الكتاب: إبطال أدلة فناء النار
المؤلف: محمد بن إسماعيل الصنعاني
الجزء:
الوفاة: ١١٨٢
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٠٥
المطبعة:
الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار
60

مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ليس سواه واجب الوجود الذي وعد الذين سعدوا
بدوام النعيم في جنات الخلود وتوعد الذي شقوا بالأبدية في النار ذات الوقود
وأخبر أنه مبدلهم قوله جلودا ليذوقوا العذاب كلما نضجت منهم الجلود وأشهد أن
لا إله إلا الله وشهادة تدافع عن قائلها إذا كانت الأعضاء هي الشهود واشهد
صاحب المقام المحمود في يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود صلى الله عليه
وعلى آله الركع السجود وبعد فإن السائل أدام الله له التوفيق وسلك لنا وبه
مناهج ذوي التحقيق طلب كشف الأستار عن وجه مسألة فناء النار ودخول المشركين من
أهلها مداخل الأبرار وهذه المسألة من غرائب المسائل ومما خلت عنها أسفار
المقالات الحوافل وأشار إليها السيد الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله في
الإيثار وقال
61

وقد أفردت في هذه المسألة مصنفات حافلة منها لابن
تيمية ومنها لتلميذه شمس الدين ومنها للذهبي ومنها لي هذا لفظه ولم أقف على
غير ما في حادي الأرواح ولعل الله سبحانه يعين بالوقوف على مؤلف الذهبي والسيد
محمد بمنه وفضله وحيث استكشف السائل عن حقيقتها وما عليها من الدلائل تعين
علينا أن نكشف عن وجوه أدلتها النقاب ونبرز له المطوي تحت لثامها بعيون أذهان
أولي الألباب ونستوفي فيها المقال وان خرجنا عن الإيجاز إلى الإطناب والإسهاب
لأنه عز وجود ما ألف فيها فيحال عليه ولا أعرف فيها منازعا لمدعيها فأرشد إليه
وليعتذر ذلك السائل عن تأخر الجواب فإنه لم يكن استخفافا
62

بالسائل
ولا تحقيرا للمسائل بل لما يتواثب محمد على القلوب من الاشتغال ولم يزل
التسويف حتى تقضت أيام وليال فنقول اعلم أن هذه المسألة أشار إليها الإمام
الرازي في مفاتيح الغيب ولم يتكلم عليها بدليل نفي ولا إثبات ولا نسبها إلى
قائل معين ولكنه استوفى المقال فيها العلامة ابن القيم في كتابه حادي الأرواح
إلى ديار الأفراح نقلا عن شيخه العلامة شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية فإنه
حامل لوائها ومشيد بنائها وحاشد خيل الأدلة منها ورجلها ودقها وجلها وكثيرها
وقليلها وأقر كلامه تلميذه ابن القيم وقال في آخرها إنها مسألة أكبر من الدنيا
وما فيها بأضعاف مضاعفة هذا كلامه في آخر المسألة في حادي الأرواح وإن كان في
الهدي النبوي أشار إشارة محتملة لخلاف ذلك حيث قال ولما كان المشرك خبيث
العنصر خبيث الذات لم تطهر النار
63

خبثه بل لو أخرج منها عاد خبيثا
وكما كان كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه وقد حرم الله عليه الجنة انتهى كلامه
قلت وحيث كانت بهذه المثابة التي ذكرها من أنها أكبر من الدنيا فلا غنى لنا
عن نقل أدلتها التي ارتضاها ابن تيمية وتعقب كل دليل بما يفتح الله به من
إقراره أو بيان اختلاله فنقول قال ابن القيم بعد نقله لأقوال الناس والمعروفة
في كتب المقالات السابع قول من يقول بل يفنيها أي النار خالقها تبارك وتعالى
فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها يريد ويدخل الله من كان فيها
من الكفار الجنة كما ستعرفه من الأدلة التي ذكرنا ثم قال قال شيخ الإسلام يريد
به شيخه أبا العباس ابن تيمية وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة
وأبي سعيد وغيرهم
64

ثم ساق بسنده إلى الحسن البصري أنه قال قال عمر لو
لبث أهل النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه وفي رواية عدد
رمل عالج قال ابن تيمية والحسن وإن لم يسمع من عمر فلو لم يصح عنده عن عمر لم
يجزم به انتهى كلامه وأقول فيه شيئان الأول من حيث الرواية فإنه منقطع لنص شيخ
الإسلام بأنه لم يسمعه الحسن من عمر واعتذاره بأنه لو لم يصح للحسن عن عمر لما
جزم به يلزم أن يجري في كل مقطوع يجزم به رواية ولا يقول هذا أئمة الحديث كما
عرفت في قواعد أصول الحديث بل الانقطاع عندهم علة والجزم معه تدليس وهو علة
أخرى ولا يقوم بمثل ذلك الاستدلال في مسألة فرعية كيف في مسألة قيل أنها أكبر
من الدنيا بأضعاف مضاعفة وهذا البخاري أمير المؤمنين في
65

علم الحديث
وأشدهم تحريا في الصحيح لم يقل النقادون بأن تعاليقه المجزومة التي أودعها في
كتابه الذي سماه الصحيح صحيحة بل فيها الضعيف كما نص عليه ابن حجر في مقدمة
الفتح والحسن البصري معروف عند أئمة هذا الشأن بأنه لا يؤخذ بمراسيله قال
الدارقطني في السنن وقد روى عاصم الأحول عن ابن سيرين وكان عالما بأبي العالية
وبالحسن قال لا تأخذوا بمراسيل الحسن ولا أبي العالية فإنهما لا يباليان عمن
أخذا عنه انتهى قلت ثم قال ابن تيمية ولو كان كلام عمر هذا غير صحيح
66

لما تداولته الأئمة ولوجب إنكارهم له لمخالفته الإجماع والكتاب والسنة قلت
يقال كلام عمر كغيره من الأقوال الدالة على خروج الموحدين من النار وهو قول عليه
جماهير الأئمة منهم ابن تيمية وستعرف أنه لا يصح أثر عمر إلا على تقدير انه
أراد به الموحدين وأنه يتعين حمله على ذلك عند شيخ الإسلام نفسه وعند غيره
والثاني من حيث الدراية فإنه لو ثبت صحته عن عمر لم يدل على المدعى فإن أصل
المدعى هو فناء النار وان لها مدة تنتهي إليها وليس في أثر عمر هذا إلا أنه
يخرج أهل النار من النار والخروج لا يكون إلا وهي باقية فإنك لو قلت لو لبث
زيد في الدار كذا وكذا ثم خرج منها لم يدل هذا على فناء الدار لا مطابقة ولا
تضمنا ولا التزاما فإن قيل بل هو يدل على فنائها التزاما لأنه تعالى إنما خلقها
ليعذب بها من عصاه فبعد خروجهم لم يبق لها حاجة فالحكمة تقتضي فناءها قلت هذا
دور فإنه لا يثبت أن الحكمة يقتضي فناءها إلا إذا
67

لم يبق فيها أحد
ولا يخرج أحد من أهلها إلا بعد فنائها كما تسمع تصريح ابن تيمية بذلك حيث قال
وأما كون الكفار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها ولا يقضي عليهم
فيموتوا ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فلم يختلف في ذلك
الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار
العذاب ما دامت باقية ولا يخرجون منها مع بقائها البتة هذا لفظه وإذا عرفت
مراده عرفت أن أثر عمر لا يدل على مدعاه بشئ من الدلالات الثابتة فإنه قال
إنهم يخرجون منها وهذا واضح في الخروج منها وهي باقية فلا بد من حمل أثره على
معنى صحيح إذ لا يصح حمله على خروج الكفار عند أحد لا ابن تيمية كما عرفت ولا
غيره فإنه لا يقول أحد بخروج الكفار من النار فإن صح أثر عمر حمل على أنه أراد
خروج الموحدين الذين استحقوا
68

دخول النار بذنوبهم كما دلت عليه الأدلة
المعروفة الصحيحة الصريحة التي لا مرية في صحتها إلا أن ابن تيمية منع من حمل
كلام عمر على ذلك وقال إنما أراد عمر بأهل النار الذين هم أهلها وهم الكفار
وأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها ولا يلبثون قدر
رمل عالج ولا قريبا منه فأقول ولا يخفى ضعف هذا الرد لأن كونهم قد علموا ذلك
لا يمنع أن يؤدوه لمن لا يعلمه ويخبروا أنه اعتقادهم وقد علم في فن البيان أن
الإخبار يكون بفائدة الحكم أو لازمها فعلم السامعين بالحكم لا يمنع عن التكلم به
وإلقائه إليهم وأما كون عصاة الموحدين لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه
فمسلم ولم يقل عمر أنهم يلبثون قدر رمل عالج بل أتى بقضية شرطية فقال لو لبث أي
أنه لو طال لبثهم ذلك القدر لخرجوا ولا دليل في كلامه أنهم يلبثون ذلك القدر
فعرفت أيضا غير مانع عن حمل أثر عمر على عصاة الموحدين مع أنه لا يصح حمله على
الكفار لأنهم يلبثون أكثر من عدد رمل عالج فقد أخرج الطبراني في الكبير من
69

حديث ابن مسعود مرفوعا لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل
حصاة في الدنيا لفرحوا الحديث ومما سمعت تعين حمل أثر عمر على عصاة الموحدين
عند شيخ الإسلام وعند جميع علماء الأنام وإذا عرفت هذا طال تعجبك من نسبة ابن
تيمية القول بفناء النار إلى عمر واستدلاله لذلك بهذا الأثر المنقطع رواية الذي
هو بمراحل عن الدلالة من حيث الدراية تنبيه وأما مدة لبث عصاة الموحدين فإنها
مختلفة فقد اخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في السنة من حديث علي يرفعه إن أصحاب
الكبائر من موحدي الأمم كلها الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين ولا تائبين
وفيه أن منهم من يمكث شهرا ثم يخرج منها ومنهم من يمكث سنة ثم يخرج منها
وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ خلقت إلى أن تفنى ومثله ما أخرج الحكيم في
نوادر الأصول ولفظه وأطولهم فيها مكثا مثل الدنيا منذ خلقت إلى أن فنيت وذلك
70

سبعة آلاف سنة ثم قال شيخ الإسلام مستدلا على فناء النار بما رواه
على ابن أبي طلحة في تفسيره عن ابن عباس أنه قال لا ينبغي لأحد ان يحكم على
الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا وأقول لا يخفى على ناظر أنه لا دلالة في
هذا الأثر ولا رائحة دلالة على المدعى من فناء النار بل غاية ما يفيده الإخبار
عن أنه لا يجزم للمؤمن أنه من أهل الجنة ولا العاصي من عصاة المؤمنين انه من
أهل النار وهذا المعنى ثابت في الأحاديث النبوية الصحيحة
71

فقد أخرج
الترمذي من حديث أنس أنه توفي رجل فقال رجل آخر ورسول الله صلى الله عليه وسلم
وآله وسلم يسمع أبشر بالجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريك لعله
تكلم لما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه بل ورد في الطفل الذي لا تكليف عليه نحو
ذلك وقد صرح ابن القيم في آخر كتابه حادي الأرواح في الباب السبعون فيما زعم أنه
عقيدة أهل السنة وعقيدة الصحابة وأهل العلم وأصحاب الأثر بأنه لا يشهد لأحد
من أهل القبلة انه من أهل النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك
في حديث وان لا يشهد لأحد أنه في الجنة بصالح عمله إلا أن يكون ذلك في حديث
انتهى
72

فهذا هو الذي أراده ابن عباس ولو لم يحمل كلام ابن عباس على
هذا لكان مقتضاه بأنه لا يحكم بأن أهل الشرك يدخلون النار ولا بأن أهل التوحيد
يدخلون الجنة إذ الإنزال هو الدخول وهذا رد لصريح القرآن وإثبات لقول لم يقله
أحد من أهل الإيمان لا شيخ الإسلام ولا سائر علماء الأنام ثم إن حكمنا بأن
الفجار في النار والأبرار في جنات تجري من تحتها الأنهار ليس حكما منا بل الله
تعالى هو الذي حكم بذلك وأخبرنا به فالعجب كله في الاستدلال على فناء النار
بهذا الأثر الذي لا يقول أنه يدل على ذلك أحد من النظار وظهور عدم دلالته عليه
كالشمس في رابعة النهار وتبين ان مراده لا يحكم على معين أنه من أهل الجنة ولا
إنه من أهل النار وكأنه يريد غير من حكم الله ورسوله عليه بأحد الدارين كإخباره
صلى الله عليه وسلم أن العشرة من الصحابة من أهل الجنة وكإخبار الله أنا أبا
لهب سيصلى نارا ذات لهب ولو فرض دلالته على مدعاه فإنه معارض لما أخرجه ابن
أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال هاتان من المخبآت قول
الله تعالى فمنهم شقي وسعيد وقوله
73

تعالى يوم يجمع الله الرسل فيقول
ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا المائدة 109 فأما قوله فمنهم شقي وسعيد فهم قوم من
أهل الكبائر من أهل القبلة يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم ثم يأذن بالشفاعة
فيشفع لهم المؤمنون فيخرجهم من النار فيدخلهم الجنة فسماهم أشقياء حين عذبهم
بالنار انتهى فهذه الرواية كما تراها صراحة وكثرة تخريج دالة على أنه كغيره من
الجماهير القائلين بخروج الموحدين من النار ولا قول له بفناء النار فإنه وجه
الاستثناء إلى الموحدين في قوله تعالى إلا ما شاء ربك وابن تيمية يقول إنه عائد
إلى فناء النار أيضا كما ستسمعه عند
74

التكلم على الآية وظاهر نقل ابن
تيمية لأثر ابن عباس أنه قائل بفناء النار قال شيخ الإسلام وأما أثر ابن مسعود
فإنه ذكر عنه البغوي أنه قال ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد ثم قال وعن أبي
هريرة مثله وأقول هذان الأثران بهما متمسك ابن تيمية في جعل القول بفناء النار
قولا لابن مسعود وأبي هريرة كما سيرويهما إلى في صدر الاستدلال وهذان الأثران
ذكرهما البغوي في تفسير سورة هود في قوله تعالى إلا ما شاء ربك ثم قال البغوي
عقب ذكرهما ما لفظه ومعناه عند أهل السنة إن ثبت أنه لا يبقى فيها أحد من أهل
الإيمان وأما مواضع الكفار فممتلئة كان ابدا هذا لفظه
75

فشكك في
الرواية أولا ثم ابان أنها إن ثبتت فهي عند أهل السنة في عصاة من الموحدين ثم
نقول بعد ثبوت هذين الأثرين عن هذين الصحابيين لا دلالة فيهما على فناء النار
الذي هو محل النزاع بوجه من الوجوه فإن قوله ليس فيها أحد دال على بقائها فإنك
إذا قلت ليس في الدار أحد فإنه دال على بقاء الدار لا على فنائها ثم عرفت قول
البغوي أن أهل السنة حملوه على خروج الموحدين من النار وهذا الحمل متعين عند ابن
تيمية بخصوصه وعند جميع من عداه أما عنده فإنه لا يقول بخروج الكفار من النار بل
يقول بعد فنائها وذهابها لا يتصور فيها بقاء الكفار وهذان الأثران حاكمان بخروج
من فيها وليس إلا عصاة الموحدين أما عند غيره من أهل السنة فالأمر واضح في أن
الأثرين ليسا إلا في خروج الموحدين ولفظ اثر ابن مسعود وإن كان عاما فإنه نكرة
في سياق النفي إلا أنه معلوم تخصيصه بالأدلة الدالة على أن الكفار ليسوا منها
بمخرجين عند ابن تيمية وغيره كما عرفت
76

وبهذا تعرف أنه لا يصح نسبة
القول بفناء النار وذهابها إلى ابن مسعود وأبي هريرة كما نسب هذا القول الذي
نقل عنهما إلى عمر بل هو الدليل على بقاء النار بعد خروج من يخرج منها من أهل
التوحيد فكيف يقول شيخ الإسلام في صدر المسألة إن القول بفناء النار نقل عن ابن
مسعود وأبي هريرة وإنما مستنده في نسبة ذلك إليهما هذان الأثران اللذان هما
بمراحل عن الدلالة على فناء النار وذهابها بعد صحتهما فعرفت بطلان نسبة هذا
القول إلى ابن مسعود وأبي هريرة كما عرفت بطلان نسبته إلى عمر واما قول شيخ
الإسلام في صدر المسألة إن أبا سعيد الخدري نقل عنه القول بفناء النار فإنه
استدل لذلك بأنه قال أبو نضرة عن أبي سعيد أو قال جابر أو بعض أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم أتت هذه الآية على القرآن كله إلا ما شاء ربك إن ربك فعال
لما يريد هود 107
77

وأقول أولا هذا الأثر نسبه الحافظ السيوطي في الدر!
المنثور إلى تخريج عبد الرزاق وابن الشريس أبو وابن جرير وابن المنذر والطبراني
والبيهقي في الأسماء والصفات ولفظه عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد
أو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا مشاء ربك إن ربك فعال لما يريد
قال هذه الآية قاضية على القرآن كله يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي
عليه انتهى وقد نقل ابن تيمية هذه الرواية أيضا ونسبها إلى تخريج ابن جرير أيضا
ولا يخفى أولا انه شك أبو نضرة في قائل هذا القول وردده بين ثلاثة معلومين
ومجهول وهذا الشك وإن كان انتقالا من ثقة إلى ثقة على رأي من يقول كل الصحابة
عدول غير ضائر في الرواية إلا أنه لا يصح معه الجزم بنسبة القول بفناء النار إلى
أبي
78

سعيد حيث أن مستند القول به هو هذا الأثر لأن هذا أثر لم يتم
الجزم به في رواية أنه لأبي سعيد فكيف يجزم بنسبة هذا المدلول أعني القول بفناء
النار وذهابها إلى أبي سعيد كما فعله شيخ الإسلام ولم يثبت عنه الدليل وثانيا
وهو على تقدير ثبوته عنه فإنه لا دلالة فيه على مدعاه وهو فناء النار ولا رائحة
دلالة بل غاية ما فيه أن كل وعيد في القرآن ذكر فيه الخلود لأهل النار فإن آية
الاستثناء حاكمة عليه وهي عبارة مجملة لا تدل على المدعى بنوع من الدلالات
الثلاث بل يحتمل انه أراد أنها فسرت بآيات الخلود التي وردت في القرآن في
خلود أهل النار كما أخرجه البيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس في قوله تعالى
إلا ما شاء ربك هود 107 قال فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار وهؤلاء في
الجنة انتهى فنقول من قال من الصحابة هذه الآية أتت على القرآن كله حيث كان في
القرآن خالدين فيها تفسير [5 في رواية] ابن عباس هذه ثم هب أن معناه ما قاله
ابن تيمية وأن آية إلا ما شاء ربك قيدت كل آية فيها خالدين فيها إلا ما شاء
ربك إن ربك فعال لما يريد فغاية ذلك أن تصير كل آية خلود مثل آية
79

هود واية هود لا تدل على مدعاه كما ستعرفه قريبا من تحقيق آية المشيئة وما
قيل فيها من الأقوال الصحيحة والسقيمة والمطرحة والقويمة أو وإذا عرفت هذا فيا
لله العجب كيف ينسب شيخ الإسلام إلى أبي سعيد القول بفناء النار بلفظ لم
يتحقق صدوره عنه ولو تحقق صدوره عنه لم يدل على مدعاه فما هذا إلا مجازفة ولا
يليق ممن دون ابن تيمية تحقيقا وورعا في نسبة الأقوال وتحرير الاستدلال هذا وبعد
تحقيقك لما أسلفناه وإحاطتك) علما بما سقناه تعلم أن هؤلاء الأربعة من
الصحابة الذين هم عمر وابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الذين عين شيخ الإسلام
أسماءهم من الصحابة في صدر المسألة وذكر أنه نقل عنهم القول بفناء النار وذهابها
وتلاشيها هم بريئون من هذا القول ومن نسبته فناء النار إليهم براءة الذئب
من دم ابن يعقوب واستدل لهم بما ادعاه منسوبا إليهم بما لا مساس له بالدعوى
كما عرفت وحينئذ يعلم أنه ليس معه في دعواه فناء النار أحد من الصحابة الذين
عينهم وإن كانت عنده أدلة يصح نسبة هذا القول إليهم غير ما ذكره من الآيات
فهذا وقتها فإنه قد بذل كل وسعه في هذه المسألة فقال شيخ الإسلام بعد سرده
للأربعة المذكورين من الصحابة والقول بفناء النار نقل عن غير هؤلاء الأربعة من
الصحابة ويريد بغيرهم عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه نقل ابن تيمية
80

عنه القول بفناء النار مستدلا على أصل مدعاه أنه قال ليأتين على جهنم يوم
تصفق فيه أبوابها ليس فيه أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا وأقول هذا الأثر
لا دلالة فيه على مدعى ابن تيمية لأنه لا يقول إن جهنم تخلو عن الكفار ما دامت
باقية إنما يقول إذا فنيت وذهبت لم يبق فيها كافر وهذا الأثر ينادي بخلودها
عليه وهي باقية على حالها والقول بأنه سماها جهنم باعتبار ما كانت عليه رجوع
إلى المجاز في مسألة هي أكثر من الدنيا بأضعاف مضاعفة فكلام ابن عمرو هذا محمول
على ما حمل عليه كلام عمر بن الخطاب وغيره من الآثار في أن مراده خروج الموحدين
وقد قال عبيد الله بن معاذ في أثر ابن عمرو وأبي هريرة كان أصحابنا يقولون يعني
من الموحدين قلت ويدل له ما قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف ان
أثر ابن عمرو أخرجه البزار ثم ساقه بسنده إلى ابن عمرو ولفظه في آخره يعني من
الموحدين قال الحافظ كذا فيه
81

ورجاله ثقات والتفسير لا أدري لمن هو ثم
قال ويؤيده ما رواه ابن عدي عن أنس مرفوعا ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه
أبوابها وما فيها من أمة محمد أحد وفي الباب عن أبي أمامة رفعه يأتي على جهنم
يوم ما فيها من بني آدم أحد تخفق فيه أبوابها يعني من الموحدين انتهى
82

فعرفت أن حديث ابن عمرو في الموحدين وقول الحافظ لا يدري لمن التفسير يريد
قوله يعني من الموحدين يقال عليه الأصل أنه من كلام ابن عمرو ثم إنه لا بد من
حمل كلامه المطلق على هذا التفسير عند ابن تيمية وغيره ثم هب أنها لم تثبت
تلك الزيادة فيه فالحديث المرفوع مقدم عليه وهو حديث أنس وبعد هذا تعرف أنه
لا دليل له في أثر عمرو على أصل المدعى هذا وأما أصحاب الكشاف فإنه لما كان
وعيدي الاعتقاد قائلا بأنه لا يخرج من النار من دخلها من عصاة الموحدين وأهل
الإلحاد سلك في اثر ابن عمرو مسلكا آخر فإنه لما ذكره قال وأقول أما كان لابن
عمرو في بغيه بيده ولسانه ومقاتلته بها علي بن أبي طالب ما شغله عن تسيير هذا
الحديث انتهى كأنه يشير إلى القدح في أثر ابن عمرو ببغيه على أمير المؤمنين
83

عليه السلام وقد تعقبه في الكشف فقال لا يلتفت هذا عن المنصف وإيثاره
طريقة قدمام أبي! المعزلة! من نسبته وضع الحديث إليه تلويحا ونسبة مقاتلته
أمير المؤمنين عليا بالنص فإن هذا من جلة الصحابة انتهى قلت أما نسبة الوضع
إليه فما يظهر من كلام الكشاف نعم البغاة مقبولة روايتهم عند المعتزلة كما
عرفت من الأصول ثم استدل شيخ الإسلام ابن تيمية على مدعاه بما أخرجه ابن مردويه
في تفسيره من حديث جابر قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأما
الذين شقوا ففي النار الآية هود 107، 108
84

قال رسول الله صلى الله عليه
وعلى آله وسلم إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة
فعل وأقول لا دليل فيه على مدعاه وهو فناء النار وذهابها بل فيه دليل على خلافه
لأنه لا ينكر الإخراج من النار ولا يقوله ابن تيمية في حق الكفار فتعين أنه في
عصاة الموحدين وقد سمعت مما نقلناه عن ابن عباس أن الله سمى عصاة الموحدين
أشقياء وقد صرح ابن تيمية بهذا هنا فقال بعد سرده للحديث إنما يدل على إخراج
بعضهم من النار وهو حق بلا ريب وهو بناء على انقطاعها وفناء عذابها وأكلها لمن
فيها وأنهم يعذبون فيها دائما ما دامت كذلك والحديث دل على أمرين أحدهما أن
بعض الأشقياء إن شاء الله أن يخرجهم من النار وهي نار فعل فيكون معنى الاستثناء
إلا ما شاء ربك من الأشقياء فإنهم لا يخلدون فيها ويكون الأشقياء
85

نوعين نوعا يخرجون منها ونوعا يخلدون فيها فيكونون من الذين شقوا أولا ثم
يصيرون من الذين سعدوا فيجتمع لهم السعادة والشقاوة في وقتين انتهى وهو صحيح
وفيه إقرار منه على أنه لا دلالة فيه على فناء النار كما ساقه دليلا لذلك على
أنا نقول الحديث ليس نصا في الإخراج بل إخبار مقيد بقضية شرطية وهو إن شاء
الله أن يخرج أخرج وليس فيه أنه تعالى شاء ذلك بل هو مثل ولو شئنا لآتينا كل
نفس هداها السجدة 13 وسيأتي تحقيق ذلك في الكلام على آية المشيئة إن شاء الله
إذا عرفت هذا كله فهؤلاء الستة من الصحابة الذين زعم أنه نقل عنهم القول بفناء
النار أي وبدخول أهلها بعد ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار التحريم 8 وهم
الذين أشار إليهم السيد الإمام محمد بن إبراهيم في الإيثار حيث قال وطول في
الثاني ابن تيمية فقف على علمه في كتبه التراجم
86

وأسنده عن ستة نص
قولهم أكابر من صحب النبي الأكارم وأراد بالثاني حمل الاستثناء في وعيد أهل
النار على فنائها وانقطاع عذابها هذا بيان مراده ولكنك إذا تحققت ما أسلفناه
عرفت أنه لم يتم لابن تيمية ما نسبه إلى الستة المذكورين من القول بفناء النار
وانه ليس بنص قولهم كما قال السيد محمد ولعله يريد نص لفظهم وإن لم يدل على
مدعى ابن تيمية أو أنه نص عنده فيما ادعاه وإن كان غير صحيح ويرشد إلى أنه أراد
ذلك قوله بعد ذلك البيت فلا تعتقد إن لم يصح مقالهم وبان ضعيفا ساقطا كفر
عالم ثم قال ابن تيمية مستدلا لفناء النار وانقطاعها أنه قال الله تعالى لابثين
فيها أحقابا إلى قول كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا النبأ 23 - 28 وقال
هذا صريح في وعيد الكفار المكذبين بآياته ولا يقدر الأبدي بمدة الأحقاب
87

فأفاد مفهوم الأحقاب أنه لا خلود فيها إذ الأبدي لا يقدر بزمان وأما دلالتها
على أن المخبر عنهم باللبث أحقابا هم الكفار فلقوله فيهم إنهم كانوا لا يرجون
حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا وهذه صفات الكفار وهذا تقرير مراد شيخ الإسلام
والعجب من استدلاله بصدر الآية وذهوله عما عقب به من قوله فلن نزيدكم إلا
عذابا فإن المراد لن نزيدكم بعد لبثكم أحقابا إلا عذابا ضرورة أنهم معذبون حين
لبثهم فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا فزيادة
العذاب بعد الأحقاب بل خص تعالى الزيادة على العذاب وأنه تعالى لا يزيدهم
بعد لبث الأحقاب إلا عذابا فانتفى مفهوم العذاب الذي أفاده الجمع الذي جعله
ابن تيمية دليلا على فناء النار وعدم أبديتها مع أنه استدلال بمفهوم العدد وهو
من أضعف المفاهيم على هذه المفاهيم على هذه المسألة المعظمة الذي لا يعتمد عليه
محقق وكيف يجعل أقوى من التأييد المصرح به في عدة آيات من آيات وعيد أهل
النار فلو عارض مفهوم العدد منطوق التأبيد لكان الحكم للمنطوق اتفاقا هذا وذكر
البغوي أنه قال مقاتل بن حيان هذه الآية منسوخة
88

يريد لابثين فيها
أحقابا نسختها فلن نزيدكم إلا عذابا النبأ 30 يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد
حصل هذا لفظه ومراده بالنسخ أن لا حكم لمفهوم العدد وإلا فإنه لا يجري النسخ
المصطلح عليه في الأخبار وقال الحسن ليس للأحقاب عدة إلا الخلود وذكره عنه
البغوي وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال
الأحقاب ما لا انقطاع له كلما مضى حقب جاء بعده حقب وأخرج عبد بن حميد عن
الحسن لابثين فيها أحقابا قال ليس فيها أجل كلما مضى حقب دخل في الآخر وبهذا
تعرف رواية ودراية ضعف استدلال شيخ الإسلام على فناء النار وانقطاعها بمفهوم
الأحقاب ثم استدل ابن تيمية على فناء النار وذهابها بقوله تعالى في سورة
الأنعام قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك
89

حكيم
عليم آية 128 وبقوله تعالى في سورة هود خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض
إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد آية 107 وقرر كون آية الأنعام في
المشركين بقوله تعالى في صدرها يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال
أولياؤهم من الإنس قال فإن أولياء الجن من الإنس يدخل فيه الكفار قطعا يريد
أنه لا يقال الآية في عصاة الموحدين فقط ثم أبان أن الاستثناء عائد إلى الفريقين
الكفار وعصاة الموحدين والكفار بفناء النار والعصاة بالخروج منها وقرر هذا
التقرير في آية الاستثناء في سورة هود وأقول قد اختلف العلماء من الصحابة ومن
بعدهم من أئمة الرواية والدارية في هذا الاستثناء ولنذكر ما وقفنا عليه من ذلك
وقد ألم به ابن القيم في هذا الكتاب أعني حادي الأرواح وألم به شيخه شيخ
الإسلام في كلامه في هذه المسألة وفاتهما بعطى ما قيل في الآية قال ابن القيم في
الباب السابع والستين واختلف السلف في هذا الاستثناء فقال معمر عن الضحاك هو
في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة فقوله تعالى
90

خالدين فيها ما
دامت السماوات والأرض إلا مدة مكثهم النار قلت يضعف هذا ان الاستثناء من
الخلود يقتضي أن يكون بعد الدخول لا قبله سيما بعد قو له (ففي النار) وقد أشار
إلى تضعيف هذا الوجه بما قلناه ابن تيمية في غضون أبحاثه في هذه المسألة قال
ابن القيم وقالت فرقة هو استثناه الله تعالى ولا يفعله كما تقول والله لأضربنك
إلا أن أرى غير ذلك وأنت لا تراه بل تجزم بضربه قلت هذا الوجه أحد وجهين
ذكرهما جار الله في الكشاف في آية الأنعام فقال أو يكون يريد الاستثناء من قوله
الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب منه أن ينفس عن
خناقه أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي
منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد
الوعيد مع تهكم بالتوعد في خروجه في صورة الاستثناء الذي فيه أطماع انتهى واختار
هذا الوجه صاحب الاتحاف والصفوي
91

وهو مروي عن ابن عباس أخرجه
البيهقي في البعث والنشور فقال قد شاء ربك أن يجعل هؤلاء في النار وهؤلاء في
الجنة قلت إلا أنه يختلف صاحب الكشاف وصاحب الاتحاف في عصاة الموحدين
فصاحب الكشاف يجعلهم داخلين في الذين شقوا لأن أصله أنهم لا يخرجون من النار
وصاحب الإتحاف والصفوي يجعلانهم (داخلين في الذين سعدوا لقيام الأدلة عندهم
بخروجهم من النار هذا وقد تعقب ابن الخطيب الرازي في مفتاح الغيب هذا الوجه
فقال وهذا ضعيف لأن قوله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك معناه لأضربنك إلا إن
رأيت أن أترك الضرب وهذا لا يدل على أن هذه الرؤية حصلت أم لا بخلاف قوله
تعالى خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض فإن معناه الحكم بخلودهم فيها
المدة التي
92

يشاء ربك فيها فهذا يدل على أن المشيئة قد حصلت جزما
فكيف يحسن قياس هذا الكلام وعلى ذلك انتهى ولا يخفى أن المشار المفروض واقع
على هيأة القطع والجزم كما هو صريح كلام ابن القيم وصاحب الكشاف فقول الرازي
وهذا لا يدل على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا خلاف المفروض وقوله فهذا يدل
على أن المشيئة إلخ إن أراد مشيئة الخلود فهو مراد صاحب هذا القول كما يشعر به
المثال وينطبق ويتعلق عليه وإن أراد مشيئة عدم الخلود كما هو مقتضى كلامه فمحل
النزاع ولا يتم تضعيف كلام الخصم بإيراده كما لا يخفى ثم قال ابن القيم وقالت
طائفة أخرى العرب إذا استثنت شيئا كثيرا مع مثله ومع ما هو أكثر منه كان معنى
إلا في ذلك ومعنى الواو سواء والمعنى على هذا سوى ما شاء الله من الزيادة على
مدة السماوات والأرض وهذا قول الفراء وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن قالوا ونظير
ذلك أن تقول لي عليك ألف إلا الألفين اللذين قبلهما أي سوى الألفين قال ابن
جرير هذا أحد الوجهين إلى لأن الله لا خلف لوعده وقد وصل الاستثناء بقوله عطاء
غير مجذوذ وقالوا نظيره أن تقول أسكنك داري حولا إلا ما شئت أي سوى ما
93

شئت أو لكن ما شئت من الزيادة عليه وأقول هذا مبني على أنه أريد بالسماوات
والأرض سماوات الدنيا وأرضها أي مقدار بقاء دار الدنيا فإنه لو أراد سماء
الأخرى وأرضها لما تم أن يقال إلا ما شاء الله من الزيادة على مدتهما فإنهما
أبديتان ما لا يتصور عليهما زيادة والظاهر أنه أريد من السماوات والأرض سماوات
الآخرة وأرضها لأن آيات التأبيد في الفريقين قاضية بأبدية أرضها وسماواتها إذ لا
بد لهم من شئ يقلهما وشئ فوقهما وهو المراد من سماوات الآخرة وأرضها ولأن قوله
ما دامت السماوات والأرض ظاهر في ذلك إذ أن أرض الدنيا وسماواتها قد ذهبت
ولو أريد لقيل ما كانت السماوات والأرض ثم قال ابن القيم وقالت فرقة أخرى هذا
الاستثناء إنما هو مدة احتباسهم عن الجنة ما بين الموت والبعث وهو البرزخ إلى
أن يصيروا إلى الجنة ثم خلود الأبد فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في
البرزخ وأقول فيه ما سلف في الوجه الأول وهو أن الاستثناء إنما هو بعد دخولهم
الجنة ثم قال ابن القيم وقالت فرقة أخرى العزيمة قد وقعت لهم من الله بالخلود
الدائم إلا أن يشاء الله خلاف ذلك اعلام لهم بأنهم مع خلودهم في
94

مشيئته وهذا كما قال تعالى لنبيه ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك الاسراء
86 ونظائره يخبر عباده أن الأمور كلها بمشيئته ما شاء الله كان وما لم يشا لم
يكن وأقول إن كان تقيدا حقيقة لزم بقاء الخوف في دار النعيم والله يقول يا عباد
لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الزخرف 68 ويقول أدخلوها بسلام آمنين
الحجر 46 والاجماع قائم على أن الجنة لا خوف فيها ثم يلزم أن يبقى لأهل النار
طمع في الخروج منها وروح بذلك وليس لهم روح ولا فرج وإن أريد الإخبار بأنه لو
شاء تعالى عدم خلود الفريقين لكان له في ذلك حكمة وان المراد من الاستثناء
الاعلام للعباد باتساع نطاق حكمه فهذا قد يقال إنه وجه وجيه ثم ذكر ابن القيم
وجها قاله لابن قتيبة كالوجه الذي نقله عن الفراء ولم ينقله لأنه هو وإنما
اختلفت العبارة ثم قال وقالت طائفة ما بمعنى من من قبل قوله تعالى فانكحوا ما
طاب لكم من النساء النساء 3 المعنى إلا من شاء ربك ان يدخله النار بذنوبه من
السعداء والفرق بين هذا القول وأول الأقوال أن الاستثناء على ذلك من المدة وعلى
هذا القول من الأعيان
95

وأقول هذا القول يفتقر إلى تقرير يتضح معه مراد
قائله وتقريره أن الاستثناء من الذين سعدوا قبل الحكم عليهم بقوله ففي الجنة
فيكون المعنى وأما الذين سعدوا الا من شاء الله ففي الجنة خالدين فيها ما دامت
السماوات والأرض لما تقرر في النحو والأصول أن إخراج المستثنى من المستثنى منه
قبل الحكم عليه بالخبر إلا أنه يلزم على هذا القول إن تكون الأقسام أربعة قوم
سعدوا حكم لهم بالكون في الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض وهم الذين
استثنى منهم وقوم سعدوا أيضا لكن لم يبين من الآية حكمهم وهم الذين أفادهم إلا
من شاء الله وقوم شقوا محكوم عليهم بالكون في النار خالدين ما دامت السماوات
والأرض وقوم شقوا لم يتبين حكمهم كما عرفت ومعلوم أن الموجود في الواقع ثلاثة
أقسام موحدون وملحدون لا وعصاة الموحدين فيكون المراد من الآية على هذا ان قوما
دخلوا في السعداء باعتبار أنهم شاركوهم في التوحيد ولكنهم فارقوهم في الكون في
الجنة خالدين فيها ودخلوا في الأشقياء باعتبار انهم قارفوا أن ما أغضب الله
عليهم من المعاصي ولكنهم فارقوا بعدم الكون في النار خالدين
96

فالقسم
الثالث تحته قسمان باعتبار دخولهم تحت بالسعادة مع الذين سعدوا وبالشقاوة مع
الذين شقوا كما عرفت فكانت الأربعة ثلاثة وتكون الآية قد بين فيها حكم
الفريقين من الموحدين والملحدين ولم يبين حكم الفريق الثالث منها وقد بينه الله
في قوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء 48 و 116 فمآل المعنى في الآية فأما
الذين سعدوا سعادة خالصة ففي الجنة خالدين فيها وأما الذين شقوا شقاوة خالصة ففي
النار خالدين فيها وأما الذين اخرجوا من الفريقين فباقون على تحت مشيئة الله
تعالى وهذا الوجه بعد التقرير لا يخفى حسنه ثم ذكر أقوالا راجعة إلى ما سلف ثم
قال وهذه الأقوال متقاربة قال ويمكن الجمع بينها بأن يقال أخبر الله عن خلودهم
في الجنة كل وقت إلا وقتا شاء الله ألا يكونوا فيها وذلك يتناول وقت كونهم في
الدنيا وفي البرزخ وفي موقف القيامة على الصراط وكون بعضهم في النار قلت هذه
الأطرفة شئ واحد عائد إلى كونه قبل دخولهم الجنة ولكن يبعده ما مر غير مرة قال
فإن الاستثناء من خلود الداخلين وحيث كانوا في عين الجنة لا يفيد ذلك الكون
بخالدين
97

فيها ثم قال وعلى كل تقدير فهذا الأمر من المتشابه وقوله عطاء
غير مجذوذ محكم وقوله أكلها دائم وظلها ولهذا أكد خلود أهل الجنة في غير موضع من
كتابه وأخبر أنهم لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وهذا الاستثناء منقطع
وإذا ضممته إلى الاستثناء من قوله إلا ما شاء ربك تبين لك المراد من الآيتين
واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة
الأولى من جملة الموت فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية وكذلك مفارقة الجنة
تقدم على خلودهم فيها انتهى كلامه وأقول قد أفاد أن الاستثناء من خلود أهل الجنة
من المتشابه وأن المحكم ان آية الخلود فيجب برد المتشابه إلى المحكم فالمحكم هو
الخلود وهذا حسن وتخصصه بالاستثناء في أهل الجنة بقوله عطاء غير مجذوذ ولما علم
يقين من أنه لا يخرج من الجنة أحد ممن دخلها وسيأتي لنا أنه يمكن آخر هذا الوجه
في الاستثناء في آية العذاب وأما ابن القيم فإنه فيه ابن تيمية من الاستثناء
فيها على
98

حقيقته وأنه لا خلود في النار لأهلها من الكفار كما عرفته من
أدلة دعواه وأما قوله إن الاستثناء في الآية كالاستثناء في قوله لا يذوقون فيها
الموت إلا الموتة الأولى الدخان 56 فإنها موته تقدمت على الحياة الأبدية
وكذلك مفارقة الجنة تقدم على خلودهم فيها فأقول الفرق بين الآيتين واضح فإن آية
الموتة الأولى وقع المستثنى منه فيها من أحوال الدنيا الواقعة فيها المعلوم
نقضها ولذا كان أحسن الأقوال في هذه الآية أعني آية إلا الموتة الأولى انه من
باب التقييد بالمحال من باب قول شعيب وما يكون لنا ان نعود فيها إلا أن يشاء
الله ربنا الأعراف 89 إذا الآية سيقت لبيان ان أهل الجنة لا يذوقون فيها
الموت أصلا وأنه أمر محال فعلق بالمحال لتمام التبشير بنعمة الحياة الأبدية
وآية الخلود المستثنى منه فيها من أحوال الآخرة والكون في الجنة فكيف يقاس ما
لم يمض ولم ينقض بما مضى وانقضى على أنه لا يصح لغة تسمية اللبث في الدنيا
وفي البرزخ وفي الموقف خلودا حتى يخرج من مدة الخلود وبعد هذا رأيت فخر الدين
الرازي وقد تعقب هذا في مفتاح الغيب فقال بعد نقله لفظه وأما حمل الاستثناء
على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد لأن الاستثناء وقع عن الخلود في
النار ومن المعلوم أن الخلود
99

كيفيات من كيفيا الله الحصول في النار
فقبل الحصول في النار يمتنع حصول الخلود وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى
منه وإذا لم يحصل المستثنى منه امتنع حصول الاستثناء هذا لفظه فهذه الوجوه التي
ذكرها ابن القيم في الاستثناء على آية الخلود مع ما تراه من الأبحاث التي
أوردناها في المقام وقد بقي فيه وجه ذكره جار الله في الكشاف في آية هود فقال
إن الاستثناء هو استثناء من الخلود من نعيم الجنة وذلك أن أهل النار لا يخلدون
في عذاب النار وحده بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار
وبما أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم وكذلك أهل
الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكثر منها وأجل موقعا وهو رضوان الله كما قال الله
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن
طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ولهم ما يتفضل الله عليهم سوى ثواب
الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو فهو المراد باستثناء انتهى وتعقبه الفخر الرازي
في مفاتيح الغيب فقال لو كان كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد
100

انقضاء مدة السماوات والأرض والأخبار الصحيحة دالة على أن التنقل
من النار وبالعكس يحصل كل يوم مرارا فبطل هذا الوجه انتهى كلامه قلت ولا يخفى
ضعف كلامه فإن معنى الآية أن أهل النار في النار خالدين فيها مدة دوام السماوات
والأرض إلى وقت مشيئة ربك عدم خلودهم فيها فهو إخراج بوقت مشيئة عدم الخلود
من القيد بدوام السماوات والأرض والإخراج من المقيد إخراج منه ومن قيده بمعنى
ان خرج منه بعد اتصافه بالقيد فالقيد جزء منه ومعناه أن يخرج من النار إليها إلى
غيرها مع بقاء السماوات والأرض لا بعد انقضاء مدتها ثم هذا الذي أورده الرازي
لازم لما اختاره في الآية كما ستعرفه هذا وقد اعترض كلام الكشاف صاحب
الإتحاف فقال لا أدري ما حمله على ما لا تقبله العقول في حمل الاستثناءين على
الخروج إلى الهموم والغموم في أهل النار وإلى رضوان الله في
101

أهل
الجنة ونحو ذلك مما ذكر والغموم لازم أهل النار ورضوان الله ملازم لأهل الجنة
ولأجله دخولها وكذلك سخط الله لأهل النار وكيف الخروج من الأمور الحسية وهي
الجنة والنار إلى المعنوية وهي السخط والرضى وسائر ما ذكرناه مما اشتمل عليه دار
العقاب ودار النعيم انتهى ثم جنح إلى حمل الاستثناء في آية هود على الوجه الذي
حمله عليه صاحب الكشاف في آية الأنعام وقد سبق ذكره هذا إن لم يحمل كلام صاحب
الكشاف على ما روي عن ابن مسعود وأن حمل عليه لم يتم إيراد صاحب الإتحاف كما
أنه لا يرد على صاحب الكشاف ما أورده عليه الرازي وكلام الإتحاف هذا صحيح إلا
قوله إن رضوان الله لازم لأهل الجنة ولأجله دخولها فإنه قد يقال أنه أخرج أحمد
والشيخان والترمذي والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات من حديث أبي سعيد قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة
فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون ربنا وما
لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول إني أعطيكم قال أفضل من
ذلك قالوا رب وأي شئ أفضل من ذلك قال أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده
أبدا
102

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبد الملك الجهني قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم رضوان الله على أهل الجنة نعيمهم بما في الجنان وهذا دال على
أن رضوان الله تعالى هذا متأخر عن دخول أهل الجنة والآية التي ساقها في الكشاف
دالة على ذلك أيضا فإنه جعل رضوانه تعالى الأكبر قسما للجنات ولعله يقال إن
هذا الرضوان الذي يبشرهم به الرب ويخاطبهم به الموصوف بأنه لا يسخط بعده أبدا
متأخر وهو المراد من الآية والحديثين ومجرد الرضى حاصل لهم من أول الأمر كما يدل
له قوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في
عبادي وادخلي جنتي الفجر 27 - 30 فإنه دال على الرضى من
103

أول الأمر قبل
دخول الجنة ويحتمل أنه خاص بصاحب هذه النفس المطمئنة والحاصل أن هذا الرضى
الذي أراده صاحب الكشاف واستدل عليه بالآية متأخر وهو المراد من الحديثين ولا
ينافيه مجرد الرضى اللازم لأهل الجنة فلا يرد اعتراض صاحب الإتحاف عليه وأما
قوله والهموم والغموم لازمة لأهل النار فقد أشار إلى جوابه المحقق أبو السعود
فقال ولك ان تقول إنهم ليسوا مخلدين في العذاب الذي هو عذاب النار بل لهم من
أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى وهو العقوبات والآلام
الروحانية التي لا يقف عليها في الدنيا المنغمسون في أحكام الطبيعة المقصود
إدراكهم ما ألفوا به من الأحوال الجسمانية وليس لهم استعداد لتلقي ما وراء ذلك
من الأحوال الروحانية وهذه العقوبات وإن كانت تعتريهم وهم في النار لكنهم
ينسون بها عذاب النار ولا يحسونها وهذا كاف في تحقيق معنى الاستثناء انتهى
كلامه وهذا وجه حسن محتمل على أنه الذي أراد صاحب الكشاف ويندفع به اعتراض
صاحب الإتحاف
104

هذا وفي الكشف على الكشاف ما لفظه هذا في أهل النار
ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهرير عن والرد بأن النار عبارة عن
دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أما دعوى الغلبة
حتى هجر الأصل فلا الا ترى إلى قوله نارا تلظى الليل 14 وقوله وقودها الناس
والحجارة البقرة 24 والتحريم 6 وكم وكم وأما رضوان الله عن أهل الجنة وهم فيها
فيأبى الاستثناء كيف وقوله خالدين فيها لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلا
عن انفرادها بنعيمهم بها ثم قال ولعل الوجه والله أعلم أن يكون من باب حتى يلج
الجمل في سم الخياط الأعراف 40 لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى الدخان
56 وأشار إليه سلمه الله يريد الفاضل الطيبي وذكر أنه وقف بعد ذلك على نص من
قبل الزجاج انتهى
105

يريد أنه تقيد بالمحال في الآيتين وعصاة الموحدين
داخلون في السعادة فإنهم خالدون في الجنة وإن تأخر دخولهم إياها فإنه من المعلوم
أن الداخلين إلى الجنة لا يدخلون دفعة واحدة بل يدخلون أرسالا بل فيها من يسبق
إليها بمقدار خمسمائة عام كما ثبت ذلك في فقراء المهاجرين والذي رجحه الفخر
الرازي بعد سرده للأقوال وتعقبه لها ان عصاة الموحدين داخلون في الأشقياء محكوم
عليهم بهذا الحكم وقوله إلا ما شاء ربك يوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض
الأشقياء ولما ثبت ان الخلود واجب للكفار وجب أن يقال الذين زال حكم الخلود
عنهم هم الفساق من أهل الصلاة وهذا الكلام قوي في هذا الباب انتهى
106

وأقول يرد عليه في هذا الوجه الذين استقوا إلى ما أورده هو على من قال إن
معنى الاستثناء في آية أهل النار أنهم ينقلون من عذابها إلى الزمهرير فإنه أورد
عليه ما أسلفناه من أنه يقتفي أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة
السماوات والأرض فيقال عليه هذا عين ما قاله هناك أنه يلزم ان لا يخرج عصاة من
الموحدين عن النار إلا بعد انقضاء مدة السماوات والأرض ولا دليل عليه بل الأدلة
قائمة على خلافه كما قدمناه في التثنية مما سبق فالحق مل قدمناه لك من أن
إيراده غير وارد على من أورده ولا لازم له لبطلانه في نفسه هذا وكلام الفخر
الرازي هذا هو كلام المفسرين من أئمة السنة وذكره سعد الدين في شرحه على
التلخيص لأنه جعل الاستثناء في الآيتين معا لإخراج عصاة الموحدين وآن المراد
بعدم خلودهم في الجنة فراقهم له أيام عذابهم وأنهم داخلون في السعداء باعتبار
الايمان وفي الأشقياء بسبب المعاصي ولكن فيه ما
107

عرفت من أن
الاستثناء إنما هو من المحكوم عليهم بدخول الجنة خالدين فيها وعصاة الموحدين قبل
دخولهم لا يصح في حقهم الاستثناء كما عرفته وقد نبه على هذا المحقق الشريف في
حواشيه على المطول حيث قال أقول الخلود إنما هو بعد دخول الجنة فكيف ينقضي بما
سبق على الدخول فالصواب أن يقال الاستثناء الأول محمول على ما تقدم من أن فساق
المؤمنين لا يخلدون في النار وأما الثاني فهو محمول على أن أهل الجنة لهم سوى
نعيمها ما هو أجل وأكبر وهو رضوان الله عز وجل وبقاؤه لا على أن فيهم بعضا يخرج
انتهى ولا يخفى أن كلامه في الاستثناء الثاني هو كلام صاحب الكشاف بعينه وأنه
يرد عليه ما أورده صاحب الإتحاف وقد سبق لنا رده كما عرفت وهكذا يرد عليه ما
أورده صاحب الكشاف كما سبق قريبا أيضا فالأحسن أن يقال إن الاستثناء في آية
الجنة من باب حتى يلج الجمل في سم الخياط تقييد بالمحال وان من دخل الجنة لا
يخرج منها أبدا بدليل الاجتماع المعلوم ضرورة من الدين وبدليل قوله تعالى عطاء
غير
108

مجذوذ وفي آية أهل النار محمول على ما ذكر من خروج الموحدين ولا
يقال أن هذا يوجب اختلاف في نظم الكلام حيث عدل بالاستثناء الثاني عما حمل
عليه الاستثناء الأول مع أنهما سيقا مساقا واحدا لأنا نقول قد دفع الشريف هذا
الإيراد لأنه ورد ما وينهي إليه بقوله الأول محمول على الظاهر وقد عدل بالثاني
عنه بقرينة واضحة مما ذكرنا فلا إشكال ولا اختلاف إذا عرفت حقيقة هذه الأقوال
التي حققها الاستدلال وأساطين المفسرين وعيون العيون من المحققين عرفت أن آية
الاستثناء كما قال صاحب الكشاف من المعضلات وقد اختلفت فيه كما رأيت أذهان
المحققين الأثبات وقد سبق قول ابن القيم في آية الاستثناء في أهل الجنة أنه على
كل تقدير أن الاستثناء فيه من المتشابه وأن المحكم قوله تعالى عطاء غير مجذوذ
هود 108 وظلها دائم وآيات الخلود التي وردت في الكتاب العزيز فلك أن تقول
بغير هذا القول في آية الاستثناء في أهل النار انه من المتشابه وان المحكم
خالدين فيها وما هم منها بمخرجين الحجر 48 والآيات المصرحة بخلود
109

أهل النار في القرآن كثيرة جدا وسيأتي عد بعضها فيرد المتشابه وهي آية
الاستثناء إلى المحكم وقد حكم الله بخلود أهل النار في النار وتواترت الأحاديث
بإخراج عصاة الموحدين وقد ورد الاستثناء فلا ندري ما أراد الله هل بإخراج العصاة
من الموحدين كما قال جماهير أهل السنة وهو المروي عن ابن عباس كما أسلفناه عنه
أو هو قريب أو هو عين المراد أو أراد به أمرا استأثر الله بعلمه فنقول آمنا
بالله كل من عند ربنا آل عمران 76 وقد اخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم
عن قتادة في قوله تعالى إلا ما شاء ربك فإن الله أعلم ثنيته على ما وقعت وأخرج
ابن جرير عن ابن زيد قال قد أخبرنا الله بالذي شاء لأهل الجنة فقال عطاء غير
مجذوذ ولم يخبرنا بالذي شاء لأهل النار وأخرج ابن المنذر عن أبي وائل أنه كان
إذا سئل عن الشئ في القرآن قال قد أصاب الله به الذي اراده هذا وإذا عرفت ما
ألقينا عليك عرفت انه لم يتم ما ادعاه ابن
110

تيمية في الآية وأنه
أريد بالاستثناء فناء أهل النار فإنه قول في الآية بلا دليل ولا قال به من
السلف أحد ولا من الخلف وأنه ليس في يد شيخ الإسلام شئ لا من كتاب ولا من
سنة ولا من صحابي كما قررناه فليس في يديه إلا دعوى بغير برهان لا يقول فيها
دون دق الشأن ولا يعتمد عليها أهل الاتقان وعرفت أنه ما صفا قول قائل في
الاستثناء في آية أهل النار عن كدر الإشكال وأن الأقوال فيه كلها آراء محضة إلا
القول بأنه أريد به عصاة الموحدين فإنه قول قويم قد قاله بحر الأئمة وحبرها
المدعو له بتعليم التأويل ابن عباس كما أسلفناه ودلت عليه أدلة أثرية وقرئن من
قرآنية فالقول به قويم ولا يدخل تحت التفسير بالرأي الذي ورد الوعيد على من قال
في القرآن برأيه فلا يقال إنه يتعين في الوقف عن ذلك الخوض والإيمان بما أراده
الله ورد علمه إليه ثم استدل شيخ الإسلام على سعة رحمة الله تعالى أنها أدركت
أقواما ما فعلوا خيرا وساق أحاديث دالة على أن الرحمة أدركت من كان من عصاة
الموحدين كما ستعرفه وليس من محل النزاع فمن الأدلة التي ساقها على مدعاه قصة
الذي أمر أهله ان يحرقوه ويذروه في الرياح في البر والبحر خشية أن يعذبه الله
قال فقد
111

شك في المعاد فأحياه الله تعالى قال فهذا لم يعمل خيرا قط
وأدركته رحمة الله تعالى
112

وأقول هذا ليس من محل النزاع فهذا مؤمن
بالله عالم بأن الله يعذب من عصاه وقد وقع من خوفه وخشية أمره بتحريقه ففي قلبه
خير وإن لم يعمل خيرا قط ولذلك الخير أدركته رحمة الله واستدل أيضا على مدعاه
بما أخرجه أحمد في مسنده من حديث الأسود بن سريع مرفوعا يأتي أربعة يوم القيامة
رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة أما الأصم فيقول رب
قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول رب جاء الإسلام والصبيان
يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول ربجاء بن الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات
في الفترة فيقول رب ما أتاني من رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل عليهم
ليدخلوا النار قال فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما
113

وأقول ليس الحديث أيضا في محل النزاع إذ هو في فناء النار ودخول أهلها
أهلها الجنة وهؤلاء الثلاثة الأولون ليسوا بمشركين فإنهم كانوا في دار الدنيا
غير مكلفين فلم يتحقق منهم أنهم كانوا مشركين وليسوا ممن دخل النار ثم فنيت وهم
فيها والرابع الذي مات في الفترة مخاطب بشرع من قبله بنص قوله تعالى وإن من
أمة إلا خلا فيها نذير فاطر 24 والحديث لم يذكره شيخ الإسلام بتمامه وهو حديث
مشكل ولا حاجة لنا إلى الكلام عليه بعد بيان أنه ليس من محل النزاع ثم استدل
شيخ الإسلام بحديث رواه ابن المبارك من حديث أبي
114

هريرة مرفوعا أن
رجلين دخلا النار واشتد صياحهما فقال الرب جل جلاله أخرجوهما فقال لأي شئ اشتد
صياحكما فقالا فعلنا ذلك لترحمنا فقال رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما في
النار فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها عليه بردا وسلاما ويقوم الآخر فلا يلقي فيقل له
الرب ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقى صاحبك فيقول رب إني أرجو أنك لا
تعيدني فيها بعد أن أخرجتني منها فيقول لك رجاؤك فيدخلان جميعا الجنة برحمة
الله وأقول هذا كما تراه في إخراج العصاة من الموحدين فإنه لا يقول ابن تيمية أن
يخرج الكفار من النار كما يقول غيره
115

ثم ساق حديثا ثالثا مثل هذا
الحديث ليس من محل النزاع ثم تعرض لأدلة القائلين بعدم فناء النار فقال لهم
ست طرق أحدها الإجماع على عدم فنائها قال والإجماع غير معلوم إنما يظنه في هذه
المسألة من لم يعرف النزاع فيها وقد عرفت النزاع قديما وحديثا قال ولو كلف هذه
مدعي الاجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم أنه قال النار لا تفنى لم
يجد إلى ذلك سبيلا ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فما وجدنا عن واحد
منهم خلاف ذلك وأقول قد عرفت أنه نقل عن ستة من الصحابة عبارات لا تدل على
مدعاه وهو فناء النار بنوع من الدلالات كما أوضحناه ولا يصح نسبته لتلك الدعوى
إلى واحد من أولئك السنة فلم يوجد لأحد مما وجدنا عن واحد من الصحابة أنه يقول
بفناء النار كما أنه لا يوجد قائل من الصحابة انه يقول بعدم فناء النار فإن هذه
المسألة وهي فناء النار لا تعرف في عصر الصحابة ولا دارت بينهم فليس نفي ولا
إثبات بل الذي عرفوه فيها هو ما في الكتاب والسنة من خلود أهل النار ابدا وأن
أهلها ليسوا منها بمخرجين وعرفوا ما ثبت من خروج عصاة الموحدين
116

عرفت هذا عرفت أن دعوى فناء النار أو عدم فنائها قول للصحابة دعوى باطلة إذ
هذه الدعوى لا توجد في عصرهم حتى يجمعوا عليها نفيا أو إثباتا نعم القول الذي دل
عليه القرآن من خلود النار أهلها فيها أبدا يتضمن القول عنهم بما تضمنه القرآن
ودل عليه الأصل فيما أخبر الله به عن الدارين الأخروين سنة البقاء فلا يحتاج
مدعي عدم الفناء إلى الدليل على ذلك الأصل ثم قال الثاني أي من الستة الأدلة
للقائلين بعدم الفناء أن القرآن دل على ذلك دلالة قاطعة فإنه تعالى أخبر أنه
عذاب مقيم المائدة 37 وأنه لا يفتر عنهم الزخرف 75 وانه لا يزيدهم إلا عذابا
وأنهم خالدين فيها أبدا وأنهم وما هم بخارجين من النار البقرة 167 وما هم منها
117

بمخرجين وإن الله حرم الجنة على الكافرين وأنهم لن يدخلوا الجنة حتى
يلج الجمل في سم الخياط وإن عذابها كان غراما الفرقان 65 قال والجواب ان هل
كله مسلم وأنهم لا يخرجون منها وأنه لا يفتر عنهم العذاب ما دامت باقية وليس
محل النزاع إنما محل النزاع لا تفنى النار قال وهذه النصوص تقضي بخلودهم في
النار ما دامت باقية هذا جوابه وأقول قد عرفت أنه لا يتم هذا الجواب ما لم
يؤخذ بأدلة ناهضة على فناء النار ولم يقم دليل على ذلك قال الطريق الثالث من
أدلة القائلين بعدم فناء النار أن السنة
118

المستفيضة أخبرت بخروج من
في قلبه أدنى ذرة من إيمان دون الكفار فأحاديث الشفاعة كلها صريحة في خروج
الموحدين دون الكافرين قال الجواب أن هذا لا شك فيه وهو إنما يدل على ما قلناه
من خروج الموحدين فيها وهي باقية ويبقى المشركون ما دامت باقية وأقول الجواب
ما سلف ثم قال الطريق الرابعة للقائلين بعدم فناء النار أوقفنا الرسول على ذلك
وعلمناه من دينه ضرورة كما علمنا دوام الجنة وأجاب بأنه لا ريب أن الكفار
باقون فيها ما دامت باقية هذا هو المعلوم من دينه ضرورة وأما كونها أبدية لا
تفنى كالجنة فمن أين في القرآن والسنة دليل واحد على ذلك وأقول الدليل يتوجه
على من ادعى الفناء ولم يأت شيخ الإسلام بشئ واحد والأصل هو خلود النار
وأبديتها عمرو كما دل عليه الكتاب والسنة فلا يحتاج مدعي عدم الفناء إلى دليل
آخر بعد هذا الأصل قال والدليل الخامس من أدلة القائلين بفناء النار أن في
عقائد
119

أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان لا يفنيان ابدا والقول
بفنائها من أقوال أهل البدع قال والجواب أنه لا ريب أن القول بفنائها قول أهل
البدع وأما القول بفناء النار وحدها فقد أوجدناكم من قال به من الصحابة وتفريقهم
بين الجنة والنار فكيف تقولون إنه من قول أهل البدع وأقول لأنه يصدق عليه رسم
البدع ففي القاموس البدعة بالكسر الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما أحدث بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال انتهى والمعلوم انه لم يقع في
ذلك العصر قول بفناء النار ودخول الكفار جنات تجري من تحتها الأنهار ولا
أوجدنا شيخ الإسلام مع تبحره في العلوم وسعة اطلاعه على أقوال السلف والخلف
على قول واحد من الصحابة بفناء النار ودخول الكفار الجنات وإن كان كذلك فالقول
به بدعة قطعا قال والدليل السادس للقائلين بعدم فناء النار أن العقل يقضى بخلود
120

الكفار ثم قرر وجه الاستدلال بما حاصله أنه مبني على أن المعاد
وإثابة النفوس المطيعة وعقوبة النفوس العاصية مما يعلم بالعقل كما يعلم بالسمع
قال كما دل عليه القرآن في غير موضع كإنكاره تعالى على من زعم أنه يخلق خلقه
عبثا وانهم إليه لا يرجعون وأنه يتركهم سدى لا يثيبهم ولا يعاقبهم وأن ذلك يقدح
في حكمته وكماله وأنه ينسبه إلى ما لا يليق ثم قرره تقريرا آخر وأجاب عنه بقوله
واما حكم العقل بتخليد أهل النار فيها فإخبار عن العقل بما ليس عنده فإن
المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق ثم إن العقل دل على المعاد
والثواب والعقاب إجمالا وأما تفصيلا فلا يعلم إلا بالسمع وقد دل السمع على
دوام ثواب المطيعين واما عقاب العصاة فدل دلالة قاطعة على انقطاعه في حق
الموحدين وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار فهو من معترك النزال فمن كان السمع
في جانبه فهو أعلم بالصواب قلت وهو تحقيق حسن إلا أني لا أدري من الذين قالوا
إن العقل حكم بخلود العصاة في النار فإن أشد الناس بهم الوعيدية والمعتزلة إلا
القليل وأكثرهم قائلون بأن العقل يقضي بحسن العفو
121

عن الكفار لولا
ورود السمع بان الله لا يغفر أن يشرك به هذا وقد انتهت المناظرة التي ساقها
ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام بين الفريقين ومن له نباهة وهو من أولي الألباب
لا يخفى عليه بعدما قررناه وجه الصواب ثم ساق شيخ الإسلام من الأدلة على مدعاه
فقال مستدلا إن الله خلق عباده على الفطرة وخلقهم حنفاء فلو خلوا وفطرهم لما
نشأوا إلا على التوحيد قال والأشقياء غيروا الفطرة إلى ضدها واستمروا على ذلك
التغيير ولم تغن عنهم الآيات والنذر في هذه الدار فأتاح الله لهم آيات أخر
وأقضية وعقوبات فوق التي كانت في الدنيا يستخرج الخبث والنجاسة التي لا تزول
بغير النار فإذا زال موجب العقاب وسببه زال العذاب وبقي مقتضى الرحمة لا
معارض له وأراد بمقتضى الرحمة الميثاق الذي أخذ عليهم بالإيمان وهم في عالم
الذر وأقول لا شك أنه يدخل النار من كفار الجن والشياطين أمم لا
122

يحصون بل ربما يدعى أنهم أكثر من كفار بني آدم وما ذكره شيخ الإسلام من عود
أهل النار بعد زوال خبيث الكفر إلى الفطرة والإقرار الذي كان في عالم الذر إن
ساعدناه عليه ثم له في من أقر في عالم الذر بالربوبية من بني آدم لا غير ودعواه
فناء النار وأن سكانها وأهلها يدخلون الجنة وهو حكم عام لكل من دخل النار
والدليل خاص ببعض بني آدم وإنما قلناه إن ساعدناه لأنه قد ثبت في الأحاديث
ان الكفار لم تشملهم الفطرة والإقرار بالربوبية في عالم الذر لم يكن إلا كرها
فليس لهم حظ من فطرة الله التي فطر الناس عليها كما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم
من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال للرجل من أهل النار
يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما في الأرض أكنت مفتديا به فيقول نعم فيقول قد
أردت منك أهون من ذلك قد اخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا
فأبيت إلا أن تشرك بي والتعقيب بالفاء يشعر بأن الإباء كان عند أخذ الميثاق
عليه وهو في ظهر أبيه ان لا يشرك في الدنيا ويوضح ذلك ما اخرج ابن عبد البر في
التمهيد من طريق السدي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود
وناس من الصحابة في الآية إن الله مسح صفحة ظهر آدم فأخرج فيها ذرية بيضاء مثل
اللؤلؤ كهيئة الذر ومسح صفحة
123

ظهره اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء
كهيئة الذر فذلك قوله أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين الواقعة 27 وأصحاب
الشمال ما أصحاب الشمال الواقعة 41 ثم اخذ الميثاق فقال ألست بربكم قالوا بلى
الأعراف 172 فأعطاها طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية إلى أن قال
وذلك قوله تعالى وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها آل عمران 83 وهذا
المعنى كثير في الأحاديث ومنه حديث الغلام الذي قتله الخضر أخرج مسلم وأبو
داود والترمذي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن مردويه عن أبي بن كعب
عنه صلى الله عليه وسلم قال الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو أدرك
لأرهق أبويه طغيانا وكفرا وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس مثله
نعم أحاديث كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه
أحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما وتفسير الفطرة بالدين منصوص عليه فلا
124

بد من الجمع بين الأحاديث بتخصيص أحاديث الفطرة ونحوها وهي أحاديث
كثيرة من الجانبين وهي كلها في بني آدم ثم لك ان تجمع بين أحاديث عموم الفطرة
وحديث أنس الذي عند أحمد والشيخين الذي أسلفناه بأن نقول الكل على الفطرة أي
فطرة الإقرار بالتوحيد من أقر تقية كرها ومن أقر طوعا حقيقة كذلك فيتم العموم
ثم إن المقربين تقية اجتالتهم الشياطين كما في لفظ الحديث وهودهم قبل الآباء
ونصروهم ومجسوهم واقتادوهم يحيى وانقادوا لهم وللشياطين لما في طبائعهم الخبيثة
من أول وهلة حين أقروا تقية تجتمع الأحاديث والله أعلم ثم قال شيخ الإسلام فإذا
أخذت النار مأخذها منهم وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم فإن العذاب لم يكن
سدا وإنما كان لحكمة مطلوبة فإذا
125

حصلت تلك الحكمة لم يبق في
التعذيب أمر يطلب وأقول لم يقم شيخ الإسلام دليلا على أن الحكمة المطلوبة لله
في تعذيب الكفار هي زوال النجاسة الكفرية وخبثه الذي لا يزول إلا بعذاب النار
وإنما قال ذلك تظننا منه وتحسبا الرحمن تفرع عن اعتقاده فناء النار وقد أورد
على نفسه سؤالا فقال إن قيل سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان عارضا كمعاصي
وكان الموحدين أما ما كان لازما كالكفر والشرك فإن أثره لا يزول كما لا يزول
السبب وقد أشار الله تعالى إلى ذلك فقال ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه الأنعام
28 إخبارا بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقبل غير الشرك وإنها غير قابلة للإيمان أصلا
قال تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا الإسراء 72 فأخبر
أن ضلالهم عن الهدى دائم لا يزول
126

مع معاينتهم الحقائق التي أخبرت
بها الرسل وقال لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
الأنفال 23 فهذا يدلك على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ولو كان فيهم خير لما
ضيع عليهم أثر وهو يدل على أنه لا خير فيهم هنالك أيضا وأجاب بقوله لعمر الله
إن هذا أقوى ما يتمسك به في هذه المسألة ولكن هل هذا الكفر والخبث والتكذيب
أمر ذاي روى لهم زواله مستحيل أم هو أمر عارض طارئ على الفطرة قابل للزوال
وليس بأيديكم ما يدل على استحالة زواله وأنه أمر ذاتي قد أخبر الله أنه فطر
عباده على الحنفية وان الشياطين اجتالتهم عنها فلم يفطرهم على الكفر والتكذيب
وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده وإذا كان هذا الحق الذي فطروا
عليه قد أمكن زواله بالكفر والشرك كان زوال الكفر والشرك بضده أولى وأحرى ولا
ريب أنهم لو ردوا على تلك الحال لعادوا لما نهوا عنه لكن من أين لكم أن تلك
الحال لا تزول ولا تبدل بنشأة أخرى ينشؤهم عليها تبارك وتعالى
127

أقول
قد دار جواب هذا الإيراد والذي أقر أنه من أقوى ما يتمسك به المخالف على أن
الكفار مخلوقون على الفطرة أي فطرة الذين الحنيف وهو التوحيد وقد سمعت من
حديث ابن عباس وابن مسعود وغيرهم أنها لم تشملهم الفطرة ولا وقع منهم الإقرار
بالوحدانية في عالم الذر إلا تقية ثم هب أن الفطرة شاملة لبني آدم كما قال
تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين هود 119 والفطرة إنما هي للناس كما
في الآية والحديث إنهم خلقوا حنفاء فاجتالتهم الشياطين فإن ساعدناه على أن
الناس مفطورون على التوحيد فيما يصنع بالجن والشياطين وهم من جملة من تفنى عنهم
النار ويدخلون الجنة أيزعم أنهم مفطورون على التوحيد مخلوقون حنفاء فمن اجتالهم
ولم فإنهم هم الذين اجتالوا بين العباد فهذا وارد على عمومهم الفطرة مع التسليم
والمماشاة وأما قوله فمن أين لكم أنه لا يزول قلنا من إخبار الله في الآيات
التي ساقها في صدر السؤال ولعدم الدليل على زوال ما كانوا عليه وكفى دليلا على
عدم زوال نجاسة الكفر وخبث الشرك ودرن التكذيب بالنار قوله تعالى
128

ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه إلا أنه قال شيخ الإسلام إن هذا الإخبار منه
تعالى عنهم قبل دخولهم النار فإنه تعالى قال ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا
يا ليتنا نرد ولا نكذب إلى قوله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه أي لو ردوا من
شفير جهنم قبل دخولها لعادوا لما نهوا عنه من التكذيب والكفر وذلك لازم لهم لم
يزل عنهم خبث الشرك فإنه لا يزول إلا بدخول النار قلت قد حكى الله عنهم أنهم
يقولون وهم بين أطباقها يصلونها ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون المؤمنون
107 وأنه يقول في جوابهم اخسئوا فيها ولا تكلمون المؤمنون 108 فلم يجبهم تعالى
وقد ذاقوا العذاب واعترفوا بالظلم إلا بقوله اخسئوا فيها لا تكلمون ولم يقل
ابقوا حتى تطهروا من خبث الكفر ولعل شيخ الإسلام يقول لم يكن عند هذا الاعتراف
قد طهرت تلك النفوس من خبث الشرك وجوابه إن هذه الدعوى من العنت وتقريره
أن زوال خبث الشرك والكفر بالنار من عيب تفرع عن دعوى الفناء للنار والأصل
بقاؤه ما لم يقم عليه دليل كما عرفت
129

ثم استدل على ذلك المدعى
بأحاديث الشفاعة الثابتة في الصحيحين وغيرها وفيها أن الله يقبض قبضة من النار
فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قال فهذا يدل على إخراج قوم لم يكن في قلوبهم
خير قط كما يدل له السياق فإن لفظ الحديث هكذا أخرجوا من في قلبه مثقال ذرة من
خير فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا فيقول الله شفعت
الملائكة وشفعت النبيون وشفعت المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة
الحديث قال فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير
ومع هذا فأخرجتهم الرحمة
130

أقول الحديث ليس من محل النزاع فإنه في
إخراج أقوام من النار وهي باقية وقد قرر شيخ الإسلام فيما سلف أنه لا يخرج منها
الكفار وهي باقية وإن كان إنما استدل به عليه بعموم الرحمة ثم يقال الحديث دل
على أن الملائكة أخرجت من علمت في قلبه مثقال ذرة من خير ولا دليل أنهم يعلمون
كل من في قلبه مثقال ذرة من خير فإنهم لا يعلمون من أحوال القلوب إلا ما أعلمهم
الله كما قال تعالى يعلمون ما تفعلون الانفطار 12 فهم يعلمون أفعالنا لا ما
انطوت عليه قلوبنا ولهذا وردت الأحاديث انهم يصعدون أهل بالعمل يرونه حسنا
ويرد فيقول الله إن فاعله أراد به كذا وكذا أي من الرياء ونحوه فأخرج البزار
والطبراني في الأوسط والدارقطني والأصبهاني في الترغيب والترهيب من حديث أنس
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى يوم القيامة بصحف مختمة فتنتصب بين
يدي الله فيقول ألقوا هذه واقبلوا هذه فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما
عمل فيقول الله إن هذا كان لغير وجهي وأنا لا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي
131

وهذا الحديث فيه الإخبار بان الملائكة قالت لم نذر فيها خيرا أي
أحدا فيه خير والمراد ما علموه بإعلام الله ويجوز أن يقال لم يعلمهم بكل من في
قلبه خير وأنه بقي من أخرجهم بقبضته ويدل له أن لفظ الحديث أنه أخرج بالقبضة من
لم يعملوا خيرا قط فنفى العمل ولم ينف الاعتقاد وفي حديث الشفاعة تصريح بإخراج
قوم لم يعملوا خيرا قط ويفيد مفهومه أن في قلوبهم خيرا ثم سياق الحديث يدل على
أنه أريد بهم أهل التوحيد لأنه تعالى ذكر الشفاعة للملائكة والأنبياء والمؤمنين
ومعلوم أن هؤلاء يشفعون بعصاة أهل التوحيد فإنه لا يقول ابن تيمية ولا غيره أنه
يشفع للكفار بقرائن القبض التي قبضها الرب في عصاة الموحدين والأليق بالسياق
أنها أيضا فيهم وقد اخرج البيهقي في
132

الشفاعة من حديث جابر مرفوعا
فيه اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فاخرجوا إلى أن قال ثم
يقول الله تعالى الآن أخرجوا بعلمي وحلمي فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافه فقوله
تعالى بعلمي يدل على أنه علم قوما في قلوبهم الخير لم تعلمهم الملائكة وهب أنا
ساعدناه وأن تعالى أخرج قوما من الكفار من النار أين هذا من محل النزاع وهو فناء
النار وإدخال من كان فيها من الكفار الجنة ثم قال شيخ الإسلام مستدلا أيضا إن
العبد إذا اعترف بذنوبه حقيقة الاعتراف المتضمن لنسبة السوء والظلم واللوم
إليه والحمد والرحمة والكمال المطلق لربه وفي كل وقت يستعطف ربه ويستدعي رحمته
وإذا أراد الله أن يرحم عبده ألقى ذلك في قلبه لا سيما إذا اقترن بذلك عزم
العبد على ترك المعاودة وعلم الله ذلك من داخل قلبه وسويدائه فإنه لا يختلف
عن الرحمة فإذا علمت تلك النفوس الخبيثة أن العذاب أولى لها وأنه لا يليق
بها سواه ولا تصلح إلا له فقد ذابت تلك الخبائث وتلاشت وتبدلت وبذل وانكسار
وثناء على رب العالمين تبارك وتعالى لم يكن في حكمته أن يستمر العذاب بعد
ذلك إذ قد تبدل شرها
133

بخيرها وشركها بتوحيدها حديث وكبرها بخضوعها
عند وذلها وأقول قال الله تعالى مخبرا عن المشركين واعترافهم المذكور وقالوا لو
كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير
الملك 10 و 11 فهذا نص في اعترافهم الاعتراف الحقيقي فإنه لا يطلق تعالى على
ما ليس باعتراف أنه اعتراف ثم قال فسحقا لأصحاب السعير أي بعدا لهم عن
الرحمة والإغاثة والغفران فهذا نص في وجه هذا القول الذي قاله تظننا وقال تعالى
لما قالوا وهم في دركات النار أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون المؤمنون 107
فاعترفوا بظلمهم وأخبروا عن عزيمتهم أنهم لا يعودون أي إن عدنا إلى ما كنا فيه
من الكفر والتكذيب كما يفيده لفظ العود ولم يجب عليهم تعالى إلا بقوله اخسئوا
فيها ولا تكلمون المؤمنون 108 وأخرج الترمذي والبيهقي من حديث أبي الدرداء
مرفوعا وفيه إن أهل النار ينادون خزنة جهنم ثم يدعون مالكا ثم يقولون
134

ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما
ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون المؤمنون 106 - 107 فيجيب عليهم
الرب اخسئوا فيها ولا تكلمون المؤمنون 108 فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك
أخذوا في الزفير والشهيق والويل ثم يقال وقد قال الله تعالى إن الله لا يغفر أن
يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء في آيتين من سورة النساء 48 و 116 وهو غير
مقيد بزمان ولا حال فيجب الوقوف والتسليم في هذا المقام والاعتراف بالعجز عن
إدراك حكمة الحكيم العلام فكيف يقول شيخ الإسلام لم يكن في حكمته أن يستمر بها
العذاب وأين للعقول الاطلاع على أسرار حكمته وكيف لها
135

الوصول إلى
معرفة عجائب ملكوته وجبروته ثم أخذ شيخ الإسلام يستدل بأحاديث آخر الناس
خروجا من النار وأحاديث أدنى الناس منزلة في الجنة وهي أحاديث واضحة في عصاة
الموحدين ولا حاجة إلى سردها فهي معروفة في محالها ثم قال مستدلا على مدعاه أنه
تعالى يخبر عن العذاب أنه عذاب يوم عقيم وعذاب يوم عظيم وعذاب يوم أليم
الزخرف 65 ولا يخبر عن النعيم أنه نعيم يوم ولا في موضع واحد وأقول ورد عذاب
يوم عظيم في قصة صالح في قوله لقومه ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم
الشعراء 156 والمراد به اليوم الذي أخذهم فيه العذاب بالدنيا وهو العقاب
136

القريب الذي أوعدهم به في قوله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب هود
64 قال تعالى فلما جاء أمرنا نجينا صالحا إلى قوله ومن خزي يومئذ هود 66 أي يوم
أخذهم العذاب العظيم القريب فهو يوم من أيام الدنيا وورد عذاب يوم عظيم في
قصة شعيب فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم الشعراء 189
وورد عذاب يوم عقيم في قوله تعالى ولا يزال الذين كفروا في مرية منه الآية إلى
قوله أو يأتيهم عذاب يوم عقيم الحج 55 وفسر بيوم بدر كما أخرجه ابن مردويه
والضياء في المختارة عن ابن عباس وأخرجه أيضا ابن مردويه عن أبي بن كعب وأخرجه
عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وأخرجه ابن أبي حاتم عن
عكرمة فهذه كلها من أيام الدنيا وهب أنه ورد ذلك في صفة عذاب الآخرة فإنه قد
ثبت بنص القرآن أنهم لابثون فيها أحقابا والحقب كما ذكره ابن تيمية في هذه
المسألة خمسون ألف سنة قال أخرجه الطبراني من
137

حديث أبي أمامة
مرفوعا والأحقاب جمع وأقله ثلاثة يعني مائة ألف سنة وخمسين ألف سنة هذا وقد
رد في أهل الجنة إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون يس 55 وهذا تقييد لنعيمهم
لأنه وكونهم فاكهين والفاكهة المتنعم المتلذذ ومعلوم أنهم في شغل فاكهون أبدا
الآباد وقال تعالى يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الزخرف 68 فإن
قيل أراد به مبدء زوال الخوف والحزن قلنا كذلك عذاب يوم أريد به مبدأه وحينئذ
فلا دليل بالتقييد مطلق الزمان فمن أيام الآخرة ليس لها قيد به من نعيم ولا
عذاب بل أريد به مطلق الزمان فإن أيام الآخرة ليس لها مقدار فمتى أطلق اليوم
أطلقه على مطلق المدة هذا يوم لا
138

ينطقون المرسلات 35 هذا يوم الفصل
الصافات 21 هذا يومكم الذي كنتم توعدون الأنبياء 103 اليوم نختم على أفواههم
يس 65 إني جزيتهم اليوم بما صبروا المؤمنون 111 وإن يوما عند ربك كألف سنة
مما تعدون الحج 47 في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة المعراج 4 فليس المراد من
الجميع اليوم المعروف للمقدار المذكور قطعا ومن اطلاقه على مطلق المدة قوله في
قصة عاد انى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (الشعراء 135 أخبرنا) ثم يبينه في (
الحاقة) بقوله واما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية إلى قوله ثمانية أيام حسوما (
6 و 7) فهذا تفسير لليوم العظيم بأيام وليالي وبهذا يعلم ضرورة أنه إذا أطلق
اليوم في تقييد الأمور الأخروية علم يقينا انه مطلق الزمان ولا تحديد له ولا
تعيين ولا نهاية إلا بدليل وقد كان أعجبني استدلاله بما ذكر من تقييد عذاب
الآخرة باليوم في آيات وعدم تقييد نعيم الجنة ولا في آية فلما حققته وجدته لا
شئ نفيا وإثباتا أما إثباتا فإنه ما ثم دليل على مدعاه وأما نفيا فإنك قد
سمعت ما سقناه من تقييد نعيم أهل الجنة فاليوم كما قال الله في الجنة ادخلوها
بسلام ذلك يوم الخلود ق 34 انتهى
139

وقد انتهى إلى هنا ما أجلب إليه
شيخ الإسلام من خيل الأدلة ورجلها وكثيرها وقلها ودقها وجلها وأجرى فيها قلمه
ونشر فيها علمه وأتى بكل ما قدر عليه من قال وقيل واستنفر كل قبيل وجيل وسردها
تلميذه ابن قيم الجوزية وقال في آخرها هذه نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة
ولعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب قلت وقد سقنا أدلته النظرية والأثرية يا
ولم نترك منها إلا ما كان مكررا وتكلمنا على تفصيلها وتجميلها لو بما هدانا
الله إليه وله الحمد من غير عصبية مذهبية ولا متابعة أشعرية ولا معتزلية بل بما
أشهدتنا أنوار الأدلة واعلم أن هذه المسألة التي أتى بها شيخ الإسلام هي فرع عن
مسألة خلق الأشقياء التي حار فيها أرباب النوى وتحير فيها فرسان الأذكياء
وترددت حولها أذهان الفطانا يكون وتفرع عنها أقوال اقشعرت منها جلود الأمة
الفضلاء فطائفة أوهم الجهل بذلك إلى الإقدام على نفي حكمة الله في أقواله وهم
غلاة الأشعرية وأخطأوا في ذلك ورد عليهم الأئمة الأعلام من أهل مذهبهم وغيرهم
من علماء الأنام وآخر من بين ما
140

في كلامهم من الاختلال وما في نفيهم
الحكمة من الداء العضال المحقق العلامة نزيل حرم الله صالح بن مهدي المقبلي في
كتابه العلم الشامخ ولواحقه وفي أبحاثه المسددة ونقلت كلامه ورددت عليه في
إيقاظ الفكرة وطائفة أقدموا على أن الله ليس بقادر على هداية الكافر لأنه خلق
على هيئة لا يقبل اللطف معهما وهم غلاة المعتزلة وقد رد عليهم الأئمة من أهل
التحقيق وأبانوا أنه قول بالقبول غير حقيق وأن فيه من الشناعة والبشاعة ما لا
يليق وأما ابن تيمية ومن تابعه فأثبتوا الحكمة وعموم قدرة الله على كل شئ وقال
بما سمعت من فناء النار وأنه تعالى خلق الأشقياء ليتفضل عليهم بعفوه ورحمته
ولقد أصاب بإثبات الأمرين الذين نفاهما غيره ولكنه غير وجه الحكم وحكم بفناء
النار ولم ينهض له دليل على ذلك كما عرفته وقد أشار السيد العلامة الكبير محمد
بن إبراهيم الوزير إلى هذه الثلاثة الأقوال وإلى ما تفرع عليها من الدعاوي في
إثبات الإجادة في الإرادة حيث قال
141

ولما أتى ذكر الخلود بناره على
جوده في ذكره والجوازم تعاظم شأن الخلد في النار كل من تفكر في أسماء رب
العوالم يشير إلى ما قاله ابن تيمية من أن صفاته تعالى من الرضا والرحمة صفتان
ذاتيتان فلا منتهى لرضاه وأن سخطه وعذابه ليسا من صفات ذاته التي يستحيل
انعكافه مع عنها كعلمه وحياته والعفو أحب إليه من الانتقام والرحمة أحب إليه
من العقوبة والرضى أحب إليه من الغضب والفضل أحب إليه من العدل ثم إن النعيم
والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبره وكرمه ولذلك يضيف ما ذكر إلى نفسه وأما
العذاب والعقاب فإنهما من مخلوقاته ولذلك لا يسمى بالمعذب والمعاقب بل يفرق
بينهما فيجعل هذا من أوصافه وهذا من مفعولاته من الآية الواحدة كقوله تعالى نبئ
عبادي أني أنا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الأليم الحجر 49، 50 وقال إن
ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم الأعراف 167 ومثلها في آخر الأنعام فما كان
من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامها ولا سيما إذا كان محبوبا له في أسمائه
وصفاته وأما الشر وهو العذاب فلا يدخل في أسمائه
142

وصفاته وإن دخل في
مفعولاته لحكمة إذا حصلت زال وفني بخلاف الخير فإنه سبحانه دائم المعروف ولا
ينقطع معروفه أبدا على الدوام وليس من موجب أسمائه وصفاته أنه لم يزل معاقبا
على الدوام غضبان على الدوام فتأمل هذا تأمل فقيه في أسماء الله فإنه يتضح لك
باب من أبواب معرفته ومحبته ثم أشار السيد محمد إلى ما تفرع من معارضته ما
يفيده صفات جوده وفضله وما صرح به من خلود الكفار فأشار إلى الوعيد بقوله فمن
قائل بالخلد من أجل كثرة ال وعيد به في المنزلات القواصم وذلك لأنهم حكموا
بعموم الخلود لمن دخل النار من عصاة الموحدين والكفار والمسألة مبسوطة في علم
الكلام وما لها وعليها مما اثاره المحققون الأعلام وأشار إلى من قال بالتخصيص
لآيات الخلود بقوله ومن قائل أن الخصوص مقدم وساعده أسماء أحكم حاكم
143

فإنه أشار إلى من قال إن الأحاديث الواردة في سعة رحمة الله وصفاته تعالى من
أنه أرحم الراحمين وورود آية الاستثناء تخصص آيات الوعيد وأراد بهذا البيت ما
تشتمل عليه مقالة ابن تيمية إذ هي عائدة إلى القول بتخصيص آيات الوعيد بالخلود
ويبعد فناء النار كما دل عليه قوله وثالثها المنصور يرجى لمسلم ومن عاند الإسلام
ليس بسالم فإنه أراد أن ثالث الأقوال في المسألة التفصيل وهو أن التخصيص من
الوعيد يرجى للمسلم ومن عاند الإسلام وهم الكفار فلا يشمله التخصيص من الوعيد
وإن قصرت عبارته عن هذا الحكم لعدم مساعدة النظم فهو مراده فجعل الأقوال ثلاثة
بقاء الوعيد على عمومه من غير تخصيص عصاة الموحدين والكفار تخصيص الموحدين لا
غير وهذا هو الذي سبق عن ابن عباس في تفسير آية هود ثم قال مشيرا إلى منشأ
مقالة كل من القائلين وان الحاصل له المحافظة على قاعدة تعود إلى تعظيم الله جل
وعلا قوله فمن قاصد تعظيمه لو رعى له من الجبروت الحق عز التعاظم
144

فهذه إشارة إلى الوعيدية وأنهم قصدوا بالقول بالتخليد في النار لكل من دخلها
تنزيه الله عن خلف الوعد الذي أفاده قوله ما يبدل القول لدي (ق: 29) ونحوه
أشار إلى منشأ ما ذهب
145