديد الشين، وقال: الرشاد الله،
فهذا فعال من أفعل، وهي قراءة شاذة، غير مستعملة، فأما قول الله عز وجل
(وما أنت عليهم بجبار) (2) فإنه أراد وما أنت عليهم بمسلط تسليط الملوك،
والجبابرة: الملوك، واعتبار ذلك قوله: (لست عليهم بمسيطر) (3) أي بمتسلط تسلط
الملوك، فإن كان يجوز أن يقال من أجبرت فلانا على الامر: أنا جبار له، وكأن هذا
محفوظا، فقد يجوز أن يجعل قول علي عليه السلام: جبار القلوب من ذلك، وهو
أحسن في المعنى.
وقوله: (الدامغ جيشات الأباطيل)، أي مهلك ما نجم وارتفع من الأباطيل،
وأصل الدمغ من الدماغ، كأنه الذي يضرب وسط الرأس فيدمغه أي يصيب الدماغ منه.
ومنه قول الله عز وجل: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) (4) أي يبطله
والدماغ مقتل، فإذا أصيب هلك صاحبه.
وجيشات: مأخوذ من جاش الشئ أي ارتفع، وجاش الماء إذا طمى،
وجاشت النفس.
وقوله: (كما حمل فاضطلع) افتعل من الضلاعة وهي القوة.

(1) سورة المؤمنين 38.
(2) سورة ق 45.
(3) سورة الغاشية 22.
(4) سورة الأنبياء 18.
136

وقوله: (لغير نكل في قدم)، النكل مصدر: وهو النكول، يقال: نكل
فلان عن الامر ينكل نكولا، فهذا المشهور ونكل بالكسر ينكل
نكلا قليلة.
والقدم: التقدم، قال أبو زيد: رجل مقدام إذا كان شجاعا، فالقدم يجوز أن يكون
بمعنى التقدم، وبمعنى المتقدم.
قوله: (ولا وهن في عزم)، أي ولا ضعف في رأى.
وقوله: (حتى أورى قبسا لقابس)، أي أظهر نورا من الحق، يقال: أوريت النار
إذا قدحت ما ظهر بها، قال سبحانه: (أفرأيتم النار التي تورون) (1).
وقوله: (آلاء الله تصل بأهله أسبابه)، يريد نعم الله تصل بأهل ذلك القبس،
- وهو الاسلام والحق سبحانه - أسبابه وأهله، المؤمنون به.
قلت: تقدير الكلام حتى أورى قبسا لقابس، تصل أسباب ذلك القبس آلاء الله
ونعمه بأهله المؤمنين به. واعلم أن اللام في (لغير نكل) متعلقة بقوله: (مستوفزا)،
أي هو مستوفز لغير نكول، بل للخوف منك، والخضوع لك..
قال ابن قتيبة: قوله عليه السلام: (به هديت القلوب بعد الكفر، والفتن
موضحات الاعلام)، أي هديته لموضحات الاعلام، يقال هديت الطريق وللطريق
وإلى الطريق.
وقوله: (نائرات الاحكام، ومنيرات الاسلام، يريد الواضحات البينات، يقال
نار الشئ وأنار، إذا وضح.
وقوله: (شهيدك يوم الدين)، أي الشاهد على الناس يوم القيامة. وبعيثك
رحمة، أي مبعوثك، فعيل في معنى مفعول.

(1) سورة الواقعة 71.
137

وقوله: (افسح له مفسحا)، أي أوسع له سعة، وروى: (مفتسحا) بالتاء.
قوله: (في عدلك) أي في دار عدلك، يعنى يوم القيامة، ومن رواه (عدنك)
بالنون، أراد جنة عدن.
وقوله: (من جزل عطائك المعلول)، من العلل، وهو الشرب بعد الشرب،
فالشرب الأول نهل، والثاني علل، يريد إن عطاءه عز وجل مضاعف، كأنه يعل
عباده، أي يعطيهم عطاء بعد عطاء.
وقوله: (أعل على بناء البانين بناءه)، أي ارفع فوق اعمال العاملين عمله.
وأكرم مثواه، أي منزلته، من قولك: ثويت بالمكان أي نزلته وأقمت به،
ونزله: رزقه.
ونحن قد ذكرنا بعض هذه الكلمات فيما تقدم على رواية الرضى رحمه الله وهي
مخالفة لهذه الرواية، وشرحنا ما رواه الرضى، وذكرنا الان ما رواه ابن قتيبة وشرحه
لأنه لا يخلو من فائدة جديدة.
ومنها قوله عليه السلام: خذ الحكمة أنى أتتك، فإن الكلمة من الحكمة تكون
في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تسكن إلى صاحبها.
قال ابن قتيبة: يريد الكلمة قد يعلمها المنافق فلا تزال تتحرك في صدره ولا تسكن
حتى يسمعها منه المؤمن أو العالم فيعيها ويثقفها ويفقهها منه، فتسكن في صدره إلى
أخواتها من كلم الحكمة.
ومنها قوله عليه السلام: البيت المعمور نتاق الكعبة من فوقها.
قال ابن قتيبة: نتاق الكعبة، أي مظل عليها من فوقها، من قول الله سبحانه:
138

(وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) (1)، أي زعزع فأظل عليهم.
ومنها قوله عليه السلام: (أنا قسيم النار) قال ابن قتيبة: أراد إن الناس
فريقان: فريق معي فهم على هدى، وفريق على فهم على ضلالة، كالخوارج
ولم يجسر ابن قتيبة أن يقول (وكأهل الشام) يتورع يزعم، ثم إن الله
أنطقه بما تورع عن ذكره، فقال متمما للكلام بقوله: فأنا قسيم النار، نصف في
الجنة معي، ونصف في النار، قال: وقسيم في معنى مقاسم، مثل جليس
وأكيل وشريب.
قلت قد ذكر أبو عبيد الهروي هذه الكلمة في الجمع بين الغريبين، قال:
وقال قوم: إنه لم يرد ما ذكره، وإنما أراد: هو قسيم النار والجنة يوم القيامة حقيقة،
يقسم الأمة فيقول هذا للجنة، وهذا للنار.

(1) سورة الأعراف: 171.
139

[خطبة منسوبة للامام على خالية من حرف الألف]
وأنا الان أذكر من كلامه الغريب ما لم يورده أبو عبيد وابن قتيبة في كلامهما
وأشرحه أيضا، وهي خطبة رواها كثير من الناس له عليه السلام خاليه من حرف
الألف، قالوا: تذاكر (1) قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله: أي حروف
الهجاء أدخل في الكلام؟ فأجمعوا على الألف، فقال علي عليه السلام:
حمدت من عظمت منته، وسبغت نعمته، وسبقت غضبه رحمته، وتمت كلمته،
ونفذت مشيئته، وبلغت قضيته، حمدته حمد مقر بربوبيته، متخضع لعبوديته،
متنصل من خطيئته، متفرد بتوحيده، مؤمل منه مغفرة تنجيه، يوم يشغل عن
فصيلته وبنيه.
ونستعينه ونسترشده ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، وشهدت له شهود
مخلص موقن، وفردته تفريد مؤمن متيقن، ووحدته توحيد عبد مذعن، ليس له
شريك في ملكه، ولم يكن له ولى في صنعه، جل عن مشير ووزير، وعن عون
معين ونصير ونظير.
علم فستر، وبطن فخبر، وملك فقهر، وعصى فغفر، وحكم فعدل، لم يزل
ولن يزول، (ليس كمثله شئ) (2)، وهو بعد كل شئ رب متعزز بعزته،
متمكن بقوته، متقدس بعلوه، متكبر بسموه، ليس يدركه بصر، ولم يحط به نظر،
قوى منيع، بصير سميع، رؤوف رحيم.
عجز عن وصفه من يصفه، وضل عن نعته من يعرفه.

(1) في الأصل: (بذاكر)، تصحيف.
(2) سورة الشورى: 11.
140

قرب فبعد، وبعد فقرب، يجيب دعوة من يدعوه، ويرزقه ويحبوه، ذو لطف
خفى، وبطش قوى، ورحمة موسعة، وعقوبة موجعة، رحمته جنة عريضة مونقة،
وعقوبته جحيم ممدودة موبقة.
وشهدت ببعث محمد رسوله، وعبده وصفيه، ونبيه ونجيه، وحبيبه وخليله، بعثه
في خير عصر، وحين فترة وكفر، رحمة لعبيده، ومنة لمزيده، ختم به نبوته، وشيد
به حجته، فوعظ ونصح، وبلغ وكدح، رؤوف بكل مؤمن، رحيم سخي،
رضى ولى زكى، عليه رحمة وتسليم، وبركة وتكريم، من رب غفور رحيم،
قريب مجيب.
وصيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم، وذكرتكم بسنة نبيكم،
فعليكم برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم، وتقية تنجيكم قبل يوم
تبليكم وتذهلكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخف وزن سيئته، ولتكن
مسألتكم وتملقكم مسألة ذل وخضوع، وشكر وخشوع، بتوبة وتورع، وندم
ورجوع، وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشبيبته قبل هرمه، وسعته
قبل فقره، وفرغته قبل شغله، وحضره قبل سفره، قبل تكبر وتهرم وتسقم،
يمله طبيبه، ويعرض عنه حبيبه، وينقطع غمده، ويتغير عقله، ثم قيل: هو
موعوك، وجسمه منهوك، ثم جد في نزع شديد، وحضره كل قريب
وبعيد، فشخص بصره، وطمح نظره، ورشح جبينه، وعطف عرينه، وسكن
حنينه، وحزنته نفسه، وبكته عرسه، وحفر رمسه، ويتم منه ولده، وتفرق
منه عدده، وقسم جمعه، وذهب بصره وسمعه، ومدد وجرد، وعري
وغسل، ونشف وسجي، وبسط له وهئ، ونشر عليه كفنه، وشد منه ذقنه،
وقمص وعمم، وودع وسلم، وحمل فوق سرير، وصلى عليه بتكبير، ونقل
من دور مزخرفة، وقصور مشيدة، وحجر منجدة، وجعل في ضريح ملحود
141

وضيق مرصود، بلبن منضود، مسقف بجلمود، وهيل عليه حفره، وحثى عليه مدره،
وتحقق حذره، ونسي خبره، ورجع عنه وليه وصفيه، ونديمه ونسيبه، وتبدل به قرينه
وحبيبه، فهو حشو قبر، ورهين قفر، يسعى بجسمه دود قبره، ويسيل صديده من
منخره، يسحق تربة لحمه، وينشف دمه، ويرم عظمه حتى يوم حشره،
فنشر من قبره حين ينفخ في صور، ويدعى بحشر ونشور.
فثم بعثرت قبور، وحصلت سريره صدور، وجئ بكل نبي وصديق
وشهيد، وتوحد للفصل قدير بعبده خبير بصير، فكم من زفرة تضنيه، وحسرة
تنضيه، في موقف مهول، ومشهد جليل، بين يدي ملك عظيم، وبكل صغير
وكبير عليم، فحينئذ يلجمه عرقه، ويحصره قلقه، عبرته غير مرحومة، وصرخته
غير مسموعة، وحجته غير مقولة، زالت جريدته، ونشرت صحيفته، نظر في سوء عمله،
وشهدت عليه عينه بنظره، ويده ببطشه، ورجله بخطوه، وفرجه بلمسه، وجلده
بمسه، فسلسل جيده، وغلت يده، وسيق فسحب وحده، فورد جهنم بكرب
وشدة، فظل يعذب في جحيم، ويسقى شربه من حميم، تشوى وجهه، وتسلخ
جلده، وتضربه زبنية بمقمع من حديد، ويعود جلده بعد نضجه كجلد جديد،
يستغيث فتعرض عنه خزنه جهنم، ويستصرخ فيلبث حقبة يندم.
نعوذ برب قدير، من شر كل مصير، ونسأله عفو من رضى عنه، ومغفرة
من قبله، فهو ولى مسألتي، ومنجح طلبتي، فمن زحزح عن تعذيب ربه جعل
في جنته بقربه، وخلد في قصور مشيدة، وملك بحور عين وحفدة، وطيف
عليه بكؤوس، أسكن في حظيرة قدوس، وتقلب في نعيم، وسقى من تسليم،
وشرب من عين سلسبيل، ومزج له بزنجبيل، مختم بمسك وعبير، مستديم للملك،
مستشعر للسرر، يشرب من خمور، في روض مغدق، ليس يصدع من شربه،
وليس ينزف.
142

هذه منزلة من خشي ربه، وحذر نفسه معصيته، وتلك عقوبة من جحد
مشيئته، وسولت له نفسه معصيته، فهو قول فصل، وحكم عدل وخبر قصص
قص، ووعظ نص، (تنزيل من حكيم حميد) (1) نزل به روح قدس مبين،
على قلب نبي مهتد رشيد، صلت عليه رسل سفرة، مكرمون بررة، عذت
برب عليم، رحيم كريم، من شر كل عدو لعين رجيم، فليتضرع متضرعكم،
وليبتهل مبتهلكم، وليستغفر كل مربوب منكم لي ولكم، وحسبي ربى وحده.
الشرح:
فصيلة الرجل: رهطه الأدنون. وكدح سعى سعيا فيه تعب، وفرغته: الواحدة
من الفراغ، تقول فرغت فرغة، كقولك ضربت ضربة. وسجي الميت: بسط
عليه رداء. ونشر الميت من قبره بفتح النون والشين، وأنشره الله تعالى.
وبعثرت قبور: انتثرت و نبشت.
قوله: (وسيق بسحب وحده)، لأنه إذا كان معه غيره كان كالمتأسي بغيره، فكان
أخف لألمه وعذابه، وإذا كان وحده كان أشد ألما وأهول، وروى (فسيق يسحب
وحده) وهذا أقرب إلى تناسب الفقرتين، وذاك أفخم معنى.
وزبنية على وزن (عفرية) واحد الزبانية، وهم عند العرب الشرط، وسمى بذلك
بعض الملائكة لدفعهم أهل النار إليها كما يفعل الشرط في الدنيا، ومن أهل اللغة من
يجعل واحد الزبانية زباني. وقال بعضهم: زابن، ومنهم من قال: هو جمع لا واحد له،
نحو أبابيل وعباديد، وأصل الزبن في اللغة الدفع، ومنه ناقة زبون: تضرب
حالبها وتدفعه.

(1) سورة فصلت 42.
143

وتقول: ملك زيد بفلانة بغير ألف، والباء هاهنا زائدة كما زيدت في (كفى بالله
حسيبا)، وإنما حكمنا بزيادتها لان العرب تقول: ملكت أنا فلانة أي تزوجتها، وأملكت
فلانة بزيد أي زوجتها به، فلما جاءت الباء هاهنا ولم يكن بد من إثبات الألف لأجل
مجيئها جعلناها زائدة، وصار تقديره: وملك حورا عينا.
وقال المفسرون في تسنيم: إنه اسم ماء في الجنة سمى بذلك لأنه يجرى من فوق
الغرف والقصور.
وقالوا في سلسبيل: إنه اسم عين في الجنة ليس ينزف ولا يخمر كما يخمر شارب
الخمر في الدنيا.
انقضى هذا الفصل، ثم رجعنا إلى سنن الغرض الأول.
144

(267)
الأصل:
وقال عليه السلام، لما بلغه إغارة أصحاب معاوية على الأنبار، فخرج بنفسه ماشيا
حتى أتى النخيلة، وأدركه الناس وقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم، فقال
عليه السلام:
والله ما تكفونني أنفسكم، فكيف تكفونني غيركم! إن كانت الرعايا قبلي
لتشكوا حيف رعاتها، فإني اليوم لأشكو حيف رعيتي، كأنني المقود وهم القادة،
أو الموزوع وهم الوزعة.
قال: فلما قال هذا القول في كلام طويل قد ذكرنا مختاره في جملة الخطب، تقدم
إليه رجلان من أصحابه، فقال أحدهما: (إني لا أملك إلا نفسي وأخي) (1)، فمرنا
بأمرك يا أمير المؤمنين ننفذ (2)، فقال: وأين تقعان مما أريد!
الشرح:
السنن الطريقة، يقال تنح عن السنن، أي عن وجه الطريق. والنخيلة: بظاهر
الكوفة، وروى (ما تكفوني) بحذف النون.
والحيف: الظلم.
والوزعة: جمع وازع، وهو الدافع الكاف.
ومعنى قوله: (ما تكفونني أنفسكم)، أي أفعالكم رديئة قبيحة تحتاج إلى جند غيركم

(1) سورة المائدة 25.
(2) في الأصل: (ننقذ)، تصحيف.
145

أستعين بهم على تثقيفكم وتهذيبكم، فمن هذه حاله كيف أثقف به غيره، وأهذب
به سواه!
وإن كانت الرعايا: إن هاهنا مخففة من الثقيلة، ولذلك دخلت اللام في جوابها.
وقد تقدم ذكرنا هذين الرجلين، وإن أحدهما قال: يا أمير المؤمنين، أقول لك
ما قاله العبد الصالح: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) (1). فشكر لهما وقال: وأين تقعان
مما أريد!

(1) سورة المائدة 25.
146

(268)
الأصل:
وقيل أن الحارث بن حوط اتاه عليه السلام، فقال له: أتراني أظن أن
أصحاب الجمل كانوا على ضلاله؟
فقال عليه السلام:
يا حار، إنك نظرت تحتك، ولم تنظر فوقك فحرت، إنك لم تعرف الحق
فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه.
فقال الحارث:
فإني اعتزل مع سعد بن مالك وعبد الله بن عمر.
فقال عليه السلام:
إن سعدا وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحق، ولم يخذلا الباطل.
الشرح:
اللفظة التي وردت قبل أحسن من هذه اللفظة، وهي: أولئك قوم خذلوا الحق ولم ينصروا
الباطل، وتلك كانت حالهم، فإنهم خذلوا عليا ولم ينصروا معاوية ولا أصحاب الجمل.
فأما هذه اللفظة ففيها إشكال، لان سعدا وعبد الله لعمري إنهما لم ينصرا الحق،
وهو جانب علي عليه السلام، لكنهما خذلا الباطل، وهو جانب معاوية وأصحاب
الجمل، فإنهم لم ينصروهم في حرب قط، لا بأنفسهم ولا بأموالهم ولا بأولادهم، فينبغي
147

أن نتأول كلامه فنقول: إنه ليس يعنى بالخذلان عدم المساعدة في الحرب، بل يعنى
بالخذلان هاهنا كل ما أثر في محق الباطل وإزالته، قال الشاعر يصف فرسا:
وهو كالدلو بكف المستقى خذلت عنه العراقي فانجذم
أي باينته العراقي، فلما كان كل مؤثر في إزالة شئ مباينا له نقل اللفظ بالاشتراك
في الامر العام إليه، ولما كان سعد وعبد الله لم يقوما خطيبين في الناس يعلمانهم
باطل معاوية وأصحاب الجمل، ولم يكشفا اللبس والشبهة الداخلة على الناس في حرب
هذين الفريقين، ولم يوضحا وجوب طاعة علي عليه السلام فيرد الناس عن اتباع
صاحب الجمل وأهل الشام صدق عليهما أنهما لم يخذلا الباطل. ويمكن أن يتأول على
وجه آخر، وذلك أنه قد جاء خذلت الوحشية إذا قامت على ولدها، فيكون معنى
قوله: (ولم يخذلا الباطل)، أي لم يقيما عليه وينصراه، فترجع هذه اللفظة إلى اللفظة
الأولى، وهي قوله: (أولئك قوم خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل).
والحارث بن حوط بالحاء المهملة، ويقال: أن الموجود في خط الرضى (ابن خوط)
بالخاء المعجمة المضمومة.
148

(269)
الأصل:
صاحب السلطان كراكب الأسد يغبط بموقعه، وهو أعلم بموضعه.
الشرح:
[نبذ مما قيل في السلطان]
قد جاء في صحبة السلطان أمثال حكمية مستحسنة تناسب هذا المعنى، أو تجرى
مجراه في شرح حال السلطان، نحو قولهم: صاحب السلطان كراكب الأسد يهابه
الناس، وهو لمركوبه أهيب.
وكان يقال: إذا صحبت السلطان فلتكن مداراتك له مداراة المرأة القبيحة
لبعلها المبغض لها، فإنها لا تدع التصنع له على حال.
قيل للعتابي: لم لا تقصد الأمير؟ قال: لأني أراه يعطى واحدا لغير حسنه
ولا يد، ويقتل آخر بلا سيئة ولا ذنب، ولست أدرى أي الرجلين أكون!
ولا أرجو منه مقدار ما أخاطر به.
وكان يقال: العاقل من طلب السلامة من عمل السلطان، لأنه إن عف جنى عليه
العفاف عداوة الخاصة، وإن بسط يده جنى عليه البسط السنة الرعية.
وكان سعيد بن حميد يقول: عمل السلطان كالحمام، الخارج يؤثر الدخول،
والداخل يؤثر الخروج.
ابن المقفع: إقبال السلطان على أصحابه تعب، وإعراضه عنهم مذلة.
149

وقال آخر: السلطان إن أرضيته أتعبك، وإن أغضبته أعطبك.
وكان يقال: إذا كنت مع السلطان فكن حذرا منه عند تقريبه، كاتما لسره إذا
استسرك، وأمينا على ما ائتمنك، تشكر له ولا تكلفه الشكر لك، وتعلمه وكأنك
تتعلم منه وتؤدبه وكأنه يؤدبك، بصيرا بهواه، مؤثرا لمنفعته، ذليلا إن ضامك،
راضيا إن أعطاك، قانعا إن حرمك، وإلا فابعد منه كل البعد.
وقيل لبعض من يخدم السلطان: لا تصحبهم، فإن مثلهم مثل قدر التنور، كلما
مسه الانسان أسود منه، فقال: إن كان خارج تلك القدر أسود فداخلها أبيض.
وكان يقال أفضل ما عوشر به الملوك قلة الخلاف، وتخفيف المئونة.
وكان يقال: لا يقدر على صحبة السلطان إلا من يستقل بما حملوه، ولا يلحف
إذا سألهم، ولا يغتر بهم إذا رضوا عنه، ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه، ولا يطغى
إذا سلطوه، ولا يبطر إذا أكرموه.
وكان يقال: إذا جعلك السلطان أخا فاجعله ربا، وإن زادك فزده.
وقال أبو حازم: للسلطان كحل يكحل به من يوليه، فلا يبصر حتى يعزل.
وكان يقال لا ينبغي لصاحب السلطان أن يبتدئه بالمسألة عن حاله، فان ذلك من
كلام النوكى (1) وإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير؟ فقل: صبح الله الأمير
بالكرامة، وإن أردت أن تقول: كيف يجد الأمير نفسه؟ فقل: وهب الله الأمير
العافية، ونحو هذا، فإن المسألة توجب الجواب، فإن لم يجبك اشتد عليك، وإن
أجابك اشتد عليه.
وكان يقال صحبة الملوك بغير أدب كركوب الفلاة بغير ماء.

(1) النوكى: الحمقى.
150

وكان يقال: ينبغي لمن صحب السلطان أن يستعد للعذر عن ذنب لم يجنه، وأن
يكون آنس ما يكون به، أوحش ما يكون منه.
وكان يقال: شدة الانقباض من السلطان تورث التهمة، وسهولة الانبساط إليه
تورث الملالة.
وكان يقال: اصحب السلطان بأعمال الحذر، ورفض الدالة، والاجتهاد في النصيحة،
وليكن رأس مالك عنده ثلاث: الرضا، والصبر، والصدق.
واعلم أن لكل شئ حدا، فما جاوزه كان سرفا، وما قصر عنه كان عجزا،
فلا تبلغ بك نصيحة السلطان أن تعادي حاشيته وخاصته وأهله، فإن ذلك ليس من حقه
عليك، وليكن أقضى لحقه عنك، وأدعى لاستمرار السلامة لك، أن تستصلح أولئك
جهدك، فإنك إذا فعلت ذلك شكرت نعمته، وأمنت سطوته، وقللت عدوك
عنده، وإذا جاريت عند السلطان كفؤا من أكفائك فلتكن مجاراتك ومباراتك إياه
بالحجة، وإن عضهك (1)، وبالرفق وإن خرف بك. واحذر أن يستلحك فتحمى،
فان الغضب يعمى عن الفرصة، ويقطع عن الحجة، ويظهر عليك الخصم، ولا تتوردن
على السلطان بالدالة وإن كان أخاك، ولا بالحجة وإن وثقت انها لك، ولا بالنصيحة
وإن كانت له دونك، فإن السلطان يعرض له ثلاث دون ثلاث: القدرة دون الكرم،
والحمية دون النصفة، واللجاج دون الحظ.

(1) عضهك: كذبك.
151

(270)
الأصل:
أحسنوا في عقب غيركم تحفظوا في عقبكم.
الشرح:
أكثر ما في هذه الدنيا يقع على سبيل القرض والمكافأة، فقد رأينا عيانا من ظلم
الناس فظلم عقبه وولده، ورأينا من قتل الناس فقتل عقبه وولده، ورأينا من
أخرب دورا فأخربت داره، ورأينا من أحسن إلى أعقاب أهل النعم فأحسن الله
إلى عقبه وولده.
وقرأت في تاريخ أحمد بن طاهر (1) أن الرشيد أرسل إلى يحيى بن خالد وهو في محبسه
يقرعه بذنوبه، ويقول له: كيف رأيت! ألم أخرب دارك؟ ألم أقتل ولدك جعفرا؟ ألم أنهب
مالك؟ فقال يحيى للرسول: قل له: أما إخرابك داري فستخرب دارك، وأما قتلك
ولدى جعفر فسيقتل ولدك محمد، وأما نهبك مالي فسينهب مالك وخزانتك. فلما عاد
الرسول إليه بالجواب وجم طويلا وحزن، وقال: والله ليكونن ما قال، فإنه لم يقل
لي شيئا قط إلا وكان كما قال، فأخربت (2) داره - وهي الخلد - في حصار بغداد، وقتل
ولده محمد، ونهب ماله، وخزانته، نهبها طاهر بن الحسين.

(1) هو أحمد بن طاهر صاحب تاريخ بغداد.
(2) ا: (خربت).
152

(271)
الأصل:
إن كلام الحكماء إذا كان صوابا كان دواء، وإذا كان خطا كان داء.
الشرح:
كل كلام يقلد المتكلم به لحسن عقيدة الناس فيه نحو كلام الحكماء وكلام الفضلاء
والعلماء من الناس إذا كان صوابا كان دواء وإذا كان خطا كان داء، لان الناس يحذون
حذو المتكلم به، ويقلدونه فيما يتضمنه ذلك الكلام من الآداب والأوامر والنواهي،
فإذا كان حقا أفلحوا، وحصل لهم الثواب واتباع الحق، وكانوا كالدواء المبرئ
للسقم، وإذا كان ذلك الكلام خطا واتبعوه خسروا (1) ولم يفلحوا، فكان بمنزلة
الداء والمرض.

(1) ا: (خسروا ذلك).
153

(272)
الأصل:
وقال عليه السلام حين سأله رجل أن يعرفه ما الايمان) فقال:
إذا كان غد فأتني حتى أخبرك على أسماع الناس، فإن نسيت مقالتي حفظها
عليك غيرك، فإن الكلام كالشاردة يثقفها هذا ويخطئها هذا.
قال: وقد ذكرنا ما أجابه به عليه السلام فيما تقدم من هذا الباب، وهو قوله:
(الايمان على إربع شعب).
الشرح:
يقول إذا كان غد فأتني فتكون (كان) هاهنا تامة، أي إذا حدث ووجد،
وتقول: إذا كان غدا فأتني فيكون النصب باعتبار آخر، أي إذا كان الزمان غدا،
أي موصوفا بأنه من الغد، ومن النحويين من يقدره: إذا كان الكون غدا، لان الفعل
يدل على المصدر، والكون هو التجدد والحدوث.
وقائل هذا القول يرجحه على القول الآخر، لان الفاعل عندهم لا يحذف إلا إذا كان
في الكلام دليل عليه.
ويثقفها، يجدها، ثقفت كذا بالكسر، أي وجدته وصادفته.
والشاردة: الضالة.
154

(273)
الأصل:
يا بن آدم، لا تحمل هم يومك الذي لم يأتك على يومك الذي أتاك، فإنه
إن يكن من عمرك يأت الله فيه برزقك.
الشرح:
قد تقدم هذا الفصل بتمامه. واعلم أن كل ما ادخرته مما هو فاضل عن قوتك فإنما
أنت فيه خازن لغيرك.
وخلاصة هذا الفصل النهى عن الحرص على الدنيا والاهتمام لها، وإعلام الناس
أن الله تعالى قد قسم الرزق لكل حي من خلقه، فلو لم يتكلف الانسان فيه لأتاه
رزقه من حيث لا يحتسب.
وفى المثل: يا رزاق البغاث (1) في عشه.
وإذا نظر الانسان إلى الدودة المكنونة داخل الصخرة كيف ترزق، علم إن صانع
العالم قد تكفل لكل ذي حياة بمادة تقيم حياته إلى انقضاء عمره.

(1) البغاث: صغار الطير.
155

(274)
الأصل:
أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك
هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما.
الشرح:
الهون بالفتح: التأني، والبغيض: المبغض.
وخلاصة هذه الكلمة. النهى عن الاسراف في المودة والبغضة، فربما انقلب من
تود فصار عدوا، وربما انقلب من تعاديه فصار صديقا.
وقد تقدم القول في ذلك على أتم ما يكون.
وقال بعض الحكماء: توق الافراط في المحبة، فإن الافراط فيها داع إلى التقصير
منها، ولإن تكون الحال بينك وبين حبيبك نامية أولى من أن تكون متناهية.
ومن كلام عمر: لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا.
وقال الشاعر:
وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا * فإنك لا تدرى متى أنت نازع!
وأبغض إذا أبغضت غير مباين (1) * فإنك لا تدرى متى أنت راجع!
وقال عدى بن زيد:
ولا تأمنن من مبغض قرب داره * ولا من محب أن يمل فيبعدا

(1) مباين: مفارق.
156

(275)
الأصل:
الناس في الدنيا عاملان:
عامل في الدنيا للدنيا، قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلف
الفقر، ويأمنه على نفسه، فيفنى عمره في منفعة غيره.
وعامل عمل في الدنيا لما بعدها، فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأحرز
الحظين معا، وملك الدارين جميعا، فأصبح وجيها عند الله، لا يسأل الله حاجة فيمنعه.
الشرح:
معنى قوله: (ويأمنه على نفسه)، أي ولا يبالي أن يكون هو فقيرا، لأنه
يعيش عيش الفقراء وإن كان ذا مال، لكنه يدخر المال لولده فيفنى عمره في
منفعة غيره.
ويجوز أن يكون معناه إنه لكثرة ماله قد أمن الفقر على نفسه ما دام حيا،
ولكنه لا يأمن الفقر على ولده لأنه لا يثق من ولده بحسن الاكتساب كما وثق من
نفسه، فلا يزال في الاكتساب والازدياد منه لمنفعة ولده الذي يخاف عليه الفقر
بعد موته.
فأما العامل في الدنيا لما بعدها فهم أصحاب العبادة، يأتيهم رزقهم بغير اكتساب
ولا كد، وقد حصلت لهم الآخرة، فقد حصل لهم الحظان جميعا.
157

(276)
الأصل:
وروى أنه ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حلي الكعبة وكثرته،
فقال قوم: لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين، كان أعظم للاجر، وما تصنع
الكعبة بالحلي! فهم عمر بذلك، وسأل عنه أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: إن
هذا القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والأموال أربعة: أموال
المسلمين، فقسمها بين الورثة في الفرائض، والفئ فقسمه على مستحقيه،
والخمس فوضعه الله حيث وضعه، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها، وكان
حلي الكعبة فيها يومئذ، فتركه الله على حاله، ولم يتركه نسيانا، ولم يخف
عنه مكانا، فأقره حيث أقره الله ورسوله، فقال له عمر: لولاك لافتضحنا!
وترك الحلي بحاله.
الشرح:
هذا استدلال صحيح، ويمكن أن يورد على وجهين:
أحدهما أن يقال: أصل الأشياء الحظر والتحريم، كما هو مذهب كثير من أصحابنا
البغداديين، فلا يجوز التصرف في شئ من الأموال والمنافع إلا بإذن شرعي، ولم يوجد
إذن شرعي في حلي الكعبة، فبقينا فيه على حكم الأصل.
والوجه الثاني أن يقال: حلي الكعبة مال مختص بالكعبة، هو جار مجرى ستور
الكعبة، ومجرى باب الكعبة، فكما لا يجوز التصرف في ستور الكعبة وبابها
158

إلا بنص فكذلك حلي الكعبة، والجامع بينهما الاختصاص الجاعل كل واحد
من ذلك كالجزء من الكعبة، فعلى هذا الوجه ينبغي أن يكون الاستدلال.
ويجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام عليه، وألا يحمل على ظاهره، لان
لمعترض أن يعترض استدلاله إذا حمل على ظاهره، بأن يقول: الأموال الأربعة التي
عددها إنما قسمها الله تعالى حيث قسمها لأنها أموال متكررة بتكرر الأوقات على مر
الزمان يذهب الموجود منها ويخلفه غيره، فكان الاعتناء بها أكثر، والاهتمام بوجوه
متصرفها أشد، لان حاجات الفقراء والمساكين وأمثالهم من ذوي الاستحقاق كثيرة
ومتجددة بتجدد الأوقات، وليس كذلك حلي الكعبة، لأنه مال واحد باق غير
متكرر، وأيضا فهو شئ قليل يسير، ليس مثله مما يقال: ينبغي أن يكون
الشارع قد تعرض لوجوه مصرفه حيث تعرض لوجوه مصرف الأموال،
فافترق الموضعان.
159

(277)
الأصل:
روى أنه رفع إليه رجلان سرقا من مال الله، أحدهما عبد من مال الله،
والاخر من عرض الناس، فقال: أما هذا فهو من مال الله فلا حد عليه، مال الله
أكل بعضه بعضا، وأما الاخر فعليه الحد الشديد. فقطع يده.
الشرح:
هذا مذهب الشيعة أن عبد المغنم إذا سرق من المغنم لم يقطع، فأما العبد الغريب
إذا سرق من المغنم فإنه يقطع إذا كان ما سرقه زائدا عما يستحقه من الغنيمة بمقدار
النصاب الذي يجب فيه القطع، وهو ربع دينار، كذلك الحر إذا سرق من المغنم
حكمه هذا الحكم بعينه، فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين على أن العبد المقطوع
قد كان سرق من المغنم ما هو أزيد من حقه من الغنيمة بمقدار النصاب المذكور
أو أكثر.
فأما الفقهاء فإنهم لا يوجبون القطع على من سرق من مال الغنيمة قبل قسمتها،
سواء كان ما سرقه أكثر من حقه أو لم يكن، لان مخالطة حقه وممازجته للمسروق
شبهة في الجملة تمنع من وجوب القطع، هذا إن كان له حق في الغنيمة بان يكون شهد
القتال بإذن سيده، فإن لم يكن ذلك وكان لسيده فيها حق لم يقطع أيضا، لان حصة
سيده المشاعة شبهة تمنع من قطعه، فإن لم يشهد القتال (1) ولا شهده سيده وسرق من
الغنيمة قبل القسمة ما يجب في مثله القطع وجب عليه القطع.

(1) ا: (ولم يشهده سيده).
160

(278)
الأصل:
لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيرت أشياء.
الشرح:
لسنا نشك إنه كان يذهب في الأحكام الشرعية والقضايا إلى أشياء يخالف فيها
أقوال الصحابة، نحو قطعه يد السارق من رؤوس الأصابع، وبيعه أمهات الأولاد، وغير
ذلك، وإنما كان يمنعه من تغير أحكام من تقدمه اشتغاله بحرب البغاة والخوارج،
وإلى ذلك يشير بالمداحض التي كان يؤمل استواء قدميه منها، ولهذا قال لقضاته:
(اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون للناس جماعة)، فلفظة (حتى) - هاهنا مؤذنة بأنه
فسح لهم في اتباع عادتهم في القضايا والاحكام التي يعهدونها إلى أن يصير للناس
جماعة، وما بعد (إلى) و (حتى) ينبغي أن يكون مخالفا لما قبلهما.
فأما أصحابنا فيقولون: إنه كان فيما يحاول أن يحكم بين الناس مجتهدا، ويجوز
لغيره من المجتهدين مخالفته.
والامامية تقول: ما كان يحكم إلا عن نص وتوقيف، ولا يجوز لأحد من
الناس مخالفته.
والقول في صحة ذلك وفساده فرع من فروع مسألة الإمامة (1).

(1) د: (الامامية).
161

(279)
الأصل:
إعلموا علما يقينا إن الله لم يجعل للعبد وإن عظمت حيلته، واشتدت طلبته،
وقويت مكيدته، أكثر مما سمى له في الذكر الحكيم، ولم يحل بين العبد
في ضعفه وقلة حيلته، وبين أن يبلغ ما سمى له في الذكر الحكيم. والعارف
لهذا، العامل به، أعظم الناس رحمة في منفعة: والتارك له، الشاك فيه، أعظم
الناس شغلا في مضرة.
ورب منعم عليه مستدرج بالنعمى، ورب مبتلى مصنوع له بالبلوى.
فزد إيها المستمع في شكرك، وقصر من عجلتك، وقف عند منتهى
رزقك.
الشرح:
قد تقدم القول في الحرص والجشع وذمهما وذم الكادح في طلب الرزق، ومدح
القناعة والاقتصار، ونذكر هنا طرفا آخر من ذلك. قال بعض الحكماء: وجدت أطول
الناس غما الحسود، وأهنأهم عيشا القنوع، وأصبرهم على الأذى الحريص، وأخفضهم عيشا
أرفضهم للدنيا، وأعظمهم ندامة العالم المفرط.
وقال عمر: الطمع فقر، واليأس غنى، ومن يئس مما عند الناس استغنى عنهم.
162

وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك، ولذلك
قيل: العيش ساعات تمر، وخطوب تكر.
وقال الشاعر:
أقنع بعيشك ترضه * واترك هواك وأنت حر
فلرب حتف فوقه * ذهب وياقوت ودر
وقال آخر:
إلى متى أنا في حل وترحال * من طول سعى وإدبار وإقبال!
ونازح الدار لا أنفك مغتربا * عن الا حبه لا يدرون ما حالي
بمشرق الأرض طورا ثم مغربها * لا يخطر الموت من حرص على بالي
ولو قنعت أتاني الرزق في دعة * أن القنوع الغنى لا كثرة المال.
وجاء في الخبر المرفوع: (أجملوا في الطلب، فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له، ولن
يخرج عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له في الدنيا وهي راغمة).
163

(280)
الشرح:
لا تجعلوا علمكم جهلا، ويقينكم شكا، إذا علمتم فاعملوا، وإذا
تيقنتم فأقدموا.
الشرح:
هذا (1) نهى للعلماء عن ترك العمل، يقول: لا تجعلوا علمكم كالجهل، فإن الجاهل
قد يقول: جهلت فلم أعمل، وأنتم فلا عذر لكم، لأنكم قد علمتم وانكشف لكم
سر الامر، فوجب عليكم أن تعملوا، ولا تجعلوا علمكم جهلا، فان من (2) علم المنفعة
في أمر ولا حائل بينه وبينه ثم لم يأته كان سفيها.

(1) ا: (في).
(2) ا: (الذي).
164

(281)
الأصل:
إن الطمع مورد غير مصدر، وضامن غير وفى، وربما شرق شارب الماء قبل
ريه، وكلما عظم قدر الشئ المتنافس فيه عظمت الرزية لفقده، والأماني تعمى أعين
البصائر، والحظ يأتي من لا يأتيه.
الشرح:
قد تقدم القول في هذه المعاني كلها.
وقد ضرب الحكماء مثالا لفرط الطمع، فقالوا: إن رجلا صاد قبرة فقالت:
ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أذبحك وآكلك، قالت: والله ما أشفي من قرم، ولا
أشبع من جوع، ولكني أعلمك ثلاث خصال هن خير لك من أكلي، أما واحدة
فأعلمك إياها وأنا في يدك، وأما الثانية فإذا صرت على الشجرة، أما الثالثة
فإذا صرت على الجبل. فقال: هاتي الأولى، قالت: لا تلهفن على ما فات، فخلاها،
فلما صارت على الشجرة قال: هاتي الثانية، قالت: لا تصدقن بما لا يكون إنه يكون،
ثم طارت، فصارت على الجبل، فقالت يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي
درتين وزن كل واحدة ثلاثون مثقالا، فعض على يديه وتلهف تلهفا شديدا، وقال:
هاتي الثالثة، فقالت: أنت قد أنسيت الاثنتين، فما تصنع بالثالثة؟ ألم أقل لك: لا تلهفن على
165

ما فات، وقد تلهفت، وألم أقل لك لا تصدقن بما لا يكون إنه يكون. وأنا ولحمي
ودمي وريشي لا يكون عشرين مثقالا، فكيف صدقت أن في حوصلتي درتين كل
واحدة منهما ثلاثون مثقالا! ثم طارت وذهبت.
وقوله: (وربما شرق شارب الماء قبل ريه) كلام فصيح، وهو مثل لمن يخترم (1)
بغته، أو تطرقه الحوادث والخطوب وهو في تلهيه من عيشه.
ومثل الكلمة الأخرى قولهم: على قدر العطية تكون الرزية.
والقول في الأماني قد أوسعنا القول فيه من قبل وكذلك في الحظوظ.

(1) يخترم بغتة، أي يأتيه الموت بغتة.
166

(282)
الأصل:
اللهم إني أعوذ بك من أن تحسن في لامعة العيون علانيتي، وتقبح فيما أبطن
لك سريرتي، محافظا على رياء الناس من نفسي بجميع ما أنت مطلع عليه منى،
فأبدى للناس حسن ظاهري، وأفضى إليك بسوء عملي، تقربا إلى عبادك، وتباعدا
من مرضاتك.
الشرح:
قد تقدم القول في الرياء، وأن يظهر الانسان من العبادة والفعل الجميل ما يبطن
غيره، ويقصد بذلك السمعة والصيت لا وجه الله تعالى.
وقد جاء في الخبر المرفوع (أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية).
قال المفسرون: والرياء من الشهوة الخفية، لأنه شهوة الصيت والجاه بين الناس
بأنه متين الدين، مواظب على نوافل العبادات، وهذه هي الشهوة الخفية، أي ليست
كشهوة الطعام والنكاح وغيرهما من الملاذ الحسية.
وفى الخبر المرفوع أيضا أن اليسير من الرياء شرك (1)، وإن الله يحب الأتقياء
الأخفياء الذين هم في بيوتهم إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح
الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة.

(1) كلمة غامضة في الأصول.
167

(283)
الأصل:
وقال عليه السلام:
لا والذي أمسينا منه في غبر ليلة دهماء، تكشر عن يوم أغر، ما كان
كذا وكذا.
الشرح:
قد روى: (تفتر عن يوم أغر).
والغبر البقايا (1)، وكذلك الإغبار، وكشر أي بسم، وأصله الكشف.
وهذا الكلام إما أن يكون قاله على جهة التفاؤل، أو أن يكون إخبارا بغيب،
والأول أوجه (2).

(1) ومنه قول أبى كبير الهذلي:
ومبرأ من كل غبر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل
قال في اللسان: (وغبر الحيض: بقاياه).
(2) ا: (والوجه الأول).
168

(284)
الأصل:
قليل تدوم عليه، أرجى من كثير مملول منه.
الشرح:
لا ريب أن من أراد حفظ كتاب من الكتب العلمية فحفظ منه قليلا قليلا،
ودام على ذلك، فإن ذلك أنفع له وأرجى لفلاحه من أن يحفظ كثيرا، ولا يدوم
عليه لملاله إياه وضجره منه، والتجربة تشهد بذلك.
والقول في غير الحفظ كالقول في الحفظ، نحو الزيارة القليلة للصديق، ونحو العطاء
اليسير الدائم (1) الذي هو خير من الكثير المنقطع، ونحو ذلك.

(1) بعدها في ا: (غير المنقطع).
169

(285)
الأصل:
إذا أضرت النوافل بالفرائض فارفضوها.
الشرح:
قد تقدم القول في النافلة: هل تصح ممن عليه فريضة لم يؤدها، وذكرنا مذاهب
الفقهاء في ذلك.
ولا ريب أن من استغرق الوقت بالنوافل حتى آن أوقات الفرائض لم يفعل
الفرائض فيها، وشغلها بالعبادة النفلية، فقد أخطأ، والواجب أن يرفض النافلة حيث
يتضيق وقت الفريضة، لا خلاف بين المسلمين في ذلك، ويصلح أن يكون هذا مثلا
ظاهره ما ذكرنا، وباطنه أمر آخر.
170

(286)
الأصل:
من تذكر بعد السفر استعد.
الشرح:
هذا مثل قولهم في المثل: (الليل طويل، وأنت مقمر) (1)، وقال أيضا: عش
ولا تغتر (2).
وقال أصحاب المعاني: مثل الدنيا كركب في فلاة وردوا ماء طيبا، فمنهم من شرب
من ذلك الماء شربا يسيرا، ثم أفكر في بعد المسافة التي يقصدونها، وإنه ليس بعد ذلك
الماء ماء آخر، فتزود منه ماء أوصله إلى مقصده، ومنهم من شرب من ذلك الماء شرب
عظيما، ولها عن التزود والاستعداد، وظن أن ما شرب كاف له ومغن عن ادخار شئ
آخر، فقطع به، وأخلفه ظنه، فعطش في تلك الفلاة ومات.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله إنه قال لأصحابه: (إنما مثلي ومثلكم ومثل
الدنيا كقوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما بقي!
أنفدوا الزاد وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا
بالهلكة، فبينما هم كذلك خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه ماء، فقالوا: هذا
قريب عهد بريف، وما جاءكم هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم وشاهد حالهم قال:
أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء، ورياض خضر ما تعملون؟ قالوا لا نعصيك شيئا،

(1) الميداني...
(2) الميداني 2: 16.
171

قال: عهودكم ومواثيقكم بالله، فأعطوه ذلك، فأوردهم ماء رواء ورياضا خضرا،
ومكث بينهم ما شاء الله، ثم قال: إني مفارقكم، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم،
ورياض ليست كرياضكم، فقال الأكثرون منهم: والله ما وجدنا ما نحن فيه حتى ظننا
إنا لا نجده، وما نصنع بمنزل خير من هذا! وقال الأقلون منهم: ألم تعطوا هذا الرجل
مواثيقكم وعهودكم بالله لا تعصونه شيئا، وقد صدقكم في أول حديثه، والله
ليصدقنكم في آخره، فراح فيمن تبعه منهم، وتخلف الباقون، فدهمهم عدو شديد الباس
عظيم الجيش، فأصبحوا ما بين أسير وقتيل.
172

(287)
الأصل:
ليست الرؤية مع الابصار، فقد تكذب العيون أهلها، ولا يغش العقل
من استنصحه.
الشرح:
هذا مثل قوله تعالى: (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في
الصدور) (1).
أي ليس العمى عمى العين، بل عمى القلب.
كذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام، ليست الرؤية مع العيون، وإنما الرؤية
الحقيقية مع العقول.
وقد ذهب أكابر الحكماء إلى إن اليقينيات هي المعقولات لا المحسوسات،
قالوا: لان حكم الحس في مظنة الغلط، وطال ما كذب الحس، واعتقدنا بطريقة
اعتقادات باطلة، كما نرى الكبير صغيرا، والصغير كبيرا، والمتحرك ساكنا، والساكن
متحركا، فأما العقل فإذا كان المعقول به بديهيا أو مستندا إلى مقدمات بديهية فإنه
لا يقع فيه غلط أصلا.

(1) سورة الحج 46.
173

(288)
الأصل:
بينكم وبين الموعظة حجاب من الغرة.
الشرح:
قد تقدم ذكر الدنيا وغرورها، وإنها بشهواتها ولذاتها حجاب بين العبد وبين
الموعظة، لان الانسان يغتر بالعاجلة، ويتوهم دوام ما هو فيه، وإذا خطر بباله الموت
والفناء وعد نفسه رحمة الله تعالى وعفوه، هذا إن كان ممن يعترف بالمعاد، فإن كثيرا
ممن يظهر القول بالمعاد هو في الحقيقة غير مستيقن له، والإخلاد إلى عفو الله تعالى
والاتكال على المغفرة مع الإقامة على المعصية، غرور لا محالة، والحازم من عمل لما
بعد الموت ولم يمن نفسه الأماني التي لا حقيقة لها.
174

(289)
الأصل:
جاهلكم مزداد، وعالمكم مسوف.
الشرح:
هذا قريب مما سلف: يقول: إن الجاهل من الناس مزداد من جهله، مصر على
خطيئته، مسوف من توهماته وعقيدته الباطلة بالعفو عن ذنبه، وليس الامر كما توهمه.
(ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون
الله وليا ولا نصيرا) (1).

(1) سورة النساء 123.
175

(290)
الأصل:
قطع العلم عذر المتعللين.
الشرح:
هذا أيضا قريب مما تقدم، يقول قطع العلم عذر الذين يعللون أنفسهم
بالباطل، ويقولون: إن الرب كريم رحيم، فلا حاجة لنا إلى إتعاب أنفسنا بالعبادة،
كما قال الشاعر:
قدمت على الكريم بغير زاد * من الأعمال ذا ذنب عظيم
وسوء الظن أن تعتد زادا * إذا كان القدوم على الكريم
وهذا هو التعليل بالباطل، فإن الله تعالى وإن كان كريما رحيما عفوا غفورا،
إلا إنه صادق القول، وقد توعد العصاة وقال: (وإن الفجار لفي جحيم يصلونها
يوم الدين وما هم عنها بغائبين) (1)، وقال: (لا تختصموا لدى وقد قمت إليكم
بالوعيد * ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد) (2)، ويكفي في رحمته وعفوه
وكرمه أن يغفر للتائب أو لمن ثوابه أكثر مما يستحقه من العقاب، فالقول بالوعيد
معلوم بأدلة السمع المتظاهرة المتناصرة التي قد أطنب أصحابنا في تعدادها وإيضاحها، وإذا
كان الشئ معلوما، فقد قطع العلم به عذر أصحاب التعلل والتمني، ووجب العمل بالمعلوم
ورفض ما يخالفه.

(1) سورة الانفطار 64 - 66.
(2) سورة ق 28، 29.
176

(291)
الأصل:
كل معاجل يسأل الانظار، وكل مؤجل يتعلل بالتسويف.
الشرح:
قال الله سبحانه: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلى أعمل صالحا
فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (1).
فهذا هو سؤال الانظار لمن عوجل، فأما من أجل فإنه يعلل نفسه بالتسويف، ويقول:
سوف أتوب، سوف أقلع عما أنا عليه، فأكثرهم يخترم (2) من غير أن يبلغ هذا
الامل، وتأتيه المنية وهو على أقبح حال وأسوئها، ومنهم من تشمله السعادة فيتوب
قبل الموت، وأولئك الذين ختمت أعمالهم بخاتمة الخير، وهم في العالم كالشعرة البيضاء في
الثور الأسود.

(1) سورة المؤمنون 99، 100.
(2) يقال: اخترمته المنية، أي أخذته من بينهم.
177

(292)
الأصل:
ما قال الناس لشئ: طوبى له! إلا وقد خبا له الدهر يوم سوء.
الشرح:
قد تقدم هذا المعنى، وذكرنا فيه نكتا جيدة حميدة.
[نبذ من الأقوال الحكمية في تقلبات الدهر وتصرفاته]
كان محمد بن عبد الله بن طاهر أمير بغداد في قصره على دجلة يوما، وإذا بحشيش
على وجه الماء، في وسطه قصبة عليها رقعة، فأمر بأخذها، فإذا فيها:
تاه الأعيرج واستولى به البطر * فقل له: خير ما استعملته الحذر
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت * ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها * وعند صفو الليالي يحدث الكدر
فما انتفع بنفسه مدة.
وفى المثل: الدهر إذا أتى بسحواء سحسح (1)، يعقبها بنكباء زعزع. وكذاك
شرب العيش فيه تلون، بيناه عذبا إذ تحول آجنا.

(1) أي سحابة تصب مطرا شديدا.
178

يحيى بن خالد: أعطانا الدهر فأسرف، ثم مال علينا فأجحف.
وقال الشاعر:
فيا لنعيم ساعدتنا رقابه * وخاست بنا أكفاله والروادف.
إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
هي المقادير تجرى في أعنتها * فاصبر فليس لها صبر على حال
يوما تريش خسيس الحال ترفعه * إلى السماء ويوما تخفض العالي
إذا أدبر الامر أتى الشر من حيث كان يأتي الخير.
هانئ بن مسعود:
إن كسرى أبى على الملك * النعمان حتى سقاه أم الرقوب
كل ملك وأن تصعد يوما * بأناس يعود للتصويب.
أحيحة بن الجلاح:
وما يدرى الفقير متى غناه * وما يدرى الغنى متى يعيل
وما تدرى إذا أضربت شولا * أتلقح بعد ذلك أم تحيل (1)
وما تدرى إذا أزمعت سيرا * بأي الأرض يدركك المقيل!
آخر:
فما درن الدنيا بباق لأهله * ولا شره الدنيا بضربه لازم.
آخر:
رب قوم غبروا من عيشهم * في سرور ونعيم وغدق

(1) الشول: الناقة التي نقصت ألبانها.
179

سكت الدهر زمانا عنهم * ثم أبكاهم دما حين نطق.
ومن الشعر المنسوب إلى محمد الأمين بن زبيدة:
يا نفس قد حق الحذر * أين الفرار من القدر
كل امرئ مما يخاف * ويرتجيه على خطر
من يرتشف صفو الزمان * يغص يوما بالكدر
180

(293)
الأصل:
وقال عليه السلام وقد سئل عن القدر: طريق مظلم فلا تسلكوه. ثم سئل ثانيا
فقال: بحر عميق فلا تلجوه، ثم سئل ثالثا، فقال: سر الله فلا تتكلفوه.
الشرح:
قد جاء في الخبر المرفوع: القدر سر الله في الأرض، وروى: سر الله في عباده،
والمراد نهى المستضعفين عن الخوض في إرادة الكائنات، وفى خلق أعمال العباد، فإنه
ربما أفضى بهم القول بالجبر، لما في ذلك من الغموض، وذلك أن العامي إذا سمع
قول القائل: كيف يجوز أن يقع في عالمه ما يكرهه، وكيف يجوز أن تغلب إرادة
المخلوق إرادة الخالق!
ويقول أيضا: إذا علم في القدم أن زيدا يكفر، فكيف لزيد أن لا يكفر!
وهل يمكن أن يقع خلاف ما علمه الله تعالى في القدم، اشتبه عليه الامر، وصار شبهة
في نفسه، وقوى في ظنه مذهب المجبرة، فنهى عليه السلام هؤلاء عن الخوض في هذا
النحو من البحث، ولم ينه غيرهم من ذوي العقول الكاملة، والرياضة القوية، والملكة
التامة، ومن له قدرة على حل الشبه، والتفصي عن المشكلات.
فإن قلت، فإنكم تقولون: أن العامي والمستضعف يجب عليهما النظر!
قلت: نعم إلا أنه لا بد لهما من موقف بعد أعمالها ما ينتهى إليه جهدهما من النظر،
بحيث يرشدهما إلى الصواب، والنهى إنما هو لمن يستبد من ضعفاء العامة بنفسه في النظر
ولا يبحث مع غيره ليرشده.
181

(294)
الأصل:
إذا أرذل الله عبدا حظر عليه العلم.
الشرح:
أرذله جعله رذلا، وكان يقال: من علامة بغض الله تعالى للعبد أن يبغض
إليه العلم.
وقال الشاعر:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي * فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: لان حفظ العلم فضل * وفضل الله لا يؤتيه عاصي.
وقال رجل لحكيم ما خير الأشياء لي؟ قال: أن تكون عالما، قال: فإن لم
أكن؟ قال: أن تكون مثريا، قال: فإن لم أكن؟ قال: أن تكون شاريا، قال:
فإن لم أكن؟ قال: فأن تكون ميتا.
أخذ هذا المعنى بعض المحدثين فقال:
إذا فاتك العلم جد بالقرى * وإن فاتك المال سد بالقراع
فإن فات هذا وهذا وذاك * فمت فحياتك شر المتاع.
وقال أيضا في المعنى بعينه:
ولولا الحجا والقرى والقراع * لما فضل الاخر الأولا
ثلاث متى يخل منها الفتى * يكن كالبهيمة أو أرذلا
182

(295)
الأصل:
وقال عليه السلام:
كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه،
وكان خارجا من سلطان بطنه، فلا يتشهى ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد،
وكان أكثر دهره صامتا، فان قال بذ القائلين، ونقع غليل السائلين، وكان
ضعيفا مستضعفا، فإن جاء الجد فهو ليث عاد، وصل واد، لا يدلي بحجة
حتى يأتي قاضيا، كان لا يلوم أحدا على ما لا يجد العذر في مثله حتى يسمع
اعتذاره، وكان لا يشكو وجعا الا عند برئه، وكان يفعل ما يقول، ولا يقول
ما لا يفعل، وكان أن غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على
أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم، وكان إذا بدهه أمران نظر أيهما
أقرب إلى الهوى فخالفه، فعليكم بهذه الخلائق فالزموها، وتنافسوا فيها،
فإن لم تستطيعوها فاعلموا إن أخذ القليل خير من ترك الكثير.
الشرح:
قد اختلف الناس في المعنى بهذا الكلام، ومن هو هذا الأخ المشار إليه؟
فقال قوم: هو رسول الله صلى الله عليه وآله، واستبعده قوم لقوله: (وكان ضعيفا
مستضعفا)، فإن النبي صلى الله عليه وآله لا يقال في صفاته مثل هذه الكلمة،
183

وإن أمكن تأويلها على لين كلامه وسماحة أخلاقه، إلا انها غير لائقة به
عليه السلام.
وقال قوم: هو أبو ذر الغفاري واستبعده قوم (لقوله: فإن جاء الجد فهو ليث
عاد، وصل واد)، فإن أبا ذر لم يكن من الموصوفين بالشجاعة، والمعروفين بالبسالة.
وقال قوم: هو المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود، وكان من شيعة علي عليه
السلام المخلصين، وكان شجاعا مجاهدا حسن الطريقة، وقد ورد في فضله حديث
صحيح مرفوع.
وقال قوم: إنه ليس بإشارة إلى أخ معين، ولكنه كلام خارج مخرج المثل،
وعادة العرب جارية بمثل ذلك، مثل قولهم في الشعر: فقلت لصاحبي، ويا صاحبي، وهذا
عندي أقوى الوجوه.
[نبذ من الأقوال الحكمية في حمد القناعة وقلة الاكل]
وقد مضى القول في صغر الدنيا في عين أهل التحقيق، فأما سلطان البطن ومدح
الانسان بأنه لا يكثر من الاكل إذا وجد أكلا، ولا يشتهى من الاكل ما لا يجده،
فقد قال الناس فيه فأكثروا.
قال أعشى باهلة يرثى المنتشر بن وهب:
طاوي المصير على العزاء منصلت * بالقوم ليله لا ماء ولا شجر (1)
تكفيه فلذة لحم إن ألم بها * من الشواء ويروى شربه الغمر
ولا يبارى لما في القدر يرقبه * ولا تراه أمام القوم يفتقر

(1) الكامل للمبرد 4: 65، المصير: واحد المصران. والعزاء: الامر الشديد.
184

لا يغمز الساق من أين ولا وصب * ولا يعض على شرسوفه الصفر.
وقال الشنفري:
وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت * خيوطه ماري تغار وتفتل (1)
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن * بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
وما ذاك إلا بسطه عن تفضل * عليهم وكان الأفضل المتفضل.
وقال بعضهم لابنه: يا بنى عود نفسك الإثرة، ومجاهدة الهوى والشهوة،
ولا تنهش نهش السباع، ولا تقضم قضم البراذين، ولا تدمن الاكل إدمان النعاج،
ولا تلقم لقم الجمال، إن الله جعلك انسانا، فلا تجعل نفسك بهيمة ولا سبعا، واحذر
سرعة الكظة، وداء البطنة، فقد قال الحكيم: إذا كنت بطنا فعد نفسك من الزمني (2).
وقال الأعشى:
* والبطنة يوما تسفه الأحلاما (3) *.
واعلم أن الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت، ومن
مات هذه الميتة فقد مات موتة لئيمة، وهو مع هذا قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألوم من
قاتل غيره. يا بنى والله ما أدى حق السجود والركوع ذو كظة، ولا خشع لله
ذو بطنة، والصوم مصحة، ولربما طالت أعمار الهند، وصحت أبدان العرب، ولله در
الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم، وإن الداء ادخال الطعام في أثر
الطعام، يا بنى لم صفت أذهان الاعراب، وصحت أذهان الرهبان مع طول الإقامة
في الصوامع، حتى لم تعرف وجع المفاصل، ولا الأورام، إلا لقلة الرزء، ووقاحة
الاكل، وكيف لا ترغب في تدبير يجمع لك بين صحة البدن وذكاء الذهن وصلاح المعاد

(1) لامية العرب 27.
(2) الزمني: المرضى عن كبر وهرم.
(3) ديوانه 247، والبيت بتمامه:
يا بنى المنذر بن عبد الله * والبطنة يوما قد تأفن الأحلاما.
185

والقرب وعيش الملائكة. يا بنى لم صار الضب أطول شئ ذماء! إلا لأنه يتبلغ
بالنسيم. ولم زعم رسول الله صلى الله عليه وآله أن الصوم وجاء! إلا ليجعله حجابا دون
الشهوات! فافهم تأديب الله ورسوله، فإنهما لا يقصدان إلا مثلك. يا بنى، إني قد
بلغت تسعين عاما ما نقص لي سن، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت دنين أنف،
ولا سيلان عين، ولا تقطير بول، ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد، فإن كنت تحب
الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تريد الموت فلا يبعد الله إلا من ظلم.
وكان يقال البطنة تذهب الفطنة.
وقال عمرو بن العاص لأصحابه يوم حكم الحكمان: أكثروا لأبي موسى من الطعام الطيب
فوالله ما بطن قوم قط إلا فقدوا عقولهم أو بعضها، وما مضى عزم رجل بات بطينا.
وكان يقال: أقلل طعاما تحمد مناما.
ودعا عبد الملك بن مروان رجلا إلى الغداء فقال: ما في فضل، فقال: إني أحب
الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل، فقال: يا أمير المؤمنين، عندي مستزاد،
ولكني أكره أن أصير إلى الحال التي استقبحها أمير المؤمنين.
وكان يقال مسكين ابن آدم، أسير الجوع، صريع الشبع.
وسأل عبد الملك أبا الزعيرعة، فقال: هل أتخمت قط؟ قال: لا، قال: وكيف؟
قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا دققنا، ولا نكظ المعدة ولا نخليها.
وكان يقال: من المروءة أن يترك الانسان الطعام وهو بعد يشتهيه.
وقال الشاعر:
فإن قراب البطن يكفيك ملؤه * ويكفيك سوآت الأمور اجتنابها.
وقال عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي: كان عمى يقول لي: لا تخرج يا بنى من منزلك
186

حتى تأخذ حلمك - يعنى تتغذى - فإذا أخذت حلمك فلا تزدد إليه حلما، فإن الكثرة
تئول إلى قلة. وفى الحديث المرفوع: ما ملا ابن آدم وعاء شرا من بطن، بحسب
الرجل من طعامه ما أقام صلبه، وأما إذا أبيت فثلث طعام، وثلث شراب،
وثلث نفس.
وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله: (من قل طعمه، صح بطنه، وصفا
قلبه، ومن كثر طعمه، سقم بطنه وقسا قلبه)، وعنه صلى الله عليه وآله: (لا تميتوا
القلوب بكثرة الطعام والشراب، فان القلب يموت بهما، كالزرع يموت إذا أكثر عليه
الماء). وروى عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أكلت يوما ثريدا ولحما سمينا، ثم
أتيت رسول الله وأنا أتجشأ، فقال: أحبس جشأك أبا جحيفة، إن أكثركم شبعا في
الدنيا أكثركم جوعا في الآخرة، قال: فما أكل أبو جحيفة بعدها ملء بطنه إلى أن
قبضه الله. وأكل علي عليه السلام قليلا من تمرد دقل (1) وشرب عليه ماء، وأمر يده
على بطنه وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله، ثم تمثل
فإنك مهما تعط بطنك سؤله * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وكان عليه السلام يفطر في رمضان الذي قتل فيه عند الحسن
ليلة، وعند الحسين ليلة، وعند عبد الله بن جعفر ليلة، لا يزيد على اللقمتين أو الثلاث، فيقال له، فيقول:
إنما هي ليال قلائل، حتى يأتي أمر الله وأنا خميص البطن، فضربه ابن ملجم لعنه
الله تلك الليلة.
وقال الحسن: لقد أدركت أقواما ما يأكل أحدهم إلا في ناحية بطنه، ما شبع
رجل منهم من طعام حتى فارق الدنيا، كان يأكل، فإذا قارب الشبع أمسك.
وأنشد المبرد:

(1) التمر الدقل: أردأ التمر.
187

فإن امتلاء البطن في حسب الفتى * قليل الغناء وهو في الجسم صالح.
وقال عيسى عليه السلام: يا بني إسرائيل، لا تكثروا
الاكل، فإنه من أكثر من الاكل أكثر من النوم، ومن أكثر النوم أقل الصلاة، ومن أقل الصلاة كتب من
الغافلين: وقيل ليوسف عليه السلام: ما لك لا تشبع وفي يديك خزائن مصر؟ قال:
إني إذا شبعت نسيت الجائعين.
وقال الشاعر:
وأكلة أوقعت في الهلك صاحبها * كحبة القمح دقت عنق عصفور
لكسرة بجريش الملح آكلها * ألذ من تمره تحشى بزنبور.
ووصف لسابور ذي الأكتاف رجل من إصطخر للقضاء، فاستقدمه، فدعاه إلى
الطعام، فاخذ الملك دجاجة من بين يديه فنصفها، وجعل نصفها بين يدي ذلك الرجل،
فأتى عليه قبل أن يفرغ الملك من أكل النصف الآخر، فصرفه إلى بلده، وقال: إن
سلفنا كانوا يقولون: من شره إلى طعام الملك كان إلى أموال الرعية أشره.
قيل لسميرة بن حبيب: إن ابنك أكل طعاما فأتخم، وكاد يموت، فقال: والله
لو مات منه ما صليت عليه. انس يرفعه: أن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت.
دخل عمر على عاصم ابنه وهو يأكل لحما، فقال: ما هذا؟ قال: قرمنا إليه،
قال: أو كلما قرمت إلى اللحم أكلته! كفى بالمرء شرها أن يأكل كل ما يشتهى.
أبو سعيد يرفعه: استعينوا بالله من الرعب، قالوا: هو الشره، ويقال الرعب
شؤم. أنس يرفعه: أصل كل داء البردة، قالوا: هي التخمة، وقال أبو دريد: العرب
تعير بكثرة الاكل، وأنشد:
لست بأكال كأكل العبد * ولا بنوام كنوم الفهد.
188

وقال الشاعر:
إذا لم أزر إلا لاكل أكلة * فلا رفعت كفى إلى طعامي
فما اكلة إن نلتها بغنيمة * ولا جوعه إن جعتها بغرام.
ابن عباس، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يبيت طاويا ليالي ما له ولأهله
عشاء، وكان عامة طعامه الشعير، وقالت عائشة: والذي بعث محمدا بالحق ما كان
لنا منخل، ولا أكل رسول الله صلى الله عليه وآله خبزا منخولا منذ بعثه الله إلى
أن قبض، قالوا فكيف كنتم تأكلون دقيق الشعير؟ قالت: كنا نقول:
أف أف.
أنس، ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله رغيفا محورا إلى أن لقي ربه
عز وجل.
أبو هريرة: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وأهله ثلاثة أيام متوالية من خبز
حنطه حتى فارق الدنيا.
وروى مسروق قال: دخلت على عائشة وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك قالت:
ما أشاء أن أبكى إلا بكيت، مات رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يشبع من خبز البر
في يوم مرتين، ثم انهارت علينا الدنيا.
حاتم الطائي
وإني لأستحي صحابي أن يروا * مكان يدي من جانب الزاد أقرعا (1)
أقصر كفى أن تنال أكفهم * إذا نحن أهوينا وحاجاتنا معا
أبيت خميص البطن مضطمر الحشا * حياء أخاف الضيم أن أتضلعا

(1) ديوانه 115.
189

فإنك إن أعطيت نفسك سؤلها * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا.
فأما قوله عليه السلام: (كان لا يتشهى، ما لا يجد) فإنه قد نهى أن يتشهى
الانسان ما لا يجد، وقالوا: إنه دليل على سقوط المروءة.
وقال الأحنف: جنبوا مجالسنا ذكر تشهي الأطعمة وحديث النكاح.
وقال الجاحظ جلسنا في دار فجعلنا نتشهى الأطعمة، فقال واحد: وأنا أشتهي
سكباجا (1) كثيرة الزعفران.
وقال آخر: أنا أشتهي طباهجة ناشفة، وقال آخر: أنا أشتهي هريسة كثيرة
الدارصيني، وإلى جانبنا امرأة بيننا وبينها بئر الدار، فضربت الحائط وقالت: أنا حامل،
فأعطوني ملء هذه الغضارة من طبيخكم، فقال ثمامة: جارتنا تشم رائحة الأماني.
190

(296)
الأصل:
لو لم يتوعد الله سبحانه على معصيته، لكان يجب ألا يعصى شكرا لنعمه.
الشرح:
قالت المعتزلة: إنا لو قدرنا أن الوعيد السمعي لم يرد لما أخل ذلك بكون الواجب
واجبا في العقل، نحو العدل والصدق، والعلم ورد الوديعة، هذا في جانب الاثبات،
وأما في جانب السلب فيجب في العقل ألا يظلم، وألا يكذب، وألا يجهل،
وألا يخون الأمانة، ثم اختلفوا فيما بينهم، فقالت معتزلة بغداد: ليس الثواب واجبا
على الله تعالى بالعقل، لان الواجبات إنما تجب على المكلف، لان أداءها كالشكر
لله تعالى، وشكر المنعم واجب، لأنه شكر منعم، فلم يبق وجه يقتضى وجوب الثواب
على الله سبحانه، وهذا قريب من قول أمير المؤمنين عليه السلام.
وقال البصريون: بل الثواب واجب على الله تعالى عقلا، كما يجب عليه العوض
عن إيلام الحي، لان التكليف إلزام بما فيه مضرة، كما إن الإيلام إنزال مضرة،
والالزام كالإنزال.
191

(297)
الأصل:
وقال عليه السلام للأشعث بن قيس وقد عزاه عن ابن له:
يا أشعث، إن تحزن على ابنك فقد استحقت ذلك منك الرحم، وإن تصبر
ففي الله من كل مصيبة خلف.
يا أشعث، إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى
عليك القدر وأنت مازور.
يا أشعث، ابنك سرك، وهو بلاء وفتنة، وحزنك، وهو ثواب ورحمة.
الشرح:
قد روى هذا الكلام عنه عليه السلام على وجوه مختلفة وروايات متنوعة، هذا
الوجه أحدها، وأخذ أبو العتاهية ألفاظه عليه السلام فقال: لمن يعزيه عن ولد
ولا بد من جريان القضاء * إما مثابا وإما أثيما.
ومن كلامهم في التعازي: إذا استأثر الله بشئ فاله عنه، وتنسب هذه الكلمة إلى
عمر بن عبد العزيز.
وذكر أبو العباس في الكامل إن عقبة بن عياض بن تميم أحد بنى عامر بن لؤي
استشهد، فعزى أباه معز، فقال: احتسبه ولا تجزع عليه، فقد مات شهيدا، فقال عياض:
أتراني كنت أسر به وهو من زينة الحياة، الدنيا وأساء به وهو من الباقيات الصالحات!
192

وهذا الكلام مأخوذ من كلام أمير المؤمنين عليه السلام.
ومن التعازي الجيدة قول القائل:
ومن لم يزل غرضا للمنون * يتركه كل يوم عميدا (1)
فإن هن أخطأنه مرة * فيوشك مخطئها أن يعودا
فبينا يحيد وأخطأنه * قصدن فأعجلنه أن يحيدا.
وقال آخر:
هو الدهر قد جربته وعرفته * فصبرا على مكروهة وتجلدا
وما الناس إلا سابق ثم لاحق * وفائت موت سوف يلحقه غدا.
وقال آخر:
أينا قدمت صروف الليالي * فالذي أخرت سريع اللحاق
غدرات الأيام منتزعات * عنقينا من أنس هذا العناق (2).
ابن نباتة السعدي
نعلل بالدواء إذا مرضنا * وهل يشفى من الموت الدواء!
ونختار الطبيب وهل طبيب * يؤخر ما يقدمه القضاء!
وما أنفاسنا إلا حساب * وما حركاتنا إلا فناء.
البحتري
إن الرزية في الفقيد فإن هفا * جزع بلبك فالرزية فيكا (3)
ومتى وجدت الناس إلا تاركا * لحميمة في الترب أو متروكا
لو ينجلي لك ذخرها من نكبة * جلل لأضحكك الذي يبكيكا.

(1) رجل عميد: هده العشق.
(2) حاشية ب: قوله: (عنقينا) التثنية باعتبار التقدم والتأخر.
(3) ديوانه 2: 153، من رثائه لمحمد بن وهب.
193

وكتب بعضهم إلى صديق له مات ابنه: كيف شكرك لله تعالى على ما أخذ من
وديعته، وعوض من مثوبته!
وعزى عمر بن الخطاب أبا بكر عن طفل، فقال: عوضك الله منه ما عوضه
منك، فإن الطفل يعوض من أبويه الجنة.
وفي الحديث المرفوع: (من عزى مصابا كان له مثل اجره).
وقال عليه السلام: (من كنوز السر كتمان المصائب،
وكتمان الأمراض وكتمان الصدقة).
وقال شاعر في رثاء ولده:
وسميته يحيى ليحيا ولم يكن * إلى رد أمر الله فيه سبيل
تخيرت فيه الفأل حين رزقته * ولم أدر أن الفأل فيه يفيل.
وقال آخر:
وهون وجدي بعد فقدك أنني * إذا شئت لاقيت أمرا مات صاحبه.
آخر:
وقد كنت أرجو لو تمليت عيشة * عليك الليالي مرها وانتقالها
فأما وقد أصبحت في قبضة الردى * فقل لليالي فلتصب من بدا لها
أخذه المتنبي فقال:
قد كنت أشفق من دمعي على بصري * فاليوم كل عزيز بعدكم هانا (1)
ومثله لغيره
فراقك كنت أخشى فافترقنا * فمن فارقت بعدك لا أبالي

(1) ديوانه 4: 222.
194

(298)
الأصل:
وقال عليه السلام عند وقوفه على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله ساعة دفن
رسول الله صلى الله عليه وآله:
إن الصبر لجميل إلا عنك، وإن الجزع لقبيح إلا عليك، وإن المصاب بك
لجليل، وإنه بعدك لقليل.
الشرح:
قد أخذت هذا المعنى الشعراء، فقال بعضهم:
أمست بجفني للدموع كلوم * حزنا عليك وفي الخدود رسوم (1)
والصبر يحمد في المواطن كلها * إلا عليك فإنه مذموم
وقال أبو تمام:
وقد كان يدعى لابس الصبر حازما * فقد صار يدعى حازما حين يجزع (2)
وقال أبو الطيب:
أجد الجفاء على سواك مروءة * والصبر إلا في نواك جميلا (3)
وقال أبو تمام أيضا:
الصبر أجمل غير أن تلذذا * في الحب أولى أن يكون جميلا (4).

(1) الكامل: 2: 41، ونسبهما إلى محمد بن عبد الله العتبى.
(2) ديوانه 333 (بشرح الخياط)، التبيان 1: 246.
(3) ديوانه 3: 233.
(4) ديوانه 242 (بشرح الخياط).
195

وقالت خنساء أخت عمرو بن الشريد:
ألا يا صخر إن أبكيت عيني * لقد أضحكتني دهرا طويلا
بكيتك في نساء معولات * وكنت أحق من أبدى العويلا
دفعت بك الجليل وأنت حي * فمن ذا يدفع الخطب الجليلا!
إذا قبح البكاء على قتيل * رأيت بكاءك الحسن الجميلا (1).
ومثل قوله عليه السلام: (وإنه بعدك لقليل)، يعنى المصاب، أي لا مبالاة بالمصائب
بعد المصيبة، بك قول بعضهم:
قد قلت للموت حين نازله * والموت مقدامة على ألبهم
إذهب بمن شئت إذ ظفرت به * ما بعد يحيى للموت من ألم.
وقال الشمردل اليربوعي يرثي أخاه:
إذا ما أتى يوم من الدهر بيننا * فحياك عنا شرقه وأصائله (2)
أبى الصبر إن العين بعدك لم تزل * يحالف جفنيها قذى ما تزايله
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى * فأنت على من مات بعدك شاغله
أعيني إذ أبكاكما الدهر فابكيا * لمن نصره قد بان عنا ونائله
وكنت به أغشى القتال فعزني * عليه من المقدار من لا أقاتله
لعمرك إن الموت منا لمولع * بمن كان يرجى نفعه وفواضله
قوله:
* فأنت على من مات بعدك شاغله *
هو المعنى الذي نحن فيه، وذكرنا سائر الأبيات لأنها فائقة بعيدة النظير.

(1) ديوانها 225.
(2) أمالي اليزيدي 32، 33.
196

وقال آخر يرثي رجلا اسمه جارية:
أجاري ما أزداد إلا صبابة * عليك وما تزداد إلا تنائيا
أجاري لو نفس فدت نفس ميت * فديتك مسرورا بنفسي وماليا
وقد كنت أرجو أن أراك حقيقة * فحال قضاء الله دون قضائيا
ألا فليمت من شاء بعدك إنما * عليك من الاقدار كان حذاريا.
ومن الشعر المنسوب إلى علي عليه السلام - ويقال: إنه قاله يوم مات رسول الله
صلى الله عليه وآله:
كنت السواد لناظري * فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت * فعليك كنت أحاذر.
ومن شعر الحماسة:
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض * فحسبك منى ما تجن الجوانح
كان لم يمت حي سواك ولم تقم * على أحد إلا عليك النوائح
لئن حسنت فيك المراثي بوصفها * لقد حسنت من قبل فيك المدائح
فما أنا من رزء وإن جل جازع * ولا بسرور بعد موتك فارح
197

(299)
الأصل:
لا تصحب المائق فإنه يزين لك فعله، ويود أن تكون مثله.
الشرح:
المائق: الشديد الحمق، والموق: شدة الحمق، وإنما يزين لك فعله لأنه يعتقد فعله
صوابا بحمقه فيزينه لك كما يزين العاقل لصاحبه فعله لاعتقاد كونه صوابا، ولكن هذا
صواب في نفس الامر، وذلك صواب في اعتقاد المائق، لا في نفس الامر، وأما كونه
يود أن تكون مثله فليس معناه إنه يود أن تكون أحمق مثله، وكيف وهو
لا يعلم من نفسه أنه أحمق، ولو علم إنه أحمق لما كان أحمق، وإنما معناه إنه لحبه
لك، وصحبته إياك، يود أن تكون مثله، لان كل أحد يود أن يكون صديقه مثل
نفسه في أخلاقه وأفعاله، إذ كل أحد يعتقد صواب أفعاله، وطهارة أخلاقه، ولا يشعر
بعيب نفسه لأنه يهوى نفسه، فعيب نفسه مطوي مستور عن نفسه، كما تخفى عن
العاشق عيوب المعشوق.
198

(300)
الأصل:
وقال عليه السلام وقد سئل عن مسافة ما بين المشرق والمغرب، فقال:
مسيرة يوم للشمس.
الشرح:
هكذا تقول العرب (بينهما مسيرة يوم) بالهاء ولا يقولون (مسير يوم) لان
المسير المصدر، والمسيرة الاسم.
وهذا الجواب تسمية الحكماء جوابا إقناعيا، لان السائل أراد أن يذكر له
كمية المسافة مفصلة، نحو أن يقول: بينهما ألف فرسخ أو أكثر أو أقل، فعدل عليه
السلام عن ذلك وأجابه بغيره، وهو جواب صحيح لا ريب فيه، لكنه غير شاف
لغليل السائل، وتحته غرض صحيح، وذلك لأنه سأله بحضور العامة تحت المنبر، فلو
قال له: بينهما ألف فرسخ مثلا، لكان للسائل أن يطالبه بالدلالة على ذلك، والدلالة
على ذلك يشق حصولها على البديهة، ولو حصلت لشق عليه أن يوصلها إلى فهم السائل،
ولو فهمها السائل لما فهمتها العامة الحاضرون، ولصار فيها قول وخلاف، وكانت
تكون فتنة أو شبيها بالفتنة، فعدل إلى جواب صحيح إجمالي أسكت السائل به، وقنع
به السامعون أيضا واستحسنوه، وهذا من نتائج حكمته عليه السلام.
199

(301)
الأصل:
أصدقاؤك ثلاثة، وأعداؤك ثلاثة، فأصدقاؤك: صديقك، وصديق صديقك،
وعدو عدوك. وأعداؤك: عدوك، وعدو صديقك، وصديق عدوك.
الشرح:
قد تقدم القول في هذا المعنى
والأصل في هذا أن صديقك جار مجرى نفسك، فاحكم عليه بما تحكم به على
نفسك، وعدوك ضدك، فاحكم عليه بما تحكم به على الضد، فكما أن من عاداك
عدو لك، وكذلك من عادى صديقك عدو لك، وكذلك من صادق صديقك فكأنما
صادق نفسك، فكان صديقا لك أيضا، وأما عدو عدوك فضد ضدك ضد
ضدك، ملائم لك، لأنك أنت ضد لذلك الضد، فقد اشتركتما في ضدية ذلك الشخص،
فكنتما متناسبين، وأما من صادق عدوك فقد ماثل ضدك، فكان ضدا لك أيضا،
ومثل ذلك بياض مخصوص يعادي سوادا مخصوصا ويضاده.
وهناك بياض ثان هو مثل البياض الأول وصديقه، وهناك بياض ثالث
مثل البياض الثاني، فيكون أيضا مثل البياض الأول وصديقه، وهناك بياض
200

رابع تأخذه باعتبار ضدا للسواد المخصوص المفروض، فإنه يكون مماثلا وصديقا للبياض
الأول، لأنه عدو عدوه، ثم نفرض (1) سوادا ثانيا مضادا للبياض الثاني، فهو عدو
للبياض الأول، لأنه عدو صديقه، ثم نفرض سوادا ثالثا هو مماثل السواد المخصوص
المفروض، فإنه يكون ضدا للبياض المفروض المخصوص، لأنه مثل ضده، وإن مثلت
ذلك بالحروف كان أظهر وأكشف.

(1) ب: (نفض) تحريف.
201

(302)
الأصل:
وقال عليه السلام لرجل رآه يسعى على عدو له بما فيه إضرار بنفسه: إنما
أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه.
الشرح:
هذا يختلف باختلاف حال الساعي، فإنه إن كان يضر نفسه أولا ثم يضر
عدوه تبعا لإضراره بنفسه، كان - كما قال أمير المؤمنين عليه السلام - كالطاعن
نفسه ليقتل ردفه، والردف: الرجل الذي ترتدفه خلفك على فرس أو ناقة
أو غيرهما، وفاعل ذلك يكون أسفه الخلق وأقلهم عقلا، لأنه يبدأ بقتل نفسه وإن كان
يضر عدوه أولا، يحصل في ضمن إضراره بعدوه إضراره بنفسه، فليس يكون مثال
أمير المؤمنين عليه السلام منطبقا على ذلك، ولكن يكون كقولي في غزل من
قصيدة لي:
إن ترم قلبي تصم نفسك إنه * لك موطن تأوى إليه ومنزل (1)

(1) تصمي أي تصيب.
202

(303)
الأصل:
ما أكثر العبر وأقل الاعتبار!
الشرح:
ما أوجز هذه الكلمة وما أعظم فائدتها! ولا ريب أن العبر كثيرة جدا، بل كل
شئ في الوجود ففيه عبرة، ولا ريب أن المعتبرين بها قليلون، وإن الناس قد غلب
عليهم الجهل والهوى، وأرداهم حب الدنيا، وأسكرهم خمرها، وإن اليقين في الأصل
ضعيف عندهم، ولولا ضعفه لكانت أحوالهم غير هذه الأحوال.
203

(304)
الأصل:
من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها ظلم، ولا يستطيع أن يتقى الله
من خاصم.
الشرح:
هذا مثل قوله عليه السلام في موضع آخر: الغالب بالشر مغلوب.
وكان يقال ما تساب اثنان إلا غلب ألأمهما.
وقد نهى العلماء عن الجدل والخصومة في الكلام والفقه، وقالوا: إنهما مظنة المباهاة
وطلب الرئاسة والغلبة، والمجادل يكره أن يقهره خصمه، فلا يستطيع أن يتقى الله.
وهذا هو كلام أمير المؤمنين عليه السلام بعينه.
وأما الخصومة في غير العلم كمنازعة الناس بعضهم بعضا في أمورهم الدنياوية، فقد
جاء في ذمها والنهى عنها شئ كثير، وقد ذكرنا منه فيما تقدم قولا كافيا، على أن
منهم من مدح الجهل والشر في موضعهما. وقال الأحنف: ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا.
وقال بعض الحكماء: لا يخرجن أحد من بيته إلا وقد أخذ في حجزته قيراطين
من جهل، فإن الجاهل لا يدفعه إلا الجهل. وقالوا: الجاهل من لا جاهل له.
وقال الشاعر:
إذا كنت بين الجهل والحلم قاعدا * وخيرت انى شئت فالعلم أفضل
ولكن إذا أنصفت من ليس منصفا * ولم يرض منك الحلم فالجهل أمثل
إذا جاءني من يطلب الجهل عامدا * فإني سأعطيه الذي هو سائل
204

(305)
الأصل:
ما أهمنى أمر أمهلت بعده، حتى أصلى ركعتين، وأسأل الله العافية.
الشرح:
هذا فتح لباب التوبة وتطريق إلى طريقها، وتعليم للنهضة إليها والاهتمام بها،
ومعنى الكلام أن الذنب الذي لا يعاجل الانسان عقيبه بالموت ينبغي للانسان ألا يهتم
به، أي لا ينقطع رجاؤه عن العفو وتأميله الغفران، وذلك بأن يقوم إلى الصلاة عاجلا،
ويستغفر الله، ويندم ويعزم على ترك المعاودة، ويسأل الله العافية من الذنوب والعصمة
من المعاصي، والعون على الطاعة، فإنه إذا فعل ذلك بنية صحيحة واستوفى شرائط التوبة
سقط عنه عقاب ذلك الذنب.
وفي هذا الكلام تحذير عظيم من مواقعة الذنوب، لأنه إذا كان هذا هو محصول
الكلام، فكأنه قد قال: الحذر الحذر من الموت المفاجئ قبل التوبة، ولا ريب إن
الانسان ليس على ثقة من الموت المفاجئ قبل التوبة، إنه لا يفاجئه ولا يأخذه بغتة،
فالانسان إذا كان عاقلا بصيرا يتوقى الذنوب والمعاصي التوقي
205

(306)
الأصل:
وسئل عليه السلام كيف يحاسب الله الخلق
على كثرتهم؟ فقال: كما يرزقهم على كثرتهم.
فقيل كيف يحاسبهم ولا يرونه! فقال: كما يرزقهم ولا يرونه.
الشرح:
هذا جواب صحيح، لأنه تعالى لا يرزقهم على الترتيب، أعني واحدا بعد واحد،
وإنما يرزقهم جميعهم دفعة واحدة، وكذلك تكون محاسبتهم يوم القيامة.
والجواب الثاني صحيح أيضا، لأنه إذا صح أن يرزقنا ولا نرى الرازق، صح أن
يحاسبنا ولا نرى المحاسب.
فإن قلت: فقد ورد إنهم يمكثون في الحساب ألف سنة، وقيل أكثر من ذلك،
فكيف يجمع بين ما ورد في الخبر وبين قولكم: (إن حسابهم يكون ضربة واحدة)!
ولا ريب أن الاخبار تدل على أن الحساب يكون لواحد بعد واحد.
قلت: إن أخبار الآحاد لا يعمل عليها، لا سيما الأخبار الواردة في حديث الحساب
والنار والجنة، فان المحدثين طعنوا في أكثرها، وقالوا: إنها موضوعة، وجملة الامر
إنه ليس هناك تكليف، فيقال أن ترتيب المحاسبة في زمان طويل جدا يتضمن لطفا في
التكليف فيفعله الباري تعالى لذلك، وإنما الغرض من المحاسبة صدق الوعد وما سبق من
القول، والكتاب العزيز لم ينطق إلا بالمحاسبة مجملة، فوجب القول بالمتيقن المعلوم فيها
ورفض ما لم يثبت.
206

(307)
الأصل:
رسولك ترجمان عقلك، وكتابك أبلغ ما ينطق عنك.
الشرح:
قالوا في المثل الرسول على قدر المرسل.
وقيل أيضا رسولك أنت، إلا إنه إنسان آخر.
وقال الشاعر:
تخير إذا ما كنت في الامر مرسلا * فمبلغ آراء الرجال رسولها
ورو وفكر في الكتاب فإنما * بأطراف أقلام الرجال عقولها
207

(308)
الأصل:
ما المبتلى الذي قد اشتد به البلاء، بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي
لا يأمن البلاء.
الشرح:
هذا ترغيب في الدعاء، والذي قاله عليه السلام حق، لان المعافى في الصورة مبتلى في
المعنى، وما دام الانسان في قيد هذه الحياة الدنيا فهو من أهل البلاء على الحقيقة، ثم
لا يأمن البلاء الحسى، فوجب أن يتضرع إلى الله تعالى إنه ينقذه من بلاء الدنيا المعنوي،
ومن بلائها الحسى في كل حال.
ولا ريب أن الأدعية مؤثرة، وإن لها أوقات إجابة، ولم يختلف المليون (1)
والحكماء في ذلك.

(1) في ا: (أصحاب الملل).
208

(309)
الأصل:
الناس أبناء الدنيا، ولا يلام الرجل على حب أمه.
الشرح:
قد قال عليه السلام في موضع آخر: (الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم).
وقال الشاعر:
ونحن بنى الدنيا غذينا بدرها * وما كنت منه فهو شئ محبب (1)

(1) الدر: اللبن، والكلام على الاستعارة.
209

(310)
الأصل:
إن المسكين رسول الله، فمن منعه فقد منع الله، ومن أعطاه فقد
أعطى الله.
الشرح:
هذا حض على الصدقة، وقد تقدم لنا قول مقنع فيها.
وفي الحديث المرفوع: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة).
وقال صلى الله عليه وآله: (لو صدق السائل لما أفلح من رده).
وقال أيضا: (من رد سائلا خائبا لم تغش الملائكة ذلك البيت سبعة أيام).
وكان صلى الله عليه وآله لا يكل خصلتين إلى غيره: كان يصنع طهوره (1) بالليل
ويخمره، وكان يناول المسكين بيده.
وقال بعض الصالحين: من لم تكن نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى
صدقته، فقد أبطل صدقته، وضرب بها وجهه.
وقال بعضهم: الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة
تدخلك عليه.

(1) الطهور: الماء الذي يتطهر به. ويخمره: يستره.
210

(311)
الأصل:
ما زنى غيور قط.
الشرح:
قد جاء في الأثر: من زنى زنى به ولو في عقب عقبه.
وهذا قد جرب فوجد حقا، وقل من ترى مقداما على الزنا إلا والقول في حرمه
وأهله وذوي محارمه كثير فاش.
والكلمة التي قالها عليه السلام حق لان من اعتاد الزنا حتى صار دربته وعادته
والفتة نفسه، لا بد أن يهون عليه حتى يظنه مباحا، أو كالمباح، لان من تدرب بشئ
ومرن عليه زال قبحه من نفسه، وإذا زال قبح الزنا من نفسه لم يعظم عليه ما يقال في أهله،
وإذا لم يعظم عليه ما يقال في أهله، فقد سقطت غيرته.
211

(312)
الأصل:
كفى بالأجل حارسا!
الشرح:
قد تقدم القول في هذا المعنى.
وكان عليه السلام يقول: إن على من الله جنة (1) حصينة، فإذا جاء يومى أسلمتني،
فحينئذ لا يطيش السهم، ولا يبرأ الكلم.
والقول في الاجل وكونه حارسا شعبة من شعب القول في القضاء والقدر، وله موضع
هو أملك به (2).

(1) الجنة بالضم: كل ما وقى.
(2) ا: (أولى به).
212

(313)
الأصل:
ينام الرجل على الثكل، ولا ينام على الحرب.
قال السيد: ومعنى ذلك أنه يصبر على قتل الأولاد، ولا يصبر على
سلب الأموال.
الشرح:
كان يقال المال عدل النفس.
وفي الأثر: أن من قتل من دون ماله فهو شهيد.
وقال الشاعر:
لنا أبل غر يضيق فضاؤها * ويغبر عنها أرضها وسماؤها
فمن دونها أن تستباح دماؤنا * ومن دوننا أن تستباح دماؤها
حمى وقرى فالموت دون مرامها * وأيسر أمر يوم حق فناؤها
213

(314)
الأصل:
مودة الاباء قرابه بين الأبناء، والقرابة أحوج إلى المودة من المودة
إلى القرابة.
الشرح:
كان يقال الحب يتوارث، والبغض يتوارث.
وقال الشاعر:
أبقى الضغائن آباء لنا سلفوا * فلن تبيد وللآباء أبناء
ولا خير في القرابة من دون مودة.
وقد قال القائل لما قيل له: أيهما أحب إليك؟ أخوك أم صديقك؟ فقال: إنما أحب
أخي إذا كان صديقا.
فالقربى محتاجة إلى المودة لا والمودة مستغنية عن القربى (1).

(1) ا: (القرابة).
214

(315)
الأصل:
اتقوا ظنون المؤمنين فإن الله تعالى جعل الحق على ألسنتهم.
الشرح:
كان يقال ظن المؤمن كهانة.
وهو أثر جاء عن بعض السلف.
قال أوس بن حجر (1):
الألمعي الذي يظن (2) بك الظن كان قد رأى وقد سمعا (3)
وقال أبو الطيب (4):
ذكى تظنيه طليعة عينه * يرى قلبه في يومه ما يرى غدا (5)

(1) ديوانه 53.
(2) الديوان: (لك).
(3) الألمعي: الحديد اللسان والقلب، قال في الكامل:
(وقد أبانه بقوله: (الذي يظن بك الظن).
(4) ديوانه 1: 282.
(5) التظني: هو التظنن، قلبت النون الثانية ياء: والطليعة: الذي يطلع القوم على العدو فإذا جاءهم
العدو أنذرهم.
215

(316)
الأصل:
لا يصدق ايمان عبد حتى يكون بما في يد الله سبحانه أوثق منه بما
في يده.
الشرح:
هذا كلام في التوكل، وقد سبق القول فيه.
وقال بعض العلماء: لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من
العمل، فتضيع أمر آخرتك، ولا تنال من الدنيا إلا ما كتب الله لك.
وقال يحيى بن معاذ في جود (1) العبد: الرزق عن غير طلب دلالة على أن الرزق
مأمور بطلب العبد.
وقال بعضهم: متى رضيت بالله وكيلا، وجدت إلى كل خير سبيلا (2).

(1) في ب: (وجود) تحريف.
(2) زاد بعدها في ا: (واضحا).
216

(317)
الأصل:
وقال عليه السلام لأنس بن مالك، وقد كان بعثه إلى طلحة والزبير لما جاء إلى
البصرة يذكرهما شيئا قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله في معناهما، فلوى
عن ذلك فرجع إليه، فقال: إني أنسيت ذلك الامر، فقال عليه السلام:
إن كنت كاذبا فضربك الله بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة.
قال: يعنى البرص، فأصاب أنسا هذا الداء فيما بعد في وجهه، فكان لا يرى
إلا متبرقعا.
الشرح:
المشهور أن عليا عليه السلام ناشد الناس الله في الرحبة بالكوفة، فقال: أنشدكم
الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لي وهو منصرف من حجة الوداع:
(من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) فقام رجال
فشهدوا بذلك، فقال عليه السلام لأنس بن مالك: لقد حضرتها، فما بالك! فقال:
يا أمير المؤمنين كبرت سنى، وصار ما أنساه أكثر مما أذكره، فقال له: إن كنت كاذبا
فضربك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة، فما مات حتى أصابه البرص.
فاما ما ذكره الرضى من إنه بعث أنسا إلى طلحة والزبير فغير معروف، ولو كان
قد بعثه ليذكرهما بكلام يختص بهما من رسول الله صلى الله عليه وآله
217

يرجع، فيقول إني أنسيته، لأنه ما فارقه متوجها نحوهما إلا وقد أقر بمعرفته
وذكره، فكيف يرجع بعد ساعة أو يوم فيقول إني أنسيته، فينكر بعد الاقرار!
هذا مما لا يقع.
وقد ذكر ابن قتيبة حديث البرص، والدعوة التي دعا بها أمير المؤمنين عليه السلام
على أنس بن مالك في كتاب المعارف في باب البرص (1) من أعيان الرجال،
وابن قتيبة غير متهم في حق علي عليه السلام، على المشهور من انحرافه عنه.

(1) المعارف 580.
218

(318)
الأصل:
إن للقلوب اقبالا وإدبارا، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا
أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض.
الشرح:
لا ريب أن القلوب تمل كما تمل الأبدان، وتقبل تارة على العلم وعلى العمل، وتدبر
تارة عنهما.
قال علي عليه السلام: فإذا رأيتموها مقبلة أي قد نشطت وارتاحت للعمل فاحملوها
على النوافل، ليس يعنى اقتصروا بها على النافلة، بل أدوا الفريضة وتنفلوا بعد ذلك.
وإذا رأيتموها قد ملت العمل وسئمت فاقتصروا بها على الفرائض، فإنه لا انتفاع بعمل
لا يحضر القلب فيه (1).

(1) ا: (لا يحضره القلب).
219

(319)
الأصل:
في القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم.
الشرح:
هذا حق، لان فيه أخبار القرون الماضية، وفيه أخبار كثيرة عن أمور مستقبلة، وفيه
أخبار كثيرة شرعية، فالأقسام الثلاثة كلها موجودة فيه.
220

(320)
الأصل:
ردوا الحجر من حيث جاء، فإن الشر لا يدفعه إلا الشر.
الشرح:
هذا مثل قولهم في المثل: إن الحديد بالحديد يفلح وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا (1)
وقال الفند الزماني:
فلما صرح الشر * فأمسى وهو عريان (2)
ولم يبق سوى العدوان * دناهم كما دانوا
وبعض الحلم عند * الجهل للذلة إذعان
وفي الشر نجاة حين * لا ينجيك إحسان
وقال الأحنف:
وذي ضعن أمت القول عنه * بحلمي فاستمر على المقال
ومن يحلم وليس له سفيه * يلاق المعضلات من الرجال

(1) من المعلقة ص 323 - بشرح التبريزي.
(2) ديوان الحماسة 1: 23 - 26 - بشرح
التبريزي قالها في حرب البسوس.
221

وقال الراجز:
لا بد للسؤدد من أرماح * ومن عديد يتقى بالراح
* ومن سفيه دائم النباح *
وقال آخر:
ولا يلبث الجهال أن يتهضموا * أخا الحلم ما لم يستعن بجهول
وقال آخر:
ولا أتمنى الشر والشر تاركي * ولكن متى أحمل على الشر أركب
222

(321)
الأصل:
وقال عليه السلام لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع:
ألق دواتك، وأطل جلفه قلمك، وفرج بين السطور، وقرمط بين الحروف
فان ذلك أجدر بصباحه الخط.
الشرح:
لاق الحبر بالكاغد يليق، أي التصق، ولقنه أنا يتعدى ولا يتعدى، وهذه
دواة مليقة: أي قد أصلح مدادها، وجاء ألق الدواة إلاقة فهي مليقة، وهي لغة قليلة
وعليها وردت كلمة أمير المؤمنين عليه السلام.
ويقال للمرأة إذا لم تحظ عند زوجها: ما عاقت عند زوجها ولا لاقت، أي
ما التصقت بقلبه.
وتقول هي جلفة القلم بالكسر، وأصل الجلف القشر، جلفت الطين من رأس
الدن، والجلفة هيئة فتحة القلم التي يستمد بها المداد، كما تقول: هو حسن الركبة
والجلسة ونحو ذلك من الهيئات.
وتقول: قد قرمط فلان خطوة إذا مشى مشيا فيه ضيق وتقارب، وكذلك القول
في تضييق الحروف.
فأما التفريج بين السطور فيكسب الخط بهاء ووضوحا
223

(322)
الأصل:
أنا يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الفجار.
قال: معنى ذلك أن
المؤمنين يتبعونني، والفجار يتبعون المال، كما تتبع
النحل يعسوبها، وهو رئيسها.
الشرح:
هذه كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وآله بلفظين مختلفين، تارة: (أنت
يعسوب الدين) وتارة: (أنت يعسوب المؤمنين)، والكل راجع إلى معنى واحد،
كأنه جعله رئيس المؤمنين وسيدهم، أو جعل الدين يتبعه، ويقفو أثره، حيث سلك
كما يتبع النحل اليعسوب.
وهذا نحو قوله: (وأدر الحق معه كيف دار).
224

(323)
الأصل:
وقال لبعض اليهود حين قال له: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه
فقال له:
إنما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنكم ما جفت أرجلكم من البحر حتى
قلتم لنبيكم: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) (1).
الشرح:
ما أحسن قوله: (اختلفنا عنه لا فيه)، وذلك لان الاختلاف لم يكن في التوحيد
والنبوة، بل في فروع خارجة عن ذلك، نحو الإمامة والميراث، والخلاف في الزكاة
هل هي واجبة أم لا، واليهود لم يختلفوا كذلك، بل في التوحيد الذي هو الأصل.
قال المفسرون: مروا على قوم يعبدون أصناما لهم على هيئة البقر، فسألوا موسى أن يجعل
لهم إلها كواحد منها، بعد مشاهدتهم الآيات والاعلام، وخلاصهم من رق العبودية،
وعبورهم البحر، ومشاهدة غرق فرعون، وهذه غاية الجهل.
وقد روى حديث اليهودي على وجه آخر، قيل قال يهودي لعلى عليه السلام:
اختلفتم بعد نبيكم ولم يجف ماؤه - يعنى غسله - صلى الله عليه وآله، فقال عليه السلام:
وأنتم قلتم: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ولما يجف ماؤكم.

(1) سورة الأعراف: 138.
225

(324)
الأصل:
وقيل له عليه السلام بأي شئ غلبت الاقران؟ قال:
ما لقيت أحدا إلا أعانني على نفسه
قال الرضى رحمه الله تعالى: يومئ بذلك إلى تمكن هيبته في القلوب.
الشرح:
قالت الحكماء: الوهم مؤثر، وهذا حق، لان المريض إذا تقرر في وهمه أن مرضه
قاتل له ربما هلك بالوهم، وكذلك من تلسبه الحية (1)، ويقع في خياله أنها قاتلته، فإنه
لا يكاد يسلم منها، وقد ضربوا لذلك مثالا، الماشي على جذع معترض على مهواه، فإن
وهمه وتخيله السقوط يقتضى سقوطه، وإلا فمشيه عليه وهو منصوب على المهواة كمشيه
عليه وهو ملقى على الأرض، لا فرق بينهما إلا الوهم والخوف والاشفاق والحذر،
فكذلك الذين بارزوا عليا عليه السلام من الاقران، لما كان قد طار صيته،
واجتمعت الكلمة إنه ما بارزه أحد إلا كان المقتول، غلب الوهم عليهم، فقصرت
أنفسهم عن مقاومته، وانخذلت أيديهم وجوارحهم عن مناهضته، وكان هو في الغاية
القصوى من الشجاعة والاقدام، فيقتحم عليهم ويقتلهم.

(1) لسبته الحية: لدغته.
226

(325)
الأصل:
وقال عليه السلام لابنه:
يا بنى إني أخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه، فإن الفقر منقصة للدين،
مدهشة للعقل، داعية للمقت.
الشرح:
[نبذ من الأقوال الحكيمة في الفقر و الغنى]
هذا موضع قد اختلف الناس فيه كثيرا، ففضل قوم الغنى، وفضل قوم الفقر.
فقال أصحاب الغنى: قد وصف الله تعالى المال، فسماه خيرا، فقال: (إني أحببت
حب الخير عن ذكر ربى) (1).
وقال
ممتنا على عباده، واعدا لهم بالإنعام والاحسان: (ويمددكم بأموال
وبنين) (2).
وقال: (وجعلت له مالا ممدودا) (3).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: (المال الحسب، إن أحساب أهل الدنيا هذا المال).
وقال عليه السلام: (نعم العون على تقوى الله المال).

(1) سورة ص 32.
(2) سورة نوح 12.
(3) سورة المدثر 12.
227

قالوا ولا ريب أن الأعمال الجليلة العظيمة الثواب لا يتهيأ حصولها إلا بالمال، كالحج
والوقوف والصدقات و الزكوات والجهاد.
وقد جاء في الخبر: (خير المال سكة مأبورة (1) أو مهرة مأمورة).
وقالت الحكماء: المال يرفع صاحبه وإن كان وضيع النسب، قليل الأدب وينصره
وإن كان جبانا، ويبسط لسانه وإن كان عيا، به توصل الأرحام، و تصان الاعراض،
وتظهر المروءة، وتتم الرياسة، ويعمر العالم، وتبلغ الأغراض، وتدرك المطالب، وتنال
المآرب، يصلك إذا قطعك الناس، وينصرك إذا خذلوك، ويستعبد لك الأحرار،
ولولا المال لما بان كرم الكريم، ولا ظهر لؤم اللئيم، ولا شكر جواد، ولا ذم بخيل،
ولا صين حريم، ولا أدرك نعيم.
وقال الشاعر:
المال أنفع للفتى من علمه * والفقر أقتل للفتى من جهله
ما ضر من رفع الدراهم قدره * جهل يناط إلى دناءة أصله
وقال آخر:
دعوت أخي فولى مشمئزا * ولبى درهمي لما دعوت
وقال آخر:
ولم أر أوفى ذمة من دراهمي * وأصدق عهدا في الأمور العظائم
فكم خانني خل وثقت بعهده * وكان صديقا لي زمان الدراهم
وقال آخر:
أبو الأصفر المنقوش أنفع للفتى * من الأصل والعلم الخطير المقدم

(1) السكة: الطريقة. والمأبورة: الملقحة، وانظر نهاية ابن الأثير 1: 10.
228

وما مدح العلم امرؤ ظفرت به * يداه ولكن كل مقو ومعدم
وقال الشاعر:
ولم أر بعد الدين خيرا من الغنى * ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر
وقال العتابي: الناس لصاحب المال الزم من الشعاع للشمس، وهو عندهم
أرفع من السماء، وأعذب من الماء، وأحلى من الشهد، وأزكى من الورد، خطؤه
صواب، وسيئته حسنة، وقوله مقبول، يغشى مجلسه، ولا يمل حديثه، والمفلس
عندهم أكذب من لمعان السراب، ومن رؤيا الكظة، ومن مرآة اللقوة، ومن سحاب
تموز، لا يسأل عنه إن غاب، ولا يسلم عليه إذا قدم، إن غاب شتموه، وإن حضر
طردوه، مصافحته تنقض الوضوء، وقراءته تقطع الصلاة، أثقل من الأمانة، وأبغض
من السائل المبرم.
وقال بعض الشعراء الظرفاء، وأحسن كل الاحسان مع خلاعته
أصون دراهمي وأذب عنها * لعلمي إنها سيفي وترسي
وأذخرها وأجمعها بجهدي * ويأخذ وارثي منها وعرسي
فيأكلها ويشربها هنيئا * على النغمات من نقر وجس
ويقعد فوق قبري بعد موتي * ولا يتصدقن عنى بفلس
أحب إلى من قصدي عظيما * كبيرا أصله من عبد شمس
أمد إليه كفى مستميحا * وأصبح عبد خدمته وأمسى
ويتركني أجر الرجل مني * وقد صارت كنفس الكلب نفسي.
229

وقال: أصحاب الفقر الغنى سبب الطغيان، قال الله تعالى: (كلا إن الانسان
ليطغى * أن رآه استغنى) (1).
وقال تعالى: (وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى بجانبه) (2).
وكان يقال الغنى يورث البطر، وغنى النفس خير من غنى المال.
وقال محمود البقال
الفقر خير فاتسع واقتصد * إن من العصمة الا تجد
كم واجد أطلق وجدانه * عنانه في بعض ما لم يرد
ومدمن للخمر غاد على * سماع عود وغناء غرد
لو لم يجد خمرا ولا مسمعا * يرد بالماء غليل الكبد
كم من يد للفقر عند امرئ * طأطأ منه الفقر حتى اقتصد.
وكان يقال الفقر شعار الصالحين، والفقر لباس الأنبياء.
ولذلك قال البحتري:
فقر كفقر الأنبياء وغربة * وصبابة ليس البلاء بواحد (3)
وكان يقال الفقر مخف، والغنى مثقل.
وفى الخبر نجا المخفون.
وما أحسن قول أبى العتاهية:
ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى * وإن الغنى يخشى عليه من الفقر
وقد ذم الله تعالى المال، فقال: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (4).

(1) سورة العلق 6، 7.
(2) سورة الإسراء 83.
(3) ديوانه 1: 168.
(4) سورة الأنفال 28.
230

وكان يقال المال ملول، المال ميال، المال غاد ورائح، طبع المال كطبع الصبي،
لا يوقف على وقت رضاه ولا وقت سخطه. المال لا ينفعك حتى يفارقك.
وإلى هذا المعنى نظر القائل:
وصاحب صدق ليس ينفع قربه * ولا وده حتى تفارقه عمدا
- يعنى الدينار.
وما أحسن ما قاله الأول:
وقد يهلك الانسان حسن رياشه * كما يذبح الطاوس من أجل ريشه
وقال آخر:
رويدك إن المال يهلك ربه * إذا جم واستعلى وسد طريقه
ومن جاوز الماء الغزير فمجه * وسد طريق الماء فهو غريقه
231

(326)
الأصل:
وقال لسائل سأله عن مسألة:
سل تفقها، ولا تسأل تعنتا، فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، وإن العالم
المتعنت شبيه بالجاهل.
الشرح:
قد ورد نهى كثير عن السؤال على طريق الإعنات.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال،
ولا تعنته في الجواب، ولا تضع له غامضات المسائل، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ
بثوبه إذا نهض، ولا تفش له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا تنقلن إليه حديثا،
ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام حافظا
أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإذا كانت له حاجة فاسبق أصحابك إلى خدمته.
وقال ابن سيرين لسائل سأله: سل أخاك إبليس، إنك لن تسأل وأنت
طالب رشد.
وقالوا اللهم إنا نعوذ بك أن تعنت كما نعوذ بك أن نعنت، ونستكفيك أن
تفضح، كما نستكفيك أن تفضح.
وقالوا إذا آنس المعلم من التلميذ سؤال التعنت حرم عليه تعليمه.
232

(327)
الأصل:
وقال عليه السلام لعبد الله بن العباس رضي الله عنه وقد أشار إليه في شئ
لم يوافق رأيه:
لك أن تشير على وارى فإذا عصيتك فأطعني.
الشرح:
الامام أفضل من الرعية رأيا وتدبيرا، فالواجب على من يشير عليه بأمر فلا يقبل
أن يطيع ويسلم ويعلم أن الامام قد عرف من المصلحة ما لم يعرف.
ولقد أحسن الصابي في قوله في بعض رسائله: ولولا فضل الرعاة على الرعايا في
بعد مطرح النظرة، واستشفاف عيب العاقبة، لتساوت الاقدام، وتقاربت الافهام،
واستغنى المأموم عن الامام.
233

(328)
الأصل:
وروى إنه عليه السلام لما ورد الكوفة قادما من صفين مر بالشاميين،
فسمع بكاء النساء على قتلى صفين، وخرج إليه حرب بن شرحبيل الشامي،
وكان من وجوه قومه، فقال له: أيغلبكم نساؤكم على ما أسمع ألا تنهونهن
عن هذا الرنين!
وأقبل حرب يمشى معه وهو عليه السلام راكب، فقال له: ارجع فان
مشى مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن.
قد ذكرنا نسب الشاميين فيما اقتصصناه من أخبار صفين في أول الكتاب.
والرنين الصوت، وإنما جعله فتنة للوالي لما يتداخله من العجب بنفسه
والزهو، ولا ريب أيضا في أنه مذلة للمؤمن، فإن الرجل الماشي إلى ركاب الفارس
أذل الناس.
234

(329)
الأصل:
وقال عليه السلام وقد مر بقتلى الخوارج يوم النهروان:
بؤسا لكم! لقد ضركم من غركم.
فقيل له: من غرهم يا أمير المؤمنين؟
فقال:
الشيطان المضل، والنفس الامارة بالسوء، غرتهم بالأماني، وفسحت لهم
في المعاصي، ووعدتهم الاظهار، فاقتحمت بهم النار.
الشرح:
يقال بؤسى لزيد وبؤسا (بالتنوين) لزيد، فبؤسى نظيره نعمى، وبؤسا نظيره نعمة،
ينتصب على المصدر.
وهذا الكلام رد على المجبرة، وتصريح بان النفس الامارة بالسوء هي الفاعلة.
والاظهار مصدر، أظهرته على زيد، أي جعلته ظاهرا عليه غالبا له، أي وعدتهم
الانتصار والظفر.
235

(330)
الأصل:
اتقوا معاصي الله في الخلوات، فإن الشاهد هو الحاكم.
الشرح:
إذا كان الشاهد هو الحاكم استغنى عمن يشهد عنده، فالانسان اذن جدير أن يتقى
الله حق تقاته، لأنه تعالى الحاكم فيه وهو الشاهد عليه (1).

(1) ا: (فيه).
236

(331)
الأصل:
وقال عليه السلام لما بلغه قتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنه.
إن حزننا عليه على قد سرورهم به، إلا أنهم نقصوا بغيضا،
ونقصنا حبيبا.
الشرح:
قد تقدم ذكر مقتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنه.
وقال عليه السلام: إن حزننا به في العظم على قدر فرحهم به، ولكن وقع
التفاوت بيننا وبينهم من وجه آخر، وهو إنا نقصنا حبيبا إلينا، وأما هم فنقصوا
بغيضا إليهم.
فإن قلت: كيف نقصوا، ومعلوم أن أهل الشام ما نقصوا بقتل محمد شيئا لأنه ليس
في عددهم!
قلت: لما كان أهل الشام يعدون في كل وقت أعداءهم وبغضائهم من أهل العراق،
وصار ذلك العدد معلوما عندهم محصور الكمية، نقصوا بقتل محمد من ذلك العدد واحدا،
فإن النقص ليس من عدد أصحابهم، بل من عدد أعدائهم الذين كانوا يتربصون بهم
الدوائر، ويتمنون لهم الخطوب والاحداث، كأنه يقول: استراحوا من واحد من جملة
جماعة كانوا ينتظرون موتهم.
237

(332)
الأصل:
وقال عليه السلام: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنه.
الشرح:
أعذر الله فيه، أي سوغ لابن آدم أن يعتذر، يعنى إن ما قبل الستين هي أيام الصبا
والشبيبة والكهولة، وقد يمكن أن يعذر الانسان فيه على اتباع هوى النفس لغلبة
الشهوة وشره الحداثة، فإذا تجاوز الستين دخل في سن الشيخوخة، وذهبت عنه
غلواء شرته، فلا عذر له في الجهل.
وقد قالت الشعراء نحو هذا المعنى في دون هذه السن التي عينها عليه السلام.
وقال بعضهم:
إذا ما المرء قصر ثم مرت * عليه الأربعون عن الرجال
ولم يلحق بصالحهم فدعه * فليس بلاحق أخرى الليالي
238

(333)
الأصل:
ما ظفر من ظفر الاثم به، والغالب بالشر مغلوب.
الشرح:
قد قال عليه السلام نحو هذا، وذكرناه في هذا الكتاب: من قصر في الخصومة
ظلم ومن بالغ فيها أثم.
239

(334)
الأصل:
أن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما
متع به غنى، والله تعالى جده سائلهم عن ذلك.
الشرح:
قد تقدم القول في الصدقة وفضلها وما جاء فيها.
وقد ورد في الأخبار الصحيحة أن أبا ذر قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة!
فقلت من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالا، إلا من قال: هكذا وهكذا من بين يديه
ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم، ما من صاحب أبل ولا بقر ولا غنم
لا يؤدى زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها،
وتطأه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى الله بين الناس...
240

(335)
الأصل:
الاستغناء عن العذر، أعز من الصدق به.
الشرح:
روى (خير من الصدق)، والمعنى: لا تفعل شيئا تعتذر عنه وإن كنت
صادقا في العذر، فألا تفعل خير لك وأعز لك من أن تفعل ثم تعتذر وإن
كنت صادقا.
ومن حكم ابن المعتز: لا يقوم عز الغضب بذل الاعتذار.
وكان يقال إياك أن تقوم في مقام معذرة، فرب عذر أسجل بذنب صاحبه.
اعتذر رجل إلى يحيى بن خالد، فقال له: ذنبك يستغيث من عذرك.
ومن كلامهم ما رأيت عذرا أشبه بذنب من هذا.
ومن كلامهم اضربه على ذنبه مائة، واضربه على عذره مائتين.
قال شاعرهم:
إذا كان وجه العذر ليس بواضح * فإن إطراح العذر خير من العذر.
كان النخعي يكره أن يعتذر إليه ويقول: اسكت معذورا، فإن المعاذير
يحضرها الكذب.
241

(336)
الأصل:
أقل ما يلزمكم لله سبحانه ألا تستعينوا بنعمه على معاصيه.
الشرح:
لا شبهة أن من القبيح الفاحش أن ينعم الملك على بعض رعيته بمال وعبيد وسلاح،
فيجعل ذلك المال مادة لعصيانه والخروج عليه، ثم يحاربه بأولئك العبيد، وبذلك
السلاح بعينه.
وما أحسن ما قال الصابي في رسالته إلى سبكتكين من عز الدولة بختيار:
وليت شعري بأي قدم تواقفنا وراياتنا خافقة على رأسك، ومماليكنا عن يمينك
وشمالك، وخيلنا موسومة بأسمائنا، تحتك وثيابنا محوكة في طرازنا على جسدك،
وسلاحنا المشحوذ لأعدائنا في يدك!
242

(337)
الأصل:
إن الله سبحانه جعل الطاعة غنيمة الأكياس عند تفريط العجزة.
الشرح:
الأكياس: العقلاء أولو الألباب.
قال عليه السلام: جعل الله طاعته غنيمة هؤلاء، إذا فرط فيها العجزة المخذلون
من الناس، كصيد استذف (1) لرجلين: أحدهما جلد والاخر عاجز، فقعد عنه العاجز
لعجزه وحرمانه، واقتنصه الجلد لشهامته وقوة جده (2).

(1) استذف: تهيأ.
(2) ا: (وقوته).
243

(338)
الأصل:
السلطان وزعه الله في أرضه.
الشرح:
الوازع عن الشئ: الكاف عنه، والمانع منه، والجمع وزعة، مثل قاتل وقتله.
وقد قيل هذا المعنى كثيرا، قالوا لا بد للناس من وزعة.
وقيل ما يزع الله عن الدين بالسلطان أكثر مما يزع عنه بالقرآن. وتنسب هذه
اللفظة إلى عثمان بن عفان.
قال الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا (1).
وكان يقال السلطان القاهر وإن كان ظالما خير للرعية وللملك من السلطان
الضعيف وإن كان عادلا.
وقال الله سبحانه: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت
الأرض) (2).
قالوا في تفسيره: أراد السلطان

(1) للأفوه الأودي، ديوانه 10 (ضمن مجموعة الطرائف الأدبية).
(2) سورة البقرة 251.
244

(339)
الأصل:
وقال عليه السلام في صفه المؤمن
بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شئ صدرا، وأذل شئ نفسا،
يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويل غمه، بعيد همه، كثير صمته، مشغول
وقته، شكور صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلته. سهل الخليقة، لين
العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذل من العبد.
الشرح:
هذه صفات العارفين، وقد تقدم كثير من القول في ذلك.
وكان يقال: البشر عنوان النجاح، والامر الذي يختص به العارف أن يكون
بشره في وجهه وهو حزين وحزنه في قلبه، وإلا فالبشر قد يوجد في كثير
من الناس.
ثم ذكر إنه أوسع الناس صدرا، وأذلهم نفسا، وإنه يكره الرفعة والصيت.
وجاء في الخبر في وصفهم (كل خامل نومه).
وطول الغم وبعد الهم من صفاتهم، وكذلك كثرة الصمت وشغل الوقت
بالذكر والعبادة، وكذلك الشكر والصبر والاستغراق في الفكر وتدبر آيات الله تعالى
في خلقه، والضن بالخلة وقلة المخالطة والتوفر على العزلة وحسن الخلق ولين الجانب،
وأن يكون قوى النفس جدا، مع ذل للناس وتواضع بينهم، وهذه الأمور كلها قد أتى
عليها الشرح فيما تقدم.
245

(340)
الأصل:
الغنى الأكبر اليأس عما في أيدي الناس.
الشرح:
هذه الكلمة قد رويت مرفوعة، وقد تقدم القول في الطمع وذمه،
واليأس ومدحه.
وفى الحديث المرفوع: (أزهد في الناس يحبك الله، وازهد فيما أيدي الناس
يحبك الناس).
ومن كلام بعضهم: ما أكلت طعام واحد إلا هنت عليه.
وكان يقال: نعوذ بالله من طمع يدنى إلى طبع (1).
وقال الشاعر:
أرحت روحي من عذاب الملاح * لليأس روح مثل روح النجاح
وقال بعض الأدباء هذا المعنى الذي قد أطنب فيه الناس ليس كما يزعمونه، لعمري
إن لليأس راحة، ولكن لا كراحة النجاح، وما هو إلا كقول من قال: لا أدرى
نصف العلم، فقيل له: ولكنه النصف الذي لا ينفع!
وقال ابن الفضل:
لا أمدح اليأس ولكنه * أروح للقلب من المطمع

(1) الطبع: الدنس.
246

أفلح من أبصر روض المنى * يرعى فلم يرع ولم يرتع
ومما يروى لعبد الله بن المبارك الزاهد:
قد أرحنا واسترحنا * من غدو ورواح
واتصال بأمير * ووزير ذي سماح
بعفاف وكفاف * وقنوع وصلاح
وجعلنا اليأس مفتاحا * لأبواب النجاح
247

(341)
الأصل:
المسؤول حر حتى يعد.
الشرح:
[نبذ من الأقوال الحكيمة في الوعد والمطل]
قد سبق القول في الوعد والمطل. ونحن نذكر هاهنا نكتا أخرى:
في الحديث المرفوع (من وعد وعدا فكأنما عهد عهدا).
وكان يقال: الوعد دين الكرام، والمطل دين اللئام.
وكان يقال: الوعد شبكة من شباك الأحرار يتصيدون بها المحامد.
وقال بعضهم: الوعد مرض المعروف، والإنجاز برؤه.
وقال يحيى بن خالد: الوعد سحاب، والإنجاز مطره.
وفي الحديث المرفوع (عدة المؤمن عطية).
وعنه عليه السلام: (لا تواعد أخاك موعدا لتخلفه).
وقال يحيى بن خالد لبنيه: يا بنى كونوا أسدا في الأقوال، نجازا في الافعال،
ولا تعدوا إلا وتنجزوا، فإن الحر يثق بوعد الكريم، وربما أدان عليه.
وكان جعفر بن يحيى يكره الوعد ويقول: الوعد من العاجز، فأما القادر فالنقد.
248

وفي الحديث المرفوع: (مطل الغنى ظلم).
وقال ابن الفضل:
أثروا ولم يقضوا ديون غريمهم * واللؤم كل اللؤم مطل الموسر
وقال الآخر:
إذا أتت العطية بعد مطل * فلا كانت وإن كانت سنية
وكان يقال: المطل يسد على صاحبه باب العذر، ويوجب عليه الأحسن والأكثر،
والتعجيل يحسن سيئه، ويبسط عذره في التقليل.
وقال يحيى بن خالد لبنيه: يا بنى لا تمطلوا معروفكم، فإن كثير العطاء بعد المطل
قليل، وعجلوا فإن عذركم مقبول مع التعجيل.
ومن كلام الحسن بن سهل: المطل يذهب رونق البر، ويكدر صفو المعروف،
ويحبط أجر الصدقة، ويعقل اللسان عن الشكر. وللتعجيل حلاوة وإن قلت العارفة،
ولذة وإن صغرت الصنيعة، وربما عرض ما يمنع الإنجاز من تعذر الامكان، وتغير
الزمان، فبادر المكنة، وعاجل القدرة، وانتهز الفرصة.
وقال الشاعر:
تحيل على الفراغ قضاء شغلي * وأنت إذا فرغت تكون مثلي
فلا أدعى بخادمك المرجى * ولا تدعى بسيدنا الاجل
وقال آخر:
لو علم الماطل أن المطال * فقد به يذهب طعم النوال
وأن أعلى البر ما ناله * طالبه نقدا عقيب السؤال
عجل للسائل معروفه * مهنا من طول قيل وقال
249

(342)
الأصل:
لو رأى العبد الاجل ومصيره، لأبغض الامل وغروره.
الشرح:
قد تقدم من الكلام في الامل ما فيه كفاية.
وكان يقال وا عجبا لصاحب الامل الطويل! وربما يكون كفنه في يد النساج
وهو لا يعلم.
250

(343)
الأصل:
لكل امرئ في ماله شريكان: الوارث والحوادث.
الشرح:
أخذه الرضى فقال:
خذ من تراثك ما استطعت فإنما * شركاؤك الأيام والوراث (1)
لم يقض حق المال إلا معشر * نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا
وقد قال عليه السلام في موضع آخر: بشر مال البخيل بحادث أو وارث.
ورأيت بخط ابن الخشاب رحمه الله على ظهر كتاب (لعبد الله بن أحمد بن
أحمد بن أحمد ثم لحادث أو وارث) كأنه يعنى ضنه به، أي لا أخرجه عن
يدي اختيارا.

(1) ديوانه 1: 178.
251

(344)
الأصل:
الداعي بلا عمل، كالرامي بلا وتر.
الشرح:
من خلا من العمل فقد أخل بالواجبات، ومن أخل بالواجبات فقد فسق،
والله تعالى لا يقبل دعاء الفاسق.
وشبهه عليه السلام بالرامي بلا وتر، فإن سهمه لا ينفذ (1).

(1) ا: (فإن سهامه).
252

(345)
الأصل:
العلم علمان: مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع، إذا لم يكن المطبوع.
الشرح:
هذه قاعدة كلية مذكورة في الكتب الحكمية، أن العلوم منها ما هو غريزي،
ومنها ما هو تكليفي، ثم كل واحد من القسمين يختلف بالأشد والأضعف، أما الأول
فقد يكون في الناس من لا يحتاج في النظر إلى ترتيب المقدمات، بل تنساق النتيجة
النظرية إليه سوقا من غير احتياج منه إلى التأمل والتدبر، وقد يكون فيهم من هو دون
ذلك، وقد يكون من هو دون الدون، وأما الثاني فقد يكون في الناس من لا يجدي
فيه التعليم، بل يكون كالصخرة الجامدة بلادة وغباوة، ومنهم من يكون أقل تبلدا
وجنوح ذهن من ذلك، ومنهم من يكون الوقفة عنده أقل، فيكون ذا حال
متوسطة، وبالجملة فاستقراء أحوال الناس يشهد بصحة ذلك.
وقال عليه السلام: ليس ينفع المسموع، إذا لم يكن المطبوع، يقول إذا لم يكن
هناك أحوال استعداد لم ينفع الدرس والتكرار، وقد شاهدنا مثل هذا في حق
أشخاص كثيرة اشتغلوا بالعلم الدهر الأطول، فلم ينجع معهم العلاج، وفارقوا الدنيا
وهم على الغريزة الأولى في الساذجية وعدم الفهم.
253

(346)
الأصل
صواب الرأي بالدول يقبل باقبالها، ويدبر بإدبارها.
الشرح:
قال الصولي:
اجتمع بنو برمك عند يحيى بن خالد في آخر دولتهم وهم يومئذ عشرة، فأداروا
بينهم الرأي في أمر فلم يصلح لهم، فقال يحيى: إنا لله! ذهبت والله دولتنا! كنا في
إقبالنا يبرم الواحد منا عشرة آراء مشكلة في وقت واحد، واليوم نحن عشرة في أمر
غير مشكل، ولا يصح لنا فيه رأى! الله نسأل حسن الخاتمة.
أرسل المنصور لما (1) هاضه أمر إبراهيم إلى عمه عبد الله بن علي وهو في السجن
يستشيره ما يصنع! وكان إبراهيم قد ظهر بالبصرة، فقال عبد الله: أنا محبوس، والمحبوس
محبوس الرأي، قال: له فعلى ذاك؟ قال: يفرق الأموال كلها على الرجال ويلقاه، فإن ظفر
فذاك، وإلا يتوجه إلى أبيه محمد بجرجان، ويتركه يقدم على بيوت أموال فارغة،
فهو خير له من أن تكون الدبرة عليه، ويقدم عدوه على بيوت أموال مملوءة.
قال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن أبي مسلم صاحب شرطة الحجاج يوما: لعن الله
رجلا أجرك رسنه، وخرب لك آخرته. قال: يا أمير المؤمنين، رأيتني والامر عنى
مدبر ولو رأيتني والامر على مقبل لاستكبرت منى ما استصغرت، ولاستعظمت منى
ما استحقرت.

(1) ا: (حين).
254

(347)
الأصل
العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى.
الشرح:
قد سبق القول في أن الأجمل بالفقير أن يكون عفيفا، وألا يكون جشعا حريصا،
ولا جادا في الطلب متهالكا، وإنه ينبغي أنه إذا افتقر أن يتيه على الوقت وأبناء
الوقت، فإن التيه في مثل ذلك المقام لا بأس به، ليبعد جدا عن مظنة الحرص
والطمع.
وقد سبق أيضا القول في الشكر عند النعمة ووجوبه، وإنه سبب لاستدامتها،
وإن الاخلال به داعيه إلى زوالها وانتقالها، وذكرنا في هذا الباب أمورا مستحسنة،
فلتراجع، وقال عبد الصمد بن المعذل في العفاف:
سأقنى العفاف وأرضى الكفاف * وليس غنى النفس حوز الجزيل
ولا أتصدى لشكر الجواد * ولا استعد لذم البخيل
واعلم أن بنات الرجاء * تحل العزيز محل الذليل
وأن ليس مستغنيا بالكثير * من ليس مستغنيا بالقليل
255

(348)
الأصل:
يوم العدل على الظالم، أشد من يوم الجور على المظلوم.
الشرح:
شيئان مؤلمان أحدهما ينقضي سريعا، والاخر يدوم أبدا، فلا جرم، كان اليوم
المذكور على الظالم، أشد من يوم الجور على المظلوم.
256

(349)
الأصل
الأقاويل محفوظة، والسرائر مبلوة و (كل نفس بما كسبت رهينة). والناس
منقوصون مدخولون إلا من عصم الله، سائلهم متعنت، ومجيبهم متكلف،
يكاد أفضلهم رأيا يرده عن فضل رأيه الرضا والسخط، ويكاد أصلبهم
عودا تنكؤه اللحظة، وتستحيله الكلمة الواحدة.
الشرح:
السرائر هاهنا: ما أسر في القلوب من النيات والعقائد وغيرها، وما يخفى من
أعمال الجوارح أيضا. وبلاؤها: تعرفها وتصفحها، والتمييز بين ما طاب
منها وما خبث.
وقال عمر بن عبد العزيز للأحوص لما قال:
ستبلى لها في مضمر القلب والحشا * سريره حب يوم تبلى السرائر
إنك يومئذ عنها لمشغول.
ذكر عليه السلام الناس فقال: قد عمهم النقص إلا المعصومين. ثم قال: سائلهم
يسأل تعنتا، والسؤال على هذا الوجه مذموم، ومجيبهم متكلف للجواب، وأفضلهم
رأيا يكاد رضاه تارة وسخطه أخرى يرده عن فضل رأيه، أي يتبعون الهوى
257

ويكاد أصلبهم عودا، أي أشدهم احتمالا.
تنكؤه اللحظة، نكات القرحة إذا صدمتها بشئ فتقشرها.
قال: (وتستحيله الكلمة الواحدة)، أي تحيله وتغيره عن مقتضى طبعه، يصفهم
بسرعة التقلب والتلون، وإنهم مطيعون دواعي الشهوة والغضب. واستفعل بمعنى
(فعل) قد جاء كثيرا استغلظ العسل، أي غلظ.
258

(350)
الأصل
قال: معاشر الناس، اتقوا الله، فكم من مؤمل ما لا يبلغه، وبان ما لا يسكنه،
وجامع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه، أصابه
حراما، واحتمل به آثاما، فباء بوزره، وقدم على ربه، آسفا لاهفا، قد (خسر
الدنيا و الآخرة ذلك هو الخسران المبين).
الشرح:
قد تقدم شرح هذه المعاني والكلام عليها، أما الآمال التي لا تبلغ، فأكثر من
أن تحصى، بل لا نهاية لها.
وما أحسن قول القائل:
وا حسرتا مات حظي من وصالكم * وللحظوظ كما للناس آجال
إن مت شوقا ولم أبلغ مدى أملى * كم تحت هذى القبور الخرس آمال!
وأما بناء ما لا يسكن، فنحو ذلك.
وقال الشاعر:
ألم تر حوشبا بالأمس يبنى * بناء نفعه لبني نفيلة
يؤمل أن يعمر عمر نوح * وأمر الله يطرق كل ليلة
وأما جامع ما سوف يتركه، فأكثر الناس، قال الشاعر:
وذي إبل يسعى ويحسبها له * أخو تعب في رعيها ودؤوب
غدت وغدا رب سواه يسوقها * وبدل أحجارا وجال قليب
259

(351)
الأصل:
من العصمة تعذر المعاصي.
الشرح:
قد وردت هذه الكلمة على صيغ مختلفة. من العصمة ألا تقدر. وأيضا، من
العصمة ألا تجد.
وقد رويت مرفوعة أيضا.
وليس المراد بالعصمة هاهنا العصمة التي ذكرها المتكلمون، لان العصمة عند
المتكلمين من شرطها القدرة، وحقيقتها راجعة إلى لطف يمنع القادر على المعصية
من المعصية، وإنما المراد إن غير القادر في اندفاع العقوبة عنه كالقادر الذي
لا يفعل.
260

(352)
الأصل:
ماء وجهك جامد يقطره السؤال، فانظر عند من تقطره.
الشرح:
هذا حسن، وقد أخذه شاعر فقال:
إذا أظمأتك اكف اللئام * كفتك القناعة شبعا وريا
فكن رجلا رجله في الثرى * وهامة همته في الثريا
فإن إراقة ماء الحياة * دون إراقة ماء المحيا
وقال آخر:
رددت لي ماء وجهي في صفيحته * رد الصقال بهاء الصارم الجذم
وما أبالي وخير القول أصدقه * حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمى.
وقال مصعب بن الزبير: إني لأستحي من رجل وجه إلى رغبته، فبات ليلته
يتململ ويتقلقل على فراشه، ينتظر الصبح قد جعلني أهلا لان يقطر ماء وجهه لدى
أن أرده خائبا.
وقال آخر:
ما ماء كفيك إن أرسلت مزنته * من ماء وجهي إذا استقطرته عوض
261

(353)
الأصل:
الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق، والتقصير عن الاستحقاق عي
أو حسد.
الشرح:
كانوا يكرهون أن يثنى الشاعر في شعره على الممدوح الثناء المفرط، ويقولون:
خير المدح ما قارب فيه الشاعر واقتصد، وهذا هو المذهب الصحيح، وإن كان قوم
يقولون: إن خير الشعر المنظوم في المدح ما كان أشد مغالاة وأكثر تبجيلا وتعظيما
ووصفا ونعتا.
وينبغي أن يكون قوله عليه السلام محمولا على الثناء في وجه الانسان، لأنه هو الموصوف
بالملق إذا أفرط، فأما من يثنى بظهر الغيب فلا يوصف ثناؤه بالملق، سواء كان مقتصدا
أو مسرفا.
وقوله عليه السلام: (والتقصير عن الاستحقاق عي أو حسد) لا مزيد عليه في
الحسن، لأنه إذا قصر به عن استحقاقه كان المانع أما من جانب المثنى فقط من غير تعلق
له بالمثنى عليه، أو مع تعلق به، فالأول هو العي والحصر، والثاني هو الحسد والمنافسة.
262

(354)
الأصل:
لأشد الذنوب ما استهان به صاحبها.
الشرح:
قد ذكرنا هذا فيما تقدم وذكرنا العلة فيه، وهي أن فاعل ذلك الذنب قد جمع
بين فعل الذنب وفعل ذنب آخر، وهو الاستهانة بما لا يستهان به، لان المعاصي
لا هين فيها، والصغير منها كبير، والحقير منها عظيم، وذلك لجلاله شأن المعصي سبحانه.
فأما من يذنب ويستعظم ما أتاه، فحاله أخف من حال الأول، لأنه يكاد
يكون نادما (1).

(1) بعدها في ا: (على ما فعل).
263

(355)
الأصل:
من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، ومن رضى برزق الله لم يحزن
على ما فاته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن كابد الأمور عطب، ومن اقتحم
اللجج غرق، ومن دخل مداخل السوء اتهم.
ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل حياؤه، ومن قل حياؤه
قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار.
ومن نظر في عيوب غيره فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذلك الأحمق بعينه.
والقناعة مال لا ينفد.
ومن أكثر من ذكر الموت رضى من الدنيا باليسير.
ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.
الشرح:
كل هذه الفصول قد تقدم الكلام فيها وهي عشرة:
أولها: من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، كان يقال: أصلح نفسك
أولا، ثم أصلح غيرك.
وثانيها: من رضى برزق الله لم يحزن على ما فاته، كان يقال: الحزن على المنافع
الدنيوية سم ترياقه الرضا بالقضاء
264

وثالثها: من سل سيف البغي قتل به، كان يقال: الباغي مصروع وإن
كثر جنوده.
ورابعها: من كابد الأمور عطب، ومن اقتحم اللجج غرق، مثل هذا
قول القائل:
من حارب الأيام أصبح رمحه * قصدا وأصبح سيفه مفلولا.
وخامسها: من دخل مداخل السوء اتهم، هذا مثل قولهم: من عرض نفسه
للشبهات فلا يلومن من أساء به الظن.
وسادسها: من كثر كلامه... إلى قوله: دخل النار، قد تقدم القول في المنطق
الزائد وما فيه من المحذور، وكان يقال: قلما سلم مكثار، أو أمن من عثار.
وسابعها: من نظر في عيوب غيره فأنكرها، ثم رضيها لنفسه فذاك هو الأحمق
بعينه، وكان يقال أجهل الناس من يرضى لنفسه بما يسخطه من غيره.
وثامنها: القناعة مال لا ينفد، قد سبق القول في هذا، وسيأتي أيضا.
وتاسعها: من ذكر الموت رضى من الدنيا باليسير، كان يقال: إذا أحببت
ألا تحسد أحدا فأكثر ذكر الموت، واعلم أنك ومن تحسده عن قليل من
عديد الهلكى.
وعاشرها: من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه، لا ريب أن
الكلام عمل من الأعمال، وفعل من الافعال، فكما يستهجن من الانسان ألا يزال
يحرك يده وإن كان عابثا، كذلك يستهجن ألا يزال يحرك لسانه فيما هو عبث،
أو يجرى مجرى العبث.
وقال الشاعر:
يخوض أناس في الكلام ليوجزوا * وللصمت في بعض الأحايين أوجز
إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزا * فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز
265

(356)
الأصل:
للظالم من الرجال ثلاث علامات:
يظلم من فوقه بالمعصية، ومن دونه بالغلبة، ويظاهر القوم الظلمة.
الشرح:
يمكن أن يفسر هذا الكلام على وجهين:
أحدهما أن كل من وجدت فيه إحدى هذه الثلاث فهو ظالم، إما أن يكون قد
وجبت عليه طاعة من فوقه فعصاه، فهو بعصيانه ظالم له 7 لأنه قد وضعه في غير
موضعه، والظلم في أصل اللغة، هو هذا المعنى، ولذلك سموا اللبن يشرب قبل أن يبلغ
الروب مظلوما، لان الشرب منه كان في غير موضعه إذا لم يرب ولم يخرج زبده،
فكذلك من عصى من فوقه فقد زحزحه عن مقامه إذ لم يطعه. وإما أن يكون قد
قهر من دونه وغلبه. وإما أن يكون قد ظاهر الظلمة.
والوجه الثاني أن كل ظالم فلا بد من اجتماع هذه العلامات الثلاث فيه، وهذا
هو الأظهر
266

(357)
الأصل:
عند تناهى الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء.
الشرح:
كان يقال: إذا اشتد المضيق، اتسعت الطريق، وكان يقال: توقعوا الفرج عند
ارتتاج المخرج، وقال الشاعر
إذا بلغ الحوادث منتهاها * فرج بعيدها الفرج المطلا
فكم كرب تولى إذ توالي * وكم خطب تجلى حين جلى.
وفي الأثر: تضايقي تنفرجي، سيجعل الله بعد العسر يسرا.
والفرجة بفتح الفاء: التفصي من الهم، قال الشاعر:
ربما تجزع النفوس من الامر * له فرجه كحل العقال (1)
فأما الفرجة بالضم، ففرجة الحائط وما أشبهه.

(1) لامية ابن أبي الصلت، وقبله:
لا تضيقن في الأمور فقد * يكشف غماؤها بغير احتيال.
267

(358)
الأصل:
وقال عليه السلام لبعض أصحابه: لا تجعلن أكثر شغلك بأهلك وولدك، فإن
يكن أهلك وولدك أولياء الله فإن الله لا يضيع أولياءه، وأن يكونوا أعداء الله
فما همك وشغلك بأعداء الله!
الشرح:
قد تقدم القول نحو هذا المعنى، وهو أمر بالتفويض والتوكل على الله تعالى فيمن
يخلفه الانسان من ولده وأهله، فإن الله تعالى أعلم بالمصلحة، وأرأف بالانسان من أبيه
وأمه، ثم إن كان الولد في علم الله تعالى وليا من أولياء الله سبحانه، فإن الله تعالى
لا يضيعه، قال سبحانه: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (1).
وكل ولى لله فهو متوكل عليه لا محالة، وإن كان عدوا لله لم يجز الاهتمام له
والاعتناء بأمره، لان أعداء الله تجب مقاطعتهم، ويحرم توليهم، فعلى كل حال لا ينبغي
للانسان أن يحفل بأهله وولده بعد موته.
واعلم أن هذا كلام العارفين الصديقين، لا كلام أهل هذه الطبقات التي نعرفها،
فإن هذه الطبقات تقصر أقدامهم عن الوصول إلى هذا المقام.
ويعجبني قول الشاعر
أيا جامع المال وفرته * لغيرك إذ لم تكن خالدا
فإن قلت: أجمعه للبنين * فقد يسبق الولد الوالدا
وإن قلت أخشى صروف الزمان * فكن من تصاريفه واحدا

(1) سورة الطلاق 3.
268

(359)
الأصل:
أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله.
الشرح:
قد تقدم هذا المعنى مرارا.
وقال الشاعر:
إذا أنت عبت الامر ثم أتيته * فأنت ومن تزري عليه سواء
269

(360)
الأصل:
وهنأ بحضرته رجل رجلا آخر بغلام ولد له فقال له: ليهنئك الفارس!
فقال عليه السلام:
لا تقل ذلك، ولكن قل: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب،
وبلغ أشده، ورزقت بره.
الشرح:
هذه كلمة كانت من شعار الجاهلية، فنهى عنها كما نهى عن تحية الجاهلية: (أبيت
اللعن)، وجعل عوضها (سلام عليكم).
وقال رجل للحسن البصري وقد بشره بغلام: ليهنئك الفارس! فقال: بل
الراجل، ثم قال: لا مرحبا بمن إن عاش كدني، وإن مات هدني، وإن كنت مقلا
أنصبني، وإن كنت غنيا أذهلني، ثم لا أرضى بسعي له سعيا، ولا بكدي عليه في
الحياة كدا، حتى أشفق عليه بعد موتى من الفاقة، وأنا في حال لا يصل إلى من فرحه
سرور، ولا من همه حزن.
270

(361)
الأصل:
وبنى رجل من عماله بناء فخما فقال عليه السلام:
أطلعت الورق رؤوسها، إن البناء يصف لك الغنى.
الشرح:
قد رويت هذه الكلمة عن عمر - رضي الله عنه - ذكر ذلك ابن قتيبة في
عيون الأخبار.
وروى عنه أيضا: لي على كل خائن أمينان: الماء والطين.
قال يحيى بن خالد لابنه جعفر حين اختط داره ببغداد ليبنيها: هي قميصك، فان
شئت فوسعه، وإن شئت فضيقه.
ورآه وهو يجصص حيطان داره المبنية بالاجر، فقال له: إنك تغطي الذهب بالفضة،
فقال جعفر: ليس في كل مكان يكون الذهب خيرا من الفضة، ولكن هل ترى عيبا؟
قال: نعم، مخالطتها دور السوقة.
وقيل ليزيد بن المهلب.
ألا يبنى الأمير دارا، فقال: منزلي دار الامارة أو الحبس.
وكان يقال، في الدار: لتكن أول ما يبتاع وآخر ما تباع.
ومر رجل من الخوارج بآخر من أصحابهم وهو يبنى دارا فقال: من ذا الذي يقيم كفيلا.
وقالوا: كل ما يخرج بخروجك، ويرجع برجوعك، كالدار والنخل ونحوهما فهو كفيل.
271

(362)
الأصل:
وقيل له عليه السلام: لو سد على رجل باب بيت وترك فيه، من أين كان
يأتيه رزقه؟ فقال عليه السلام:
من حيث يأتيه أجله.
الشرح:
ليس يعنى عليه السلام إن كل من يسد عليه باب بيت، فإنه لا بد أن يرزقه الله
تعالى، لان العيان والمشاهدة تقتضي خلاف ذلك، وما رأينا من سد عليه باب بيت
مدة طويلة فعاش، ولا ريب إن من شق أسطوانة وجعل فيها حيا ثم بنيت
الأسطوانة عليه فإنه يموت مختنقا، ولا يأتيه رزقه ولا حياته، ولأن للحكماء إن يقولوا
في الفرق بين الموضعين: إن أجله إنما يأتيه لان الاجل عدم الحياة، والحياة تعدم
لعدم ما يوجبها، والذي يوجب استمرارها الغذاء، فلما انقطع الغذاء حضر الاجل،
فهذا هو الوجه الذي يأتيه منه اجله، ولا سبيل إلى ذكر مثله في حضور الرزق لمن
يسد عليه الباب.
فإذا معنى كلامه عليه السلام إن الله تعالى إذا علم فيمن يجعل في دار
ويسد عليه بابها أن في بقاء حياته لطفا لبعض المكلفين فإنه يجب على
الله تعالى أن يديم حياته، كما يشاء سبحانه، إما بغذاء يقيم به مادة حياته، أو
272

يديم حياته بغير سبب، وهذا هو الوجه الذي منه يأتيه أجله أيضا، لان إماتة
الله المكلف أمر تابع للمصلحة، لأنه لا بد من انقطاع التكليف على كل حال
للوجه الذي يذكره أصحابنا في كتبهم، فإذا كان الموت تابعا للمصلحة، وكان
الاحياء تابعا للمصلحة، فقد أتى الانسان رزقه - يعنى حياته - من حيث يأتيه أجله.
وانتظم الكلام.
273

(363)
الأصل:
وعزى قوما عن ميت مات لهم فقال عليه السلام:
إن هذا الامر ليس بكم بدا، ولا إليكم انتهى، وقد كان صاحبكم هذا
يسافر؟ فقالوا: نعم قال: فعدوه في بعض سفراته، فإن قدم عليكم وإلا
قدمتم عليه.
الشرح:
قد ألم إبراهيم بن المهدى ببعض هذا في شعره الذي رثى به ولده فقال:
يئوب إلى أوطانه كل غائب * وأحمد في الغياب ليس يئوب (1)
تبدل دارا غير داري وجيرة * سواي وأحداث الزمان تنوب
أقام بها مستوطنا غير أنه * على طول أيام المقام غريب (2)
وإني وإن قدمت قبلي لعالم * بأني وإن أبطأت عنك قريب
وإن صباحا نلتقي في مسائه * صباح إلى قلبي الغداة حبيب

(1) من كلمة له في: الكامل 4: 23 - 25.
(2) بعده:
كأن لم يكن كالغصن في ميعة الضحى * سقاه الندى فاهتز وهو رطيب.
274

(364)
الأصل:
أيها الناس، ليراكم الله من النعمة، وجلين كما يراكم من النقمة فرقين.
إنه من وسع عليه في ذات يده، فلم ير ذلك استدراجا، فقد أمن مخوفا، ومن
ضيق عليه في ذات يده، فلم ير ذلك اختبارا، فقد ضيع مأمولا.
الشرح:
قد تقدم القول في استدراج المترف الغنى، واختبار الفقير الشقي، وإنه يجب على
الانسان وإن كان مشمولا بالنعمة أن يكون وجلا (1)، كما يجب عليه إذا كان فقيرا أن
يكون شكورا صبورا.

(1) وجلا: خائفا.
275

(365)
الأصل:
يا أسرى الرغبة، اقصروا، فإن المعرج على الدنيا لا يروعه منها إلا صريف
أنياب الحدثان.
أيها الناس، تولوا عن أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها.
الشرح:
ضري يضري ضراية مثل رمى يرمى رماية، أي جرى وسال، ذكره ابن
الأعرابي، وعليه ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام، أي اعدلوا بها
عن عاداتها الجارية، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وهذا خير من تفسير
الراوندي: وقوله: إنه من ضري الكلب بالصيد، لان المصدر من ذلك الضراوة
بالواو وفتح الضاد، ولم يأت فيه ضراية.
وقوله: (يا أسرى الرغبة) كلمة فصيحة.
وكذلك قوله: (لا يروعه منها إلا صريف أنياب الحدثان)، وذلك لان الفهد
إذا وثب والذئب إذا حمل يصرف نابه، ويقولون لكل خطب وداهية: جاءت
تصرف نابها. والصريف: صوت الأسنان إما عند رعدة أو عند شدة الغضب
والحنق، والحرص على الانتقام، أو نحو ذلك.
وقد تقدم الكلام في الدنيا والرغبة فيها، وغدرها وحوادثها، ووجوب العدول
عنها، وكسر عادية عادات السوء المكتسبة فيها.
276

(366)
الأصل:
لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءا وأنت تجد لها في الخير محتملا (1).
الشرح:
هذه الكلمة يرويها كثير من الناس لعمر بن الخطاب، ويرويها بعضهم لأمير
المؤمنين عليه السلام. وكان ثمامة يحدث بسؤدد يحيى بن خالد وابنه جعفر. ويقول:
إن الرشيد نكب علي بن عيسى بن ماهان (2) وألزمه مائة ألف دينار أدى منها
خمسين ألفا، ويلح بالباقي، فأقسم الرشيد إن لم يؤد المال في بقية هذا اليوم وإلا قتله.
وكان علي بن عيسى عدوا للبرامكة مكاشفا، فلما علم إنه مقتول سأل أن يمكن من
السعي إلى الناس يستنجدهم، ففسح له في ذلك، فمضى ومعه وكيل الرشيد وأعوانه إلى
باب يحيى وجعفر، فأشبلا عليه (3) وصححا من صلب أموالهما خمسين ألف دينار في باقي
نهار ذلك اليوم بديوان الرشيد باسم علي بن عيسى، واستخلصاه، فنقل بعض المتنصحين
لهما إليهما: إن علي بن عيسى قال في آخر نهار ذلك اليوم متمثلا:
فما بقيا على تركتماني * ولكن خفتما صرد النبال (4)

(1) في د (محلا)، وهو يستقيم أيضا.
(2) ب: (هامان) تصحيف.
(3) أشبلا: عطفا.
(4) اللسان (صرد)، ونسبه إلى المنقري يخاطب جريرا والفرزدق. وصرد السهم: نفذ حده.
277

فقال يحيى للناقل إليه ذلك: يا هذا إن المرعوب ليسبق لسانه إلى ما لم يخطر بقلبه.
وقال جعفر: ومن أين لنا إنه تمثل بذلك وعنانا، ولعله أراد أمرا آخر فكان
ثمامة يقول: ما في الأرض أسود من رجل يتأول كلام عدوه فيه ويحمله على
أحسن محامله.
وقال الشاعر:
إذا ما أتت من صاحب لك زلة * فكن أنت محتالا لزلته عذرا (1)

(1) لسالم بن وابصة، من كلمة له في أمالي القالي 2: 224.
278

(367)
الأصل:
إذا كانت لك إلى الله سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على رسوله صلى الله
عليه وآله، ثم سل حاجتك، فإن الله أكرم من أن يسأل حاجتين، فيقضى
إحداهما ويمنع الأخرى.
الشرح:
هذا الكلام على حسب الظاهر الذي يتعارفه الناس بينهم، وهو عليه السلام
يسلك هذا المسلك كثيرا، ويخاطب الناس على قدر عقولهم، وأما باطن الامر فإن
الله تعالى لا يصلى على النبي صلى الله عليه وآله لأجل دعائنا إياه أن يصلى عليه،
لان معنى قولنا: اللهم صل على محمد، أي أكرمه، وأرفع درجته والله سبحانه
قد قضى له بالإكرام التام ورفعة الدرجة من دون دعائنا، وإنما تعبدنا نحن بأن
نصلي عليه لان لنا ثوابا في ذلك، لا لان إكرام الله تعالى له أمر يستعقبه
ويستتبعه دعاؤنا.
وأيضا فأي غضاضة على الكريم إذا سئل حاجتين فقضى إحداهما دون الأخرى،
إن كان عليه في ذلك غضاضة فعليه في رد الحاجة الواحدة غضاضة أيضا.
279

(368)
الأصل:
من ضن بعرضه فليدع المراء.
الشرح:
قد تقدم من القول في المراء ما فيه كفاية، وحد المراء الجدال المتصل
لا يقصد به الحق.
وقيل لميمون بن مهران: ما لك لا تفارق أخا لك عن قلى؟ قال: لأني
لا أشاريه ولا أماريه.
وكان يقال ما ضل قوم بعد إذ هداهم الله [تعالى] (1) إلا بالمراء والاصرار في
الجدال على نصرة الباطل.
وقال سفيان الثوري: إذا رأيتم الرجل لجوجا مماريا معجبا بنفسه فقد
تمت خسارته.

(1) من د.
280

(369)
الأصل:
من الخرق المعاجلة قبل الامكان، والأناة بعد الفرصة.
الشرح:
قد تقدم القول في هذين المعنيين.
ومن كلام ابن المعتز: إهمال الفرصة حتى تفوت عجز، والعجلة قبل
التمكن خرق.
وقد جعل أمير المؤمنين عليه السلام كلتا الحالتين خرقا، وهو صحيح، لان الخرق
الحمق، وقلة العقل، وكلتا الحالتين دليل على الحمق والنقص.
281

(370)
الأصل:
لا تسأل عما لم يكن، ففي الذي قد كان لك شغل.
الشرح:
من هذا الباب قول أبى الطيب في سيف الدولة (1):
ليس المدائح تستوفى مناقبه * فمن كليب وأهل الأعصر الأول (2)
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به * في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل (3)

(1) ديوانه 3: 81.
(2) كليب هو ابن ربيعة رئيس بنى تغلب وسيدهم في الجاهلية.
(3) بعده:
وقد وجدت مكان القول ذا سعة * فإن وجدت لسانا قائلا فقل.
282

(371)
الأصل:
الفكر مرآة صافية، والاعتبار منذر ناصح، وكفى أدبا لنفسك تجنبك
ما كرهته لغيرك.
الشرح:
قد تقدم القول في نحو هذا. وفى المثل: كفى بالاعتبار منذرا، وكفى بالشيب
زاجرا، وكفى بالموت واعظا، وقد سبق القول في وجوب تجنب الانسان ما يكرهه
من غيره.
وقال بعض الحكماء: إذا أحببت أخلاق امرئ فكنه، وإن أبغضتها
فلا تكنه. أخذه شاعرهم فقال:
إذا أعجبتك خصال امرئ * فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على المجد والمكرمات * إذا جئتها حاجب يحجبك
283

(372)
الأصل:
العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجاب
وإلا ارتحل عنه.
الشرح:
لا خير في علم بلا عمل، والعلم بغير العمل حجة على صاحبه، وكلام أمير المؤمنين
عليه السلام يشعر بأنه لا عالم إلا وهو عامل، ومراده بالعلم هاهنا العرفان، ولا ريب أن
العارف لا بد أن يكون عاملا.
ثم استأنف فقال: العلم يهتف بالعمل أي يناديه، وهذه اللفظة استعارة.
قال: فإن أجابه وإلا ارتحل، أي إن كان الانسان عالما بالأمور الدينية
ثم لم يعمل بها سلبه الله تعالى علمه، ولم يمت إلا وهو معدود في زمرة الجاهلين،
ويمكن أن يفسر على إنه أراد بقوله: ارتحل ارتحلت ثمرته ونتيجته، وهي الثواب،
فإن الله تعالى لا يثيب المكلف على علمه بالشرائع إذا لم يعمل بها، لان اخلاله
بالعمل يحبط ما يستحقه من ثواب العلم لو قدرنا إنه استحق على العلم ثوابا، وأتى
به على الشرائط التي معها يستحق الثواب.
284

(373)
الأصل:
أيها الناس متاع الدنيا حطام موبئ، فتجنبوا مرعاة قلعتها أحظى من طمأنينتها،
وبلغتها أزكى من ثروتها، حكم على مكثريها بالفاقة، وأغنى من غنى عنها
بالراحة، من راقه زبرجها أعقبت ناظريه كمها، ومن استشعر الشغف بها ملأت
ضميره أشجانا، لهن رقص على سويداء قلبه، هم يشغله، وغم يحزنه، حتى يؤخذ
بكظمه فيلقى بالفضاء، منقطعا أبهراه، هينا على الله فناؤه، وعلى الاخوان
إلقاؤه.
وإنما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار، ويقتات منها ببطن الاضطرار،
ويسمع فيها بإذن المقت والأبغاض، إن قيل أثرى قيل أكدى، وإن فرح له
بالبقاء حزن له بالفناء، هذا ولم يأتهم يوم هم فيه مبلسون.
الشرح:
متاع الدنيا: أموالها وقنياتها.
والحطام: ما تكسر من الحشيش واليبس، وشبه متاع الدنيا بذلك لحقارته.
وموبئ: محدث للوباء، وهو المرض العام.
ومرعاة: بقعة ترعى، كقولك مأسدة فيها الأسد، ومحياة فيها الحيات.
وقلعتها بسكون اللام. خير من طمأنينتها: أي كون الانسان فيها منزعجا متهيئا
285

للرحيل عنها خير له من أن يكون ساكنا إليها، مطمئنا بالمقام فيها.
والبلغة: ما يتبلغ به. والثروة: اليسار والغنى، وإنما حكم على مكثريها بالفاقة
والفقر لأنهم لا ينتهون إلى حد من الثروة والمال إلا وجدوا واجتهدوا، وحرصوا في
طلب الزيادة عليه، فهم في كل أحوالهم فقراء إلى تحصيل المال، كما إن من لا مال له أصلا
يجد ويجتهد في تحصيل المال بل ربما كان جدهم وحرصهم على ذلك أعظم من كدح
الفقير وحرصه، وروى: (وأعين من غنى عنها) ومن رواه (أغنى) أي أغنى الله،
من غنى عنها وزهد فيها بالراحة وخلو البال وعدم الهم والغم.
والزبرج الزينة: وراقه: أعجبه.
والكمة: العمى الشديد، وقيل هو أن يولد أعمى.
والأشجان: الأحزان.
والرقص بفتح القاف: الاضطراب (1) والغليان والحركة.
والكظم بفتح الظاء: مجرى النفس.
والأبهران: عرقان متصلان بالقلب، ويقال للميت: قد انقطع أبهراه.
قوله: (وإنما ينظر المؤمن): أخبار في الصورة، وأمر في المعنى، أي لينظر المؤمن إلى
الدنيا بعين الاعتبار، وليأكل منها ببطن الاضطرار، أي قدر الضرورة، لا احتكار
أو استكثار، وليسمع حديثها بإذن المقت والبغض، أي ليتخذها عدوا قد صاحبه في
طريق، فليأخذ حذره منه جهده وطاقته، وليسمع كلامه وحديثه لا استماع مصغ ومحب
وامق، بل استماع مبغض محترز من غائلته.

(1) ب: (الاضطرار) تحريف.
286

ثم عاد إلى وصف الدنيا وطالبها فقال: إن قيل: أثرى قيل: أكدى، وفاعل
(أثرى) هو الضمير العائد إلى من استشعر الشغف بها. يقول بينا يقال: أثرى،
قيل: افتقر، لأن هذه صفة الدنيا في تقلبها بأهلها، وإن فرح له بالحياة ودوامها، قيل:
مات وعدم، هذا ولم يأتهم يوم القيامة يوم هم فيه مبلسون، أبلس الرجل يبلس إبلاسا
أي قنط ويئس، واللفظ من لفظات الكتاب العزيز (1).
[نبذ من الأقوال الحكيمة في وصف حال الدنيا وصروفها]
وقد ذكرنا من حال الدنيا وصروفها وغدرها بأهلها فيما تقدم أبوابا
كثيرة نافعة.
ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك..
فمن كلام بعض الحكماء: ويل لصاحب الدنيا، كيف يموت ويتركها، وتغره
ويأمنها وتخذله ويثق بها! ويل للمغترين، كيف أرتهم ما يكرهون، وفاتهم ما يحبون،
وجاءهم ما يوعدون! ويل لمن الدنيا همه، والخطايا عمله، كيف يفتضح غدا بذنبه.
وروى أنس قال: كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله العضباء لا تسبق، فجاء
أعرابي بناقة له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
(حق على الله الا يرفع في الدنيا شيئا إلا وضعه).
وقال بعض الحكماء: من ذا الذي يبنى على موج البحر دارا! تلكم الدنيا،
فلا تتخذوها قرارا.

(1) وهو قوله تعالى في سورة الروم 12: (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون).
287

وقيل لحكيم: علمنا عملا واحدا إذا عملناه أحبنا الله عليه، فقال: ابغضوا الدنيا
يحببكم الله.
وقال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم
قليلا، ولبكيتم كثيرا، ولهانت عليكم الدنيا، ولآثرتم الآخرة).
ثم قال أبو الدرداء من قبل نفسه: أيها الناس، لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى
الصعدات تبكون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها، ولا راجع إليها
إلا ما لا بد لكم منه، ولكن غاب عن قلوبكم ذكر الآخرة، وحضرها الامل،
فصارت الدنيا أملك بأعمالكم، وصرتم كالذين لا يعلمون، فبعضكم شر من البهائم
التي لا تدع هواها، ما لكم لا تحابون ولا تناصحون في أموركم، وأنتم اخوان على دين
واحد، ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، ولو اجتمعتم على البر لتحاببتم،
ما لكم لا تناصحون في أموركم، ما هذا إلا من قلة الايمان في قلوبكم، ولو كنتم توقنون
بأمر الآخرة كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة، فإن قلت: حب العاجلة غالب،
فإنا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للأجل منها، ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا،
وتحزنون على اليسير منها يفوتكم، حتى يتبين ذلك في وجوهكم، ويظهر على ألسنتكم،
وتسمونها المصائب، وتقيمون فيها المآتم، وعامتكم قد تركوا كثيرا من دينهم ثم
لا يتبين ذلك في وجوههم، ولا تتغير حال بهم، يلقى بعضهم بعضا بالمسرة، ويكره
كل منكم أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله، فاصطحبتم على
الغل، وبنيتم مراعيكم على الدمن، وتصافيتم على رفض الاجل، أراحني الله منكم،
وألحقني بمن أحب رؤيته.
وقال حكيم لأصحابه: ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين، كما رضى أهل الدنيا
بدنئ الدين مع سلامة الدنيا.
288

وقيل في معناه:
أرى رجالا بأدنى الدين قد قنعوا * ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما * استغنى الملوك بدنياهم عن الدين.
وفى الحديث المرفوع: (لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل
النار الحطب).
وقال الحسن رحمه الله: أدركت أقواما كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من
ائتمنهم عليها، ثم ركضوا خفافا.
وقال أيضا: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فالقها في نحره.
وقال الفضيل: طالت فكرتي في هذه الآية: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة
لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) (1).
ومن كلام بعض الحكماء: لن تصبح في شئ من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك
ويكون له أهل من بعدك، وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة، وغداء يوم، فلا
تهلك نفسك في أكلة، وصم عن الدنيا وأفطر على الآخرة، فإن رأس مال الدنيا
الهوى، وربحها النار.
وقيل لبعض الرهبان: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان، ويجدد الآمال،
ويقرب المنية، ويباعد الأمنية. قيل: فما حال أهله؟ قال: من ظفر به تعب، ومن
فاته اكتأب.
ومن هذا المعنى قول الشاعر
ومن يحمد الدنيا لعيش يسره * فسوف لعمري عن قليل يلومها

(1) سورة الكهف 7، 8.
289

إذا أدبرت كانت على المرء حسرة * وإن أقبلت كانت كثيرا همومها.
وقال بعض الحكماء: كانت الدنيا ولم أكن فيها، وتذهب الدنيا ولا أكون
فيها، ولست أسكن إليها، فإن عيشها نكد، وصفوها كدر، وأهلها منها على
وجل، إما بنعمة زائلة، أو ببلية نازلة، أو ميتة قاضية. وقال بعضهم: من عيب الدنيا
إنها لا تعطى أحدا ما يستحق، إما أن تزيد له، وإما أن تنقص.
وقال سفيان الثوري: اما ترون النعم كأنها مغضوب عليها، قد وضعت في
غير أهلها.
وقال يحيى بن معاذ: الدنيا حانوت الشيطان، فلا تسرق من حانوته شيئا، فإنه
يجئ في طلبك حتى يأخذك.
وقال الفضيل: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان
ينبغي لنا أن نختار خزفا يبقى على ذهب يفنى، فكيف وقد اخترنا خزفا يفنى على
ذهب يبقى!
وقال بعضهم: ما أصبح أحد في الدنيا إلا وهو ضيف، ولا شبهة في أن
الضيف مرتحل، وما أصبح ذو مال فيها إلا وماله عارية عنده، ولا ريب أن
العارية مردودة.
ومثل هذا قول الشاعر
وما المال والأهلون إلا وديعة * ولا بد يوما أن ترد الودائع (1).
وقيل لإبراهيم بن أدهم: كيف أنت؟ فأنشد:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا * فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

(1) للبيد، ديوانه 170.
290

وزار رابعة العدوية أصحابها، فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها، فقالت: اسكتوا
عن ذكرها وكفوا، فلو لا موقعها في قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، إن من
أحب شيئا أكثر من ذكره.
وقال مطرف بن الشخير: لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك، ولين رياشهم،
ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم، وسوء منقلبهم، قال الشاعر:
أرى طالب الدنيا وإن طال عمره * ونال من الدنيا سرورا وأنعما
كبان بنى بنيانه فأقامه * فلما استوى ما قد بناه تهدما.
وقال أبو العتاهية:
تعالى الله يا سلم بن عمرو * أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تساق إليك عفوا * أليس مصير ذلك إلى الزوال!
وما دنياك إلا مثل فئ * أظلك ثم آذن بانتقال.
وقال بعضهم: الدنيا جيفة، فمن أراد منها شيئا فليصبر على معاشرة الكلاب.
وقال أبو أمامة الباهلي لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم: أتت إبليس
جنوده وقالوا: قد بعث نبي وجدت ملة وأمة، فقال: كيف حالهم؟ أيحبون
الدنيا؟ قالوا: نعم قال: إن كانوا يحبونها فلا أبالي ألا يعبدوا الأصنام، فإنما
أغدو عليهم وأروح بثلاث: أخذ المال من غير حقه، وإنفاقه في غير حقه، وإمساكه
عن حقه، والشر كله لهذه الثلاث تبع.
وكان مالك بن دينار يقول: اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء، يعنى الدنيا.

(1) ديوانه 206
291

وقال أبو سليمان الرازي: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا فزاحمتها، وإذا
كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة، لان الآخرة كريمة، والدنيا لئيمة.
وقال مالك بن دينار: بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبك، وبقدر
ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك. وهذا مقتبس من قول أمير المؤمنين عليه
السلام: الدنيا والآخرة ضرتان، فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط (1) الأخرى.
وقال الشاعر:
يا خاطب الدنيا إلى نفسها * تنح عن خطبتها تسلم
إن التي تخطب غدارة * قريبة العرس من المأتم.
وقالوا لو وصفت الدنيا نفسها لما قالت أحسن من قول أبي نؤاس فيها:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق (2).
ومن كلام الشافعي يعظ أخا له: يا أخي، إن الدنيا دحض مزلة (3)، ودار مذلة،
عمرانها إلى الخراب سائر، وساكنها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها
إلى الفقر مصروف، الاكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله،
وارض برزق الله، ولا تستسلف من دار بقائك في دار فنائك، فإن عيشك فئ زائل،
وجدار مائل. أكثر من عملك، واقصر من أملك.
وقال إبراهيم بن أدهم لرجل: أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة؟
فقال: دينار في اليقظة فقال: كذبت إن الذي تحبه في الدنيا فكأنك تحبه في المنام،
والذي تحبه في الآخرة فكأنك تحبه في اليقظة.
وقال بعض الحكماء: من فرح قلبه بشئ من الدنيا فقد أخطأ الحكمة، ومن

(1) ب (تسقط).
(2) ديوانه 192.
(3) الدحض: المكان الزلق.
292

جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله، ومن غلب علمه هواه فهو الغالب.
وقال بعضهم: الدنيا تبغض إلينا نفسها ونحن نحبها، فكيف لو تحببت إلينا!
وقال بعضهم: الدنيا دار خراب، وأخرب منها قلب من يعمرها، والجنة دار
عمران، وأعمر منها قلب من يطلبها.
وقال يحيى بن معاذ: العقلاء ثلاثة: من ترك الدنيا
قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه.
وقال بعضهم: من أراد أن يستغنى عن الدنيا بالدنيا كان كمطفئ
النار بالتبن.
ومن كلام بعض فصحاء الزهاد: أيها الناس اعملوا في مهل، وكونوا من الله على
وجل، ولا تغتروا بالأمل، ونسيان الاجل، ولا تركنوا إلى الدنيا، فإنها غدارة غرارة
خداعة، قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطابها، فأضحت
كالعروس المتجلية، العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها عاكفة، والنفوس لها عاشقة.
فكم من عاشق لها قتلت، ومطمئن إليها خذلت! فانظروا إليها بعين الحقيقة، فإنها
دار كثرت بوائقها، وذمها خالقها، جديدها يبلى، وملكها يفنى، وعزيزها يذل
وكثيرها يقل، وحيها يموت، وخيرها يفوت، فاستيقظوا من غفلتكم، وانتبهوا من
رقدتكم، قبل أن يقال: فلان عليل، ومدنف ثقيل، فهل على الدواء من دليل، وهل
إلى الطبيب من سبيل؟ فتدعى لك الأطباء، ولا يرجى لك الشفاء، ثم يقال: فلان
أوصى، وماله أحصى، ثم يقال: قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه، ولا يعرف جيرانه،
وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وطمحت جفونك، وصدقت
ظنونك، وتلجلج لسانك، وبكى إخوانك، وقيل لك: هذا ابنك فلان، وهذا أخوك
293

فلان، منعت من الكلام فلا تنطق، وختم على لسانك فلا ينطبق، ثم حل بك
القضاء، وانتزعت روحك من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك
إخوانك، وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، ثم حملوك فدفنوك، فانقطع
عوادك، واستراح حسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهنا بأعمالك.
وقال بعض الزهاد لبعض الملوك: إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له
فيها، وأعطى حاجته منها، لأنه يتوقع آفة تغدو على ماله فتجتاحه، وعلى جمعه فتفرقه
أو تأتى على سلطانه فتهدمه من القواعد، أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشئ
هو ضنين به من أحبابه، فالدنيا الأحق بالذم، وهي الآخذة ما تعطى، الراجعة فيما تهب،
فبينا هي تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره، وبينا هي تبكي له إذ أبكت عليه،
وبينا هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطت كفها إليه بالاسترجاع والاسترداد، تعقد
التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره في التراب غدا، سواء عليها ذهاب من ذهب وبقاء
من بقي، تجد في الباقي من الذاهب خلفا، وترضى بكل من كل بدلا.
وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن
ليست بدار إقامة، وإنما أنزل إليها عقوبة فاحذرها فإن الزاد منها ربحها، والغنى منها
فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله
من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه، يحمى قليلا مخافة ما يكرهه
طويلا، ويصبر على شدة الدواء، مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدنيا الغدارة المكارة،
الختالة الخداعة، التي قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وتحلت بآمالها، وتشرفت
لخطابها، فأصبحت بينهم كالعروس تجلى على بعلها، العيون إليها ناظرة، والقلوب
عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر،
ولا الاخر بالأول مزدجر، ولا العارف بالله حين أخبره عنها مدكر، فمن عاشق لها قد
294

ظفر منها بحاجته، فاغتر وطغى ونسي المعاد، وشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه،
فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه، وحسرات
الفوت بغصته، ومن راغب فيها لم يدرك منها ما طلب، ولم يرح نفسه من التعب،
خرج منها بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فاحذرها ثم احذرها، وكن أسر ما تكون فيها
أحذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه،
والسار منها لأهلها غار، والنافع منها في غد ضار، قد وصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل
البقاء فيها للفناء، فسرورها مشوب بالأحزان، ونعيمها مكدر بالأشجان، لا يرجع ما ولى
منها وأدبر، ولا يدرى ما هو آت فينتظر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها
كدر، وعيشها نكد، والانسان فيها على خطر أن عقل ونظر، وهو من النعماء على
غرر، ومن البلاء على حذر، فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا،
لكانت هي نفسها قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عنها
زاجر، وبتصاريفها واعظ، فما لها عند الله قدر، ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت
على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح
بعوضة، فأبى أن يقبلها، كره أن يخالف على الله أمره، أو يحب ما أبغضه خالقه،
أو يرفع ما وضعه مليكة، زواها الرب سبحانه عن الصالحين اختبارا، وبسطها لأعدائه
اغترارا، فيظن المغرور بها، المقتدر عليها، إنه أكرم بها، وينسى ما صنع الله تعالى
بمحمد صلى الله عليه وسلم من شده الحجر على بطنه، وقد جاءت الرواية عنه عن ربه
سبحانه إنه قال لموسى: إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت
الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين، وإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة
عيسى، كان يقول: أدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، وصلائي
في الشتاء مشارق الشمس، وسراجي القمر، ووسادي الحجر، ودابتي رجلاي،
295

وفاكهتي وطعامي ما أنبتت الأرض، أبيت وليس لي شئ، وليس على الأرض
أحد أغنى منى.
وفي بعض الكتب القديمة: إن الله تعالى لما بعث موسى وهارون عليه السلام
إلى فرعون قال: لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا، فإن ناصيته بيدي ليس ينطق
ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني، ولا يعجبكما ما متع به منها، فإن ذلك زهرة الحياة
الدنيا، وزينة المترفين، ولو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها
أن مقدرته تعجز عما وهبتما لفعلت، ولكني أرغب بكما عن ذلك، وأزوى ذلك
عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، إني لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه
عن مراتع الهلكة، وإني لأجنبهم حب المقام فيها كما يجنب الراعي الشفيق أبله عن
مبارك العر، وما ذاك لهوانهم على، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما
موفورا، إنما يتزين لي أوليائي بالذل والخضوع والخوف، وإن التقوى لتثبت في
قلوبهم، فتظهر على وجوههم، فهي ثيابهم التي يلبسونها، ودثارهم الذي يظهرون،
وضميرهم الذي يستشعرون، ونجاتهم التي بها يفوزون، ورجاؤهم الذي إياه يأملون،
ومجدهم الذي به يفتخرون، وسيماهم التي بها يعرفون، فإذا لقيهم أحدكما فليخفض لهم
جناحه، وليذلل لهم قلبه ولسانه، وليعلم إنه من أخاف لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، ثم
أنا الثائر به يوم القيامة.
ومن كلام بعض الحكماء: الأيام سهام، والناس أغراض، والدهر يرميك كل
يوم بسهامه، ويتخرمك بلياليه وأيامه، حتى يستغرق جميع أجزائك، ويصمي جميع
أبعاضك، فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك، وسرعة الليالي في بدنك! ولو
كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك
واستثقلت ممر الساعات بك، ولكن تدبير الله تعالى فوق النظر والاعتبار.
296

وقال بعض الحكماء - وقد استوصف الدنيا وقدر بقائها -: الدنيا وقتك الذي يرجع
إليه طرفك، لان ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه، وما لم يأت فلا علم لك به، والدهر
يوم مقبل تنعاه ليلته، وتطويه ساعاته، وأحداثه تتوالى على الانسان، بالتغيير والنقصان،
والدهر موكل بتشتيت الجماعات، وانخرام الشمل، وتنقل الدول، والأمل طويل، والعمر
قصير، وإلى الله تصير الأمور.
وقال بعض الفضلاء: الدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء، وتخلف
في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيرا عنيفا، ومرتحلة ارتحالا
سريعا، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنما يحس بذلك بعد
انقضائها، ومثالها الظل: فإنه متحرك ساكن، متحرك في الحقيقة، وساكن في الظاهر،
لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل بالبصيرة الباطنة.
297

(374)
الأصل:
إن الله سبحانه وضع الثواب على طاعته، والعقاب على معصيته، ذيادة لعباده
عن نقمته، وحياشة لهم إلى جنته.
الشرح:
ذيادة، أي دفعا. ذدته عن كذا، أي دفعته ورددته. وحياشة: مصدر حشت الصيد
بضم الحاء، أحوشه، إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة، وكذلك أحشت الصيد
وأحوشته، وقد احتوش القوم الصيد إذا نفره بعضهم إلى بعض.
وهذا هو مذهب أصحابنا، إن الله تعالى لما كلف العباد التكاليف الشاقة، وقد كان
يمكنه أن يجعلها غير شاقة عليهم بأن يزيد في قدرهم، وجب أن يكون في مقابله تلك
التكاليف ثواب، لان إلزام المشاق كإنزال المشاق، فكما يتضمن ذلك عوضا، وجب أن
يتضمن هذا ثوابا، ولا بد أن يكون في مقابلة فعل القبيح عقاب، وإلا كان سبحانه ممكنا
الانسان من القبيح، مغريا له (1) بفعله، إذ الطبع البشرى يهوى العاجل، ولا يحفل بالذم،
ولا يكون القبيح قبيحا حينئذ في العقل، فلا بد من العقاب ليقع الانزجار.

(1) ب ا: (به).
298

(375)
الأصل:
يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه، ومن الاسلام إلا
اسمه، مساجدهم يومئذ عامرة من البناء: خراب من الهدى، سكانها وعمارها
شر أهل الأرض، منهم تخرج الفتنة، وإليهم تأوى الخطيئة، يردون من شذ
عنها فيها، ويسوقون من تأخر عنها إليها، يقول الله سبحانه فبي حلفت، لأبعثن
على أولئك فتنة أترك الحليم فيها حيران، وقد فعل، ونحن نستقيل الله
عثرة الغفلة.
الشرح:
هذه صفة حال أهل الضلال والفسق والرياء من هذه الأمة، ألا تراه يقول:
سكانها وعمارها، يعنى سكان المساجد، وعمار المساجد شر أهل الأرض، لأنهم أهل
ضلالة كمن يسكن المساجد الان ممن يعتقد التجسم والتشبيه والصورة والنزول والصعود
والأعضاء والجوارح، ومن يقول بالقدر يضيف فعل الكفر والجهل والقبيح إلى الله
تعالى، فكل هؤلاء أهل فتنة، يردون من خرج منها إليها، ويسوقون من لم يدخل
فيها إليها أيضا.
ثم قال حاكيا عن الله تعالى: إنه حلف بنفسه ليبعثن على أولئك فتنة، يعنى استئصالا
وسيفا حاصدا يترك الحليم أي العاقل اللبيب فيها حيران لا يعلم كيف وجه خلاصه.
ثم قال عليه السلام: وقد فعل.
وينبغي أن يكون قد قال هذا الكلام في أيام خلافته، لأنها كانت أيام السيف
المسلط على أهل الضلال من المسلمين، وكذلك ما بعثه الله تعالى على بنى أمية وأتباعهم
من سيوف بنى بني هاشم
بعد انتقاله عليه السلام.
299

(376)
الأصل:
وروى أنه عليه السلام قلما اعتدل به المنبر إلا قال أمام خطبته:
أيها الناس، اتقوا الله فما خلق امرؤ عبثا فيلهو، ولا ترك سدى فيلغو،
وما دنياه التي تحسنت له بخلف من الآخرة التي قبحها سوء النظر عنده،
وما المغرور الذي ظفر من الدنيا بأعلى همته كالآخر الذي ظفر من الآخرة
بأدنى سهمته.
الشرح:
قال تعالى: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) (1).
ومن الكلمات النبوية أن المرء لم يترك سدى، ولم يخلق عبثا.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن من ظفر من الدنيا بأعلى وأعظم أمنية
ليس كآخر ظفر من الآخرة بأدون درجات أهل الثواب، لا مناسبة ولا قياس بين
نعيم الدنيا والآخرة.
وفي قوله عليه السلام: (التي قبحها سوء المنظر عنده) تصريح بمذهب أصحابنا
أهل العدل رحمهم الله، وهو أن الانسان هو الذي أضل نفسه لسوء نظره، ولو كان الله
تعالى هو الذي أضله لما قال: قبحها سوء النظر عنده.

(1) سورة المؤمنون 115.
300

(377)
الأصل:
لا شرف أعلى من الاسلام، ولا عز أعز من التقوى، ولا معقل أحسن من
الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا كنز أغنى من القناعة، ولا مال أذهب
للفاقة من الرضى بالقوت.
ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة، وتبوأ خفض الدعة.
والدعة مفتاح النصب، ومطية التعب، والحرص والكبر والحسد دواع إلى
التقحم في الذنوب، والشر جامع لمساوئ العيوب.
الشرح:
كل هذه المعاني قد سبق القول فيها مرارا شتى، نأتى كل مرة بما لم نأت به فيما
تقدم، وإنما يكررها أمير المؤمنين عليه السلام لإقامة الحجة على المكلفين، كما يكرر
الله سبحانه في القرآن المواعظ والزواجر، لذلك كان أبو ذر - رضي الله عنه - جالسا بين
الناس فأتته امرأته فقالت: أنت جالس بين هؤلاء، ولا والله ما عندنا في البيت هفة
ولا سفه (1)، فقال: يا هذه، إن بين أيدينا عقبه كؤودا، لا ينجو منها إلا كل مخف،
فرجعت وهي راضية.

(1) نهاية ابن الأثير 2: 167، 4: 250. الهفة: السحاب لا ماء فيه، والسفة: ما ينسج من
الخوص كالزبيل، أي لا مشروب في بيتك ولا مأكول.
301

وقيل لبعض الحكماء: ما مالك؟ قال: التجمل في الظاهر، والقصد في الباطن،
والغنى عما في أيدي الناس.
وقال أبو سليمان الداراني: تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة
غنى ألف عام.
وقال رجل لبشر بن الحارث: ادع لي فقد أضر الفقر بي وبعيالي فقال: إذا قال:
لك عيالك: ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع لبشر بن الحارث في ذلك الوقت، فان
دعاءك أفضل من دعائه.
ومن دعاء بعض الصالحين: اللهم إني أسألك ذل نفسي، والزهد فيما
جاوز الكفاف.
302

(378)
الأصل:
وقال عليه السلام لجابر بن عبد الله الأنصاري:
يا جابر، قوام الدين والدنيا بأربعة: عالم يستعمل علمه، وجاهل
لا يستنكف أن يتعلم، وجواد لا يبخل بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته
بدنياه، فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغنى
بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه.
يا جابر، من كثرت نعمة الله عليه، كثرت حوائج الناس إليه، فمن قام
بما يجب لله فيها عرض نعمة الله لدوامها، ومن ضيع ما يجب لله فيها عرض
نعمته لزوالها.
الشرح:
قد تقدم القول في هذه المعاني. والحاصل إنه ربط اثنتين من أربعة إحداهما بالأخرى،
وكذلك جعل في الاثنتين الأخريين، فقال: إن قوام الدين والدنيا بأربعة: عالم يستعمل
علمه، يعنى يعمل ولا يقتصر على أن يعلم فقط ولا يعمل، وجاهل لا يستنكف أن
يتعلم، وأضر ما على الجهلاء الاستنكاف من التعلم، فإنهم يستمرون على الجهالة إلى
الموت، والثالث جواد لا يبخل بالمعروف، والرابع فقير لا يبيع آخرته بدنياه، أي
لا يسرق، ولا يقطع الطريق، أو يكتسب الرزق من حيث لا يحبه الله، كالقمار،
و المواخير، والمزاجر، والمآصر، ونحوها.
303

ثم قال: فالثانية مرتبطة بالأولى إذا لم يستعمل العالم علمه استنكف الجاهل من التعلم،
وذلك لان الجاهل إذا رأى العالم يعصى ويجاهر الله بالفسق زهد في التعلم، وقال: لماذا
تعلم العلم إذا كانت ثمرته الفسق والمعصية.
ثم قال: والرابعة مرتبطة بالثالثة، إذا بخل الغنى بمعروفه، باع الفقير آخرته بدنياه،
وذلك لأنه إذا عدم الفقير المواساة مع حاجته إلى القوت دعته الضرورة إلى الدخول في
الحرام، والاكتساب من حيث لا يحسن، وينبغي أن يكون عوض لفظة جواد لفظة
غنى ليطابق أول الكلام آخره، إلا أن الرواية هكذا وردت، وجواد لا يبخل بمعروفه،
وفي ضمير اللفظ كون ذلك الجواد غنيا، لأنه قد جعل له معروفا والمعروف لا يكون إلا عن
ظهر غنى، وباقي الفصل قد سبق شرح أمثاله.
304

(379)
الأصل:
وروى ابن جرير الطبري في تأريخه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه،
وكان ممن خرج لقتال الحجاج مع ابن الأشعث، إنه قال فيما كان يحض به الناس
على الجهاد: إني سمعت عليا رفع الله درجته في الصالحين، وأثابه ثواب الشهداء
والصديقين، يقول يوم لقينا أهل الشام:
أيها المؤمنون، إنه من رأى عدوانا يعمل به، ومنكرا يدعى إليه،
فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من
صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين
السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق، ونور في
قلبه اليقين.
الشرح:
قد تقدم الكلام في النهى عن المنكر، وكيفية ترتيبه، وكلام أمير المؤمنين في
هذا الفصل مطابق (1) لما يقوله المتكلمون - رحمهم الله.
وقد ذكرنا فيما تقدم، وسنذكر فيما بعد من هذا المعنى ما يجب. وكان النهى عن
المنكر معروفا في العرب في جاهليتها، كان في قريش حلف الفضول، تحالفت قبائل
منها على أن يردعوا الظالم، وينصروا المظلوم، ويردوا عليه حقه ما بل بحر صوفه، وقد
ذكرنا فيما تقدم.

(1) د: (يطابق).
305

(380)
الأصل:
وقال عليه السلام في كلام له غير هذا يجرى هذا المجرى:
فمنهم المنكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير،
ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده، فذلك متمسك بخصلتين من خصال
الخير، ومضيع خصلة ومنهم المنكر بقلبه، والتارك بيده ولسانه، فذاك الذي
ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث، وتمسك بواحدة، ومنهم تارك لانكار
المنكر بلسانه وقلبه ويده، فذلك ميت الاحياء، وما أعمال البر كلها والجهاد
في سبيل الله عند الامر بالمعروف والنهى عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي،
وإن الامر بالمعروف ونهى عن المنكر لا يقربان من أجل، ولا ينقصان
من رزق، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر.
الشرح:
قد سبق قولنا في الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو أحد الأصول الخمسة
عند أصحابنا. لجة الماء: أعظمه، وبحر لجي: ذو ماء عظيم. والنفثة، الفعلة الواحدة
من نفثت الماء من فمي، أي قذفته بقوة. قال
عليه السلام: لا يعتقدن أحد إنه إن أمر ظالما بالمعروف، أو نهى ظالما عن
منكر، إن ذلك يكون سببا لقتل ذلك الظالم المأمور أو المنهي إياه، أو يكون سببا لقطع
رزقه من جهته، فإن الله تعالى قدر الاجل، وقضى الرزق، ولا سبيل لأحد أن يقطع
على أحد عمره أو رزقه.
306

وهذا الكلام ينبغي أن يحمل على إنه حث وحض وتحريض على النهى عن المنكر
والامر بالمعروف، ولا يحمل على ظاهره، لان الانسان لا يجوز أن يلقى بنفسه إلى
التهلكة، معتمدا على أن الاجل مقدر، وإن الرزق مقسوم، وإن الانسان متى غلب
على ظنه أن الظالم يقتله ويقيم على ذلك المنكر، ويضيف إليه منكرا آخر لم يجز له الانكار.
فأما كلمة العدل عند الامام الجائر فنحو ما روى أن زيد بن أرقم رأى عبيد الله بن زياد -
ويقال بل يزيد بن معاوية - يضرب بقضيب في يده ثنايا الحسين عليه السلام حين
حمل إليه رأسه، فقال له: أيها! ارفع يدك فطالما رأيت رسول الله صلى الله عليه
وآله يقبلها!
[فصل في الامر بالمعروف والنهى عن المنكر]
ونحن نذكر خلاصة ما يقوله أصحابنا في النهى عن المنكر، ونترك الاستقصاء فيه
للكتب الكلامية التي هي أولى ببسط القول فيها من هذا الكتاب.
قال أصحابنا: الكلام في ذلك يقع من وجوه: منها وجوبه، ومنها طريق وجوبه،
ومنها كيفية وجوبه، ومنها شروط حسنة، ومنها شروط وجوبه، ومنها كيفية إيقاعه،
ومنها الكلام في الناهي عن المنكر، ومنها الكلام في النهى عن المنكر.
أما وجوبه، فلا ريب فيه، لان المنكر قبيح كله، والقبيح يجب تركه، فيجب
النهى عنه.
وأما طريق وجوبه فقد قال الشيخ أبو بني هاشم
رحمه الله: إنه لا طريق إلى وجوبه
إلا السمع، وقد أجمع المسلمون على ذلك، وورد به نص القرآن في غير موضع.
307

قال الشيخ أبو علي - رحمه الله: العقل يدل على وجوبه، وإلى هذا القول مال شيخنا
أبو الحسين رحمه الله.
وأما كيفية وجوبه فإنه واجب على الكفاية دون الأعيان، لان الغرض ألا يقع
المنكر، فإذا وقع لأجل انكار طائفة لم يبق وجه لوجوب الانكار على من سواها.
وأما شروط حسنة فوجوه:
منها أن يكون ما ينكره قبيحا، لان إنكار الحسن وتحريمه قبيح، والقبيح على
ضروب: فمنه ما يقبح من كل مكلف، وعلى كل حال، كالظلم. ومنها ما يقبح من كل
مكلف على وجه دون وجه، كالرمي بالسهام، وتصريف الحمام، والعلاج بالسلاح، لان
تعاطى ذلك لمعرفة الحرب والتقوى على العدو، ولتعرف أحوال البلاد بالحمام حسن
لا يجوز إنكاره، وإن قصد بالاجتماع على ذلك الاجتماع على السخف واللهو ومعاشرة
ذوي الريب والمعاصي فهو قبيح يجب إنكاره.
ومنه ما يقبح من مكلف ويحسن من آخر على بعض الوجوه، كشرب النبيذ،
والتشاغل بالشطرنج، فأما من يرى حظرهما أو يختار تقليد من يفتى بحظرهما، فحرام
عليه تعاطيهما على كل حال، ومتى فعلهما حسن الانكار عليه، وأما من يرى
إباحتهما أو من يختار تقليد من يفتى بإباحتهما، فإنه يجوز له تعاطيهما على وجه
دون وجه، وذلك إنه يحسن شرب النبيذ من غير سكر ولا معاقرة والاشتغال بالشطرنج
للفرجة وتخريج الرأي والعقل، ويقبح ذلك إذا قصد به السخف، وقصد بالشرب
المعاقرة والسكر، فالثاني يحسن إنكاره ويجب، والأول لا يحسن إنكاره لأنه
حسن من فاعله.
ومنها أن يعلم المنكر أن ما ينكره قبيح، لأنه إذا جوز حسنه كان بإنكاره له
وتحريمه إياه محرما لما لا يأمن أن يكون حسنا، فلا يأمن أن يكون ما فعله من النهى
308

نهيا عن حسن، وكل فعل لا يأمن فاعله أن يكون مختصا بوجه قبيح فهو قبيح، ألا ترى
أنه يقبح من الانسان أن يخبر على القطع بأن زيدا في الدار إذا لم يأمن إلا يكون فيها،
لأنه لا يأمن أن يكون خبره كذبا!
ومنها أن يكون ما ينهى عنه واقعا: لان غير الواقع لا يحسن النهى عنه، وإنما
يحسن الذم عليه، والنهى عن أمثاله.
ومنها ألا يغلب على ظن المنكر إنه إن أنكر المنكر، فعله المنكر عليه، وضم
إليه منكرا آخر، ولو لم ينكر عليه لم يفعل المنكر الاخر، فمتى غلب على ظنه ذلك قبح
إنكاره، لأنه يصير مفسده، نحو أن يغلب على ظننا إنا إن أنكرنا على شارب الخمر
شربها شربها وقرن إلى شربها القتل، وإن لم ننكر عليه شربها ولم يقتل أحدا.
ومنها ألا يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر، فإن غلب على ظنه
ذلك قبح نهيه عند من يقول من أصحابنا أن التكليف من المعلوم منه أن يكفر لا يحسن،
إلا أن يكون فيه لطف لغير ذلك المكلف. وأما من يقول من أصحابنا أن التكليف
من المعلوم منه إنه يكفر حسن وإن لم يكن فيه لطف لغير المكلف، فإنه لا يصح منه
القول بقبح هذا الانكار.
فأما شرائط وجوب النهى عن المنكر فأمور:
منها أن يغلب على الظن وقوع المعصية نحو أن يضيق وقت صلاة الظهر، ويرى الانسان
لا يتهيأ للصلاة، أو يراه تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلته، ومتى لم يكن كذلك حسن
منا أن ندعوه إلى الصلاة، وإن لم يجب علينا دعاؤه.
ومنها ألا يغلب على ظن الناهي عن المنكر إنه إن أنكر المنكر لحقته في نفسه
وأعضائه مضرة عظيمة، فإن غلب ذلك على ظنه وإنه لا يمتنع من ينكر عليه من فعل
309

ما ينكره عليه أيضا، فإنه لا يجب عليه الانكار، بل ولا يحسن منه لأنه مفسدة.
وإن غلب على ظنه أنه لا يفعل ما أنكره عليه ولكنه يضر به، نظر فإن كان إضراره به
أعظم قبحا مما يتركه إذا أنكر عليه، فإنه لا يحسن الانكار عليه، لان الانكار عليه
قد صار والحالة هذه مفسدة، نحو أن ينكر الانسان على غيره شرب الخمر، فيترك شربها
ويقتله. وإن كان ما يتركه إذا أنكر عليه أعظم قبحا مما ينزل به من المضرة، نحو أن
يهم بالكفر، فإذا أنكر عليه تركه وجرح المنكر عليه أو قتله فإنه لا يجب عليه الانكار،
ويحسن منه الانكار، أما قولنا: لا يجب عليه الانكار، فلان الله تعالى قد أباحنا
التكلم بكلمة الكفر عند الاكراه، فبأن يبيحنا ترك غيرنا أن يتلفظ بذلك عند
الخوف على النفس أولى، وأما قولنا، إنه يحسن الانكار، فلان في الانكار مع
الظن لما ينزل بالنفس من المضرة اعزازا للدين، كما أن في الامتناع من إظهار كلمة
الكفر مع الصبر على قتل النفس إعزازا للدين، لا فضل بينهما.
فأما كيفية إنكار المنكر فهو أن يبتدئ بالسهل، فإن نفع وألا ترقى إلى الصعب،
لان الغرض ألا يقع المنكر، فإذا أمكن ألا يقع بالسهل فلا معنى لتكلف الصعب،
ولأنه تعالى أمر بالاصلاح قبل القتال في قوله: (فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على
الأخرى فقاتلوا التي تبغى (1).
فأما الناهي عن المنكر من هو؟ فهو كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه، لان
الله تعالى قال: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر) (2)، ولاجماع المسلمين على أن كل من شاهد غيره تاركا للصلاة غير محافظ
عليها فله أن يأمره بها، بل يجب عليه، إلا إن الامام وخلفاءه أولى بالانكار بالقتال،
لأنه أعرف بسياسة الحرب وأشد استعدادا لآلاتها. *

(1) سورة الحجرات 9.
(2) سورة آل عمران 104.
310

فأما المنهي من هو؟ فهو كل مكلف اختص بما ذكرناه من الشروط، وغير المكلف
إذا هم بالاضرار لغيره يمنع منه، ويمنع الصبيان وينهون عن شرب الخمر حتى لا يتعودوه،
كما يؤاخذون بالصلاة حتى يمرنوا عليها، وهذا ما ذكره أصحابنا.
فأما قوله عليه السلام: (ومنهم المنكر بلسانه وقلبه، والتارك بيده، فذلك متمسك
بخصلتين من خصال الخير، ومضيع خصله)، فإنه يعنى به من يعجز عن الانكار باليد
لمانع، لأنه لم يخرج هذا الكلام مخرج الذم، ولو كان لم يعن العاجز لوجب أن يخرج
الكلام مخرج الذم، لأنه ليس بمعذور في أن ينكر بقلبه ولسانه إذا أخل بالانكار
باليد مع القدرة على ذلك، وارتفاع الموانع.
وأما قوله: (ضيع أشرف الخصلتين) فاللام زائدة، وأصله (ضيع أشرف خصلتين
من الثلاث)، لأنه لا وجه لتعريف المعهود هاهنا في الخصلتين، بل تعريف الثلاث باللام
أولى، ويجوز حذفها من الثلاث، ولكن إثباتها أحسن، كما تقول: قتلت أشرف
رجلين من الرجال الثلاثة.
وأما قوله: (فذلك ميت الاحياء)، فهو نهاية ما يكون من الذم.
واعلم أن النهى عن المنكر، والامر بالمعروف عند أصحابنا أصل عظيم من أصول
الدين: وإليه تذهب الخوارج الذين خرجوا على السلطان، متمسكين بالدين وشعار
الاسلام، مجتهدين في العبادة، لأنهم إنما خرجوا لما غلب على ظنونهم، أو علموا
جور الولاة وظلمهم، وإن أحكام الشريعة قد غيرت، وحكم بما لم يحكم به الله،
وعلى هذا الأصل تبنى الإسماعيلية من الشيعة قتل ولاة الجور غيلة، وعليه بناء أصحاب
الزهد في الدنيا الانكار على الامراء والخلفاء، ومواجهتهم بالكلام الغليظ لما عجزوا
عن الانكار باليد، وبالجملة فهو أصل شريف أشرف من جميع أبواب البر والعبادة،
كما قال أمير المؤمنين عليه السلام.
311

(381)
الأصل:
وروى أبو جحيفة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول:
إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم
بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفا ولم ينكر منكرا، قلب فجعل أعلاه
أسفله، وأسفله أعلاه.
الشرح:
إنما قال ذلك لان الانكار بالقلب آخر المراتب، وهو الذي لا بد منه على كل
حال، فأما الانكار باللسان وباليد فقد يكون منهما بد، وعنهما عذر، فمن ترك
النهى عن المنكر بقلبه، والامر بالمعروف بقلبه، فقد سخط الله عليه لعصيانه، فصار
كالممسوخ الذي يجعل الله تعالى أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه تشويها لخلقته، ومن يقول
بالأنفس الجسمانية، وإنها بعد المفارقة يصعد بعضها إلى العالم العلوي: وهي نفوس الأبرار
وبعضها ينزل إلى المركز، وهي نفوس الأشرار، يتأول هذا الكلام على مذهبه، فيقول:
إن من لا يعرف بقلبه معروفا، أي لا يعرف من نفسه باعثا عليه ولا متقاضيا بفعله،
ولا ينكر بقلبه منكرا، أي لا يأنف منه ولا يستقبحه، ويمتعض من فعله يقلب نفسه
التي قد كان سبيلها أن تصعد إلى عالمها فتجعل هاوية في حضيض الأرض، وذلك عندهم
هو العذاب والعقاب.
312

(382)
الأصل:
إن الحق ثقيل مرئ، وإن الباطل خفيف وبئ.
الشرح:
تقول مرؤ الطعام بالضم، يمرؤ مراءة فهو مرئ على (فعيل) مثل خفيف
وثقيل، وقد جاء مرئ الطعام بالكسر، كما قالوا فقه الرجل وفقه. ووبئ البلد بالكسر
يوبأ وباءة فهو وبئ على (فعيل) أيضا، ويجوز فهو وبئ على (فعل) مثل
حذر وأشر.
يقول عليه السلام الحق وإن كان ثقيلا إلا أن عاقبته محمودة، ومغبته صالحة،
والباطل وإن كان خفيفا إلا أن عاقبته مذمومة، ومغبته غير صالحة، فلا يحملن أحدكم
حلاوة عاجل الباطل على فعله، فلا خير في لذة قليلة عاجلة، يتعقبها مضار عظيمة
آجلة، ولا يصرفن أحدكم عن الحق ثقله فإنه سيحمد عقبى ذلك، كما يحمد شارب
الدواء المر شربة فيما بعد إذا وجد لذة العافية.
313

(383)
الأصل:
لا تأمنن على خير هذه الأمة عذاب الله، لقوله سبحانه وتعالى: (فلا يأمن
مكر الله إلا القوم الخاسرون) (1) ولا تيأسن لشر هذه الأمة من روح الله تعالى،
(إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (2).
الشرح:
هذا كلام ينبغي أن يحمل على إنه أراد عليه السلام النهى عن القطع على مغيب أحد
من الناس، وإنه لا يجوز لأحد أن يقول فلان قد نجا، ووجبت له الجنة، ولا فلان
قد هلك ووجبت له النار، وهذا القول حق، لان الأعمال الصالحة لا يحكم لصاحبها
بالجنة الا بسلامة العاقبة، وكذلك الأعمال السيئة لا يحكم لصاحبها بالنار إلا أن مات
عليها، فأما الاحتجاج بالآية الأولى فلقائل أن يقول: إنها لا تدل على ما أفتى عليه
السلام به، وذلك لان معناها إنه لا يجوز للعاصي أن يأمن مكر الله على نفسه، وهو
مقيم على عصيانه، ألا ترى أن أولها: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا
وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا
مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) (3)، وليست دالة على ما نحن

(1) سورة الأعراف 99.
(2) سورة يوسف 87.
(3) سورة الأعراف 97 - 99.
314

فيه، لان الذي نحن فيه: هل يجوز لأحد أن يأمن على الصالحين من هذه الأمة
عذاب الله.
فأما الآية الثانية فالاحتجاج بها جيد لا شبهة فيه، لأنه يجوز أن يتوب العاصي
والتوبة من روح الله.
فإن قلت: وكذاك يجوز أن يكفر المسلم المطيع.
قلت: صدقت، ولكن كفره ليس من مكر الله، فدل على أن المراد بالآية إنه
لا ينبغي للعاصي أن يأمن من عقوبة الله ما دام عاصيا، وهذا غير مسألتنا.
315

(384)
الأصل:
البخل جامع لمساوئ العيوب، وهو زمام يقاد به إلى كل سوء.
الشرح:
قد تقدم القول في البخل والشح. ونحن نذكر هاهنا زيادات أخرى.
[أقوال مأثورة في الجود والبخل]
قال بعض الحكماء: السخاء هيئة للانسان، داعيه إلى بذل المقتنيات، حصل معه
البذل لها أو لم يحصل، وذلك خلق،
ويقابله الشح، وأما الجود، فهو بذل المقتني، ويقابله البخل، هذا هو الأصل، وإن كان كل واحد منها قد يستعمل في موضع
الاخر، والذي يدل على صحة هذا الفرق إنهم جعلوا اسم الفاعل من السخاء والشح على
بناء الافعال الغريزية، فقالوا: شحيح وسخي، فبنوه على (فعيل) كما قالوا: حليم
وسفيه وعفيف، وقالوا: جائد وباخل، فبنوهما على (فاعل) كضارب وقاتل، فأما
قولهم: بخيل، فمصروف عن لفظ (فاعل) للمبالغة، كقولهم في راحم رحيم، ويدل أيضا
على أن السخاء غريزة وخلق إنهم لم يصفوا البارئ سبحانه، به فيقولوا سخي، فأما الشح
فقد عظم أمره وخوف منه، ولهذا قال عليه السلام: (ثلاث مهلكات: شح مطاع،
وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)، فخص المطاع تنبيها على أن وجود الشح
316

في النفس فقط ليس مما يستحق به ذم لأنه ليس من فعله، وإنما يذم بالانقياد له، قال
سبحانه: (ومن يوق شح نفسه) (1)، وقال: (وأحضرت الأنفس الشح) (2).
وقال عليه السلام: لا يجتمع شح وأيمان في قلب أبدا.
فأما الجود فإنه محمود على جميع السنة العالم، ولهذا قيل: كفى بالجود مدحا أن
اسمه مطلقا لا يقع إلا في حمد، وكفى بالبخل ذما أن اسمه مطلقا لا يقع إلا في ذم.
وقيل لحكيم: أي أفعال البشر أشبه بأفعال الباري سبحانه؟ فقال: الجود.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: (الجود شجرة من أشجار الجنة، من أخذ بغصن من
أغصانها أداه إلى الجنة، والبخل شجرة من أشجار النار من أخذ بغصن من أغصانها
أداه إلى النار).
ومن شرف الجود أن الله سبحانه قرن ذكره بالايمان، ووصف أهله بالفلاح،
والفلاح اسم جامع لسعادة الدارين، قال سبحانه: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون
الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) إلى قوله: (وأولئك هم المفلحون) (3) وقال (ومن
يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (4).
وحق للجود بأن يقرن بالايمان، فلا شئ أخص به وأشد مجانسة له منه، فإن من
صفة المؤمن انشراح الصدر، كما قال تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره
للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء) (5)، وهذا
من صفات الجواد والبخيل، لان الجواد واسع الصدر، منشرح مستبشر للانفاق
والبذل، والبخيل قنوط ضيق الصدر، حرج القلب ممسك.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: (وأي داء أدوأ من البخل).
والبخل على ثلاثة أضرب: بخل الانسان بماله على نفسه، وبخله بماله على غيره، وبخله

(1) سورة التغابن 16.
(2) سورة النساء 128.
(3) سورة البقرة 3 - 5.
(4) سورة الحشر 9.
(5) سورة الأنعام 125.
317

بمال غيره على نفسه أو على غيره وأفحشها بخله بمال غيره على نفسه، وأهونها - وإن كان
لا هين فيها - بخله بماله على غيره.
وقال عليه السلام: (اللهم اجعل لمنفق خلفا، ولممسك تلفا).
وقال: (إن الله عز وجل ينزل المعونة على قدر المؤونة).
وقال أيضا: (من وسع وسع عليه).
وقالت الفلاسفة: الجود على أقسام: فمنها الجود الأعظم، وهو الجود الإلهي،
وهو الفيض العام المطلق، وإنما يختلف لاختلاف المواد واستعداداتها، وإلا فالفيض
في نفسه عام غير خاص، وبعده جود الملوك، وهو الجود بجزء من المال على من تدعوهم
الدواعي والأغراض إلى الجود عليه، ويتلوه جود السوقة، وهو بذل المال للعفاة أو
الندامى والشرب والمعاشرين والاحسان إلى الأقارب.
قالوا واسم الجود مجاز، إلا الجود (1) الإلهي العام، فإنه عار عن الغرض والداعي.
وأما من يعطى لغرض وداع نحو أن يحب الثناء والمحمدة، فإنه مستعيض وتاجر يعطى
شيئا، ليأخذ شيئا قالوا قول أبي نؤاس
فتى يشترى حسن الثناء * بماله ويعلم أن الدائرات تدور
ليس بغاية في الوصف بالجود التام، بل هو وصف بتجارة محمودة، وأحسن منه قول
ابن الرومي
وتاجر البر لا يزال له * ربحان في كل متجر تجره
أجر وحمد وإنما طلب الاجر * ولكن كلاهما اعتوره.
وأحسن منهما قول بشار
ليس يعطيك للرجاء ولا الخوف * ولكن يلذ طعم العطاء (2)
ونحن قد ذكرنا ما في هذا الموضع من البحث العقلي في كتبنا العقلية

(1) ب: (على الجود).
318

(385)
الأصل:
يا بن آدم، الرزق رزقان. رزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك،
فلا تحمل هم سنتك على هم يومك، كفاك كل يوم ما فيه، فإن تكن السنة من
عمرك فإن الله تعالى سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك، وإن لم تكن السنة
من عمرك فما تصنع بالهم فيما ليس لك، ولم يسبقك إلى رزقك طالب، ولن
يغلبك عليه غالب، ولن يبطئ عنك ما قد قدر لك.
قال: وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم من هذا الباب، إلا إنه هاهنا أوضح
واشرح، فلذلك كررناه على القاعدة المقررة في أول هذا الكتاب.
الشرح:
قد تقدم القول في معاني هذا الفصل، وروى أن جماعة دخلوا على الجنيد،
فاستأذنوه في طلب الرزق، فقال: إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه: قالوا فنسأل
الله تعالى ذلك، قال: إن علمتم إنه ينساكم فذكروه، قالوا فندخل البيت ونتوكل
وننتظر ما يكون، فقال: التوكل على التجربة شك، قالوا: فما الحيلة؟ قال:
ترك الحيلة.
وروى أن رجلا لازم باب عمر فضجر منه، فقال له: يا هذا، هاجرت إلى الله
تعالى أم إلى باب عمر؟ إذهب فتعلم القرآن، فإنه سيغنيك عن باب عمر، فذهب الرجل
319

وغاب مدة حتى افتقده عمر، فإذا هو معتزل مشتغل بالعبادة، فأتاه عمر فقال له: إني
اشتقت إليك، فما الذي شغلك عنا! قال: إني قرأت القرآن فأغناني عن عمر وآل عمر،
فقال: رحمك الله، فما وجدت فيه؟ قال: وجدت فيه (وفي السماء رزقكم
وما توعدون) (1)، فقلت: رزقي في السماء، وأنا أطلبه في الأرض، إني لبئس الرجل،
فبكى عمر وقال: صدقت، وكان بعد ذلك ينتابه ويجلس إليه.

(1) سورة الذاريات 22.
320

(386)
الأصل:
رب مستقبل يوما ليس بمستدبره، ومغبوط في أول ليلة قامت بواكيه
في آخره (1).
الشرح:
مثل هذا قول الشاعر
يا راقد الليل مسرورا بأوله * إن الحوادث قد يطرقن أسحارا.
ومثله:
لا يغرنك عشاء ساكن * قد يوافي بالمنيات السحر

(1) في د (ومغبوط في أول ليل قامت بواكيه في آخره).
321

(387)
الأصل:
الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقة،
فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فرب كلمة سلبت نعمة.
الشرح:
قد تقدم القول في مدح الصمت وذم الكلام الكثير.
وكان يقال لا خير في الحياة إلا لصموت واع، أو ناطق محسن.
وقيل لحذيفة: قد أطلت سجن لسانك، فقال: لأنه غير مأمون [إذا أطلق] (1).
ومن أمثال العرب: رب كلمه تقول: دعني.
وقالوا أصلها إن بعض ملوك الحيرة كان قد استراب ببعض خولة، فنزل يوما وهو
يتصيد على تلعة، ونزل أصحابه حوله فأفاضوا في حديث كثير، فقال ذلك الانسان:
أترى لو أن رجلا ذبح على رأس هذه التلعة هل كان يسيل دمه إلى أول الغائط؟ فقال
الملك: هلموا فاذبحوه لننظر، فذبحوه، فقال: الملك رب كلمة تقول: دعني.
وقال أكثم بن صيفي: من إكرام الرجل نفسه ألا يتكلم بكل ما يعلم.
وتذاكر قوم من العرب وفيهم رجل باهلي ساكت، فقيل له بحق ما سميتم
خرس العرب (2)، فقال: أما علمتم أن لسان المرء لغيره، وسمعه لنفسه!

(1) من ا، د.
(2) كذا في ا، وبعدها في ب: فقالوا له: لم لا تتكلم؟ فقال: أما علمتم....).
322

(388)
الأصل:
لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم، فإن الله سبحانه قد فرض
على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة.
الشرح:
هذا نهى عن الكذب، وأن تقول ما لا تأمن من كونه كذبا، فإن الامرين
كليهما قبيحان عقلا عند أصحابنا.
فإن قلت: كيف يقول أصحابكم أن الخبر الذي لا يأمن كونه كذبا قبيح، والناس
يستحسنون الاخبار عن المظنون (1).
قلت: إذا قال الانسان: زيد في الدار وهو يظنه في الدار ولا يقطع عليه، فإن الحسن
منه أن يخبر عن ظنه كان يقول أخبر عن إني أظن أن زيدا في الدار، وإذا كان
هذا هو تقديره فالخبر إذن خبر عن معلوم لا عن مظنون، لأنه قاطع على إنه ظان أن
زيدا في الدار.
فأما إذا فرض الخبر لا على هذا الوجه بل على القطع بأن زيدا في الدار، وهو لا يقطع
على أن زيدا في الدار فقد أخبر بخبر ليس على ما أخبر به عنه، لأنه أخبر عن إنه
قاطع، وليس بقاطع، فكان قبيحا

(1) كذا في ا، ب وفى د: (المظنونات).
323

(389)
الأصل:
احذر أن يراك الله عند معصيته، ويفقدك عند طاعته، فتكون من
الخاسرين، وإذا قويت فاقو على طاعة الله، وإذا ضعفت فاضعف عن
معصية الله.
الشرح:
من علم يقينا إن الله تعالى يراه عند معصيته، كان أجد الناس أن يجتنبها، كما إذا علمنا
يقينا أن الملك يرى الواحد منا وهو يراود جاريته عن نفسها، أو يحادث ولده ليفجر به،
ولكن اليقين في البشر ضعيف جدا، أو إنهم أحمق الحيوان وأجهله، وبحق أقول إنهم
إن اعتقدوا ذلك اعتقادا لا يخالطه الشك، ثم واقعوا المعصية، وعندهم عقيدة أخرى
ثابتة إن العقاب لاحق بمن عصى، فإن الإبل والبقر أقرب إلى الرشاد منهم.
وأقول إن الذي جرأ الناس على المعصية الطمع في المغفرة، والعفو العام. وقولهم:
الحلم والكرم والصفح من أخلاق ذوي النباهة والفضل من الناس، فكيف لا يكون
من الباري سبحانه عفو عن الذنوب!
وما أحسن قول شيخنا أبى على رحمه الله: لولا القول بالارجاء، لما عصى الله
في الأرض.
324

(390)
الأصل:
الركون إلى الدنيا مع ما تعاين منها جهل، والتقصير في حسن العمل
إذا وثقت بالثواب عليه غبن، والطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار
له عجز.
الشرح:
قد تقدم الكلام في الدنيا وحمق من يركن إليها مع معاينة غدرها، وقلة وفائها
ونقضها عهودها، وقتلها عشاقها.
ولا ريب أن الغبن وأعظم الغبن هو التقصير في الطاعة مع يقين الثواب عليها،
وأما الطمأنينة إلى من لم يعرف ولم يختبر فإنها عجز - كما قال عليه السلام - يعنى عجزا
في العقل والرأي، فان الوثوق مع التجربة فيه ما فيه، فكيف قبل التجربة!
وقال الشاعر:
وكنت أرى إن التجارب عدة * فخانت ثقات الناس حين التجارب
325

(391)
الأصل:
من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده
إلا بتركها.
الشرح:
هذا الكلام نسبه الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين إلى أبى الدرداء،
والصحيح إنه من كلام علي عليه السلام، ذكره شيخنا أبو عثمان الجاحظ في غير موضع
من كتبه، وهو أعرف بكلام الرجال
[نبذ مما قيل في حال الدنيا وهوانها واغترار الناس بها]
وقد تقدم من كلامنا في حال الدنيا وهوانها على الله واغترار الناس بها وغدرها
بهم (1)، وذم العقلاء لها، وتحذيرهم منها ما فيه كفاية.
ونحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك.
يقال إن في بعض كتب الله القديمة: الدنيا غنيمة الأكياس، وغفلة الجهال،
لم يعرفوها حتى خرجوا منها فسألوا الرجعة فلم يرجعوا.
وقال بعض العارفين: من سأل الله [تعالى] (2) الدنيا فإنما سأله طول الوقوف
بين يديه.

(1) ا: (وغدرهم بها).
(2) من د.
326

وقال الحسن: لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث: إنه لم يشبع
مما جمع، ولم يدرك ما أمل، ولم يحسن الزاد لما يقدم (1) عليه.
ومن كلامه: أهينوا الدنيا، فوالله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها.
وقال محمد بن المنكدر (2): أرأيت لو أن رجلا صام الدهر لا يفطر، وقام الليل لا يفتر،
وتصدق بماله، وجاهد في سبيل الله، واجتنب محارم الله تعالى، غير أنه يؤتى به يوم القيامة
فيقال: إن هذا مع ما قد عمل كان يعظم في عينه ما صغر الله، ويصغر في عينه ما عظم الله،
كيف ترى يكون حاله! فمن منا ليس هكذا، الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب
والخطايا.
وقد ضربت الحكماء مثلا للدنيا نحن نذكره هاهنا، قالوا مثل الدنيا وأهلها
كقوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة
وحذرهم المقام، وخوفهم مرور السفينة، واستعجالها، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى
بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة، فصادف المكان خاليا، فأخذ أوسع المواضع وألينها
وأوفقها لمراده. وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة، وغياضها
الملتفة، ونغمات طيورها الطيبة، وألحانها الموزونة الغريبة، ولحظ في تزيينها أحجارها
وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان ذوات الاشكال الحسنة المنظر، العجيبة النقش،
السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجها، وعجائب صورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة،
فرجع إليها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا حرجا، فاستقر فيه، وبعضهم أكب فيها على تلك
الأصداف والأحجار، وقد أعجبه حسنها، ولم تسمح نفسه بإهمالها وتركها، فاستصحب
منها جملة، فجاء إلى السفينة فلم يجد إلا مكانا ضيقا، وزاده ما حمله ضيقا، وصار ثقلا عليه
ووبالا، فندم على أخذه، ولم تطعه نفسه على رميه، ولم يجد موضعا له، فحمله على عنقه

(1) ا: (قدم عليه).
(2) كذا في ا، وهو الصواب، وفى ب، د: (المنذر).
327

ورأسه، وجلس في المكان الضيق في السفينة، وهو متأسف على أخذه ونادم، وليس
ينفعه ذلك، وبعضهم تولج بتلك الأنوار والغياض، ونسي السفينة وأبعد في متفرجه
ومتنزهه، حتى إن نداء الملاح لم يبلغه لاشتغاله بأكل تلك الثمار، واشتمامه تلك
الأنوار، والتفرج بين تلك الأشجار، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع،
والسقطات والنكبات، ونهش الحيات، وليس ينفك عن شوك يتشبث بثيابه، وغصن
يجرح جسمه، ومروة تدمى رجله، وصوت هائل يفزع منه، وعوسج يملأ طريقه،
ويمنعه عن الانصراف لو أراده، وكان في جماعة ممن كان معه في السفينة حالهم حاله، فلما
بلغهم نداء السفينة راح بعضهم مثقلا بما معه فلم يجد في السفينة موضعا واسعا ولا ضيقا،
فبقي على الشط حتى مات جوعا. وبعضهم بلغه النداء، فلم يعرج عليه، واستغرقته اللذة،
وسارت السفينة، فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه وهام على وجهه حتى هلك،
ومنهم من ارتطم في الأوحال، ومنهم من نهشته الحيات، فتفرقوا هلكى كالجيف
المنتنة. فأما من وصل إلى السفينة مثقلا بما أخذه من الأزهار والفاكهة اللذيذة،
والأحجار المعجبة، فإنها استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من ذهابها عن جميع
أموره، وضاق عليه بطريقها مكانه، فلم تلبث أن ذبلت تلك الأزهار، وفسدت تلك
الفاكهة الغضة، وكمدت ألوان الأحجار وحالت، فظهر له نتن رائحتها، فصارت مع
كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها، فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هربا منها وقد
أثر في مزاجه ما أكله منها، فلم ينته إلى بلده إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بما أكل
وما شم من تلك الروائح، فبلغ سقيما وقيذا مدبرا، وأما من كان رجع عن قريب وما فاته
إلا سعة المحل، فإنه تأذى بضيق المكان مدة، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح،
وأما من رجع أولا فإنه وجد المكان الأوسع، ووصل إلى الوطن سالما طيب القلب
مسرورا.
328

فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم ومصدرهم،
وغفلتهم عن عاقبة أمرهم، وما أقبح حال من يزعم أنه بصير عاقل وتغره حجارة الأرض،
وهي الذهب والفضة، وهشيم النبت وهو زينة الدنيا، وهو يعلم يقينا أن شيئا من ذلك
لا يصحبه عند الموت، بل يصير كله وبالا عليه، وهو في الحال الحاضرة شاغل له بالخوف
عليه، والحزن والهم لحفظه، وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله.
وقد ضرب أيضا لها مثال آخر في عبور الانسان عليها، قالوا الأحوال ثلاثة:
حال لم يكن الانسان فيها شيئا، وهي ما قبل وجوده إلى الأزل، وحال لا يكون فيها
موجودا مشاهدا للدنيا، وهي بعد موته إلى الأبد، وحالة متوسطة بين الأزل والأبد،
وهي أيام حياته في الدنيا، فلينظر العاقل إلى الطرفين الطويلين، ولينظر إلى الحالة
المتوسطة، هل يجد لها نسبه إليها (1)، وإذا رأى العاقل الدنيا بهذه العين لم يركن إليها،
ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها، في ضر وضيق، أو في سعة ورفاهة، بل لا يبنى لبنة
على لبنة، توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وما وضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على
قصبة. و رأى بعض الصحابة بنى بيتا من جص فقال: أرى الامر أعجل من هذا،
وأنكر ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله: ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثلها كراكب
سار في يوم صائف، فرفعت له شجرة فقام تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها، وإلى
هذا أشار عيسى بن مريم حيث قال: الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها، وهو مثل
صحيح، فإن الحياة الدنيا قنطرة إلى الآخرة، والمهد هو أحد جانبي القنطرة، واللحد
الجانب الآخر، وبينهما مسافة محدودة، فمن الناس من قطع نصف القنطرة، ومنهم من
قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيفما كان فلا بد
من العبور والانتهاء، ولا ريب أن عمارة هذه القنطرة، وتزيينها بأصناف الزينة لمن

(1) كذا في ا، وفى ب، د: (إليهما).
329

هو محمول قسرا وقهرا على عبورها، يسوقه سائق عنيف، غاية الجهل والخذلان.
وفي الحديث المرفوع: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله مر على شاة ميتة، فقال:
أترون أن هذه الشاة هينه على أهلها: قالوا: نعم، ومن هوانها ألقوها، فقال: والذي
نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها، ولو كانت الدنيا تعدل عند
الله جناح بعوضه لما سقى كافرا منها شربة ماء).
وقال صلى الله عليه وآله: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر).
وقال أيضا: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما كان لله منها).
وقال أيضا: (من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه،
فآثروا ما يبقى على ما يفنى).
وقال أيضا: (حب الدنيا رأس كل خطيئة).
وروى زيد بن أرقم قال: كنا مع أبي بكر، فدعا بشراب، فأتى بماء وعسل،
فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه، فسكتوا وما سكت، ثم عاد ليشرب، فبكى
حتى ظنوا إنهم لا يقدرون على مسألته، ثم مسح عينيه، فقالوا: يا خليفة رسول الله،
ما أبكاك؟ قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله فرأيته يدفع بيده عن نفسه
شيئا، ولم أر معه أحدا، فقلت: يا رسول الله، ما الذي تدفع عن نفسك؟ قال: هذه
الدنيا مثلت لي، فقلت لها: إليك عنى فرجعت وقالت: إنك إن أفلت منى لم يفلت
منى من بعدك. وقال صلى الله عليه وآله: (يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود
وهو يسعى لدار الغرور!).
ومن الكلام المأثور عن عيسى عليه السلام: لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم الدنيا
عبيدا، فاكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه، فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه
الآفة، وصاحب كنز الآخرة لا يخاف عليه.
330

(392)
الأصل:
من أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه.
وفى رواية أخرى: من فاته حسب نفسه، لم ينفعه حسب آبائه.
الشرح:
قد تقدم مثل هذا، وقد ذكرنا ما عندنا فيه، وقال الشاعر:
لئن فخرت بآباء ذوي حسب * لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا.
وكان يقال: أجهل الناس من افتخر بالعظام البالية، وتبجح بالقرون الماضية،
واتكل على الأيام الخالية.
وكان يقال: من طريف الأمور حي يتكل على ميت. وكان يقال: ضعة الدنئ
في نفسه والرفيع في أصله، أقبح من ضعه الوضيع في نفسه وأصله، لان هذا تشبه بآبائه
وسلفه، وذاك قصر عن أصله وسلفه، فهو إلى الملامة أقرب، وعن العذر أبعد.
إفتخر شريف بأبيه، فقال خصمه: لو وفقت، لما ذكرت أباك، لأنه حجة عليك
تنادى بنقصك، وتقر بتخلفك.
كان جعفر بن يحيى يقول: ليس من الكرام من افتخر بالعظام.
وقال الفضل بن الربيع: كفى بالمرء عارا أن يفتخر بغيره.
331

وقال الرشيد: من افتخر بآبائه فقد نادى على نفسه بالعجز، وأقر على
همته بالدناءة.
وقال ابن الرومي:
وما الحسب الموروث لا در دره * بمحتسب إلا بآخر مكتسب
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبه * من الثمرات اعتده الناس في الحطب.
وقال عبد الله بن جعفر:
لسنا - وإن أحسابنا كرمت - * يوما على الاباء نتكل
نبني كما كانت أوائلنا * تبنى، ونفعل مثل ما فعلوا
وقال آخر:
وما فخري بمجد قام غيري * إليه إذا رقدت الليل عنه
إلى حسب الفتى في نفسه انظر * ولا تنظر هديت إلى ابن من هو
وقال آخر:
إذا فخرت بآبائي وأجدادي * فقد حكمت على نفسي لأضدادي
هل نافعي أن سعى جدي لمكرمة * ونمت عن أختها في جانب الوادي!
وقال آخر:
أيقنعني كوني بمن كوني ابنه * أبا لي أن أرضى لفخري بمجده
إذا المرء لم يحو العلاء بنفسه * فليس بحاو للعلاء بجده
وهل يقطع السيف الحسام بأصله * إذا هو لم يقطع بصارم حده!
وقيل لرجل يدل بشرف آبائه: لعمري لك أول، ولكن ليس لا ولك آخر.
332

ومثله أن شريفا بآبائه فاخر شريفا بنفسه، فقال: الشريف بنفسه انتهى إليك شرف
أهلك، ومنى ابتدأ شرف أهلي، وشتان بين الابتداء والانتهاء!
وقيل لشريف ناقص الأدب: إن شرفك بأبيك لغيرك، وشرفك بنفسك لك، فافرق بين ما
لك وما لغيرك، ولا تفرح بشرف النسب، فإنه دون شرف
الأدب.
333

(393)
الأصل:
من طلب شيئا ناله أو بعضه.
الشرح:
هذا مثل قولهم: من طلب وجد وجد.
وقال بعض الحكماء: ما لازم أحد باب الملك فاحتمل الذل وكظم الغيظ ورفق
بالبواب وخالط الحاشية إلا وصل إلى حاجته من الملك
334

(394)
الأصل:
ما خير بخير بعده النار، وما شر بشر بعده الجنة، وكل نعيم دون الجنة
محقور، وكل بلاء دون النار عافية.
الشرح:
موضع (بعده النار) رفع لأنه صفة (خير) الذي بعد (ما)، وخير يرفع لأنه
اسم ما، وموضع الجار والمجرور نصب لأنه خبر ما، والباء زائدة، مثلها في قولك:
ما أنت بزيد، كما تزاد في خبر ليس، والتقدير ما خير تتعقبه النار بخير، كما تقول: ما لذة
تتلوها نغصة بلذة، ولا ينقدح في ما: الوجهان اللذان ذكرهما أرباب الصناعة النحوية في
(لا) في قولهم: لا خير بخير بعده النار، أحدهما ما ذكرناه في (ما) والاخر أن يكون
موضع (بعده النار) جرا لأنه صفة خير المجرور، ويكون معنى الباء معنى في كقولك:
زيد بالدار وفى الدار، ويصير تقدير الكلام، لا خير في خير تعقبه النار، وذلك أن
ما تستدعي خبرا موجودا في الكلام، بخلاف لا، فان خبرها محذوف في مثل قولك:
لا إله إلا الله، ونحوه، أي في الوجود أو لنا أو ما أشبه ذلك، وإذا جعلت بعده صفه
خير المجرور لم يبق معك ما تجعله خبر ما.
وأيضا فإن معنى الكلام يفسد في ما بخلاف لا، لان لا لنفى الجنس، فكأنه
335

نفى جنس الخير عن خير تتعقبه النار، وهذا معنى صحيح، وكلام منتظم، وما هاهنا
إن كانت نافية احتاجت إلى خبر ينتظم به الكلام، وإن كانت استفهاما فسد المعنى،
لان (ما) لفظ يطلب به معنى الاسم، كقوله: ما العنقاء، أو يطلب به حقيقة الذات،
كقولك، ما الملك؟ ولست تطيق أن تدعى أن ما للاستفهام هاهنا عن أحد القسمين
مدخلا لأنك تكون كأنك قد قلت: أي شئ هو خير في خير تتعقبه النار؟ وهذا
كلام لا معنى له
336

(395)
الأصل:
الا وإن من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض
البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب، الا وإن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة
البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب.
الشرح:
قد تقدم الكلام في الفاقة والغنى، فأما المرض والعافية ففي الحديث المرفوع:
(إليك انتهت الأماني يا صاحب العافية). فأما مرض القلب وصحته فالمراد به التقوى
وضدها، وقد سبق القول في ذلك.
وقال أحمد بن يوسف الكاتب:
المال للمرء في معيشته * خير من الوالدين والولد
وإن تدم نعمة عليك تجد * خيرا من المال صحة الجسد
وما بمن نال فضل عافية * وقوت يوم فقر إلى أحد
337

(396)
الأصل:
للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجى فيها ربه، وساعة يرم فيها معايشه،
وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل، وليس للعاقل أن
يكون شاخصا إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في
غير محرم.
الشرح:
تقدير الكلام: ينبغي أن يكون زمان العاقل مقسوما ثلاثة أقسام:
ويرم معاشه: يصلحه. وشاخصا: راحلا. وخطوة في معاد، يعنى في عمل المعاد،
وهو العبادة والطاعة.
وكان شيخنا أبو علي رحمه الله يقسم زمانه على ما أصف لك، كان يصلى الصبح
والكواكب طالعة، ويجلس في محرابه للذكر والتسبيح إلى بعد طلوع الشمس بقليل،
ثم يتكلم مع التلامذة وطلبه العلم إلى ارتفاع النهار، ثم يقوم فيصلى الضحى، ثم يجلس
فيتمم البحث مع التلامذة إلى أن يؤذن للظهر، فيصليها بنوافلها، ثم يدخل إلى أهله
فيصلح شأنه، ويقضى حوائجه، ثم يخرج للعصر فيصليها بنوافلها، ويجلس مع التلامذة
إلى المغرب فيصليها، ويصلى العشاء، ثم يشتغل بالقرآن إلى ثلث، الليل ثم ينام الثلث
الأوسط، ثم يقعد فيصلى الثلث الأخير كله إلى الصبح.
338

(397)
الأصل:
أزهد في الدنيا يبصرك الله عوراتها، ولا تغفل فلست بمغفول عنك.
الشرح:
أمره بالزهد في الدنيا، وجعل جزاء الشرط تبصير الله تعالى له عورات الدنيا،
وهذا حق، لان الراغب في الدنيا عاشق لها، والعاشق لا يرى عيب معشوقه، كما
قال القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة * ولكن عين السخط تبدى المساويا (1)
فإذا زهد فيها فقد سخطها وإذا سخطها أبصر عيوبها مشاهده لا رواية.
ثم نهاه عن الغفلة، وقال له إنك غير مغفول عنك، فلا تغفل أنت عن نفسك،
فإن أحق الناس وأولاهم الا يغفل عن نفسه من ليس بمغفول عنه، ومن عليه رقيب
شهيد يناقشه على الفتيل والنقير (2).

(1) هو عبد الله بن معاوية، الأغاني 12: 214 (طبعة دار الكتب).
(2) الفتيل: ما يكون في شق النواة، والنقير: النقرة التي في ظاهر النواة.
339

(398)
الأصل:
تكلموا تعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه.
الشرح:
هذه إحدى كلماته عليه السلام التي لا قيمة لها، ولا يقدر قدرها، والمعنى قد تداوله
الناس قال:
وكائن ترى من صامت لك معجب * زيادته أو نقصه في التكلم (1)
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبق إلا صورة اللحم والدم.
وكان يحيى بن خالد يقول ما جلس إلى أحد قط إلا هبته حتى يتكلم، فإذا
تكلم إما أن تزداد الهيبة أو تنقص.

(1) ينسبان لزهير، من معلقته بشرح الزوزني 94، وينسبان أيضا للأحنف بن قيس، وانظر
سرح العيون 112.
340

(399)
الأصل:
نعم الطيب المسك، خفيف محمله، عطر ريحه.
[فصل فيما ورد في الطيب من الآثار]
الشرح:
كان النبي صلى الله عليه وآله كثير التطيب بالمسك وبغيره من أصناف الطيب.
وجاء الخبر الصحيح عنه: (حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة
عيني في الصلاة).
وقد رويت لفظة أمير المؤمنين عليه السلام عنه مرفوعة. ونحوها: (لا تردوا
الطيب فإنه طيب الريح، خفيف المحمل).
سرق أعرابي نافجة مسك، فقيل له: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) (1)،
قال: إذن أحملها طيبه الريح، خفيفة المحمل.
وفى الحديث المرفوع إنه عليه السلام بايع قوما كان بيد رجل منهم ردع (2) خلوق،
فبايعه بأطراف أصابعه، وقال: (خير طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفى لونه، وخير
طيب النساء ما ظهر لونه وخفى ريحه).
وعنه عليه السلام في صفه أهل الجنة: (ومجامرهم الألوة (3))، وهي العود الهندي.

(1) سورة آل عمران 161.
(2) ردع الزعفران: لطخه.
(3) نهاية ابن الأثير 4: 70.
341

وروى سهل بن سعد عنه عليه السلام: (إن في الجنة لمراغا من مسك مثل مراغ
دوابكم هذه).
وروى عنه عليه السلام أيضا في صفة الكوثر: جالة المسك - أي جانبه -
ورضراضه التوم، وحصباؤه اللؤلؤ (1).
وقالت عائشة: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وآله
وهو محرم (2).
وكان ابن عمر يستجمر بعود غير مطري ويجعل معه الكافور، ويقول: هكذا
رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يصنع.
وروى أنس بن مالك قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: عندنا
والوقت صيف، فعرق، فجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت عرقه، فاستيقظ وقال:
يا أم سليم، ما تصنعين؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا، فإنه من أطيب الطيب،
ونرجو به بركه صبياننا، فقال: أصبت.
ومن كلام عمر: لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر، إن فاتني ربحه
لم يفتني ريحه.
ناول المتوكل أحمد بن أبي فنن فأرة مسك، فأنشده:
لئن كان هذا طيبنا وهو طيب * لقد طيبته من يديك الأنامل
قالوا: سميت الغالية غالية، لان عبد الله بن جعفر أهدى لمعاوية قارورة منها،
فسأله، كم أنفق عليها، فذكر مالا، فقال: هذه غالية فسميت غالية.
شم مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري من أخته هند بنت أسماء ريح غالية،
وكانت تحت الحجاج، فقال: علميني طيبك، قالت: لا أفعل، أتريد أن تعلمه

(1) التوم: الدر. وهي من (د).
(2) الوبيص: البريق.
342

جواريك، هو لك عندي ما أردته، ثم ضحكت وقالت: والله ما تعلمته إلا من
شعرك حيث قلت:
أطيب الطيب طيب أم أبان * فار مسك بعنبر مسحوق
خلطته بعودها وببان * فهو أحوى على اليدين شريق.
وروى أبو قلابة قال: كان ابن مسعود إذا خرج من بيته إلى المسجد عرف من في
الطريق إنه قد مر من طيب ريحه.
وروى الحسن بن زيد عن أبيه، قال: رأيت ابن عباس حين أحرم والغالية على
صلعته كأنها الرب.
أولم المتوكل في طهر بنيه، فلما كثر اللعب قال ليحيى بن أكثم: انصرف أيها
القاضي، قال: ولم؟ قال: لأنهم يريدون أن يخلطوا، قال: أحوج ما يكونون
إلى قاض إذا خلطوا، فاستظرفه وأمر أن تغلف لحيته، ففعل، فقال يحيى: إنا لله،
ضاعت الغالية، كانت هذه تكفيني دهرا لو دفعت إلى، فأمر له بزورق لطيف من
ذهب مملوء من غاليه ودرج بخور، فأخذهما وانصرف.
وروى عكرمة أن ابن عباس كان يطلى جسده بالمسك، فإذا مر بالطريق قال
الناس: أمر ابن عباس أم المسك؟
وقال أبو الضحى: رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لي لكان رأس مالي.
لما بنى عمر بن عبد العزيز على فاطمة بنت عبد الملك أسرج في مسارجه تلك الليلة
الغالية إلى أن طلعت الشمس.
كانت لابن عمر بندقة من مسك يبوكها بين راحتيه فتفوح رائحتها (1).
كان عمر بن عبد العزيز في أمارته المدينة يجعل المسك بين قدميه ونعله، فقال
فيه الشاعر يمدحه:
له نعل لا تطبي الكلب ريحها (2) * وإن وضعت في مجلس القوم شمت.

(1) يبوكها بين راحتيه، أي يقلبها.
(2) يطبي: يستميل. والبيت لكثير، انظر خزانة الأدب 4: 147.
343

سمع عمر قول سحيم عبد بنى الحسحاس:
وهبت شمال آخر الليل قرة * ولا ثوب إلا درعها وردائيا (1)
فما زال بردى طيبا من ثيابها * مدى الحول حتى أنهج البرد باليا
فقال له: ويحك! إنك مقتول، فلم تمض عليه أيام حتى قتل.
قال الشعبي: الرائحة الطيبة تزيد في العقل.
كان عبد الله بن زيد يتخلق بالخلوق، ثم يجلس في المجلس.
وكانوا يستحبون إذا قاموا من الليل أن يمسحوا مقاديم لحاهم بالطيب.
واشترى تميم الداري حلة بثمانمائة درهم، وهيا طيبا، فكان إذا قام من الليل
تطيب ولبس حلته، وقام في المحراب.
وقال أنس: يا جميلة، هيئي لنا طيبا أمسح به يدي، فإن ابن أم ثابت إذا جاء
قبل يدي، يعنى ثابتا البناني.
وقال سلم بن قتيبة: لقد شممت من فلان رائحة أطيب من مشطه العروس الحسناء
في أنف العاشق الشبق.
ومن كلام بعض الصالحين: الفاسق رجس ولو تضمخ بالغالية.
عرضت مدنية لكثير فقالت له: أنت القائل:
فما روضة بالحزن طيبة الثرى * يمج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهنا * وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
لو كانت هذه الصفة لزنجية تجتلي الحلة لطابت، هلا قلت كما قال سيدك (2)
امرؤ القيس:

(1) ديوانه 20.
(2) في د (سيد الشعراء).
344

ألم ترياني كلما جئت طارقا * وجدت بها طيبا وإن لم تطيب (1).
وقال الزمخشري: إن النوى المنقع بالمدينة ينتاب أشرافها المواضع التي يكون فيها
التماسا لطيب ريحه، وإذا وجدوا ريحه بالعراق هربوا منها لخبثها، قال: ومن اختلف
في طرقات المدينة وجد رائحة طيبة وبنة (2) عجيبة، ولذلك سميت طيبة، والزنجية بها
تجعل في رأسها شيئا من بلح وما لا قيمة له، فتجد له خمرة لا يعدلها بيت عروس من
ذوات الاقدار.
قال: ولو دخلت كل غالية وعطر قصبة الأهواز وقصبة أنطاكية لوجدتها قد تغيرت
وفسدت في مدة يسيرة.
أراد الرشيد المقام في أنطاكية، فقال له شيخ منها: إنها ليست من بلادك، فإن
الطيب الفاخر يتغير فيها حتى لا ينتفع منه بشئ، والسلاح يصدأ فيها.
سيراف من بلاد فارس، لها فغمة طيبة.
فأرة المسك دويبة شبيهة بالخشف (3) تكون في ناحية تبت تصاد لأجل سرتها،
فإذا صادها الصائد عصب سرتها بعصاب شديد وهي مدلاة، فيجتمع فيها دمها، ثم
يذبحها، وما أكثر من يأكلها، ثم يأخذ السرة فيدفنها في الشعر حتى يستحيل
الدم المحتقن فيها مسكا ذكيا بعد أن كان لا يرام نتنا، وقد يوجد في البيوت
جرذان سود يقال لها: فأر المسك ليس عندها إلا رائحة لازمة لها.
وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ قال: سألت بعض أصحابنا المعتزلة عن شان المسك
فقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله تطيب بالمسك لما تطيبت به، لأنه دم، فاما

(1) ديوانه 41.
(2) البنة: الرائحة مطلقا.
(3) الخشف، ولد الظبي.
345

الزباد فليس مما يقرب ثيابي، فقلت له قد يرتضع الجدي من لبن خنزيرة فلا يحرم
لحمه، لان ذلك اللبن استحال لحما، وخرج من تلك الطبيعة، وعن تلك الصورة،
وعن ذلك الاسم، وكذا لحم الجلالة، فالمسك غير الدم، والخل غير الخمر، والجوهر
لا يحرم لذاته وعينه، وإنما يحرم للاعراض والعلل فلا تقزز (1) منه عند ذكرك الدم،
فليس به بأس.
قال الزمخشري: والزبادة هرة. ويقال للزيلع، وهم الذين يجتلبون الزباد يا زيلع
الزبادة ماتت، فيغضب.
وقال ابن جزلة الطبيب في المنهاج (2): الزباد طيب يؤخذ من حيوان كالسنور
يقال: إنه وسخ في رحمها.
وقال الزمخشري: العنبر يأتي طفاوة على الماء لا يدرى أحد معدنه، يقذفه
البحر إلى البر فلا يأكل منه شئ إلا مات، ولا ينقره طائر إلا بقي منقاره فيه،
ولا يقع عليه إلا نصلت أظفاره، والبحريون والعطارون ربما وجدوا فيه
المنقار والظفر.
قال: والبال، وهو سمكه طولها خمسون ذراعا، يؤكل منه اليسير فيموت.
قال: وسمعت ناسا من أهل مكة يقولون: هو ضفع (3) ثور في بحر الهند،
وقيل: هو من زبد بحر سرنديب، وأجوده الأشهب، ثم الأزرق،
وأدونه الأسود.
وفى حديث ابن عباس: ليس في العنبر زكاة، إنما هو شئ يدسره البحر،
أي يدفعه.

(1) تقزز منه: تباعد.
(2) كتاب المنهاج لابن جزلة الطبيب، منه نسخة مخطوطة بدار الكتب رقم 107 - طب.
(3) ضفع الثور: نجوه.
346

فأما صاحب المنهاج في الطب فقال: العنبر من عين في البحر، ويكون جماجم أكبرها
وزنه ألف مثقال، والأسود أردأ أصنافه، وكثيرا ما يوجد في أجواف السمك التي تأكله
وتموت. وتوجد فيه سهوكة.
وقال في المسك: إنه سرة دابة كالظبي، له نابان أبيضان معقفان إلى الجانب الإنسي
كقرنين. جاء في الحديث المرفوع: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن
ثفلات)، أي غير متطيبات (1).
وفى الحديث أيضا: (إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمس طيبا)، والمراد من ذلك
ألا تهيج عليهن شهوة الرجال.
قال الشاعر:
والمسك بينا تراه ممتهنا * بفهر عطاره وساحقه
حتى تراه في عارضي ملك * أو موضع التاج من مفارقه.
الصنوبري في استهداء المسك:
المسك أشبه شئ بالشباب فهب * بعض الشباب لبعض العصبة الشيب
يقال: أن رجلا وجد قرطاسا فيه اسم الله تعالى، فرفعه، وكان عنده
دينار، فاشترى به مسكا، فطيبه، فرأى في المنام قائلا يقول له كما طيبت أسمى
لأطيبن ذكرك.
قال خالد بن صفوان ليزيد بن المهلب: ما رأيت صدا المغفر، ولا عبق العنبر
بأحد أليق منه بك، فقال: حاجتك، قال: ابن أخ لي في حبسك، فقال: يسبقك
إلى المنزل.

(1) المنهاج. الورقة 174.
347

شاعر
كان دخان الند ما بين جمره * بقايا ضباب في رياض شقيق.
قالوا: خير العود المندلي، وهو منسوب إلى مندل: قرية من قرى الهند،
وأجوده أصلبه، وامتحان رطبه أن ينطبع فيه نقش الخاتم، واليابس تفصح عنه
النار، ومن خاصية المندلي أن رائحته تثبت في الثواب أسبوعا، وإنه لا يقمل
ما دامت فيه.
قال صاحب المنهاج (1): العود عروق أشجار تقلع وتدفن في الأرض حتى تتعفن،
منها الخشبية والقشرية، ويبقى العود الخالص، وأجوده المندلي، ويجلب من وسط بلاد
الهند، ثم العود الهندي، وهو يفضل على المندلي بأنه لا يولد القمل، وهو أعبق بالثياب.
قال: وأفضل العود أرسبه في الماء، والطافي ردئ.
قال أبو العباس الأعمى:
ليت شعري من أين رائحة المسك * وما إن أخال بالخيف أنسى
حين غابت بنو أمية عنه * والبهاليل من بنى عبد شمس
خطباء على المنابر فرسان * على الخيل قاله غير خرس
بحلوم مثل الجبال رزان * ووجوه مثل الدنانير ملس.
المسيب بن علس (3).
تبيت الملوك على عتبها * وشيبان إن غضبت تعتب (4)
وكالشهد بالراح ألفاظهم * وأخلاقهم منهما أعذب

(1) المنهاج الورقة 174.
(2) ديوان الأعشين 350.
348

وكالمسك ترب مقاماتهم * وترب قبورهم أطيب.
أخذه العباس بن الأحنف فقال:
وأنت إذا ما وطئت التراب * كان ترابك للناس طيبا.
وهجا بعض الشعراء العمال في أيام عمر، ووقع عليهم، فقال في بعض شعره:
نئوب إذا آبوا ونغزو إذا غزوا * فإني لهم وفر ولسنا ذوي وفر
إذا التاجر الداري جاء بفأرة * من المسك راحت في مفارقهم تجرى
فقبض عمر على العمال وصادرهم.
قالوا في الكافور، إنه ماء في شجر مكفور فيه يغرزونه بالحديد، فإذا خرج إلى
ظاهر ذلك الشجر ضربه الهواء فانعقد كالصموغ الجامدة على الأشجار.
وقال صاحب المنهاج (1): هو أصناف: منها الفنصوري (2)، والرباحي (3)،
والأزاد، والإسفرك (4) الأزرق، وهو المختط بخشبة، وقيل أن شجرته عظيمة تظلل
أكثر من مائة فارس، وهي بحرية، وخشب الكافور أبيض إلى الحمرة خفيف، والرباحي
يوجد في بدن شجرته قطع كالثلج، فإذا شققت الشجرة تناثر منها الكافور.
الند: هو الغالية، وهو العود المطري بالمسك والعنبر ودهن البان، ومن الناس من
لا يضيف إليه دهن البان، ويجعل عوضه الكافور، ومنهم من لا يضيف إليه الكافور
أيضا، ومن الناس من يركب الغالية من المسك والعنبر والكافور ودهن النيلوفر.
قال الأصمعي: قلت لأبي المهدية الأعرابي: كيف تقول، ليس الطيب إلا المسك؟
فلم يحفل الأعرابي، وذهب إلى مذهب آخر، فقال: فأين أنت عن العنبر؟ فقلت:
كيف تقول: ليس الطيب إلا المسك والعنبر؟ قال: فأين أنت عن البان، قلت: فكيف

(1) المنهاج: ورقة 177.
(2) فنصور: جزيرة سرنديب. انظر المفردات لابن البيطار ج 4: 52 طبع بولاق.
(3) نسبة إلى ملك اسمه رباح انظر نهاية الإرب ج 11: 294.
(4) كذا في قانون ابن سينا وشرح الأدوية المفردة للكازروني ونهاية الإرب ج 11: 294.
349

تقول ليس الطيب إلا المسك والعنبر والبان؟ قال: فأين أنت عن أدهان بحجر - يعنى
اليمامة، قلت: فكيف تقول ليس الطيب إلا المسك والعنبر والبان وأدهان بحجر؟
قال: فأين أنت عن فأرة الإبل صادرة، فرأيت إني قد أكثرت عليه، فتركته قال:
وفأرة الإبل ريحها حين تصدر عن الماء. وقد أكلت العشب الطيب.
وفى فأرة الإبل يقول الشاعر
كان فأرة مسك في مباءتها * إذا بدا من ضياء الصبح تنتشر
كان لأبي أيوب المرزباني وزير المنصور دهن طيب يدهن به إذا ركب إلى المنصور
فلما رأى الناس غلبته على المنصور وطاعته له فيما يريده، حتى إنه ربما كان يستحضره
ليوقع به، فإذا رآه تبسم إليه وطابت نفسه قالوا: دهن أبى أيوب من عمل السحرة،
وضربوا به المثل، فقالوا لمن يغلب على الانسان: معه دهن أبى أيوب.
أعرابي: فيها مدر كف ومشم أنف.
وقال عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري:
لو كنت أحمل خمرا حين زرتكم * لم ينكر الكلب إني صاحب الدار
لكن أتيت وريح المسك يقدمني * والعنبر الورد مشبوبا على النار
فأنكر الكلب ريحي حين خالطني * وكان يألف ريح الزق والقار
قال الأصمعي: ذكر لأبي أيوب هؤلاء الذين يتقشفون، فقال: ما علمت أن القذر
والذفر من الدين.
ريح الكلب مثل في النتن، قال الشاعر:
ريحها ريح كلاب * هارشت في يوم طل
وقال آخر:
يزداد لؤما على المديح كما * يزداد نتن الكلاب في المطر
350

وقالت امرأة امرئ القيس له وكان مفركا عند النساء: إذا عرقت عرقت بريح
كلب. قال صدقت: إن أهلي أرضعوني مرة بلبن كلبه.
قال سلمه بن عياش، يقول لجعفر بن سليمان:
فما شم أنفى ريح كف رأيتها * من الناس إلا ريح كفك أطيب
فأمر له بألف دينار ومائة مثقال من المسك ومائة مثقال من العنبر.
وجه عمر إلى ملك الروم بريدا فاشترت أم كلثوم امرأة عمر طيبا بدنانير وجعلته
في قارورتين وأهدتهما إلى امرأة ملك الروم، فرجع البريد إليها ومعه ملء القارورتين
جواهر، فدخل عليها عمر، وقد صبت الجواهر في حجرها، فقال: من أين لك هذا؟
فأخبرته، فقبض عليه، وقال: هذا للمسلمين، قالت: كيف وهو عوض هديتي! قال:
بيني وبينك أبوك، فقال علي عليه السلام: لك منه بقيمة دينارك، والباقي للمسلمين
جملة لان بريد المسلمين حمله.
قيل لخديجة بنت الرشيد: رسل العباس بن محمد على الباب، معهم زنبيل يحمله
رجلان. فقالت: تراه بعث إلى باقلاء؟ فكشف الزنبيل عن جرة مملوءة غالية فيها مسحاة
من ذهب، وإذا برقعة: هذه جرة أصيبت هي وأختها في خزائن بنى أمية، فأما
أختها فغلب عليها الخلفاء، وأما هذه فلم أر أحدا أحق بها منك.
351

(400)
الأصل:
ضع فخرك، واحطط كبرك، واذكر قبرك.
الشرح:
قد تقدم القول في العجب والكبر والفخر.
[نبذ مما قيل في التيه والفخر]
في الحديث المرفوع: (أن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء،
الناس لآدم، وآدم من تراب، مؤمن تقى، وفاجر شقي، لينتهين أقوام يتفاخرون
برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من جعلات (1) تدفع
النتن بأنفها).
ومن وصيته صلى الله عليه وآله إلى علي عليه السلام: (لا فقر أشد من الجهل،
ولا وحشة أفحش من العجب).
أتى وائل بن حجر النبي صلى الله عليه وآله فأقطعه أرضا، وأمر معاوية أن
يمضى معه فيريه الأرض ويعرضها عليه، ويكتبها له، فخرج مع وائل في هاجرة

(1) الجعلات: جمع جعل، دويبة معروفة تغشى الأماكن القذرة.
352

شاوية، ومشى خلف ناقته فأحرقته الرمضاء، فقال: اردفني: قال: لست من أرداف
الملوك، قال: فادفع إلى نعليك، قال: ما بخل يمنعني يا بن أبي سفيان، ولكن أكره
أن يبلغ أقيال (1) اليمن إنك لبست نعلي، ولكن امش في ظل ناقتي فحسبك بذاك
شرفا، ويقال: إنه عاش حتى أدرك زمن معاوية فأجلسه معه على سريره.
قيل لحكيم: ما الشئ الذي لا يحسن أن يقال وإن كان حقا؟ فقال: الفخر.
حبس هشام بن عبد الملك الفرزدق في سجن خالد بن عبد الله القسري، فوفد
جرير إلى خالد ليشفع فيه، فقال له خالد: ألا يسرك أن الله قد أخزى الفرزدق؟ فقال:
أيها الأمير، والله ما أحب أن يخزيه الله إلا بشعري، وإنما قدمت لأشفع فيه. قال:
فاشفع فيه في ملا ليكون أخزى له (2)، فشفع فيه، فدعا به فقال: إني مطلقك
بشفاعة جرير، فقال: أسير قسري، وطليق كلبي، فبأي وجه أفاخر العرب بعدها!
ردني إلى السجن.
ذكر أعرابي قوما فقال: ما نالوا بأناملهم شيئا إلا وقد وطئناه بأخامص أقدامنا،
وإن أقصى مناهم لأدنى فعالنا.
نظر رجل إلى بعض ولد أبى موسى يختال في مشيته، فقال: ألا ترون مشيته؟ كان
أباه خدع عمرو بن العاص!
وسمع الفرزدق أبا برده يقول: كيف لا أتبختر وأنا ابن أحد الحكمين، فقال:
أحدهما مائق، والاخر فاسق، فكن ابن أيهما شئت.
نظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أبى دجانة وهو يتبختر بين الصفين، فقال: (إن
هذه مشيه يبغضها الله إلا في هذا الموطن).

(1) الأقيال: جمع قيل، وهو الملك.
(2) في د: (أذل له)، وهو مستقيم أيضا.
353

لما بلغ الحسن بن علي عليه السلام قول معاوية: إذا لم يكن الهاشمي جوادا والأموي
حليما والعوامي شجاعا والمخزومي تياها لم يشبهوا آباءهم، فقال: إنه والله ما أراد بها
النصيحة، ولكن أراد أن يفنى بنو بني هاشم
ما في أيديهم فيحتاجوا إليه، وأن يشجع بنو
العوام فيقتلوا، وأن يتيه بنو مخزوم فيمقتوا، وأن يحلم بنو أمية فيحبهم الناس.
كان قاضي القضاة محمد بن أبي الشوارب الأموي تائها، فهجاه عبد الأعلى
البصري فقال:
إني رأيت محمدا متشاوسا * مستصغرا لجميع هذى الناس (1)
ويقول لما أن تنفس خاليا * نفسا له يعلو على الأنفاس
ويح الخلافة في جوانب لحيتي * تستن دون لحى بنى العباس!
بعض الأموية:
إذا تائه من عبد شمس رأيته * يتيه فرشحه لكل عظيم
وإن تاه تياه سواه فإنه * يتيه لحمق أو يتيه للوم.
لبعض الأموية أيضا:
ألسنا بنى مروان كيف تبدلت * بنا الحال أو دارت علينا الدوائر!
إذا ولد المولود منا تهللت * له الأرض واهتزت إليه المنابر.
بعض التياهين:
أتيه على أنس البلاد وجنها * ولو لم أجد خلقا أتيه على نفسي
أتيه فلا أدرى من التيه من أنا * سوى ما يقول الناس في وفى جنسي
فإن زعموا أنى من الانس مثلهم * فما لي عيب غير أنى من الانس.

(1) المتشاوس: المختال عجبا وكبرا.
354

بعض العلوية:
لقد نازعتنا من قريش عصابة * يمط خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا الفخار قضى لنا * عليهم بما نهوى نداء الصوامع
ترانا سكوتا والشهيد بفضلنا * عليهم أذان الناس في كل جامع
بأن رسول الله لا شك جدنا * وإن بنيه كالنجوم الطوالع.
كان عمارة بن حمزه بن ميمون مولى بنى العباس مثلا في التيه، حتى قيل: أتيه
من عمارة. وكان يتولى دواوين السفاح والمنصور، وكان إذا أخطأ مضى على خطئه
تكبرا عن الرجوع، ويقول: نقض وإبرام في حالة واحدة، الاصرار على الخطأ
أهون من ذلك.
وافتخرت أم سلمة المخزومية امرأة السفاح ذات ليلة بقومها على السفاح، وبنو
مخزوم يضرب بهم المثل في الكبر والتيه، فقال: أنا أحضرك الساعة على غير أهبة
مولى من موالي ليس في أهلك مثله، فأرسل إلى عمارة، وأمر الرسول أن يعجله عن
تغيير زيه، فجاء على الحال التي وجده عليها الرسول في ثياب ممسكه مزررة بالذهب،
وقد غلف لحيته بالغالية حتى قامت، فرمى إليه السفاح بمدهن ذهب مملوء غالية، فلم
يلتفت إليه، وقال: هل ترى لها في لحيته موضعا؟ فأخرجت أم سلمة عقدا لها ثمينا،
وأمرت خادما أن يضعه بين يديه، فقام وتركه، فأمرت الخادم أن يتبعه به، ويقول
إنها تسألك قبوله، فقال للخادم: هو لك، فانصرف بالعقد إليها، فأعطت الخادم
فكاكه عشرة آلاف دينار، واسترجعته، وعجبت من نفس عمارة، وكان عمارة لا يذل
للخلفاء وهم مواليه ويتيه عليهم.
نظر رجل إلى المهدى ويده في يد عمارة، وهما يمشيان، فقال: يا أمير المؤمنين
355

من هذا؟ قال: هذا أخي، وابن عمى عمارة بن حمزة، فلما ولى الرجل ذكر المهدى
الكلمة كالممازح لعمارة، فقال: عمارة والله لقد انتظرت أن تقول مولاي فانفض
يدي من يدك، فتبسم المهدى.
وكان أبو الربيع الغنوي أعرابيا جافيا تياها شديد الكبر، قال أبو العباس المبرد
في الكامل: فذكر الجاحظ إنه أتاه ومعه رجل هاشمي: قال: فناديت: أبو الربيع هنا؟
فخرج إلى وهو يقول خرج إليك رجل أكرم الناس، فلما رأى الهاشمي استحيا وقال:
أكرم الناس رديفا، وأشرفهم حليفا (1) - أراد بذلك أبا مرثد الغنوي، لأنه كان
رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وحليف أبى بكر - قال: حدثنا ساعة ثم نهض
الهاشمي فقلت له: من خير الخلق؟ قال: الناس والله، قلت: من خير الناس؟ قال:
العرب والله، قلت: فمن خير العرب؟ قال: مضر والله، قلت: فمن خير مضر؟
قال: قيس والله، قلت: فمن خير قيس؟ قال: يعصر والله، قلت: فمن خير يعصر؟ قال:
غنى والله، قلت: فمن خير غنى؟ قال: المخاطب لك والله، قلت: أفأنت خير الناس؟
قال: أي والله، قلت: أيسرك أن تكون تحتك ابنه يزيد بن المهلب؟ قال: لا والله،
قلت: ولك ألف دينار، قال: لا والله، قلت: فألفا دينار، قال: لا والله، قلت: ولك
الجنة فأطرق ثم قال: على ألا تلد منى، ثم أنشد:
تأبى ليعصر أعراق (2) مهذبة * من أن تناسب قوما غير أكفاء
فإن يكن ذاك حتما لا مرد له * فأذكر حذيف فإني غير أباء (3)

(1) قال أبو العباس: قوله: (وأشرفهم حليفا)، كان أبو مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب.
(2) في د: (أخلاق) والمعنى عليه يستقيم أيضا.
(3) قال أبو العباس: قوله: (فاذكر حذيف)، أراد حذيفة بن بدر الفزاري، وإنما ذكره من
بين الاشراف لأنه أقربهم إليه نسبا، وذاك يعصر بنى سعد بن قيس، وهؤلاء بنو ريث بن غطفان بن
سعد بن قيس.
356

أراد حذيفة بن بدر الفزاري، وكان سيد قيس في زمانه (1).
رأى عمر رجلا يمشى مرخيا يديه، طارحا رجليه، يتبختر، فقال له: دع هذه
المشية، فقال: ما أطيق، فجلده ثم خلاه، فترك التبختر، فقال عمر: إذا لم أجلد في هذا
ففيم أجلد، فجاءه الرجل بعد ذلك فقال: جزاك الله يا أمير المؤمنين خيرا، إن كان
إلا شيطانا سلط على فأذهبه الله بك.

(1) الكامل 2: 205، 206.
357

(401)
الأصل:
خذ من الدنيا ما أتاك، وتول عما تولى عنك، فإن أنت لم تفعل فأجمل
في الطلب.
الشرح:
كان يقال اجعل الدنيا كغريم السوء حصل منه ما يرضخ لك به، ولا تأس على
ما دفعك عنه، ثم قال عليه السلام: فإن لم تفعل فأجمل في الطلب، وهي من الألفاظ
النبوية: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فأجملوا في الطلب).
قيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ فقال: قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك.
358

(402)
الأصل:
رب قول، أنفذ من صول.
الشرح:
قد قيل هذا المعنى كثيرا، فمنه قولهم:
* والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر *.
ومن ذلك القول لا تملكه إذا نما، كالسهم لا تملكه إذا رمى، وقال الشاعر:
وقافية مثل حد السنان * تبقى ويذهب من قالها
تخيرتها ثم أرسلتها * ولم يطق الناس إرسالها.
وقال محمود الوراق:
أتاني منك ما ليس * على مكروهة صبر
فأغضيت على عمد * وكم يغضي الفتى الحر
وأدبتك بالهجر * فما أدبك الهجر
ولا ردك عما كان * منك الصفح والبر
فلما اضطرني المكروه * واشتد بي الامر
تناولتك من شعري * بما ليس له قدر
فحركت جناح الضر * لما مسك الضر
إذا لم يصلح الخير * امرأ أصلحه الشر
359

وقال الرضى رحمه الله:
سأمضغ بالأقوال أعراض قومكم * وللقول أنياب لدى حداد (1)
يرى للقوافي والسماء جلية * عليكم بروق جمة ورعاد.
وقال أيضا:
كعمت لساني أن يقول وإن يقل * فقل في الجراز العضب إن فارق الغمدا (2)
وإن برودا للمخازي معدة * فمن شاء من ذا الحي أسحبته بردا
قلائد في الأعناق بالعار لا تهي * على مر أيام الزمان ولا تصدأ
إذا صلصلت بين القنا قضت القنا وإن زفرت في السرد قطعت السردا (3)

(1) ديوانه 312.
(2) ديوانه 309 كعمت: شددت. والجراز العضب: السيف القاطع.
(3) صلصلت: صوتت. والسرد: الدروع.
360

(403)
الأصل:
كل مقتصر عليه كاف.
الشرح:
هذا من باب القناعة، وإن من اقتصر على شئ وقنعت به نفسه فقد كفاه، وقام
مقام الفضول التي يرغب فيها المترفون، وقد تقدم القول في ذلك.
361

(404)
الأصل:
المنية ولا الدنية، والتقلل ولا التوسل.
الشرح:
قد تقدم من كلامنا في هذا الباب شئ كثير، وقال الشاعر:
أقسم بالله لمص النوى * وشرب ماء القلب المالحة (1)
أحسن بالانسان من ذلة * ومن سؤال الأوجه الكالحة
فاستغن بالله تكن ذا غنى * مغتبطا بالصفقة الرابحة
فالزهد عز والتقى سؤدد * وذله النفس لها فاضحة
كم سالم صحيح به بغته * وقائل عهدي به البارحة
أمسى وأمست عنده قينة * وأصبحت تندبه نائحة
طوبى لمن كانت موازينه * يوم يلاقى ربه راجحة.
وقال أيضا:
لمص الثماد وخرط القتاد * وشرب الأجاج أو ان الظما
على المرء أهون من أن يرى * ذليلا لخلق إذا أعدما
وخير لعينيك من منظر * إلى ما بأيدي اللئام العمى.
قلت: لحاه الله، هلا قال: بأيدي الرجال!

(1) القلب بضمتين: جمع قليب، وهي البئر.
362

(405)
الأصل:
من لم يعط قاعدا، لم يعط قائما.
الشرح:
مراده أن الرزق قد قسمه الله تعالى، فمن لم يرزقه قاعدا لم يجب عليه السلام القيام
والحركة.
وقد جاء في الحديث: إنه صلى الله عليه وآله ناول أعرابيا تمرة، وقال له: (خذها
فلو لم تأتها لأتتك).
وقال الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون * فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق * ويرزق في غشاوته الجنين
363

(406)
الأصل:
الدهر يومان: يوم لك، ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان
عليك فاصبر.
الشرح:
قديما قيل هذا المعنى: الدهر يومان: يوم بلاء، ويوم رخاء. والدهر ضربان:
حبرة وعبرة، والدهر وقتان: وقت سرور، ووقت ثبور (1)..
وقال أبو سفيان يوم أحد: يوم بيوم بدر، والدنيا دول.
قال عليه السلام: فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر.
قد تقدم القول في ذم البطر ومدح الصبر، ويحمل ذم البطر هاهنا على محملين.
أحدهما البطر بمعنى الأشر، وشدة المرح، بطر الرجل بالكسر يبطر، وقد أبطره المال،
وقالوا: بطر فلان معيشته، كما قالوا: رشد فلان أمره. والثاني البطر بمعنى الحيرة والدهش،
أي إذا كان الوقت لك فلا تقطعن زمانك بالحيرة والدهش عن شكر الله ومكافأة النعمة
بالطاعة والعبادة والمحمل الأول أوضح.

(1) الثبور: الهلاك.
364

(407)
الأصل:
إن للوالد على الولد حقا، وإن للولد على الوالد حقا، فحق الوالد على
الولد أن يطيعه في كل شئ إلا في معصية الله سبحانه، وحق الولد على الوالد أن
يحسن اسمه، ويحسن أدبه، ويعلمه القرآن.
الشرح:
أما صدر الكلام فمن قول الله سبحانه: (أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير * وإن
جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها) (1).
[طرائف حول الأسماء والكنى]
وأما تعليم الوالد الولد القرآن والأدب فمأمور به، وكذلك القول في تسميته باسم
حسن، وقد جاء في الحديث: (تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله
وعبد الرحمن. وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة).
وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم
وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم).

(1) سورة لقمان 14، 15.
365

وقال عليه السلام: (إذا سميتم فعبدوا) أي سموا بينكم عبد الله ونحوه من أسماء
الإضافة إليه عز اسمه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يغير - بعض الأسماء، سمى أبا بكر عبد الله،
وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، وسمى ابن عوف عبد الرحمن، وكان اسمه عبد الحارث،
وسمى شعب الضلالة شعب الهدى، وسمى يثرب طيبة، وسمى بنى الريبة بنى الرشدة،
وبنى معاوية بنى مرشدة.
كان سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي أحد الفقهاء المشهورين، أتى جده
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له: ما اسمك؟ قال: حزن، قال: لا، بل أنت
سهل، فقال: لا، بل أنا حزن، عاوده فيها ثلاثا، ثم قال: لا أحب هذا الاسم،
السهل يوطأ ويمتهن، فقال: فأنت حزن، فكان سعيد يقول فما زلت أعرف
تلك الحزونة فينا.
وروى جابر عنه عليه السلام: (ما من بيت فيه أحد اسمه محمد إلا وسع الله عليه الرزق
فإذا سميتموهم به فلا تضربوهم ولا تشتموهم، ومن ولد له ثلاثة ذكور ولم يسم أحدهم
أحمد أو محمدا فقد جفاني).
أبو هريرة عنه عليه السلام، إنه نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته لأحد،
وروى أنه اذن لعلي بن أبي طالب عليه السلام في ذلك، فسمى ابنه محمد بن الحنفية
محمدا، وكناه أبا القاسم.
وقد روى أن جماعة من أبناء الصحابة جمع لهم بين الاسم والكنية.
وقال الزمخشري: قد قدم الخلفاء وغيرهم من الملوك رجالا بحسن أسمائهم، وأقصوا
قوما لشناعة أسمائهم، وتعلق المدح والذم بذلك في كثير من الأمور.
366

وفي رسالة الجاحظ إلى أبى الفرج نجاح بن سلمة: قد أظهر الله في أسمائكم وأسماء
آبائكم وكناكم وكنى أجدادكم من برهان الفأل الحسن، ونفى طيرة السوء، ما جمع
لكم صنوف الامل، وصرف إليكم وجوه الطلب، فأسماؤكم وكناكم بين فرج ونجاح،
وسلامة وفضل، ووجوهكم وأخلاقكم ووفق أعراقكم وأفعالكم، فلم يضرب
التفاوت فيكم بنصيب.
أراد عمر الاستعانة برجل! فسأله عن اسمه واسم أبيه، فقال: سراق بن ظالم،
فقال: تسرق أنت ويظلم أبوك! فلم يستعن به.
سأل رجل رجلا: ما اسمك؟ فقال: بحر، قال: أبو من؟ قال: أبو الفيض،
قال: ابن من؟ قال: ابن الفرات، قال: ما ينبغي لصديقك أن يلقاك إلا في زورق.
وكان بعض الاعراب اسمه وثاب، وله كلب اسمه عمرو، فهجاه أعرابي
آخر فقال:
ولو هيأ له الله * من التوفيق أسبابا
لسمى نفسه عمرا * وسمى الكلب وثابا.
قالوا: وكلما كان الاسم غريبا كان أشهر لصاحبه وأمنع من تعلق النبز (1) به
قال رؤبه:
قد رفع العجاج ذكرى فادعني * باسمي إذا الأسماء طالت تكفني.
ومن هاهنا أخذ المعرى قوله يمدح الرضى والمرتضى رحمهما الله:
أنتم ذوو النسب القصير فطولكم * باد على الكبراء والأشراف (2)
والراح أن قيل ابنة العنب اكتفت * بأب عن الأسماء والأوصاف.

(1) النبز: أن يلقب الانسان بما يكره.
(2) سقط الزند 1302.
367

وسأل النسابة البكري رؤبه عن نسبه ولم يكن يعرفه، قال: أنا ابن العجاج
قال: قصرت وعرفت.
صاح أعرابي بعبد الله بن جعفر: يا أبا الفضل، قيل ليست كنيته، قال: وإن
لم تكن كنيته فإنها صفته. نظر عمر إلى جارية له سوداء تبكي فقال: ما شأنك؟
قالت: ضربني ابنك أبو عيسى، قال: أو قد تكنى بأبي عيسى! على به، فاحضروه،
فقال: ويحك! أكان لعيسى أب فتكنى به! أتدري ما كنى العرب! أبو سلمة،
أبو عرفطة، أبو طلحة، أبو حنظلة، ثم أدبه.
لما أقبل قحطبة بن شبيب نحو ابن هبيرة أراد ابن هبيرة أن يكتب إلى
مروان بخبره، وكره أن يسميه، فقال: اقلبوا اسمه، فوجدوه هبط حق، فقال:
دعوه على هيئته.
قال برصوما الزامر لامه: ويحك! أما وجدت لي اسما تسميني به غير هذا!
قالت: لو علمت إنك تجالس الخلفاء والملوك سميتك يزيد بن مزيد.
قيل لبعض صبيان الاعراب: ما أسمك؟ قال قراد، قيل: لقد ضيق أبوك
عليك الاسم، قال: إن ضيق الاسم لقد أوسع الكنية، قال: ما كنيتك؟
قال: أبو الصحارى.
نظر المأمون إلى غلام حسن الوجه في الموكب، فقال له يا غلام، ما أسمك؟ قال:
لا أدرى، قال: أو يكون أحد لا يعرف اسمه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، اسمي الذي
أعرف به (لا أدرى) فقال المأمون:
وسميت لا أدري لأنك لا تدري * بما فعل الحب المبرح في صدري
ولد لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ولد ذكر، فبشر به وهو عند معاوية
368

بن أبي سفيان، فقال له معاوية، سمه باسمي ولك خمسمائة ألف درهم، فسماه معاوية،
فدفعها إليه وقال اشتر بها لسمي ضيعه.
ومن حديث علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله: (إذا سميتم الولد محمدا
فأكرموه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تقبحوا له وجها).
وعنه صلى الله عليه وآله: (ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم عليها من اسمه
محمدا أو أحمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم، وما من مائدة وضعت فحضر عليها من
اسمه محمدا أو أحمد إلا قدس ذلك المنزل في كل يوم مرتين).
من أبيات المعاني:
وحللت من مضر بأمنع ذروة * منعت بحد الشوك والأحجار
قالوا: يريد بالشوك أخواله، وهم قتادة وطلحة وعوسجة، وبالأحجار أعمامه وهم
صفوان وفهر وجندل وصخر وجرول.
سمى عبد الملك ابنا له الحجاج لحبه الحجاج بن يوسف وقال فيه:
سميته الحجاج بالحجاج * الناصح المكاشف المداجي
استأذن الجاحظ والشكاك - وهو من المتكلمين - على رئيس، فقال الخادم لمولاه:
الجاحد والشكاك، فقال: هذان من الزنادقة لا محالة! فصاح الجاحظ: ويحك! ارجع
قل: الحدقي (1) بالباب - وبه كان يعرف - فقال الخادم: الحلقي بالباب، فصاح الجاحظ
ويلك! ارجع إلى الجاحد.
جمع ابن دريد ثمانية أسماء في بيت واحد فقال:
فنعم أخو الجلي ومستنبط الندى * وملجأ مكروب ومفزع لاهث
عياذ بن عمرو بن الجليس بن جابر بن زيد بن منظور بن زيد بن وارث.

(1) الحدقي، من ألقاب الجاحظ.
369

قال محمد بن صدقه المقرئ ليموت بن المزرع: صدق الله فيك اسمك! فقال له:
أحوجك الله إلى اسم أبيك.
سأل رجل أبا عبيدة عن اسم رجل من العرب، فلم يعرفه، فقال كيسان غلامه:
انا أعرف الناس به، هو خراش أو خداش أو رياش (1) أو شئ آخر، فقال أبو عبيدة:
ما أحسن ما عرفته يا كيسان، قال: أي والله، وهو قرشي أيضا، قال: وما يدريك به،
قال: أما ترى كيف احتوشته الشينات من كل جانب! قال الفرزدق:
وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى * كثيرا ولكن ميزوا في الخلائق (2).
رأى الإسكندر في عسكره رجلا لا يزال ينهزم في الحرب، فسأله عن اسمه،
فقال: اسمي الإسكندر، فقال: يا هذا، إما أن تغير اسمك، وإما أن تغير فعلك.
قال شيخنا أبو عثمان: لولا أن القدماء من الشعراء سمت الملوك وكنتها في أشعارها،
وأجازت واصطلحت عليه ما كان جزاء من فعل ذلك إلا العقوبة، على أن ملوك بنى
سامان لم يكنها أحد من رعاياها قط، ولا سماها في شعر ولا خطبة، وإنما حدث هذا
في ملوك الحيرة، وكانت الجفاة من العرب لسوء أدبها وغلظ تركيبها إذا أتوا النبي
صلى الله عليه وسلم خاطبوه باسمه وكنيته، فأما أصحابه فكانت مخاطبتهم له،
يا رسول الله، وهكذا يجب أن يقال للملك في المخاطبة: يا خليفة الله، ويا أمير المؤمنين.
وينبغي للداخل على الملك أن يتلطف في مراعاة الأدب، كما حكى سعيد بن مرة
الكندي، دخل على معاوية فقال: أنت سعيد؟ فقال: أمير المؤمنين السعيد، وأنا ابن مرة.
وقال المأمون للسيد بن انس الأزدي: أنت السيد؟ فقال: أنت السيد يا أمير
المؤمنين، وأنا ابن أنس.

(1) ب: (دياس).
(2) ديوانه 578، وروايته: (ولكن لا تلاقى الخلائق).
370

شاعر:
لعمرك ما الأسماء إلا علامة * منار ومن خير المنار ارتفاعها
كان قوم من الصحابة يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله: (يا نبئ الله) بالهمزة،
فأنكر ذلك وقال: (لست بنبئ الله، ولكني نبي الله).
وكان البحتري إذا ذكر الخثعمي الشاعر يقول: ذاك الغث العمى.
وكان صاحب ربيع يتشيع، فارتفع إليه خصمان: اسم أحدهما على، والاخر
معاوية، فانحنى على معاوية فضربه مائة سوط من غير أن اتجهت عليه حجة، ففطن من
أين أتى! فقال: أصلحك الله! سل خصمي عن كنيته، فإذا هو أبو عبد الرحمن -
وكانت كنيه معاوية بن أبي سفيان - فبطحه وضربه مائة سوط فقال لصاحبه: ما أخذته
منى بالاسم استرجعته منك بالكنية.
371

(408)
الأصل:
العين حق، والرقى حق، والسحر حق، والفأل حق والطيرة ليست بحق،
والعدوي ليست بحق. والطيب نشرة، والعسل نشرة، والركوب نشرة (1)،
والنظر إلى الخضرة نشرة.
الشرح:
ويروى: (والغسل نشرة) بالغين المعجمة، أي التطهير بالماء.
[أقوال في العين والسحر والفأل والعدوي والطيرة]
وقد جاء في الحديث المرفوع: (العين حق، ولو كان شئ يسبق القدر لسبقته
العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا)، قالوا في تفسيره: إنهم كانوا يطلبون من العائن أن
يتوضأ بماء ثم يسقى منه المعين (2) ويغتسل بسائره.
وفى حديث عائشة: (العين حق كما أن محمدا حق).
وللحكماء في تعليل ذلك قول لا بأس به، قالوا: هذا عائد إلى نفس العائن،
وذلك لان الهيولي مطيعة للأنفس، متأثرة بها، ألا ترى أن نفوس الأفلاك تؤثر
فيها بتعاقب الصور عليها! والنفوس البشرية من جوهر نفوس الأفلاك، وشديدة
الشبه بها، إلا أن نسبتها إليها نسبه السراج إلى الشمس، فليست عامة التأثير، بل
تأثيرها في أغلب الامر في بدنها خاصة، ولهذا يحمى مزاج الانسان عند الغضب،

(1) النشرة: كالعوذة والرقية.
(2) المعين: المعيون، أي المصاب بالعين.
372

يستعد للجماع عند تصور النفس صورة المعشوق، فإذن قد صار تصور النفس مؤثرا
فيما هو خارج عنها، لأنها ليست حالة في البدن، فلا يستبعد وجود نفس لها جوهر
مخصوص مخالف لغيره من جواهر النفوس تؤثر في غير بدنها، ولهذا يقال أن قوما من
الهند يقتلون بالوهم، والإصابة بالعين من هذا الباب، وهو أن تستحسن النفس صورة
مخصوصة وتتعجب منها، وتكون تلك النفس خبيثة جدا، فينفعل جسم تلك الصورة
مطيعا لتلك النفس كما ينفعل البدن للسم.
وفي حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله رأى في وجه جارية لها سعفه (1)
فقال: (إن بها نظرة فاسترقوا لها).
وقال عوف بن مالك الأشجعي: كنا نرقى في الجاهلية، فقلت: يا رسول الله،
ما ترى في ذلك؟ فقال: (اعرضوا علي رقاكم فلا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك).
كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في سفر، فمروا بحي من أحياء
العرب، فاستضافوهم فلم يضيفوهم وقالوا لهم: هل فيكم من راق، فإن سيد الحي لديغ؟
فقال رجل منهم: نعم، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرئ، فأعطى قطيعا من الغنم، فأبى
أن يقبلها حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله
عليه وآله، وقال: وعيشك ما رقيته إلا بفاتحة الكتاب، فقال: (ما أدراكم إنها رقية!
خذوا منهم واضربوا لي معكم بسهم).
وروى بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وقد ذكرت عنده الطيرة:
(من عرض له من هذه الطيرة شئ فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك،
ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة الا بالله).
وعنه عليه السلام: (ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له).

(1) السعفة: قروح تخرج على رأس الصبي. واسترقوا، أي اطلبوا من يرقيها.
373

أنس بن مالك يرفعه: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح)، قالوا: فما
الفأل الصالح؟ قال: الكلمة الطيبة
وعنه عليه السلام: (تفاءلوا ولا تطيروا).
وروى عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان لا يتطير
من شئ، وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه، فإذا أعجبه سر به، ورئى بشر ذلك
في وجهه، وإن كره اسمه رئيت الكراهة على وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها
فإن أعجبه ظهر على وجهه.
بنى عبيد الله بن زياد بالبصرة دارا عظيمة، فمر بها بعض الاعراب، فرأى في
دهليزها صورة أسد وكلب وكبش، فقال: أسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح،
والله لا يمتع بها، فلم يلبث عبيد الله فيها إلا أياما يسيرة.
أبو هريرة يرفعه: (إذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا).
وقال عليه السلام: (أحسنها الفأل، ولا يرد قدرا، ولكن إذا رأى أحدكم
ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت،
ولا حول ولا قوة إلا بك).
وقال بعض الشعراء:
لا يعلم المرء ليلا ما يصبحه * إلا كواذب ما يجرى به الفأل
والفأل والزجر والكهان كلهم * مضللون ودون الغيب أقفال.
وعن النبي صلى الله عليه وآله: (القيافة والطرق والطيرة من الخبث).
ابن عباس يرفعه: (من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر).
أبو هريرة يرفعه: (من أتى كاهنا فصدقه فيما يقول فقد برئ مما أنزل الله على
أبى القاسم).
374

شاعر:
لعمرك ما تدرى الطوارق بالحصى * ولا زاجرت الطير ما الله صانع (1).
وقال آخر:
لا يقعدنك عن بغاء * الخير تعقاد العزائم (2)
فلقد غدوت وكنت لا * أغدو على راق وحائم
فإذا الأشائم كالأيامن * والأيامن كالأشائم
وكذاك لا خير ولا * شر على أحد بدائم.
تفاءل هشام بن عبد الملك بنصر بن سيار فقلده خراسان، فبقي فيها عشر سنين.
وتفاءل عامر بن إسماعيل قاتل مروان بن محمد باسم رجل لقيه، فسأله عن اسمه،
فقال منصور بن سعد، قال: من أي العرب؟ قال: من سعد العشيرة، فاستصحبه
وطلب مروان فظفر به وقتله.
وتفاءل المأمون بمنصور بن بسام فكان سبب مكانته عنده.
قالوا: إنما أصل اليد اليسرى العسري، إلا أنهم أبدلوا اليسرى من اليسر تفاؤلا.
مزرد بن ضرار:
وإني امرؤ لا تقشعر ذؤابتي * من الذئب يعوي والغراب المحجل.
الكميت:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه * أصاح غراب أم تعرض ثعلب (3).
وقال بعض العرب: خرجت في طلب ناقة ضلت لي، فسمعت قائلا يقول:
ولئن بعثت لها بغاة * فما البغاة بواجدينا (4)

(1) للبيد، ديوانه 172.
(2) عيون الأخبار 1: 145، ونسبها إلى المرقش.
(3) الهاشميات 36.
(4) للبيد، ديوانه 323.
375

فلم أتطير ومضيت لوجهي، فلقيني رجل قبيح الوجه به ما شئت من عاهة، فلم أتطير
وتقدمت فلاحت لي أكمة (1) فسمعت منها صائحا:
* والشر يلقى مطالع الأكم *
فلم أكترث ولا انثنيت وعلوتها، فوجدت ناقتي قد تفاجت (2) للولادة فنتجتها (3)،
وعدت إلى منزلي بها ومعها ولدها.
وقيل لعلى عليه السلام: لا تحاربهم اليوم فإن القمر في العقرب، فقال: قمرنا
أم قمرهم!
وروى عنه عليه السلام إنه كان يكره أن يسافر أو يتزوج في محاق (4) الشهر،
وإذا كان القمر في العقرب
وروى أن ابن عباس قال على منبر البصرة: إن الكلاب من الحن وإن الحن من
ضعفاء الجن، فإذا غشيكم منهم شئ فألقوا إليه شيئا أو اطردوه، فإن لها أنفس سوء.
وقال أبو عثمان الجاحظ: كان علماء الفرس والهند وأطباء اليونانيين ودهاة العرب
وأهل التجربة من نازلة الأمصار وحذاق المتكلمين يكرهون الاكل بين يدي السباع
يخافون عيونها للذي فيها من النهم والشره، ولما ينحل عند ذلك من أجوافها من البخار
الردئ، وينفصل من عيونها مما إذا خالط الانسان نقض بنيه قلبه وأفسده. وكانوا
يكرهون قيام الخدم بالمذاب والأشربة على رؤوسهم خوفا من أعينهم وشدة ملاحظتهم
إياهم، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا، وكانوا يقولون في الكلب والسنور
إما أن يطرد أو يشغل بما يطرح له.

(1) الأكمة: الموضع يكون أشد ارتفاعا مما حوله،. وانظر عيون الأخبار 1: 145.
(2) تفاجت: وسعت ما بين رجليها.
(3) نتجتها أي أولدتها.
(4) المحاق مثلثة: آخر الشهر أو ثلاث ليال من آخره، أو أن يستتر القمر فلا يرى غدوة ولا
عشية، سمى محاقا لأنه طلع مع الشمس فمحقته.
376

وقالت الحكماء: نفوس السباع أردأ النفوس وأخبثها لفرط شرهها وشرها. قالوا:
وقد وجدنا الرجل يضرب الحية بعصا فيموت الضارب والحية، لان سم الحية فصل منها
حتى خالط أحشاء الضارب وقلبه، ونفذ في مسام جسده.
وقد يديم الانسان النظر إلى العين المحمرة فتعتري عينه حمرة، والتثاؤب يعدى
أعداء ظاهرا، ويكره دنو الطامث من اللبن لتسوطه، لان لها رائحة وبخارا يفسد
اللبن المسوط (1).
وقال الأصمعي: رأيت رجلا عيونا (2) كان يذكر عن نفسه إنه إذا أعجبه الشئ
وجد حرارة تخرج من عينه.
وقال: أيضا كان عندنا عيونان فمر أحدهما بحوض من حجارة، فقال: تالله ما رأيت
كاليوم حوضا! فانصدع فلقتين، فمر عليه الثاني، فقال: وأبيك لقلما ضررت أهلك
فيك! فتطاير أربع فلق.
وسمع آخر صوت بول من وراء جدار حائط، فقال: إنك كثير الشخب، فقالوا: هو ابنك، فقال: أوه انقطع ظهره، فقيل لا بأس عليه إن شاء الله، فقال: والله
لا يبول بعدها أبدا، فما بال حتى مات.
وسمع آخر صوت شخب ناقة بقوة فأعجبه، فقال: أيتهن هذه؟ فوروا بأخرى
عنها، فهلكتا جميعا، المورى بها والمورى عنها.
قال رجل من خاصة المنصور له قبل أن يقتل أبا مسلم بيوم واحد: إني رأيت
اليوم لأبي مسلم ثلاثا تطيرت له منها. قال: ما هي؟ قال: ركب فوقعت قلنسوته

(1) الطامث: الحائض. والمسوط: المخلوط.
(2) العيون: الشديد الإصابة بالعين.
377

عن رأسه، فقال المنصور: الله أكبر! تبعها والله رأسه، فقال: وكبا به فرسه، فقال:
الله أكبر! كبا والله جده، وأصلد زنده، فما الثالثة؟ قال: أنه قال لأصحابه: أنا
مقتول، وإنما أخادع نفسي، وإذا رجل ينادى آخر من الصحراء: اليوم آخر
الاجل يا فلان. فقال: الله أكبر! انقضى اجله إن شاء الله، وانقطع من الدنيا اثره.
فقتل في غد ذلك اليوم.
تجهز النابغة الذبياني للغزو - واسمه زياد بن عمرو - مع زبان بن سيار الفزاري - فلما
أراد الرحيل سقطت عليه جرادة فتطير، وقال: ذات لونين تجرد، غري من خرج،
فأقام ولم يلتفت زبان إلى طيرته، فذهب ورجع غانما، فقال:
تطير طيرة يوما زياد * لتخبره وما فيها خبير (1)
أقام كان لقمان بن عاد * أشار له بحكمته مشير
تعلم إنه لا طير إلا * على متطير وهو الثبور
بلى شئ يوافق بعض شئ * أحايينا وباطلة كثير.
حضر عمر بن الخطاب الموسم، فصاح به صائح: يا خليفة رسول الله، فقال رجل
من بنى لهب، وهم أهل عيافة وزجر: دعاه باسم ميت: مات والله أمير المؤمنين عليه السلام
فلما وقف الناس للجمار إذا حصاة صكت صلعة عمر، فأدمى منها، فقال ذلك القائل: أشعر
والله أمير المؤمنين، لا والله ما يقف هذا الموقف أبدا، فقتل عمر قبل أن يحول الحول،
وقال كثير بن عبد الرحمن:
تيممت لهبا أبتغي العلم عندها * وقد صار علم العائفين إلى لهب (2).

(1) الحيوان 3: 447.
(2) عيون الأخبار 1: 149.
378

كان للعرب كاهنان اسم أحدهما شق، وكان نصف إنسان، واسم الاخر
سطيح، وكان يطوى طي الحصير، ويتكلمان بكل أعجوبة في الكهانة، فقال
ابن الرومي:
لك رأى كأنه رأى شق * وسطيح قريعي الكهان
يستشف الغيوب عما توارى * بعيون جلية الانسان.
وقال أبو عثمان الجاحظ: كان مسيلمة قبل أن يتنبأ يدور في الأسواق التي كانت
بين دور العرب والعجم كسوق الأبلة وسوق بقة وسوق الأنبار وسوق الحيرة يلتمس
تعلم الحيل والنيرنجيات واحتيالات أصحاب الرقي والعزائم و النجوم، وقد كان أحكم علم
الحزاة وأصحاب الزجر والخط، فعمد إلى بيضة فصب إليها خلا حاذقا قاطعا، فلانت،
حتى إذا مدها الانسان استطالت ودقت كالعلك، ثم أدخلها قارورة ضيقة الرأس وتركها
حتى انضمت واستدارت وجمدت، فعادت كهيئتها الأولى، فأخرجها إلى قوم وهم أعراب
واستغواهم بها، وفيه قيل
ببيضة قارور وراية شادن * وتوصيل مقطوع من الطير حاذق
قالوا: أراد برأيه الشادن التي يعملها الصبي من القرطاس الرقيق، ويجعل لها ذنبا
وجناحين ويرسلها يوم الريح بخيط طويل.
كان مسيلمة يعمل رايات من هذا الجنس، ويعلق فيها الجلاجل، ويرسلها ليلا
في شدة الريح، ويقول هذه الملائكة تنزل على وهذه خشخشة الملائكة وزجلها،
وكان يصل جناح الطير المقصوص بريش معه فيطير ويستغوي به الاعراب.
شاعر في الطيرة:
379

وأمنع الياسمين الغض من حذري * عليك إذ قيل لي نصف اسمه ياس.
وقال آخر
أهدت إليه سفرجلا فتطيرا * منه وظل مفكرا مستعبرا (1)
خوف الفراق لان شطر هجائه * سفر وحق له بأن يتطيرا
وقال آخر:
يا ذا الذي أهدى لنا سوسنا * ما كنت في إهدائه محسنا
نصف اسمه سو فقد ساءني * يا ليت إني لم أر السوسنا
ومثله:
لا تراني طوال * دهري أهوى الشقائقا
إن يكن يشبه الخدود * فنصف اسمه شقا
وكانوا يتفاءلون بالآس لدوامه، ويتطيرون من النرجس لسرعة انقضائه،
ويسمونه الغدار.
وقال العباس بن الأحنف:
إن الذي سماك يا منيتي * بالنرجس الغدار ما أنصفا (2)
لو إنه سماك بالآسة * وفيت إن الآس أهل الوفا
خرج كثير يريد عزة ومعه صاحب له من نهد، فرأى غرابا ساقطا فوق بانة
ينتف ريشه، فقال له النهدي: إن صدق الطير فقد ماتت عزة، فوافى أهلها وقد
أخرجوا جنازتها، فقال:
وما أعيف النهدي لا در دره * وأزجره للطير لا عز ناصره (3)
رأيت غرابا ساقطا فوق بانة * ينتف أعلى ريشه ويطايره

(1) مستعبرا، أي سالت عبرته، أي دموعه.
(2) ديوانه 190.
(3) عيون الأخبار 1: 148.
380

فقال: غراب لاغتراب، وبانة * لبين، وفقد من حبيب تعاشره.
وقال الشاعر:
وسميته يحيى ليحيا ولم يكن * إلى رد حكم الله فيه سبيل
تيممت فيه الفأل حين رزقته * ولم أدر أن الفأل فيه يفيل.
فأما القول في السحر فإن الفقهاء يثبتونه ويقولون: فيه القود، وقد جاء في الخبر
أن رسول الله صلى الله عليه وآله سحره لبيد بن أعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه إنه
عمل الشئ ولم يعمله.
وروى أن امرأة من يهود سحرته بشعر وقصاص ظفر وجعلت السحر في بئر، وإن
الله تعالى دله على ذلك، فبعث عليا عليه السلام فاستخرجه وقتل المرأة.
وقوم من المتكلمين ينفون هذا عنه عليه السلام، ويقولون: إنه معصوم
من مثله.
والفلاسفة تزعم أن السحر من آثار النفس الناطقة، وإنه لا يبعد أن يكون في
النفوس نفس تؤثر في غير بدنها المرض والحب والبغض ونحو ذلك، وأصحاب
الكواكب يجعلون للكواكب في ذلك تأثيرا، وأصحاب خواص الأحجار والنبات
وغيرها يسندون ذلك إلى الخواص، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام دال على تصحيح
ما يدعى من السحر.
وأما العدوي فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا عدوى في الاسلام).
وقال: لمن قال: أعدي بعضها بعضا - يعنى الإبل: فمن أعدى الأول؟ وقال: (لا عدوى
ولا هامة ولا صفر)، فالعدوى معروفة، والهامة: ما كانت العرب تزعمه في المقتول
381

لا يؤخذ بثأره، والصفر: ما كانت العرب تزعمه من الحية في البطن تعض
عند الجوع.
[نكت في مذاهب العرب وتخيلاتها]
وسنذكر هاهنا نكتا ممتعة من مذاهب العرب وتخيلاتها، لان الموضع قد ساقنا
إليه، أنشد هشام بن الكلبي لأمية بن أبي الصلت:
سنة أزمة تبرح بالناس * ترى للعضاة فيها صريرا (1)
لا على كوكب تنوء ولا ريح * جنوب ولا ترى طحرورا (2)
ويسقون باقر السهل للطود * مهازيل خشية أن تبورا
عاقدين النيران في ثكن * الأذناب منها لكي تهيج البحورا
سلع ما ومثله عشر ما * عامل ما وعالت البيقورا.
يروى أن عيسى بن عمر قال: ما أدرى معنى هذا البيت! ويقال: أن الأصمعي
صحف فيه، فقال: (وغالت البيقورا) بالغين المعجمة، وفسره غيره فقال: عالت بمعنى
أثقلت البقر بما حملتها من السلع والعشر، والبيقور: البقر. وعائل: غالب، أو مثقل.
وكانت العرب إذا أجدبت وأمسكت السماء عنهم وأرادوا أن يستمطروا عمدوا
إلى السلع والعشر فحزموهما وعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النيران، وأصعدوها
في جبل وعر، وأتبعوها يدعون الله ويستسقونه، وإنما يضرمون النيران في أذناب
البقر تفاؤلا للبرق بالنار، وكانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات، وقال أعرابي:
شفعنا ببيقور إلى هاطل الحيا * فلم يغن عنا ذاك بل زادنا جدبا
فعدنا إلى رب الحيا فأجارنا * وصير جدب الأرض من عنده خصبا

(1) شعراء النصرانية 235، في وصف سنة ومجاعة.
(2) الطحرور: القطع من السحاب.
382

وقال آخر:
قل لبني نهشل أصحاب الحور: * أتطلبون الغيث جهلا بالبقر!
وسلع من بعد ذاك وعشر * ليس بذا يجلل الأرض المطر.
ويمكن أن يحمل تفسير الأصمعي على محمل صحيح، فيقال: غالت بمعنى أهلكت،
يقال: غاله كذا واغتاله أي أهلكه، وغالتهم غول، يعنى المنية، ومنه الغضب
غول الحلم.
وقال آخر:
لما كسونا الأرض أذناب البقر * بالسلع المعقود فيها والعشر.
وقال آخر:
يا كحل قد أثقلت أذناب البقر * بسلع يعقد فيها وعشر
* فهل تجودين ببرق ومطر *
و قال آخر يعيب العرب بفعلهم هذا:
لا در در رجال خاب سعيهم * يستمطرون لدى الاعسار بالعشر
أجاعل أنت بيقورا مسلعة * ذريعة لك بين الله والمطر.
وقال بعض الأذكياء: كل أمة قد تحذو في مذاهبها مذاهب ملة أخرى، وقد
كانت الهند تزعم أن البقر ملائكة، سخط الله عليها فجعلها في الأرض، وإن لها
عنده حرمة، وكانوا يلطخون الأبدان بأخثائها (1)، ويغسلون الوجوه ببولها ويجعلونها
مهور نسائهم، ويتبركون بها في جميع أحوالهم، فلعل أوائل العرب حذوا هذا الحذو،
وانتهجوا هذا المسلك.

(1) الأخثاء: جمع خثة، وهي البعرة اللينة.
383

وللعرب في البقر خيال آخر، وذلك إنهم إذا أوردوها فلم ترد، ضربوا الثور ليقتحم
الماء، فتقتحم البقر بعده، ويقولون: إن الجن تصد البقر عن الماء، وإن الشيطان يركب
قرني الثور، وقال قائلهم:
إني وقتلى سليكا حين أعقله * كالثور يضرب لما عافت البقر (1)
وقال نهشل بن حرى:
كذاك الثور يضرب بالهراوي * إذا ما عافت البقر الظماء.
وقال آخر:
كالثور يضرب للورود * إذا تمنعت البقر.
فإن كان ليس إلا هذا فليس ذاك بعجيب من البقر ولا بمذهب من مذاهب العرب:
لأنه قد يجوز أن تمتنع البقر من الورود حتى يرد الثور كما تمتنع الغنم من سلوك
الطرق أو دخول الدور والأخبية حتى يتقدمها الكبش أو التيس، وكالنحل تتبع
اليعسوب، والكراكي تتبع أميرها، ولكن الذي تدل عليه أشعارها أن الثور
يرد ويشرب ولا يمتنع، ولكن البقر تمتنع وتعاف الماء وقد رأت الثور يشرب،
فحينئذ يضرب الثور مع إجابته إلى الورود فتشرب البقر عند شربه، وهذا هو العجب،
قال الشاعر:
فإني إذن كالثور يضرب جنبه * إذا لم يعف شربا وعافت صواحبه.
وقال آخر:
فلا تجعلوني كالبقير وفحلها * يكسر ضربا وهو للورد طائع
وما ذنبه إن لم يرد بقراته * وقد فاجأتها عند ذاك الشرائع.

(1) للسليك بن السلكة، والبيت من شواهد ابن عقيل 2: 282.
384

وقال الأعشى:
لكالثور والجني يضرب وجهه * وما ذنبه إن عافت الماء مشربا! (1)
وما ذنبه إن عافت الماء باقر * وما إن يعاف الماء إلا ليضربا.
قالوا في تفسيره: لما كان امتناعها يتعقبه الضرب، حسن أن يقال: عافت الماء
لتضرب، وهذه اللام هي لام العاقبة، كقوله: (لدوا للموت)، وعلى هذا فسر
أصحابنا قوله سبحانه: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) (2).
ومن مذاهب العرب أيضا تعليق الحلي والجلاجل على اللديغ يرون إنه يفيق بذلك،
ويقال: إنه إنما يعلق عليه لأنهم يرون [أنه] إن نام يسرى السم فيه فيهلك، فشغلوه
بالحلي والجلاجل وأصواتها عن النوم، وهذا قول النضر بن شميل، وبعضهم يقول:
إنه إذا علق عليه حلي الذهب برأ، وإن علق الرصاص أو حلي الرصاص مات.
وقيل لبعض الاعراب أتريدون شهرة؟ فقال: إن الحلي لا تشهر، ولكنها
سنة ورثناها.
وقال النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة * من الرقش في أنيابها السم ناقع (3)
يسهد من ليل التمام سليمها * لحلي النساء في يديه قعاقع.
وقال بعض بنى عذرة:
كأني سليم ناله كلم حية * ترى حوله حلي النساء مرصعا

(1) ديوانه 90.
(2) سورة الأعراف 179.
(3) ديوانه 51.
385

وقال آخر:
وقد عللوا بالبطل في كل موضع * وغروا كما غر السليم الجلاجل
وقال جميل وظرف في قوله، ولو قاله العباس بن الأحنف لكان ظريفا:
إذا ما لديغ أبرأ الحلي داءه * فحليك أمسى يا بثينة دائيا (1).
وقال عويمر النبهاني وهو يؤكد قول النضر بن شميل:
فبت معنى بالهموم كأنني * سليم نفى عنه الرقاد الجلاجل.
ومثله قول الاخر:
كأني سليم سهد الحلي عينه * فراقب من ليل التمام الكواكبا
ويشبه مذهبهم في ضرب الثور مذهبهم في العر يصيب الإبل فيكوى الصحيح
ليبرأ السقيم. وقال النابغة:
وكلفتني ذنب امرئ وتركته * كذي العر يكوى غيره وهو راتع (2).
وقال بعض الاعراب:
كمن يكوى الصحاح يروم برءا * به من كل جرباء الإهاب.
وهذا البيت يبطل رواية من روى بيت النابغة (كذي العر) بضم العين، لان
العر بالضم: قرح في مشافر الإبل غير الجرب، والعر بالفتح: الجرب نفسه، فإذا دل
الشعر على إنه يكوى الصحيح ليبرأ الأجرب، فالواجب أن يكون بيت النابغة
(كذي العر) بالفتح.
ومثل هذا البيت قول الاخر
فألزمتني ذنبا وغيري جره * حنانيك لا يكوى الصحيح بأجربا
إلا أن يكون اطلاق لفظ الجرب على هذا المرض المخصوص من باب المجاز لمشابهته له.

(1) ديوانه 218.
(2) ديوانه 54.
386

ومن تخيلات العرب ومذاهبها إنهم كانوا يفقئون عين الفحل من الإبل إذا بلغت
ألفا، كأنهم يدفعون العين عنها، قال الشاعر:
فقأنا عيونا من فحول بهازر * وأنتم برعي البهم أولى وأجدر.
وقال آخر:
وهبتها وكنت ذا امتنان * تفقأ فيها أعين البعران.
وقال الآخر:
أعطيتها ألفا ولم تبخل بها * ففقأت عين فحيلها معتافا
وقد ظن قوم أن بيت الفرزدق وهو
غلبتك بالمفقئ والمعنى * وبيت المحتبى والخافقات (1)
من هذا الباب، وليس الامر على ذلك، وإنما أراد بالفقء قوله لجرير:
ولست ولو فقأت عينيك واجدا * أخا كلقيط أو أبا مثل دارم (2)
وأراد بالمعنى قوله لجرير أيضا:
وأنك إذ تسعى لتدرك دارما * لأنت المعنى يا جرير المكلف (3)
وأراد بقوله: (بيت المحتبى) قوله:
بيت زرارة محتب بفنائه * ومجاشع وأبو الفوارس نهشل (4)
وبيت الخافقات، قوله:
ومعصب بالتاج يخفق فوقه * خرق الملوك له خميس جحفل (5)

(1) ديوانه 131. والخافقات: الرايات.
(2) في شرح ديوانه: (أو أبا مثل نهشل.
(3) ديوانه 436.
(4) 714.
(5) ديوانه 715، وفى شرح الديوان. والخافقات يريد قوله:
وأين تقضى المالكان أمورها * بحق وأين الخافقات اللوامع
قال أبو الهيثم: (فخر الفرزدق في هذا البيت على جرير، لان العرب كانت إذا بلغ لأحدهم ألف بعير
فقأ عين بعير منها، فإذا تمت ألفان أعماه، فافتخر عليه بكثرة ماله).
387

فأما مذهبهم في البلية، وهي ناقة تعقل عند القبر حتى تموت، فمذهب مشهور،
والبلية إنهم إذا مات منهم كريم بلوا ناقته أو بعيره، فعكسوا عنقها، وأداروا رأسها
إلى مؤخرها، وتركوها في حفيرة لا تطعم ولا تسقى حتى تموت، وربما أحرقت بعد
موتها، وربما سلخت وملئ جلدها ثماما. وكانوا يزعمون أن من مات ولم يبل
عليه حشر ماشيا، ومن كانت له بلية حشر راكبا على بليته، قال جريبة (1) بن الأشيم
الفقعسي لابنه:
يا سعد أما أهلكن فإنني * أوصيك أن أخا الوصاة الأقرب
لا أعرفن أباك يحشر خلفكم * تعبا يجر على اليدين وينكب
واحمل أباك على بعير صالح * وتق الخطيئة إنه هو أصوب
ولعل لي مما جمعت مطية * في الحشر اركبها إذا قيل اركبوا.
وقال جريبة أيضا:
إذا مت فادفني بجداء ما بها * سوى الأصرخين أو يفوز راكب
فإن أنت لم تعقر على مطيتي * فلا قام في مال لك الدهر جالب
ولا تدفنني (1) في صوى وادفننني * بديمومة تنزو عليها الجنادب.
وقد ذكرت في مجموعي المسمى (بالعبقري الحسان) أن أبا عبد الله الحسين بن محمد
بن جعفر الخالع رحمه الله ذكر في كتابه في آراء العرب وأديانها هذه الأبيات، واستشهد
بها على ما كانوا يعتقدون في البلية، وقلت: إنه وهم في ذلك، وإنه ليس في هذه
الأبيات دلالة على هذا المعنى، ولا لها به تعلق، وإنما هي وصية لولده أن يعقر مطيته
بعد موته، أما لكيلا يركبها غيره بعده، أو على هيئة القربان كالهدي المعقور

(1) ديوانه 346.
388

بمكة، أو كما كانوا يعقرون عند القبور، ومذهبهم في العقر على القبور، كقول زياد الأعجم
في المغيرة بن المهلب:
إن السماحة والمروءة ضمنا * قبرا بمرو على الطريق الواضح (1)
فإذا مررت بقبره فاعقر به * كوم الهجان وكل طرف سابح (2)
وقال الآخر:
نفرت قلوصي عن حجارة حرة * بنيت على طلق اليدين وهوب (3)
لا تنفري يا ناق منه فإنه * شريب خمر مسعر لحروب
لولا السفار وبعد خرق مهمه * لتركتها تحبو على العرقوب
ومذهبهم في العقر على القبور مشهور، وليس في هذا الشعر ما يدل على مذهبهم
في البلية، فإن ظن ظان أن قوله: (أو يفوز راكب)، فيه إيماء إلى ذلك، فليس الامر
كما ظنه. ومعنى البيت ادفني بفلاة جداء مقطوعة عن الانس، ليس بها إلا الذئب
والغراب، أو أن يعتسف راكبها المفازة وهي المهلكة، سموها مفازة على طريق الفأل.
وقيل: إنها تسمى مفازة، من فوز أي هلك، فليس في هذا البيت ذكر البلية، ولكن
الخالع أخطأ في إيراده في هذا الباب، كما أخطأ في هذا الباب أيضا في إيراده قول مالك
بن الريب:
وعطل قلوصي في الركاب فإنها * ستبرد أكبادا وتبكي بواكيا (4)
فظن أن ذلك من هذا الباب الذي نحن فيه، ولم يرد الشاعر ذلك، وإنما أراد

(1) الشعر والشعراء 397.
(2) بعده في الشعر والشعراء:
وانضح جوانب قبره بدمائها * فلقد يكون أخا دم وذبائح
(3) من أبيات في رثاء ربيعة بن مكدم، تنسب إلى ضرار بن الخطاب، وتنسب لحسان أيضا، وانظر
الأغاني 16: 58، 59 (طبعة دار الكتب).
(4) أمالي القالي 3: 138.
389

لا تركبوا راحلتي بعدي، وعطلوها بحيث لا يشاهدها أعادي وأصادقي ذاهبة جائية
تحت راكبها، فيشمت العدو ويساء الصديق، وقد أخطأ الخالع في مواضع عدة من هذا
الكتاب، وأورد أشعارا في غير موضعها، وظنها مناسبة لما هو فيه، فمنها ما ذكرناه،
ومنها إنه ذكر مذهب العرب في الحلي ووضعه على اللديغ، واستشهد عليه
بقول الشاعر:
يلاقى من تذكر آل ليلى * كما يلقى السليم من العداد (1)
ولا وجه لا يراد هذا البيت في هذا الموضع، فالعداد معاودة السم الملسوع في كل
سنه في الوقت الذي لدغ فيه، وليس هذا من باب الحلي بسبيل.
ومن ذلك إيراده قول الفرزدق (غلبتك بالمفقئ (2)) في باب فق ء عيون
الفحول، إذا بلغت الإبل ألفا، وقد تقدم شرحنا لموضع الوهم في ذلك. وسنذكر
هاهنا كثيرا من المواضع التي وهم فيها إن شاء الله.
ومما ورد عن العرب في البلية قول بعضهم:
ابني زودني إذا فارقتني * في القبر راحلة برحل فاتر
للبعث اركبها إذا قيل اركبوا * مستوثقين معا لحشر الحاشر.
وقال عويم النبهاني:
ابني لا تنسى البلية إنها * لأبيك يوم نشوره مركوب.

(1) اللسان 4: 274.
(2) وهو قوله:
غلبتك بالمفقئ والمعنى وبيت المحتبى والخافقات.
390

ومن تخيلات العرب ومذاهبها ما حكاه ابن الأعرابي، قال: كانت العرب إذا
نفرت الناقة فسميت لها أمها سكنت من النفار، قال الراجز:
أقول والوجناء بي تقحم * ويلك قل ما اسم أمها يا علكم:
علكم اسم عبد له، وإنما سأل عبده ترفعا أن يعرف اسم أمها، لان العبيد
بالإبل أعرف، وهم رعاتها.
وأنشد السكري:
فقلت له: ما اسم أمها هات فادعها * تجبك ويسكن روعها ونفارها.
ومما كانت العرب كالمجتمعة عليه الهامة، وذلك أنهم كانوا يقولون: ليس من ميت
يموت ولا يقتل، ألا ويخرج من رأسه هامة، فإن كان قتل ولم يؤخذ بثأره
نادت الهامة على قبره: أسقوني، فإني صدية، وعن هذا قال النبي صلى الله عليه
وآله: (لا هامة).
وحكى إن أبا زيد كان يقول: الهامة مشددة الميم إحدى هوام الأرض، وإنها
هي المتلونة المذكورة.
وقيل: إن أبا عبيد قال: ما أرى أبا زيد حفظ هذا، وقد يسمونها الصدى والجمع
أصداء، قال:
* وكيف حياة أصداء وهام *.
وقال أبو داود الأيادي:
سلط الموت والمنون عليهم * فلهم في صدى المقابر هام (1)

(1) ديوانه 339.
391

وقال بعضهم لابنه:
ولا تزقون لي هامة فوق مرقب * فان زقاء الهام للمرء عائب
تنادي ألا أسقوني وكل صدى به * وتلك التي تبيض منها الذوائب
يقول له: لا تترك ثأري إن قتلت، فإنك إن تركته صاحت هامتي: أسقوني،
فإن كل صدى - وهو هاهنا العطش - بأبيك، وتلك التي تبيض منها الذوائب، لصعوبتها
وشدتها، كما يقال: أمر يشيب رأس الوليد، ويحتمل أن يريد به صعوبة الامر عليه،
وهو مقبور إذا لم يثأر به، ويحتمل أن يريد به صعوبة الامر على ابنه، يعنى إن ذلك عار
عليك، وقال ذو الإصبع:
يا عمرو ألا تدع شتمي ومنقصتي * أضربك حيث تقول الهامة أسقوني (1)
وقال آخر:
فيا رب إن أهلك ولم ترو هامتي * بليلى أمت لا قبر أعطش من قبري (2)
ويحتمل هذا البيت أن يكون خارجا عن هذا المعنى الذي نحن فيه، وأن يكون
ري هامته الذي طلبه من ربه هو وصال ليلى وهما في الدنيا. وهم يكنون عما يشفيهم
بأنه يروى هامتهم.
وقال مغلس الفقعسي:
وإن أخاكم قد علمت مكانه * بسفح قبا تسفى عليه الأعاصر
له هامة تدعو إذا الليل جنها * بنى عامر هل للهلالي ثائر.
وقال توبة بن الحمير:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت * على ودوني جندل وصفائح

(1) المفضلية 31.
(2) للمجنون، ديوانه 165.
392

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا * إليها صدى من جانب القبر صائح (1)
وقال قيس بن الملوح، وهو المجنون:
ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا * ومن دوننا رمس من الأرض أنكب (2)
لظل صدى رمسي وإن كنت رمة * لصوت صدى ليلى يهش ويطرب.
وقال حميد بن ثور:
ألا هل صدى أم الوليد مكلم * صداي إذا ما كنت رمسا وأعظما (3)
ومما أبطله الاسلام قول العرب بالصفر، زعموا أن في البطن حية إذا جاع الانسان
عضت على شرسوفه وكبده، وقيل: هو الجوع بعينه، ليس إنها تعض بعد حصول
الجوع، فأما لفظ الحديث: (لا عدوى ولا هامة ولا صفر ولا غول)، فإن أبا عبيدة
معمر بن المثنى قال: هو صفر الشهر الذي بعد المحرم، قال: نهى عليه السلام عن تأخيرهم
المحرم إلى صفر، يعنى ما كانوا يفعلونه من النسئ، ولم يوافق أحد من العلماء أبا عبيدة
على هذا التفسير، وقال الشاعر:
لا يتأرى لما في القدر يرقبه * ولا يعض على شرسوفه الصفر (4)
وقال بعض شعراء بنى عبس يذكر قيس بن زهير: لما هجر الناس وسكن الفيافي * (هامش)
(1) ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 3: 267.
(2) ديوانه 46، وروايته * ومن دون رمسينا من الأرض سبسب *.
(3) ديوانه 30.
(4) لأعشى باهلة، الكامل للمبرد (4: 65، والرواية فيه:
لا يتأرى لما في القدر يرقبه * ولا تراه أمام القدر يقتفر
لا يغمز الساق من أين ولا وصب * ولا يعض على شر سوفه الصفر
393

وأنس بالوحش، ثم رأى ليله نارا فعشا إليها، فشم عندها قتار اللحم، فنازعته
شهوته، فغلبها وقهرها، ومال إلى شجرة سلم فلم يزل يكدمها ويأكل من خبطها (1)
إلى أن مات:
إن قيسا كان ميتته * كرم والحي منطلق
شام نارا بالهوى فهوى * وشجاع البطن يختفق
في دريس ليس يستره * رب حر ثوبه خلق.
وقوله: (بالهوى) اسم موضع بعينه.
وقال أبو النجم العجلي:
إنك يا خير فتى نستعدي * على زمان مسنت بجهد
* عضا كعض صفر بكبد *.
وقال آخر:
أرد شجاع البطن قد تعلمينه * وأوثر غيري من عيالك بالطعم
ومن خرافات العرب أن الرجل منهم كان إذا أراد دخول قرية فخاف وباءها
أو جنها، وقف على بابها، قبل أن يدخلها فنهق نهيق الحمار، ثم علق عليه كعب أرنب،
كان ذلك عوذة له ورقية من الوباء والجن، ويسمون هذا النهيق التعشير،
قال شاعرهم:
ولا ينفع التعشير إن حم واقع * ولا زعزع ولا كعب أرنب.
وقال الهيثم بن عدي: خرج عروة بن الورد إلى خيبر في رفقة ليمتاروا، فلما
قربوا منها عشروا، وعاف عروة أن يفعل فعلهم، وقال:

(1) الخبط هنا: الورق.
394

لعمري لئن عشرت من خيفة الردى * نهاق حمير إنني لجزوع (1)
فلا والت تلك النفوس ولا أتت * قفولا إلى الأوطان وهي جميع
وقالوا ألا انهق لا تضرك خيبر * وذلك من فعل اليهود ولوع.
الولوع بالضم: الكذب ولع الرجل إذا كذب، فيقال إن رفقته مرضوا ومات
بعضهم، ونجا عروة من الموت والمرض.
وقال آخر:
لا ينجينك من حمام واقع * كعب تعلقه ولا تعشير.
ويشابه هذا أن الرجل منهم كان إذا ضل في فلاة قلب قميصه، وصفق بيديه كأنه
يومئ بهما إلى إنسان فيهتدي، قال أعرابي:
قلبت ثيابي والظنون تجول بي * وترمى برحلي نحو كل سبيل
فلأيا بلاي ما عرفت جليتي * وأبصرت قصدا لم يصب بدليل.
وقال أبو العملس الطائي:
فلو أبصرتني بلوى بطان * أصفق بالبنان على البنان
فأقلب تارة خوفا ردائي * وأصرخ تارة بأبي فلان
لقلت أبو العملس قد دهاه * من الجنان خالعة العنان.
والأصل في قلب الثياب التفاؤل بقلب الحال، وقد جاء في الشريعة الاسلامية نحو
ذلك في الاستسقاء.

(1) ديوانه 95.
395

ومن مذاهب العرب أن الرجل منهم كان إذا سافر عمد إلى خيط فعقده في غصن
شجرة أو في ساقها، فإذا عاد نظر إلى ذلك الخيط، فإن وجده بحاله علم أن زوجته لم
تخنه، وإن لم يجده أو وجده محلولا، قال: قد خانتني، وذلك العقد يسمى الرتم، ويقال:
بل كانوا يعقدون طرفا من غصن الشجرة بطرف غصن آخر، وقال الراجز:
هل ينفعنك اليوم إن همت بهم * كثرة ما توصي وتعقاد الرتم (1)
وقال آخر:
خانته لما رأت شيبا بمفرقه * وغره حلفها والعقد للرتم
وقال آخر:
لا تحسبن رتائما عقدتها * تنبيك عنها باليقين الصادق
وقال آخر:
يعلل عمرو بالرتائم قلبه * وفي الحي ظبي قد أحلت محارمه
فما نفعت تلك الوصايا ولا جنت * عليه سوى ما لا يحب رتائمه
وقال آخر:
ماذا الذي تنفعك الرتائم * إذ أصبحت وعشقها ملازم
وهي على لذاتها تداوم * يزورها طب الفؤاد عارم
* بكل أدواء النساء عالم *
وقد كانوا يعقدون الرتم للحمى، ويرون أن من حلها انتقلت الحمى إليه،
وقال الشاعر:
حللت رتيمة فمكثت شهرا * أكابد كل مكروه الدواء

(1) اللسان (رتم) من غير نسبة.
396

وقال ابن السكيت: إن العرب كانت تقول: إن المرأة المقلات وهي التي لا يعيش
لها ولد، إذا وطئت القتيل الشريف عاش ولدها، قال بشر بن أبي خازم:
تظل مقاليت النساء تطأنه * يقلن ألا يلقى على المرء مئزر (1)
وقال أبو عبيدة: تتخطاه المقلات سبع مرات، فذلك وطؤها له.
وقال ابن الأعرابي: يمرون به ويطئون حوله وقيل: إنما كانوا يفعلون ذلك
بالشريف يقتل غدرا أو قودا.
وقال الكميت:
وتطيل المرزآت المقاليت * إليه القعود بعد القيام
وقال الآخر:
تركنا الشعثمين برمل خبت * تزورهما مقاليت النساء
وقال الآخر:
بنفسي التي تمشى المقاليت حوله * يطاف له كشحا هضيما مهشما
وقال آخر:
تباشرت المقالت حين قالوا * ثوى عمرو بن مرة بالحفير
ومن تخيلات العرب وخرافاتها، أن الغلام منهم كان إذا سقطت له سن أخذها بين
السبابة والابهام واستقبل الشمس إذا طلعت وقذف بها، وقال: يا شمس أبدليني بسن
أحسن منها، وليجر في ظلمها أياتك، أو تقول: (أياؤك)، وهما جميعا شعاع الشمس،
قال طرفة:

(1) ديوانه 88.
397

* سقته إياه الشمس (1) *.
وإلى هذا الخيال أشار شاعرهم بقوله:
شادن يجلو إذا ما ابتسمت * عن أقاح كأقاح الرمل غر
بدلته الشمس من منبته * بردا أبيض مصقول الأشر.
وقال آخر:
وأشنب واضح عذب الثنايا * كان رضابه صافي المدام
كسته الشمس لونا من سناها * فلاح كأنه برق الغمام.
وقال آخر:
بذي أشر عذب المذاق تفردت * به الشمس حتى عاد أبيض ناصعا.
والناس اليوم في صبيانهم على هذا المذهب.
وكانت العرب تعتقد أن دم الرئيس يشفى من عضة الكلب الكلب،
قال الشاعر:
بناة مكارم وأساة جرح * دماؤهم من الكلب الشفاء
وقال عبد الله بن الزبير الأسدي:
من خير بيت علمناه وأكرمه * كانت دماؤهم تشفى من الكلب
وقال الكميت:
أحلامكم لسقام الجهل شافية * كما دماؤكم تشفى من الكلب
ومن تخيلات العرب إنهم كانوا إذا خافوا على الرجل الجنون وتعرض الأرواح

(1) البيت بتمامه:
سقته إياه الشمس إلا لثاته * أسف ولم تكدم عليه بإثمد.
398

الخبيثة له نجسوه بتعليق الأقذار عليه، كخرقة الحيض وعظام الموتى، قالوا: وأنفع من
ذلك أن تعلق عليه طامث عظام موتى، ثم لا يراها يومه ذلك، وأنشدوا
للمزق العبدي:
فلو أن عندي جارتين وراقيا * وعلق أنجاسا على المعلق
قالوا: والتنجيس يشفى إلا من العشق، قال أعرابي:
يقولون علق يا لك الخير رمة * وهل ينفع التنجيس من كان عاشقا!
وقالت امرأة - وقد نجست ولدها فلم ينفعه ومات:
نجسته لو ينفع التنجيس * والموت لا تفوته النفوس
وكان أبو مهدية يعلق في عنقه العظام والصوف حذر الموت، وأنشدوا:
أتوني بأنجاس لهم ومنجس * فقلت لهم ما قدر الله كائن
ومن مذاهبهم أن الرجل منهم كان إذا خدرت رجله ذكر من يحب أو دعاه
فيذهب خدرها.
وروى أن عبد الله بن عمر خدرت رجله، فقيل له: ادع أحب الناس إليك، فقال:
يا رسول الله.
وقال الشاعر:
على أن رجلي لا يزال امذلالها * مقيما بها حتى أجيلك في فكري.
وقال كثير:
إذا مذلت رجلي ذكرتك أشتفي * بدعواك من مذل بها فيهون (1)
وقال جميل:
وأنت لعيني قرة حين نلتقي * وذكرك يشفيني إذا خدرت رجلي (2)

(1) اللسان (مذل) من غير نسبة.
(2) ديوانه 172.
399

وقالت امرأة:
إذا خدرت رجلي دعوت ابن مصعب * فإن قلت عبد الله أجلى فتورها.
وقال آخر:
صب محب إذا ما رجله خدرت * نادى كبيشة حتى يذهب الخدر.
وقال المؤمل:
والله ما خدرت رجل ولا عثرت * إلا ذكرتك حتى يذهب الخدر.
وقال الوليد بن يزيد:
أثيبي هائما كلفا معنى * إذا خدرت له رجل دعاك.
ونظير هذا الوهم أن الرجل منهم كان إذا اختلجت عينه قال: أرى من أحبه،
فإن كان غائبا توقع قدومه، وإن كان بعيدا توقع قربه.
وقال بشر:
إذا اختلجت عيني أقول لعلها * فتاة بنى عمرو بها العين تلمع (1)
وقال آخر:
إذا اختلجت عيني تيقنت أنني * أراك وإن كان المزار بعيدا.
وقال آخر:
إذا اختلجت عيني أقول لعلها * لرؤيتها تهتاج عيني وتطرف.
وهذا الوهم باق في الناس اليوم.
ومن مذاهبهم أن الرجل منهم كان إذا عشق ولم يسل وأفرط عليه العشق حمله

(1) ديوانه 118.
400

رجل على ظهره كما يحمل الصبي، وقام آخر فأحمى حديده أو ميلا، وكوى به بين
أليتيه فيذهب عشقه فيما يزعمون.
وقال أعرابي:
كويتم بين رانفتي جهلا * ونار القلب يضرمها الغرام
وقال آخر:
شكوت إلى رفيقي اشتياقي * فجاءاني وقد جمعا دواء
وجاءا بالطبيب ليكوياني * ولا أبغي - عدمتهما - اكتواء
ولو أتيا بسلمى حين جاءا * لعاضاني من السقم الشفاء
واستشهد الخالع على هذا المعنى بقول كثير:
أغاضر لو شهدت غداة بنتم * حنو العائدات على وسادي
أويت لعاشق لم ترحميه * بواقدة تلذع بالزناد
هذا البيت ليس بصريح في هذا الباب، ويحتمل أن يكون مراده فيه المعنى المشهور
المطروق بين الشعراء من ذكر حرارة الوجد ولذعة، وتشبيهه بالنار، إلا إنه قد
روى في كتابه خبرا يؤكد المقصد الذي عزاه وادعاه، وهو عن محمد بن سليمان
بن فليح، عن أبيه، عن جده، قال: كنت عند عبد الله بن جعفر، فدخل
عليه كثير وعليه أثر علة، فقال عبد الله: ما هذا بك؟ قال: هذا ما فعلت بي أم
الحويرث، ثم كشف عن ثوبه وهو مكوي، وأنشد:
عفا الله عن أم الحويرث ذنبها * علام تعنيني وتكمى دوائيا!
ولو آذنوني قبل أن يرقموا بها * لقلت لهم: أم الحويرث دائيا
401

ومن أوهامهم وتخيلاتهم إنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا أحب امرأة وأحبته
فشق برقعها، وشقت رداءه، صلح حبهما ودام، فإن لم يفعلا ذلك فسد حبهما، قال:
سحيم عبد بنى الحسحاس
وكم قد شفقنا من رداء محبر * ومن برقع عن طفله غير عابس (1)
إذا شق برد شق بالبرد برقع * دواليك حتى كلنا غير لابس
نروم بهذا الفعل بقيا على الهوى * وإلف الهوى يغري بهذي الوساوس.
وقال آخر:
شققت ردائي يوم برقة عالج * وأمكنني من شق برقعك السحقا
فما بال هذا الود يفسد بيننا * ويمحق حبل الوصل ما بيننا محقا!
ومن مذاهبهم أنهم كانوا يرون أن اكل لحوم السباع تزيد في الشجاعة والقوة،
وهذا مذهب طبي، والأطباء يعتقدونه، قال بعضهم:
أبا المعارك لا تتعب بأكلك ما * تظن إنك تلفي منه كرارا
فلو أكلت سباع الأرض قاطبة * ما كنت إلا جبان القلب خوارا
وقال بعض الاعراب - وأكل فؤاد الأسد ليكون شجاعا - فعدا عليه نمر فجرحه:
أكلت من الليث الهصور فؤاده * لأصبح أجرى منه قلبا وأقدما
فأدرك منى ثأره بابن أخته * فيا لك ثأرا ما أشد وأعظما!
وقال آخر:
إذا لم يكن قلب الفتى غدوه الوغى * أصم فقلب الليث ليس بنافع

(1) ديوانه 16، ولم يذكر البيت الثالث.
402

وما نفع قلب الليث في حومة الوغى * إذا كان سيف المرء ليس بقاطع
ومن مذاهبهم أن صاحب الفرس المهقوع إذا ركبه فعرق تحته اغتلمت امرأته
وطمحت إلى غيره، والهقعة: دائرة تكون بالفرس، وربما كانت على الكتف في
الأكثر، وهي مستقبحة عندهم، قال بعضهم لصاحبه:
إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت * حليلته وازداد حر عجانها.
فأجابه صاحبه:
قد يركب المهقوع من ليس مثله * وقد يركب المهقوع زوج حصان (1)
ومن مذاهبهم إنهم كانوا يوقدون النار خلف المسافر الذي لا يحبون رجوعه،
يقولون في دعائهم: أبعده الله وأسحقه، وأوقد نارا أثره! قال بعضهم:
صحوت وأوقدت للجهل نارا * ورد عليك الصبا ما استعارا
وكانوا إذا خرجوا إلى الاسفار أوقدوا نارا بينهم وبين المنزل الذي يريدونه، ولم
يوقدوها بينهم وبين المنزل الذي خرجوا منه تفاؤلا بالرجوع إليه.
ومن مذاهبهم المشهورة تعليق كعب الأرنب، قال ابن الأعرابي: قلت لزيد بن
كثوة: أتقولون: إن من علق عليه كعب أرنب لم تقربه جنان الدار، ولا عمار الحي؟
قال: أي والله، ولا شيطان الخماطة ولا جار العشيرة، ولا غول القفر. وقال
امرؤ القيس:

(1) اللسان (هقع) دون نسبة.
403

أيا هند لا تنكحي بوهة * عليه عقيقته أحسبا (1)
مرسعة بين أدباقه * به عسم يبتغى أرنبا
ليجعل في رجله كعبها * حذار المنية أن يعطبا.
والخماطة: شجرة، والعشيرة: تصغير العشرة، وهي شجرة أيضا.
وقال أبو محلم: كانت العرب تعلق على الصبي سن ثعلب وسن هرة خوفا من
الخطفة والنظرة، ويقولون: إن جنية أرادت صبي قوم فلم تقدر عليه، فلامها قومها
من الجن في ذلك، فقالت تعتذر إليهم:
كان عليه نفرة * ثعالب وهررة
* والحيض حيض السمرة *.
والسمرة شئ يسيل من السمر كدم الغزال، وكانت العرب إذا ولدت المرأة أخذوا
من دم السمر - وهو صمغه الذي يسيل منه - ينقطونه بين عيني النفساء، وخطوا على
وجه الصبي خطا، ويسمى هذا الصمغ السائل من السمر الدودم، ويقال بالذال المعجمة
أيضا، وتسمى هذه الأشياء التي تعلق على الصبي: النفرات.
قال عبد الرحمن بن أخي الأصمعي: إن بعض العرب قال لأبي: إذا ولد لك ولد
فنفر عنه، فقال له أبى، وما التنفير؟ قال: غرب اسمه، فولد له ولد فسماه قنفذا،
وكناه أبا العداء، قال وأنشد أبى:
كالخمر مزج دوائها منها بها * تشفي الصداع وتبرئ المنجودا (2)
قال: يريد أن القنفذ من مراكب الجن، فداوى منهم ولده بمراكبهم.

(1) ديوانه 128.
(2) المنجود: المكروب.
404

ومن مذاهبهم أن الرجل منهم كان إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق
الليل عمد إلى وادي شجر فأناخ راحلته في قرارته، وعقلها وخط عليها خطا ثم قال:
أعوذ بصاحب هذا الوادي، وربما قال: بعظيم هذا الوادي، وعن هذا قال الله سبحانه
في القرآن: (وإنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم
رهقا) (1).
واستعاذ رجل منهم ومعه ولد فأكله الأسد، فقال:
قد استعذنا بعظيم الوادي * من شر ما فيه من الأعادي
* فلم يجرنا من هزبر عاد *.
وقال آخر
أعوذ من شر البلاد البيد * بسيد معظم مجيد
أصبح يأوي بلوى زرد * ذي عزة وكاهل شديد.
وقال آخر:
يا جن أجراع اللوى من عالج * عاذ بكم ساري الظلام الدالج
* لا ترهقوه بغوي هائج *.
وقال آخر:
قد بت ضيفا لعظيم الوادي * المانعي من سطوة الأعادي
* راحلتي في جاره وزادي *.
وقال آخر:
هيا صاحب الشجراء هل أنت مانعي * فإني ضيف نازل بفنائكا

(1) سورة الجن 6.
405

وإنك للجنان في الأرض سيد * ومثلك آوى في الظلام الصعالكا.
ومن مذاهبهم أن المسافر إذا خرج من بلده إلى آخر فلا ينبغي له أن يلتفت،
فإنه إذا التفت عاد، فلذلك لا يلتفت إلا العاشق الذي يريد العود، قال بعضهم:
دع التلفت يا مسعود وارم بها * وجه الهواجر تأمن رجعة البلد.
وقال آخر، أنشده الخالع:
عيل صيري بالثعلبية لما * طال ليلي وملني قرنائي
كلما سارت المطايا بنا * ميلا تنفست والتفت ورائي
هذان البيتان ذكرهما الخالع في هذا الباب، وعندي إنه لا دلالة فيهما على ما أراد،
لان التلفت في أشعارهم كثير، ومرادهم به الإبانة والاعراب عن كثرة الشوق،
والتأسف على المفارقة، وكون الراحل عن المنزل حيث لم يمكنه المقام فيه بجثمانه يتبعه
بصره، ويتزود من رؤيته، كقول الرضى رحمه الله:
ولقد مررت على طلولهم * ورسومهم بيد البلى نهب (1)
فوقفت حتى ضج من لغب * نضوي ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمذ خفيت * عنى الطلول تلفت القلب.
وليس يقصد بالتلفت هاهنا التفاؤل بالرجوع إليها، لان رسومها قد صارت نهبا
ليد البلى، فأي فائدة في الرجوع إليها! وإنما يريد ما قدمنا ذكره من الحنين والتذكر
لما مضى من أيامه فيها، وكذلك قول الأول:

(1) ديوانه 1: 145.
406

تلفت نحو الحي حتى وجدتني * وجعت من الاصغاء ليتا وأخدعا (1)
ومثل ذلك كثير، وقال بعضهم في المذهب الأول:
تلفت أرجو رجعة بعد نية * فكان التفاتي زائدا في بلائيا
أأرجو رجوعا بعد ما حال بيننا * وبينكم حزن الفلا والفيافيا!
وقال آخر، وقد طلق امرأته فتلفتت إليه:
تلفت ترجو رجعه بعد فرقة * وهيهات مما ترجى أم مازن!
ألم تعلمي أنى جموح عنانه * إذا كان من أهواه غير ملاين
ومن مذاهبهم، إذا بثرت شفة الصبي حمل منخلا على رأسه، ونادى بين بيوت
الحي: الحلا الحلا، الطعام الطعام، فتلقى له النساء كسر الخبز وأقطاع التمر واللحم في
المنخل، ثم يلقى ذلك للكلاب فتأكله فيبرأ من المرض، فإن أكل صبي من
الصبيان من ذلك الذي ألقاه للكلاب تمرة أو لقمة أو لحمة أصبح وقد بثرت شفته.
وأنشد لامرأة:
إلا حلا في شفة مشقوقة * فقد قضى منخلنا حقوقه
ومن مذاهبهم أن لرجل منهم كان إذا طرفت عينه بثوب آخر مسح الطارف عين
المطروف سبع مرات، يقول في الأولى: بإحدى جاءت من المدينة، وفى الثانية: باثنتين
جاءتا من المدينة، وفي الثالثة بثلاث جئن من المدينة، إلى أن يقول في السابعة: بسبع
جئن من المدينة، فتبرأ عين المطروف.

(1) للصمة بن عبد الله، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 3: 199.
407

وفيهم من يقول بإحدى من سبع جئن من المدينة، باثنتين من سبع، إلى أن يقول
بسبع من سبع.
ومن مذاهبهم أن المرأة منهم كان إذا عسر عليها خاطب النكاح نشرت جانبا
من شعرها، وكحلت إحدى عينيها مخالفة للشعر المنشور، وحجلت على إحدى رجليها
ويكون ذلك ليلا، وتقول: يا لكاح، أبغي النكاح، قبل الصباح، فيسهل أمرها
وتتزوج عن قرب، قال رجل لصديقه وقد رأى امرأة تفعل ذلك:
أما ترى أمك تبغى بعلا * قد نشرت من شعرها الأقلا
ولم توف مقلتيها كحلا * ترفع رجلا وتحط رجلا
هذا وقد شاب بنوها أصلا * وأصبح الأصغر منهم كهلا
خذ القطيع ثم سمها الذلا * ضربا به تترك هذا الفعلا
وقال آخر:
قد كحلت عينا وأعفت عينا * وحجلت ونشرت قرينا
* تظن زينا ما تراه شينا *.
وقال آخر:
تصنعي ما شئت أن تصنعي * وكحلي عينيك أو لا فدعى
ثم احجلي في البيت أو في المجمع * ما لك في بعل أرى من مطمع.
ومن مذاهبهم كانوا إذا رحل الضيف أو غيره عنهم وأحبوا ألا يعود كسروا
408

شيئا من الأواني وراءه، وهذا مما تعمله الناس اليوم أيضا، قال بعضهم:
كسرنا القدر بعد أبي سواح * فعاد وقدرنا ذهبت ضياعا.
وقال آخر:
ولا نكسر الكيزان في أثر ضيفنا * ولكننا نقفيه زادا ليرجعا
وقال آخر:
أما والله إن بنى نفيل * لحلالون بالشرف اليفاع
أناس ليس تكسر خلف ضيف * أوانيهم ولا شعب القصاع
ومن مذاهبهم قولهم: إن من ولد في القمراء تقلصت غرلته (1)، فكان كالمختون.
ويجوز عندنا أن يكون ذلك من خواص القمر، كما إن من خواصه إبلاء الكتان،
وإنتان اللحم، وقد روى عن أمير المؤمنين عليه السلام: إذا رأيت الغلام طويل الغرلة
فاقرب به من السؤدد، وإذا رأيته قصير الغرلة كأنما ختنه القمر فأبعد به.
وقال امرؤ القيس لقيصر، وقد دخل معه الحمام فرآه أقلف:
إني حلفت يمينا غير كاذبة * لأنت أغلف إلا ما جنى القمر (2)
ومن مذاهبهم التشاؤم بالعطاس، قال امرؤ القيس:
* وقد أغتدي قبل العطاس بهيكل (3) *.
وقال آخر:

(1) الغرلة: القلفة، وهي الجدة في رأس الإحليل قبل الختان.
(2) ديوانه 280.
(3) البيت بتمامه:
وقد أغتدي قبل العطاس بهيكل * شديد منيع الجنب فعم المنطق
ديوانه 173.
409

وخرق إذا وجهت فيه لغزوة * مضيت ولم يحبسك عنه العواطس
ومن مذاهبهم قولهم في الدعاء: لا عشت إلا عيش القراد! يضربونه مثلا في الشدة
والصبر على المشقة، ويزعمون إن القراد يعيش ببطنه عاما وبظهره عاما، ويقولون: إنه
يترك في طينه ويرمى بها الحائط فيبقى سنة على بطنه، وسنه على ظهره ولا يموت،
قال بعضهم:
فلا عشت الا كعيش القراد * عاما ببطن وعاما بظهر.
ومن مذاهبهم كانت النساء إذا غاب عنهن من يحببنه أخذن ترابا من موضع
رجله كانت العرب تزعم أن ذلك أسرع لرجوعه.
وقالت امرأة من العرب - واقتبضت من أثره:
يا رب أنت جاره في سفره * وجار خصييه وجار ذكره.
وقالت امرأة:
أخذت ترابا من مواطئ رجله * غداة غدا كيما يؤوب مسلما.
ومن مذاهبهم، إنهم كانوا يسمون العشا في العين الهدبد، وأصل الهدبد،
اللبن الخاثر، فإذا أصاب أحدهم ذلك عمد إلى سنام فقطع منه قطعه ومن الكبد قطعة،
وقلاهما، وقال عند كل لقمة يأكلها بعد أن يمسح جفنه الأعلى بسبابته:
فيا سناما وكبد * إلا أذهبا بالهدبد (1)
ليس شفاء الهدبد * إلا السنام والكبد

(1) انظر اللسان 4: 446.
410

قال: فيذهب العشا بذلك.
ومن مذاهبهم اعتقادهم أن الورل والقنفذ والأرنب والظبي واليربوع والنعام
مراكب الجن يمتطونها، ولهم في ذلك أشعار مشهورة، ويزعمون إنهم يرون الجن
ويظاهرونهم ويخاطبونهم، ويشاهدون الغول، وربما جامعوها وتزوجوها، وقالوا: إن
عمرو بن يربوع تزوج الغول وأولدها بنين، ومكثت عنده دهرا، فكانت تقول له:
إذا لاح البرق من جهة بلادي - وهي جهة كذا - فاستره عنى، فإني إن لم تستره عنى
تركت ولدك عليك، وطرت إلى بلاد قومي، فكان عمرو بن يربوع كلما برق البرق
غطى وجهها بردائه فلا تبصره، وإلى هذا المعنى أشار أبو العلاء المعرى في قوله يذكر
الإبل وحنينها إلى البرق:
طربن لضوء البارق المتعالي * ببغداد وهنا ما لهن ومالي (1)
سمت نحوه الابصار حتى كأنها * بناريه من هنا وثم صوالي
إذا طال عنها سرها لو رؤوسها * تمد إليه في صدور عوالي
تمنت قويقا والصراة أمامها * تراب لها من أينق وجمال
إذا لاح إيماض سترت وجوهها * كأني عمرو والمطي سعالى
وكم هم نضو أن يطير مع الصبا * إلى الشام لولا حبسه بعقالي.
قالوا: فغفل عمرو بن يربوع عنها ليلة وقد لمع البرق فلم يستر وجهها، فطارت وقالت له
وهي تطير:
أمسك بنيك عمرو إني آبق * برق على أرض السعالى آلق (2)

(1) سقط الزند 1162.
(2) شروح سقط الزند 1168.
411

ومنهم من يقول: ركبت بعيرا وطارت عليه - أي أسرعت - فلم يدركها. وعن
هذا قال الشاعر:
رأى برقا فأوضع فوق بكر * فلا بك ما أسال ولا أغاما (1)
قال: فبنو عمرو بن يربوع إلى اليوم يدعون بنى السعلاة، ولذلك قال
الشاعر يهجوهم:
يا قبح الله بنى السعلاة * عمرو بن يربوع شرار النات (1)
* ليسوا بأبطال ولا أكيات *.
فأبدل السين تاء وهي لغة قوم من العرب.
ومن مذاهبهم في الغول قولهم: إنها إذا ضربت ضربة واحدة بالسيف هلكت،
فإن ضربت ثانية عاشت، وإلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله:
فقالت: ثن، قلت: لها رويدا * مكانك، إنني ثبت الجنان
وكانت العرب تسمى أصوات الجن العزيف وتقول: إن الرجل إذا قتل قنفذا أو
ورلا لم يأمن الجن على فحل أبله، وإذا أصاب إبله خطب أو بلاء حمله على ذلك،
ويزعمون إنهم يسمعون الهاتف بذلك، ويقولون مثله في الجان من الحيات، وقتله
عندهم عظيم.
ورأي رجل منهم جانا في قعر بئر لا يستطيع الخروج منها، فنزل وأخرجه
منها على خطر عظيم، وغمض عينيه لئلا يرى أين يدخل، كأنه يريد بذلك التقرب
إلى الجن.

(1) شروح سقط الزند 1168. نوادر أبى زيد 146، وروايته: (ردما أسال وما أعاما).
412

وقال أبو عثمان الجاحظ: وكانوا يسمون من يجاور منهم الناس عامرا، والجمع عمار،
فإن تعرض للصبيان فهو روح، فإن خبث وتعرم فهو شيطان، فإن زاد على ذلك
فهو مارد، فإن زاد على ذلك في القوة فهو عفريت، فإن طهر ولطف وصار خيرا كله
فهو ملك، ويفاضلون بينهم، ويعتقدون مع كل شاعر شيطانا، ويسمونهم بأسماء مختلفة
قال أبو عثمان وفي النهار ساعات يرى فيها الصغير كبيرا ويوجد لأوساط الفيافي
والرمال والحرار مثل الدوي، وهو طبع ذلك الوقت، قال ذو الرمة:
إذا قال حادينا لترنيم نباه: صه لم يكن إلا دوي المسامع (1)
وقال أبو عثمان أيضا في الذين يذكرون عزيف الجن وتغول الغيلان: إن أثر
هذا الامر وابتداء هذا الخيال إن القوم لما نزلوا بلاد الوحش عملت فيهم الوحشة (2)،
ومن انفرد وطال مقامه في البلاد الخلاء استوحش، ولا سيما مع قلة الاشغال وفقد
المذاكرين، والوحدة لا تقطع أيامها إلا بالتمني والأفكار، وذلك أحد
أسباب الوسواس (3).
* * *
ومن عجائب اعتقادات العرب ومذاهبها اعتقادهم في الديك والغراب والحمامة وساق
حر - وهو الهديل - والحية، فمنهم من يعتقد أن للجن بهذه الحيوانات تعلقات، ومنهم
من يزعم أنها نوع من الجن، ويعتقدون أن سهيلا والزهرة الضب والذئب والضبع
مسوخ، ومن أشعارهم في مراكب الجن قول بعضهم في قنفذ رآه ليلا،
فما يعجب الجنان منك عدمتهم * وفى الأسد أفراس لهم ونجائب (4)
أيسرج يربوع ويلجم قنفذ * لقد أعوزتكم ما علمت النجائب (5)!

(1) ديوانه 360.
(2) كذا في ا والحيوان، وفى ب: (الوحشية).
(3) الحيوان 6: 249.
(4) الحيوان 6: 240.
(5) الحيوان: (المراكب).
413

فإن كانت الجنان جنت فبالحري * لا ذنب للأقوام والله غالب (1)
ومن الشعر المنسوب إلى الجن:
وكل المطايا قد ركبنا فلم نجد * ألذ وأشهى من ركوب الأرانب
ومن عضر فوط عن لي فركبته * أبادر سربا من عطاء قوارب (2).
وقال أعرابي يكذب بذلك:
أيستمع الاسرار راكب قنفذ * لقد ضاع سر الله يا أم معبد!
ومن أشعارهم وأحاديثهم في رواية الجن وخطابهم وهتافهم ما رواه أبو عثمان
الجاحظ لسمير بن الحارث الضبي:
ونار قد حضأت بعيد وهن * بدار لا أريد بها مقاما (3)
سوى تحليل راحلة وعين (4) * أكالئها مخافة أن تناما
أتوا ناري فقلت: منون أنتم؟ * فقالوا: الجن قلت: عموا ظلاما.
ويزعمون أن عمير بن ضبيعة رأى غلمانا ثلاثة يلعبون نهارا، فوثب غلام منهم
فقام على عاتقي صاحبه، ووثب الاخر، فقام على عاتقي الأعلى منهما، فلما رآهم كذلك
حمل عليهم فصدمهم فوقعوا على ظهورهم وهم يضحكون، فقال عمير بن ضبيعة: فما
مررت يومئذ بشجرة إلا وسمعت من تحتها ضحكا، فلما رجع إلى منزله مرض
أربعة أشهر.

(1) الحيوان: (ولا ذنب للأقدار).
(2) العضرفوط: دويبة بيضاء ناعمة، وهي ضرب من العظاء.
(3) الحيوان 4: 481، 6: 196، ونوادر أبى زيد، وفيه: (شمير بن الحارث الضبي) وانظر
الخزانة 3: 3، والمخصص 1: 94، والميداني 1: 32. حضأت: أشعلت.
(4) قوله: (سوى تحليل راحلة)، أراد سوى راحلة أقمت بها فيها بعد نحلة اليمن).
414

وحكى الأصمعي عن بعضهم إنه خرج هو وصاحب له يسيران، فإذا غلام على
الطريق، فقالا له: من أنت؟ قال: أنا مسكين قد قطع بي فقال أحدهما لصاحبه، أردفه
خلفك، فأردفه، فالتفت الاخر إليه فرأى فمه يتأجج نارا، فشد عليه بالسيف فذهبت
النار فرجع عنه، ثم التفت فرأى فمه يتأجج نارا فشد عليه فذهبت النار، ففعل ذلك
مرار، فقال ذلك الغلام: قاتلكما الله ما أجلدكما! والله ما فعلتها بآدمي إلا وانخلع
فؤاده، ثم غاب عنهما فلم يعلما خبره.
وقال أبو البلاد الطهوي - ويروى لتأبط شرا:
لهان على جهينة ما ألاقي * من الروعات يوم رحا بطان (1)
لقيت الغول تسرى في ظلام * بسهب كالعباءة صحصحان (2)
فقلت لها: كلانا نقض أرض * أخو سفر فخلى لي مكاني (3)
فشدت شدة نحوي فأهوى * لها كفى بمصقول يماني
فقالت: زد فقلت: رويد إني * على أمثالها ثبت الجنان.
والذين يروون هذا الشعر لتأبط شرا يروون أوله:
إلا من مبلغ فتيات جهم * بما لاقيت عند رحا بطان
بأني قد لقيت الغول تلوى * بمرت كالصحيفة صحصحان
فصدت فانتحيت لها بعضب * حسام غير مؤتشب يماني
فقد سراتها والبرك منها * فخرت لليدين وللجران (4)
فقالت: ثن قلت لها: رويدا * مكانك إنني ثبت الجنان

(1) الحيوان 6: 234، وانظر الأغاني 18: 21، 212، ومعجم البلدان 8: 231. ورحا بطان:
موضع في بلاد هذيل.
(2) الصحصحان: ما استوى من الأرض.
(3) النقض: المهزول قد نقضه السفر.
(4) السراة، بالفتح، الظهر، والبرك: الصدر.
415

ولم أنفك مضطجعا لديها * لأنظر مصبحا ماذا دهاني
إذا عينان في رأس دقيق * كرأس الهر مشقوق اللسان
وساقا مخدج ولسان كلب * وثوب من عباء أو شنان.
وقال البهراني:
وتزوجت في الشبيبة غولا * بغزال وصدقتي زق خمر (1)
وقال الجاحظ: أصدقها الخمر لطيب ريحها، والغزال لأنه من مراكب الجن.
وقال أبو عبيد بن أيوب العنبري أحد لصوص العرب:
تقول - وقد ألممت بالإنس لمة * مخضبة الأطراف خرس الخلاخل (2)
أهذا خدين الغول والذئب والذي * يهيم بربات الحجال الهراكل! (3)
رأت خلق الدرسين أسود شاحبا * من القوم بساما كريم الشمائل (4)
تعود من آبائه فتكاتهم * وإطعامهم في كل غبراء شامل (5)
إذا صاد صيدا لفه بضرامه * وشيكا ولم ينظر لغلي المراجل (6)
ونهسا كنهس الصقر ثم مراسه * بكفيه رأس الشيخة المتمائل (7)
ومن هذه الأبيات:
إذا ما أراد الله ذل قبيلة * رماها بتشتيت الهوى والتخاذل
وأول عجز القوم عما ينوبهم * تقاعدهم عنه وطول التواكل
وأول خبث الماء خبث ترابه * وأول لؤم القوم لؤم الحلائل

(1) الحيوان 6: 225.
(2) الحيوان 6: 167. وخرس الخلاخل: كناية عن
امتلاء الساق.
(3) الهراكل: جمع هركلة، وهي الحسنة الجسم التامة الخلق.
(4) الدرس: البالي من الثياب. وفى الحيوان: (خلق الأدراس).
(5) الغبراء: السنة الجدبة.
(6) الحيوان: (لنصب المراجل).
(7) المراس: المسح والدلك، والشيخة: نبتة.
416

وهذا الشعر من جيد شعر العرب، وإنما كأن غرضنا منه متعلقا بأوله، وذكرنا
سائرة لما فيه من الأدب.
وقال عبيد بن أيوب أيضا في المعنى الذي نحن بصدده:
وصار خليل الغول بعد عداوة * صفيا وربته القفار البسابس (1)
وقال أيضا:
فلله در الغول أي رفيقة * لصاحب قفر في المهامة يذعر (2)
أرنت بلحن بعد لحن وأوقدت * حوالي نيرانا تلوح وتزهر.
وقال أيضا:
وغولا قفره: ذكر وأنثى * كان عليهما قطع البجاد (3)
وقال أيضا:
فقد لاقت الغزلان منى بلية * وقد لاقت الغيلان منى الدواهيا (4)
وقال البهراني في قتل الغول:
ضربت ضربة فصارت هباء * في محاق القمراء آخر شهر (5)
وقال أيضا، يزعم أنه لما ثنى عليها الضرب عاشت:
فثنيت والمقدار يحرس أهله * فليت يميني يوم ذلك شلت!
وقال تأبط شرا يصف الغول ويذكر أنه راودها عن نفسها فامتنعت عليه فقتلها:
فأصبحت والغول لي جارة * فيا جارة أنت ما أغولا

(1) الحيوان 6: 235.
(2) الحيوان 6: 165.
(3) الحيوان 6: 159.
(4) الحيوان 6: 166.
(5) الحيوان 6: 233.
417

وطالبتها بضعها فالتوت * فكان من الرأي أن تقتلا
فجللتها مرهفا صارما * أبان المرافق والمفصلا
فطار بقحف ابنه الجن ذا * شقاشق قد أخلق المحملا
فمن يك يسأل عن جارتي * فإن لها باللوى منزلا
عظاءة أرض لها حلتان * من ورق الطلح لم تغزلا
وكنت إذا ما هممت ابتهلت * وأحرى إذا قلت أن افعلا.
ومن أعاجيبهم إنهم كانوا إذا طالت علة الواحد منهم وظنوا أن به مسا من الجن،
لأنه قتل حية أو يربوعا أو قنفذا، عملوا جمالا من طين، وجعلوا عليها جوالق، وملأوها
حنطة وشعيرا وتمرا، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب
الشمس، وباتوا ليلتهم تلك، فإذا أصبحوا نظروا إلى تلك الجمال الطين، فإن رأوا انها
بحالها قالوا: لم تقبل الدية، فزادوا فيها، وإن رأوها قد تساقطت وتبدد ما عليها من الميرة
قالوا: قد قبلت الدية، واستدلوا على شفاء المريض وضربوا بالدف، قال بعضهم:
قالوا وقد طال عنائي والسقم * احمل إلى الجن جمالات وضم
فقد فعلت (1) والسقام لم يرم * فبالذي يملك برئي اعتصم.
وقال آخر:
فيا ليت أن الجن جازوا جمالتي * وزحزح عنى ما عناني من السقم
ويا ليتهم قالوا انطنا كل ما حوت * يمينك في حرب عماس وفي سلم
أعلل قلبي بالذي يزعمونه * فيا ليتني عوفيت في ذلك الزعم

(1) في د: (نكلت).
418

وقال آخر:
أرى أن جنان النويرة أصبحوا * وهم بين غضبان على وآسف
حملت ولم أقبل إليهم حمالة * تسكن عن قلب من السقم تالف
ولو أنصفوا لم يطلبوا غير حقهم * ومن لي من أمثالهم بالتناصف!
تغطوا بثوب الأرض عنى ولو بدوا * لأصبحت منهم آمنا غير خائف.
وكانوا إذا غم عليهم أمر الغائب ولم يعرفوا له خبرا جاءوا إلى بئر عاديه (1) أو حفر
قديم ونادوا فيه: يا فلان، أو يا أبا فلان، ثلاث مرات، ويزعمون أنه إن كان ميتا لم
يسمعوا صوتا، وإن كان حيا سمعوا صوتا ربما توهموه وهما، أو سمعوه من الصدى، فبنوا
عليه عقيدتهم، قال بعضهم:
دعوت أبا المغوار في الجفر دعوة * فما آض صوتي بالذي كنت داعيا
أظن أبا المغوار في قعر مظلم * تجر عليه الذاريات السوافيا.
وقال:
وكم ناديته والليل ساج * بعادي البئار فما أجابا.
وقال آخر:
غاب فلم أرج له إيابا * والجفر لا يرجع لي جوابا
وما قرأت مذ نأى كتابا * حتى متى استنشد الركابا
* عنه وكل يمنع الخطابا *.

(1) عادية: قديمة.
419

وقال آخر:
ألم تعلمي أنى دعوت مجاشعا * من الجفر والظلماء باد كسورها
فجاوبني حتى ظننت بأنه * سيطلع من جوفاء صعب خدورها
لقد سكنت نفسي وأيقنت أنه * سيقدم والدنيا عجاب أمورها.
وقال آخر:
دعوناه من عادية نضب ماؤها * وهدم جاليها اختلاف عصور
فرد جوابا ما شككت بأنه * قريب إلينا بالإياب يصير.
أقوى في البيت الثاني، وسكن (نضب) ضرورة كما قال:
* لو عصر منه البان والمسك انعصر *.
ومن أعاجيبهم إنهم كانوا في الحرب ربما أخرجوا النساء فيبلن بين الصفين،
يرون أن ذلك يطفئ نار الحرب ويقودهم إلى السلم.
قال بعضهم:
لقونا بأبوال النساء جهالة * ونحن نلاقيهم ببيض قواضب.
وقال آخر:
بالت نساء بنى خراشة خيفة * منا وأدبرت الرجال شلالا.
وقال آخر:
بالت نساؤهم والبيض قد أخذت * منهم مآخذ يستشفى بها الكلب.
وهذان البيتان يمكن أن يراد بهما أن النساء يبلن خيفة وذعرا، لا على المعنى
الذي نحن في ذكره، فإذن لا يكون فيهما دلالة على المراد.
420

وقال الآخر:
هيهات رد الخيل بالأبوال * إذا غدت في صور السعالي
وقال آخر:
جعلوا السيوف المشرفية منهم * بول النساء وقل ذاك غناء
فأما ذكرهم عزيف الجن في المفاوز والسباسب فكثير مشهور، كقول بعضهم:
وخرق تحدث غيطانه * حديث العذارى بأسرارها.
وقال آخر:
ودوية سبسب سملق * من البيد تعزف جنانها (1)
وقال الأعشى:
وبهماء تعزف جناتها * مناهلها آجنات سدم (2)
وقال:
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة * للجن بالليل في حافاتها زجل (3)
وقال آخر:
* ببيداء في أرجائها الجن تعزف *.
وقال الشرقي بن القطامي: كان رجل من كلب - يقال له عبيد بن الحمارس - شجاعا،
وكان نازلا بالسماوة أيام الربيع، فلما حسر الربيع، وقل ماؤه، وأقلعت أنواؤه، تحمل إلى
وادي تبل، فرأى روضة وغديرا، فقال: روضة وغدير، وخطب يسير، وأنا لما

(1) السملق: القاع الصفصف.
(2) ديوانه 29.
(3) ديوانه 44.
421

حويت مجير، فنزل هناك، وله امرأتان: اسم إحداهما الرباب، والأخرى خولة،
فقالت له خولة:
أرى بلدة قفرا قليلا أنيسها * وإنا لنخشى إن دجا الليل أهلها.
وقالت له الرباب:
أرتك برأيي فاستمع عنك قولها * ولا تأمنن جن العزيف وجهلها.
فقال مجيبا لهما:
ألست كميا في الحروب مجربا * شجاعا إذا شبت له الحرب محربا
سريعا إلى الهيجا إذا حمس الوغى * فأقسم لا أعدو الغدير منكبا.
ثم صعد إلى جبل تبل فرأى شيهمة - وهي الأنثى من القنافذ - فرماها فأقعصها (1)
ومعها ولدها، فارتبطه، فلما كان الليل هتف به هاتف من الجن:
يا بن الحمارس قد أسأت جوارنا * وركبت صاحبنا بأمر مفظع
وعقرت لقحته وقدت فصيلها * قودا عنيفا في المنيع الا رفع
ونزلت مرعى شائنا و ظلمتنا * والظلم فاعلة وخيم المرتع
فلنطرقنك بالذي أوليتنا * شر يجيئك ما له من مدفع
فأجابه ابن الحمارس:
يا مدعى ظلمي ولست بظالم * أسمع لديك مقالتي و تسمع
إن كنتم جنا ظلمتم قنفذا * عقرت فشر عقيرة في مصرع
لا تطمعوا فيما لدى فما لكم * فيما حويت وحزته من مطمع.
فأجابه الجني:
يا ضارب اللقحة بالعضب الأفل * قد جاءك الموت وأوفاك الاجل

(1) أقعصها: قتلها في مكانها.
422

وساقك الحين إلى جن تبل * فاليوم أقويت وأعيتك الحيل (1)
فأجابه ابن الحمارس:
يا صاحب اللقحة هل أنت بجل * مستمع منى فقد قلت الخطل
وكثرة المنطق في الحرب فشل * هيجت قمقاما من القوم بطل (2)
ليث ليوث وإذا هم فعل * لا يرهب الجن ولا الانس اجل
* من كان بالعقوة من جن تبل (3) *.
قال: فسمعهما شيخ من الجن، فقال: لا والله لا نرى قتل إنسان مثل هذا ثابت
القلب ماضي العزيمة، فقام ذلك الشيخ وحمد الله تعالى ثم أنشد:
يا بن الحمارس قد نزلت بلادنا * فأصبت منها مشربا ومناما
فبدأتنا ظلما بعقر لقوحنا * وأسأت لما إن نطقت كلاما
فاعمد لأمر الرشد واجتنب الردى * إنا نرى لك حرمة وذماما
وأغرم لصاحبنا لقوحا متبعا * فلقد أصبت بما فعلت أثاما.
فأجابه ابن الحمارس:
الله يعلم حيث يرفع عرشه * إني لأكره أن أصيب أثاما
أما ادعاؤك ما ادعيت فإنني * جئت البلاد ولا أريد مقاما
فأسمت فيها مالنا ونزلتها * لأريح فيها ظهرنا أياما
فليغد صاحبكم علينا نعطه * ما قد سألت ولا نراه غراما.
ثم غرم للجن لقوحا متبعا للقنفذ وولدها.
وهذه الحكاية وإن كانت كذبا إلا إنها تتضمن أدبا، وهي من طرائف

(1) الحين: الهلاك.
(2) القمقام: السيد.
(3) العقوة: المحلة.
423

أحاديث العرب فذكرناها لأدبها وإمتاعها، ويقال: أن الشرقي بن القطامي كان
يصنع أشعارا وينحلها غيره.
فأما مذهب العرب في أن لكل شاعر شيطانا يلقى إليه الشعر فمذهب مشهور،
والشعراء كافة عليه، قال بعضهم:
إني وإن كنت صغير السن * وكان في العين نبو عنى
فإن شيطاني أمير الجن * يذهب بي في الشعر كل فن.
وقال حسان بن ثابت:
إذا ما ترعرع فينا الغلام * فما أن يقال له من هوه؟
إذا لم يسد قبل شد الإزار * فذلك فينا الذي لا هوه
ولى صاحب من بنى الشيصبان * فطورا أقول وطوار هوه.
وكانوا يزعمون أن اسم شيطان الأعشى مسحل، واسم شيطان المخبل عمرو،
وقال الأعشى:
دعوت خليلي مسحلا ودعوا له * جهنام جدعا للهجين المذمم (1)
وقال آخر:
لقد كان جنى الفرزدق قدوة * وما كان فينا مثل فحل المخبل
ولا في القوافي مثل عمرو وشيخه * ولا بعد عمرو شاعر مثل مسحل.
وقال الفرزدق يصف قصيدته:
كأنها الذهب العقيان حبرها * لسان أشعر خلق الله شيطانا.

(1) وجهنام تابعة الأعشى.
424

وقال أبو النجم:
إني وكل شاعر من البشر * شيطانه أنثى وشيطاني ذكر.
وأنشد الخالع فيما نحن فيه لبعض الرجاز:
إن الشياطين أتوني أربعة * في غلس الليل وفيهم زوبعة
وهذا لا يدل على ما نحن بصدده من أمر الشعر وإلقائه إلى الانسان، فلا وجه
لإدخاله في هذا الموضع.
ومن مذاهبهم إنهم كانوا إذا قتلوا الثعبان خافوا من الجن أن يأخذوا بثأره،
فيأخذون روثة ويفتونها على رأسه، ويقولون روثة راث ثائرك.
وقال بعضهم:
طرحنا عليه الروث والزجر صادق * فراث علينا ثأره والطوائل.
وقد يذر على الحية المقتولة يسير رماد، ويقال لها: قتلك العين فلا ثأر لك، وفى
أمثالهم لمن ذهب دمه هدرا: وهو قتيل العين، قال الشاعر:
ولا أكن كقتيل العين وسطكم * ولا ذبيحة تشريق وتنحار.
فأما مذهبهم في الخرزات والأحجار والرقى والعزائم فمشهور فمنها السلوانة
- ويقال السلوة - وهي خرزة يسقى العاشق منها فيسلو في زعمهم، وهي بيضاء شفافة،
قال الراجز:
لو أشرب السلوان ما سليت * ما بي غنى عنكم وإن غنيت.
السلوان: جمع سلوانة.
425

وقال اللحياني: السلوانة تراب من قبر يسقى منه العاشق فيسلو، وقال عروة
بن حزام:
جعلت لعراف اليمامة حكمه * وعراف نجد إن هما شفياني
فقالا نعم: نشفي من الداء كله * وقاما مع العواد يبتدران
فما تركا من رقية يعرفانها * ولا سلوة إلا وقد سقياني.
وقال آخر:
سقوني سلوة فسلوت عنها * سقى الله المنية من سقاني.
أي سلوت عن السلوة واشتد بي العشق ودام. وقال الشمردل:
ولقد سقيت بسلوة فكأنما * قال المداوي للخيال بها ازدد.
ومن خرزاتهم الهنمة تجتلب بها الرجال وتعطف بها قلوبهم، ورقيتها: أخذته
بالهنمة، بالليل زوج وبالنهار أمه.
ومنها الفطسة والقبلة والدردبيس، كلها لاجتلاب قلوب الرجال، قال الشاعر:
جمعن من قبل لهن وفطسة * والدردبيس تمائما في منظم
فانقاد كل مشذب مرس القوى * لحبالهن وكل جلد شيظم (1)
وقيل: الدردبيس خرزة سوداء يتحبب بها النساء إلى بعولتهن، توجد في
القبور العادية، ورقيتها: أخذته بالدردبيس، تدر العرق اليبيس، وتذر الجديد
كالدريس، وأنشد:
قطعت القيد والخرزات عنى * فمن لي من علاج الدردبيس!

(1) الشيظم: الطويل الجسم.
426

وأصل الدردبيس الداهية، ونقل إلى هذه لقوة تأثيرها.
ومن خرزاتهم القرزحلة، أنشد ابن الأعرابي:
لا تنفع القرزحلة العجائزا * إذا قطعن دونها المفاوزا.
وهي من خرز الضرائر، إذا لبستها المرأة مال إليها بعلها دون ضرتها.
ومنها خرزة العقرة تشدها المرأة على حقويها فتمنع الحبل، ذكر ذلك ابن
السكيت في إصلاح المنطق.
ومنها الينجلب، ورقيتها: أخذته بالينجلب، فلا يرم ولا يغب، ولا يزل
عند الطنب. ومنها كرار، مبنية على الكسر، ورقيتها: يا كرار كريه، إن أقبل فسريه،
وإن أدبر فضريه، من فرجه إلى فيه.
ومنها الهمرة ورقيتها: يا همرة اهمريه، من أسته إلى فيه، وماله وبنيه.
ومنها الخصمة، خرزة للدخول على السلطان والخصومة، تجعل تحت فص الخاتم
أو في زر القميص أو في حمائل السيف، قال بعضهم:
يعلق غيري خصمة في لقائهم * وما لي عليكم خصمة غير منطقي.
ومنها الوجيهة، وهي كالخصمة حمراء كالعقيق.
ومنها العطفة، خرزة العطف، والكحلة، خرزة سوداء تجعل على الصبيان لدفع
العين عنهم، والقبلة خرزة بيضاء تجعل في عنق الفرس من العين، والفطسة خرزة
يمرض بها العدو ويقتل، ورقيتها: أخذته بالفطسة، بالثوباء والعطسة، فلا يزال في
تعسة، من أمرة ونكسة، حتى يزور رمسه.
427

ومن رقاهم للحب: هوابه هوابه، البرق والسحابة، أخذته بمركن، فحبه تمكن.
أخذته بإبرة، فلا يزل في عبرة، خليته بإشفى (1)، فقلبه لا يهدا. خليته بمبرد، فقلبه لا يبرد.
وترقى الفارك زوجها إذا سافر عنها فتقول: بأفول القمر، وظل الشجر، شمال تشمله،
ودبور تدبره، ونكباء تنكبه، شيك فلا انتعش، ثم ترمى في أثره بحصاة ونواة
وروثة وبعرة، وتقول: حصاة حصت أثره، نواة أنات داره، روثة راث خبره
لقعته ببعرة.
وقالت فارك في زوجها:
أتبعته إذ رحل العيس ضحى * بعد النواة روثة حيث انتوى
* الروث للرثى، وللنأي النوى *.
وقال آخر:
رمت خلفه لما رأت وشك بينه * نواة تلتها روثة وحصاة
وقالت: نأت منك الديار فلا دنت * وراثت بك الاخبار والرجعات
وحصت لك الآثار بعد ظهورها * ولا فارق الترحال منك شتات
وقال آخر يخاطب امرأته:
لا تقذفي خلفي إذا الركب اغتدى * روثه عير وحصاة ونوى
لن يدفع المقدار أسباب الرقي * ولا التهاويل على جن الفلا
هذا الرجز أورده الخالع في هذا المعرض، وهو بأن يدل على عكس هذا المعنى أولى،
لان قوله: (لن يدفع المقدار بالرقى، ولا بالتهاويل على الجن) كلام يشعر بان قذف
الحصاة والنواة خلفه كالعوذة له، لا كما تفعله الفارك التي تتمنى الفراق.

(1) الإشفى: الإسكاف.
428

فأما مذهبهم في القيافة والزجر والكهانة واختلافهم في السانح والبارح، وتشاتمهم باللفظة
والكلمة وتأويلهم لها وتيمنهم بكلمة أخرى، وما كانوا يفعلونه من البحيرة والسائبة
والوصيلة والحامي فكله مشهور معروف لا حاجة لنا إلى ذكره هاهنا.
فأما لفظ أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (نشرة) فإن النشرة في اللغة كالعوذة
والرقية، قالوا: نشرت فلانا تنشيرا، أي رقيته وعوذته. وقال الكلابي: إذا نشر
المسفوع فكأنما أنشط من عقال، أي يذهب عنه ما به سريعا.
وفي الحديث إنه قال: (فلعل طبا أصابه) يعنى سحرا، ثم عوذه ب‍ (قل أعوذ برب
الناس) أي رقاه، وكذلك إذا كتب له النشرة.
وقد عد أمير المؤمنين عليه السلام أمورا أربعة ذكر منها النشرة، ولم يكن عليه
السلام ليقول ذلك إلا عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تم الجزء التاسع عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
ويليه الجزء العشرون.
429