الكتاب: السيف الصقيل رد ابن زفيل
المؤلف: السبكي
الجزء:
الوفاة: ٧٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مكتبة زهران
ردمك:
ملاحظات: ومعه تكملة الرد على نونية ابن القيم بقلم : محمد زاهد بن الحسن الكوثري / تقديم : لجنة من علماء الأزهر

السيف الصقيل
في الرد على ابن زفيل
أبي الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي
السبكي الكبير المتوفى سنة 756
يرد به على نونية ابن القيم
ومعه تكملة الرد على نونية ابن القيم
بقلم محمد زاهد بن الحسن الكوثري
عفى عنهما
تقديم لجنه من علماء الأزهر
مكتبة زهران
تعريف الكتاب 1

ترجمة السبكي
هو: علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الأنصاري الخزرجي أبو الحسن تقي
الدين شيخ الإسلام في عصره، وأحد الحفاظ المفسرين المناظرين، وهو والد التاج السبكي
صاحب الطبقات.
مولده:
رحلاته العلمية: ولد في (سبك من أعمال المنوفية) سنة 683 ه‍ = 1284 م
انتقل من سبك إلى القاهرة، ثم إلى الشام وولي قضاء الشام سنة 739 ه‍ واعتل فعاد إلى القاهرة فتوفي فيها..
من تصانيفه:
(الدر النظيم في التفسير - لم يكمله)، (مختصر طبقات الفقهاء)، (إحياء النفوس
في صنعه إلقاء الدروس)، (الاغريض في الحقيقة والمجاز والكنية والتعريض)، (التمهيد
فيما يجب فيه التحديد - ط. في المبايعات والمقاسمات والتمليكات وغيرها)، (السيف
الصقيل - ط. رأيته بخطه في 25 ورقة في المكتبة الخالدية بالقدس في الرد على قصيدة نونية
تسمى الكافية في الاعتقاد منسوبة إلى ابن القيم)، (المسائل الحلبية وأجوبتها - خ. في فقه
الشافعية)، (السيف المسلول على من سب الرسول - خ)، (مجموعة فتاوي - ط)،
(شفاء السقام في زيارة خير الأنام - ط)، (والابتهاج في شرح المنهاج - فقه). ورأيت
مجموعة - خ - بخطه في مجلد ضخم تشتمل على رسائل كثيرة له، منها: الأدلة في إثبات
الأهلة. والاعتبار ببقاء الجنة والنار. وفتاوي وغير ذلك. ورأيت مجموعة أخرى كلها بخطه (في
الرباط 6 و 3 أوقاف) تشتمل على تسع رسائل منها: المجاورة والنشاط في المجاورة والرباط..
الخ وقد استوفى ابنه تاج الدين أسماء كتبه، وأورد ما قاله العلماء في وصف أخلاقه، وسعة علمه
وفاته: توفي بالقاهرة سنة 56 / 1 ه‍ = 1355 م (1)

(1) أنظر: الأعلام للزركلي 4 / 2، 3 طبعة: دار العلم للملايين - بيروت، الخطط
التوفيقية لابن المبارك 12 / 7 طبعة: الأميرية ببولاق سنة 1305 ه‍، غاية النهاية في طبقات
القراء لابن الجزري 1 / 551 طبعة: السعادة بمصر سنة 1933، الدرر الكامنة 3 / 63. 64
الطبعة الأولى - الهند سنة 1349 ه‍، طبقات الشافعية الكبري للسبكي 6 / 42 - 44 طبعة
عيسى الحلبي الأولى سنة 1386 ه‍ = سنة 1967 م، 5 / 366 - 368 نفس الطبعة.
المقدمة 2

ترجمة محمد زاهد الكوثري
محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري.
فقيه حنفي جركس الأصل. له اشتعال بالأدب والسير.
مولده: ولد سنة 1296 ه‍
نشأته وتفقهه وجهاده:
تفقه في جامع الفاتح بالآستانة، ودرس فيه، وتولى رياسة مجلس التدريس واضطهده
الاتحاديون في خلال الحرب العالمية الأولى لمعرضته خطتهم في إجلال العلوم الحديثة محل
العلوم الدينية في أكثر حصص الدراسة. ولما مر لي الكماليون وجاهروا بالإلحاد أريب اعتقاله
فركب إحدى البواخر إلى الإسكندرية سنة 1341 ه‍ = 1922 م، وتنقل زمنا بين مصر
والشام، ثم استقر في القاهرة موظفا في دار المحفوظات - لترجمة ما فيها من الوثائق التركية
إلى العربية.
وكان يجيد العربية والتركية والفارسية والجركسية، وفي نطقه بالعربية لكنة، وتوفي
بالقاهرة.
من مؤلفاته
له تعليقات كثيرة على بعض المطبوعات في أيامه، في الفقه والحديث والرجال، وله
تأليف منها:
(تأنيت الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من أكاذيب - ط) ويعني
بالخطيب، صاحب تاريخ بغداد. (والنكت الطريفة في التحدث عن ردود ابن أبي شيبة على
أبي حنيفة)، (والاستبصار في التحدث عن الجبر والاختيار)، ورسائل في تراجم الإمام زفر
وأبي يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن الشيباني، والبدر العيني، والإمامين من الحسن بن
زياد، ومحمد بن الشجاع. والطحاوي وكلها مطبوعة. وله نحو مائة مقال جمعها السيد أحمد
خيري في كتاب:
مقالات الكوثري. *

* الأعلام للزركلي 6 / 363 - 364، مقالات الكوثري، تحفة الإخوان ص 117،
والصحف المصرية 20 / 11 / 1371 ه‍.
المقدمة 3

التعريف بكتاب (السيف الصقيل)
في أثناء القرن السابع الهجري رحل من حران إلى الشام بيت علم وفضل، خوفا على
أنفسهم من التتر واستوطنوا دمشق. وكان منهم طفل صغير من مواليد حران حمله أبوه معه
فيما حمل من أهله، فألحقه بمدرسة من مدارس دمشق. ذلك الصغير، هو أحمد بن عبد
الحليم ابن عبد السلام المعروف بابن تيمية، وعبد السلام كان من خيرة العلماء، له في مذهب
أحمد تصانيف، وله منتقى الأخبار الذي شرحه الشوكاني وأسماه: نيل الأوطار. فأقبل ذلك
الصغير على العلم وظهرت عليه مخايل الذكاء، وتفقه في مذهب أحمد كأسرته الحنابلة، وقرأ
في كثير من الفنون والعلوم، وظهرت عليه مخايل الذكاء، واشتهر بجودة الحفظ وقوة الذاكرة،
وتصدر للفتيا وإلقاء الدروس في سن مبكرة، وظهرت عليه آثار النسك والعبادة، فأحبته العامة
وأثنت عليه الخاصة، وبالغ في الدعاء إلى السنة ومجانبة البدعة. وقد آنس من نفسه قوة ذهن
وشدة عارضة فلم يحفل بالرجوع إلى شيوخ الوقت وأكابره، ورفعت إليه الأسئلة
والاستفتاءات، فأجاب وأفتى، وهو مرموق في كل ذلك بعين التجلة من الجميع... حتى إذ
قارب سن الأربعين سن الكمال عادة، بدأ النقص يظهر فيه، فبدأ يسير على طريق الكرامية
والحشوية (1)، ويحيي بدعة القول بالجهة والمكان والأجزاء لله،

(1) وهاك صورة مجملة عن الكرامية والحشوية، حتى تستبطن حقيقتها، وتختبر عودها، وتنظر في أصلهما
فيحكي لنا الإيجي أنهما فرعان لشجرة حنظل واحدة، هي شجرة التشبيه. تشبيه الخالق بالمخلوق. وإن
اختلفوا في طريقته فمنهم مشبهة علاة الشيعة. ومنهم مشبهة الحشوية كمضر وكهمس والهجيمي ومنهم
مشبهة الكرامية أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام. ويؤكد الرازي على أن اليهود أكثرهم مشبهة وأن
ظهور التشبيه في الإسلام قد بدأ من الروافض مثل بيان بن سمعان الذي كان يثبت لله تعالى الأعضاء
والجوارح، وهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي، ويونس بن عبد الرحمن القمي، وأبو جعفر
الأحوال الذي كان يدعى شيطان الطاق. وهؤلاء رؤساء علماء الروافض، ثم تهافت في ذلك المحدثون ممن
لم يكن لهم نصيب من علم المعقولات.
ويصور لنا الشهرستاني بعض معتقداتهم، وبعد أن يورد أصولهم فيقول: إن جماعة من الشيعة الغالية،
وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل: الهشاميين من الشيعة. ومثل مضر،
وكهس، وأحمد الهجمي وغيرهم من الحشوية. قالوا: معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض ويجوز
عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن. وأما مشبهة الحشوية، فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر، وكهس، وأحمد الهجيمي: أنهم أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة.
وأن المسلمين المخلصين يعانقوته في الدنيا والآخرة. وحكى عن داود الجواربي أنه قال: اعفوني عن الفرج
واللحية واسألوني عما وراء ذلك. وقد أورد كثيرا من هذه المعتقدات الفاسدة الأشعري في مقالاته، وكذا
البغدادي في فرقه... ثم إن الإمام الرازي رتب فرقهم الخمسة هكذا: 1 - الحكمية: وهم أصحاب هشام
بن الحكم. 2 - الجواليقية: أتباع هشام بن سالم الجواليقي الرافضي. 3 - اليونسية: أتباع يونس بن عبد
الرحمن القمي 4 - الشيطانية: أتباع شيطان الطاق 5 - الحوارية أصحاب داود الحوارى. وكذا أورد طوائف
الكرامية وقال: وأقربهم الهيصمية وفى الجملة، فهم كلهم يعتقدون أن الله تعالى جسم وجوهر ومحل للحوادث،
ويثبتون له جهة ومكانا. ونقول: والحشوية - كما سبق - من أهل الحديث الذين تمسكوا بظواهر الأحاديث التي
تشعر بالتشبيه، وسبب تسميتهم بهذا الاسم كما يقول الكوثري - في مقدمته على تبين كذب المفترى - أن
الحسن البصري كان يلازم مجلسه نبلاء أهل العلم، وقد حضر مجلسه يوما أناس من رعاع الرواة. ولما تكلموا
بالسقط عنده قال: ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أي جانبها، فسموا الحشوية. ومنهم أصناف المجسمة
والمشبهة. والحشوية بفتح الشين ويصلح إسكانها، لقولهم بالتجسيم، لأن الجسم محشو.
أنظر: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، الملل والنحل للشهرستاني ج 1 / 105، الفرق بين الفرق
للبغدادي ص 65، والموافق للإيجي ص 429، اعتقاد فرق المسلمين والمشركين للفخر الرازي ص 97 - 101،
تبين كذب المفترى لابن عساكر الدمسقي ص 11.
المقدمة 4

وقيام الحوادث من الصوت وغيره بذاته تعالى. وأخذ يشيع أن القول بذلك هو الإسلام
والإيمان والدين والتوحيد، وأن ذلك هو مذهب أحمد بن حنبل (1) وأن من خالف ذلك فهو معطل
ملحد عدو للدين منابذ للإسلام والمسلمين، فأحيا بذلك بدعة الحشو بعد ما ماتت أو كادت، حتى
لقد رآه ابن بطوطة - في بعض رحلاته - يخطب على المنبر، وتلا حديث النزول ثم قال: ينزل
كنزولي هذه ونزل درجة، فأنكر عليه بعض الحاضرين، فهاج العامة على المنكر وضربوه ضربا
شديدا. بل لقد تعصب له بعض الحنابلة أولا، حتى إذا استطار، في الناس ضرره جعلوا
يوجهون إليه النصائح بالمشافهة والمكاتبة. وحسبك نصحة الحافظ الذهبي له - وهي مثبتة في
ذيل تكملة السيف الصقيل الذي بين يديك - وهو شيخ الحنابلة والحديث - وكان قبل ذلك يكثر
الثناء عليه بل يطريه - فيقول: (كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما) ثم
قال: إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد... الخ وستأتيك بتمامها). ونقول: لقد برع
في الاحتيال لنشر آرائه المخالفة للمعقول والمنقول، وبرز في نصر بدع الكرامية، وإحياء ما
اندرس من شبهم وشبه غيرهم، وترى ذلك في منهاجه الذي يرد به على الروافض وفي الحقيقة
لقد خالف فيه منهاج السنة، فأثبت بأنه لا أول للحوادث وأنه لا ابتداء لها، وأن ذلك هو مذهب
الصحابة والتابعين، وتراه مع ذلك.. في تناقض واضح - ينقل خلاف الصحابة والتابعين في
أول مخلوق، هل هو العرش أو القلم أو الماء؟!! وفي صفحة واحدة دون خالجة من الخجل!!

(1) يقول الرازي: إعلم أن جماعة من المعتزلة ينسبون التشبيه إلى الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
ويحيى بن معين، وهذا خطأ. فإنهم منزهون في اعتقادهم عن التشبيه والتعطيل، ولكنهم كانوا ألا
يتكلمون في المتشابهان مع جزمهم بأن الله تعالى لا شبيه له وليس كمثله شئ. وأقوال بعد ذلك: فلا يخذ
عنك عن دينك قول من يقول: إن كل حنبلي مجسم، فتظن أن الإمام أحمد كان هو أو فقهاء أتباعه
كذلك - فالمجسمة إن كانوا حنابلة ففي الفروع لا في الأصول - وقد روى الإمام أبو الفضل التميمي شيخ
الحنابلة، والحافظ ابن الجوزي وغيرهما من أعيان المذهب عن الإمام أحمد ما عليه الجماعة من تنزه الحق
عن الجسمية ولوازمها. روى البيهقي في مناقب الإمام أحمد بسنده عن أبي الفضل أنه قال: (أنكر أحمد
على من قال بالجسم وقال: إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة. وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على
ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف. والله تعالى خارج عن ذلك كله فلم يجز أن يسمى جسما
لخروجه عن معنى الجسمية. ولم يجبئ في الشريعة ذلك فبطل).
المقدمة 6

وله في ثلب الكرام طريق غريبة ماكرة، تجد ذلك في كيديه للانتصار للأئمة الأربعة وإن
حفل نصفه الأول بالثناء عليهم فقد انسرب مكره بهم ش النصف الثاني تمهيدا لجرأة العامة
عليهم وكذلك كان صنيعه مع إمامي أهل السنة أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي.
ولا عليك فإن جاءك خلاف بين الأشاعرة والحنابلة فلا تشك أنه هو وأتباعه فقط. ولم يسلم من
لسانه إمام من أئمة أهل السنة فارجع إلى موافقة معقوله تجده قد وقع في إمام الحرمين وحجة
الإسلام الغزالي ووصفهما بأنهما أشد كفرا من اليهود والنصارى!.. ولكن هل تركه علماء
عصره على هذه الضلالات؟ ونبادر إلى القول بأن علماء عصره على اختلاف مذاهبهم قد
تصدوا له، فهذا هو علامة عصره تقي الدين الحصني في كتابه (دفع شبه من شبه وتمر
ونسب ذلك إلى الإمام أحمد) يقول: أخبرنا أبو الحسن على الدمشقي عن أبيه قال: (كنا
جلوسا في مجلس ابن تيمية، فذكر ووعظ وتعرض لآيات الاستواء ثم قال: واستوى الله على
عرشه كاستوائي هذا: قال: فوثب الناس عليه وثبة واحدة وأنزلوه من الكرسي، وبادروا إليه
ضربا باللكم والنعال.. حتى أوصلوا إلى بعض الحكام واجتمع في ذلك المجلس العلماء فشرع
يناظرهم فقالوا: ما الدليل على ما صدر منك؟ فذكر آية الاستواء فضحكوا منه، وعرفوا أنه
جاهل...) وكان الإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه أبو الحسن علي بن إسماعيل القونوي
يصرح بأنه من الجهلة بحيث لا يعقل ما يقول. ونقل عن صلاح الدين الكتبي ويعرف بالتريكي
في الجزء العشرين من تاريخه ما قام به العلماء في جهاد هذا الرجل. وذكر قبل ذلك صورة
المرسوم الذي أصدره السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وذكره أيضا العلامة الكوثري بنصه
ناقلا له مما رآه بنفسه من خط ابن طولون في تكملته للسيف الصقيل. ومع هذا فقد ترك بعد
موته أئمة ابتداع عبوا من حياضه الأسنة وعلى رأسهم الإمام ابن رفيل الشهير بابن القيم
وكان أبوه قيم المدرسة الجوزية ولذلك يقولون أحيانا: ابن قيم الجوزية، يعنون بها تلك
المدرسة - كان أتبع لشيخه ابن تيمية من ظله، وقد أفنى عمره في خدمة بدع أستاذه بفنون من
التلبيس، فيؤلف في السيرة النبوية، وفي الفوائد الصوفية وفي المواعظ، ويدس في خلال ذلك
من حشو شيخه وأضاليله ما استطاع ثم يعود إلى ما يعرفه العلماء، وكثيرا ما يحكي المسألة
المجمع عليها بين العلماء إجماعا ظاهرا فيذكر فيها خلافا فيقول: قالت طائفة بدلك ويحتج لها
ويطيل الاحتجاج. وقالت طائفة أخرى ويطول الاحتجاج بما يظنه حجة من أوهام شيخه. كما
وقوع الطلاق الثلاث المجموع ثلاثا وغيرهما كثير وقلما.
المقدمة 7

يسلم له كتاب من تشعيب ودس وتهويش، وقد جمع شواذ شيخه في قصيدة سخيفة نونية بلغها
ستة آلاف بيت تقريبا (1). وكان إخوانه وتلاميذه يخفونها خوفا من أهل العلم وأهله، حتى وقعت
في يد شيخ الإسلام تقي الدين أبي الحسن على السبكي، فكتب عليها كتابة سماها: السيف
الصقيل في الرد على ابن رفيل - وقد وضع العلامة الكوثري تكمله لهذا السيف وأجاد كل
الإجادة - وهو الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم - ومن قرأ هذه المنظومة النونية وقرأ
كتب ابن تيمية - وهو من أهل العلم - لا يرتاب في أنه نسخة منه، فإنه يرمي من تقدمه من
محققي أهل العلم وأكابر العلماء بأنهم أعداد الإسلام، وذلك لأنهم لم يقولوا بما قال به ابن
تيمية من التجسيم والتشبيه، وإن كان ابن الجوزي قد أثخن أهل التجسيم والتشبيه بالجراح
في كتابه القيم: دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه في الرد على المجسمة والمشبهة بتحقيق:
محمد زاهد الكوثري وتصدير العلامة محمد أبي زهرة وتقديم الدكتور: جمعة الخولي بما يشفي
الصدر ويثلج النفس. وكذلك فإن العلامة أين زاهد الكوثري قد أنصف أهل السنة من هذا
وشيخه ومن تبعهما في كتابه: التكملة وهو ضميمة للسيف الصقيل بما يبهج الخاطر ويرد
الظلامة ويسفر بنور الاصباح. ولا يغرنك كتاب ابن القيم: (غزو الجيوش الإسلامية، للمعطلة
والجهمية) فإنه جمع فيه ما تشابه من الآيات والأحاديث، لا فرق بين صحيحها وسقمها
وموضوعها ليثبت بذلك - في زعمه - الجهة لله تعالى عما يقول. وقد عنى بالمعطلة والجهمية كل
من نزه الله تعالى عن الجهة وغيرها. من لوازم الأجسام!!
ولا يقع في وهمك أن ابن القيم قد رجع عن هذه الأباطيل، كلما تأكد لديك ثبات شيخه
عليها إلى وفاته فإن ابن رجب - في طبقات الحنابلة - سمعها أي هذه المنظومة من لفظ ابن
القيم عام وفاته أي أنه استمر على هذا العقد الباطل إلى أواخر عمره.
والله ولي التوفيق.

(1) - وعدد أبياتها على التحقيق ستة آلاف بيت إلا واحدا وخمسين بيتا.
المقدمة 8

السيف الصقيل
في الرد على ابن زفيل
للإمام الحجة أبي الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الكبير
المتوفى سنة 756
يرد به على نونية ابن القيم
ومعه تكملة الرد على نونية ابن القيم
بقلم محمد زاهد بن الحسن الكوثري
عفي عنهما
تقديم لجنة
من علماء الأزهر
مكتبة زهران
15 شارع الشيخ محمد عبده
خلف جامع الأزهر ت: 9887. 51
1

بسم الله الرحمن الرحيم
التقديم للكتاب
الحمد لله القدوس المتعال، المنزه عن النظير والمثال، جلت ذاته وعلت صفات
عن أن يحوم حول اكتناهها وهم أو خيال، والعقول عن إدراك تلك المطالب في عقال،
والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث لتتميم مكارم الخلال، منقذا لهذه
الأمة من مخالب الوثنية وصنوف الضلال، وهاديا إلى مراض مولاه ذي الجلال
والجمال، وعلى آله خير الآل وأصحابه أصحاب كرائم الخصال.
انقشاع ظلمات الجاهلية بمبعثه وبعد، فلا يخفى على من درس تاريخ الدين الإسلامي أن الله سبحانه بعث
خاتم رسله في بيئة عريقة في الوثنية، وقد أحدقت بتلك البيئة أمم يدينون بالإشراك
والتشبيه وأنواع من التخريف والتمويه، فبمبعثه صلى الله عليه وآله وسلم انقشعت
تلك الظلمات الجاهلية، واستنارت بصائر الذين آمنوا به بأنوار التعاليم الإسلامية، حتى داسوا تحت أرجلهم تقاليد الوثنية ونبذوا تلك الأساطير الهمجية وخمدت عزائم
أعداء الدين، وفترت مواصلتهم العداء إلى حين.
تحين الأعداء الفرص للكيد بالمسلمين
لكنهم كانوا يتحينون الفرص لتفريق كلمة المسلمين، وتشويه تعاليم هذا
الدين في الأخلاق والعمل والاعتقاد، حتى تذرعوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
بشتى الوسائل إلى بذر بذور الفساد كلما ظنوا أن الفرصة سانحة، يلبسون في كل
3

عصر ما يرونه أنجع في مخادعة الجمهور، وأغشى على بصائر الخاصة والدهماء وأشد
فتكا بهم في صميم دينهم. إلى أن تمكنوا من إضلال طوائف في الأطراف ورغم هذا
بقيت بيضة الإسلام - بحمد الله جل شأنه - مصونة الجانب تحت كلاءة الله سبحانه
ورعايته، حيث لم يمكنهم من إبادة خضراء الملة، ولا من إحداث أحداث جوهرية في
صميم الدين الإسلام تشتت شمل الجماعة بل بقي الإسلام في جوهره - بفضل
الله جل جلاله - وضاء المنار واضح المنهاج، نير الطريقة، بادي المعالم لمن ألقى إلى
تعاليمه السمع وهو شهيد.
وغاية ما تخيل الأعداء أن يتمكنوا منه أن يوقفوا نموه العظيم الذي كان ظهر
في الصدر الأول، ويعرقلوا رقى معتنقيه السريع بعد أن بهر أبصار أولي الأبصار في
أوائل انتشاره، لكن أبي الله إلا أن يتم نوره.
وكان أخطر هؤلاء الأعداء على الدهماء وأبعدهم غورا في الاغواء أناسا ظهروا
بأزياء الصالحين بعيون دامعة كحيلة، ولحي مسرحة طويلة، وعمائم كالأبراج،
وأكمام كالأخراج، يحملون سبحات كبيرة الحبات ويتظاهرون بمظهر الدعوة إلى
سنة سيد السادات مع انطوائهم على مخاز ورثوها عن الأديان الباطلة، والنحل
الآفلة، وكأن من مكرهم الماكر أن خلطوا الكذب المباشر بالتزيد في تفسير مأثور أو
في حديث صح أصله عند الجمهور، باعتبارهم ذلك أنجع في إفساد دلالة كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أفهام أناس قرب عهدهم من الجاهلية ولم
تتكامل بعد عقولهم ولا نضجت أفكارهم.
وكم أضل رواة من هذا القبيل طوائف من سذج المسلمين منذ عهد التابعين حيث
اندسوا بين الصالحين من رواة الأعراب ومواليهم لإدخال ما اختلفوا من الأخبار
بين مرويات هؤلاء الأخيار، حتى يتم إفساد دين المسلمين عليهم، ولكن أبى
الله إلا أن يرد كيدهم في نحرهم حيث أقام جهابذة يسعون في إبعاد مختلقاتهم
عن مرتبة الاعتداد في جميع الطبقات، على أن في عقول الذين أسلموا إسلاما
صحيحا من النور ما يشق لهم الطريق إلى تعرف دخائل الروايات من نفس تلك
4

الروايات، وإن لم تخل طبقة من طبقات الرواة من أغرار انخدعوا بها وتعصبوا
لها، لأن الفاتنين كانوا راعوا في رواياتهم عقول هؤلاء ومداركهم في جاهليتهم
تيسيرا لزلل أقدامهم وتدهورهم في هاوية إغوائهم.
انخداع سذج الرواة
فالرواة السذج إذا انخدعوا بمثل هذا التمويه يكون عندهم بعض عذر،
ومن الذي لا ينخلع قلبه؟ إذا سمع السنة والدعوة إلى السنة من متقشف متظاهر
بالورع الكاذب على تقدير جهل السامع بما وراء الأكمة؟ فيجب أخذ هؤلاء بالرفق
لتدريجهم إلى الحق من باطل تورطوا فيه باسم السنة.
ومن محققي أهل السنة من يشير إلى إن العامي إذا بدر منه ما يوهم ظاهره
التشبيه يرجي من فضل الله أن بسامحه حيث يعلو التنزيه من الجهة ونحوها عن
مداركه. وأما من جمع بين الرواية والدراية على زعمه وألف في ذات الله وصفاته،
وصدر منه مثل هذا فلا يوجد بين علماء أهل السنة من يعذر مثله بل أطبقت كلماتهم
على إلزامه مقتضى كلامه، وليس لعالم عذر في الميل إلى شئ من التشبيه
والقرمطة لظهور سقوطهما لكل ناظر. قال القاضي أبو بكر بن العربي في
القواصم والعواصم: (ما لقيت طائفة إلا وكانت لي معهم وقفة عصمني الله منها
بالنظر - بتوفيقه - إلا الباطنية والشبهة فإنهما زعنفة تحققت أنه ليس وراءهما
معرفة فقذفت نفسي كلامهما من أول مرة) ا ه‍، بل لا يتصور أن يميل إلى أحدهما
عاقل إلا إذا كان له غاية إلحادية، وأنى يستعجم على عالم باللسان العربي
المبين ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تنزيه الله
جل شأنه من الجسمية والجسمانيات والمادة والماديات، بخلاف. العامي الذي هو قريب
العهد من الجاهلية.
فضل علماء أصول الدين في حواسة الدين
جزى الله علماء أصول الدين عن الإسلام خيرا، فإن لهم فضلا جسيما في
صيانة عقائد المسلمين بأدلة ناهضة مدى القرون أمام كل فرقة زائغة، وإنما
5

يكون التعويل في كل علم على أئمته دون من سواهم، لأن من يكون إماما في علم
كثيرا ما يكون بمنزلة العامي في علم آخر، فإذا لا يعول في العقائد إلا على
أئمة أصول الدين لا على الرواة البعيدين عن النظر، وكم بينهم من يرثى لمداركه
حيث يقل عقله عن عقول الأطفال وإن بلغ في السن مبلغ الرجال. ومن طالع ما
ألفه بعض الرواة على طول القرون من كتب في التوحيد والصفات والسنة والردود
على أهل النظر يشكر الله سبحانه على النور الذي أفاضه على عقله حتى نبذ مثل
تلك الطامات بأول نظرة.
محاولة ابن تيمية بعث الحشوية من مرقدها
وقد استمرت فتن المخدوعين من الرواة على طول القرون مجلبة لسخط
الله تعالى ولاستسخاف العقلاء من غير أن يخطر ببال عاقل أن يناضل عن
سخافات هؤلاء، إلى أن نبغ في أواخر القرن السابع بدمشق حراني تجرد للدعوة إلى
مذهب هؤلاء الحشوية السخفاء متظاهرا بالجمع بين العقل والنقل على حسب فهمه
من الكتب بدون أستاذ يرشده في مواطن الزلل، وحاشا العقل الناهض والنقل
الصحيح أن يتضافرا في الدفاع عن تخريف السخفاء إلا إذا كان العقل عقل صابئ
والنقل نقل صبي، وكم انخدع بخزعبلاته أناس ليسوا من التأهل للجمع بين
الرواية والدراية في شئ وله مع خلطائه هؤلاء موقف في يوم القيامة لا يغبط
عليه. ومن درس حياته يجدها كلها فتنا لا يثيرها حاظ بعقله غير مصاب في
دينه، وأنى يوجد نص صريح منقول أو برهان صحيح معقول يثبت الجهة
والحركة والثقل والمكان ونحوها لله سبحانه؟ وسيمر بك سرد بعض مخازيه مع
نقضها إن شاء الله تعالى.
وكل ما في الرجل أنه كان له لسان طلق، وقلم سيال، وحافظة جيدة، قلب
بنفسه بدون أستاذ رشيد - صفحات كتب كثيرة جدا من كتب النحل التي
كانت دمشق امتلأت بها بواسطة الجوافل من استيلاء المغول على بلاد الشرق، فاغتر
بما فهمه من تلك الكتب من الوساوس والهواجس، حتى طمحت نفسه إلى أن
6

تكون قدوة في المعتقد والأحكام العملية ففاه في القبيلين بما لم يفه به أحد من
العالمين مما هو وصمة عار وأمارة مروق في نظر الناظرين فانفض من حوله أناس كانوا
تعجلوا في إطرائه بادئ بدء قبل تجريبه وتخلوا عنه واحدا إثر واحد على تعاقب
فتنه المدونة في كتب التاريخ ولم يبق (1) معه إلا أهل مذهبه في الحشو من جهلة
المقلدة، ومن ظن أن علماء عصره صاروا كلهم إلبا واحدا ضده حسدا من عند
أنفسهم فليتهم عقله وإدراكه قبل اتهام الآخرين، بعد أن درس مبلغ بشاعة
شواذه في الاعتقاد والعمل وهو لم يزل يستتاب استتابة إثر استتابة، وينقل من
سجن إلى سجن إلى أن أفضى إلى ما عمل وهو مسجون فقبر هو وأهواؤه في
البابين بموته وبردود العلماء عليه وما هي ببعيدة عن متناول رواد الحقائق.
مسايرة ابن القيم لابن تيمية في فتنته
وكان ابن زفيل الزرعي المعروف بابن القيم يسايره في شواذه كلها حيا
وميتا، ويقلده فيها تقليدا أعمى في الحق والباطل، وإن كان يتظاهر بمظهر
الاستدلال لكن لم يكن استدلاله المصطنع سوى ترديد منه لتشغيب قدوته دائبا
على إذاعة شواذ شيخه. متوخيا في غالب مؤلفاته تلطيف لهجة أستاذه في تلك
الشواذ، لتنطلي وتنفق على الضعفاء، وعمله كله التلبيس والمخادعة والنضال عن
تلك الأهواء المخزية حتى أفنى عمره بالدندنة حول مفردات الشيخ الحراني. تراه
يثرثر في كل واد، ويخطب بكل ناد بكلام لا محصل له عند أهل التحصيل،
ولم يكن له حظ من المعقول، وإن كان كثير السرد لآراء أهل النظر. ويظهر مبلغ
تهافته واضطرابه لمن طالع (شفاء العليل) له بتبصر، ونونيته وعزوه من

(1) وثناء بعض المتأخرين عليه لم يكن إلا عن جهل بمضلات الفتن في كلامه
ووجوه الزيغ في مؤلفاته ومنهم من ظن أنه دام على تويته بعدما استتيب
فدام على الثناء ولا حجة في مثل تلك الأثنية، وأقواله الماثلة أمامنا في
كتبه لا يؤيدها إلا غار غوى، نسأل الله السلامة.
7

الدلائل على أنه لم يكن ممن له علم بالرجال ولا ينقد الحديث حيث أثنى فيهما
على أناس هلكى، واستدل فيهما بأخبار غير صحيحة على صفات الله سبحانه.
وقد ذكره الذهبي في المعجم المختص بما فيه عبرة، ولم يترجم له الحسيني ولا ابن
فهد ولا السيوطي في عداد الحفاظ في ذيولهم على طبقات الحفاظ، وما يقع من
القارئ بموقع الاعجاب من أبحاثه الحديثية في زاد المعاد وغيره فمختزل مأخوذ مما
عنده من كتب قيمة لأهل العلم بالحديث، (كالمورد الهني شرح سير عبد الغني للقطب
الحلبي) ونحوه ولولا محلى ابن حزم وإحكامه ومصنف ابن أبي شيبة وتمهيد ابن عبد
البر لما تمكن من مغالطاته وتهويلاته في أعلام الموقعين. وكم استتيب وعزر مع
شيخه وبعده على مخاز في الاعتقاد والعمل تستبين منها ما ينطوي عليه من المضي
على صنوف الزيغ تقليدا لشيخه الزائغ وسيلقى جزاء عمله هذا في الآخرة - إن لم
يكن ختم له بالتوبة والإنابة - كما لقي بعض ذلك في الدنيا.
نماذج من أقوال أصحاب
ابن القيم وأضاده والمتحايدين
قال الذهبي في المعجم المختص عن ابن القيم هذا: عنى بالحديث بمتونه وبعض
رجاله وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره، وفي النحو ويدريه، وفي الأصلين.
وقد حبس مدة لإنكاره على شد الرحيل لزيارة قبر الخليل (إبراهيم عليه السلام) ثم
تدر للاشتغال ونشر العلم لكنه معجب برأيه جرئ على الأمور ا ه‍.
قال ابن حجر في الدرر الكامنة: غلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج
عن شئ من أقواله بل ينتصر له في جميع ذلك، وهر الذي هذب كتبه ونشر علمه..
واعتقل مع ابن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة،
فلما مات أفرج عنه وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية وكان ينال من علماء
عصره وينالون منه ا ه‍.
قال ابن كثير كان يقصد للإفتاء بمسألة الطلاق حتى جرت له بسببها أمور يطول
8

بسطها مع ابن السبكي وغيره.. وكان جماعا للكتب فحصل منها ما لا يحصر
حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرا طويلا سوى ما اصطفوه منها
لأنفسهم.. وهو طويل النفس في مصنفاته يتعانى الإيضاح جهده،
فيسهب (1) جدا، ومعظمها من كلام شيخه يتصرف في ذلك، وله في ذلك ملكة
قوية، ولا يزال يدندن حول مفرداته وينصرها ويحتج لها.. وجرت له محن مع
القضاة منها في ربيع الأول طلبه السبكي بسبب فتواه بجواز السابقة بغير محلل
فأنكر عليه وآل الأمر إلى أنه رجع عما كان يفتي به من ذلك ا ه‍ وقال: التقى
الحصني: كان ابن تيمية ممن يعتقد ويفتي بأن شد الرحال إلى قبور الأنبياء حرام لا
تقصر فيه الصلاة، ويصرح بقبر الخليل وقبر النبي صلى الله عليهما وسلم. وكان
: على هذا الاعتقاد تلميذه ابن قيم الجوزية الزرعي وإسماعيل بن كثير الشركويني،
فاتفق أن ابن قيم الجوزية سافر إلى القدس الشريف ورقى على منبر في الحرم:
ووعظ
وقال في أثناء وعظه بعد أن ذكر المسألة: وها أنا راجع ولا أزور الخليل. ثم جاء
إلى نابلس وعمل له مجلس وعظ وذكر المسألة بعينها حتى قال فلا يزور قبر النبي
صلى الله عليه وسلم، فقام إليه الناس وأرادوا قتله فحماه منهم والي نابلس، وكتب
أهل القدس وأهل نابلس إلى دمشق يعرفون صورة ما وقع منه فطلبه القاضي المالكي
فتردد وصعد إلى الصالحية إلى القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي وأسلم على
يديه فقبل تويته وحكيم بإسلامه وحقن دمه ولم يعزره لأجل ابن تيمية.. ثم أحضر
ابن قيم الجوزية وادعى عليه بما قاله في القدس الشريف وفي نابلس فأنكر، فقامت
عليه البينة بما قاله فأدب وحمل على جمل ثم أعيد في السجن ثم أحضر إلى مجلس
شمس الدين المالكي وأرادوا ضرب عنقه فما كان جوابه إلا أن قال إن القاضي
الحنبلي حكم بحقن دمي وبإسلامي وقبول توبتي، فأعيد إلى الحبس إلى أن أحضر
الحنبلي فأخبر بما قاله فأحضر وعزر وضرب بالدرة وأركب حمارا وطيف به في البلد
والصالحية وردوه إلى الحبس - وجرسوا ابن القيم وابن كثير وطيف بهما في البلد
وعلى باب الجوزية لفتواهم في مسألة الطلاق ا ه‍.

(1) 0 الإسهاب = الإطناب، وهو عكس الإيجاز
9

قال ابن رجب: قد امتحن وأوذى مرات وحبس مع الشيخ تقي الدين في المدة
الأخيرة بالقلعة منفردا ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ ا ه‍.
وقد سقت هنا نماذج من كلمات أصحابه وأضداده والمتحايدين في حقه في
هذا الكتاب، وأرجو أن الحق لا يتعدى ما دللت عليه في حقه فيما كتبناه.
أحق الناس بالرثاء
وأحق الناس بالرثاء وأجدرهم بالترحم من أفنى عمره في سبيل العلم منصاعا
لمبتدع يرديه من غير أن يتخير أستاذا رشيدا يهديه، ومثله إذا دون أسفارا لا
يزداد بها إلا بعدا عن الله وأوزارا، وهو الذي يصبح متفانيا في شيخه الزائغ بحيث لا يسمع إلا بحيث لا يسمع إلا بسمعه ولا يبصر إلا ببصره في جميع شؤونه، ويبقى في أحط
، دركات الجهل من التقليد الأعمى، ولو فكر قليلا لكان أدرك أن من السخف بمكان
وضعه لشيخه في إحدى كفتي الميزان ليوازن به جميع العلماء والفقهاء من هذه الأمة
في كفته الأخرى فيزنهم ويغالبهم به فيغلبهم في علومهم! وهذا ما لا يصدر من
حاظ بعقله، ولا سيما بعد التفكير في تلك المخازي من شواذه. نعم. يمكن أن يكون
عنده أو عند شيخه بعض تفوق في بعض العلوم على بعض مشايخ حارته
أو أهل خطه أو قريته أو مضرب خيام عشيرته، لكن لا يوجب هذا أن يصدق
في ظنه في حق نفسه أن جو هذه الأرض يضيق عن واسع فهومه، وعرض هذه
البحار لا يتسع لزاخر علومه.
أخطر ما يطغى من صنوف الاستغناء
ومن الآفات المردية التي تعتري الإنسان وتقذف به إلى هاوية الخسران طغيانه
حينما يرى نفسه على شئ من الاستغناء بمال أو جاه أو علم، لكن المال عرض زائل،
والجاه الدنيوي قلما يدوم على حال، وعلم الإنسان مهما اتسع فما أوتي من العلم
إلا قليلا، وتلك الخلال لو روعيت حدودها لكانت أكبر عون للمرء على إحراز مرضاة
الله سبحانه، وأما إذا اتخذها أداة طغيان فإذ ذاك تنقلب تلك النعم مجلبة لسخط
10

الله عز وجل ومقت الخلق، فيصبح ذلك الطاغي من الأخسرين أعمالا في الدارين،
وليعلم أن ضرر العلم - إذا زاغ صاحبه - دونه كل ضرر، فإن الطاغي بالمال يزول
ضرره بزوال ماله، كصاحب الجاه الذي لا يدوم جاهه، وأما صاحب العلم الذي لعب
به الشيطان وخلد كتبا فيما طغى به فهمه وطاش قلمه، فيدوم ضرره ويتضاعف
وزره ما دامت آثاره دارجة يضل بها أناس، فإذا هي أخطر تلك الآفات، ولا
يخفف عن مؤلفها العذاب إلا بإعراض الناس عن كتبه المغوية بتنبيه أهل العلم
المهتدين على ما حوته من صنوف الزيغ والضلال، فيكون في الكشف عن مواطن
الغواية من أمثال تلك الكتب تخفيف لعذاب مؤلفيها، وصون للأمة عن الوقوع
في مهاويها. وقد عنى الموفقون من علماء هذه الأمة بنقض أمثال تلك الكتب لتلك
الغاية النبيلة قديما وحديثا ومن هلك بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ردود السبكي على ابن تيمية
والكلام في رده على نونية ابن القيم
وللحافظ التقي السبكي فضل مشكور وعمل مبرور في الرد على ابن زفيل
وشيخه في شواذهما المردية، ومن جملة مؤلفاته في هذا الصدد (رده على نونية ابن
القيم) وقد نقل السيد محمد المرتضى الزبيدي في شرح الإحياء عند الكلام على
إمامي أهل السنة عن هذا الرد المسمى (السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل)
جملة نافعة من مقدمته. والتقي السبكي أوجز في رده مكتفيا بلفت النظر إلى
كلمات الناظم الخطرة في الغالب بدون أن يناقشه فيها كثيرا، باعتبار أن الاطلاع
عليها يكفي بمجرده في نبذها وتضليل قائلها، ولو كان السبكي يرى ابن القيم
يستأهل المناقشة لأوسع في الرد عليه، لأنه كان أنظر أهل عصره - كما قال
الأسنوي وغيره من المحققين - لكنه كان يعده في غاية من الغباوة فاكتفى في غالب
الأبحاث بلفت نظر عامة العلماء إلى أهوائه البشعة، والتقي السبكي من ألطف أهل
العلم لهجة وأنزههم لسانا مع من يرد عليهم. لكن حيث إن الناظم أسرف في ضلاله
وإضلاله اضطر التقي في رده عليه إلى بعض إغلاظ في حقه صونا لمن عسى أن
11

ينخدع بتلبيساته، وقوعا للعبد بالعصا، وهو معذور في ذلك بل إغلاظه ليس
بشئ في جنب ما تقول به ابن القيم في حق جمهور أهل الحق.
ودونك نونيته التي رد عليها السبكي وهي أصدق شاهد لما قلنا.
ونونية ابن القيم هذه من أبشع كتبه وأبعدها غورا في الضلال وأشنعها إغراء
للحشوية ضد أهل السنة، وأوقحها في الكذب على العلماء كما ترى إيضاح ذلك
في مقدمة (السيف الصقيل) فلا نزاحم السبكي في شرح بشاعة طريقته فيها إلا
أنا نشير هنا إلى أن ابن القيم كلما تراه يزداد تهويلا وصراخا باسم السنة في كتابه
هذا يجب أن تعلم أنه في تلك الحالة متلبس بجريمة خداع خبيث وأنه في تلك الحالة
نفسها في صدد تلبيس ودس شنيعين، وإنما تلك التهويلات منه لتخدير العقول عن
الانتباه لا يريد أن يدسه في غضون كلامه من بدعه المخزية كما يظهر من مطالعة
النونية بتبصر ويقظة.
وإنما اختار طريق النظم في ذلك ليسهل عليه أن يهيم في كل واد، ولولا أنها
طبعت مرارا وتكرارا ممن لا بغية له من طبعها غير عدد من القرش يملأ به الكرش.
قام بذلك الدين أم قعد، بدون أن يقوم أحد من العلماء المعاصرين بالرد عليها، لكان
إهمال الرد عليها أنسب، لكن لم يبق بعد تكرر طبعها مع تقاعس أهل العلم عن
ردها مساغ للإهمال، فوجب تقويض دعائمها بنشر كتاب السبكي مع تعليق كلمات
عليه في مواضع رأيناها في حاجة إلى التعليق، وقد سميت ما علقته (تكملة
الرد على نونية ابن القيم).
والله سبحانه ولي النفع وعليه توكلت وإليه أنيب،،،
محمد زاهد بن الحسن الكوثري
عفى عنهما
12

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب للمؤلف
(قال الإمام الحجة أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي رضي الله عنه)
يا عالما بشئ، قادرا على كل شئ، إرحم عبدا جاهلا بكل شئ، عاجزا
عن كل شئ، خلق ضعيفا تنتوشه الآفات من جميع الجهات ويستغرقه احتياجه على
ممر الأنفاس واللحظات، مدته في الدنيا قصيرة لو صرفها كلها في طاعة ربه، وعلم
نافع به سلامة قلبه كان موفقا يقتصر على خويصة نفسه وهذا يحتاج إلى مدد إلهي
في دنياه في صحة جسمه وكفايته وكفاية من يتعلق به في القوت وما يتعلق به ودفع
الأذى عنه، وفي دينه بسلامة قلبه من العقائد الفاسدة، وإقباله على الله تعالى
وسلامة جوارحه فن المعاصي وقيامها بما افترض الله عليها، وسلامته في قلبه
وجسمه من شياطين الإنس والجن ونفسه وهواه وفي علمه فلا يشتغل من العلوم إلا بما
ينفع وهو القرآن والسنة والفقه وأصول الفقه والنحو ويأخذها عن شيخ سالم العقيدة
ويتجنب علم الكلام والحكمة اليونانية (والاجتماع بمن هو فاسد العقيدة أو النظر في
كلامه.
وليس على العقائد أضر ضن شيئين: علم الكلام والحكمة اليونانية، وهما
في الحقيقة علم واحد، وهو العلم الإلهي لكن اليونان طلبوه بمجرد عقولهم،
والمتكلمون طلبوه بالعقل والنقل معا وافترقوا ثلاث فرق إحداها غلب
عليها جانب العقل وهم المعتزلة (1) والثانية غلب عليها جانب النقل وهم

قول أبي الحسن الطرائفي في المعتزلة:
(1) وعنهم يقول أبو الحسين محمد بن أحمد الطرائفي الشافعي المتوفى سنة 377 ه‍
في كتاب الرد على أهل الأهواء والبدع: (وهم أرباب أنواع الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم، والمفرقون بين علم
السمع وعلم العقل والمنصفون في مناظرة الخصوم، وهم عشرون فرقة يجتمعون
على أصل واحد لا يفارقونه وعليه يتولون وبه يتعادون وإنما اختلفوا
في الفروع وهم سموا أنفسهم معتزلة، وذلك عندما بايع الحسن بن علي.
عليه السلام معاوية وسلم إليه الأمر اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس
وذلك أنهم كانوا من أصحاب على - ولزموا منازلهم ومساجدهم، وقالوا
نشتغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك معتزلة) ا ه‍ ثم ذكر أئمتهم من البصريين
والبغداديين وسرد بعض آرائهم في عدة أوراق. وهو من محفوظات الظاهرية
بدمشق تحت رقم 59 في التوحيد ولتقديمهم فضل الدفاع عن الدين الإسلامي والرد على الزنادقة والنصارى واليهود، لكن تحكيمهم للعقل
وكثرة احتكاكهم بفرق الزيغ أديا بكثير منهم ولا سيما المتأخرين إلى صنوف
من البدع الرديئة كما أشرت إلى ذلك في مقدمة ما كتبته على (تبيين
كذب المفترى).
13

الحشوية (1) والثالثة ما غلب عليها أحدهما بل بقي الأمران مرعيين عندها على حد
سواء وهم الأشعرية وجميع الفرق الثلاث في كلامها مخاطرة إما خطأ في بعضه

(1) ومنهم أصناف المشبهة والمجسمة، وسبب تسميتهم حشوية أن طائفة منهم
حضروا مجلس الحسن البصري بالبصرة وتكلموا بالسقط عنده فقال: ردوا
هؤلاء إلى حشا الحلقة - أي جانبها - فتسامع الناس ذلك وسموهم الحشوية
بفتح الشين، ويصح إسكانها - لقولهم بالتجسيم لا أن الجسم محشو - راجع
شفاء الغليل للشهاب الخفاجي، وذيل لب اللباب في تحرير الأنساب للشيخ
المحدث أبي العباس أحمد العجمي، ومقدمة ما كتبنا، على تبيين كذب
المفتري. والحشوية هم الذين حادوا عن التنزيه وتقولوا في الله بأفهامهم
المعوجة وأوهامهم الممجوجة، وهم مهما تظاهروا باتباع السلف إنما يتابعون
السلف الطالح دون السلف الصالح ولا سبيل إلى استنكار ما كان عليه السلف
الصالح من إجراء ما ورد في الكتاب والسنة المشهورة في صفات الله
سبحانه على اللسان، مع القول بتنزيه الله سبحانه تنزيها عاما بموجب قوله
تعالى (ليس كمثله شئ) بدون خوض في المعنى ولا زيادة على الوارد ولا
إبدال ما ورد بما لم يرد. وفي ذلك تأويل إجمالي بصرف الوارد في ذات الله
سبحانه عن سمات الحدوث من غير تعيين المراد وهم لم يخالفوا في أصل
التنزيه الخلف الذين يعينون معنى مرافقا للتنزيه بما يرشدهم إليه
استعمالات العرب وأدلة المقام وقرائن الحال على أن الخلف يفوضون علم ما
لم يظهر لهم وجهه كوضح الصبح إلى الله سبحانه.
فالخلاف بين الفريقين هين يسير وكلاهما منزه، وإنما السبيل على الذين
يحملون تلك الألفاظ على المعاني المتعارفة بينهم عند إطلاقها على الخلق
ويستبدلون بها ألفاظا يظنونها مرادفة لها ويستدلون بالمفاريد والمناكير
والشواذ والموضوعات من الروايات. ويزيدون في الكتاب والسنة أشياء من
عند أنفسهم ويجعلون - الفعل الوارد صفة إلى نحو ذلك فهؤلاء يلزمون
مقتضى كلامهم وهم الحشوية. فمن قال إنه استقر بذاته على العرش وينزل
بذاته من العرش، ويقعد الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش معه في
جنيه وإن كلامه القائم بذاته صوت وإن نزوله بالحركة والنقلة وبالذات وإن له
ثقلا يثقل على حملة العرش، وأنه متمكن بالسماء أو العرش، وأن له
جهة وحدا وغاية ومكانا. وأن الحوادث تقوم به وأنه يماس العرش أو أحدا من خلقه
ونحو ذلك من المخازي فلا نشك في زيغه وخروجه وبعده عما يجوز في الله
سبحانه. وهذا مكشوف جدا فلا يمكن ستر مثل تلك المخازي بدعوى
السلفية، والذين يدينون بها هم الذين نستنكر عقائدهم ونستسخف
أحلامهم، ونذكرهم بأنهم نوابت حشوية.
14

وإما سقوط هيبة، والسالم من ذلك كله ما كان عليه الصحابة والتابعون وعموم الناس
الباقون على الفطرة السليمة. ولهذا كان الشافعي رضي الله عنه ينهي عن الاشتغال
بعلم الكلام ويأمر بالاشتغال بالفقه فهو طريق السلامة، ولو بقي الناس على ما كانوا
عليه في زمن الصحابة كان الأولى للعلماء تجنب النظر في علم الكلام جملة، لكن
حدثت بدع أوجبت للعلماء النظر فيه لمقاومة المبتدعين ودفع شبههم حذرا من أن
تزيغ بها قلوب المهتدين.
الأشعرية أعدل الفرق
والفرقة الأشعرية هم المتوسطون في ذلك وهم الغالبون من الشافعية
والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة وسائر الناس.
15

وأما المعتزلة فكانت لهم دولة في أوائل المائة الثالثة ساعدهم بعض الخلفاء
ثم انخذلوا وكفى الله شرهم.
وهاتان الطائفتان الأشعرية والمعتزلة هما المتقاومتان وهما فحولة المتكلمين
من أول الإسلام، والأشعرية أعدلهما لأنها بنت أصولها على الكتاب والسنة والعقل
الصحيح.
وأما الحكمة اليونانية فالناس مكفيون شرها، لأن أهل الإسلام كلهم
يعرفون فسادها ومجانبتها للإسلام.
وأما الحشوية فهي طائفة رذيلة جهال (1) ينتسبون إلى أحمد وأحمد مبرأ
منهم. وسبب نسبتهم إليه أنه قام في دفع المعتزلة وثبت في المحنة رضي الله عنه،
نقلت عنه كليمات ما فهمها هؤلاء الجهال فاعتقدوا هذا الاعتقاد السيئ وصار
المتأخر منهم يتبع المتقدم، إلا من عصمه الله وما زالوا من حين نبغوا مستذلين
ليس لهم رأس ولا من يناظر وإنما كانت لهم في كل وقت ثورات ويتعلقون ببعض
أتباع الدول ويكفي الله شرهم، وما تعلقوا بأحد إلا كانت عاقبته إلى سوء
وأفسدوا اعتقاد جماعة شذوذ من الشافعية (2) وغيرهم ولا سيما بعض المحدثين

(1) وهم طوائف كالكرامية والبربهارية والسالمية ولابن الجوزي كتاب (منهاج
الوصول إلى علم الأصول) وكتاب (دفع شبه التشبيه بكف التنزيه) أجاد الرد
عليهم فيهما، وسبق أن نشر الثاني، ومن جملة ما يقوله ابن الجوزي فيه:
فقد فضحوا ذاك الإمام بجهلهم * ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا
وهو بديع في بابه حجة على من سايرهم من الحنابلة.
(2) على طول القرون لكن كفى شرهم نظار أهل الحق من الشافعية ولسنا في صدد
سرد أسمائهم هنا ونشير عرضا إلى بعضهم فيما نعلق على هذا الكتاب.
16

الذين نقصت عقولهم أو غلب عليها من أضلهم فاعتقدوا أنهم يقولون بالحديث.
ولقد كان أفضل المحدثين في زمانه بدمشق ابن عساكر (1) يمتنع من تحديثهم ولا
يمكنهم أن يحضروا مجلسه وكان ذلك أيام نور الدين الشهيد وكانوا مستذلين
غاية الذلة.
ثم جاء في أواخر المائة السابعة رجل له فضل ذكاء واطلاع ولم يجد
شيخا يهديه وهو على مذهبهم وهو جسور متجرد لتقرير مذهبه ويجد أمورا
بعيدة فبجسارته يلتزمها فقال بقيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى (2) وأن الله

(1) وقد سبق أن نشر (تبيين كذب المفتري في الذب عن الأشعري) له مع
مقدمة لنا عليه في بيان الحالة العامة عند البعثة النبوية ولمعة في نشأة
الفرق وتعليقات على مواضع من الكتاب كنت كتبتها ففيها وفي الكتاب
كثير مما يتعلق بالحشوية، ولابن عساكر أيضا مجلس في إثبات التنزيه
وآخر في نفي التشبيه، وكتاب في (بيان وجوه التخليط في حديث
الأطيط) وكتاب في (سرد الأسانيد في حديث يوم المزيد) يبين فيها وجوه
الضعف في أحاديث الأطيط وروايات يوم المزبد.
(2) اتفقت فرق المسلمين سوى الكرامية وصنوف المجسمة على أن الله سبحانه منزه
من أن تقوم به الحوادث وأن تحل به الحوادث وأن يحل في شئ من الحوادث
بل ذلك مما علم من الدين بالضرورة، ودعوى أن الله لم يزل فاعلا متابعة منه
للفلاسفة القائلين بسلب الاختيار عن الله سبحانه، وبصدور العالم منه
بالإيجاب، ونسبة ذلك إلى أحمد والبخاري وغيرهما من السلف كذب صريح
وتقول قبيح، ودعوى أن تسلسل الحوادث في جانب الماضي غير محال لا
تصدر ممن يعي ما يقول فمن تصور حوادث لا أول لها تصور أنه ما من
حادث محقق، وأن ما دخل بالفعل تحت العد والإحصاء غير متناه، وأما من
قال بحوادث لا آخر لها فهو قائل بأن حوادث المستقبل لا تنتهي إلى حادث
محقق إلا وبعده حادث مقدر، فأين دعوى عدم تناهى ما دخل تحت الوجود
في جانب الماضي من دعوى عدم تناهى ما لم يدخل تحت الوجود في
المستقبل؟ على أن القول بالقدم النوعي في العالم من لازمه البين عدم
تناهى عدد الأرواح المكلفة فأنى يمكن حشر غير المتناهى من الأرواح وأشباحها
في سطح متناه محدود على هذا التقدير؟ فيكون القائل بعدم تناهى
عدد المكلفين قائلا بنفي الحشر الجسماني بل بنفي الحشر الروحاني أيضا
حيث إن هذا القائل لا يعترف بتجرد الروح فيكون أسوأ حالا من غلاة
الفلاسفة النافين للحشر الجسماني وفي شواذ ذلك الزائغ كتب خاصة ترد
عليه في بدعه الأصلية والفرعية، ولاستقصاء ذلك موضع آخر.
17

سبحانه ما زال فاعلا وأن التسلسل ليس بمحال فيما مضى كما هو فيما سيأتي وشق
العصا، وشوش عقائد المسلمين وأغرى بينهم ولم يقتصر ضرره على العقائد في علم
الكلام حتى تعدى وقال إن السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم معصية (1) وقال
إن الطلاق الثلاث لا يقع وإن من حلف بطلاق امرأته وحنث لا يقع عليه طلاق.
واتفق العلماء على حبسه الحبس الطويل فحبسه السلطان (2) ومنع من الكتابة في

(1) وضبطت فتواه بخطه بهذا المعنى وثبت ذلك ثبوتا شرعيا وشهد بذلك
الإمام جلال الدين القزويني صاحب التلخيص والإيضاح وألف قاضي قضاة
المالكية تقي الدين أبو عبد الله محمد الأخنائي في الرد عليه (المقالة المرضية
في الرد على من ينكر الزيارة المحمدية) كما ألف في الرد عليه مؤلف شفاء
السقام في تلك المسألة بل جمع الحافظ الصلاح العلائي طرق حديث الزيارة في
الرد عليه أيضا بطلب ابن الفركاح ولم يستمر على مشايعته بعد ذلك إلا
مكسرو الحشوية تحت الخفاء، وكم استتيب وأخذ خطه بالتوبة ثم نقض
مواثيقه. راجع (نجم المهتدي) و (دفع الشبه) و (الدرر الكامنة).
(2) الملك الناصر محمد بن قلاوون ولم يكن له عداء شخصي نحو ابن تيمية
أصلا كما اعترف بذلك أشياع ابن تيمية لكن لما رأى توالي فتنه واتفق
علماء المذاهب ضده ومعهم قاضي قضاة الحنابلة لم يسعه إلا أن يصدر مرسوما
لأهل دمشق ومرسوما لسائر البلدان أسوة بما أصدره بمصر ضد هذا الزائغ.
ونصوص تلك المراسيم مدونة في (نجم المهتدي) و (عيون التواريخ)
و (دفع الشبه) بألفاظ متقاربة في المعنى وفي الاطلاع عليها عبرة بالغة. وقد
تليت تلك المراسيم على المنابر نصحا للأمة وإفهاما لها أن ذلك الرجل مجسم
زائغ اعتقادا وعملا فلا يجوز الاغترار به.
18

الحبس وأن يدخل إليه أحد بدواة ومات في الحبس. ثم حدث من أصحابه من
يشيع عقائده ويعلم مسائله ويلقي ذلك إلى الناس سرا ويكتمه (1) جهرا
فعم الضرر بذلك حتى وقفت في هذا الزمان على قصيدة نحو ستة آلاف
بيت يذكر ناظمها فيها عقائده وعقائد غيره ويزعم بجهله أن عقائده عقائد
أهل الحديث (2). فوجدت هذه القصيدة تصنيفا في علم الكلام الذي نهى
العلماء عن النظر فيه لو كان حقا، فكيف وهي تقرير للعقائد الباطلة

(1) ويظهر من ذلك أن نونية ابن القيم لم تكن تذاع في ذلك العهد إلا سرا وكفى
هذا سعيا بالفساد ولا يحسبن القارئ أن ابن القيم ربما يكون تاب وأناب عن
هذه العقيدة الزائغة التي احتوتها تلك القصيدة فإنه يرى في ترجمته من
طبقات الحنابلة لابن رجب أن ابن رجب سمعها من لفظ ابن القيم عام وفاته
وهذا من الدليل على أنه استمر على هذا المعتقد الباطل إلى أواخر عمره.
وعدد أبياتها ستة آلاف بيت إلا واحدا وخمسين بيتا.
(2) وبين أهل الحديث من القدرية والخوارج وصنوف الشيعة والمجسمة من كرامية
وبربهارية وسالمية رجال لا يحصيهم العد كما لا يخفى على من له إلمام
بعلم الرجال فليس لهم عقيدة جامعة فيكون عزو عقيدة إلى جماعة
الحديث مخادعة وتمويها على العقول، فإن كان يريد تخصيص هذا الاسم
بصنوف المجسمة فهذه التسمية إنما تكون تسمية ما أنزل الله بها من
سلطان، وإنما التعويل على أهل الحديث في روايتهم الحديث فقط فيما لا
يتهمون به، وأما علم أصول الدين فله أئمة معروفون وبراهين مدونة في
كتبهم، وأهل الحديث المبرؤون من البدع يسيرون سيرهم.
19

وبوح بها وزيادة على ذلك وهي حمل العوام على تكفير كل من سواه وسوى طائفته
فهذه ثلاثة أمور هي مجامع ما تضمنته هذه القصيدة.
فالأول من الثلاثة حرام لأن النهي عن علم الكلام إن كان نهي تنزيه فيما
تدعو الحاجة إلى الرد على المبتدعة فيه فهو نهي تحريم فيما لا تدعو الحاجة
إليه فكيف فيما هو باطل.
والثاني من الثلاثة: العلماء مختلفون في التكفير به إذا لم ينته إلى هذا
الحد أما مع هذه المبالغة ففي بقاء الخلاف فيه نظر.
وأما الثالث فنحن نعلم بالقطع أن هؤلاء الطوائف الثلاثة الشافعية
والمالكية والحنفية وموافقيهم من الحنابلة مسلمون ليسوا بكافرين، فالقول بأن
جميعهم كفار وحمل الناس على ذلك كيف لا يكون كفرا وقد قال صلى الله
عليه وسلم: (إذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما). فالضرورة
أوجبت العلم بأن بعض من كفرهم مسلم والحديث اقتضى أن يبوء بها أحدهما
فيكون القائل هو الذي باء بها.
مجامع الزيغ في نونية ابن القيم
وها أنا أذكر مجامع ما تضمنته القصيدة ملخصا من غير نظم وناظمها (1)

(1) وهو ابن زفيل الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية كان بمتناول يده من كتب
الفرق التي كانت دمشق امتلأت بها بعد نكبة بغداد ونكبة البلاد الشرقية
باستيلاء المغول عليها ما يزداد به غواية إلى غوايته وقد حشر في مؤلفاته
ما لم يفهمه ولم يهضمه من أقوال أرباب النحل شأن من خاض في
المسائل النظرية الخطرة من غير أستاذ رشيد فحصل في تفكيره ما يحصل
في معدة الشره المتخوم فأصبحت مؤلفاته محشر الأقوال المتناقضة ولم
ينخدع بها إلا من ظن أن العلم هو حشد المصطلحات من غير نظام يربط
بعضها ببعض وبدون تمحيص الحق من الباطل.
20

أقل من أن أذكر كلامه لكني تأسيت في ذلك بإمام الحرمين في كتابه المسمى
بنقض كتاب السجزي، والسجزي هذا كان محدثا له كتاب مترجم بمختصر البيان
وجده إمام الحرمين حين جاور بمكة شرفها الله، اشتمل كتاب السجزي هذا على
أمور منها أن القرآن حروف وأصوات. قال إمام الحرمين: وأبدى من غمرات
جهله فصولا وسوى على قصبة سخافة عقله نصولا، ومخايل الحمق في تضاعيفها
مصقولة وبعثات الحقائق دونها معقولة. وقال إمام الحرمين أيضا: وهذا الجاهل
الغر المتمادي في الجهل المصر، يتطلع إلى الرتب الرفيعة بالدأب في المطاعن في
الأئمة والوقيعة. وقال إمام الحرمين أيضا: صدر هذا الأحمق الباب بالمعهود من
شتمه فأف له ولخرقه فقد والله سئمت البحث عن عواره وإبداء شناره. وقال
الإمام أيضا: وقد كسا هذا التيس الأئمة صفاته. وقال الإمام أيضا: أبدى هذا
الأحمق كلاما ينقض آخره أوله في الصفات وما ينبغي لمثله أن يتكلم في صفات
الله تعالى على جهله وسخافة عقله. وقال الإمام أيضا قد ذكر هذا اللعين
الطريد المهين الشريد، فصولا وزعم أن الأشعرية يكفرون بها فعليه لعائن الله
تترى، واحدة بعد أخرى، وما رأيت جاهلا أجسر على التكفير وأسرع إلى
التحكم على الأئمة من هذا الأخرق، وتكلم السجزي في النزول والانتقال والزوال
والانفصال والذهاب والمجئ فقال الإمام ومن قال بذلك حل دمه وتبرم الإمام كثيرا
من كلامه معه (1).
تأسى السبكي بإمام الحرمين
في الرد على بعض جهلة أهل الحديث
وها أنا أيضا أقتدي بالإمام في كلامي مع هذا الجاهل متبرما لكن خشية على
عقائد العوام تكلمت.

(1) وعن هذا السجزي يقول أبو جعفر اللبلي الأندلسي في فهرسته: وكذلك
اللعين المعروف بالسجزي فإنه تصدى أيضا للوقوع في أعيان الأئمة وسرج
الأمة بتأليف تالف وهو على قلة مقداره وكثرة عواره ينسب أئمة الحقائق
وأحبار الأمة وبحور العلوم إلى التلبيس والمراوغة والتدليس وهذا الرذل
الخسيس أحقر من أن يكترث به ذما ولا يضر البحر الخضم ولغة كلب.
ما يضر البحر أمسى زاخرا * أن رمى فيه غلام بحجر
فمما ذكر هذا المنافق الحائد بجهله عن الحقائق أن من مذهب الأشعرية أن
النبوة عرض من الأعراض والعرض لا يبقى زمانين وإذا مات النبي زالت
نبوته وانقطعت دعوته، وهذه من جملة حكاياته وتقولاته المستبعدة ا ه‍
وسيأتي الرد على هذا الهذيان. وقد وفاه اللبلي الكيل صاعا بصاع.
21

والسجزي الذي رد عليه الإمام أعرف ترجمته محدث (1) لا يصل ناظم هذه
القصيدة إلى عشره في الحديث ولكن الإنسان يضطر إلى الكلام مع الجهال
والمبتدعين صيانة لعقائد المسلمين وليت كلامي كان مع عالم أو مع زاهد أو متحفظ
في دينه صين في عرضه قاصد للحق ولكنها بلوى نسأل الله حسن عاقبتها وبعد أن
كنت قصدت الاقتصار على اختصار مجامعها عن لي هنا أن أستوعب كلماتها
لأطفئ جمراتها

(1) ومن الغريب أن السجزيين مهما علت منزلتهم في الرواية يقل بينهم جذا من
يكون طاهر الذيل ناصع الجبين من فحش التشبيه ووصمة التجسيم كما لا
يخفى على من بحث مؤلفاتهم بتبصر وأرى ذلك من عدوي مرض شيخ
المجسمة أبي عبد الله محمد بن كرام السجزي الذي بتقشفه كان سحر الباب
أهل سجستان وتأريخه في غاية من الشهرة. وهذا السجزي هو أبو نصر
الوائلي. مؤلف الإبانة المتوفى سنة 444 وصاحبه السعد الزنجاني بمكة
مثله في التشبيه مع أنهما ينتحلان مذهب الشافعي، ومن هذا الطراز
الآجري صاحب كتاب الشريعة قبلهما ويرثى لحال من يميل إلى التشبيه مع
جلالة مقداره في الحديث ونحن لا نعول على الرجل إلا في العلم الذي
يتقنه دون سائر العلوم فكم بين أهل الحديث من هو أنزل منزلة من العامي
في علم أصول الدين والفقه وكذلك سائر العلماء في غير علومهم.
22

فصل
مناظرة خيالية بين المشبه والمنزه... إلخ
قال: (جمع مجلس المذاكرة بين مثبت للصفات. والعلو ومعطل) إلى أن
قال: (من كلام المثبت أن كهيعص وحمعسق وق ون كلام الله حقيقة وأن الله
تكلم بالقرآن العربي الذي سمعه الصحابة).
مراده بذلك أن كلام الله حرف وصوت وهذا الجاهل لا يفرق بين كلام الله
واللفظ الدال عليه (1).
ثم قال: (ومن قال ليس لله في الأرض كلام فقد جحد رسالة محمد صلى

(1) بل بين الكلام اللفظي والكلام النفسي وفي أوائل تفسير (روح المعاني)
بسط لطيف في الكلام النفسي بحيث لا يدع شكا لمرتاب. وبعد أن
انتهى الآلوسي فيه من الكلام في الكلام النفسي قال: ومن أحاط بذلك
اندفع عنه كل إشكال في هذا الباب ورأى أن تشنيع ابن تيمية وابن القيم
وابن قدامة (الموفق) وابن قاضي الجبل والطوفي (سليمان بن عبد القوي)
وأبي نصر (السجزي) وأمثالهم صرير باب أو طنين ذباب... وقد انحرفت
أفكارهم واختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمة وأكابر الأئمة وبالغوا
في التعنيف والتشنيع وتجاوزوا في التسخيف والتفظيع ولولا الخروج عن
الصدد لوفيتهم الكيل صاعا بصاع ولتقدمت إليهم بما قدموا باعا بباع
ولعلمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء ولعرفتهم إلام ينتهي المراء بلا
مراء:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم
ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن رام تقديمي فإني مقوم
ومن رام تعويجي فإني معوج
على أن العفو أقرب للتقوى والإغضاء مبنى الفترة وعليه الفتوى والسادة
الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراما وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا
سلاما ا ه‍.
23

الله عليه وسلم) هذا الكلام يحتمل وجهين (1) لا نطول بهما، ثم قال: (إن الله
فوق سماواته). يقول له: أين قال الله أو رسوله إنه فوق سماوات؟ وأنت قلت
في صدر كلامك (نقول ما قاله ربنا) وأين قال ربنا: إنه بائن فن خلقه. ليس في
مخلوقاته شئ من ذاته ولا في ذاته شئ من مخلوقاته، فقد نسبت إلى قول الله
ما لم يقله، ومن هو المعطل الذي عنيته فإنا لا نعرف اليوم أحدا معطلا يتظاهر
بين المسلمين بل ولا معتزليا ولا فيلسوفا يتظاهر بقول الفلاسفة (2) فلعلك عنيت

(1) لعله يريد وجود الكلام النفسي ووجود الكلام اللفظي فنفي وجود الثاني في
الأرض نفي لوجود كتاب الله وشرعه في الأرض وهو كفر صراح ولا قائل
بذلك من فرق المسلمين. وأما زعم وجود الكلام النفسي القائم بالله في
الأرض فقول بالحلول كقول النصارى في الكلمة، وقد كفر غير واحد من
أئمة السنة، السالمية على قولهم بأنه تعالى يقرأ على لسان كل قارئ
، تعالى الله عما يأفكون. وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك بنوع من البسط فيما
علقناه على التبيين وفي (لفت اللحظ إلى ما في الاختلاف في اللفظ).
(2) هذا بالنظر إلى عهد المؤلف، فإن العلماء كانوا قائمين بواجبهم إذ ذاك
يوقفون المبتدعة الذين يحاولون الاعتداء على حريم قدس الدين عند حدهم
وما ألف في الرد على هذا الزائغ وشيخه من الكتب في ذلك العصر يعد
بالعشرات فضلا عن باقي أهل الضلالة. وأما اليوم فقلما تجد بين العلماء
من يسهر على السنة النقية البيضاء والدين الحنيف فاتسع المجال لتمويه
الضلال. وأدعو الله سبحانه أن يوقظ أهل الشأن من سباتهم العميق
ويرشدهم إلى حراسة الشرع من اعتداء المعتدين.
24

الأشعرية فإنهم القائمون اليوم من أكثر المذاهب ثم قال: (1) (فلما سمع المعطل
منه ذلك أمسك ثم أسرها في نفسه وخلا بشياطينه وبني جنسه وأوحى بعضهم إلى
بعض أصناف المكر والاحتيال وراموا أمرا يستحمدون به إلى نظرائهم من أهل البدع
والضلال وعقدوا مجلسا بيتوا فيه ما لا يرضاه الله من القول وراموا استدعاء
المثبت ليجعلوا نزله ما لفقوه من الكذب وتمموه فلم يتجاسروا وخذلهم المطاع فمزق
ما كتبوه من المحاضر، فسعى في عقد مجلس عند السلطان فلم يذعنوا فطالبهم
بإحدى ثلاث: مناظرة فأبوا، فدعاهم إلى مكاتبة فأبوا، فدعاهم إلى
المباهلة (2) بين الركن والمقام فلم يجيبوا فحينئذ عقد المثبت لله مجلسا بينه وبين
خصمه وما كان أهل التعطيل أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون)،
هذا كله مقصوده به والله أعلم طوائف الأشعرية الشافعية والمالكية
والحنفية الذين كانوا مقاومين لابن تيمية فهم الذين يسميهم المعطلة، وكان
مراده بالمثبت ابن تيمية والعاقد للمجلس فيما بينه وبين خصمه إما ابن تيمية
وإما هذا النحس المتشبع. بما لم يعط.

(1) مما اختص به ناظم القصيدة من بين دعاة الحشوية تصوير مناظرات في
مسائل يدس في غضون كلام الطرفين ما يشاء من وسائل استدراج الضعفاء
إلى ضلاله وهذه طريقة الأقدمين من أعداء الدين بعثها من مرقدها هذا
الناظم ليصل إلى إضلالهم بطريقة روائية خيالية فمن مشى على
الاستسلام له فيما يراه من مناظراته الخيالية في هذا الكتاب وفي شفاء
العليل وأعلام الموقعين ونحوها فإنه معرض للانحلال وسنكشف الستار
عن وجوه تضليله وتدجيله بحول الله وتوفيقه.
(2) راجع الآية 61 من سورة آل عمران.
25

فصل
أمثال مضروبة (للمعطل والمشبه والموحد
قال: (وهذه أمثال حسان مضروبة للمعطل والمشبه والموحد)
مقصودة بالمعطل الجماعة الأشعرية، وبالموحد نفسه وطائفته، والمشبه لا
وجود له عنده. ومقصود غرمائه بالمشبه هو وطائفته وبالموحد أنفسهم، والمعطل
لا وجود له الآن عندهم، لأن المعطل هو المنكر للصانع، والمشبه هو الذي شبهه بخلقه
وهذا علي ظاهره لا يوجد من يقول به لكن بما يلزم عنه، ولا شك أن لزوم التشبيه
له أظهر من لزوم التعطيل لغرمائه، وإذا امتحن الإنسان نفسه قطع بأن الأشعري
ليس بمعطل وأن هذا النحس مشبه ولا ينجيه إنكاره باللسان وقد اعترف على نفسه
بأن من شبه الله بخلقه فقد كفر. واندفع في ضرب الأمثلة بما لا نطول به.
فصل
في قصيدته النونية
قال في قصيدته التي أهدت الجرئ إليه وفرقت سهام النبال عليه:
(إن كنت كاذبة الذي حدثتني * فعليك إثم الكاذب الفتان
جهم بن (1) صفوان وشيعته الألى * جحدوا صفات الخالق الديان
بل عطلوا منه السماوات العلى * والعرش أخلوه من الرحمن)
أما جهم فمضى من سنين كثيرة ولا يعرف اليوم أحد على مذهبه فعلم أن
مراد هذا الناظم بالجهمية الأشعرية من الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء

(1) جهم بن صفوان زائغ باتفاق بين أهل السنة والمعتزلة، يقول بنفي الخلود في
الجنة وفي النار، وتابعه ناظم القصيدة في شطر هذا المعتقد حيث يقول لا
خلود للكفار في النار تبعا لشيخه وهو كفر عند جمهور أهل الحق. وكان
جهم منبوذا لم يبق بعد قتله من تابعه أصلا ومن يقال فيه من المتكلمين إنه
جهمي من قبيل النبز بالألقاب، وقد توسعت في بيان ذلك بعض توسع فيما
علقته على الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة وليس بين المعتزلة فضلا عن
الأشاعرة من ينفي أن الله سبحانه عالم قدير سميع بصير... إلى آخر تلك
الصفات الواردة في الكتاب والسنة المشهورة حتى يصح رميهم بجحد
الصفات وجل الإله سبحانه من أن يكون له مكان يحويه فلا يقال إن السماء
طرف له ولا إن العرش مستقر ذاته فابن في كتاب الله مثل ذلك أو تفسير
الاستواء بالاستقرار إنما هو قول مقاتل بن سليمان شيخ المجسمة وقول
الكلبي الزائغ.
26

الحنابلة فليعلم اصطلاحه وكل ما ينسبه إلى الجهمية فمراده بها هؤلاء، والمعتزلة
يشاركون الأشعرية في ذلك لكن ما منهم أحد موجود في هذه البلاد وإن كان
موجودا فلا ظهور له، فكل ما قال هذا الناظم عن جهم في هذه القصيدة فمراده،
الذي مذهبه مذهب الأشعري.
فصل
تخبل الناظم في أفعال العباد.. إلخ
قال:
والعبد عندهم فليس بفاعل بل فعله كتحرك الرجفان
كذب هذا الجاهل في قوله: إن العبد عندهم ليس بفاعل. ولكن مراده بذلك
قولهم: إنه لا يخلق فعله. وليس بخالق والله سبحانه هو خالق أفعال العباد،
فاعتقد هذا الجاهل (1) بسبب ذلك أنهم يقولون إنه ليس بفاعل. وكون العبد ليس

(1) أقل ما يقال في هذا الناظم أنه جاهل، فإذا طالعت ما ذكره في شفاء العليل
عن كسب العبد تجده ينقل عن نظامية إمام الحرمين قوله في أفعال العباد
فيسايره إلى أبعد حد ثم يتراجع فيقع في أحط دركات الجبر ثم يقع في
المعتزلة وقيعة لا مزيد عليها ثم تجده يسبقهم في التجرؤ. والحاصل أنه
جماع لآراء الناس من غير أن يعقلها على وجوهها فيتخبط تخبط من به
مس، وهو يصور مناظرات خيالية بين سني وجبري وأخرى بين سني وقدري،
في شفاء العليل يدس في خلالها أمورا ينقض بعضها بعضا وذلك كله من
سوء فهمه وضغطه لذهنه بشتى الأنظار التي هو غير مستأهل لتحقيقها
وتمحيص الحق من بينها فتتشوه الحقائق في ذهنه وتكتسي أسمج الصور كما
هو شأن ما ينعكس في المرايا المحدبة والمقعرة وشأن من اختلت بصيرته،
نسأل الله العافية.
27

بخالق حق، وكونه ليس يقابل باطل، والفاعل من قام به الفعل والفعل قائم
بذات العبد، والخالق من أوجد الفعل ولا يوجده إلا الله. وقوله: كتحرك الرجفان
جهل منه فإنه لم يفرق بين الجبر ومذهب الأشعري ثم قال:
والله يصليه على ما ليس * من أفعاله حر الحميم الآن
استمر هذا الجاهل على جهله وكذبه. وكذلك قوله: (لكن يعاقبه على أفعاله) ثم
قال: (والظلم عندهم الحال لذاته) نعم إن الله لا يظلم مثقال ذرة (وما ربك
بظلام للعبيد) (1) وكيف يتصور الظلم والكل ملكه ثم قال: (أنى ينزه عنه ويكون
مدحا ذلك التنزيه (قلنا يا جاهل اجترأت على الله وعلى عباده فلم تفرق بين الفعل
والخلق وظننت بجهلك أنهما سواء وأنه لا يعاقب على فعله (وقلت: (ما هذا
بمعقول لذي الأذهان) وأي ذهن لك حتى تعقل به وأنت عن تعقل أحكام الربوبية
بمعزل؟ وهل مثلك ومثل من هو أكبر منك إلا كمثل الخفاش بالنسبة إلى
ضوء النهار؟
فصل
قال:
وكذلك قالوا ما له من حكمة (2) * هي غاية للأمر والإتقان

(1) الآية 46 من سورة فصلت.
و (2) ولا قائل بذلك مطلقا بين فرق المسلمين، الذين علموا من الدين بالضرورة أن
الله عزير حكيم، وأما كون أفعال الله سبحانه غير معللة بالأغراض فليس
من نفي الحكمة في شئ بل من قبيل التهيب والاحتراز من القول بأن هناك
غرضا يحمل الله سبحانه على الفعل استحصالا لذلك الغرض الذي لا يحصل
إلا بذلك الفعل. ولا يخفى أن هذا مما يجب الاحتراز منه لعدم ورود إطلاق
مثل ذلك في الكتاب والسنة ولما في ذلك من الاستكمال بالغير. وأما قول
محققي أهل الفقه بوجود حكم، مصالح فيها ترجع إلى العباد سواء عقلناها
أو لم نعقلها فليس فيه ما يوجب التهيب بل هو محض الصواب هذا عند
القائلين بأن الله فاعل بالاختيار كما هو الحق وأما الذين يعدونه فاعلا
بالإيجاب كالفلاسفة فلا يتصورون هناك لا غرضا ولا حكمة وليس المراد هنا
بالوجوب الضروري بشرط الحمول. ومن الغريب أن ابن القيم قائل بالإيجاب
حتى تراه يدافع عن أن الحوادث لا أول لها ومع ذلك يرى أنها معللة
بالأغراض وما هذا إلا تهاتر.
28

أنظر هذه الجرأة والكذب والبهت على العلماء وما قال إنهم نسبوه إلى الله
ثم قال:
(ما ثم غير مشيئة قد رجحت * مثلا على مثل بلا رجحان)
أبصر هذا الفدم البليد الفهم ساء سمعا فساء إجابة كأنه سمع كلام الأشعرية
فما فهمه وظن أنهم يقولون إن الأفعال كلها سواء بالنسبة إلى كل شئ وإن
المشيئة رجحت بعضها على بعض مع تساويها وإنه ما ثم غبر المشيئة وجعل
المشيئة هي المرجحة ولم يذكر القدرة والتبس عليه الرجحان الحاصل في الفعل
بالرجحان الذي هو موجب للفعل أو باعث عليه، ومن لا يكون اشتغل بشئ من
العلوم كيف يتكلم في هذه الحقائق؟ ثم قال:
(هذا وما تلك المشيئة وصفه * بل ذاته أو فعله قولان)
ليتني ما شرعت في الكلام مع هذا... ينبغي أن يطالب بالقولين على هذه
الصورة وبالقول بأنه ما تلك المشيئة وصفه وإنما سمع كلاما إما من كلامهم وإما من
شيخه فما فهمه هو أو ما فهمه شيخه وعبر عنه بهذه العبارة الرديئة، وإن أراد بهذا
البيت المعتزلة فقد خلط كلام المعتزلة بكلام الأشعرية.
ثم قال: * وكلامه مذ كان غيرا كان مخلوقا له *
هذا بالنسبة إلى المعتزلة ثم قال:
(قالوا وإقرار العباد بأنه * خلاقهم هو منتهى الإيمان)
لم يقولوا كذلك، أما أولا فلأنه لا بد من الشهادتين، وأما ثانيا فمنتهي
29

الإيمان يشعر بالإيمان الكامل ولم يقل بهذا أحد، وأما ثالثا فقوله (فالناس
في الإيمان شئ واحد) ليس مما بحسن (1) وأما رابعا فكما ذكره عن أبي جهل
وغيره (2) أنه لم يكن فيهم منكر للخالق، يكفي في الرد عليه أن كل من سمعه
يتخذه ضحكة.

(1) لأنه إن أراد أن الناس متساوون في الإيمان فهذا باطل لأن من الناس من هو
مؤمن ومن هو كافر وإن أراد أن المؤمنين متساوون في الإيمان فلا يصح ذلك
أيضا فإن منهم من هو كامل الإيمان باستكمال العمل ومنهم من هو غير
كامل الإيمان بإخلاله بالعمل وإن كانوا متساوين في المؤمن به وفي الجزم
المنافي لتجويز النقيض، على أن طريق حصول هذا الجزم مختلف في المؤمنين
فيتفاوت إيمانهم باعتبار عدم قبوله الزوال أصلا أو قبوله الزوال ببطء أو
بسرعة، فالعامي الجازم معرض لزوال الإيمان بأدنى تشكيك والعالم الجازم
بالبراهين يمكن زوال إيمانه بطروء شبهة، وإيمان الأنبياء لا يحتمل الزوال أصلا
لأن طريق حصوله الوحي والمشاهدة.
(2) من عبدة الأوثان واليهود والنصارى وفرعون وقارون وهامان ونحوهم. ولو
تذكر ابن القيم قول يوسف عليه السلام (كما حكى القرآن الكريم) (أأرباب
متفرقون خير أم الله الواحد القهار) وقول إبراهيم عليه السلام (كما حكى
القرآن الكريم) (أإفكا آلهة دون الله تريدون) وقول الكفار حينما دعاهم
الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كلمة التوحيد (كما حكى القرآن الكريم)
(أجعل الآلهة إلها واحدا) وقولهم في التلبية (لبيك اللهم لبيك لبيك لا
شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك) لاستحيا أن يفوه بذلك
وبقوله:
هل كان فيهم منكر للخالق الرب * العظيم مكون الأكوان
فليبشروا ما فيهم من كافر * هم عند جهم كاملو الإيمان
فأين توحيد الربوبية والألوهية من توحيد الخالقية والرازقية؟ على تقدير
تسليم شمول آية توحيد الخالقية لهم بل الضمير في (ولئن سألتهم) بعيد عن
العموم. ومعتقد المؤمنين: أنه لا رب ولا إله ولا خالق ولا رازق سوى الله
عز وجل. وهذا هو إيمان المؤمنين على رغم تقول الزائغين المائلين إلى الخوارج
المستهجنين لمعتقد المؤمنين.
30

فصل
قال: (وقضى - يعني جهما - وشيعته الذين هم الأشعرية بزعمه بأن
الله كان معطلا، والفعل ممتنع بلا إمكان ثم استحال وصار مقدورا له من
غير أمر قام بالديان) مقصوده أن الله ما زال يفعل وهذا يستوجب (1) القول
بقدم العالم وهو كفر
فصل
استنكار الناظم إعادة المعدوم... إلخ
قال: (وقضى الله بأن يجعل خلقه عدما ويقلبه وجودا ويعيد ذا
المعدوم. هذا المعاد وذلك المبدأ لذي جهم وقد نسبوه للقرآن هذا الذي قاد ابن
سينا والألى قالوا مقالته إلى الكفران لم تقبل الأذهان ذا، وتوهموا أن الرسول
صلى الله عليه وسلم عناه بالإيمان، هذا كتاب الله أنى قاله أو عبده أو صحبه أو
تابع، بل صرح الوحي بأنه مغير الأكوان وتحدث الأرض وتشهد أفيشهد العدم).
أجمع المسلمون على أن الله قادر على أن يعدم الخلق ثم يعيده وعلى
أن إنكار ذلك كفر وجمهور المسلمين على أن الواقع ذلك لقوله تعالى

(1) وهذا الاستلزام بين وما يقال من أن لازم المذهب ليس بمذهب إنما هو فيما إذا
كان اللزوم غير بين، فاللازم البين لمذهب العاقل مذهب له وأما من يقول
بملزوم مع نفيه للازمه البين فلا يعد هذا اللازم مذهبا له لكن يسقطه
هذا النفي من مرتبة العقلاء إلى درك الأنعام وهذا هو التحقيق في لازم
المذهب فيدور أمر القائل بما يستلزم الكفر لزوما بينا بين أن يكون كافرا أو
حمارا.
31

(كل من عليها فان) (1) و (كل شئ هالك إلا وجهه) (2) وقيل إن الأجسام تتفرق
ثم تعاد وقوله (أفيشهد العدم) أنحن قلنا تشهد وهي عدم إنما تشهد بعد
الإعادة فانظر كلام هذا الجاهل وقوله (لم تقبل الأذهان ذا) إن كان بنكر إمكانه
(وكونه مقدورا لله) فهو كافر وإن لم ينكر إلا وقوعه فهو مذهب ضعيف. ثم
قال (هذا الذي جاء الكتاب وسنة الهادي به، ما قال إن الله يعدم خلقه طرا
كقول الجاهل الحيران) أقول قد قال تعالى (كما بدأنا أول خلق نعيده) (3)
ولو كانت الإعادة جمع الأجزاء بعد تفريقها أو الإتيان بغيرها لم تنطبق على
الآية فإن الآية تقتضي أن جميع ما بدأ به الخلق يعيده وإنما يكون كذلك إذ
أعدمه ثم أعاده بعينه، والله قادر على ذلك وقال تعالى (وهو أهون عليه) (4)
وإنما كان أهون بالنسبة إلى الشاهد لأن الإعادة في الشاهد فعل على مثال وهو
أهون من الابتداء لأنه فعل على غير مثال مع اشتراكهما في الإخراج من العدم
إلى الوجود. وعند هذا المتخلف ما أخرج المعاد من العدم إلى الوجود بل من صفة
إلى صفة يتعالى الله عن قوله فهذا القول منه بما دل عليه من أن الإبراز من
العدم إلى الوجود في الإعادة غير مقدور، كفر إلا إذا تأول على الوقوع مع الموافقة
على الإمكان وليس طاهر الكلام ففي قبول قوله إذا ادعاه نظر لأن هذا يتكرر
وتكرير هذه الأمور يشبه الزندقة.
فصل
زعم الناظم قيام الله بالحوادث
قال: (وقضى بأن الله ليس بفاعل فعلا يقوم (5) به بلا برهان مقصود)

(1) الآية: 26 من سورة الرحمن. (2) الآية: 88 من سورة القصص.
(3) الآية: 104 من سورة الأنبياء. (4) الآية: 27 من سورة الروم.
(5) قال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر البغدادي في كتاب (الأسماء والصفات):
إن الأشعري وأكثر المتكلمين قالوا بتكفير كل مبتدع كانت بدعته كفرا أو
أدت إلى كفر، كمن زعم أن لمعبوده صورة أو أن له حدا ونهاية أو أنه يجوز
عليه الحركة والسكون... ولا إشكال لذي لب في تكفير الكرامية
مجسمة خراسان في قولهم إنه تعالى جسم له حد ونهاية من تحته وأنه
مماس لعرشه وأنه محل الحوادث وأنه يحدث فيه قوله وإرادته ا ه‍ (راجع
الفتاوى الحلبيات في أجوبة المؤلف عن 64 مسألة سأله عنها الشهاب
الأذرعي) وكثيرا ما ترى الناظم يلهج بقيام الأفعال الحادثة بالله
تعالى وينطق بلوازم الجسمية والتشبيه بكل صراحة وفي مثله قال
القائل:
كم تزرع التشبيه في * سنخ القلوب فما انزرع
فاهجر دمشق وأهلها * واسكن ببصرى أو زرع
فهناك يمكن أن يصدق * ما تقول ويستمع
وحق أمصار المسلمين أن لا تروج فيها أمثال تلك الأباطيل، وإن ترج
فإنما تروج في مثل بصرى بلد ابن زكنون أو زرع بلد الناظم أو تلك القفار
التي لا يشع فيها نور غبر نور الشمس.
32

الناظم أن الله يفعل فعلا في ذاته فيكون محلا للحوادث، تعالى الله عن قوله،
فنسب إلى جهم خلاف قوله وأنه قول بلا برهان. وهذا الناظم لا يعرف حقيقة البرهان
ثم قال: (والجبر مذهبه) إن أراد نفس جهم فهو ليس بموجود والكلام معه ضياع،
وإن أراد الأشعري فقد كذب في قوله (إن الجبر مذهبه) ثم قال: (لكنهم
حملوا ذنوبهم على رب العباد) هذا كذب أيضا عليهم فإن الجبرية يقولون إن
الله تعالى يعذب من يشاء بذنب وبغير ذنب، له ذلك (لا يسأل عما يفعل) (1)
وقوله:
(وتبرأوا منها وقالوا إنها * أفعاله ما حيلة الإنسان)
ما يتبرأ منها على هذه الصورة إلا ملحد، والذي يعتقد ذلك يقول إنه تعالى
يفعل ما يشاء وأطال الناظم في هذا كثيرا. بجهل وصبية أو تقليد لمن هو مثله

(1) الآية: 23 من سورة الأنبياء.
33

ثم قال:
(وكذاك أفعال المهيمن لم تقم * أيضا به خوفا من الحدثان)
فإذا جمعت مقالتيه أنتجا * كذبا (وزورا واضح البهتان))
يعني أن فعل العبد فعل الله وفعل الله ما هو في ذاته أنتاجا بجهله ما
يقوله وهو قوله:
(فهناك لا خلق ولا أمر ولا * وحي ولا تكليف عبد فإن)
ما هذه إلا قحة وبلادة يأخذ ما يتوهمه لازما فيستنتج وينكر على الناس إلزامه
التجسيم اللازم، ثم قال:
(فانظر إلى تعطيله الأوصاف (1) * والأفعال والأسماء للرحمن)
يا جاهل من قال بحدوث الأفعال كيف يلزمه التعطيل؟ ثم قال:
(ماذا الذي في ضمن ذا التعطيل * نفي ومن جحد ومن كفران)
إذا رجعنا إلى الخلاف بينك وبينه وجدناك كاذبا عليه ليس في القول
بحدوث الأفعال لا نفي ولا جحود ولا كفران، ثم قال:
(لكنه أبدى المقالة هكذا * في قالب التنزيه للرحمن)
(وأتى إلى الكفر العظيم قصاغه * عجلا ليفتن أمة الثيران)

(1) والناظم المسكين قائل بحوادث لا أول لها انخداعا منه بشبه أوردها
الفلاسفة في بعث الحدوث غير متصور اتصاف الله سبحانه بصفاته العليا قبل
صدور الأفعال منه تعالى. واستنكار شيخه (كان الله ولم يكن معه شئ)
مما استبشعه ابن حجر في فتح الباري جد الاستبشاع.. وحدوث الأفعال فيما
لا يزال لا يلزم منه تعطيل الصفات أصلا لا في زمن حدوث الأفعال ولا
في غيره وهو تعالى سريع الحساب وشديد العقاب قبل خلق الكون وقبل
النشور وهل يتصور عاقل أن يحاسب الله خلقه أر يعاقبه قبل أن يخلقهم؟.
وهذا يهد مزاعم الناظم الذي يجري الصفات على مجرى واحد، فالله
القادر مختار يفعل ما يشاء متى شاء.
34

الله عند لسان كل قائل. الرجل إنما قال ذلك في قالب التنزيه ولم نعلم نحن
باطنه فمن أين لك أنه قصد خلافه وصاغ الكفر عجلا ثم قال:
(فرآه ثيران الورى فأصابهم * كمصاب إخوتهم قديم زمان)
إن أراد طائفة لا وجود لها فما في ذكرها من فائدة، وإن أراد خصماءه من
الأشعرية ونحوهم فيا لها من مصيبة جعلهم ثيرانا إخوة اليهود ثم قال:
(عجلان قد فتنا العباد بصوته * إحداهما وبحرفه ذا الثاني)
أو ذكر أبياتا إلى آخرها، والله أعلم أنه يقصد بها ربط قلوب الناس على أنه لا
مسلم إلا هو وطائفته وسائر الناس كفار كاليهود الذين عبدوا العجل فيا ترى من
أحق بشبه من عبد العجل؟ المجسم أم غيره؟
فصل
ثم قال:
(يا أيها الرجل المريد نجاته * (أسمع مقالة ناصح معوان)
واضرب بسيف الوحي كل معطل * ضرب المجاهد فوق كل بنان
(من ذا يبارز فليقدم نفسه * أو من يسابق يبد في الميدان)
ويلك من أنت؟. أو أنت تعرف المبارزة أو حضرت قط مبارزة أو ميدانا؟. ثم
قال:
(لا تخش من كيد العدو ومكرهم * فقتالهم بالكذب والبهتان
فجنود أتباع الرسول ملائك * وجنودهم فعساكر الشيطان)
أنظر كيف يقول عن خصومه وهم هداة العالم إنهم عساكر الشيطان وإن
قتالهم بالكذب والبهتان ثم قال: (فإذا رأيت عصابة الإسلام قد وافت) يعني
عصابة طائفته فانظر دلالته على كفر غيره (فإذا دعوك لغير حكمهما) يعني
الكتاب والسنة (فلا سمعا لداعي الكفر والعصيان) فانظر إلى إيهامه العوام أن
35

خصومه يدعون إلى غير الكتاب والسنة. ثم قال:
(واسمع نصيحة من له خبر بما * عند الورى من كثرة الجولان
ما عندهم والله خير غير ما * أخذوه عمن جاء بالقرآن)
نعم ولكنهم فهموه وأنت ما فهمته ثم قال:
(والكل بعد فبدعة أو فرية * أو بحث تشكيك ورأى فلان)
(كأنه يصف طائفته).
(فصل)
عقد مجلس خيالي.. كلامه في وحدة الوجود
وهذا أول عقد مجلس التحكيم قال:
واحكم إذا في رفقه قد سافروا * يبغون فاطر هذه الأكوان
فترافقوا في سيرهم وتفارقوا * عند افتراق الطرق بالجيران
فأتى فريق ثم قال وجدته * هذا الوجود بعينه وعيان
فهو السماء بعينها وهو الغمام بعينه وهو الهواء بعينه، هذا بسائطه ومنه
تركبت هذي المظاهر (1) يلبسها ويخلعها وتكثر الموجود كالأعضاء في المحسوس

(1) فتكون الظاهر على ما صوره الناظم محلا له تعالى، تعالى الله عن ذلك،
وأما كون الشئ مجلى لشئ فلا يفيد كونه محلا له، فإن الظاهر في
المرآة مثلا خارج عنها بذاته قطعا بخلاف الحال في محل، فإنه حاصل فيه
فالظهور غير الحلول فإن الظهور يجامع التنزيه بخلاف الحلول عند أشياع
الشيخ الأكبر، وأما كونه كلا والكون جزءا له على ما ذكره الناظم فعلى
خلاف ما اشتهر عنهم أن العالم أعراض مجتمعة في عين واحد كالثلج مع
الماء، تعالى الله عما يأفكون، والواجب عندهم هو الوجود المحض
المجرد عن الماهية بذاته المتعين بذاته المطلق حتى عن قيد الاطلاق
بمعنى أنه واحد شخصي موجود بوجود هو نفسه فلا يكون المطلق عندهم
بمعنى الكلي حتى يرد على ذلك ما أورده السعد في شرح المقاصد من تسعة
أوجه، وأول من نطق بوحدة الوجود في الإسلام - هو جهم بن
صفوان، ولذلك ذهب إلى الجبر، فكم فتح هذا الرأي من أبواب للإباحة
والزندقة على شرار الخلق، وإما القول بأن الممكن الوجود كلا موجود بالنظر
إلى واجب الوجود لاحتياجه إليه بدءا ودواما فليس من الخطر في شئ
كالقول بأن ذلك حالة خيالية تطرأ للسالك المقبل إلى الله بكليتيه ثم تنجلي
كما ذكره السعد شرح النسفية والناظم في كثير من كتبه ومن الصوفية
من يتصور مسألة الوجود بحيث لا يخل بالتكليف والتنزيه ويقول إنه
طور وراء طور العقل ولا كلام لنا فيما هو وراء طور العقل.
36

أو كالقوى في النفس. هذه مقالة، أو كتكثر الأنواع في جنس فيكون كليا
وجزئياته هذا الوجود (1) فهذان قولان الأول نص الفصوص وما بعده أول ابن يبعين
وما القولان عند العفيف التلمساني الذي هو غاية في الكفر إلا من الأغلاظ في حس

(1) ولا وجود للكلي إلا في ضمن جزئياته فيكون الواجب هو العالم وهو عين
مذهب الطبيعيين على تصوير الناظم خذلهم الله. على أن هذا التصوير
يخالف ما قرره ابن سبعين في بدء العرف فليراجع. وترى شيخ الناظم
ينسب إلى الصدر القونوي القول بأنه الموجود المطلق لا بشرط شئ وإلى
ابن سينا القول بأنه الوجود المطلق بشرط الاطلاق فيعده نافيا للصانع باعتبار
أن ما هو بشرط الاطلاق لا وجود له إلا في الأذهان، لكن الفلاسفة،
ومنهم ابن سينا - يرون أن الواجب هو الوجود المقيد بقيد التجرد،
بمعنى اللاعروض، وهو مبدأ الكون كله، فعلم أن شيخ الناظم لك يحك
كلام ابن سينا على الوجه،. تغابى عن فهمه كما سبق ذلك، ورأى
الصدر القونوي يظهر من مفتاحه. والحاصل أن بحث وحدة الجود بحث خطر
متشعب والموقف من وقاه الله شره، وممن توسع في رد ذلك القاضي عضد
الدين في المواقف.
37

وفي وهم. تلك طبيعة الإنسان والكل شئ واحد) وأطال في أقوالهم.
فصل
قال:
(وأتى فريق ثم قال وجدته * بالذات موجودا بكل (1) مكان
هو كالهواء بعينه لا عينه * ملأ الخلاء ولا يرى بعيان
والقوم ما صانوه عن بئر ولا * قبر ولا حش ولا أعطان
. عليهم رد الأئمة أحمد * وصحابه من ذي عرفان
فهم الخصوم لكل صاحب سنة * وهم الخصوم لمنزل القرآن
هؤلاء أيضا ليس علينا منهم.

(1) وهذا بظاهر قول بالتجسيم كقول من يقول إنه مستقر على العرش، وإن
كان مراده أنه لا يوصف بمكان دون مكان، بل نسبته إلى الأمكنة على
حد سواء لتعاليه عن الجهات، هو قول متكلمي أهل السنة والمعتزلة،
ولعل هذا اللفظ لفظ من حكى هذا المذهب تشنيعا، وأما إن كان بيانا
لمذهب جهم على خلل في اللفظ فهو داخل في الفيق القائل بوحدة الوجود،
فلا وجه لإفراده بكل حال. ونسبة كتاب (الرد على الجهمية) الذي فيه
الرد على هؤلاء إلى أحمد نسبة كاذبة، ورواية الخضر بن المثنى مجهول،
وقد أنصف الذهبي حيث قال: وفي النفس شئ من هذه النسبة.
ويقول الناظم في عزوه: إن الخضر المذكور عرفه خلال. لكن لو كان بمثل
هذا القول تزول الجهالة لما وجد بين الرواة مجهول أصلا، على أن نظرنا إلى
الخلال وغلامه ليس كنظر الناظم وشيخه إليهم فضلا عمن دونهما في
السند ممن مقلدة الحشوية بل في متن (الرد على الجهمية) ما يجل مقدار
أحمد عن أن يفوه بمثله جزما.
38

فصل
ثم قال:
(وأتى فريق (1) ثم قارب وصفه * هذا ولكن جد في الكفران
فأسر قول معطل ومكذب * في قالب التنزيه للرحمن
إذا قال ليس بداخل فينا ولا * هو خارج عن جملة الأكوان
بل قال ليس ببائن عنهما ولا * فيها ولا هو عينها ببيان
كلا ولا فوق السماوات العلى * والعرش من رب ولا رحمان
والعرش ليس عليه كبود سوى * العدم الذي لا شئ في الأعيان
بل حظه من ربه حط الثرى * منه وحظ قواعد البنيان
لو كان فوق العرش لكان كهذه * الأجسام سبحان العظيم الشان)
يعني أن هذا من قولهم، ثم قال:
ولقد وجد لفاضل منهم مقاما * قامه في الناس منذ زمان
في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على يونس) قد كان يونس
في قرار البحر ومحمد صعد السماء وجاوز السبع الطباق، وكلاهما في قربه من ربه
سبحانه إذ ذاك مستويان
فاحمد إلهك أيها السني إذ * عافاك من تحريف ذي بهتان
والله ما يرضى بهذا خائف * من ربه أمسى على الإيمان
هذا هو الالحاد حقا بل * هو التحريف محضا أبرد الهذيان

(1) وهم أهل السنة خصوم كل مجسم وزائغ، وهم يقولون إنه لا يقال إن
الله داخل العالم، كما لا يقال إنه في خارج العالم، ولا إنه مستقر
على الغرش لأن ذلك لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ولأن ذلك شأن
الأجسام، ومن جوز في معبوده الدخول والخروج والاستقرار فهو عابد وثن،
ويؤيدهم البراهين والآيات الواردة في التنزيه. وليس للمشبهة شبه شبهة
في ذلك كما سيأتي رغم أنف هدا الناظم الزائغ
39

والله ما بلى المجسم قط ذي * البلوى ولا أمسى بذي الخذلان
أمثال ذا التأويل أفسد هذه * الأديان حين سرى إلى الأديان
والفاضل الذي أشار إليه (1).... وتفسيره للحديث المذكور بما قاله صحيح،
وقد سبقه إليه إمام دار الهجرة نجم العلماء أمير المؤمنين في الحديث، عالم
المدينة أبو عبد الله مالك بن أنس حكي ذلك الفقيه الإمام العلامة قاضي

(1) وهنا بياض في أصل المؤلف والمراد بذلك الفاضل هو إمام الحرمين عبد
الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم
منهم ابن فرح القرطبي في تذكرته رواية عن القاضي أبي بكر بن العربي
عن غير واحد من أصحاب إمام الحرمين عنه ما معناه: أن ذا حاعة حضر
تنده وشكا من دين ركبه فأشار إليه بالمكث لعل الله يفرج عنه وفي
أثناء ذلك حضر غني يسأله عن الحجة في تنزه الله سبحانه عن الجهة
فقال إمام الحرمين: الأدلة على هذا كثيرة جدا، منها نهيه صلى الله
عليه وسلم عن تفضيله على يونس عليه السلام. فصعب فهم وجه دلالة
ذلك على الحضور، فسأله السائل (عن وجه الدلالة فقال إمام الحرمين:
حتى تقضى حاجة هذا - مشيرا إلى صاحب الدين - فتولى قضاء دينه،
ثم أجاب الإمام قائلا: إن هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه
وسلم وهو عند سدرة المنتهى لم يكن بأقرب إلى الله من يونس عليه
السلام وهو في بطن الحوت في قعر البحر، فدل ذلك على أنه تعالى منزه
عن الجهات. وإلا لما صح النهي عن التفضيل، فاستحسنه الحاضرون غاية
الاستحسان ولفظ البخاري (لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متي)
والمعنى واحد وذكره القاضي عياض في الشفاء على لفظ المؤلف، ومن
أطلق الكفر على إثبات الجهة في غاية من الكثرة بين الأئمة، ومن
الدليل على تنزه الله سبحانه عن الجهة حديث (أقرب ما يكون العبد
من ربه وهو ساجد) أخرجه النسائي وغيره.
40

قضاة الإسكندرية ناصر الدين بن المنير المالكي (1). الفقيه المفسر النحوي
الأصولي الخطيب الأديب البارع في علوم كثيرة في كتابه (المقتفى في شرف
المصطفى) لما تكلم على الجهة وقرر نفيها، قال: ولهذا المعنى أشار مالك
رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على يونس بن
متى) فقال مالك: إنما خص يونس للتنبيه على التنزيه لأنه صلى الله عليه
وسلم رفع إلى العرش، ويونس عليه السلام هبط إلى قابوس البحر،
ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جل جلاله نسبة واحدة! ولو كان
الفضل بالمكان لكان عليه الصلاة والسلام أقرب من يونس بن متى وأفضل
مكانا، ولا نهى عن ذلك. ثم أخذ الفقيه ناصر الدين يبدي أن الفضل بالمكانة
لأن العرش في الرفيق الأعلى، فهو أفضل من السفل، فالفضل بالمكانة لا
بالمكان، فانظر أن مالكا رضي الله عنه - وناهيك به - قد فسر الحديث بما قال
هذا المتخلف النحس، إنه إلحاد، فهو الملحد عليه لعنة الله (2) ما أوقحه وما
أكثر تجرأه؟! أخزاه الله.

(1) صاحب (البحر الكبير في نخب التفسير) الذي يقول عنه بعض المحققين
إنه لم يؤلف في التفسير مثله وهو من مفاخر المالكية في القرن
السابع بل من مفاخر علماء الإسلام طرا، ويوجد بدار الكتب
المصرية جزء من هذا التفسير وكتابه المقتفى يتوسع في بيان
الإسراء.
(2) ترى المؤلف على ورعه البالغ يستنزل اللعنات على الناظم في كثير
من مواضع هذا الكتاب، وهو يستحق تلك اللعنات من حيث خروجه
على معتقد المسلمين بتلك المخازي، لكن الخاتمة مجهولة، فالأولى
كف اللسان الآن عن اللعن. وأما استنزال المؤلف اللعنة عليه
فكان في حياة الناظم وهو يمضي على زيغه وإضلاله عامله الله
بعدله.
41

فصل
الفوقية الحسية... إلخ
ثم قال:
(وأتى فريق ثم قارب وصفه * هذا وزاد عليه في الميزان
قال اسمعوا يا قوم لا تلهيكم * هذي الأماني هن شر أماني
أتعبت راحلتي وفتشت، ما دلني أحد عليه إلا طوائف بالحديث تمسكت
تعزي مذاهبها إلى القرآن، قالوا: الذي تبغيه فوق عباده (1) فوق السماء وفوق كل

(1) والوارد في القرآن الكريم (وهو القاهر فوق عباده) (الأنعام: 18)
ومن الخرق أن يظن من قوله تعالى عن القبط (وإنا فوقهم قاهرون)
(الأعراف: 127) ركوب القبط على أكتاف بني إسرائيل مع إمكان ركوب
جسم على جسم، وكيف يتصور ذلك في الله تعالى المنزه عن الجسم ولوازم
الجسمية واعتبار ذات الله فوق عباده فوقية مكانية إلحاد ليس من مدلول
الآية في شئ وكون ذاته جل جلاله فوق إحدى السماوات فوقية مكانية
وفوق كل مكان فوقية مكانية مثل ما سبق في الزيغ، وأين في القرآن ما
يوهم ذلك؟ على أن القول الأخير موافقة منه لمن يقول إن ذاته جل شأنه
بكل مكان وكفى هذا تهاترا. وإن كان يريد بالاستواء الاستقرار تبعا
لمقاتل بن سليمان شيخ المجسمة فقد استعجمت عليه الآية الكريمة وتباعد
عن بلاغتها أيما تباعد وقد أوضحت ذلك في (لفت اللحظ إلى ما في
الاختلاف في اللفظ) ونسبة الصعود إلى الأعراض والمعاني من الدليل في
أول نظر على أنه مجاز من القبول وماذا من نزول الملائكة من السماوات
وعروجهم إليها. وإليه تعالى قصد السائلين، لكن رفعهم الأيدي إلى
السماء ليس في شئ من الدلالة على استقرار وجود ذاته في السماء وإنما
ذلك لمجرد آن السماء قبلة الدعاء ومنزل الأنوار والأمطار والخيرات
والبركات (وفي السماء رزقكم) (الذاريات: 22) وسمت الرأس مما
يتبدل أنا فأنا كما يعرف ذلك صغار التلاميذ في المدارس، فهل ذات
معبود الناظم في تنقل دائم لا يبرح سمت رأسه؟! وما حال سائر الداعين
في أقطار الأرض؟ وهذا هو الجهل المطبق. لم يكن إسراء النبي صلى
الله عليه وسلم ليغشى مكان الله - سبحانه عن المكان - بل أسرى به ربه
ليريه من آياته الكبرى كما نص على ذلك القرآن ومقام عيسى عليه
السلام يظهر من حديث المعراج، فويح الناظم ما أجهله بالسنة، نعم يوجد
بين النصارى من يزعم أن الابن رفع إلى السماء وجلس في جنب أبيه،
تعالى الله عما يقول المجسمة وإخوانهم النصارى واليهود علوا كبيرا،
وصعود الأرواح إلى السماء من الذي يراه صالحا لاتخاذه دليلا على
التجسيم؟.
42

مكان وهو الذي حقا على العرش استوى وإليه يصعد كل قول طيب وإليه يرفع
سعى ذي الشكران، والروح والأملاك منه تنزلت وإليه تعرج وإليه أيدي السائلين
توجهت، وإليه قد عرج الرسول صلى الله عليه وسلم وإليه قد رفع المسيح
حقيقة وإليه يصعد روح كل مصدق، لكن أولو التعطيل منهم أصبحوا مرضى
بداء الجهل والخذلان.
تسمية الناظم أهل الحق بحزب جنكزخان
فسألت عنهم رفقتي أصحاب جهم حزب (1) جنكسخان. من هؤلاء؟ قال

(1) أنظر هذا الحشوي كيف يجعل أهل السنة المنزهين لله عن الجسم
والجسمانيات من حزب جنكزخان الذي اكتسح معالم الإسلام من بلاد
الصين إلى حدود الشام غربا وإلى نهر ولجا وما والاها من بلاد البلغار
القديم شمالا ذلك الكافر العريق في الكفر، المسود لتاريخ البشرية بعظائمه
الهمجية. ولم تزل أعين المسلمين تفيض إما على تلك الكوارث التي
قضت على تلك العلوم الزاهرة وعلى هؤلاء العلماء النبهاء حراس الشريعة
الغراء، حتى أصبح مثل الناظم يجد مجالا للكلام، بمثل هذه المخازي، كأنه
وشيخه كانا يحاولان القضاء على البقية الباقية من الإسلام، ومن علوم
الإسلام، إتماما لما لم يتم بأيدي المغول، لكنهما قضيا على أنفسهما
ومداركهما قبل أن يقضيا على السنة باسم السنة وعلى عقول الناس باسم
النظر عاملهما الله سبحانه بعدله.
43

مشبهة مجسمة (1) فلا تسمع قولهم والعنهم واحكم بسفك دمائهم فهم أضل من اليهود

(1) يسعى الناظم بكل قواه في تهوين أمر التجسيم أسوة بشيخه، لكن
القائلين بقدم الجسم طائفتان ليس بين طوائف البشر أسخف أحلاما من كلتا
الطائفتين. إحداهما الطبيعيون وقد تسمى الملاحدة والزنادقة والدهرية
والمعطلة وهم القائلون بنفي الصانع، وهم كما يقول المطهر المقدسي أقل
الناس عددا وأفيلهم رأيا، وأشرهم حالا وأوضعهم منزلة، يقولون بقدم
أعيان العالم والأجسام وتولد النبات والحيوان من الطبائع باختلاف الأزمنة
والثانية المجسمة وقد تسمى الحشوية والمشبهة على اختلاف بينهم فيما
يختلقونه في الله من السخافات والحماقات، تعالى الله عما يصفون،
وهم يشاركون لهؤلاء في القول بجسم قديم قدما ذاتيا إلا أنهم يألهونه
ويتعبدونه بخلاف هؤلاء، سواء أطلقوا لفظ الجسم عليه أم لم يطلقوا بعد
أن قالوا بمعنى الجسم الشاغل للفراغ، الذاهب في الجهات، حيث خاضوا
في ذات الله سبحانه بعقولهم الضئيلة التي تعجز عن اكتناه ذوات
المخلوقات وإنما علمهم بالمخلوقات عبارة عما تخيلوه بشأنها من إحساسهم
بأغراضها، فكيف يجترئون على تخيل الحوم حول حمى الخالق جل وعلا.
قال ابن تيمية في التأسيس في رد أساس التقديس المحفوظ في ظاهرية
دمشق في ضمن المجلد رقم 25 من الكواكب الدراري - وهذا الكتاب مخبأة
ووكر لكتبهم في التجسيم وقد بينت ذلك فيما علقته على المصعد الأحمد
(ص 31): (فمن المعلوم أن الكتاب والسنة والإجماع لم ينطق بأن
الأجسام كلها محدثة وأن الله ليس بجسم ولا قال ذلك إمام من أئمة
المسلمين فليس في تركي لهذا القول خروج عن الفطرة ولا عن
الشريعة ا ه‍).
وقال في موضع آخر منه: (قلتم ليس هو بجسم، ولا جوهر ولا متحيز
ولا في جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميز منه شئ وعبرتم عن ذلك بأنه
تعالى ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حد له ولا غاية، تريدون بذلك أنه يمتنع
عليه أن يكون له حد وقدر أو يكون له قدر لا يتناهى... فكيف ساغ لكم
هذا النفي بلا كتاب ولا سنة ا ه‍). وفي ذلك عبر للمعتبر، وهل يتصور
لمارق أن يكون أصرح من هذا بين قوم مسلمين؟
44

والنصارى، واحذر تجادلهم ب‍ (قال الله وقال الرسول) وهم أولى به، فإذا ابتليت
بهم فغالطهم على التأويل للأخبار والقرآن، وعلى التكذيب للإحاد.
هذان أصلان أوصى بهما أشياخنا أشياخهم، وإذا اجتمعت بهم في
مجلس فابدأ بإيراد وشغل زمان لا يملكوه عليك بالآثار وتفسير القرآن، فإن
وافقت صرت مثلهم، وإن عارضت صرت زنديقا كافرا، وإن سكت يقال جاهل،
فابدأ ولو بالفشر والهذيان هذا الذي - والله - (1) وصانا به أشياخنا فرجعت عن
سفري وقلت لصاحبي: عطل ركابك ما ثم شئ غير ذي الأكوان، لو كان للأك ان
رب مالق كان المجسم صاحب البرهان أو كان رب بائن عن ذا الورى، كان
المجسم صاحب الإيمان. فدع التكاليف واخلع عذارك ما ثم فوق العرش من رب،
ولم يتكلم الرحمن بالقرآن لو كان فوق العرش رب لزم التحيز ولو كان القرآن

(1) ثم انظر كيف يحلف كذبا على هذه المحاورة الخيالية فهل يتصور أن يصدر
منه مثل ذلك لو كان يخاف مقام ربه في ذلك اليوم الرهيب، وسيأتي ما
يقضي على مزاعمه في استقرار معبوده على العرش - جل إله المسلمين عن
مثل هذه الوثنية - كما سيأتي القضاء على مزاعمه في الحرف والصوت قضاء
لا نهوض لها بعده إن شاء الله تعالى.
45

عين كلامه حرفا وصوتا (1) كان ذا جثمان، فإذا انتفيا ما الذي يبقى من إيمان؟
فدع الحلال مع الحرام لأهله، فهما السياج فاخرقه ثم أدخل واقطع علائقك التي قد

(1) واعتقاد الصوت في كلام الله خطر جدا، وكان الإمام عز الدين بن
عبد السلام ابتلى بالمبتدعة الصوتية في عهد الملك الأشرف موسى ابن الملك
العادل الأيوبي، وكان الملك الأشرف هذا يميل إليهم ويعتقد فيهم أنهم على
صواب حيث كان يخالطهم منذ صغره حتى منع العز المذكور من الافتاء بسبب
هذه المسألة كما هو مشروح، مفصل في مطلب الأديب لأبي بكر بن علي
الحسيني السيوطي، وفي طبقات التاج ابن السبكي وطبقات التقي
التميمي، وفي خلاصة الكلام في مسألة الكلام للشيخ محمد عبد اللطيف بن
العز المذكور - وقد نقلت الرسالة الأخيرة من خط المؤلف - واستمر منعه من
الافتاء إلى أن ركب الإمام الكبير جمال الدين الحصيري - شارح الجامع
الكبير، وشيخ الفقهاء في عصره - وتوجه إلى الملك الأشرف وأفهمه أن
الحق مع العز وقال له إن ما في فتياه هو اعتقاد المسلمين وكل ما فيها
صحيح ومن خالف ذلك فهو حمار. وكان الجمال الحصيري عظيم المنزلة عند
الملك لجلالة قدره عند جماهير أهل العلم، فأطلق الافتاء للعز ومنع
الصوتية من مزاعم الحرف والصوت في كلام الله سبحانه.
فتاوى في الرد على القائلين بالحرف والصوت
وأرى من النصح للمسلمين أن أنقل هنا أجوبة الإمام العز بن عبد
السلام والإمام جمال الدين أبي عمرو عثمان بن الحاجب المالكي، والإمام علم
الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي مؤلف (جمال القراء وكمال
الأقراء) حينما استفتوا في هذه المسألة. ومكانتهم السامية في العلم
معروفة.
ونص السؤال والأجوبة كما هو مدون في (نجم المهتدي ورجم المعتدي)
للفخر بن المعلم القرشي. كالآتي:
صورة السؤال: ما يقول السادة الفقهاء رضي الله عنهم في كلام الله القديم
القائم بذاته؟ هل يجوز أن يقال إنه عين صوت القارئ وحروفه المقطعة،
وعين الأشكال التي يصورها الكاتب في المصحف؟ وهل يجوز أن يقال إن كلام
الله القديم القائم بذاته حروف وأصوات على المعنى الظاهر فيها وإنه عين ما
جعله الله معجزة لرسوله صلى الله عليه وسلم؟ وما الذي يجب على من
اعتقد جميع ذلك وأذاعه وغربه ضعفاء المسلمين وهل يحل للعلماء المعتبرين
إذا علموا أن ذلك قد شاع أن يسكتوا عن بيان الحق في ذلك وإظهاره والرد
على من أظهر ذلك واعتقده؟ أفتونا مأجورين.
صورة جواب الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله:
القرآن كلام الله صفة من صفاته قديم بقدمه، ليس بحروف ولا أموات
ومن زعم أن الوصف القديم هو عين أصوات القارئين وكتابة الكاتبين فقد
ألحد في الدين وخالف إجماع المسلمين، بل إجماع العقلاء من غير أهل
الدين ولا يحل للعلماء كتمان الحق ولا ترك البدع سارية في المسلمين،
ويجب على ولاة الأمر إعانة العلماء المنزهين الموحدين، وقمع المبتدعة
المشبهين المجسمين، ومن زعم أن المعجزة قديمة فقد جهل حقيقتها، ولا
يحل لولاة الأمر تمكين أمثال هؤلاء من إفساد عقائد المسلمين، ويجب
عليهم أن يلزمهم بتصحيح عقائدهم بمباحثة العلماء المعتبرين، فإن لم
يفعلوا ألجئوا إلى ذلك بالحبس والضرب والتعزير، والله أعلم.
كتبه عبد العزيز بن عبد السلام
وصورة جواب الإمام جمال الدين أبي عمرو عثمان بن الحاجب المالكي:
من زعم أن أصوات القارئ وحروفه المتقطعة والإشكال التي يصورها
الكاتب في المصحف هي نفس كلام الله تعالى القديم فقد ارتكب بدعة
عظيمة وخالف الضرورة وسقطت مكالمته في المناظرة فيه، ولا يستقيم أن يقال
إن كلام الله تعالى القديم القائم بذاته هو الذي جعله الله معجزة لرسوله
صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يعلم بأدنى نظر، وإذا شاع ذلك أو سئل عنه
العلماء وجب عليهم بيان الحق في ذلك وإظهاره ويجب على من له الأمر
وفقه الله أخذ من يعتقد ذلك ويغربه ضعفاء المسلمين وزجره وتأديبه وحبسه
عن مخالطة من يخاف منه إضلاله إلى أن يظهر توبته عن اعتقاد مثل
هذه الخرافات التي تأباها العقول السليمة، والله أعلم،
كتب عثمان بن أبي بكر الحاجب
وصورة جواب الإمام علم الدين أبي الحسن علي السخاوي:
كلام الله عز وجل قديم صفة من صفاته ليس بمخلوق، وأصوات القراء
وحروف المصاحف أمر خارج عن ذلك، ولهذا يقال صوت قبيح وقراءة غير حسنة
وخط قبيح غير جيد، ولو كان ذلك كلام الله لم يجز ذمه على ما ذكر لأن
أصوات القراء به تختلف باختلاف مخارجها والله تعالى منزه عن ذلك،
والقرآن عندنا مكتوب في المصاحف متلو في المحاريب محفوظ في الصدور
غير حال في شئ من ذلك، والمصحف عندنا معظم محترم لا يجوز
للمحدث مسه، ومن استخف به أو ازدراه فهو كافر مباح الدم، والصفة
القديمة القائمة بذاته سبحانه وتعالى ليست المعجزة، لأن المعجزة ما تحدى به
الرسول صلى الله عليه وسلم وطالب بالإتيان بمثله ومعلوم أنه لم يتحدهم
بصفة الباري القديمة، ولا طالبهم بالإتيان بمثلها، ومن اعتقد ذلك وصرح
به أو دعا إليه فهو ضال مبتدع، بل خارج عما عليه العقلاء إلى تخليط
المجانين، والواجب على علماء المسلمين إذا طهرت هذه البدعة إخمادها
وتبيين الحق والله أعلم،
علي السخاوي
أنظر يا رعاك الله كيف كان العلماء يتكاتفون في قمع البدع وإحقاق الحق
على اختلاف مذاهبهم في تلك العصور الزاهرة بخلاف غالب أهل العلم في
زماننا هذا فإن لهم منازع وراء اختلاف المذاهب لا يهمهم ذيوع الباطل
وقد خانوا دينهم الذي ائتمنهم الله عليه، وبه يعيشون، ويوم الخائنين
يوم رهيب.
وكانت تلك الفتنة بالشام في النصف الأول من القرن السابع الهجري،
وقد وقع مثلها في النصف الأخير من القرن السادس بمصر، وفتنة القاهرة
معروفة بفتنة ابن مرزوق وابن الكيزاني وكلاهما من حشوية الحنابلة،
وظن التاج ابن السبكي بن الكيزاني من الشافعية فترجم له في طبقاته تبعا
لابن خلكان، فلا بأس في الإشارة هنا إلى فتاوى علماء ذلك العصر في
حقهما.
وصورة الاستفتاء في شأنهما:
ما قولكم يي الحشولة الذين على مذهب ابن مرزوق وابن الكيزاني اللذين
يعتقدان أن الله سبحانه يتكلم بحرف وصوت، تعالى الله عن ذلك،
46



وأن أفعال العباد قديمة، هل تنفذ أحكامهم على أهل التوحيد وعامة
المسلمين وهل تقبل شهاداتهم على المسلمين أم لا؟.
جواب الإمام شهاب الدين أبي الفتح محمد بن محمود الطوسي الشافعي
(صاحب الوقائع مع ابن نجية الحنبلي) تقبل شهادة عدولهم على أصحابهم
ولا تسمع شهاداتهم على أهل الحق من الموحدين ولا ينفذ حكم قاضيهم على
الموحدين فإنهم أعداء الحق - والله أعلم، كتبه محمد الطوسي
وجواب الإمام يوسف الأرموي
ما نص عليهم أعلاه اقترفوا حوبة عظيمة يجب عليهم القفول عما
اعتقدوه وهم كفار عند أكثر المتكلمين وكيف يسوغ قبول أقوالهم؟
ويجب على من إليه الأمر إحضارهم واستتابتهم عما هم عليه، فإن تابوا
وإلا قتلوا، وحكمهم في الاستتابة حكم المرتد في إمهاله ثلاثة أيام ولا
يقتل في الحال، كتبه يوسف الأرموي
وجواب الخطيب أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الحموي
من اعتقد أن أفعال العباد قديمة فقد قال قولا يلزم منه القول بقدم
العالم ومن قال بقدم العالم فهو كافر لا تصح ولايته ولا تقبل شهادته
والله أعلم، كتبه محمد بن إبراهيم الحموي
واستفتاء آخر صورته
ما قول الفقهاء الأئمة قادة علماء هذه الأمة أدام الله إرشادهم ووفق
إصدارهم وإيرادهم في الحشوية الذين على مذهب ابن مرزوق وابن
الكيزاني. اللذين يعتقدان أن الله سبحانه متكلم بحرف وصوت، وأن أفعال
العباد قديمة، هل تقبل شهاداتهم على أهل الحق الموحدين الأشعرية، وهل
تنفذ أحكام قضاتهم على الأشعرية أم لا؟
جواب الإمام أبي المنصور ظافر بن الحسين الأزدي المالكي
لا تقبل شهادة من يقول إن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت لأنهم
مرتكبون كبيرة هي أعظم من سائر المعاصي كالزنا وشرب الخمر لأنها كبيرة
تتعلق بأصل من أصول الدين، وكتب ظافر بن حسين الأزدي
وجواب شارح المهذب أبي إسحاق إبراهيم العراقي
جوابي كذلك، كتبه إبراهيم العراقي
وجواب الخطيب محمد بن إبراهيم الحموي
من قال إن الله متكلم بحرف وصوت فقد قال قولا به لزم منه أن الله جسم
ومن قال إنه جسم فقد قال بحدوثه ومن قال بحدوثه فقد كفر، والكافر لا
تصح ولا تقبل شهادته، والله أعلم، كتبه محمد بن إبراهيم الحموي
وجواب الشيخ جمال الدين بن رشيق المالكي
لا تقبل شهادتهم ولا يجوز أن يولوا الحكم ولا غيره من المناصب الدينية
لأنهم بين جاهل يصر على جهله بما يتعين عليه اعتقاده من صفات الله سبحانه
وبين عالم معاند للحق، ومن هذه صفته يتعين تأديبه وزجره عما صار إليه
بأبلغ الأدب، ومن جملته رد الشهادة وبالله التوفيق،
كتب حسين بن عتيق بن رشيق
وجواب الشيخ محيي الدين محمد بن أبي بكر الفارسي
من قال إن الله سبحانه متكلم بالصوت والحرف فقد أثبت الجسمية وصار
بقوله مجسما، والمجسم كافر، ومن قال إن أفعال العباد قديمة فقد كذب
الله تعالى في قوله (والله خلقكم وما تعملون) (1) ومكذب الله بصفة
الاصرار كافر ولا تثبت عدالتهم ولا تقبل شهادتهم ولا تجوز الصلاة خلفهم،
ويجب على الإمام وعلى نوابه في الأقاليم استتابتهم، فإن لم يرجعوا عما هم
فيه من الكفر يعاقبهم على كفرهم أو يقبل الجزية منهم أذلاء لا كاليهود
والنصارى بل كفرهم أشنع وأبشع من مقالة النصارى واليهود، أما اليهود
فشبهوه بالحادث صفة، وأما النصارى فقالوا إنه جوهر شريف والمجسمة يثبتون
الجسم لله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وكتب محمد الفارسي
وفي تلك الفتاوى ما ينزجر به من يخاف مقام ربه من تلك البدع الشنيعة
وبها يعلم أيضا أن أبا عمرو عثمان بن مرزوق الحنبلي وأبا عبد الله الكيزاني
الحنبلي مشتركان في إثارة البدع المذكورة بمصر ولا مانع من أن يكون بينهما
بعض اختلاف في فرع من فروع تلك البدع، ومن حاول تبرئة أحدهما منها
فلا حجة عنده أصلا، وقد تكلف ابن رجب في طبقاته تبرئة ابن مرزوق عن
ذلك بدون جدوى بعد أن أقر بذلك الناصح الحنبلي وابن القطيعي الحنبلي، ولو
كان ابن رجب رأى تلك النصوص من فتاوى علماء عصر ابن مرزوق وابن
الكيزاني المنقولة عن خطوطهم المحفوظة في خزانة الملك الظاهر بيبرس لما سعى
في تبرئة ساحته من تلك البدعة الشنيعة.
ونسبة القول بتلك البدعة إلى ابن الكيزاني في مرآة الزمان لسبط ابن
الجوزي لا تبرئ ابن مرزوق منها على أن ابن رجب قال بعد ذلك: ثم وجدت
لأبي عمرو بن مرزوق مصنفا في أصول الدين، ورأيته يقول فيه إن الإيمان
غير مخلوق، أقواله وأفعاله وإن حركات العباد مخلوقة، لكن القديم يظهر
فيها كظهور الكلام في ألفاظ العباد ا ه‍
هذا طراز آخر في التخريف يدل على أنه قائل بالحلول على مذهب
السالمية، ومثله لا يمكن ترقيع كلامه. ووقعت بين الفتنتين فتنة عبد
الغني المقدسي الحنبلي في الصوت ونحوه كما في ذيل الروضتين لأبي شامة
فليراجع هناك، وما حدث في القرن الخامس ببغداد في عهد أبي نصر بن
القشيري من فتنة الحشوية فمشهور جدا. والمحضر الذي رفعه أبو إسحاق
الشيرازي والحسين بن محمد الطبري ومحمد بن أحمد الشاشي والحسين بن
أحمد البغدادي وعزيزي بن عبد الملك شيذلة، وغيرهم من أئمة ذلك العصر
عن تلك الفتنة بخطوطهم إلى نظام الملك، مسجل في تبيين كذب
المفترى لابن عساكر (ص. 31) فيراجع هناك ليعلم مبلغ سعي الحشوية
في إثارة الفتن كل قرن وذلك مما يعرق به جبين الدهر خجلا من
تخريفاتهم التي يتبرأ منها العقلاء كلهم. وأما ما أحدثوه من الفتن في
أوائل القرن الرابع من الدعوة إلى القول بإجلاس محمد صلى الله عليه وسلم
على العرش في جنبه تعالى فمدون في كتب التاريخ. والمرسوم الذي أصدره
الراضي العباسي ضد البربهاري الداعي إلى تلك البدعة مسجل في تاريخ
ابن الأثير بنصه وفصه فليراجع القارئ الكريم هذا وذاك ليعلم نصيب
الحشوية من العقل والدين وكلا الكتابين بمتناول الأيدي فنستغني عن
نقل نصوص عنهما، وفي كل ما تقدم عبر، ويا لها من عبر، والله
سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل.
رد حديث الأوعال
(1) الآية: 96 من سورة الصافات
46

قيدت هذا الورى لتصير حرا (1) لست تحت أوامر ولا نهي ولا فرقانا، لكن
جعلت حجاب نفسك إذا ترى، فوق السماء من ديان، لو قلت ما فوق السماء مدبر
والعرش تخليه من الرحمن، والله ليس متكلما بالقرآن لحللت طلسمه وفزت بكنزه
وعلمت أن الناس في هذيان، لكن زعمت أن ربك بائن من خلته وأنه فوق العرش

(1) أنظر هذا الخبث المضاعف، يصور الناظم أن القول بعدم استقرار الله جل شأنه
على العرش استقرار تمكن وبعدم كون كلام الله القائم بذاته حرفا وصوتا
حادثين في ذاته تعالى يكون انحلالا عن الدين وانسلاخا من التكاليف،
ولست أشد أن من يجترئ على هذا التصوير ويدور في خلده مثل هذا
التفكير أمام جماهير أهل الحق المعتقدين للتنزيه من فجر الإسلام إلى
اليوم في مشارق الأرض ومغاربها على طول القرون لا يكون إلا منطويا
على الانسلاخ الذي يرمى به أهل الحق - قاتله الله ما أجرأه على الله وما
أوقحه! فمن الذي نفى أن للعالم مدبرا وإن القرآن كلام الله أنزل به الروح
الأمين على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ومن الذي يجهل أن الملء
والتخلية من شأن الأجسام نفيا وإثباتا ولم يرد الملء في سنة صحيحة حتى
يجوز إطلاقه عليه سبحانه، على أن تنزهه سبحانه عن الجسمية ولوازم
الجسمية مما أجمع عليه أهل الحق، ولم يشك فيه سوى من عنده نزعة
الوثنية، ولفظ بائن من خلقه لم يرد في كتاب ولا سنة، وإنما أطلق من
أطلق من السلف بمعنى نفي الممازجة ردا على جهم لا بمعنى الابتعاد بالمسافة،
تعالى الله عن ذلك، كما صرح بذلك البيهقي في الأسماء والصفات، وأما
لقظ أنه فوق العرش فلم يرد مرفوعا إلا في بعض طرق حديث الأوعال - من
رواية ابن منده في التوحيد - وعبد الله بن عميرة في سنده مجهول الحال،
ولم يدرك الأحنف فضلا عن العباس. وسماك انفرد به عن عبد الله هذا،
في جميع الطرق، ويحيى بن العلاء في رواية عبد الرزاق عن سماك يقول
عنه أحمد: كذاب يضع الحديث. وتصحيح بعض الحشوبة لبعض طرق
حديث الأوعال لا يزيل ما به سندا ومتنا، بل خبر الأوعال ملفق من
الإسرائيليات كما نص عليه أبو بكر ابن العربي في شرح سنن الترمذي
وأنت تعرف مبلغ براعته في الحديث ونقده وتحسين الترمذي بالنظر إلى تعدد
طرقه بعد سماك، وهذا مصطلح له وقوله: غريب إشارة إلى انفراد سماك عن
ذلك المجهول ولا شأن للمجاهيل والوحدان والمنقطعات في إثبات الصفات
أصلا ولم يثبت عن القدمين حديث مرفوع، وقول ابن عباس لإفادة أن
الكرسي صغير بالنسبة إلى العرش ككرسي قد وضع لقدمي القاعد على السرير
كما قال ابن الجوزي. ورواية من رواه بلفظ (قدميه) تحريف للرواية وتقييد
الرؤية بلفظ! من فوق) من كيس المجسم بدون كتاب ولا سنة. ووصفه
سبحانه بالصفات الواردة في الكتاب والسنة لم ينفه أحد من أهل الحق،
كما ينف أحد منهم كلام الله لموسى بلا كيف. والاقعاد معه على العرش
يروى عن مجاهد بطريق ضعيفة وتفسير المقام المحمود بالشفاعة متواتر
تواترا معنويا وأني ما ينسب إلى مجاهد من ذاك؟ وقد صرح غير واحد من
الأئمة ببطلان ما يروى عن مجاهد، ويرى يعض النصارى رفع عيسى
عليه السلام وإقعاده في جنب أبيه وهذا هو مصدر هذا التخريف.
53

والكرسي وفوقه القدمان وأنه يسمع خلقه ويراهم من فوق وأن كلامه منه بدا وإليه (1)

(1) قال ابن المعلم القرشي: وهذا الحديث أوردوه بإسناد فيه محمد بن يحيى
ابن رزين، قال أبو حاتم البستي كان كذابا دجالا يضع الأحاديث ا ه‍.
وزيادة على ما سبق سيأتي الكلام على الصوت فانتظره، ودعوى
الإجماع في أن النداء صوت كذب كما سيأتي.
54

يعود ووصفته بالسمع والبصر والإرادة والقدرة وكراهة ومحبة وحنان، وأنه يعلم
كل ما في الكون، وأنه كلم موسى، والنداء صوت بإجماع النحاة، وأن محمدا
صلى الله عليه وسلم أسرى به (ليلا إليه) فهو منه دانى وأنه يدنيه يوم القيامة حتى
يرى قاعدا معه على العرش وأن لعرشه أطيطا (1) وأن الله أبدى بعضه للطور،
وأن له وجها وله يمين، بل زعمت يدان، وأن يديه للسبع العلى والأرض (يوم
الحشر) قابضتان (2) وأن يمينه ملأى من الخير، وأن العدل في الأخرى وأن الخلق

(1) ويغنينا عن إبداء وجوه التخليط في حديث الأطيط ما ألفه الحافظ ابن
عساكر في ذلك، وإبداء بعضه للطور بمعنى إبداء بعض آية على أنه مما
أدخل على حماد بن سلمة، تعالى الله سبحانه عن الأبعاض والأجزاء رغم
أنف المجسمة. ويأتي الكلام على قبض السماوات.
قبض السماوات والأرض
(2) قال البخاري في تفسير قوله تعالى (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة)
(الزمر: 67) إن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك
الأرض) ا ه‍. وهذا هو أصل الحديث وهو مروي بأسانيد كثيرة جدا وهو
الموافق لكتاب الله سبحانه، واليمين: القدرة كما هو مبسوط في أساس
التقديس، وحاشا أن يكون قبض الله من قبيل احتواء الأنامل على شئ،
وما زاد على ذلك في الروايات من أنه يأخذ السماوات بيده اليمنى ويأخذ
الأرض بشماله.. وحاشا أن يكون له شمال وكلتا يديه يمين - فمن تصرفات
الرواة أثناء النقل بالمعنى كما لا يخفى على أهل هذه الصناعة المستحضرين
لأحاديث الباب ومبلغ اضطرابها سندا ومتنا.
وأما حديث الحبر اليهودي فيوضع أجزاء الكون على إصبع فضحك
النبي صلى الله عليه وسلم فيه لا يدل على تصديق ذلك وإن ظنه بعض
الرواة تصديقا - في بعض الطرق - بل يدل على الانكار والاستهجان. وقد
برهن ابن الجوزي في دفع الشبه وابن حجر في الفتح على أن ذلك إنكار لا
تصديق رغم توهم ابن خزيمة كونه تصديقا لزيغ مشهور في معتقده، كما
سيأتي بيانه، بل نزول قوله تعالى (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا
قبضته يوم القيامة) أي تحت تصرف مالك يوم الدين لا يجرى لأحد سواه
حكم في ذلك اليوم (والسماوات مطويات بيمينه) أي بقدرته لا حساب على
سكانها بخلاف أهل الأرض فإنهم محاسبون (سبحانه وتعالى عما يشركون)
(الزمر: 67) عقب حديث حبر اليهود دليل واضح على الانكار وعلى أن
إثباتهم الأصابع الحسية بالوجه السابق إشراك. قال الله تعالى (إن الله يمسك
السماوات والأرض أن تزولا) (فاطر: 41) فمن الذي يظن أن ذلك بالمماسة؟
وكذلك القبض، وإن هذى الشيخ محمد المنبجي الحنبلي تلميذ الناظم في جزء
(إثبات المماسة) بما شاء من صنوف الهذيان، وكل ذلك من بلايا ابن تيمية
حيث لفق الروايات في هذا الصدد وقال ما شاء أن يقوله في الأجوبة المصرية
وذكر ما ورد في بعض طرق الحديث وهو (وقبض كفيه فجعل يقبضهما
ويبسطهما) ثم قال: (وهنا شبه القبض والبسط بقبضه وبسطه) ا ه‍. وهذا
تشبيه صريح من ابن تيمية (أفمن يخلق كمن لا يخلق) (النحل: 17)
ومغالطة مكشوفة، واللفظ المذكور لم يقع إلا في بعض الروايات،
والاضطرب في الحديث سندا ومتنا زيادة ونقصا ظاهر جدا لمن اطلع على
طرقه بحيث لا يصح الاستدلال به ولا سيما في مثل هذا المطلب وعلى فرض
ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض كفيه وبسطهما أثناء الخطبة لم
ينسب إليه صلى الله عليه وسلم في حديث أنه قال: هكذا يقبض ويبسط
حتى يصح كلام ابن تيمية، بل البسط غير موجود فيما يروى عما يفعله
سبحانه عند قيام الساعة حتى يظن به صلى الله عليه وسلم إذا قبض كفيه
وبسطهما أنه أراد تشبيههما بقبض الله وبسطه، على أن الخطيب كثيرا ما
تصدر منه حركات وإشارات أثناء الخطبة، وحملها على معان لم ينطق هو
بها تقويل للخطيب ما لم يقله، ومن الظاهر جدا أن الأرض تحتوي على
الأنجاس والأرجاس فكيف يتصور أن يكون قبض الله كقبض أحد من
خلقه حقيقة بحيث يستلزم ذلك القبض على الأخباث والأرواث، تعالى
الله عن ذلك. وهذا مما لا يتصوره من يخاف مقام ربه ولو كان جاهلا
باستحالة الجسمية على الله سبحانه. ولا نتعرض هنا لرواية كاتب الليث في
الخبزة ولعل فيما ذكرنا كفاية.
الأصابع في كلام الجبر
55

طرا عنده يهتز فوق أصابع (1) الرحمن وأن قلب العبد بين اثنتين من أصابعه، وأنه

(1) لم يرد في حديث وضع السماوات على أصبع إضافة الأصابع إلى الرحمن أصلا
وهذا كذب وتصرف في الحديث بالتحريف والتغيير قال القاضي أبو بكر بن
العربي في القواصم والعواصم: وأما ذكر الأصابع فصحيح ولكن لم ترد مضافة
إليه تعالى وإنما ورد أنه يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع ثم
يهزهن... الحديث، ومن أين لهم أن أصابع الوضع المطلقة هي أصابع
التقليب المضافة إليه؟ ا ه‍ على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن
قال الحبر ذلك (وما قدروا الله حق قدره) يدل على إنكار ما قاله الحبر كما
قال ابن حجر في شرح البخاري ردا على ابن خزيمة - وتوحيد ابن خزيمة من
أهيف الكتب، راجع تفسير (ليس كمثله شئ) (الشورى: 11) من تفسير
الفخر الرازي - وما أخرجه الضياء الحنبلي من حديث الخنصر فباطل بالمرة
وفيه من العلل ما بين في موضعه وليس في حديث الترمذي رفع حديث
طرف الابهام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على انفراد حماد بن سلمة
به، بل نسبة ذلك إلى سليمان بن حرب أو حماد، قال ابن العربي وتمثيل
سليمان بن حرب وأمثال ما تجلى للجبل بالأنملة لا ينظر إليه لأنه كلام غير
معصوم ولا واجب الاتباع فالأمر هين والمخرج عنه سهل بين ا ه‍.
فيا سبحان الله ما أجهل هذا الناظم بلسان قومه كيفييفهم من اليد معنى
الجارحة ومن الضحك إبداء النواجذ، راجع القواصم لابن العربي، ودفع الشبه
لابن الجوزي، والأسماء والصفات للبيهقي، وقد روى القاضي أبو بكر بن
العربي في العارضة والقاضي عياض في الشفاء عن الإمام مالك بن أنس رضي
الله عنه أنه كان يرى قطع يد من أشار بيده إلى عضو من أعضائه عند ذكر
شئ ورد في الله سبحانه حيث إن الإشارة إلى عضو عند ذاك تشبيه،
تعالى الله عن ذلك، وأما ما وقع في صحيح مسلم من حديث القبض
باليمين والشمال فلم يخرجه البخاري لاضطراب عبد العزيز بن سلمة في
سنده لأنه يرويه مرة عن أبيه عن ابن مقسم عن ابن عمر كما وقع في
رواية سعيد بن منصور وأخرى عن أبيه عن عبيد بن عمير عن ابن عمر،
كما في رواية القعنبي، وتارة أخرى عن أبيه عن عبيد بن عمير عن عبد الله
ابن عمرو بن العاص كما في رواية يحيى بن بكير، فدلت تلك الأسانيد
المختلفة على أن عبد العزيز لم يضبط السند كما يجب، وحال المتن توازي
حال السند ومسلم حيث ترجح عنده روايته بطريق ابن مقسم بالنظر إلى
متابعة يعقوب بن عبد الرحمن القاري لعبد العزير في روايته عن سلمة عن
ابن مقسم خرجه في صحيحه، لكن ما يحتاج إلى متابع يكون منحط
الرتبة في الصحة بل من أحاط بأسانيد هذا الخبر في توحيد ابن خزيمة
وحلية أبي نعيم يعده مضطرب السند والمتن معا. على أن ما يقع في
المنبر أمام الجمهور تتوفر فيه الدواعي إلى روايته فكيف ينفرد برواية مثله
راو واحد، وإن صح الاحتجاج بمثل ذلك فإنما يصح عند - عدم المعارض
في الأعمال فقط دون الاعتقاد على أن تلاوته صلى الله عليه وسلم قوله
تعالى (وما قدروا الله حق قدره) عند ذكر حديث الحبر في الصحيح تعارضه
إذا لم يحمل خبر مسلم على المجاز فيوجد بين أهل العلم من لا يستدل بمثله
في الأعمال فضلا عن الاعتقاد ومع هذا كله لا يحتج بما دون المشهور من
الأحاديث في ذات الله وصفاته عند جمهور أهل الحق فكيف يحتج بذلك
الحديث في باب الاعتقاد وقد بينا بعض ما فيه.
57

يضحك عند تقابل الصفين من عبده يأتي فيبدي نحره لعدوه، ويضحك عندما
يثب الفتى من فرشه لقراءة القرآن، ومن قنوط عباده إذا جدبوا، وأنه يرضى
58

ويغضب، وأنه يسمع صوته (1) ويشرق نوره يوم الفصل ويكشف ساقه (2) ويبسط

(1) وحديث جابر المعلق في صحيح البخاري مع ضعفه في سياق ما بعده من
حديث أبي سعيد ما يدل على أن المنادي غير الله حيث يقول (... فينادي
بصوت إن الله يأمرك...) فيكون الإسناد مجازيا على أن الناظم ساق في
حادي الأرواح بطريق الدارقطني حديثا فيه (يبعث الله يوم القيامة مناديا
بصوت...) وهذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الإسناد في
الحديث السابق مجازي وهكذا يخرب الناظم بيته بيده وبأيدي المسلمين
وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في أحاديث
الصوت فليراجع ثمت.
الكلام على الساق والنزول والمجئ ووضع القدم
(2) وفي القرآن (يوم يكشف عن ساق) (القلم: 42) بدون ضمير وذلك
استعارة عن الشدة كما ذكره الفراء وابن قتيبة وابن الجوزي، وذكر
الإسماعيلي في مستخرجه أن رواية حفص بن ميسرة (يكشف ربنا عن ساق)
بدون ضمير وروايته بالضمير منكرة. راجع ما كتبناه على دفع الشبه لابن
الجوزي، ومن عادة الحشوية حمل المجاز المشهور على الحقيقة باختلاق رواية
حول ذلك وإلقائها على ألسنة الرواة. وتصرفات المجسمة هنا من هذا القبيل.
وإني أنقل للقارئ بلية من بلايا المجسمة تفهمه إلى أي حد يصل جنون
هؤلاء، وقد رأينا في بعض كتب روافضهم أن فاطمة رضي الله عنها تحمل
قميص الحسين عليه السلام في يوم القيامة وتقول لله سبحانه وهو جالس
على عرشه كذا ما فعلته الأمة بابني سبط الرسول صلى الله عليه وسلم،
ويكشف الله سبحانه إذ ذاك عن ساقه فإذا هي مربوطة برباط ويقول ماذا أنا
فاعل إزاء هذا وهم قد فعلوا بي ما ترونه؟ ويعللون هذا بما فعله نمروذ من
توجيهه الرمي إلى السماء ليقتل إله إبراهيم عليه السلام فاهمين أن سهمه
أصاب ساق الله فبقيت مربوطة من أثر الجرح في ذلك اليوم. فهل رأى
القارئ كفرا أشنع من هذا وأبعد من هيبة الرب سبحانه وتقديره حق
قدره وأدل على ذهاب العقول؟ قاتلهم الله.
59

كفه ويمينه تطوى السماء وينزل (1) في الدجى في الثلث الأخير والثلث الثاني وأن
له نزولا (2) ثانيا يوم القيامة للقضاء وأنه يبدو جهرة لعباده حتى يرونه
ويسمعون كلامه وأن له قدما (3) وأنه واضعها على النيران وأن الناس كل منهم

(1) قال ابن حزم في الفصل: إن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع
والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصح ضرورة أنه فعل يفعله
ربنا في ذلك الوقت لأهل كل أفق وأما جعل ذلك نقلة فقد قدمنا
بطلان قوله في إبطال القول بالتجسيم ا ه‍ وفي بعض طرق الحديث ما
يعين أنه إسناد مجازي، ففي سنن النسائي (أن الله يأمر ملكا
ينادي...) وفي شرحي البدر العيني وابن حجر على البخاري بسط واف
في المسألة.
(2) ولفظ التنزيل (وجاء ربك) (الفجر: 22) قال أحمد: أمره، وقد بينه في
قوله تعالى (أو يأتي أمر ربك) (النحل: 33) رواه ابن حزم وأبو يعلى
وابن الجوزي. قال الخلال في السنة بسنده إلى حنبل عن عمه الإمام أحمد
أنه سئل عن أحاديث النزول والرؤية ووضع القدم ونحوها فقال: (نؤمن
بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى).
(3) وضع القدم مجاز مشهور عن التسكين وعن الردع والقمع، راجع أساس
البلاغة والفائق ودفع شبه التشبيه وأساس التقديس. والأخيران مهمان
جدا في الرد على الحشوية، وهما مطبوعان يسهل تناولهما ففيهما غنية
عن التوسع بأكثر مما ذكر.
60

يخاصر (1) ربه، بالخاء والصاد والحاء والضاد وجهان محفوظان في الترمذي
والمسند وغيرهما من كتب التجسيم، ووصفته بصفات حي فاعل بالاختيار،
وذلك الأصلان أصل التفرق في الباري فكن في النفي غير جبان أو لا فلا تلعب
بدينك تثبت بعض الصفات وتنفي بعضها فأنكر الجميع أو فرق بين ما أثبته
ونفيته، فذروا المراء وصرحوا بمذاهب القدماء وإن سلخوا من الإيمان أو قاتلوا مع أمة
التشبيه والتجسيم تحت لواء ذي القرآن أو لا فلا تتلاعبوا بعقولكم وكتابكم وبسائر
الأديان، فجميعها قد صرحت بصفاته وكلامه وعلوه والناس بين مصدق أو جاحد
أو بين ذلك أو حمار، فنزه وأنف الجميع ولقب مذهب الإثبات بالتجسيم واحمل
على الأقران، فمتى سمحت لهم بوصف واحد حملوا عليك فصرعت فلذاك
أنكرنا الجميع مخافة التجسيم إن صرنا إلى القرآن ولذا خلعنا ربقة الأديان من
أعناقنا ولنا ملوك قاوموا الرسل في آل فرعون وقارون وهامان ونمروذ وجنكسخان
ولنا الأئمة أرسطو وشيعته ما فيهم من قال: إن الله فوق العرش، ولا إن الله
يتكلم بالوحي، ولهذا رد فرعون على موسى إذ قال موسى ربنا متكلم فوق
السماء وأنه ناداني، وكذا ابن سينا لم يكن منكم ولا الطوسي قتل الخليفة
والقضاة والفقهاء إذ هم مجسمة، ولنا الملاحدة الفعول أئمة التعطيل ولنا
تصانيف مثل الشفاء ورسائل إخوان الصفاء والإشارات قد صرحت بالضد مما جاء
في التوراة والإنجيل والفرقان، وإذا تحاكمنا فإليهم لا إلى القرآن، يا ويح جهم
وابن درهم ومن قال بقولهما، بقيت من التشبيه فيه بقية ينفي الصفات مخافة
التجسيم ويقال: إن الله يسمع ويرى ويعلم ويشاء وإن الفعل مقدور له والكون
ينسبه إلى الحدوث ويصرخ بنفي التجسيم والله ما هذان متفقان، لكننا قلنا محال
كل ذا حذرا من التجسيم والإمكان) ا ه‍.

(1) قال ابن العربي: أما حديث المخاصرة فضعيف، راجع العواصم، فكم
في سنن الترمذي ومسند أحمد من أحاديث ضعيفة والناظم هو الذي يسميهما
بالتجسيم، قال ابن الجوزي هذا يرويه يوسف بن عبد الله وهو خطأ.
61

تصوير الناظم أهل الحق أسوأ تصوير
انتهى كلام هذا الملحد تبا له وقطع الله دابر كلامه، أنظر هذا الملعون
كيف أقام طوائف الشافعية والمالكية والحنفية الذين هم قدوة الإسلام وهداة
الأنام في صورة الملاحدة الزنادقة المقرين على أنفسهم باتباع فرعون وهامان
وأرسطو وابن سينا، المقدمين كلامهم على القرآن، وأنهم أتباع أصحاب
جنكسخان، وأن رائده، لعنه الله ولعنه، سألهم عما يقوله أهل الحديث فنسبوهم
إلى ما نسبوهم إليه، وأنه لذلك انحل عن الأديان وخلع ربقة الإيمان وأبرز ذلك
في صورة مقامة وخيال ليرتسم به في ذهن من يقف عليه من العوام والجهال أن
الطوائف المذكورة، على هذه الصفة.
وإذا كانت علماء الشريعة وقادة الأمة بهذه الصفة كيف يقبل قولهم في
الدين؟ أو ماذا تكون قيمة فتاويهم عند المسلمين؟ فما أراد هذا إلا أن يقرر
عند العوام أنه لا مسلم إلا هو وطائفته التي ما برحت ذليلة حقيرة، وما أدري
ما يكون وراء ذلك من قصده الخبيث، فإن الطعن في أئمة الدين طعن في الدين
وقد يكون هذا فتح باب الزندقة ونقض الشريعة ويأبى الله ذلك والمؤمنون.
وجماعة من الزنادقة يكون مبدأ أمرهم خفيا حتى تنتشر ناره ويشتعل
شناره، نسأل الله العافية.
فينبغي لأئمة المسلمين وولاة أمورهم أن يأخذوا بالحزم ويحسموا مادة
الشر في مبدئه قبل أن يستحكم فيصعب عليهم رفعه. ثم إن هذا الوقح لا
يستحي من الله ولا من الناس، ينسب إلى طوائف المسلمين ما لم يقولوه فيه
وفي طائفته، وأن شيوخهم وصوهم بذلك، وهو يزعم بكذب أنه متمسك
بالقرآن وأين قال الله في القرآن (إنه فوق السماء) وأين قال (إنه بائن من خلقه)
وأين قال (إنه فوق العرش) بهذا اللفظ وأين قال (إن القدمين فوق
الكرسي) وأين قال (إنه يسمع خلقه ويراهم من فوق) وأين قال (إن محمدا
قاعد معه على العرش) إلى بقية ما ذكره جميعه. (*)
62

والمتبع للقرآن لا يغيره ولا يغير لفظه بل يتمسك به من غير زيادة ولا
نقصان، وكذلك الأحاديث الصحيحة يقف عند ألفاظها ولا يزيد في معناها ولا
ينقص.
كذب الناظم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
وهكذا أكثر ما ذكره لم يجئ لفظه في قرآن ولا سنة، بل هو زيادة من
قد كذب فيها على الله (1) وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمها على

(1) جرت سنة العلماء في تصانيفهم أن أحدهم إذا نقل عن أحد العلماء نقلا ينص
على أنه نقله بنصه أو مع شئ من التصرف بالزيادة فيه أو النقص منه،
يفعلون ذلك حرصا على صفة الأمانة التي يهوى إلى الدرك الأسفل من الحقارة
والصغار من حفظ عنه أنه أخل بها في تافه من الأمور، فهم يحرصون على
تلك الصفة صفة الأمانة في النقل عن العلماء إخوانهم فاهمين أنهم لو خانوا
في النقل عنهم (وهم قي ينقلون عنهم دينا يدين به العباد) لهووا في هاوية
من النقص لا قرار لها ولا تقوم لهم قائمة بعدها، وهم إذا حفظوا عن واحد
مما ينتسب إلى العلم شيئا من الاخلال بتلك الأمانة سقط من نظرهم وأكنوا
له في صدورهم من الازدراء به كعالم ما يجعله في نظرهم كأنه مسخت
إنسانيته وأصبح مخلوقا آخر من المخلوقات التي لا يقع في النفوس أنها
تكون في وقت من الأوقات مصدرا لأي معنى ينتفع به بنو الإنسان من
الناحية الأدبية، هذا نظرهم لن يخون في النقل عن رجل مثلهم ما قال
الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إنه معصوم.
وإذا كان الأمر كذلك في هذا فليقل لي حضرات إخواننا المساكين
المغرورين بابن القيم كيف يلومون على غرورهم به وإمام عظيم من أئمة
المسلمين يقول عنه بعبارة صريحة فصيحة بينة لا تحتمل التأويل، لا
يقولها فقط بلسانه بل يكتبها في كتاب تبقى فيه على ممر الدهور يقرؤها
البعيد والقريب والصغير والكبير والعالم والجاهل والمؤمن والكافر يقول
تلك الكلمة هذا الإمام النادر المثال في فضله وزهده وورعه وعلمه وهو
يعلم أنه مسؤول عنها عند ربه ولي أمره في دنياه وفي أخراه، وأي كلمة هذه
الكلمة هي قوله: إن ابن القيم كذب على الله ورسوله - ليقل لي حضرات
المغرورين بابن القيم كيف يكون نظرهم إليه في الحقارة والصغار وهم
يسمعون إماما كبيرا لا ينسب إمامهم إلى الخيانة في النقل عن فريق
العلماء جميعا بل ينسب إلى الخيانة في النقل عن الله ورسوله صلى الله
عليه وسلم بقول عنه إنه يكذب عليهما ويسند إليهما ما لم يقله كتاب
ولا سنة أمع هذا يبقون على غرورهم وإفراطهم في تعظيم ذلك الرجل الذي
يقول عنه الإمام السبكي بحق: إنه ما زاد عنه الزنادقة والملاحدة
والطاعنون في الشريعة - في الخروج على الإسلام والمسلمين، أنا لا أتوهم
بعد اطلاع هؤلاء المساكين على حال هذا الرجل أن يبقى في قلوبهم مثقال
ذرة من التعظيم له والعطف عليه، كيف لا وهم مؤمنون والله يقول في
كتابه الكريم عن كل من اتصف بالإيمان (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم
الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو
عشيرتهم) (المجادلة: 22) وإني أعيذهم بالله من احترام رجل لا يزيد
عنه في الخروج على الإسلام والمسلمين لا الزنادقة ولا الملاحدة ولا
الطاعنون في الشريعة، إني أرجو إخواننا المغرورين بابن القيم أن يفهموا
أن كذب صاحبهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أصول الإسلام
ليعلموا هذا جيدا ثم ليوقنوا أن الذي يكذب في الأصول هين جدا عنده أن
يكذب في الفروع وإذن ترتفع بكل معناها عن ابن القيم فلا يجوز لمسلم أن
يعتمد عليه في نقل لا في أصول ديننا ولا في فروعه وهو على هذه الحالة
سيئة واحدة من سيئات شيخه الكبير إمامكم العظيم لا في هذا ولا عشر
نظركم ابن تيمية. ما ثبت له يثبت لشيخه بالأولى ثم بالأولى. وبناء
على هذا أؤكد عليكم أن تنظروا إلى كل كتاب خطته براعة هذا الرجل
وشيخه نظر من لا أثر للثقة في قلبه بهما وبما يكتبانه وإلا فمثلكم حينئذ
مثل من يرى اللص بعينه يسرق العظائم من أموال الناس ثم في الوقت
عينه يقول ما أصلحه وما أجله وما أوثق دينه.
63

خلاف الحق ونسب إلى علماء المسلمين البراء من السوء كل قبيح، وجعل في ذلك
طريقا للخروج من الدين والانسلاخ من الإيمان وانتهاك الحرام، وعدم اعتقاد
شئ فهل وصلت الزنادقة والملاحدة؟ الطاعنون في الشريعة إلى أكثر من هذا؟ بل
64

هذا، وإيهامه الجهال أنه هو المتمسك بالقرآن والسنة، لينفق عندهم كلامه ويخفى
عنهم سقامه.
فصل
قال: (في قدوم ركب الإيمان وعسكر القرآن). قال:
(وأتى فريق ثم قال: ألا اسمعوا قد جئتكم من مطلع الإيمان:
من أرض طيبة، من مهاجر أحمد. سافرت في طلب الإله فدلني الهادي
عليه، ومحكم القرآن مع فطرة الرحمن وصريح عقل شهدوا بأن الله منفرد
بالملك والسلطان وهو الإله الحق).
هذا صحيح.
ثم قال: (لا معبود إلا وجهه) هذا عندنا صحيح وأما عنده فالوجه غير
الذات فكيف يصح؟
ثم قال: (والناس بعد فمشرك أو مبتدع وكذلك شهدوا بأن الله ذو سمع
وذو بصر هما صفتان).
هذا نحن نقوله لكن لو طولب بالشهادة بأنه ذو سمع وذو بصر أين
يجدها (1) في ألفاظ القرآن والسنة ولو كان كذلك لم يكن بيننا وبين المعتزلة
نزاع فيه.

(1) بل الواجب على من يهاب مقام ربه أن لا يطلق عليه تعالى ما لم يرد إطلاقه
عليه في الكتاب والسنة المشهورة مع الاقتصار على الوارد فعلا كان أو صفة
نظركم ابن تيمية. ما ثبت له يثبت لشيخه بالأولى ثم بالأولى. وبناء
على هذا أؤكد عليكم أن تنظروا إلى كل كتاب خطته براعة هذا الرجل
وشيخه نظر من لا أثر للثقة في قلبه بهما وبما يكتبانه وإلا فمثلكم حينئذ
مثل من يرى اللص بعينه يسرق العظائم من أموال الناس ثم في الوقت
عينه يقول ما أصلحه وما أجله وما أوثق دينه.
65

قال: (وعموم قدرته (1) يدل بأنه هو خالق الأفعال للحيوان).
اعتقادنا أنه سبحانه خالق أفعال الحيوان ولكن كيف يدل عموم القدرة
على ذلك بل لذلك أدلة أخر. واستدلال هذا القدم بعموم القدرة من عدم شعوره.
ثم قال: (هي خلقه حقا وأفعال لهم حقا ولا يتناقض الأمران!).
عجب قد تقدم إنكاره على جهم وشيعته قولهم: إن العبد ليس بفاعل فما
هذا التناقض (2) ولعله نقل الكلامين تقليدا ولم يفهم معناهما فلذلك وقع التناقض

(1) وكم من شئ مقدور عليه لم يدخل في حيز الوجود فمن أين يدل عموم
القدرة على أنه خالق أفعال الحيوان؟ بل الدليل على ذلك قوله تعالى
(والله خلقكم وما تعملون) (الصافات: 96) وقوله تعالى (الله خالق كل
شئ) (الزمر: 62) وكم لنا من براهين عقلية على ذلك لكن الناظم بالغ
الجهل ظاهر البلادة حتى في مثل هذه المسائل الظاهرة لصغار المتعلمين
وحق مثله أن يقرع إيقافا له عند حده فالمصنف معذور إذا قال عنه إنه
حمار أو تيس.
(2) نفى عن العبد كونه فاعلا في مذهب الجهمية يعني الأشاعرة فيما سبق
وأثبته هنا مذهبا لهم، وعد اعتبار العبد فاعلا مناقضا لاعتبار أن الله
خالق لفعل العبد! مع أن التناقض في كلامه نفسه كما شرحنا حيث نفى
عنهم سابقا ما أثبت لهم هنا، وأين التناقض بين كون الله خالقا وبين
كون العبد فاعلا؟ فتدبر.
66

بينهما ويكونان من كلامين.
ثم قال: فحقيقة القدر الذي حار الورى في شأنه هو قدرة الرحمن،
واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد وقال شفى القلوب بلفظه).
وقال الناظم: (إن الجبرية والمكذبين بالقدر نظروا نظر الأعور) والكلام
في ذلك يطول وليس هذا من أهله (1) ولا هو متعلق به بل كلامه فيه فضول فيما
لا يعنيه.
فصل
قال: (أيكون أعطي الكمال وما له ذاك الكمال أيكون (2) إنسان سميع

(1) نرجو حضرات المغترين بهذا الناظم ونلح في الرجاء يقفوا هنا طويلا
ليفهموا مقدار قدوتهم الذي لا يرضون أن يكون بجانبه أحد من علماء الأمة
في العلم، فها هم أولاء يسمعون الشيخ السبكي وهو الإمام الجليل في
تقواه وفضله يقرر بصراحة أن ابن القيم ليس بأهل للكلام معه في مسألة
من المسائل العادية، وإني أعود فأرجوهم أن يتأملوا طويلا في كلمة هذا
الإمام الكبير رضي الله عنه.
(2) دليل اتصاف الله سبحانه بصفات الكمال من الكتاب والسنة والعقول
معروف عند أهله، وأما الطريق الذي سلكه الناظم في ذلك فليس، في
شئ من الأداء إلى ما يتوخاه، وإنما سلك هذا الطريق الغير النافذ ليخيل
إلى العامة أن صفات الله من قبيل صفات العبد فلا مانع من أن يكون
الباري ينظر بعين ويسمع بإذن... إلى آخر تلك المخازي كما هو مذهبه
في إثبات الصورة له تعالى مع أن تلك الصفات في العبد بآلات وجوارح
فهي في العبد مقرونة بالنقائص والاحتياج، تعالى الله عن ذلك، فليتنبه
إلى دسائس الناظم.
67

مبصر متكلم وله الحياة والقدرة والإرادة والعلم والله قد أعطاه ذاك وليس وصفه
فأعجب من البهتان بخلاف نوم العبد وجماعه وأكله وحاجة بدنه إذ تلك
ملزومات كون العبد محتاجا وتلك لوازم النقصان وكذا لوازم كونه جسدا نعم،
ولوازم الأحداث والإمكان يتقدس عنها وعن أعضاء ذي جثمان).
عدم تمييز الناظم بين اللازم والملزوم
الجسدية والحدوث والإمكان يلزم منها ثلاثتها الاحتياج والنقص، فالنوم
والجماع والأكل لوازم لذلك لا ملزومات (1) وتقديسه عن الأعضاء مع إثباته قدمين
كيف يجتمعان.
تخبط الناظم في الصوت
قال: (والله ربي لم يزل متكلما، هو قول ربي كله لا بعضه لفظا ومعنى،
ما هما خلقان).
أما كونه لم يزل متكلما وقوله مع ذلك إنه لفظ وإنه غير مخلوق فكلام من
لا يدري ما يقول (2).

(1) يا حضرات المغترين بابن القيم، اعملوا معروفا مع أنفسكم وانظروا كيف لا
يميز صاحبكم اللازم من الملزوم، أيكون حاله هكذا في الجهل ويصل
غروركم به إلى أن تعتقدوا أنه الإمام الذي لا يساميه بل لا يدانيه إمام.
(2) لأن اللفظ لا بد من أن يكون باعتبار وجوده الخارجي متعاقب الحروف فلا
يتصور العاقل في مثله قدما، نعم ليس للفظ باعتبار وجوده العلمي
والنفسي تعاقب فيكون قديما كما قال بذلك أحمد وتابعه ابن حزم، وهو
الموافق لتحقيق القوم في الكلام النفسي، إلا أن وجوده أصلي بخلاف
العلم فإنه بالإضافة إلى المعلوم. والناظم ليس بقائل بما قال به أحمد كما
يظهر من مواضع من نظمه فيكون قائلا بما هو غير معقول.
68

قال: (لكن أصوات العباد مخلوقة، فإذا انتفت الوساطة كتكلم الله لموسى
فالمخلوق نفس السمع (1) لا المسموع، هذى مقالة أحمد (يعني ابن حنبل) ومحمد
(يعني البخاري)).
قلنا نعم نوافقه على ذلك على قول الأشعري إن الكلام النفسي يسمع ولا يلزم
أن يكون هناك حرف وصوت ومن اعترف بكلام الله تعالى وأن موسى سمعه ولم يقل
إنه حرف أو صوت أو غير ذلك بل وقف عند حده وعجزه وجهله ونزه الله تعالى
عن صفات خلقه، سلم.
ثم قال في بيت الأخطل:
* يا قوم هذا غلط النصارى في الكلمة *
ونظير هذا من يقول كلامه معنى قديم غير محدث والشطر مخلوق وتلك
حروفه ناسوته (2).

(1) لا فرق بين موسى عليه السلام وبين غيره في خلق السمع فيهما، وأما
المسموع فإن كان يريد به الصوت الكيف فكذلك، وإن كان يريد ما هو
قائم بالله فجل الإله أن يقوم به عرض سيال. والوارد في الكتاب أنه
تعالى كلم موسى - بدون ذكر الصوت أصلا - والتكلم لا يستلزم الصوت
قال تعالى: (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو
يرسل رسولا) (الشورى: 51) إذ لا صوت في الوحي إلى القلب والصوت في
الثالث صوت الرسول دون المكلم فليكن الكلام من وراء حجاب كذلك وهو الذي
حصل لموسى، فمهما كان النبي بسماعه صوت الرسول إليه يعد أن الله كلمه
فلا يكون - أي مانع من أن يعد موسى كلمه ربه إذ نودي من الشجرة، فأي
زائغ يتصور حلول الله في الشجرة حتى يقول: إن الذي سمعه صوت الله؟
تعالى الله أن يكون كلامه صوتا، والآية قاضية على جميع الأوهام في هذا
البحث لمن أحسن التدبر فيها.
(2) لم يفهم الناظم كلام القوم فشنع كما شاء، قاتل الله البلادة ما أفتكها.
ظن الناظم أن المراد بالمعنى معنى النظم فبنى عليه ما شاء، مع أن مرادهم
بالمعنى هنا هو القائم بالله الشامل للدال ومدلوله باعتبار وجودهما
العلمي كما نص عليه أحمد في رده على ابن أبي دؤاد، كما ذكر في كتاب
السنة وغيره، فلا يكون للفظ الخارجي دخل أصلا في القدم على مذهب
إمامه نفسه، نعم يوجد من يسير شير النصارى في الحلول بين الذين تكلموا
في القرآن وهو من يقول إن الصوت من الصوت قديم وإن الله تعالى قرأ
على لسان كل قارئ كما ذهب إلى ذلك السالمية، تعالى الله عما يقول
الظالمون. والناظم من أقرب المبتدعة إليهم.
69

أبصر هذه الجرأة وتشبيهه أقوال العلماء بأقوال النصارى وجهله وكذبه بأن
الحروف كالناسوت. والمعنى قائم بذات الرب سبحانه وتعالى والألفاظ بالقارئ لا
يتحد أحدهما بالآخر ولا يحل فيه كما يقول النصارى تعالى الله عن قولهم
فصل
قال: (الكلام قيل بغير مشيئة، وإنه معنى إما واحد وإما خمسة
معان، وقيل: إنه لفظ مقترن فالسين مع الباء، والذين قالوا بمشيئة صنفان
أحدهما جعله خارج ذاته وهو قول الجهمية ومتأخري المعتزلة والثانية في ذاته
وهم الكرامية، وهم نوعان أحدهما جعله مبدوءا به حذرا من التسلسل فلذلك
قالوا له أول والآخرون كأحمد ومحمد قالوا: لم يزل متكلما (1) بمشيئة وإرادة.

(1) افترى الناظم عليهما تمويها وتحميلا على لفظ مجمل ما لا يحتمله وهما
كباقي أهل السنة يقولان: إن الله متصف بصفة الكلام أزلا كاتصافه
بباقي صفاته الأزلية وهو يتكلم متى شاء، وهما بعيدان من المماحكات
الزائفة، والله سبحانه سريع الحساب وشديد العقاب أزلا ولا يستلزم ذلك قدم
البعث وهو سبحانه لم تحدث له صفة بخلق الخلق وهو خالق أزلا قبل أن
يخلق الخلق.
70

وتعاقب (1) الكلمات).
هذا هو الذي ابتدعه ابن تيمية والتزم به حوادث لا أول لها، والعجب قوله مع
ذلك إنه قديم، وحين النطق بالباء لم تكن السين موجودة، فإن قال النوع قديم
وكل واحد من الحروف حادث عدنا إلى الكلام في كل واحد من حروف القرآن، فيلزم
حدوثها وحدوثه، فالذي التزمه من قيام الحوادث بذات الرب لا ينجيه بل يرديه، وهذا
آفة التخليط والتطفل على العلوم وعدم الأخذ عن الشيوخ.
كلام واف في أحاديث الصوت
ثم قال: (واذكر حديثا في صحيح محمد ذاك البخاري فيه نداء الله (2) يوم
معادنا بالصوت).

(1) فيكون محلا للحوادث، تعالى الله عن ذلك، وبن تيمية تابع الكرامية في
ذلك وأربى عليهم في الزيغ بدعوى القدم النوعي في الكلام، مع أنه لا
وجود للكلي إلا في ضمن الأفراد، فلا معنى لوصف النوع بالقدم بعد
الاعتراف بحدوث كل فرد من أفراده وقد أطال العلامة قاسم بن قطلويغا
الحافظ فيما كتبه على المسايرة الكلام في ذلك فلا نطيل الكلام بما هو
في متناول أيدي صغار التلاميذ. والناظم من أتبع الناس لابن. تيمية في
سخافاته، وقد نقل ابن رجب في طبقاته عن الذهبي في حق ابن تيمية أنه
أطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها ا ه‍،
فيدور أمره بين أن يكون مصابا في عقله أو دينه، فتبا لمن يتخذ مثله
قدوة.
(2) إن كان يريد حديث جابر عن عبد الله بن أنيس (يحشر الله العباد فيناديهم
بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب...) الحديث، فهو حديث
ضعيف علقه البخاري بقوله ويذكر عن جابر دلالة على أنه ليس من شرطه
ومداره على عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف باتفاق، وقد انفرد
عنه القاسم بن عبد الواحد وعنه قالوا إنه ممن لا يحتج به. وللحافظ أبي
الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في الحديث المذكور، وأما إن
كان يريد حديث أبي سعيد الخدري (يقول الله يا آدم يقول لبيك وسعديك
فينادى بصوت إن الله يأمرك...) الحديث، فلفظ ينادى فيه على صيغة
المفعول جزما بدليل (إن الله يأمرك) ولو كان على صيغة الفاعل لكان
إني آمرك كما لا يخفى على أن لفظ (صوت) انفرد به حفص بن غياث
وخالفه وكيع وجرير وغيرهما فلم يذكروا الصوت، وسئل أحمد عن حفص
هذا فقال كان يخلط في حديث كما ذكره ابن الجوزي، فأين الحجة
للناظم في مثله؟ على أن الناظم نفسه خرج في حادي الأرواح - وفي
هامشه إعلام الموقعين - (2 - 97) عن الدارقطني من حديث أبي موسى
(يبعث الله يوم القيامة مناديا بصوت يسمعه أولهم وآخرهم إن الله
وعدهم...) الحديث، وهذا يعين أن الإسناد مجازي على تقدير ثبوت
الحديثين فظهر بذلك أن الناظم متمسك في ذلك بالسراب والمؤلف تساهل في
الرد عليه وفي (القواصم والعواصم) لابن العربي ما يقصم ظهر الناظم في
(2 - 29) منه.
71

اللفظ الذي في البخاري (فينادي بصوت) وهذا محتمل لأن يكون الدال
مفتوحة والفعل لم يسم فاعله وأن يكون مكسورة فيكون المنادي هو الله تعالى
فنقله عن البخاري نداء الله ليس بصحيح، والعدالة في النقل أن ينقل المحتمل
محتملا، وإذا ثبت أن الدال مكسورة فلم يقول إن الصوت منه؟ فقد يكون من
بعض ملائكته أو من يشاء الله.
ثم قال: (أيصح في عقل وفي نقل (1) نداء ليس مسموعا لنا).

(1) النداء طلب الإقبال عند النحاة واللغويين فيجري مجرى القول وكم في
الكتاب والسنة مما يدل على القول والكلام بدون صوت كما نسرد بعض ذلك
عند التدليل على الكلام النفسي وقول صاحب القاموس: النداء الصوت
تسامح منه، وكم له من مسامحات معروفة عند أهل العلم.
72

أما العقل فلا مدخل له في ذلك وأما النقل فقد قال تعالى (إذ نادى ربه نداء
خفيا " (1).
ثم قال: (والله موصوف بذاك حقيقة هذا الحديث ومحكم القرآن).
ليس في الحديث ومحكم القرآن أنه حقيقة.
قال: (ورواه عندكم البخاري المجسم بل رواه مجسم فوقاني)،
هذا بهت لنا في أن البخاري مجسم عندنا والله ما اعتقدنا فيه ذلك ولا في
أحمد الذي عناه بالفوقاني ولكن هذا بهت لنا وإساءة على البخاري ومن فوقه.
ثم قال: (وأذكر حديثا لابن مسعود صريحا إنه ذو أحرف).
هو حديث في الترمذي: من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة وقال حسن
صحيح ووقفه بعضهم على ابن مسعود، وعلى كل تقدير الحرف في قراءة
القارئ، وقد تقدم من هذا الناظم أن الصوت فعل القارئ فلا وجه لاحتجاجه
هنا، ولابن مسعود حديث آخر أنه على سبعة أحرف، والمراد نزوله بها ثم قال:
(وانظر إلى السور التي افتتحت بأحرفها لم يأت قط بسورة إلا أتى في أثرها
خبر عن القرآن).
هذا منتقض بسورة (كهيعص) والعنكبوت والروم و (ن).
(فصل)
قال: (إنه يلزم من نفى صفة الكلام نفى الرسالة (2)).
وهو جهل منه وإن كنا لا ننفي صفة الكلام.

(1) الآية: 3 من سورة مريم.
(2) وقد نص الله سبحانه على أن تكليم الله سبحانه منحصر في الوحي
إلى القلب وإرسال ملك يبلغ كلامه، والكلام وراء حجاب وليس في واحد
منها صوت للمكلم سبحانه فمن أين يلزم من نفى ما أثبته المجسمة من
حرف وصوت في الرسالة بل عد الإله سبحانه محلا للأعراض هو المستلزم
لنفي الصانع فضلا عن الرسالة، قاتل الله هذه الفئة السخيفة، ما أجهلهم
بما يجوز في الله وما لا يجوز،
73

(فصل)
وقال: (إنه يلزمهم تشبيه الرب بالجماد الناقص)،
وهذا بلادة. (1)
قال: (فصل)
في إلزامهم (2) أن كلام الخلق حقه وباطله عين كلام الله سبحانه بخلقه
أفعال العباد).
ما هذا إلا..
(فصل)
في التفريق بين الخلق والأمر قال: (وكلاهما عند المنازع واحد).

(1) اكتفى بوصفه بالبلادة لئلا يوقع عليه الحكم بالكفر لو كان يعقل ما يقول،
لأن إثبات الحرف والصوت لله تشبيه له بالإنسان وتشبيه الله بمخلوق كفر
والصوت عرض سيال محال أن يقوم بالله سبحانه بل هو متكلم بكلام
نفسي ليس له صوت.
(2) وجه هذا الالزام لا يظهر إلا لمن هو على شاكلة الناظم في تخيل ما هو غير
معقول ولو ألزم القائلين بالحرف والصوت أن التالي قد يكون لاحنا قبيح الأداء
فلا يتصور في صفة الله سبحانه مثل ذلك فيبطل القول بأن كلام الله
حرف وصوت لكان قوله هذا ملزما حقيقة وأما إلزام الناظم هنا فقلب
للحقيقة بل هذيان ظاهر وأمام هذا لم يسع المصنف إلا أن يخرج الناظم من
عداد العقلاء ومن الصعب جدا على العالم خطاب من لا يفهم.
74

المنازع هم المعتزلة، ولسنا منهم، لكن قوله: إنهما عندهم (1) واحد ليس بصحيح.
(فصل)
قال: (والله أخبر في الكتاب بأنه منه).
قلنا: الذي في الكتاب (تنزيل الكتاب من الله) (2)..، ونحوه وليس فيها
الكتاب منه.
ثم قال: (والمجرور ب (من) (3) نوعان: عين ووصف قائم بالعين، فالعين
خلقه والوصف قام بالمجرور).
قوله قائم بالعين ليس بصحيح فقد يكون قائما بنفسه (؟).
(فصل)
وقيعة الناظم وشيخه في ابن حزم
قال: (وأتى ابن حزم فقال ما للناس قرآن ولا اثنان بل أربع كل يسمى
بالقرآن وذاك قول بين البطلان. هذا الذي يتلى والمرسوم والمحفوظ والمعنى القديم
فالشئ شئ واحد لا أربع فدهى ابن حزم (4) ملة القرآن).

(1) وهم يفرقون بين الأمر التكليفي والأمر التكويني، وقد ذكروا فيما ألفوه
في أصول الفقه ما هو موجب الأمر التكليفي. وقوله تعالى (ألا له الخلق
والأمر) (الأعراف: 54) يحتمل معاني ومن أجلاها أنه هو الذي خلق
الخلق وإليه فقط أن يأمرهم بما يشاء وأولو الأمر إنما يستمدون الأمر من
أمره تعالى فلا يكون للآية دخل في هذا البحث أصلا وإن كان بعضهم
يلهج بذلك.
(2) الآية: 2 من سورة غافر.
(3) يريد أن ما سبق على المجرور ب (من) إما أن يكون عينا أو وصفا،
فالعين مخلوقه تعالى، قال: والوصف قائم به تعالى لكن في العبارة
ارتباك، وكذا عبارة المصنف فليحرر.
(4) ومن المضحك البكى وقيعة الناظم وشيخه في ابن حزم وهو إمامهما في
غالب المسائل الفرعية التي شذا بها عن الجماعة وأنت تراهما يطعنان فيه
طعنا مرا في المسائل الاعتقادية، وهو أقرب إلى الحق منهما في غالب تلك
المسائل ولا سيما في مسألة القرآن وهو من المنزهين دونهما وهو عدو لدود
للمجسمة حتى إنهم تراهم ينبزون هذا الظاهري بالقرمطة، وفي الفصل
أبحاث جيدة تتعلق بقمع أهل التجسيم لعلها تكون كفارة عن بعض
قسوته وشذوذه ومخالفاته لجمهور العلماء وقول ابن حزم بكون القرآن
مشتركا بين تلك الأربعة موافق لكتاب الله، قال الله تعالى (بل هو
آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) (العنكبوت: 49) وقال تعالى:
(بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) (البروج: 21، 22) وقال
تعالى (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن) (الأحقاف: 29)
فصدور العلماء واللوح المحفوظ ولسان الرسول صلى الله عليه وسلم
مخلوقة مع ما فيها، فالقديم هو ما قام بالله سبحانه دون ما في
الصدور والألواح والألسنة، وهذا في غاية من الظهور. وغلط ابن حزم
إنما هو في قوله بعموم المشترك هنا.
75

هذا لم يفهم كلام ابن حزم، مراد ابن حزم أن القرآن هو المعنى وهو واحد
له وجود في نفسه ويتلى ويرسم ويحفظ فيوجد في اللفظ والخط والصدر ويطلق
على الثلاثة أيضا قرآن فاللفظ مشترك بين الأربعة.
ثم قال ما معناه: (إن اللفظ يطلق على المصدر ويطلق على الملفوظ
وألفاظ العباد كذلك، فالأول مخلوق والثاني (1) غير مخلوق وهو القرآن وعلى

(1) يعني الملفوظ، فإن كان يريد وجوده العلمي في علم الله فقدمه بهذا
الاعتبار موضع اتفاق، وإن كان يريد الصوت الصادر من فم اللافظ فهو
حادث قطعا، وأنى يتصور القدم لعرض محسوس المبدأ والمقطع ومذهب
الناظم اعتبار كلام الله صوتا صادرا من الله حادثا شخصا قديما نوعا،
تعالى الله عن ذلك. ولم يقل به أحد قبل شيخ الناظم وتابعه الناظم
المسكين كما يظهر من مواضع في هذا الكتاب فقوله (والثاني غير
مخلون) لا يصح بالنظر إلى الصوت وهو ظاهر والله سبحانه هو
الهادي.
الخلاف بين أحمد والبخاري في اللفظ
76

ذلك حمل كلام أحمد (1) والبخاري).
الكلام اللفظي
قلنا أما المصدر فمخلوق بلا شك (2) وهو فعل العبد وأما الملفوظ من فم
العبد فهو الصوت الخارج منه، المخلوق لله تعالى، وقولنا له كلام الله كما يقال إذا
قرأ المحدث (إنما الأعمال بالنيات) هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإذ

(1) والمعروف بين أهل العلم أن البخاري كان يقول بحدوث اللفظ - يعني لفظ
التالي الدال دون تعرض للمعنى المدلول عليه وضعا أو عقلا - وأحمد يبدع من
يقول ذلك وتبديع هذا وقول ذاك متواردان على شئ واحد، والحق مع
البخاري في تلك المسألة وإن كان الذهلي وأصحابه جميعا هجروه على
ذلك، راجع كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم وليس بقليل بين أهل
العلم الذين يقولون بأن المعنى المصدري أمر نسبي من قبيل الحال فعندهم
أن اللافظ هو العبد وهو مخلوق الله والملفوظ هو الصوت المكيف الخارج
من فم العبد وهو مخلوق الله تعالى أيضا واللفظ بالمعنى المصدري نسبة
بين اللافظ والملفوظ فلا يتعلق به الخلق عندهم وقول الناظم والمصنف
بخلقه على مذهب نفاة الحال. وتفصيل هذا البحث فيما كتبناه على
الاختلاف في اللفظ.
(2) يعني عند نفاة الحال، راجع شرح المواقف.
77

قرئ كتاب ملك علينا نقول هذا كتاب الملك.
قال: (فصل)
في مقالة الفلاسفة في القرامطة:
هذا لا يتعلق بنا فعليهم غضب الله، ولكن غرضه أن يخلط الحق بالباطل
حتى يروج (1) الباطل.
قال: (فصل)
في الاتحادية:
هو من النمط الذي قبله.
ثم قال: (هذي مقالات الطوائف كلها فاعطف على الجهمية المغل الذين
خرقوا سياج العقل والقرآن شرد (2) بهم من خلفهم وأكسرهم). ثم ذكر مذاهب
المعتزلة ومذاهب الأشعرية وهما اللذان يسميهما الجهمية.
ثم قال: هذا الذي قد خالف العقول والمنقول والفطرات لمإنسان، عأما الذي
قد قال إن كلامه ذو أحرف قد رتبت ببيان وكلامه بمشيئة وإرادة كالفعل منه
كلاهما (3) سيان فهو الذي قد قال قولا يعلم العقلاء صحته بلا نكران، فلأي شئ
كان ما قلتم أولى؟ ولأي شئ كفرتم أصحاب هذا القول؟ فدعوا الدعاوى
وابحثوا معنا وارفوا مذاهبكم إن أمكن).

(1) هل يعد من علماء الإسلام بل من عامة المسلمين من يروج الباطل وهو
يعلم أنه باطل؟
(2) التشريد المذكور في الآية مأمور أن يوقعه النبي صلى الله عليه وسلم
بالكفار. ولينظر القارئ كيف يأمره حضرة الناظم أن يوقعه بجماعة
المسلمين الأشاعرة وغيرهم من أجل أنهم لا يوافقونه في ضلاله.
(3) هذا إنما يصح في الكلام اللفظي الحادث باعتبار وجوده الخارجي وأما
باعتبار وجوده العلمي فقديم، كما سبق، قال أبو بكر الباقلاني في النقض
الكبير: (من زعم أن السين من باسم الله بعد الباء والميم بعد السين
الواقعة بعد الباء لا أول له فقد خرج عن المعقول وجحد الضرورة وأنكر
البديهة، فإن اعترف بوقوع شئ فقد اعترف بأوليته، فإذا ادعى أنه لا
أول له فقد سقطت محاجته وتعين لحوقه بالسفسطة، وكيف يرجى أن
يرشد الدليل من يتواقح في جحد الضروري ا ه‍) راجع الشامل لإمام
الحرمين ونجم المهتدي لابن المعلم القرشي. وفي شعب الإيمان للحليمي (ومن
زعم أن حركة شفتيه أو صوته أو كتابته بيده في الورقة هو عين كلام الله
القائم بذاته فقد زعم أن صفة الله قد حلت بذاته ومست جوارحه وسكنت
قلبه، وأي فرق بين من يقول هذا وبين من يزعم من النصارى أن الكلمة
اتحدت بعيسى عليه الصلاة والسلام ا ه‍) ليحفظ القارئ هذا ثم أرجوه
أن يقرأ قول الموفق الحنبلي صاحب المغني في مناظرته المسجلة في المجموعة
المحفوظة تحت رقم 116 بظاهرية دمشق ونصه (قال أهل الحق: القرآن
كلام الله غير مخلوق، وقالت المعتزلة هو مخلوق، ولم يكن اختلافهم إلا
في هذا الموجود دون ما في نفس الباري مما لا ندري ما هو ولا نعرفه).
وعن الموفق هذا يقول شيخ الناظم ما حل دمشق مثله بعد الأوزاعي وأنت
ترى كلامه في المسألة وإذا كان هذا حال الموفق فماذا تكون حال الناظم
وشيخه؟.
78

ليت شعري من هو الذي من العقلاء يعلم صحة كلام ذي أحرف مترتبة
مفعول قديم ولكن هذا صبي العقل غره، هجام على الحقائق بهواه.
ثم قال: (فاحكم - هداك الله - بينهم لا تنصرن سوى الحديث وأهله هم
عسكر القرآن. فنقول هذا القدر قد أعيا على أهل الكلام وقاده أصلان،
أحدهما: هل فعله (1) مفعوله أو غيره، قولان والقائلون بأنه عينه فروا من الجدث

(1) إن كان المراد بالفعل ما هو بالمعنى المصدري من قوله تعالى (فعال لما
يريد) (هود: 107) فليس في فرق الإسلام من ينفي الفعل بهذا المعنى
عن الله سبحانه بل إثباته موضع اتفاق بين الفرق كلها وإن كان يريد ما
هو مبدأ هذا المعنى فهو صفة قديمة غير الإرادة والقدرة عند طوائف من
أهل الحق وهي المسماة عندهم بصفة التكوين، وأما الأشاعرة فيرجعونها
إلى القدرة وللقولين حظ من النظر وأما إن كان المراد بالفعل الفعل الحاصل
بالمصدر أعني الأثر المترتب على التكوين أو القدرة فلا شك أنه مفعول
الله ومخلوقه وغير قائم به أصلا، فأفعال الله بهذا المعنى هي
مخلوقاته حتما، ودعوى قيامها بالله لا تصدر ممن يعي ما يقول ومن
المجسمة أناس يظنون أن أفعال الله تكون بالحركة كأفعال العباد وتصدر منه
بالعلاج والمزاولة مع أن الجوارح والآلات إنما وضعت للعباد ليتوصلوا بها إلى
قصدهم وهي كلها نقص وآفات، وأما من له الحول والقوة جل جلاله فإنما
هو إذا أراد شيئا قال له كن فيكون بدون آلة ولا جارحة ولا علاج ولا
مزاولة. يريد الشئ فيحدث. وبهذا البيان ظهر ما في كلام الناظم من
الاختلال ووجود الضلال.
79

في الصفات وحقيقة قولهم تعطيل الخالق عن فعله إذ فعله مفعوله لكنه ما قام
به فعلى الحقيقة ما له فعل إذ المفعول منفصل عنه. والقائلون بأنه غيره
طائفتان: إحداهما قالت قديم قائم بالذات، سموه تكوينا، وهم الحنفية. والآخرون
رآه حادثا قام بالذات، وهم نوعان: أحدهما جعله مفتتحا به حذرا من التسلسل
وهو قول الكرامية، والآخرون أهل الحديث كأحمد (1) بن حنبل قال: إن الله لم يزل

(1) نسبة القول بقيام الفعل الحادث بالله سبحانه إلى أحمد وجعفر الصادق
وابن عباس رضي الله عنهم نسبة كاذبة وفرية مكشوفة. وقول أحمد (إن
الله لم يزل متكلما إن شاء) بمعنى أن الكلام صفة قديمة وأنه تعالى يكلم
أنبياءه متى شاء بدون حرف ولا صوت بالوحي ومن وراء حجاب أو بإرسال
رسول (وهو متكلم خالق قبل أن يكلم الرسل ويخلق الخلق) كما صرح
بذلك غلام الخلال من قدماء الحنابلة في المقنع، وأما عثمان بن سعيد
الدارمي السجزي مؤلف النقض على المريسي فكان فيما سبق لا يخوض في
صفات الله سبحانه كما هو طريقة السلف، ثم انخدع بالكرامية وأصبح،
مجسما مختل العقل عند تأليفه النقض المذكور، وهو حقيق بأن يكون قدوة
للناظم ونسجل هنا على الناظم اعتقاده قيام الحوادث بذات الله سبحانه
وتعالى واعتقاده أن هذه الحوادث لا أول لها، وإني ألفت نظر حضرة
القارئ إلى هذه العقيدة وهل تتفق مع دعوى أنه إمام دونه كل إمام؟
بل هل تتفق هذه العقيدة مع دعوى أنه في عداد المسلمين فقط؟
الرد على عثمان بن سعيد في إثباته الحركة
80

متكلما إن شاء، جعل الكلام صفة فعل قائمة بالذات لم يفقد من الرحمن،
وكذاك نص على دوام الفعل وكذا ابن عباس وجعفر الصادق و (عثمان بن سعيد)
الدارمي وصدق فالحياة والفعل متلازمان وكل حي (1) فعال إلا إذا عرضت آفة أو
قسر، أو لست تسمع قول كل موحد (يا دائم المعروف قديم الاحسان) أوليس فعل
الرب تابع وصفه وكماله؟ أفذاك ذو حدثان؟ وكماله سبب الفعال وخلقه أفعالهم
سبب الكمال الثاني، أو ما فعال الرب عين كماله؟ أفذاك ممتنع على المنان أزلا
إلى أن صار فيما لم يزل ممكنا؟ تالله قد ضلت عقول القوم إذ قالوا بهذا،
وتخلف التأثير بعد تمام موجبه محال والله ربي لم يزل ذا قدرة ومشيئة وعلم

(1) ليست حياة الله كحياة العباد ولا فعله تعالى كأفعالهم، وإدخال الله
سبحانه في مثل هذه الكلية لا يصدر إلا ممن هو مريض القلب بمرض
التشبيه، وعثمان بن سعيد هذا يصرح في نقضه المنقوض بأن كل حي
فعال متحرك ويثبت لله الحركة ويظهر من ذلك كيف يتصور فعل الله،
والناظم يقتدي بمثل هذا المخذول، ولعل القارئ ازداد بصيرة وعلم من
هذا الكلام بأن الحوادث لا أول لها في نظر هذا الناظم لأن حياة الله لا
أول لها فيكون فعله لا أول له، وهذه المسألة من المسائل التي كفر علماء
الإسلام الفلاسفة بها فليعرفه المغرورون بابن القيم ثم ليعرفوه.
81

وحياة وبهذه الأوصاف تمام الفعل فلأي شئ تأخر فعله مع موجب (1) قد تم والله
عاب على المشركين عبادتهم ما ليس بخالق ولا ينطق، والله إله حق دائما،
أفعنه الوصفان (2) مسلوبان أزلا، هذا المحال إن كان رب العرش لم يزل إله الخلق،
فكذا لم يزل متكلما فاعلا - والله - ما في العقل ما يقضي لذا بالرد بل ليس
في العقول غير ثبوته، وما دون المهيمن حادث ليس القديم سواه والله سابق
كل شئ ما ربنا والخلق مقترنان والله كان وليس شئ (3) غيره لسنا نقول كما يقول

الرد على قول الناظم بالإيجاب
(1) وهذا تصريح منه بأن الله سبحانه فاعل بالإيجاب انخداعا منه بقول
الفلاسفة القائلين بقدم العالم وقد أتى أهل الحق بنيانهم من القواعد، وإن
كان الناظم المسكين بعيدا عن فهم أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء. ثم يناقض
الناظم نفسه ويثبت لله الاختيار وهو في الحالتين غير شاعر بما يقول،
تعالى الله عما يقول. وأرجو أن يفهم القارئ هنا معنى لا بد من
اعتقاده وهو أن القائل بأن الله فاعل بالإيجاب في ناحية ودين الإسلام
كله في ناحية، وأي مسلم يستطيع أن يقول إن ربنا مرغم على فعل ما
يفعله.
(2) ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري
له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالق ولا مخلوق وهكذا كما نقله
الطحاوي عن فقهاء الملة لكن أين للمجسم المسكين أن يفهم هذه الحقائق.
(3) والمسلمون جميعهم يعتقدون إن حياة الله لا افتتاح لها، وقد تقدم
للناظم أنه يقول: إن كل حي فعال وإن الحياة والفعل متلازمان. ومعنى هذا
أن الفعل لا افتتاح له أيضا فإذن كيف يتفق قوله هذا السابق مع قوله
هنا (كان الله وليس شئ غيره) فليعرف ذلك أهل الغرور بابن القيم
ثم ليعرفوه.
82

اليوناني بدوام هذا العالم المشهود والأرواح في أزل وليس بفان، واندفع في ذكر
النصير الطوسي لعنه الله فهو معذور فيه، لكنه لا فرق بينه وبين القائلين بقدم
العالم إلا أنه لا يقول بقدم هذه الأجسام المشاهدة والأرواح وهذه الأجسام والأرواح
كالحوادث اليومية التي أجمع كل عاقل على حدوثها، فلو جاء زنديق وقال إنه
لم يزل أجسام وأرواح خلقا من قبل خلق وإنه كان قبل هذه السماوات سماوات غيرها
لا إلى نهاية، وأرواح غير هذه الأرواح لا إلى نهاية لم يكن بينه وبين هذا الناظم
فرق إلا أن هذه في غير ذاته - تعالى، وما قاله الناظم، بحدوثه في ذاته سبحانه
وتعالى والتسلسل عنده جائز فبم ينكر على الزنديق الذي يدعي ذلك؟ وأي فرق
بين قوله وقوله؟ فإن التزم جوازهما فأي فرق بينهما وبين جرم هذه السماء؟ (1)
وقوله (تخلف التأثير بعد تمام موجبه) ففيه اعتراضان: أحدها أن المؤثر خلاف
الفاعل بالاختيار والله تعالى فاعل بالاختيار والثاني قوله (بعد تمام موجبه) إن
أراد الايجاب الذاتي فهو قول الفلاسفة والله فاعل بالاختيار، ومن ضرورة
الفعل بالاختيار تأخر الفعل عن الاختيار، والتأخر يقتضي الحدوث فكيف
يتخلص عن هذه اللكنة. (وإن أراد الوجوب عن الله فسياق العبارة ينافيه).
فصل
القول في تجويز التسلسل في الماضي
قال: (فلئن زعمتم أن ذاك تسلسل قلنا صدقتم وهو ذو إمكان كتسلسل
التأثير في مستقبل، وهل بينهما (2) فرق؟ وأبو علي (الجبائي) وابنه (أبو هاشم)

(1) ولعل المصنف لم ير جزء (حوادث لا أول لها) لابن تيمية إذ قوله فيه خطر
جدا.
(2) لو كان الناظم سعى في تعلم أصول الدين عند أهل العلم قبل أن يحاول
الإمامة في الدين لبان له الفرق بين الماضي والمستقبل في ذلك، ولعلم
أن كل ما دخل في الوجود من الحوادث متناه محصور وأما المستقبل فلا
يحدث فيه حادث محقق إلا وبعده حادث مقدر لا إلى غير نهاية بخلاف
الماضي كما سبق وسيأتي كلام أبي يعلى وغيره في ذلك.
83

والأشعري وابن الطيب (الباقلاني) وجميع أرباب الكلام الباطل فرقوا وقالوا ذلك
فيما لا يزال حق وفي الأزل ممتنع لأجل تناقض الأزلي والأحداث، فانظر إلى
التلبيس في ذا الفرق ترويجا على العوران والعميان ما قال ذو عقل بأن ذا أزلي
لذي ذهن ولا أعيان بل كل فرد فهو مسبوق بفرد ونظيره كل فرد ملحوق بفرد
فالآحاد تفنى والنوع (1) لا يفنى أزلا وأبدا وتعاقب الآنات ثابت في الذهن كذا في
العين، فإن قلتم الآنات حادثة فيقال ماذا تعنون بالآنات؟ هل تعنون مدة من
حين إحداث السماوات؟ ونظنكم تعنون ذاك ولم يكن قبلها شئ من الأكوان،
هل جاءكم في ذاك من أثر ومن نص ومن نظر ومن برهان؟ إنا نحاكمكم إلى
ما شئتم منها أوليس خلق الكون في الأيام أوليس ذلكم الزمان بمدة، فحقيقة
الأزمان (2) نسبة حادث لسواه، واذكر حديث السبق بخمسين ألف سنة سابقة،

(1) عدم فناء النوع في الأزل بمعنى قدمه، وأين قدم النوع مع حدوث أفراده؟
وهذا لا يصدر إلا ممن به مس بخلاف المستقبل وقد سبق بيان ذلك،
وقال أبو يعلى الحنبلي في المعتمد: (والحوادث لها أول ابتدأت منه
خلافا للملحدة ا ه‍). وهو من أئمة الناظم فيكون هو وشيخه من
الملاحدة على رأي أبي يعلى هذا فيكونان أسوأ حالا منه في الزيغ
نسأل الله السلامة.
الرد على كلام الناظم في الزمان
(2) بل الزمان متجدد معلوم يقدر به متجدد مبهم إزالة لإبهامه عند
المتكلمين. وجوهر مجرد عند بعض الفلاسفة، وعرض غير قار الذات عند
جمهورهم أو هو الفلك الأعظم أو حركته أو مقدار تلك الحركة عند طوائف
منهم، وقول الناظم لا يطابق واحدا منها والكلام في الزمان والمكان طويل
الذيل مبسوط في موضعه، فكان الناظم يريد أن يقول: إن الزمان كان
موجودا قبل هذه السماوات بدليل تك الأحاديث فلا مانع من وجود حوادث
لا أول لها متعاقبة في الماضي في آنات متعاقبة لا أول لها، وهو قول
الدهرية نفاذ الصانع. فيما ترى ماذا يريد من كون العرش قبل القلم فإن
كان أراد أن يجعل لله عرشا يستقر عليه أزلا إما بقدم العرش قدما
نوعيا، كما روى الدواني عن ابن تيمية أو قدما شخصيا لورود (أول
ما خلق الله القلم) فحاشاه أن يستقر على عرش استقرار تمكن حادثا كان
العرش أو غير حادث. تعالى الله عن هذا وذاك. ولأهل العلم كلام واف
في الأحاديث الواردة في أول ما خلق الله تعالى ولا غرض لنا يتعلق
بذلك هنا. والعرش هو والمخلوق الثالث عند محققي أهل العلم بالحديث.
84

وعرش الرب فوق الماء من قبل السنين بمدة وزمان والحق أن العرش كان قبل
القلم والذين لم يقولوا بدوام فعله (1) عموا عن القرآن والحديث ومقتضى
العقول وفطرة الرحمن والبرهان وأسسوا أصل الكلام وبنوا قواعدهم عليه
وقادهم قسرا إلى التعطيل، نفي القيام لكل أمر حادث بالرب خوف تسلسل
الأعيان فيسد ذاك عليهم بزعمهم إثبات الصانع إذا أثبتوه بخلاف الأجسام،
هذى نهايات أقدام الورى في ذا المقام الضيق فمن يأتي بفتح ينجي الورى من

(1) القول بدوام فعله تعالى في جانب الماضي قول بحوادث لا أول لها، وقد
سبق تسخيف ذلك مرات، قال القاضي أبو يعلى الحنبلي: (لا يجوز وجود
موجدات لا نهاية لعددها سواء كانت قديمة أو محدثة خلافا للملحدة،
والدلالة عليه أن كل جملة لو ضممنا إليها خمسة أجزاء مثلا لعدم ضرورة
أنها زادت، وكذلك عند النقص، وإذا كان كذلك وجب أن تكون متناهية
بجواز قبول الزيادة والنقصان عليها، لأن كل ما يأتي فيه. الزيادة والنقصان
وجب أن يكون متناهيا من جهة العدد ا ه‍) راجع المعتمد المحفوظ
تحت رقم 45 من التوحيد في ظاهرية دمشق وهذا بالنظر إلى الماضي كما
سبق فتبا لمن يكون أسوأ حالا في هذه المباحث من أبي يعلى المذكور حاله
في دفع شبه التشبيه لابن الجوزي.
85

الحيرة. انتهى كلامه في هذا الفصل.
وقد صرح بقبائح منها إمكان التسلسل ومنها نسبة أكابر علماء الأشعرية
إلى التلبيس ومنها نسبة ذلك إلى القرآن والسنة وأنه لم يجئ أثر ينص على
العدم المتقدم وقد جاء (كان (1) الله ولا شئ معه) والشئ يشمل الجسم
والفعل والنوع والآحاد.
فصل
قال: (هذا (2) الدليل هو الذي أرادهم ما زال أمر الناس معتدلا إلى أن
دار في الأوراق فرفعت لوازمه قواعد الإيمان وتركوا حق الأدلة وهي في القرآن
ودليلهم لم يأت به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بل حدث على لسان
جهم وحزبه).
ينبغي أن يقال لهذا الردئ انتصب للدليل حتى يرى ما عنده.
قال (فصل)
في الرد على الجهمية المعطلة القائلين بأنه ليس على العرش إله يعبد ولا
فوق السماوات إله يصلى له ويسجد).
* (هامش) (1) أخرجه ابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة عن بريدة وفي رواية ولا شئ
غيره.
(2) وهو القول بأن الجسم لا يخلو من حادث في الاحتجاج على حدوث العالم
وانتهائه إلى محدث واجب الوجود منزه عن الجسمية والجسمانيات، وهو
حجة الله التي آتاها إبراهيم مهما تقولت المجسمة وهذت في ذلك، وقد
اعترف بتلك الحجة مثل ابن حزم مع كونه ظاهريا فما للناظم لا يتابعه
في ذلك وهو يتابعه في شواذه الباطلة؟ فلعله اتخذه قدوة في الباطل
دون الحق. (*)
86

هذا المدبر يأخذ الكلام يقلبه كما يقلب الحقائق، فإنه جعل مصب كلام
خصومه إلى نفي الإله وهم أثبتوا الإله ونفوا كونه فوق العرش وقوله (المعطلة)
يوهم به أنهم معطلة العالم من الصانع وهو يريد به معطلة الخالق من قيام الفعل
الحادث به فما أكثر تلبيسه (1) وتدليسه ومراده بالجهمية (المعتزلة والأشعرية)
وليس أحد من المعتزلة اليوم عندنا ظاهرا فلا كلام له إلا مع الأشعرية الذين
أكثر الخلق يقتدون بهم، يريد تنقيصهم والطعن فيهم، ويأبى الله إلا أن ينم
نوره.
قال: (والله كان وليس شئ (2) غيره وخلق البرية، فسل المعطل هل هي

(1) وكيف يرضى العاقل أن يعد من العلماء - وهم أمناء الله في أرضه -
رجلا كثير الغش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كثرة يتعجب منها أئمة
الإسلام وليس هذا الغش في أمر من أمور الدنيا ولو كان هذا لهان الأمر
ولكنه غش في صميم الإسلام فليعرف ذلك المغرورون بابن القيم ثم
ليعرفوه.
(2) وهذا يناقض القول بحوادث لا أول لها ودوام الفعل في جانب الماضي،
والناظم كم ينقض غزله وله هوى في إكفار الأمة بكل وسيلة، ولا أدري
ماذا يكسب هذا المتهوس إذا لم يبق من الأمة مسلم سوى مكسري الحشوية.
وبين الصوفية أتقياء أبرار يراعون أدق أوامر الشرع ف ى جميع شؤونهم
ويرون في الوجود ما لا يتنافى مع التكاليف الشرعية كما أن بين
المتصوفة زنادقة إباحية، وإجراء الكلام في حق الفريقين بمجرى واحد ليس
من الإنصاف في شئ وكفى أن ينسب إليهم بعض بدع بدون تسرع في
إكفارهم، وقال العلامة يوسف البحري من أجلة أصحاب السيد مرتضى
الزبيدي فيما علقه على (المجموع في المشهود والمسموع): إن الواجب
له عز الوجوب والعظمة والكبرياء فهو منزه عن اللواحق المادية
والتعطيلات الإلحادية وإن الممكن له ذل - الإمكان وحقارة الاحتياج إليه
محقور مقهور محتاج إليه تعالى في وجوده وبقائه وجميع أطواره فلا
ينقلب الواجب ممكنا ولا الممكن واجبا، بل الواجب خالق قادر غني والممكن
مخلوق عاجز محتاج، فلا يكون أحدهما عين الآخر، وهذا بدهي وبه نزلت
الكتب السماوية وجاء به الأنبياء والمرسلون ودعوا الناس إلى اعتقاده
وقامت عليه البراهين واتحدت كشوف الأولياء مع طريق النظر في هذا
المطلب ا ه‍ ثم شرح كيف يضمحل الوجود الإمكاني في نظر المقبل إلى
الله بكليته.
87

خارج ذاته أو فيها أو هو عينها لا رابع، ولذلك قال محقق القوم الذي رفع
القواعد هو عين الكون فهو الوجود بعينه إن لم يكن فوق الخلائق إذ ليس
يعقل بعد إلا أنه فيها كمقالة النصراني فاحكم على من قال ليس بخارج ولا
داخل بأنه أوقع عليه (1) حد المعدوم، فإن زعم أن ذاك في الجسم، والرب ليس
كذا فيقال هذا دعوى واصطلاح اليونان).
إن أراد بالدعوى نفي الجسمية عن الرب وبالاصطلاح ذلك فقد أظهر ما في
نفسه، وإن أراد أن النفي إنما يصدق في الأجسام والظاهر أنه مراده فلا يقال فيه
اصطلاح.
قال: (والشئ يصدق نفيه عن قابل وسواه ولذا ينفى عنه الظلم المحال
والنوم والسنة والطعم والولادة والزوجة، والله وصف الجماد بأنه ميت أصم، ونفى
عنه الشعور والنطق والخلق وهو لا يقبل، ولو سلم أن هذا شرط كان في الضدين لا
في النقيضين ونفيكم لقبولهما يزيل الإمكان وهو كنفي قيامه بالنفس أو بالغير
فإذا المعطل قال إن قيامه بالنفس أو بالغير باطل إذ ليس يقبلهما إلا جسم أو
عرض فكلاكما ينفي الإله حقيقة ماذا يرد عليه من هو مثله في النفي صرفا

(1) من يعلم هنا البجباج النفاج أنواع التقابل والفرق بين الضدين
والنقيضين؟ ومن يفهمه أن الخروج والدخول ضدان لا نقيضان قد
يرتفعان عما ليس بجسم بخلاف النقيضين؟.
88

والفرق ليس بممكن لك والخصم يزعم أن ما هو قابل لهما كقابل لمكان فافرق أو
اعط القوق باريهادوخل الفشوة وكثرة الهذيان).
فهذا فشار كبير ممن لا يعرف الضدين ولا النقيضين ولا الإمكان ولا
الامتناع، يا سبحان الله الدخول والخروج نقيضان أو نفي الوصف بهما يزيل
الإمكان أو ينفى الإله؟ هذا خلط.
قال: (فصل)
في سياق هذا الدليل على وجه آخر إن نفى المعطل كون الإله خارج
الأذهان بالغ في الكفر وإن أقر، فإن قال إنه عين الأكوان قال بالاتحاد وجحد
ربه، وإن قال غيرها. فإن قال الخلق في ذاته أو ذاته فيهم فهو قول النصارى، وإن
قال قائم بنفسه فهو وغيره مثلان أو ضدان أو غيران وعلى التقادير (1) الثلاثة
لولا التباين لم يكن شيئان فلذا قلنا إنكم باب من الاتحاد).
أسمع جعجعة ولا أرى طحنا آخره مطالبة بأن ما ليس في حيز كيف يكون
موجودا.

(1) يلوك لسانه مصطلحات أهل العقول من غير أن يفهم مرادهم ليظهر عند
الحمقى بأنه جامع بين العقول والنقول، فالغيران إذا اشتركا في تمام
الماهية فهما مثلان، وإلا فإن كانا وجوديين أمكن تعقل أحدهما مع
الذهول عن الآخر فهما ضدان، والتباين عندهم باعتبار الصدق أو التحقق لا
بمعنى البينونة المفيدة إشغال هذا حيزا غير حيز ذاك، والحاصل أنه جعل
القسم قسيما وحمل التباين على التباعد بالمسافة وإشغال كل حيزا غير
حيز الآخر، وحاول أن يستنتج من الدعوى المجردة ما يدعيه، ولو كان
المسكين درس الطوالع مثلا قبل أن يخوض في هذه المباحث عند عالم
كالأصبهاني لما فضح نفسه بهذيان المحمومين، وحق للمصنف أن يقول في
ثرثرة الناظم أسمع جعجعة ولا أرى طحنا. لأن معنى كلام الناظم: إن
نفى المعطل الإله في خارج الأذهان فهو كافر، وأن أقر بوجوده بأن قال
إنه عين الكون. فهو اتحادي ملحد، وإن قال إنهما مثلان أو ضدان أو
غيران بدون اختلاف في الجهات فهو قائل بالاتحاد أيضا. فيا ترى هل
لهذا التخريف من معنى عند أهل البصيرة؟
89

(فصل)
نصوص عن ابن تيمية في الفوقية الحسية
قال: (ولقد أتانا عشرة أنواع من المنقول في فوقية (1) الرحمن مع مثلها
أيضا يزيد بواحد، ها نحن نسردها بلا كتمان)
أخذ هذا الخلف السوء يذكر ما قاله شيخه في كتاب العرش وكأنه المقصود
بهذا النظم فإنه أطال فيه.
قال: (هذا ومن عشرين وجها يبطل التفسير ب‍ (استولى) لذي العرفان قد

(1) شيخ الناظم يريد بالفوقية الفوقية الحسية كما صرح به فيما رد به على
الرازي حيث قال: (إن العرش في اللغة السرير وذلك بالنسبة إلى ما
فوقه كالسقف بالنسبة إلى ما تحته، فإذا كان القرآن جعل لله عرشا
وليس هو بالنسبة إليه كالسقف علم أنه بالنسبة إليه كالسرير بالنسبة إلى
غيره وذلك يقتضي أنه فوق العرش ا ه‍). ومثل هذه الفوقية لا يقول به
إلا مجسم، ونقل البيهقي في مناقب أحمد عن رئيس الحنابلة وابن رئيسها
أبي الفضل التميمي أنه قال: (أنكر أحمد على من قال بالجسم وقال: إن
الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على
ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف والله تعالى خارج عن ذلك
كله فلم يجز أن يسمى جسما لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجئ في
الشريعة ذلك فبطل) انتهى.
فالناظم وشيخه منقولان على الشرع وعلى اللغة وعلى إمامهما فضلا عن
باقي الأئمة، عاملهما الله بعدله.
90

أفردت بمصنف لإمام هذا الشأن بحر العالم (1) الحراني).

(1) بل هو وارث علوم صابئة حران حقا، والمستلف من السلف ما يكسوها كسوة
الخيانة والتلبيس. وعن هذا الحراني - الذي اتخذه الناظم إماما - يقول
ابن حجر في الدرر الكامنة في ترجمته: (واستشعر أنه مجتهد فصار يرد
على صغير العلماء وكبيرهم، قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عمر (بن
الخطاب رضي الله عنه) فخطأه في شئ فبلغ الشيخ إبراهيم الرقي الحنبلي
فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر وقال في حق علي (كرم الله وجهه)
أخطأ في سبعة عشر شيئا ثم خالف فيها نص الكتاب، منها اعتداد
المتوفى عنها زوجها أطول الأجلين، وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في
الأشاعرة حتى إنه سب الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه. وذكروا أنه
ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال: كنزولي هذا، فنسب إلى
التجسيم. وافترق الناس فيه شيعا، منهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في
العقيدة الحموية (التي رد عليها ابن جهبل) والواسطية وغيرهما من ذلك،
كقوله: (إن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستو على
العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال: أنا لا أسلم أن
التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بالتحيز في ذات الله
تعالى، ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله: إن النبي صلى الله عليه
وسلم لا يستغاث به. لأن في ذلك تنقيصا ومنعا من تعظيم رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس عليه في ذلك النور البكري، فإنه لما
عقد له المجلس بسبب ذلك، قال بعض الحاضرين يعزر فقال البكري لا معنى
لهذا القول فإنه إن كان تنقيصا يقتل وإن لم يكن تنقيصا لا يعزر، ومنهم
من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي (كرم الله وجهه) ما تقدم، ولقوله
إنه كان مخذولا حيثما توجه وإنه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها وإنما قاتل
دون الرياسة لا للديانة، وأن عثمان (رضي الله عنه) كان يحب المال.
ولقوله أبو بكر (رض الله عنه) أسلم شيخا لا يدري ما يقول وعلي (كرم
الله وجهه) أسلم صبيا والصبي لا يصح إسلامه على قول. ونسب قوم إلى
أنه كان يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر تومرت ويطريه فكان
ذلك مؤكدا لطول سجنه وله وقائع شهيرة، وكان إذا حوقق وألزم يقول لم
أرد هذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالا بعيدا ا ه‍).
والدرر الكامنة من محفوظات دار الكتب المصرية وقد طبعت حديثا
بمعرفة دائرة المعارف بحيدر آباد الدكن وليس بين هؤلاء من ذكره بالإمامة
والقدرة في الدين ومن اتخذه إماما إنما اتخذه إماما في الزيغ والشذوذ
من غير أن يتهيب ذلك اليوم الذي يدعى فيه كل أناس بإمامهم،
فليعتبر بذلك من ظن أن ابن حجر العسقلاني في صف المثنين على إمامته
على الاطلاق. وهذا كلام ابن حجر في هذا الزائغ مع أنه لم يطلع على
جميع مخازيه. ومن أثنى عليه من أهل السنة في مبدأ أمره قبل
انكشاف الستر عن بدعه الطامة إنما أثنى عليه تشجيعا له على العلم لما
كانوا يرون فيه في مبدأ نشأته من القابلية للعلم كما كانوا يفعلون مثل
ذلك مع كل ناشئ لكن لما تشعبت هموم ابن تيمية وتوزعت مواهبه في
مختلف الأهواء وضاع صوابه بين أمواج البدع التي ارتضاها لنفسه
تراجع كل من أثنى عليه من هؤلاء على توالي فتنه بين الأمة وتعاقب
أهوائه المخزية وانقلبوا ضده، ولولا مغامراته في شتى العلوم التي يكفي
واحد منها ليختص فيه أذكى العلماء لربما برع في علم يتفرغ له بعزيمة
صادقة لكن جنى على نفسه بتشتيت مساعيه وراء أهواء بشعة فأصبح في
موضع هزء البارعين كلما اختبروه في علم من العلوم التي يدعي الإمامة
فيها ومن أمثلة ذلك أن صفي الدين الأرموي المشهور كان طويل النفس في
التقرير إذا شرع في وجه يقرره لا يدع شبهة ولا اعتراضا إلا وقد أشار إليه
في التقرير بحيث لا يتم التقرير إلا ويعز على المعترض مقاومته، وكان حضر
حينما جمعت العلماء لأجل النظر
في المسألة الحموية، ولما عقد المجلس
لأجل امتحان ابن تيمية عما أورده في الحموية أخذ الصفي الأرموي يقرر
المسألة على طريقته البارعة ليقطع الطرق على ابن تيمية من جميع
الوجوه فبدأ ابن تيمية يعجل عليه على عادته ويخرج من شئ إلى شئ
على أمل أن ينفق عليه تشغيبه لكن سقط في يده حيث قال له الصفي
الأرموي:
ما أراك يا بن تيمية إلا كالعصفور حيث أردت أن أقبضه من مكان يفر
إلى مكان آخر ا ه‍. وما ابن تيمية في نظر مثل الأرموي إلا كعصفورة
في العلم وإن اتخذه الجهلة الاغرار إماما بأن نبذوا الأئمة المتبوعين وراء
ظهورهم حيث راجت عليهم ثرثرته الفارغة، ولا غرو فإن كل ساقطة
لاقطة والطير على أشكالها تقع.
والمسألة الحموية هذه تتضمن القول بالجهة وحبس ابن تيمية بعد هذا
المجلس بسبب هذه المسألة ونودي عليه في البلد وعلى أصحابه وعزلوا من
وظائفهم، وهذه المسألة هي التي رد عليها العلامة ابن جهبل ردا مشبعا،
وقد علمت بذلك قيمة علم ابن تيمية عند البارعين من أهل العلم، وههنا
لا بد من التنبيه على شئ وهو أني كنت كتبت فيما علقت على دفع
الشبه لابن الجوزي في (ص 47): (بل يروى عنه نفسة أعني ابن تيمية)
أنه نزل درجة وهو يخطب على المنبر في دمشق وقال: (ينزل الله كنزولي
هذا) على ما أثبته ابن بطوطة من مشاهداته في رحلته. وقال الحافظ
ابن حجر في (الدرر الكامنة): ذكروا أنه ذكر حديث النزول فنزل عن
المنبر درجتين فقال: (كنزولي هذا) فنسب إلى التجسيم ا ه‍. وهنا
انتهى ما علقته على الموضع المذكور.
وأما ما زاد على ذلك وهو: (ويقول بعض علماء دمشق بأنه رأى
هذه الخطبة في مخطوط قديم بزيادة (لا) قبل (كنزولي) والله أعلم.
فزيادة من الأستاذ الناشر اعتمادا على ما سمعه من الشيخ بدر إن الدوماني
كأنه لم يكن يعرف مبلغ اجترائه على المجازفات وإرسال الكلام بدون ميزان
ولم تكن الجماعة تعتقد أن نزول الله كنزول ابن تيمية حتى يكون لهذا
الكلام معنى ما ولأجل ما زيد في كلامي هنا نكت الشيخ خضر الشنقيطي
رحمه الله على في (استحالة المعية) وأنا برئ من تلك الزيادة،
سامحه الله.
91

قول أبي حبان في ابن تيمية
المصنف المذكور هو كتاب العرش لابن تيمية (1) وهو من أقبح كتبه، ولما

صيغة استتابة ابن تيمية في الاستواء والصوت
وخطوط كبار العلماء
وقد استتيب مرات في أمور خطرة وهو ينقض مواثيقه وعهوده في كل
مرة وأوردت هنا صورة من صيغ استتابته كما هي مسجلة في (نجم
المهتدي) لتكون عبرة للمعتبر وهي هذه:
لا (الحمد لله الذي أعتقده أن القرآن معنى قائم بذات الله وهو صفة
من صفات ذاته القديمة الأزلية وهو غير مخلوق وليس بحرف ولا صوت
وليس هو حالا في مخلوق أصلا، لا ورق ولا حبر ولا غير ذلك، والذي
أعتقده في قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) (طه: 5) أنه
على ما قال الجماعة الحاضرون وليس على حقيقته وظاهره، ولا أعلم كنه
المراد به، لأجل لا يعلم بذلك إلا الله، والقول في النزول كالقول في
الاستواء أقول فيه ما أقول فيه، لا أعرف كنه المراد به بل لا يعلم ذلك
إلا الله وليس على حقيقته وظاهره كما قال الجماعة الحاضرون، وكل
ما يخالف هذا الاعتقاد فهو باطل، وكل ما في خطى أو لفظي مما
يخالف ذلك فهو باطل، وكل ما في ذلك مما فيه إضلال الخلق أو نسبة ما
لا يليق بالله إليه فأنا برئ منه، فقد برئت منه وتائب إلى الله من كل
ما يخالف، كتبه أحمد بن تيمية، وذلك يوم الخميس سادس شهر ربيع
الآخر سنة سبع وسبعمائة.
وكل ما كتبته وقلته في هذه الورقة فأنا مختار في ذلك غير مكره.
كتبه أحمد بن تيمية حسبنا الله ونعم الوكيل).
وبأعلى ذلك بخط قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ما صورته:
اعترف عندي بكل ما كتبه بخطه في التاريخ المذكور، كتب محمد بن
إبراهيم الشافعي. وبحاشية الخط: اعترف بكل ما كتب بخطه، كتبه
عبد الغني بن محمد الحنبلي، وبآخر خط ابن تيمية رسوم شهادات هذه
صورتها: كتب المذكور بخطه أعلاه بحضوري واغترف بمضمونه، كتبه
أحمد بن الرفعة.
صورة خط آخر: أقر بذلك، كتبه عبد العزيز النمراوي.
صورة خط آخر: أقر بذلك كله بتاريخه، علي بن محمد بن خطاب
الباجي الشافعي.
صورة خط آخر: جرى ذلك بحضوري في تاريخه، كتبه الحسن بن
أحمد بن محمد الحسيني.
وبالحاشية أيضا ما مثاله: كتب المذكور أعلاه بخطه واعترف به كتبه
عبد الله بن جماعة.
مثال خط آخر: أقر بذلك وكتبه بحضوري، محمد بن عثمان البوريجي.
وكل هؤلاء من كبار أهل العلم في ذلك العصر، وابن الرفعة وحده له
(المطلب العالي في شرح وسيط الغزالي) في أربعين مجلدا وفي ذلك
عبر. ولولا أن ابن تيمية كان يدعو العامة إلى اعتقاد ضد ما في صيغة
الاستتابة هذه بكل ما أوتي من حول وحيلة لما استتابه أهل العلم بتلك
الصيغة وما اقترحوا عليه أن يكتب بخطه ما يؤاخذ به إن لم يقف عند
شرطه، وبعد أن كتب تلك الصيغة بخطه توج خطه قاضي القضاة البدر
ابن جماعة بالعلامة الشريفة وشهد على ذلك جماعة من العلماء كما ذكرنا،
وحفظت تلك الوثيقة بالخزانة الملكية الناصرية، لكن لم تمض مدة على
ذلك حتى نقض ابن تيمية عهوده ومواثيقه، كما هي عادة أئمة الضلال،
وعاد إلى دعوته الضالة ورجع إلى عادته القديمة في الاضلال وكم له من
فتن في مختلف التواريخ في سني 698 و 705 و 718 و 721 و 722
و 726 وهي مدونة في كتب التواريخ وفي كتب خاصة، ومجرد تصور
شواذه التي ألممنا ببعضها في هذا الكتاب يدل المسترشد المنصف على ما
ينطوي عليه من الزيغ وإضلال الأمة، والله سبحانه ينتقم منه.
والغريب أن أتباع هذا الرجل يسيرون وراءه ويتشبهون به في إثارة
القلاقل والفتن بين الأمة بمواجهتها بالحكم على أفرادها بالشرك والزيغ
والكفر وعبادة الأوثان والطواغيت، يعنون أحباب الله الأنبياء والأولياء
يقولون إن من يزورهم يكون عابد الأوثان والطواغيت ومن هذا الطراز
في زمننا كثير نراهم بأعيننا ونسمعهم بآذاننا، طهر الله الأرض منهم
وأراح العباد من شرهم.
94

وقف عليه الشيخ أبو حيان (1) ما زال يلعنه حتى مات بعد أن كان يعظمه. قال:

(1) قال أبو حيان الأندلسي الحافظ في تفسير قوله تعالى (وسع كرسيه
السماوات والأرض) (البقرة: 255) وقد قرأت في كتاب لأحمد بن تيمية
هذا الذي عاصرناه وهو بخطه سماه كتاب العرش (إن الله يجلس على
الكرسي وقد أخلى مكانا يقعد معه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
تحيل عليه محمد بن عبد الحق وكان من تحيله أنه أظهر أنه داعية له
حتى أخذ منه الكتاب وقرأنا ذلك فيه) كما ترى في النسخ المخطوطة
من تفسير لأبي حيان وليست هذه الجملة بموجودة في تفسير البحر المطبوع،
قد أخبرني مصحح طبعه بمطبعة السعادة أنه استفظعها جدا وأكبر أن ينسب
مثلها إلى مسلم فحذفها عند الطبع لئلا يستغلها أعداء الدين، ورجاني
أن أسجل ذلك هنا استدراكا لما كان منه ونصيحة للمسلمين.
وقد علمت العواتق في خدورهن حكاية هجر أبي حيان لابن تيمية لهذا
السبب بعد أن كان تسرع في إطرائه، وإطرازه مدون في الرد الوافر لابن
ناصر الدين الدمشقي وأما تقول بعض الكداهنين بأنه إنما كان هجره لوقوعه
في سيبويه حيث قال: أكان سيبويه نبي النحو وقد غلط في كيت وكيت.
فرجم بالغيب أمام تصريح أبي حيان صاحب القصة، نعم هذا تهور وقلة
أدب من ابن تيمية وما هي قيمة نحوه في جانب استبحار سيبويه وأبي
حيان في النحو، وإن كان لكل إمام غلطات معدودة في علمه لكن وقوعه
في سيبويه في جنب الوقوع في الله سبحانه ليس بشئ مذكور فحمل
هجره الدائم على خلاف ما ذكره الهاجر ليس شأن من يخاف الله، ويتوخى
مراضيه. بل ذلك شأن المخدوعين المفتونين.
96

(منها استوى (1) في سبع آيات بغير لام ولو كانت بمعنى استولى لجاءت في
موضع).

(1) ويقال لهذا المتعلم بل لو كان (استوى) بمعنى (جلس) لأتى لفظ (جلس) في أحد المواضع السبعة.
ومما يقصر المسافة في الرد على الحشوية التي تدعي التمسك بالظاهر
أن قوله تعالى (ثم استوى) (الأعراف: 53) صيغة فعل مقرونة بما
يدل على التراخي وذلك يدل على أن الاستواء فعل له تعالى متقيد
بالزمن وبالتراخي شأن سائر الأفعال وعد ذلك صفة إخراج للكلام عن
ظاهره وهذا ظاهر جدا ولم يرد (المستوي) في عداد أسماء، الله الحسنى
لا في الكتاب ولا في السنة حتى يصح إطلاقه على الذات العلية على
أن يكون صفة أو علما. وقد أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا تحدث له
صفة فلا مجال لعد ذلك صفة وقد ذكرت وجه حسن الاستعارة التمثيلية
في الآية (في لفت اللحظ إلى ما في الاختلاف في اللفظ) ولعل
القارئ المنصف يكاد يعد ذلك متعينا ولا حاجة إلى إعادة من هناك،
فليراجع ثمت.
97

وهذا الذي قاله ليس بلازم فالمجاز قد يطرد وحسنه أن لفظ استوى أعذب
وأخصر وليس هذا من الاطراد الذي يجعله بعض الأصوليين من علامة الحقيقة،
فإن ذلك هو الاطراد في جميع موارد الاستعمال والذي حصل هنا اطراد استعمالها
في آيات فأين أحدهما من الآخر، ثم إن استوى وزنه افتعل فالسين فيه أصلية
واستولى وزنه استفعل فالسين فيه زائدة ومعناه من الولاية فهما مادتان متغايرتان
في اللفظ والمعنى، والاستيلاء قد يكون بحق وقد يكون بباطل والاستواء لا
يكون إلا بحق والاستواء صفة للمستوي في نفسه بالكمال والاعتدال، والاستيلاء
صفة متعدية إلى غيره فلا يصح أن يقال استولى حتى يقول على كذا، ويصح
أن يقول استوى ويتم الكلام، فلو قال استولى لم يحصل القصود، ومراد
المتكلم الذي يفسر الاستواء بالاستيلاء التنبيه على صرف اللفظ عن الظاهر الموهم
للتشبيه واللفظ قد يستعمل مجازا في معنى لفظ آخر ويلاحظ معه معنى آخر
في لفظ المجاز لو عبر عنه باللفظ الحقيقي لاختل المعنى وقد يريد المتكلم أن
الاستواء من صفات الأفعال كالاستيلاء المتمحض للفعل من كل وجه يكون
السبب في لفظة الاستواء عذوبتها واختصارها فقط دون ما ذكرناه ولكن ما
ذكرناه أحسن وأمكن مع مراعاة معنى الاستيلاء. وانظر قول الشاعر:
قد استوى قيس على العراق * من غير سيف ودم مهراق
ولو أتى بالاستيلاء لم يكن له هذه الطلاوة والحسن، والمراد بالاستواء كمال
الملك هو مراد القائلين بالاستيلاء، ولفظ الاستيلاء قاصر عن تأدية هذا المعنى،
فالاستواء في اللغة له معنيان أحدهما استيلاء بحق وكمال فيفيد ثلاثة معان
98

ولفظ الاستيلاء لا يفيد إلا معنى واحدا، فإذا قال المتكلم في تفسير الاستواء
الاستيلاء مراده المعاني الثلاثة وهو أمر يمكن في حق الله سبحانه وتعالى فالمقدم
على هذا التأويل لم يرتكب محذورا ولا وصف الله تعالى بما لا يجوز عليه
والمفروض المنزه لا يقدم على التفسير بذلك لاحتمال أن يكون المراد خلافه وقصور
أفهامنا عن وصف الحق سبحانه وتعالى مع تنزيهه عن صفات الأجسام قطعا،
والمعنى الثاني للاستيلاء في اللغة الجلوس والقعود، ومعناه مفهوم من صفات
الأجسام لا يعقل منه في اللغة غير ذلك والله تعالى منزه عنها، ومن أطلق القعود
وقال إنه لم يرد صفات الأجسام قال شيئا لم تشهد به اللغة فيكون باطلا وهو
كالمقر بالتجسم (1) المنكر له فيؤاخذ بإقراره ولا يفيد إنكاره واعلم أن الله تعالى
كامل الملك أزلا وأبدا، ولكن العرش وما تحته حادث، فإن قوله (ثم استوى
على العرش) لحدوث العرش لا لحدوث الاستواء.
فصل
قال: (وثانيها لفظ العلي والأعلى (2) والعلو بمطلقه عام ونفيه نقص

(1) والإقرار بتجويز الجسمية بكل صراحة موجود في كلام شيخه فيما رد به
على الفخر الرازي كما سبق، بل لصاحب الفرج بعد الشدة الشيخ محمد
المنبجي الحنبلي من أخص تلاميذ الناظم رسالة في الرد على من ينفي المماسة
بكل وقاحة، وما تخفي صدور هؤلاء أكبر فالمؤمن الرشيد يجب عليه أن
يتوقى من الوقوع في هاويتهم والمسألة مسألة كفر وإيمان وسننقل نصوصا
من الكتابين المذكورين في مواضع تحذيرا للمغترين.
(2) العلو ومشتقاته من صفات التنزيه تعالى الله عما يصف به المجسمة، و
الحمل على علو المكان نزعة وثنية، قال ابن تيمية في التأسيس:
(والباري سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقية ليست فوقية الرتبة
كما أن التقدم على الشئ قد يقال إنه بمجرد الرتبة كما يكون بالمكان مثل
تقدم العالم على الجاهل وتقدم الإمام على المأموم فتقدم الله على العالم ليس
بمجرد ذلك بل هو قبلية حقيقية وكذلك العلو على العالم قد يقال إنه
يكون بمجرد الرتبة كما يقال العالم فوق الجاهل وعلو الله على العالم ليس
بمجرد ذلك بل هو عال عليه علوا حقيقيا وهو العلو المعروف والتقدم
المعروف ا ه‍). فهل يشك عاقل أن ابن تيمية يريد بذلك الفوقية الحسية
والعلو الحسي، تعالى الله عما يأفكون، واستعمال العلو ومشتقاته في
اللغة العربية بمعنى علو الشأن في غاية من الشهرة رغم تقول المجسمة.
99

وعلوه فوق الخليقة كلها فطرت عليه الخلق) فيقال أسماء الله قديمة فإن لزم
من العلي والأعلى كونه فوق جسم لزم قدم العالم والذي فطرت عليه والبديهة
التعظيم إلى أعلى غاية.
فصل
كلمة ابن تيمية في العلو والفوقية والرد عليه
قال: (وثالثها صريح الفوق (1) مصحوبا بمن وبدونها أحدهما قابل للتأويل

(1) ينص شيخه في كتابه المذكور على أن المراد بالفوقية الفوقية الحسية
فكأنه لم يقل في كتاب الله (يد الله فوق أيديهم) (الفتح: 10) و
(وفوق كل ذي علم عليم) (يوسف: 76) والمراد بالفوقية فوقية العزة
والقهر والتنزه. (والله فوق ذلك) ش حديث الترمذي بمعنى أنه بعلو
عن مدارك البشر بدليل ما في سنن الترمذي أيضا من حديث (لو دليتم)
قال ابن جهبل: الفوقية ترد لمعنيين: أحدهما نسبة جسم إلى جسم بأن
يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل بمعنى أن أسفل الأعلى من جانب رأس
الأسفل، وهذا لا يقول به من لا يجسم، وثانيهما بمعنى الرتبة كما يقال
الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الأمير، وكما يقال: جلس فلان
فوق فلان والعلم فوق العمل والصياغة فوق الدباغة قال تعالى (ورفعنا
بعضهم فوق بعض درجات) (الزخرف: 32) ولم يطلع أحدهم فوق
أكتاف الآخر وقال تعالى عن القبط (وإنا فوقهم قاهرون) (الأعراف: 127)
وما ركبت القبط أكتاف بني إسرائيل ولا ظهورهم ا ه‍. فظهر بذلك
بطلان التمسك بكلمة فوق في الآيات والأحاديث في إثبات الجهة له تعالى
الله عن مزاعم المجسمة.
100

والأصل الحقيقة والمجرور لا يقبل التأويل وأصح لفائدة جليل قدرها إن الكلام إذا
أتى بسياقه يبدي المراد أضحى كنص قاطع).
فيقال المجرور أولى بالتأويل لأن قوله تعالى (يخافون ربهم من فوقهم)
(النحل: 50) يحتمل أن المراد خوفا من فوقهم وليس في سياق الكلام ما يبدي
المراد الذي ادعاه فأين الفائدة. والفوقية بمعنى القهر وعلو القدر متفق عليها
والجهة هي عين النزاع ويلزم منها قدم الجهة.
فصل
قال: (ورابعها عروج الروح والملائكة في سورتي السجدة والمعارج قالوا
هما بزمان وعندي يوم واحد عروجهم فيه إلى الديان فالألف مسافة نزولهم
وصعودهم إلى السماء الدنيا والخمسون ألف من العرش إلى الحضيض الأسفل).
فيقال له في الآيتين (إليه) فعلى قوله يكون الله في مكانين أحدهما
في السطح التحتاني من السماء الدنيا لأنه نهاية الألف والثاني في العرش ثم
إن المسافة إذا فصلت على أن بين السماء والأرض خمسمائة عام وكذا ثخانة كل
سماء وما بين كل سماء وسماء لا يبلغ هذا المقدار وهذا لا يتعلق بغرضنا،
والتعلق بغرضنا إلزامه بظاهر قوله (إليه) مع التزامه أن الغاية في المكان
وكون ما بين السماء والأرض خمسمائة عام روي بطرق ضعيفة وفي الترمذي من
رواية العباس في حديث الأوعال إما واحدة وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة وهو
يوافق قول أهل الهيئة وهذا يرجح أنهما يومان: أحدهما في الدنيا إلى العرش
ألف سنة والثاني يوم القيامة خمسون ألف سنة من الشدة وقد جاء أن في الجنة
مائة درجة بين كل درجتين مائة عام في رواية وفي رواية كما بين امسماء وا أرض
101

(وكلاهما في الترمذي والفردوس أعلى الجنة وفوقه العرش فهذه المسافة أكثر من
عشرة آلاف سنة (1)).
فصل
قال: (وخامسها صعود كلامنا (2) والصدقة والحفظة والسعي والمعراج (3)
وعيسى وروح المؤمنين ودعاء المضطر ودعاء المظلوم).
وقال في المعراج: (وقد دنا منه إلى أن قدرت قوسان).
وقد علم كل واحد اختلاف المفسرين في قوله تعالى (ثم دنا فتدلى)
(النجم: 8) فكيف يستدل به وعيسى في السماء الرابعة ليس على العرش،
ورفع الصدقة والكلام وشبههما من المعاني ليس بالانتقال من مكان إلى مكان
لأن المعاني لا تنتقل.
فصل
حديث النزول
قال: (وسادسها وسابعها النزول (4) والتنزيل).

(1) ما بين القوسين في هامش الأصل.
(2) قال ابن جهبل: الصعود كيف يكون حقيقة في الكلام؟ مع أن الصعود
في الحقيقة من صفات الأجسام فليس المراد إلا القبول اه‍ وهذا ظاهر جدا.
(3) قال ابن جهبل: لم يرد في حديث المعراج أن الله فوق السماء أو فوق العرش
حقيقة ولا كلمة واحدة من ذلك وهو لم يسرد حديث المعراج ولا بين وجه
الدلالة منه حتى نجيب عنه فلو بين وجه الدلالة لعرفنا كيف الجواب ا ه‍.
(3) قاتل الله الجهل، ما أفتكه، فمن الذي يجهل استمرار الثلث الأخير من
الليل في البلاد باختلاف المطالع حتى يحمل النزول إلى السماء الدنيا على
النزول الحسي، وقد حمل حماد بن زيد النزول في الحديث على معنى الإقبال
ومن أهل العلم من حمل الحديث على أن الإسناد فيه مجازي من قبيل
الإسناد إلى السبب الأمر ويؤيده حديث أبي هريرة في سنن النسائي وفيه
(ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له). وليس في استطاعة
من يخاف الله غير أن يفوض معنى النزول إلى الله مع التنزيه أو أن
يحمل الحديث على المجاز في الطرف أو في الإسناد، بل الأخير هو المتعين
لحديث النسائي المذكور فيخرج حديت النزول من عداد أحاديث الصفات
بالمرة عند من فكر وتدبر تعالى الله عن النقلة التي يقول بها المجسمة.
102

وتنزيل القرآن لنزول جبريل به من جهة العلو.
فصل
قال: (وثامنها رفيع الدرجات وفعيل بمعنى المفعول).
ما بقي من تخلف هذا النحس إلا أن يجعل لله سلما يصعد وينزل في درجاته،
تعالى الله عما يقول. يحمل على اللفظ فوق ما يحتمله ويفهم منه غير مراده
فسحقا له.
فصل
(وتاسعها فوق السماء (1)).
فصل
قال: (وعاشرها الملائكة الذين هم عند الرحمن وكتاب رحمته عنده
فوق العرش وسائر الأشياء ليست كذلك).
من هم الملائكة الذين هم معه في المكان وجبريل يتأخر عن المكان الذي
وصل إليه النبي صلى الله عليه وسلم؟.

(1) يريد حديث الرقية وفي لفظ الناظم تغيير للفظ الحديث وسيأتي بيان ذلك والرد عليه.
103

فصل
الإشارة إلى رفع الأيدي إلى السماء
قال: (وحادي عشرها إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه في
الموقف لله (1)).
جوابه: إن القلب متوجه إلى الرب العالي قدرا. وقهرا على كل شئ والإشارة
إلى جهة العلو التي هي محل ملكه وسلطانه وملائكته والعليين عن خلقه، وقبلة
دعائه ومنزل وحيه وهكذا رفع (2) الأيدي في الدعاء.

(1) أين في الحديث ذكر الإشارة إلى الله؟ وهكذا تكون أمانة مثل الناظم
وشيخه في النقل؟ وهل صدر منه صلى الله عليه وسلم في خطبة عرفات سوى
أن رفع أصبعه ثم نكبها إليهم وهل في ذلك دلالة على أن رفعه كان ليشير به
إلى جهة الله سبحانه؟ تعالى الله عن ذلك. والخطيب يرفع يده وينكبها
كيف يشاء في أثناء خطبته. وجعل ذلك حجة في شئ لا يصدر إلا ممن في
قلبه مرض على أن الأرض كرية فالواقف في شرق الأرض تكون إخمصه في
مقابلة إخمص الواقف في غرب الأرض، ومن ضرورة ذلك أن يكون سمتا
رأسيهما إلى جهتين متعاكستين فتكون إشارة أحدهما إلى جهة تعاكس
الجهة التي يشير إليها الآخر، وهكذا، وكرية الأرض منصوصة في الكتاب
والسنة كما في فصل ابن حزم والمنكر لذلك ليس بمنكر لقول أهل الهيئة فقط،
ولا للمحسوس فقط. ونسي الناظم الاستدلال في هذا الصدد بالإشارة في
التشهد؟!
(2) ورفع الأيدي إلى السماء لأجل أن السماء منزل البركات والخيرات لأن الأنوار
إنما تنزل منها والأمطار، وإذا ألف الإنسان حصول الخيرات من جانب مال طبعه
إليه فهذا المعنى هو الذي أوجب رفع الأيدي إلى السماء وقال الله تعالى
(وفي السماء رزقكم وما توعدون) (الذاريات: 22) ذكره ابن جهبل فيما
رد به على العقيدة الحموية لابن تيمية وهذا الرد يحق أن يكتب بماء
الذهب، ومن حاول الرد عليه من الحشوية فقد وقع على أم رأسه وكتاب
ابن جهبل حقه أن يفرد بالطبع من طبقات ابن السبكي - ونسخة مخطوطة من
كتاب ابن جهبل هذا توجد بمكتبة (لاله لي) باصطنبول.
104

فصل
قال: (وثاني عشرها وصفه تعالى بالظاهر وفسر في الحديث (أنت الظاهر
فليس فوقك شئ)).
يقال لهذا المدبر إن كان الظاهر يقتضي الفوقية الحسية فاسم الباطن يقتضي
التحتية الحسية - تعالى الله.
فصل
دعوى الناظم في الرؤية بدون مقابلة
قال: (وثالث عشرها إخباره أنا نراه في الجنة وهل نراه إلا من فوقنا (1)
ودعوى سواها مكابرة ولذا قال محقق منكم للمعتزلة ما بيننا خلف فاحملوا معنا

(1) قال: (إذ رؤية لا في مقابلة من الرائي محال ليس في الإمكان). وهذا
صريح في أنه لا يرى رؤية لا يكون المرئي فيها في مقابلة الرائي فلا يكون
أصرح من هذا في القول بالتجسيم ومن جملة ما يهذي به الناظم في شفاء
العليل (159): (كيف يصح عند ذي عقل، مرئي يرى بالأبصار عيانا
لا فوق الرائي ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه ولا أمامه) ا ه‍
وهذا مثل ما هنا وهو من أبعد الناس عن نفي الرؤية فيكون مجسما
صريحا، ورؤية الله كما يرى القمر في ليلة البدر يقول عنها ابن قتيبة في
(الاختلاف في اللفظ) لم يقع التشبيه فيها على حالات القمر من التدوير
والسير والحدود وغير ذلك وإنما وقع التشبيه في أن إدراكه يوم القيامة
كإدراكنا القمر ليلة البدر لا يختلف في ذلك كما لا يختلف في هذا، والعرب
تضرب بالقمر المثل في الشهرة والظهور ا ه‍ فعار على الناظم وشيخه أن
يغيب عنهما ما لم يغب عن مثل ابن قتيبة، لكن الهوى يعمى ويصم،
وكلامهما ينبئ عن تشبيه المرئي بالمرئي بل عادت ابن تيمية تهوين شأن
التشبيه حتى تجده يقول فيما رد به على الرازي (24 - الكواكب) (ليس
في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا كلام أحد من الصحابة
والتابعين ولا الأكابر من أتباع التابعين ذم المشبهة وذم التشبيه ونفي مذهب
التشبيه ونحو ذلك وإنما اشتهر ذم هذا من جهة الجهمية ا ه‍) كأنه لم
يتل قوله تعالى (ليس كمثله شئ) (الشورى: 11) وقوله تعالى
(أفمن يخلق كمن لا يخلق) (النحل: 17) وهو الذي يروى عن ابن راهويه
في موضع آخر من ذلك الكتاب (من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد
من خلقه فهو كافر بالله العظيم) ويروى أيضا مثله عن نعيم بن حماد في
موضع آخر وهو من أئمتهم بل يروى عن الإمام أحمد نفسه (لا يشبهه
شئ من خلقه) في موضع آخر من كتابه المذكور وهذا مما يدل على وقاحته
البالغة وقلة دينه، وهل أدل على قلة عقل الرجل من تناقضه في كتاب
واحد؟ والله ينتقم منه.
105

على المجسمة إذ قالوا يرى كما يرى القمران فيلزمهم العلو وليس فوق العرش رب
هذا الذي والله مودع كتبهم).
ينبغي أن يحضر هذا النحس ويلزم بأن يخرج من كتبهم أنه ليس فوق العرش
رب ولن يجده في كتبهم أبدا وتوهمه أنه لا يرى إلا من فوق لقصور عقله. ونقله
اتفاقنا مع المعتزلة لعدم فهمه بل بيننا وبينهم وفاق وخلاف فقوله: ما بيننا وبينكم
خلف كذب علينا.
فصل
بسط الكلام في السؤال ب‍ (أين) في حديث الجارية
قال: (ورابع عشرها أين الله في كلام النبي صلى الله عليه وسلم في حديث
106

معاوية ابن الحكم وفي تقريره لمن سأله رواه أبو رزين).
أقول: أما القول فقوله صلى الله عليه وسلم للجارية (أين (1) الله؟ قالت في

(1) وراوي هذا الحديث عن ابن الحكم هو عطاء بن يسار وقد اختلفت ألفاظه فيه
ففي لفظ له (فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده إليها وأشار إليها
مستفهما من في السماء...) الحديث، فتكون المحادثة بالإشارة على أن
اللفظ يكون ضائعا مع الخرساء الصماء فيكون اللفظ الذي أشار إليه الناظم
والمؤلف لفظ أحد الرواة على حسب فهمه لا لفظ الرسول صلى الله عليه
وسلم. ومثل هذا الحديث يصح الأخذ به فيما يتعلق بالعمل دون الاعتقاد،
ولذا أخرجه مسلم في باب تحريم الكلام في الصلاة - دون كتاب الإيمان
حيث اشتمل على تسميت العاطس في الصلاة ومنع النبي صلى الله عليه
وسلم عن ذلك، ولم يخرجه البخاري في صحيحه وأخرج في جزء خلق
الأفعال ما يتعلق بتسميت العاطس من هذا الحديث مقتصرا عليه دون ما
يتعلق بكون الله في السماء بدون أي إشارة إلى أنه اختصر الحديث وليس في
رواية الليثي عن مالك لفظ (فإنها مؤمنة). وأما عدم صحة الاحتجاج به
في إثبات المكان له تعالى فللبراهين القائمة في تنزه الله سبحانه عن المكان
والمكانيات والزمان والزمانيات، قال الله تعالى (قل لمن ما في السماوات
والأرض قل لله) (الأنعام: 12) وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله
تعالى، وقال تعالى (وله ما سكن في الليل والنهار) (الأنعام: 13)
وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى، فهاتان الآيتان تدلان
على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك
يدل على تنزيه سبحانه عن المكان والزمان، كما في أساس التقديس للفخر
الرازي، ولأن الحديث فيه اضطراب سندا ومتنا رغم تصحيح الذهبي
وتهويله راجع طرقه في كتاب العلو للذهبي وشروح الموطأ وتوحيد ابن خزيمة
حتى تعلم مبلغ الاضطراب فيه سندا ومتنا، وحمل ذلك على تعدد القصة لا
يرضاه أهل الغوص في الحديث والنظر معا في مثل هذا المطلب. فالروايات
على رجل مبهم محمولة على ابن الحكم، ولم يصح حديت كعب بن مالك
ولا حديث يروى عن امرأة، فمالك يرويه عن عمر بن الحكم غير مقر بأن
يكون غلطا فيه، ومسلم عن معاوية بن الحكم ولفظهما كما سبقت الإشارة
إليه مع نقص لفظ (فإنها مؤمنة) في رواية مالك.. ولفظ ابن شهاب في
موطأ مالك عن أنصاري - وهو صاحب القصة في الرواية الأولى - (فقال لها
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم،
قال: أتشهدين أن محمدا رسول الله؟ قالت: نعم) وأين هذا من ذاك؟.
وستعرف حال الذهبي في أواخر الكتاب فلا تلتفت إلى تهويله وتحريفه في
هذا الباب فلعل لفظ (أين الله) تغيير بعض الرواة على حسب فهمه.
والرواية بالمعنى شائعة في الطبقات كلها وإذا وقعت الرواية بالمعنى من غير
فقيه فهناك الطامة، وصاحب القصة لم يكن من فقهاء الصحابة ولا له سوى هذا
الحديث في التحقيق، بل كان أعرابيا يتكلم في الصلاة. على أن (أين)
تكون للسؤال عن المكان وللسؤال عن المكانة حقيقة في الأولى ومجازا
في الثاني أو حقيقة فيهما، قال أبو بكر ابن العربي في شرح حديث أبي رزين
في العارضة: المراد بالسؤال بأين عنه تعالى المكانة، فإن المكان يستحيل
عليه، وأين مستعملة فيه، وقيل إن استعمالها في المكان حقيقة وفي
المكانة مجاز وقيل هما حقيقتان، وكل جار على أصل التحقيق مستعمل
على كل لسان وعند كل فريق ا ه‍. وقال أبو الوليد الباجي في المنتقى: يقال
مكان فلان في السماء بمعنى علو حاله ورفعته وشرفه، فلعل الجارية تريد
وصفه بالعلو، وبذلك يوصف كل من شأنه العلو ا ه‍ فيكون معنى (أين
الله) ما هي مكانة الله عندك ومعنى (في السماء) أنه تعالى في غاية
من علو الشأن، يتحد هذا المعنى مع معنى (أتشهدين أن لا إله إلا الله قالت
نعم) فإن قيل فليكن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم هو (أين الله
ولفظ الراوي هو (أتشهدين....) رواية بالمعنى على الصورة السابقة
فالجواب أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلقين الإيمان طول أداء
رسالته السؤال بأين أو ذكر ما يوهم المكان ولا مرة واحدة في غير هذه القصة
المضطربة بل الثابت عن تلقين كلمة الشهادة، فاللفظ الجاري على الجادة أجدر
بأن يكون لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، على أن المحقق السيد الشريف
الجرجاني أجاز في شرح المواقف أن يكون السؤال للاستكشاف عن معتقد
الجارية هل هي عابدة وثن أرضى أم هي مؤمنة بالله رب السماوات.
ومن أهل العلم من يعد العامي معذورا في اللفظ الموهم اعتدادا بأصل
اعتقاده بالله سبحانه وإن أوهم بعض إيهام في وصفه تعالى. وإليه يشير
القرطبي في المفهم في شرح حديث الجارية في صحيح مسلم، قال ابن الجوزي:
قد ثبت عند العلماء أن الله لا تحويه السماء ولا الأرض، ولا تضمه الأقطار،
وإنما عرف بإشارتها تعظيم الخالق جل جلاله عندها ا ه‍ وعلى تقدير ثبوت
لفظ (أين) فالمعنى الذي ذكره الباجي وابن العربي معنى لا حيدة عنه أصلا
وجلالة مقدار هذين الإمامين في الحديث واللغة وأصول الدين والفقه لا
يجحدها إلا الجاهلون وقول ذلك الصحابي الذي كان يبغي فوق السماء
مظهرا، من الأدلة على ما أشار إليه الباجي.
توهين حديث أبي رزين
107

السماء) وقد تكلم الناس عليه قديما وحديثا والكلام عليه معروف ولا يقبله
108

ذهن هذا الرجل لأنه مشاء على بدعه لا يقبل غيرها؟ وأما حديث أبي رزين (1)

(1) وأما حديث أبي رزين ففي سنده حماد بن سلمة مختلط، وكان يدخل في
حديثه ربيباه ما شاءا وليس في استطاعة ابن عدي ولا غيره إبعاد هذه الوصمة
عنه، ويعلى بن عطاء تفرد به عن وكيع بن حدس أو عدس، وهو مجهول
الصفة، وهو تفرد عن أبي رزين، ولا شأن للمنفردات والوحدان في إثبات
الصفات فضلا عن المجاهيل وعمن به اختلاط، فليتق الله من يحاول أن
يثبت به صفة لله. وقد سئم أهل العلم من كثرة ما يرد بطريق حماد بن سلمة
من الروايات الساقطة في صفات الله سبحانه، وقد روى أبو بشر الدولابي
الحافظ عن ابن شجاع عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: (كان
حماد بن سلمة لا يعرف بهذه الأحاديث حتى خرج خرجة إلى عبدان فجاء
وهو يرويها، فلا أحسب إلا شيطانا خرج إليه في البحر فألقاها إليه ا ه‍).
وماذا يجدي تحمس ابن عدي في الدفاع عنه والرد على محمد بن شجاع الإمام
افتراء منه عليه؟ وابن شجاع هذا مات في صلاة العصر وهو ساجد ولا
مغمز في علمه وثقته وورعه إلا أنه كان يقف في القرآن ولا يقول إنه
مخلوق أو غير مخلوق لعدم ورود هذا وذاك نصا في الكتاب والسنة، وألف
كتابا في الرد على المشبهة وهذا ذنب لا يغتفر عندهم. وإنما يدل هذا التحمس
على خبيئ لابن عدي الذي لم يتعلم من العربية ما يقوم به لسانه ويصونه
من اللحون الفاضحة، وأنى لمثله أن يقوم فكره حتى يتخذ قدوة؟ وكان
ابن شجاع يحذر الرواة من الأخذ بروايات تالفة أدخلها الوضاعون على بعض
شيوخ الرواية فيرد عليه عثمان بن سعيد الدارمي المجسم قائلا كيف يجد
الوضاعون سبيلا إلى الادخال على شيوخ في الرواية؟ وابن عدي يعكس
الأمر ويجعل الذي يدخل عليهم هو ابن شجاع بدون أي دليل وبدون سوق أي
سند كما هو شأن المتقولين وله مع ثقات الرواة وأئمة الأمة في الفقه الذين
تكلم فيهم موقف في يوم القيامة، لا يغبط عليه، والعقيلي على تعنته لم
يذكره في كتابه - وحديث إجراء الخيل كان ذائعا بين شيوخ الرواية من
الحشوية حتى يشكو من ذلك ابن قتيبة مر الشكوى في (الاختلاف في
اللفظ) وهو معاصر لابن شجاع، وكذلك خرجه أبو علي الأهوازي بسنده
بطريق حماد بن سلمة. وقول الحاكم (أنبأنا إسماعيل بن محمد الشعراني أنه
قال: بلغت عن محمد بن شجاع عن حبان بن هلال عن حماد بن سلمة) لا
يمكن اتخاذه حجة في كون هذا الخبر مرويا عن حماد بن سلمة بطريق ابن شجاع
منفردا به لأن بين الشعراني وبين ابن شجاع نحو مائة سنة فلا يقل الساقط
من الرجال من بينهم عن نحو ثلاثة، هكذا يفضح الله من يتطاول على
الأئمة. راجع ما علقناه على تبيين كذب المفتري في (ص 369) ومن اطلع
على كتاب (نقض عثمان بن سعيد على الجهمي العنيد) الجاري طبعه
يعرف سبب مقت الحشوية لهذا الإمام الجليل، بل يكفي في معرفة حال حماد
ابن سلمة الاطلاع على كتب الموضوعات المبسوطة، في باب التوحيد منها
خاصة فيرى فيها القارئ أخبارا تالفة رويت بطريقه بكثرة بل ما سرده ابن
عدي نفسه في الكامل في ترجمة حماد هذا من الأحاديث التالفة المروية
بطريقه كاف في معرفة سقوط ما يروى بطريقه في الصفات بل سقوط ابن
عدي المتحمس دونه.
منها روايته عن قتادة عن عكرمة... أن محمدا رأى ربه في صورة
شاب أمرد...) وفي لفظ (... جعدا أمرد عليه حلة خضراء...) إلى
عير ذلك من الألفاظ الفاضحة، وقد روى ابن عساكر بطريق أبي القاسم
السمرقندي عن قتادة (الأعمى): إني ما حفظت عن عكرمة إلا بيت شعر،
وهذا دليل على أنه لم يرض روايته الحديث، وأما ما يروى عن أحمد من
سماع قتادة عن عكرمة عدة أحاديث فلا يثبت عن أحمد لأنه بطريق رواة من
المجسمة القائلين بإقعاد الله رسوله صلى الله عليه وسلم في جنبه على
العرش، تعالى الله عن ذلك، وقد توسع الفخر بن المعلم القرشي في رد ما
يروى عن عكرمة في هذا الصدد ثم قال (فمعاذ الله أن يرى ربه على
صورة أصلا فكيف على صورة قد ذكر مثلها أو أكثرها عن المسيح
الدجال) ا. ه‍.
فمن التهور البالغ قول ابن صدقة (من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو
زنديق) بل من يقول به هو الزنديق، ويأسف الرد أن يرى بعض تلك
الرايات التالفة مدونا في كتاب (أخبار الصفات) للدارقطني. وابن المعلم
القرشي يؤكد أنه مدسوس ض كتاب الدارقطني وليس ببعيد بالنظر إلى أن
راويه عنه العشاري والراوي عنه ابن كادش، وستعرف قيمتهما في أواخر ما
علقناه على هذا الكتاب. ويظهر مما رفعه أبو إسحاق الشيرازي وأصحابه إلى
نظام الملك من المحضر - في فتنة الحشوية ببغداد ضد ابن القشيري - اتخاذ
رواية حماد هذه دينا فليراجع المحضر المذكور في (تبيين كذب المفتري) لابن
عساكر (ص 310) وفيه ما نصه (... وأبوا إلا التصريح بأن المعبود ذو
قدم وأضراس ولهوات وأنامل، وأنه ينزل بذاته ويتردد على حمار في صورة
شاب أمرد بشعر قطط وعليه تاج يلمع وفي رجليه نعلان من ذهب...)
تعالى الله عما يشركون. وفي مرسوم الخليفة العباسي الراضي الذي أصدره في
فتنة البربهاري ما نصه (... وتارة إنكم تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة
السمجة على مثال رب العالمين وهيئتكم الرذلة على هيئته وتذكرون الكف
والأصابع والرجل والنعلين الذهبين والشعر القطط والصعود إلى السماء
والنزول إلى الدنيا، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا
كبيرا...) كما في الكامل لابن الأثير (8 - 98) إلى غير ذلك من
الفضائح المكشوفة، وحديث أم الطفيل أنكره أحمد والنسائي فلا يمكن أن
يصح مثل تلك الرواية لا يقظة ولا مناما، راجع دفع الشبه لابن الجوزي
و (نجم المهتدي) والله ولي الهداية.
109

ففي سنن الترمذي عنه قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق
خلقه؟ قال: (كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه (1) على الماء)

(1) قال أبو بكر ابن العربي في العارضة: والذي عندي أنه أراد بالعرش الخلق
كله و (على الماء) بمعنى يمسكه بقدرته لا بعمد ترافده ولا أساس يعاضده،
فإنها كانت تكون مفتقرة إلى أمثالها إلى غير نهاية وذلك غير محصول فترده
أدلة العقول ا ه‍ وهو معنى بديع جدا لن ألقى السمع وهو شهيد. واستعمال
العرش بمعنى الملك شائع، راجع كتاب أصول الدين لعبد القاهر البغدادي.
112

قال الترمذي قال أحمد يعني ابن منيع راوي الحديث قال يزيد يعني ابن هارون
شيخ أحمد: العماء أي ليس معه شئ. انتهى كلام الترمذي.
وفي رواية (كان في عما) بالقصر ومعناه ليس معه شئ وقيل هو كل أمر
لا يدركه عقول بني آدم ولا يبلغ كنهه الوصف والفطن، قال ابن الأثير لا بد في
قوله (أين كان ربنا) من مضاف محذوف فيكون التقدير أين كان عرش ربنا ويدل
عليه قوله تعالى (وكان عرشه على الماء) (هود: 7) قال الأزهري نحن نؤمن به ولا
نكيفه بصفة أي نجري اللفظ على ظاهره من غير تأويل، وقوله من غير أن
نكيفه بصفة صريح في التنزيه والعلماء في التشابهات يؤمنون بها إما بأن
يتأولوها وأما بأن يسكتوا مع التنزيه وهذا المدبر يصدق بعضها ببعض ليقوي
الشبهة ويمكن الريبة من قلوب الناس لعنه الله (1).
فصل
قال: (وخامس عشرها الإجماع من (2) رسل الله، حكى إجماعهم عبد القادر

(1) ولعن كل من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وأنت قد جربت أن
الإمام السبكي رحمه الله لا يستنزل اللعنات على الناظم إلا عند كلماته
الخطرة جدا، عامله الله بعدله.
تفنيد زعم الإجماع على الفوقية الحسية
(2) فيا للعار والشنار على من يهون إجماع المسلمين فيما يستدلون به عليه من
المسائل الفرعية كيف يزعم إجماع رسل الله على محال؟ وتجد في الكتب
المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر كثيرا مما يرده علماء أصول الدين في الاعتقاد
كما تجد فيها كثيرا من الأحاديث الملفقة الموضوعة فلا يعول على مثل تلك
الكتب في مثل هذا المطلب، وقد قال ابن حجر المكي في فتاويه إن ذكر الجهة
ونحوها مدسوس في كتب الشيخ عبد القادر، وذكر مثله اليافعي قبله في
نشر المحاسن، وكذلك النجم الأصفهاني قبل اليافعي، وهم لا يعتدون
بروايات أمثال الذهبي والناظم وشيخه وابن رجب عنه في هذا الصدد لأنهم
أظناء عندهم فيما يتعلق بالجهة، ومن المقرر عند أهل السنة أن أهل البدع لا
تقبل رواياتهم فيما يزيدون به بدعهم، فالقائلون بصلاح الشيخ عبد القادر
وهم الجمهور - يبرئونه من تلك البدع ويعدونها مدسوسة في كتبه ولا يوجد
بين أهل الحق من يعترف له بالصلاح مع فرض ثبوت تلك المخازي عنه، فعلى
فرض ثبوتها عنه فلا حب ولا كرامة، ومخارق حفيده عبد السلام المتربي لديه
تدعو الباحث إلى غاية من الاحتياط في حقه، وقد أشار الحافظ أبو شامة
المقدسي في ذيل الروضتين إلى ما جرى بينه وبين أبي الفرج ابن الجوزي
الحنبلي والوزير العالم ابن يونس الحنبلي نسأل الله السلامة. وبين المتصوفة
من يلهج كثيرا بمرتبة الاطلاق ومراتب التنزل في المظاهر أخذا من مذهب
السالمية لكن أئمة أصول الدين ليسوا على تصديق التجلي في الصور الذي
يقول به هؤلاء بل يعدون ذلك والحلول على حد سواء، فمن حاول الجمع بين
أقوال المتكلمين والمتصوفة والحكماء والحشوية في ذلك كالبرهان الكوراني فإنما
حاول المحال والانسلاخ من قيد العقل والنقل معا، نسأل الله العافية، وليس
بقليل بين الأئمة من جاهر بإكفار القائلين بالجهة كما نقلت نص ذلك من شرح
مشكاة المصابيح للعلامة ناصر السنة علي القاري فيما علقته على (دفع شبه
التشبيه) لابن الجوزي (ص 57) وشأن من يخاف الله سبحانه أن ترتعد
فرائصه في موطن جاهر فيه بعض الأئمة المتبوعين في أصول الدين،
بالإكفار.
بسط الكلام في رد القول بالجهة
ولم يرد لفظ الجهة في حديث ما بل قال أبو يعلى الحنبلي في (المعتمد في
المعتقد): ولا يجوز عليه الحد ولا النهاية ولا قبل ولا بعد ولا تحت ولا
قدام ولا خلف لأنها صفات لم يرد الشرع بها وهي صفات توجب المكان ا ه‍
ولعله آخر مؤلفاته بدليل أن امتحانه في الصفات كان سنة 429 قبل وفاته
بنحو ثلاثين سنة فمن أثبت له تعالى جهة فقد أثبت له أمثالا وأشباها
مع أنه لا مثل له ولا شبيه له تعالى، قال الله تعالى (ليس كمثله
شئ) (الشورى: 11) وقال تعالى (أفمن يخلق كمن لا يخلق)
(النحل: 17) فلعائن الله على من يثبت له تعالى ما لم يثبت له الكتاب
ولا السنة من الجهة ونحوها، وأما ابن رشد الحفيد فيلسوف ظنين يسعى
في إثارة وجوه من التشكيك حول آراء المتكلمين من أهل السنة لينتقم منهم
بسبب ردودهم على الفلاسفة إخوانه ولا سيما من أبي المعالي الجويني وأبي
حامد الغزالي، فمن طالع فصل المقال ومناهج الأدلة لابن رشد وخاصة في
بحث قدم العالم قدما زمانيا وعالم الله بالجزئيات والبعث الجسماني يتيقن ما
قلنا في حقه على أنه يقول في فصل المقال (ص 13): إن ههنا ظاهرا من
الشرع لا يجوز تأويله، فإن كان تأويله في البادي فهو بدعة، وههنا أيضا
ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله وحملهم إياه على ظاهره كفر في حقهم،
وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم. ومن هذا
الصنف آية الاستواء وحديث النزول ا ه‍.
وهذا الكلام يهد على رأس ابن تيمية وتلميذه ما يريدان أن يبنيا على
كلامه ولو علما مغزى كلامه لأبيا كلا الإباء أن يحوما حول كلامه في مثل
هذه الأبحاث. فما يكون كفرا في حق طائفة عند ابن رشد يكون إيمانا في
حق طائفة أخرى عنده وبالعكس وهذا هو الذي يحتج ابن تيمية في التأسيس
وغيره بقوله في الجهة من غير أن يعقل مغزى كلامه الطويل في مناهج
الأدلة. وأما ما وقع في كلام ابن أبي زيد وابن عبد البر مما يوهم ذلك فمؤول
عند محققي المالكية ولو كان ابن عبد البر لم يكتف بالطلمنكي في أصول
الدين ورحل إلى الشرق كالباجي لم يقع في كلامه ما يوهم ولم يقع ذكر
الجهة في حق الله سبحانه في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه
وسلم ولا في لفظ صحابي أو تابعي ولا في كلام أحد ممن تكلم في ذات الله
وصفاته من الفرق سوى أقحاح المجسمة وأتحدى من يدعي خلاف ذلك أن
يسند هذا اللفظ إلى أحد منهم بسند صحيح فلن يجد إلى ذلك سبيلا فضلا
عن أن يتمكن من إسناده إلى الجمهور بأسانيد صحيحة، وأول من وقع ذلك
في كلامه ممن يدعي الانتماء إلى أحد الأئمة المتبوعين - فيما أعلم - هو
أبو يعلى الحنبلي المتوفى سنة 458 حيث قال عند إثباته الحد له تعالى في
كتابه (إبطال التأويلات لأحاديث الصفات): (إن جهة التحت تحاذي
العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ما حاذاه من
الذات أنه حد وجهة له وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل
هو مار في اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية فلذلك لم
يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات
ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها اه‍). تعالى الله عما يقول المجسمة
علوا كبيرا وهو عين ما ينسب إلى المانوية الحرانية من تلاقي النور من جهة
الأسفل مع الظلمة وعدم تناهيه من الجهات الخمس - سبحانك ما أحلمك
ثم تابعه أناس من الحنابلة في نسبة الجهة إلى الله سبحانه منهم أبو الحسن
علي بن عبيد الله الزاغوني الحنبلي المتوفى سنة 527 ورقع بعده في غنية
الشيخ عبد القادر وقد سبق رده، وإثبات ذلك له تعالى ليس بالأمر الهين عند
جمهور أهل الحق بل قال جمع من الأئمة إن معتقد الجهة كافر كما صرح به
العلم العراقي، وقال إنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري
والباقلاني ا ه‍ فانظر قول ابن تيمية في التسعينية (ص 3): أما قول
القائل، الذي نطلب منه أن ينفي الجهة عن الله والتحيز فليس في كلامي
إثبات لهذا اللفظ لأن إطلاق هذا اللفظ نفيا وإثباتا بدعة ا ه‍، وهذه
مغالطة، فإن ما لم يثبته الشرع في الله فهو منفي قطعا، لأن الشرع لا
113



يسكت عما يجب اعتقاده في الله، وقوله سبحانه (ليس كمثله شئ)
(الشورى: 11) نص في نفي الجهة عنه تعالى إذ لو لم تنف عنه الجهة
لكانت له أمثال لا تحصى، تعالى الله عن ذلك - ثم أنظر قوله في منهاجه
(1 - 264): فثبت أنه في الجهة على التقديرين ا ه‍) لتعلم كيف
رماه الله بقلة الدين وقلة الحياء في آن واحد. وأما ما ينقله الذهبي وغيره
من الحشوية من تفسير القرطبي في قوله تعالى: (ثم استوى على العرش)
(الأعراف: 54) من أنه قال: وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون
بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما
نطق كتابه وأخبرت رسله فتساهل منه في العبارة، فإنه لم يرد لفظ الجهة في
عبارة السلف ولا في كتاب الله، ولو أراد ورود هذا اللفظ لكذبه كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والآثار المروية عن السلف لأن الوارد لفظ
(وهو القاهر فوق عباده) (الأنعام: 18) و (ثم استوى على العرش)
(الأعراف: 54) ونحو ذلك بدون تعرض للتكييف بالجهة، وهكذا الوارد في
السنة وآثار السلف ويعين قوله (كما نطق به كتابه) أن مراده الفوقية
والعلو بلا كيف وذكر الجهة سبق قلم منه فلا يكون متمسك للحشوية فيما
ذكره القرطبي في تفسيره كيف وهو القائل فيه:
(متى اختص بجهة يكون في مكان وحيز فيلزم الحركة والسكون ا ه‍)
وهو القائل أيضا في (التذكار في أفضل الأذكار) ص 13: (يستحيل على
الله أن يكون في السماء أو في الأرض إذ لو كان في شئ لكان محصورا أو
محدودا ولو كان ذلك لكان محدثا وهذا مذهب أهل الحق والتحقيق ا ه‍).
تناقض ابن تيمية في الجهة وكذبه
وفي (ص 207) من الكتاب المذكور: (ثم متبعو المتشابه لا يخلو
اتباعهم من أن يكون لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة الذين جمعوا
ما في الكتاب والسنة مما يوهم ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ
تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وغير ذلك من يد وعين وجنب
وأصبع، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والصحيح القول بتكفيرهم إذ
لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا
كما يفعل بمن ارتد. ا ه‍). فبذلك تبين أن تمسك الحشوية بقول القرطبي
السابق من قبيل الاستجارة من الرمضاء بالنار وبه يظهر مذهب المالكية فيمن
يقول بذلك كما يظهر قول الشافعية فيه من كفاية الأخيار للتقي الحصني،
حيث قال فيها بعد أن أشار إلى كلام الرافعي في كتاب الشهادات: (جزم
النووي في صفة الصلاة من شرح المهذب بتكفير المجسمة.
قلت: وهو الصواب الذي لا محيد عنه ا ه‍).
ومن حذاق النظار من استدل على بطلان القول بالجهة بقوله تعالى:
(وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق) (المؤمنون: 91) باعتبار أن
فيه استدلالا على بطلان التعدد ببطلان لازمه الذي هو انحياز الإله إلى
جهة، راجع شعب الإيمان للحليمي. وفي الإكمال شرح مسلم للقاضي عياض
(ثم من صار من دهماء الفقهاء والمحدثين وبعض متكلمي الأشعرية وكافة
الكرامية إلى الجهة أول (في) ب‍ (على). ومن أحال ذلك - وهم الأكثر
فلهم فيها تأويلات... وقد أجمع أهل السنة على تصويب القول بالوقف من
التفكر في ذاته تعالى لحيرة العقل هنالك، وحومة التكييف. والوقف في
ذلك غير شك في الوجود ولا جهل بالموجود فلا يقدح في التوحيد بل هو
حقيقته. وقد تسامح بعضهم في إثبات جهة تخصه تعالى أو شار إليه
بحيز يحاذيه، وهل بين التكييفين (أي التكييف المحرم إجماعا والتكييف
بالجهة) فرق؟!. وبين التحديد في الذات والجهة فرق؟!. وقد أطلق الشرع
أنه القاهر فوق عباده وأنه استوى على العرش فالتمسك بالآية الجامعة للتنزيه
الكلي الذي لا يصح في العقل غيره وهي قوله تعالى (ليس كمثله شئ)
(الشورى: 11) (عصمة لمن وفقه الله تعالى) ا ه‍. وقد تعقبه الأبي
تعقبا شديدا، وقال ما نسب من القول بالجهة إلى الدهماء ومن بعدهم من
الفقهاء والمتكلمين لا يصح ولم يقع إلا لأبي عمر في الإستذكار (والتمهيد)
ولابن أبي زيد في الرسالة وهو عنهما متأول. ثم نقل عن الفقهاء التونسيين
كابن عبد السلام وابن هارون والفاسيين كالسطي وابن الصباغ اتفاقهم على
إنكار ذلك في مجلس الأمير أبي الحسن ملك المغرب. راجع شرح مسلم
(2 - 241) للأبي.
أقول: إنما ذكر القاضي عياض من صار من الدهماء إلى القول بالجهة وأين
في ذلك نسبة ذلك إلى الدهماء على أن لفظ الجهة لم يقع في كلام أبي عمر
ولا في كلام ابن أبي زيد وإن كان ظاهر كلامهما يوهم ذلك وقد تأول كلامهما
المالكية ليكونا مع الجمهور في هذه المسألة الخطرة ولو ترك كلامهما على الظاهر
لهويا في هاوية التجسيم وذلك عزيز عليهم أيضا، وقول القاضي
عياض ليس يشمل المشارقة حيث لم يرحل إلى الشرق وإنما قوله بالنظر إلى
معنى كلام بعض الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من أهل بلاده من أصحاب
الطلمنكي وابن أبي زيد وأبي عمر بل لا أذكر وقوع لفظ الجهة في كلام أحد
منهم، وإنما جرى ابن رشد الفيلسوف في المناهج على التساهل بذكر ما لم
يجر على لسانهم باعتباره معنى كلامهم كما سبق، والحاصل أن التكييف
غير جائز إجماعا - ويمكن جمع جزء في الآثار الواردة في المنع من التكييف
والتشبيه - ولا شك أن القول بالجهة تكييف لم يقع إلا في عبارات أناس
هلكى، وأما تأويل القائلين بالجهة ما يوهم كونه في السماء بمعنى على
السماء، كما ذكر القاضي عياض، فلا ينجيهم من ورطة التجسيم لأن
(في) في قوله تعالى (ولأصلبنكم في جذوع النخل) (طه: 71) لم تزل
تفيد تمكين المصلوب في الجذع كتمكين المظروف في الظرف، وكذلك قوله
تعالى (قل سيروا في الأرض) (العنكبوت: 20) فحمل لفظ (في) على
معنى (على) لا يجدي في الإبعاد عن التمكن وإنما التأويل الصحيح
ما أشار إليه الباجي من استعمال العرب لفظ (هو في السماء) يعنون علو
شأنه ورفعة منزلته بدون ملاحظة كونه في السماء أصلا كقول الشاعر:
علونا السماء مجدنا وجدودنا * وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
وظاهر أنه لم يرد إلا علو الشأن. وليس قوله تعالى (أأمنتم من في
السماء) (الملك: 16) من هذا القبيل بل الظاهر أن المراد خاسف سدوم وعد
(في السماء) بمعنى على السماء ثم جعل على السماء بمعنى (على العرش)
باعتبار أن السماء مأخوذة من السمو، غفلة عن شمولها للسقف والسحاب
على هذا التقديد غير التبادر وتخصيصها بالعرش عن هوى مجرد كما لا
يخفى. وفيما ذكرناه كفاية لأهل التبصر.
مخالفات ابن تيمية
113

وأبو الوليد (ابن رشد الفيلسوف) وأبو العباس (1) الحراني (ابن تيمية) وله
اطلاع، لم يكن من قبله لسواه من متكلم ".
ونحن نقطع أيضا بإجماعهم (على التنزيه) أما يستحي من ينقل إجماع
الرسل على إثبات الجهة والفوقية الحسية لله تعالى؟ وعلماء الشريعة ينكرونها؟ أما
تخاف منهم أن يقولوا له إنك كذبت على الرسل؟.

(1) يوجد من يذكره بلقب شيخ الإسلام - وللمبتدعة افتتان بهذا التلقيب
لزعمائهم - إيهاما للضعفاء في العلم أن ما يدعو إليه هذا الزائغ هو الإسلام
الصحيح ويخاف على من يستمر على تلقيبه به بعد أن عرف مخالفاته لشرع
الإسلام ومن ذكره بهذا اللقب من أهل السنة إنما ذكره قبل أن يجاهر ذلك
المبتدع ببدعه المعروفة، وأما من استمر على هذا التلقيب من المتأخرين فإنما
استمر جهلا ببدعه التي نقلناها من أوثق المصادر أو ظنا من أنه تاب وأناب
وحافظ على عهوده وقد توسعنا في بيان ذلك فيما علقناه على ذيول طبقات
الحفاظ. على ترجمة العلا، البخاري فليراجع هناك، ولعل في كتبنا
ولا سيما في هذا الكتاب ما يقنع المنصف في أمر هذا الزائغ.
ومما قال المصنف في حقه في فتاويه (2 - 210) في أثناء رده على
فتيا له في الوقف: " وهذا الرجل كنت رددت عليه في حياته في إنكاره
السفر لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا
حلف به ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي أنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل
ينفرد به لمسارعته إلى النقل لفهمه - كما في هذه المسألة - ولا في بحث
ينشئه لخلطه المقصود بغيره وخروجه عن الحد جدا، وهو كان مكثرا من
الحفظ ولم يتهذب بشيخ ولم يرتض في العلوم بل يأخذها بذهنه مع جسارة
واتساع خيال وشغب كثير، ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر
في كلامه جملة، وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه، وحبس
بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك ولم يكن لنا غرض في ذكره بعد موته
لأن تلك أمة قد خلت ولكن له أتباع ينعقون ولا يعون ونحن نتبرم بالكلام
معهم ومع أمثالهم ولكن للناس ضرورات إلى الجواب في بعض المسائل كهذه
المسألة... " ا ه‍. وهذا مما يزيدك معرفة بالرجل، ومن جملة هذيانات
هذا الزائغ قوله في (المحصل) للفخر الرازي:
محصل في أصول الدين حاصله * من بعد تحصيله أصل بلا دين
أصل الضلالات والشك المبين فما * فيه فأكثره وحي الشياطين
هذا رأي الرجل في معتقد أهل السنة ولأهل العلم ردود عليه وكنت قلت
في معارضته:
محصل في أصول الدين حصله * من اهتدى فغدا محصن الدين
أس الهداية والحق الصراح فمن * يرتاب فيه قفا إثر الشياطين
كما قلت فيما سبق في معارضة بعضهم:
إن كان تنزبه الإله تجهما * فالمؤمنون جميعهم جهمي
جل الإله عن الحوادث أن * تحل به وعن جهة وعن كم
بخلاف زعم زعيمكم سفها فإن * تابعتموه فكلكم تيمي
والله سبحانه ولي الهداية.
الرد على الناظم في دعوى الإجماع على الفوقية المكانية
120

فصل
قال: " وسادس عشرها إجماع أهل العلم (1) ابن عباس ومجاهد ومقاتل
والكلبي ورفيع وأبو عبيدة والأشعري والبغوي ومالك والشافعي والنعمان ويعقوب
وأحمد وابن المبارك وابن خزيمة وقال يقتل من ينكره وحكى ابن عبد البر إجماع أهل
العلم أن الله فوق العرش وابن وهب وحرب الكرماني وحكى الإجماع ابن أبي زيد
والكرجي التصنيف الذي شرحه وتفسير عبد بن حميد والنسائي وعثمان الدارمي
وابن أصرم وعبد الله بن أحمد والأثرم (وأبو حاتم وابنه ومحمد بن أبي شيبة) وابن
أبي داود وابن أسباط وسفيان وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والبخاري والطبري
اللالكائي الشافعي وإسماعيل التيمي والطبراني والطلمنكي والطحاوي والباقلاني

(1) الناظم يروي عن إمامه أحمد بن حنبل في أعلام الموقعين أن من ادعى الإجماع
فهو كاذب. فكيف ساغ له أن يروي هنا الإجماع على الفوقية على خلاف
البراهين العقلية والنقلية القائمة. فابن عباس ومجاهد لم يرو عنهما ما يوهم
ذلك إلا أناس هلكى لا تقبل أقوالهم في حيض النساء فضلا عن المسائل
الاعتقادية، ومقاتل بن سليمان المروزي شيخ أهل التجسيم في عصره وقد
أفسد جماعة من المراوزة. والكلبي هالك عند أهل النقد، وأبو العالية
رفيع الرياحي فسر الاستواء بالارتفاع، كما ذكره ابن جرير بطريق أبي
جعفر الرازي، وهو متكلم فيه حتى عند الناظم. وروى الفريابي عن مجاهد
تفسير استوى بقوله: علا بطريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه. والكلام
فيهما مشهور. ولذا ذكر هذا وذاك البخاري من غير سند، ومع ذلك أين
الدلالة في هذا وذاك على الفوقية المكانية؟ وأبو عبيدة معمر بن المثنى
الشعوبي ماذا تكون قيمة كلامه في مثل هذه الأبحاث؟ والأشعري إن
كنتم تعتقدون فيه أنه قائل بالفوقية المكانية فما سبب طعن الحشوية كلهم
فيه؟ وإنما له رأيان: أحدهما عدم الخوض في الصفات مع إثبات ما ثبت في
الكتاب والسنة بدون تشبيه ولا تمثيل والأخر تأويل ما يجب تأويله بما يوافق
التنزيه إذا عن ضرورة " وليس في هذا ولا في ذاك القول بالفوقية المكانية،
وتأليف الإبانة كان في أوائل رجوعه عن الاعتزال لتدريج البربهاري إلى
معتقد أهل السنة، ومن ظن أنها آخر مؤلفاته فقد ظن باطلا. وفد تلاحقت
أقلام الحشوية بالتصرف فيها ولا سيما بعد فتن بغداد فلا تعويل على ما فيها
مما. يخالف نصوص أئمة المذهب من أصحابه وأصحاب أصحابه. وابن درباس
غير مأمون في روايتها لأنه أفسده شيخه في التصوف مع تأخر طبقاته..
والبغوي الشافعي إنما نقل في تفسيره ما يروى عن مثل مقاتل بن سليمان
والكلبي تعويلا على قول أهل النقد فيهما، ودلالة على أن هذا القول قول
أهل الزيغ. ومالك قائل بالاستواء بلا كيف، وكذا الشافعي وأبو حنيفة
وأبو يوسف وأحمد وابن المبارك، وهم براء مما يوجد في روايات عبد الله
ابن نافع الصائغ والعشاري والهكاري وابن أبي مريم ونعيم بن حماد
والإصطخري وأمثالهم. و (اعتقاد الشافعي) المذكور في ثبت الكواراني
كذب موضوع مروي بطريق العشاري وابن كادش، وسيأتيان في أواخر
الكتاب. وابن خزيمة على سعته في الفقه والحديث جاهل بعلم أصول الدين
وقد اعترف بذلك هو نفسه كما في الأسماء والصفات للبيهقي (ص 200)
وكتاب التوحيد له يعده الرازي كتابا في الشرك. ويستخف عقله وفهمه
في تفسير قوله تعالى (ليس كمثله شئ) (الشورى: 11) وينقل جزءا
من سخفه ويرد عليه ردا مشبعا فيجب الاطلاع عليه، ومن الشافعية من يعد
من الشافعية كل من تلقى بعض شئ من بعض الشافعية، وهذا ليس
بصواب لأن كل متأخر يأخذ عمن تقدمه على أي مذهب كان التقدم كما لا
يخفى على من درس أحوال الرجال. وابن خزيمة هذا وإن تلقى بعض شئ
من الزنى في شبيبته لكن لم يكن شافعيا بل ثبتت مساعدته لمحمد بن عبد
الحكم في تأليفه ذلك الرد القاسي على الشافعي. وعلى فرض أنه شافعي لا
محاباة في المعتقد أيا كان مذهب من زاغ عن السبيل. وهذا المسكين ممن إذا
أصاب مرة في المعتقد يخطئ فيه مرات، فليسمح لي ساداتنا العلماء أن
أعجب غاية العجب من طبع مثل كتاب التوحيد هذا بين ظهرانيهم بدون أن
يقوم أحد منهم بالرد عليه كما يجب. أيقظ الله أصحاب الشأن لحراسة السنة
وابن خزيمة الذي يروي عنه الطحاوي غير ابن خزيمة صاحب كتاب التوحيد
وليعلم ذلك.
والإجماع الذي يرويه ابن عبد البر إنما يصح في العلو والفوقية بمعنى التنزه
والقهر والغلبة لا بمعنى إثبات الكان له تعالى. وأبو بكر محمد بن وهب شارح
رسالة ابن أبي زيد مسكين مضطرب بعيد عن مرتبة الحجة. وقد ذكرنا ما
يتعلق بابن أبي زيد فيما علقناه على تبيين كذب المفتري وقد أغنانا ذلك
عن تكرير الكلام. ورأي القاضي أبي بكر بن العربي فيه مدون في القواصم،
وأبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي صاحب الفصول مجسم صريح
كأبي الخير يحيى العمراني، وقد كفانا مؤنة الرد عليهما ما قاله فيهما ابن
السبكي واليافعي الشافعيان. وعثمان الدارمي السجزي صاحب النقض
وهو غير صاحب السند - قد سبق القول فيه، وهو يثبت الحركة لله تعالى
كحرب بن إسماعيل السيرجانى. وقد نقلت فيما كتبت على شروط الأئمة
الخمسة ما قاله الحافظ الرامهرمزي في حرب السيرجاني هذا. وخشيش بن
أصرم صاحب كتاب الاستقامة يعرف أهل الاستقامة مبلغ انحرافه، ومن جملة
ما هذى به قوله؟ فإن زعمت الجهمية فمن يخلفه إذا نزل؟ قيل لهم؟ فمن
سلفه في الأرض حين صعد؟ ا ه‍. ولا ينجيه من ورطته كونه من مشايخ أبي
داود كما لا ينجي عمران بن حطان كونه من رجال البخاري. وعبد الله بن
أحمد إذا ثبت عنه كتاب السنة المنسوب إليه فلا حب ولا كرامة. وابن أبي
حاتم أقر على نفسه بأنه يجهل عالم الكلام كما في الأسماء والصفات للبيهقي
(ص 199) وحق مثله أن لا يخوض في أمثال هذه الباحث وأن يهجر قوله
إذا خاض، ومحمد بن أبي شيبة صاحب كتاب العرش مشبه كذاب، ومن جملة
تخريفاته في كتابه المذكور: أن الله تعالى أخبرنا أنه صار من الأرض إلى
السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش؟ ا ه‍ تعالى الله عن
تخريفات المجسمة. وابن أبي داود كفانا مؤنة الرد عليه كلام أبيه فيه.
وابن أسباط لا يحتج به في الرواية فكيف يعول على مثله في الصفات.
سامح الله اللالكائي والطلمنكي إسماعيل التيمي فإنهم تكلموا في غير
علومهم. والباقون كلهم بخير خلا ما أدخل على ابن سلمة ولن يثبت عن
هؤلاء سوى أنهم كانوا يقولون: إنه تعالى استوى على العرش بلا كيف وإنه
القاهر فوق عباده بلا كيف وأين هذا مما يدعو إليه الناظم؟.
تنبهه - روى الناظم في إعلام الموقعين عن أحمد: أن من ادعى
الإجماع فهو كاذب ثم حكى هو نفسه في الكتاب نفسه في (1 - 56 و 114،
275، 389) وفي (2 - 33 و 48 و 53 و 241 و 290) وغيرها
الإجماع والقول بالإجماع في مسائل عن أحمد وغيره ومثل هذا التناقض لا
يصدر إلا من مثل الناظم. وذكر أيضا في عدة من كتبه في صدد الرد على
من يقول بإجماع الصحابة على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد أنه لم يرو
ذلك عن عشر الصحابة بل عن عشر عشرهم بل عن عشر عشر عشرهم بل لا
تطيقون أن تروه عن عشرين نفسا منهم. وهو يرمي بذلك إلى أن إجماع
الصحابة لا ينعقد إلا برواية نص عن مائة ألف صحابي مات عنهم النبي صلى
الله عليه وسلم - وهذا تخريف لم يقل به أحد قبل الناظم لأن الظاهرية يكتفون
باتفاق فقهاء الصحابة إلا أنهم يكثرون عدد الفقهاء منهم ويبلغون عددهم إلى
نحو مائة وخمسين صحابيا على خلاف الواقع - ثم يناقض نفسه فيقول في
إعلام الموقعين (3 - 379): (إن لم يخالف الصحابي صحابيا آخر فإما أن
يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر، فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف
من الفقهاء أنه إجماع وحجة وقالت طائفة منهم هو حجة وليس بإجماع، وقالت
شرذمة من المتكلمين (من أتباع النظام) وبعض الفقهاء المتأخرين لا يكون
إجماعا ولا حجة، وإن لم يشتهر قوله أو لم يعلم هل اشتهر أم لا؟ فاختلف
الناس هل يكون حجة أم لا فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة، هذا قول
جمهور الحنفية، صرح به محمد بن الحسن وذكر عن أبي حنيفة نصا وهو
مذهب مالك وأصحابه، وتصرفه في موطئه دليل عليه وهو قول إسحاق بن
راهويه وأبي عبيد وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع عنه واختيار
جمهور أصحابه وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد أما القديم فأصحابه
مقرون به، وأما الجديد فكثير منهم يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة وفي
هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدا ا ه‍). ثم ذكر وجه النظر.
وهذا القول هو الصواب لكن الناظم يناقض هذا حينما يؤول كلام أحمد
المذكور على خلاف تأويل الجمهور في (1 - 33) من إعلام الموقعين وعند ما
يشذ عن الجماعة في مسائل كالطلاق ونحوه في كثير من كتبه ويهون أمر
الإجماع بل ينكره ويتابعه الجهلة الأغرار من أبناء الزمن وفي ذلك عبرة بالغة
نلفت إليها أنظار المنصفين والحق أن الناظم ليس له أصل يبني عليه وإنما يلبس
لكل ساعة لبوسها كما هو شأن أصحاب الأهواء والله ولي الهداية. والحق
أن تكذيب أحمد لمن يدعي الإجماع على تقدير ثبوته عنه لا بد من حمله على
ادعاء من لم يتأهل لنقل الإجماع في مسألة وإلا لتناقض كلامه وعمله.
122

وابن كلاب والطبري في التفسير والداني وابن سريج وأبو الخير العمراني صاحب
البيان وسواهم والله قطاع الطريق أئمة تدعو إلى النيران ما في الذين حكيت عنهم
آنفا من حنبلي واحد بضمان، بل كلهم والله شيعة أحمد، فأصوله وأصولهم سيان،
أتظنهم لفظية جهلية هم أهل العقول فتقذفون أولا، بل أضعافهم من سادة العلماء
كل زمان بالجهل والتشبيه والتجسيم والتبديع والتضليل والبهتان، يا قومنا الله
123

في إسلامكم لا تفسدوه لنخوة الشيطان، يا قومنا اعتبروا بمصارع من مضى في
هذه الأزمان لم يغن عنهم كذبهم ومحالهم وقتالهم بالزور والتدليس عند الناس والحكام
والسلطان وبدا لهم أنهم على البطلان ما عندهم شكاية ما يشتكي إلا عاجز،
لبستم معنى النصوص وقولنا أسأتم الظن بأئمة الإسلام ما ذنبهم ما الذنب إلا
للنصوص لديكم إذا جسمت ".
124

انتهى كلام هذا المدبر، وقد تقدم النقل عن مالك رحمه الله بخلاف ما قاله
ولكنه اغتر هنا بما رواه الحسن بن إسماعيل الضراب (1) في كتابه الذي صنفه في
فضائل مالك رضي الله عنه بأسانيده إلى مالك رضي الله عنه أنه أتاه رجل فقال
يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى، كيف استوى (2) فأمسك عنه مالك
حتى علاه الرحضاء ثم قال: الكيف منه غير معقول والاستواء فيه غير مجهول

(1) هو أبو محمد محدث مصر المتوفى سنة 392، راجع إكمال ابن ماكولا،
وأنساب ابن السمعاني، وحسن المحاضرة، والشذرات.
(2) قال أبو بكر بن العربي في القواصم والعواصم: الطلوب هنا ثلاثة معان:
معنى الرحمن ومعنى استوى ومعنى العرش، فالرحمن معلوم والعرش في
العربية جاء لمعان ولفظ استوى معه محتمل خمسة عشر معنى في اللغة،
فأيها تريدون أو أيها تدعون ظاهرا منها، ولم قلتم إن العرش ههنا المراد به
مخلوق مخصوص فادعيتموه على العربية والشريعة.... فقوله تعالى
(الرحمن على العرش استوى) (طه: 15) إن علمنا معناه آمنا قولا
ومعنى، وإن لم نعلم معناه قلنا كما قال مالك: الاستواء معلوم والكيف
مجهول والسؤال عنه بدعة، فكيف لو رأى من يفسر تعلقه بالله لا يقال إنه
بدعة بل أشد من البدعة عنده، فكيف لو سمع من يقول: إن الله فوقه،
فكيف بمن يعين فوقية الذات فكيف بمن يقول إنه يحاذيه ويليه تبا له ا ه‍
راجع (24 - 26) في الجزء الثاني من الكتاب المذكور. وقد توسع ابن
المعلم المحدث في (نجم المهتدي) في بيان محتملات الآية الخمسة عشرة التي
أشار إليها أبو بكر ابن العربي فليراجع هناك.
127

والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وإني لأحسبك ضالا، ثم أمر به فأخرج. وفي
رواية: فإني أخاف أن يكون شيطانا.
رد المصنف على الناظم في الفوقية
وهذا الكلام صحيح إن صح عن مالك، فإنه ليس فيه إلا الإيمان باية
استوى على العرش كما نطق به القرآن وأن كيفيته غير معقولة، والسائل عنها
ضال مبتدع شيطان، وفي ذلك قطع بأن الاستواء على ظاهره المعلوم عند
الناس من أنه القعود، فإن ذلك معقول وليس فيه تصريح بفوقية الذات ولا يلزم من
قولنا استوى على العرش أن يكون هو على العرش إلا بعد أن نثبت أن الاستواء هو
القعود والجلوس كما في المخلوق، وجل الله عن ذلك، فهذا الرجل لم يفهم كلام
مالك ولا كلام غيره من العلماء الكثيرين الذين حكى عنهم كلهم. وإنما يؤثر عنهم
كلام مقتد بالكتاب يراد به معنى صحيح مع التنزيه، وما لا يوهم التشبيه ولا
يقتضيه.
روايات الضراب عن مالك
وقد روى الضراب في هذا الكتاب قال حدثنا عمر بن الربيع ثنا أبو أسامة ثنا
ابن أبي زيد عن أبيه عن حبيب (1) كاتب مالك قال: سئل مالك بن أنس عن قول النبي
صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة)

(1) وعلى روايته في تفسير النزول عن مالك عول القاض عياض في المشارق،
وقد تكلم في حبيب هذا أهل النقد إلا أن مالكا رضي الله عنه كان شديد
الانتقاد للرجال وقوله هو القول الفصل في رجاله المدينة فلا يطمئن القلب إلى
إن يكون كاتبه وقارئ موطئه على جمهور المتلقين من مالك غير مرضي عنده
128

قال: ينزل أمره كل سحر رأما هو فهو دائم لا يزول وهو بكل (1) مكان. وروى
الضراب أيضا في هذا الكتاب بإسناده إلى عبد الرحمن بن القاسم قال سئل
مالك عمن يحدث الحديث الذي قالوا: إن الله خلق آدم على صورته، وإن
الله يكشف عن ساقه يوم القيامة، وإنه يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد،
فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث بها أحد، فقيل له: إن ناسا من أهل

(1) وظاهر هذا الكلام غير مراد قطعا، بل المراد أنه لا يوصف بمكان دون مكان
حيث تنزه عن الأمكنة،. ومن هذا القبيل ما يروى عن بعضهم أن علمه بكل
مكان، وحاشا أن يكون المراد بهما حلول ذاته أو صفته في الأمكنة، تعالى
الله عما يظن به الجاهلون. وأما قول الترمذي في حديث لهبط على الله
(وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما هبط على علم الله وقدرته
وسلطانه، وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف في
كتابه) فقد تعقبه ابن العربي في العارضة وقال: إن علم الله لا يحل في
مكان ولا ينتسب إلى جهة، كما أنه سبحانه كذلك لكنه يعلم كل شئ في
كل موضع وعلى كل حال فما كان فهو بعلم الله لا يشذ عنه شئ ولا يعزب
عن علمه موجود ولا معدوم، والمقصود من الخبر أن نسبة الباري من
الجهات إلى فوق كنسبته إلى تحت إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما
بذاته ا ه‍.
وما يرويه سريج بن النعمان عن عبد الله بن نافع عن مالك أنه كان يقول:
الله في السماء وعلمه في كل مكان. لا يثبت، قال أحمد: عبد الله بن
نافع الصائغ لم يكن صاحب حديث وكان ضعيفا فيه، قال ابن عدي: يروي
غرائب عن مالك، قال ابن فرحون: كان أصم أميا لا يكتب. راجع ترجمة
سريج وابن نافع في كتب الضعفاء وبمثل هذا السند لا ينسب إلى مثل مالك
مثل هذا، وقد تواتر عنه عدم الخوض في الصفات وفيما لبس تحته عمل كما
كان عليه عمل أهل المدينة على ما في شرح السنة للالكائي وغيره.
129

العلم يتحدثون بها، فقال: من هم؟ قيل: ابن عجلان عن أبي الزناد، فقال:
لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالما وذكر أبا الزناد فقال لم يزل
عاملا لهؤلاء حتى مات وكان صاحب عمل يتبعهم، ورواه الضراب أيضا من طريق
ابن وهب عن مالك، وروى أيضا عن طريق الوليد بن مسلم قال سألت مالكا
والأوزاعي وسفيان وليثا عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية فقالوا: أرووها كما
جاءت؟ فانظر كلام مالك وكلام غيره، لم يصرحوا ولم يبيحوا إلا روايتها لا اعتقاد
ظاهرها الوهم للتشبيه ومالك شدد (1) في روايتها إلا ما يعلم صحته فيروى مع
التنزيه كالقرآن، وهذا النحس وأمثاله يروون في ذلك الجفلاء لأن لهم بدعة لا
يبغون عنها حولا، وكل هؤلاء الذين نقل عنهم كلامه إما متأول أراد به قائله
معنى صحيحا غير ما أراده هذا المبتدع، وإما مختلق عليه وحقه أن يسبر،
فمن سمى من المتأخرين لم يكن له بصر بالحقائق فزل كما زل شيوخ (2) هذا
المبتدع وقادته ممن لم يكن قدوة.

(1) بل قال أبو بكر ابن العربي في العارضة: روى عن مالك وغيره أنه إذا روى
هذه الأحاديث (أحاديث القبض ونحوه) لو أخد مثل بجارحة قطعت ا ه‍.
قول اليافعي في الحشوية
(2) من حشوية الحنابلة قال العفيف اليافعي في (مرهم العلل المعضلة في دفع
الشبه والرد على المعتزلة) في الجزء الثالث منه: " ومتأخرو الحنابلة غلوا
في دينهم غلوا فاحشا وتسفهوا سفها عظيما وجسموا تجسيما قبيحا وشبهوا
الله بخلقه تشبيها شنيعا وجعلوا له من عباده أمثالا كثيرة حتى قال أبو
بكر بن العربي في العواصم: أخبرني من أثق به من مشيختي أن القاضي أبا
يعلى الحنبلي كان إذا ذكر الله سبحانه يقول فيما ورد من هذه الظواهر في
صفاته تعالى: " ألزموني ما شئتم، فإني. ألتزمه إلا اللحية والعورة ". قال
بعض أئمة أهل الحق وهذا، كفر قبيح واستهزاء بالله تعالى شنيع وقائله جاهل
به تعالى لا يقتدى به ولا يلتفت إليه ولا متبع لإمامه الذي ينتسب إليه
ويتستر به بل هو شريك للمشركين في عبادة الأصنام، فإنه ما عبد الله ولا
عرفه، وإنما صور صنما في نفسه، فتعالى الله عما يقول الملحدون والجاحدون
علوا كبيرا ا ه‍ ".
ومثل ما نقله ابن العربي عن أبي يعلى هذا منقول في كتب الملل والنحل
عن داود الجواربي، تعالى الله عن ذلك. ثم قال اليافعي: " ولقد أحسن
ابن الجوزي من الحنابلة حيث صنف كتابا في الرد عليهم، ونقل عنهم أنهم
أثبتوا لله صورة كصورة الآدمي في أبعاضها، وقال في كتابه هؤلاء قد كسوا
هذا المذهب شيئا قبيحا حتى صار لا يقال عن حنبلي إلا مجسم، قال:
وهؤلاء متلاعبون وما عرفوا الله ولا عندهم من الإسلام خبر ولا يحدثون،
فإنهم يكابرون العقول وكأنهم يحدثون الصبيان والأطفال، قال: وكلامهم
صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام وفضحوا التابع والمتبوع..
انتهى ". والكتاب الذي أشار إليه اليافعي هو (دفع شبه التشبيه) وهو
مطبوع فليراجع.
130

فصل
قال: (وسابع عشرها إخباره سبحانه في القرآن عن موسى، وفرعون
أنكر التكليم والفوقية العليا. ولنا مئتا دليل على أنه فوق السماء (فلا وربك لا
يؤمنون حتى يحكموك) (النساء: 65) - بالله - هل حدثتكم قط أنفسكم
بذا فسلوا أنفسكم عن الإيمان، لكن رب العالمين وجنده ورسوله صلى الله عليه
وسلم المبعوث بالفرقان هم يشهدون بأنكم أعداء من ذا شأنه أبدا بكل زمان ولأي
شئ كان أحمد (1) خصمكم أعني ابن حنبل الرضي الشيباني ولأي شئ كان أيضا

(1) وإنما خصوم أحمد هم الذين انتموا إليه كذبا وخالفوه في التنزيه، وقال الحافظ
ابن شاهين (رجلان صالحان بليا بأصحاب سوء: جعفر بن محمد الصادق
وأحمد بن حنبل) رواه ابن عساكر بطريق أبي ذر الهروي راوية الجامع
الصحيح يريد الروافض والمجسمة.
131

خصمكم شيخ الوجود العالم الحراني (1) ".
وبالغ هذا الخبيث في الأقذاع والسفاهة بما هو صفته ونسي قول فرعون:
(كما حكى القرآن الكريم) " ما علمت لكم من إله غيري " (القصص: 38) وتجرأ
على علماء المسلمين بما لو نقلناه لطال ولا يحتمل الإبطال.

(1) ونحن معاشر أهل الحق لا نبالي بعداء مثله من البطلين ولا تزال تطن في
آذان رواد الحقائق شواذ ابن تيمية السخيفة باطلاعهم عليها في مؤلفاته نفسه
وفيما رواه ثقات أهل العلم عنه وكلمته فيما رد به على الرازي في المجلد رقم
25 من الكواكب الدراري بظاهرية دمشق حيث قال: " لو شاء لاستقر على
ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف على عرش عظيم " آية من آيات
خرقه وحمقه فليصادق من شاء من الخرقي مثله على عدائه لأهل الحق
والمراسيم الملكية الصادرة في حقه بعد محاكمته أمام جماعة كبار العلماء في
عصره مسجلة في كتب التاريخ وكتب خاصة مثل عيون التواريخ ونجم
المهتدي ودفع الشبه وغيرها، ولا بأس أن أسجل هنا صورة منها بالنقل من
خط الحافظ شمس الدين بن طولون وهي كما رأيتها بخطه رحمه الله: (نسخة
مثال شريف سلطاني ملكي تاريخه ثامن عشري رمضان سنة 705.
أحد المراسيم الصادرة في حق ابن تيمية
الحمد لله الذي تنزه عن الشبيه والنظير، وتعالى عن المثال فقال (ليس
كمثله شئ وهو السميع البصير) (الشورى: 11) نحمده على أن ألهمنا
العمل بالسنة والكتاب ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب، ونشهد أن لا
إله إلا الله حده لا شريك له شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير
ونزه خالقه عن التحيز في جهة لقوله تعالى (وهو معكم أينما كنتم والله بما
تعملون بصير) (الحديد: 4) ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي نهج
سبيل النجاح بما سلك طريق مرضاته وأمر بالتفكر في آلائه ونهى عن التفكر
في ذاته - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين علا بهم منار الإيمان،
ورفع وشيد بهم قواعد الشرع وما شرع، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق
ومال إلى البدع.. وبعد ا فإن العقائد الشرعية وقواعد الإسلام المرعية
وأركان الإيمان العلية ومذاهب الدين الرضية هي الأساس الذي يبنى عليه
والموئل الذي يرجع كل أحد إليه والطريق الذي من سلكها فقد فاز فوزا
عظيما، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابا أليما، فلهذا يجب أن تنفذ
أحكامها ويؤكد دوامها وتصان عقائد هذه الملة عن الاختلاف وتزان بالائتلاف
وتخمد نوائر البدع ويفرق من فرقها ما اجتمع، وكان التقي ابن تيمية في هذه
المدة قد بسط لسان قلمه ومد عنان كلمه وتحدث في مسائل الصفات والذات،
ونص في كلامه على أمور منكرات وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون
وفاه بما تجنبه السلف الصالحون وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام وانعقد
على خلافه إجماع العلماء والحكام) وشهر من فتاويه ما استخف به عقول
العباد وخالف في ذلك فقهاء عصره وعلماء شامه ومصره وبعث برسائل إلى
كل مكان وسمى فتاواه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان فلما اتصل بنا أنه
صرح في حق الله بالحرف والصوت والتجسيم، قمنا في الله مشفقين من هذا
النبأ العظيم. وأنكرنا هذه البدعة وعز علينا أن يشيع عمن تضم ممالكنا هذه
السمعة، وكرهنا ما فاد به المبطلون، وتلونا قوله سبحانه وتعالى عما يصفون،
فإنه جل جلاله تنزه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير (لا تدركه الأبصار
وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) (الأنعام: 103) وتقدمت
مراسيمنا باستدعاء التقي ابن تيمية إلى أبوابنا عندما سارت فتاواه في
شامنا ومصرنا، وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلا وتلا (لقد جئت
شيئا نكرا) (الكهف: 74) ولما وصل إلينا تقدمنا بجمع أولي العقد
والحل وذوي التحقيق والنقل وحضر قضاة الإسلام وحكام الأنام وعلماء
الدين، وفقهاء المسلمين وعقدوا له مجلس شرع في ملأ من الأئمة وجمع،
فثبت عند ذلك جميع ما نسب إلب " بمقتضى خط يده الدال على سوء
معتقده، وانفصل ذلك الجمع وهم عليه وعلى عقيدته منكرون وآخذوه بما
شهد به قلمه قائلين (ستكتب شهادتهم ويسألون) (الزخرف: 19) وبلغنا
أنه استتيب مرارا فيما تقدم وأخره الشرع لما تعرض إليه وأقدم ثم عاد بعد
منعه ولم تدخل تلك النواهي في سمعه ولما ثبت عليه ذلك في مجلس الحكم
العزيز المالكي حكم الشرع الشريف أنه يسجن هذا المذكور ويمنع من التصرف
والظهور، ومن يومنا هذا نأمر بأن لا يسلك أحد مسلك المذكور من المسالك،
وننهى عن التشبه به في اعتقاده مثل ذلك، أو يعود له في هذا القول متبعا
أو لهذه الألفاظ مستمعا، وأن يسري في التجسيم مسراه، أو يفوه بحد
العلو مخصصا كما فاه أو يتحدث إنسان في صوت أو حرف أو يوسع القول في
ذات أو وصف أو ينطق بتجسيم أو يحيد عن الصراط المستقيم أو يخرج عن
رأي الأئمة وينفرد به عن علماء الأمة أو يحيز الله تعالى في جهة أو يتعرض
إلى حيث وكيف، فليس لمن يعتقد هذا المجموع عندنا إلا السيف، فليقف
كل واحد على هذا الحد، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وليلزم كل الحنابلة
بالرجوع عما أنكره الأئمة من هذه العقيدة والخروج من هذه التشبهات
الشريدة ولزوم ما أمر الله به والتمسك بأهل المذاهب الحميدة، فإنه من خرج
عن أمر الله فقد ضل سواء السبيل، وليس له غير السجن الطويل مستقرا
ومقيلا، فقد رسمنا أن ينادى في دمشق المحروسة والبلاد الشامية وتلك
الجهات مع النهي الشديد والتخويف والتهديد أن لا يتبع التقي ابن تيمية في
هذا الأمر الذي أوضحناه، ومن تابعه منهم تركناه في مثل مكانه وأحللناه
ووضعناه عن عيون الأمة كما وضعناه، ومن أعرض عن الامتناع وأبى
إلا الدفاع أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم وإسقاطهم من مراتبهم، وأن
لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا قضاء ولا إمامة ولا شهادة ولا ولاية ولا
إقامة، فإننا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد وأبطلنا عقيدته التي ضل بها
العباد أو كاد، ولنثبت الحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك
ولتسير إلينا المحاضر بعد إثباتها على قضاة الممالك، فقد أعذرنا حيث
أنذرنا، وأنصفنا حيث حذرنا،. وليقرأ مرسومنا هذا على المنابر ليكون أبلغ
واعظ وزاجر وأجمل ناه وآمر،. والاعتماد على الخط الشريف أعلاه، الحمد
لله، صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم ".
انتهى ما رأيته بخط الحافظ ابن طولون في المجموعة الحسيبية التي كان
فيها الدرة المضية والمقالة في الرد على من ينكر الزيارة المحمدية للتقي
الأخنائي والاعتبار في بقاء الجنة والنار ودفع شبه من شبه وتمرد وغيرها،
ونص المرسوم المقروء على الجمهور على منبر جامع القاهرة بعد صلاة الجمعة
وعلى منبر جامع الفسطاط بعد العصر سلخ رمضان مدون في نجم المهتدي لابن
المعلم القرشي. وما قرئ على منبر جامع دمشق بعد وصول ابن صصري
القاضي من مصر به في اليوم السادس عشر من شهر ذي القعدة سنة
سبعمائة وخمس مدون في دفع الشبه للتقي الحصني وما نقلناه هنا من
المراسيم التي قرئت على منابر البلاد الشامية وألفاظ تلك المراسيم كلها
متقاربة في المعنى وفي ذلك كله عبر بالغة، فماذا علينا من عداء مثل هذا
الفاتن المفتون، ومن أحاط علما بما نقلناه في هذا الكتاب وغيره من
نصوص عباراته وتأكد من الأصول صدق النقل وأستمر على مشايعته
وعلى عده شيخ الإسلام فعليه مقت الله وغضبه، ومن اشتبه في شئ، مما
نقلناه فنحن على استعداد أن نسهل عليه سبيل الاطلاع على الأصول إن
كان لا يكفيه ما يراه بنفسه في منهاجه ومعقوله ونحوهما من كتبه المطبوعة
والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل.
132

فصل
قال: " وثامن عشرها تنزيهه سبحانه عن موجب النقصان، فلأي شئ
لم ينزه نفسه عن الفوقية ".
فنقول قد قال: (ليس كمثله شئ) (الشورى: 11).
134

فصل
قال: " وتاسع عشرها إلزام المعطل لأي شئ لم يصرح النبي صلى الله عليه
وسلم بنفي هذا (1) ".
ثم أستمر هذا السفيه على سفهه.
فصل
قال: " والعشرون نصوص ا لاستواء (2) سبع والفوق ثلاث والعلو خمسة
والنزول أكثر من سبعين نصا، والسماء منفطر به لم يسمح المتأخرون بنقله جبنا (3)
وضعفا بل قاله المتقدمون ".

(1) ما للنقائص من آخر، فهل تدون مجلدات في نفي كل نقيصة عنه تعالى
بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وكفى قوله تعالى " ليس كمثله
شئ " (الشورى: 11) والمحتاج إلى الإثبات هو المثبت دون المنفى،
وكلمة هذا الرجل هذه تقول إن الله تعالى مثبت له من النقائص ملايين
الملايين مما لم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على نفيه بلفظ خاص،
وهل يقول هذا عاقل فضلا عن فاضل فضلا عن إمام يعتقد تابعوه أنه وحيد
الأمة فضلا وعلما.
(2) ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن الاستواء لم يذكر في تلك الآيات إلا
بصيغة الفعل المقرونة بأداة التراخي في بعضها، وذلك نص على أن
الاستواء فعل من أفعال الله سبحانه لا صفة ذات له تعالى، وجل الله أن
تحدث له صفة بعد أن لم تكن ومن قال إنه مستو نطق بما لم يأذن الله به
كائنا من كان ومن زاد وقال استوى بذاته بمعنى استقر فهو عابد وثن
خيالي إن لم يكن عاميا.
(3) وروى الحشوية في تفسيره ألفاظا وهي (ممتلئ به) و (مثقلة به)
و (مثقلة به موقرة) و (يئط من ثقل الذات) وركبوا لها أسانيد فمن أثبت
لله سبحانه ثقلا لم يدع ما لم يفه به في التجسيم، والناظم استنكر إمساك
المتأخرين عن ذلك حتى باح بما في نفسه، ويحاول شيخه أن يجعل قول
كعب الأحبار في ذلك مما يمكن أن يكون سمعه من الصحابة، فحاشاهم عن
ذلك، وفي جزء المنبجي تلميذ الناظم في هذا الصدد مخاز، ومن علم الحالة
العامة عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من عراقة البيئة في الوثنية
ومنازع الأمم المحدقة بها في التشبيه والتجسيم كما أشرت إلى بعض ذلك في
مقدمة تبيين كذب المفتري لا يصعب عليه معرفة وجه اندساس أعداء الدين
بين الجمهور من عهد التابعين لبعث ما عندهم من صنوف الزيغ بين أعراب
الرواة وبسطاء مواليهم حتى وجدت تلك الأساطير من يذيعها بين الأمة
خلفا عن سلف، قاتلهم الله، ولولا قيام علماء أصول الدين في كل قرن
بكشف الستار عن وجوه هؤلاء المخذولين لاستفحل أمرهم وله الحمد في الآخرة
والأولى، وهذا الناظم وشيخه قد جددا الكرة بسلاح جديد بتلبيس
معتقدهما الزائغ بلباس النظر والتفلسف تارة على طريقة صاحب المعتبر أبي
البركات البغدادي اليهودي وبلباس الرواية والأثر تارة أخرى وأمرهما كما ترى
مكشوف مفضوح في الحالتين بفضل الله وتوفيقه ولا عذر للمنخدعين بهما
بعد ما سردناه في هذا الكتاب.
نص أحمد في المجئ
136

هذا الرجل كما قال الله تعالى (فيتبعون ما تشابه منه) (آل عمران: 7) فصل
قال: " والحادي والعشرون إتيان رب العرش ومجيئه (1) من أين يأتي لا
يأتي إلا من العلو ".

(1) قال ابن حزم: روينا عن الإمام أحمد في قوله تعالى " وجاء ربك " (الفجر:
23) إنما معناه وجاء أمر
ربك كقوله تعالى " هل ينظرون إلا أن تأتيهم
الملائكة أو يأتي أمر ربك " (النحل: 33) والقرآن يفسر بعضه بعضا.
وهكذا نقله ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير، وقال البيهقي في مناقب
أحمد أنبأنا الحاكم أبو عمر بن السماك قال حدثنا حنبل بن إسحاق
قال سمعت عمي أبا عبد الله يعني أحمد يقول: احتجوا علي يومئذ - يعني
يوم نوظر في دار أمير المؤمنين - فقالوا تجيئ سورة البقرة يوم القيامة وتجيئ
سورة تبارك فقلت لهم إنما هو الثواب قال الله تعالى (وجاء ربك) (الفجر:
23) إنما تأتي قدرته، وإنما القرآن أمثال ومواعظ. قال البيهقي وفيه دليل
على أنه كان لا يعتقد في المجيئ الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت
به السنة انتقالا من مكان إلى مكان كمجئ ذوات الأجسام ونزولها، وإنما
هو عبارة عن ظهور آيات قدرته، فإنهم لما زعموا أن القرآن لو كان كلام الله
وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيئ والإتيان فأجابهم أبو عبد الله بأنه
إنما يجيئ ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ، فعبر عن إظهاره إياها
بمجيئه ا ه‍.
وقال اليافعي بعد أن ساق ذلك: قال العلماء وقد يقتضي الحذف من
التعظيم والتفخيم ما لا يقتضيه الذكر، وشواهده من الكتاب كثيرة كقوله
تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) (المائدة: 33) و (إن الذين
يؤذون الله ورسوله) (الأحزاب: 57) وقد أجمع المسلمون على تقدسه تعالى
عن التأذي والضرر، أي يحاربون عباد الله وأولياءه ويوضحه قوله تعالى
(فأتى الله بنيانهم) (النحل: 26) ليس المراد الإتيان بذاته بالاتفاق
وإنما هو أمره ويشهد له قوله تعالى " أتاها أمرنا ليلا أو نهارا " (يونس:
24) ا ه‍. والناظم وشيخه يدعيان الانتماء إلى أحمد ولا يتابعانه في التنزيه
كما رأيت نصوص أهل العلم عن أحمد فلا ينخدعن الموفق بثرثرتهما المفضوحة
وتهويلهما المصطنع وإنما ذلك وقاحة منهما قاتلهما الله، ما أجرأهما
على الله تعالى.
137

ما كفاه إثبات الفوقية حتى أثبت الحركة في الإتيان.
138

فصل
في الإشارة إلى ذلك من (1) السنة ".
قال: (لما قضى الله ربنا الخليقة * كتبت يداه كتاب ذي إحسان "
أين لفظ كتبت يداه؟
قال: " ولقد أشار نبينا في خطبة * نحو السماء بإصبع وبنان "
تقدم جوابه.

معنى كتب ربكم على نفسه بيده
قد أجمع أهل الحق على أنه لا يجوز إثبات صفة الله سبحانه بدون دليل
يفيد العلم ولهم في ذلك أدلة ناصعة قال أبو سليمان الخطابي في
(الناصحة) لا يجوز أن يعتمد في الصفات إلا على الأحاديث المشهورة التي
قد ثبتت صحة أسانيدها وعدالة ناقليها ا ه‍. ثم أقام النكير على قوم من
أهل الحديث تعلقوا برواية المفاريد والشواذ في الصفات، ونكتفي بهذه
الإشارة هنا. ولم يقع كتبت يداه في الصحيح عند ذكر حديث (سبقت
رحمتي غضبي) وأما ما في ابن ماجة فبطريق ابن عجلان وقد ضعفه
البخاري ولم يكن مالك يرضاه في الصفات فلا حجة في رواية مثله على
أن لفظه (كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق رحمتي سبقت
غضبي) قال الله تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) (الأنعام:
54) فكتب إذا تعدى بلفظ على يكون بمعنى أوجب، فيكون معنى الحديث
أوجب على نفسه بذاته لا بإيجاب أحد سواه، واستعمال (بيده) بمعنى
بذاته شائع كثير، والإيجاب على النفس بمعنى الوعد والوجوب عن الله لا
الوجوب على الله. فليس هناك خط ولا مخطوط، ومن الدليل على ما قلنا
أن الخط حادث مخلوق فكيف يتصور أن يكون قبل الخلق خلق فلا تغفل مع
الغافلين.
139

قال: " ولقد أتى في رقية المرضى نص بأن الله فوق (1) سمائه وخبر رواه
العباس أن الله فون العرش (2).

(1) ولفظ الحديث (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك) يدور هذا اللفظ
بين أن يكون بمعنى أنه تقدس اسمه في السماء لأن أهل السماء كلهم منزهون
بخلاف أهل الأرض وبين أن يكون بمعنى أنه في السماء واستحالة الثاني تعين
الأول والناظم غير اللفظ وادعى أنه نص تحريفا للكلم على أن في سنده زيادة
ابن محمد وهو منكر الحديث والناظم يستدل بالمنكر في الصفات مع تغيير نص
الرواية والحديث مخرج في سنن أبي داود.
(2) في رواية عبد الرزاق (والله فوق ذلك) ولفظ فوق العرش إنما وقع في بعض
الروايات كما سبق على أن الحديث انفرد به سماك. وشيخه عبد الله بن
عميرة لم يدرك الأحنف كما نص عليه البخاري فضلا عن أن يدرك عباسا
مع كونه مجهول الصفة، وتحسين الترمذي باعتبار أنه مروي عن
سماك بطرق لا بمعنى أنه محتج به حيث قال حسن غريب ثم ذكر وقفه عن
شريك عن سماك فتكون في رفعه علة أيضا، ويحيى بن العلاء في
مسند عبد الرزاق متروك، هكذا تكون حجج الناظم في السنة لا يبالي
أن يكون الحديث من المفاريد أو أن يكون فيه منكر أو مجهول أو
انقطاع. دعنا من تخريج الضياء وقد عرف الناس مذهبه في الصفات
وقال ابن العربي في العارضة عن حديث الأوعال هذا: وروى غير ذلك
ولم يصح شئ منه وإنما هي أمور تلفقت من أهل الكتاب ليس لها
أصل في الصحة وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد قول أمية
ابن أبي الصلت:
رجل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للأخرى وليث مرصد
ولم يصح ا ه‍.
140

واذكر حديث حصين (1) بن المنذر الثقة الرضي أعني أبا عمران إذ قال: ربي في
السماء لرغبتي ولرهبتي أدعوه كل أوان، فأقره الهادي البشير صلى الله عليه وسلم
سخف عثمان بن سعيد في التمسك بحديث
حصين في الفوقية

(1) غلط الناظم في اسم والد حصين كما يظهر من الكتب المؤلفة في الصحابة،
وإسلام حصين صاحب القصة مختلف فيه ووصفه بالثقة الرضي مطلقا مجازفة
وأقل ما يقال فيه إنه لم يكن ثقة ولا رضي حين المحادثة على تقدير ثبوت
الخبر ولسنا في صدد استقصاء جهالات الناظم ويريد بحديث حصين ما رواه
أحمد بن منيع عن أبي معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران
ابن حصين قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: " كما تعبد اليوم
إلها؟ فقال ستة في الأرض وواحدا في السماء، قال: فأيهم تعده
لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال يا حصين، أما إنك لو أسلمت
علمتك كلمتين ينفعانك، فلما أسلم قال يا رسول الله علمني الكلمتين، قال:
" قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي ". وأخرجه عثمان بن
سعيد السجزي الدارمي عن ابن منيع إلى " الذي في السماء " فقط في كتاب
النقض محتجا به على إثبات الحد والنهاية والمكان له تعالى حتى قال: فلم
ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في
السماء فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله من المريسي
وأصحابه... وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء
وحدوه بذلك.. وكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية ا ه‍ " راجع معقول
ابن تيمية في هامش منهاجه (2 - 30) تجده ينقل ذلك عنه بنصه وفصه
بدون استنكار، والناظم اتبع له من ظله في كل صغير وكبير (ومن لم
يجعل الله له نورا فما له من نور) (النور: 40) وعثمان الدارمي
هذا مجسم قح كما ترى وهو إمام الناظم وشيخه وإسلام عمران بن حصين
أيام خيبر وهذه المحادثة وقعت قبل الهجرة وحصين مشرك ولا يكون من
التقرير في شئ ما يشاهده النبي صلى الله عليه وسلم في المشرك وسكت
عليه، وكيف يتصور عاقل أنه أقره على ما يدعيه الناظم؟ إذ من المحال أن
يقره على ستة في الأرض، على أن عرضه الإسلام يدل على استنكار ما قاله
حصين وعلى أنه كان على شر وضلال فيما قال، وشبيب بن شيبة ضعفه
النسائي وغيره وبمثل هذا السند لا يستدل في الأعمال فضلا عن الاستدلال به
في المعتقد، وأما ما أخرجه ابن خزيمة في التوحيد فبلفظ آخر زيد فيه كلمة
إنقاذا للموقف لكن في سنده عمران بن خالد وحاله أسوأ من أن ينال: إنه
ضعيف بل هو مكشوف الأمر والروايتان مختلفتان فلا تجمعان ولا تلفقان ولا
ينقذ هذا الموقف بمثل ذلك الترقيع، فليتق الناظم رب العالمين من أن يسوق
في صفات الله سبحانه أمثال تلك الروايات.
141

ولم يقل أنت المجسم قائل مكان واذكر شهادته لمن قال ربي في
السماء (1) بالإيمان وشهادة المعطل له بالكفران، وحديث (2) الأطيط،

(1) وليس في رواية يحيى الليثي عن مالك لفظ (فإنها مؤمنة) في حديث
الجارية وقد سبق بيان اضطراب هذا الحديث سندا ومتنا وعدم صلاحية مثله
للاحتجاج إلا في الأعمال دون المطالب الاعتقادية وقد حمل الشريف الجرجاني
لفظ (أين) في الحديث على السؤال الاستكشافي، ومن أهل العلم من قال
إن العامي الذي يعلو عن مداركه التنزيه عن المكان يؤخذ بالرفق ويعذر لهذا
الحديث بخلاف من عنده بعض إلمام بالعلم، وجعل ابن رشد الحفيد لصاحب
البرهان شأنا غير شأن العامي في ذلك، وقد سبق بسط ذلك كله.
(2) قال الذهبي في كتاب العلو: لفظ الأطيط لم يأت به نص ثابت ا ه‍.
وقد ألف الحافظ أبو القاسم بن عساكر جزءا سماه (بيان التخليط في حديث
الأطيط) بين فيه وجوه التخليط في روايات الأطيط فلا حاجة لتكلف
التأويل بعد ثبوت بطلان تلك الروايات.
وقد سبق بيان ما فيه كفاية في هذا الصدد فلا نعيد الكلام بدون موجب.
الشعر المنسوب إلى ابن رواحة
142

وحديث النزول (1) وحديث (2) ابن رواحة،

(2) يشير به إلى ما ينسب إلى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه من أنه أنشد:
شهدت بأن وعد الله حق * وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف * وفوق العرش رب العالمينا
إيهاما لامرأته أنه يتلو القرآن دفعا لما اتهمته به من نيله جارية له حتى قالت
زوجته آمنت بالله وكذبت عيني ا ه‍ وهذه قصة تذكر في كتب المحاضرات
والمسامرات دون كتب الحديث المعتمدة ولم ترد في كتب أهل الحديث بسند
متصل ولو من وجه واحد وأما ما وقع في الإستيعاب من قول ابن عبد البر
(رويناه من وجوه صحاح) فسهو واضح من الناسخ وأصل الكلام (من
وجوه غير صحاح) فسقط لفظ (غير) فتتابعت النسخ على السهو إذ لم
يجد أهل الاستقصاء سندا واحدا يحتج بمثله في هذه القصة بل كل ما
عندهم في هذا الصدد أخبار منقطعة وما يكون في عهد ابن عبد البر مرويا
بطرق صحيحة كيف لا يكون مرويا عند من بعده ولو بطريق واحد صحيح؟
وهذا يعين ما قلناه من سقوط لفظ (غير) في الكتاب. ولم يتمكن الذهبي
بعد بذل جهده من ذكر سند واحد غير منقطع في القصة وأفعال الصحابة كلها
جد، وجل مقدار مثل هذا الصحابي عن أن يوهم صحابية أنه يتلو القرآن
بإنشاده الشعر لها. وإيهام كون الشعر من القرآن ليس مما يقر عليه النبي
صلى الله عليه وسلم فمتن الخبر نفسه يدل على البطلان. على أن الحافظ
ابن الجوزي ذكر في كتاب الأذكياء أنه قال:
وفينا رسول الله يعلو كتابه * كما انشق مرموق من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا * به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وأين هذا الشعر من ذاك الشعر والحكاية هي هي. ولا مجال لتعدد القصة لأن
المرأة لا تخدع بمثل ذاك مرتين.
143

والمعراج (1) وقريظة (2)، وصعود. الروح (3) عند الموت،

(1) نحيل الناظم في حديث المعراج الذي يريد أن يستدل به هنا على ما كتبه
هو نفسه في زاد المعاد في الأوهام الواقعة في حديث شريك في المعراج وقد
بسط أهل العلم أغلاطه فيه.
حديث بني قريظة
(2) يعني ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد بن معاذ حين حكم
في بني قريظة بأن يقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم: (لقد حكمت فيهم
بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة) وفي سنده النسائي محمد بن صالح
التمار ليس بقوي، قال أبو بكر ابن العربي في القواصم: لم يصح ا ه‍
على أن حكم الله يطلع عليه الملائكة باطلاعهم على اللوح المحفوظ
فيكون معنى كون حكمه في السماء كون حكمه في اللوح المحفوظ الذي هو
في السماء.
(3) أخرجه أحمد وابن خزيمة وفيه لفظ " حتى تنتهي إلى السماء التي فيها
الرب ". وليس السند إليهما كالسند إلى الأصول الستة، وقد أعرض عن
تخريجه أصحاب الأصول الستة وهذا اللفظ منكر والظاهر أنه من تغيير
بعض الرواة وقد أجمع المسلمون على أن الله سبحانه لا تحويه السماء ولا
الأرض وأنه منزه عن المكان، قال الخطيب البغدادي في الفتية والمتفقه: إذا
روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رد بأمور أحدها أن يخالف موجبات
العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول وأما
بخلاف العقول فلا ا ه‍. وأما هذا فمخالف للكتاب والسنة والمعقول في
آن واحد.
144

وسخط الله (1) على المرأة التي تهجر زوجها، وحديث جابر في أهل الجنة إذا بنور (2)
ساطع فإذا هو الرحمن.
وحديث فضل (3) يوم الجمعة، وأمين (4) من في السماء، واذكر حديث أبي

(1) ولفظ مسلم " كان الذي في السماء ساخطا عليها " وليس في هذا اللفظ
التصريح بما يرمي إليه الناظم، ومثل هذا الحديث من أخبار الآحاد يحمل
على المحكمات وليس في الحديث. ذكر الرب سبحانه وحمله عليه تقول وعلى
فرض حمله عليه ليس معنى كونه في السماء الاستقرار والتمكن فيها
باتفاق بل معنى ذلك علو الشأن، كما سبق.
حديث جابر
(2) أخرجه ابن ماجة بطريق العباداني وهو منكر الحديث وفضل الرقاشي ممن لا
يكتب حديثه وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وأقر الذهبي بكونه
ضعيف الإسناد وبمثله يحتج الناظم!.
(3) غير صالح للاحتجاج بالمرة ولا سيما في مثل هذا المطلب ولابن عساكر الحافظ
جزء سماه (القول في جملة الأسانيد الواردة في حديث يوم المزيد) وبين فيه
وجوه الوهي فيها وقال إن لهذا الحديث عن أنس عدة طرق في جميعها مقال.
وفي بعض طرق الحديث ما يخيل إلى الناظر أنه في احتفاء بأحد رجالات
العرب تعالى الله عما اختلقه أعداء الدين وركبوا له أسانيد ما أنزل الله بها
من سلطان.
(4) وهو أمين من في الأرض من المؤمنين وأمين سكان السماوات كلهم فماذا في
هذا الحديث مما يرمي إليه الناظم.
145

رزين (1) وبطوله ساقه ابن إمامنا والطبراني وأبو بكر بن زهير واذكر كلام مجاهد
في قوله تعالى (أقم الصلاة...) في سبحان في ذكر تفسير المقام

(1) سبق الكلام في حديث أبي رزين، ونود أن نعلم هل كان الناظم يعتقد
صحة جميع ما في كتاب السنة المنسوب إلى عبد الله بن أحمد، فإذا ذاك
لا يسقط التابع والمتبوع وجل مقدار أحمد أن يصح عنه جميع ما في
الكتاب المذكور ومن طالعه من أهل العلم لا يتردد أنه ليس بكتاب يحتج
بجميع ما فيه ومن جملة ما فيه: رآه على كرسي من ذهب يحمله أربعة:
ملك في صورة رجل، وملك في صورة أسد وملك في صورة ثور وملك
في صورة نسر، في روضة خضراء دونه فراش من ذهب. ومنها: كلمه
بصوت يشبه الرعد. ومنها.: أوحى الله إلى الجبال إني نازل على جبل
منك، ومنها: أن الرحمن ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام
المشركون حتى إذا قام المسبحون خفف عن حملة العرش ومنها " السماء
منفطر به " (المزمل: 18) مثقل وممتلئ به. ومنها: أنه ليقعد عليه فما
يفضل منه إلا قيد أربع أصابع. ومنها فأصبح ربك يطوف في الأرض...
إلى آخر ما تجده في النسخة المطبوعة من كتاب السنة. وقوله " نازل على
جبل منك " يذكرنا ما أخرجه أبو إسماعيل الهروي في الفاروق عن كعب:
إن الله نظر إلى الأرض فقال إني واطئ على بعضك فاستبقت له الجبال
وتضعضعت الصخرة فشكر لها ذلك فوضع عليها قدمه فقال هذا مقامي..
ا ه‍. وهذا. الهروي المخرف يروي في ذم الكلام عن بعض قادته أنه لا
تحل ذبائح الأشعرية لأنهم ليسوا بمسلمين ولا بأهل كتاب ا ه‍، والله
ينقم منه. وأما الطبراني فمن المعروف عند أهل النقد أنه من الذين
يروون الحديث الموضوع والضعيف بدون بيان كونه موضوعا أو ضعيفا
بل ينسب إليه تصحيح حديث عكرمة في الرؤية على صورة شاب
أمرد... فلا حب ولا كرامة.
146

لأحمد (1) إن كان تجسيما، فإن مجاهدا هو شيخهم بل شيخه الفوقاني ولقد أتى
ذكر الجلوس به ".
هذه الأحاديث كلها قد ذكرها الأئمة وذكروا تأويلاتها من قديم الزمان وإلى
الآن.

(1) مروي عنه بطرق ضعيفة وتفسيره بالشفاعة متواتر معنى عن النبي صلى الله
عليه وسلم فأنى يناهضه قول تابعي على تقدير ثبوته عنه؟ ومن يقول إن الله
سبحانه قد أخلى مكانا للنبي صلى الله عليه وسلم في عرشه فيقعده عليه
في جنب ذاته فلا - نشك في زيغه وضلاله واختلال عقله رغم تقول جماعة
البربهارية من الحشوية وكم آذوا ابن جرير حتى أدخل في تفسيره بعض
شئ من ذلك مع أنه القائل:
سبحان من ليس له أنيس * ولا له في عرشه جليس
ولو ورد مثل ذلك بسند صحيح لرد وعد أن هذا سند مركب فكيف وهو لم
يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصلا بل نسب إلى مجاهد بن جبر، نعم لا
مانع من أن يكون الله سبحانه يقعده على عرش أعده لرسوله صلى الله
عليه وسلم في القيامة إظهارا لمنزلته لا أنه يقعد ويقعده في جنبه، تعالى
الله عن ذلك. إذ هو محال يرد بمثله خبر الآحاد على تقدير وروده مرفوعا
فكيف ولم يرد ذلك في المرفوع حتى قال الذهبي: لم يثبت في قعود نبينا
صلى الله عليه وسلم على العرش نص بل في الباب حديث رآه. وقال أيضا:
ويروى مرفوعا وهو باطل. فما ذكره ابن عطية من التأويل وسايره الآلوسي
فليس في محله لأن أصحاب الاستقراء لم يجدوه مرفوعا حتى نحتاج إلى
محاربة التأويل بما يمجه الذوق ومن طن أنه يوجد في مسند الفردوس ما
يصح في ذلك لم يعرف الديلمي ولا مسنده وأرسل الكلام جزافا. جزى
الله الواحدي خيرا. حيث رد تلك الأخلوقة ردا مشبعا وكذا ابن
المعلم القرشي وأما ما يروى عن أبي داود أنه قال من أنكر هذا الحديث فهو
عندنا متهم. فبطريق النقاش صاحب شفاء الصدور وهر كذاب عند أهل
النقد وقال ابن عبد البر إن لمجاهد قولين مهجورين عند أهل العلم
أحدهما تأويل المقام المحمود بهذا الإجلاس والثاني تأويل " إلى ربها ناظرة "
(القيامة: 23) بانتظار الثواب. وفتنة أبي محمد البربهاري ببغداد في
الإقعاد وصمة عار يأبى أهل الدين أن يميلوا إليها لاستحالة ذلك وتضافر الأدلة
على تفسير المقام المحمود بالشفاعة وإنما هذه الأسطورة تسربت إلى معتقد
الحشوية من قول بعض النصارى بأن عيسى عليه السلام رفع إلى السماء
وقعد في جنب أبيه. تعالى الله عن ذلك فحاولوا أن يجعلوا للنبي صلى
الله عليه وسلم مثل ما جعله النصارى لعيسى عليه السلام كسابقة لهم،
تعالى الله عن ذلك. فعليك أن تتهم من يقول إني أتهم من ينفي حديث
الإقعاد في جنب الله عز وجل.
147

(فصل)
بحث ممتع في التأول
في جناية التأويل (1) على ما جاء به الرسول ".

(1) من كلام العرب ما يفهم منه مراد التكلم بمجرد سماعه بدون احتياج إلى التدبر
ومنه ما لا ينفهم المراد منه إلا بعد التأمل فيما يؤول إليه ذلك الكلام والتأويل
تبيين ما يؤول إليه الكلام بعد التدبر فمن نفى التأويل جملة وتفصيلا فقد
جهل الكتاب والسنة ومناص كلام العرب في التخاطب. وأبو يعلى الحنبلي
المسكين - من أئمة الناظم - ألف كتابا سماه (إبطال التأويلات في أخبار
الصفات) أتى فيه بكل طامة حتى قال عنه أبو محمد رزق الله التميمي
الحنبلي: لقد بال أبو يعلى على الحنابلة بولة لا يغسلها ماء البحار. كما ذكره
سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان، ولفظ ابن الأثير في الكامل أفظع وأما
لفظ ابن الجوزي في دفع الشبه فرواية بالمعنى، وقد ذكر أبو الفرج ابن
الجوزي الحنبلي في دفع شبه التشبيه كثيرا من مخازيه بل في تأسيس ابن
تيمية نقول كثيرة من كتاب (إبطال التأويلات) منها إثبات الحد له تعالى
من الجانب الأسفل، تعالى الله عن ذلك. ويأسف الإنسان كل الأسف أن
يضل مثل أبي يعلى هذا الضلال وما ذلك إلا من عدوي خلطائه، فلو كان
والده الذي كان من أخص أصحاب أبي بكر الرازي الجصاص رأى ما آل إليه
أمر ابنه اليتيم عنه لبكى بكاء مرا وتبرأ منه ومن عقائده. ومما زاد في
ويلات الكتاب اعتداده بكل خبر غير مميز بين المختلق وغيره. ولأبي يعلى
هذا كتاب المعتمد في المعتقد وهو قريب إلى السنة ونرجو أن يكون هذا آخر
مؤلفاته ليكون قاضيا على ما سلف منه وإلا فيا للعار والنار من مسايرة
الأشرار، فمن أول في كل موضع فهو قرمطي كافر، ومن أبى التأويل في
كل آية وحديث فهو حجري زائغ كابن الفاعوس الحنبلي الذي لقب بالحجري
حيث كان يقول إن الحجر الأسود يمين الله حقيقة قال أبو بكر بن العربي عن
الظاهرية:
قالوا الظواهر أصل لا يجوز لنا * عنها العدول إلى رأي ولا نظر
بينوا عن الخلق لستم منهم أبدا * ما للأنام ومعلوف من البقر
وقد قال ابن عقيل الحنبلي " هلك الإسلام بين طائفتين: الباطنية والظاهرية
والحق بين المنزلتين وهو أن نأخذ بالظاهر ما لم يصرفنا عنه دليل ونرفض كل
باطن لا يشهد به دليل من أدلة الشرع " وللغزالي جزء لطيف سماه
قانون التأويل وهو يقول فيه عند البحث فيما إذا كان بين المعقول والمنقول
تصادم في أول النظر وظاهر الفكر: (والخائضون فيه تحزبوا إلى مفرط
بتجريد النظر إلى المنقول وإلى مفرط بتجريد النظر إلى المعقول وإلى متوسط
طمع في الجمع والتلفيق والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلا
والمنقول تابعا وإلى من جعل المنقول أصلا والمعقول تابعا وإلى من جعل كل
واحد أصلا): ثم شرح هؤلاء الأصناف الخمسة شرحا جيدا لا يستغني عنه
باحث، حفظنا الله سبحانه من الافراط والتفريط وسلك بنا سواء السبيل وفي
الاطلاع على جزء الغزالي هذا فوائد في هذا الصدد.
قول ابن حجر في التأويل
وأما قول ابن حجر في فتح الباري " إنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ولا عن أحد من الصحابة بطريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شئ
من ذلك - يعني المتشابهات - ولا المنع من ذكره ومن المحال أن يأمر الله نبيه
صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل ألية ربه وينزل عليه " اليوم أكملت لكم
دينكم " (المائدة: 3) ثم يترك هذا الباب فلا يميز ما يجوز نسبته إليه تعالى
وما لا يجوز مع حثه على التبليغ عنه بقوله صلى الله عليه وسلم (ليبلغ
الشاهد الغائب) حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحواله وما فعل بحضرته فدل
على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله تعالى منها
ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات بقوله تعالى: " ليس كمثله شئ "
(الشورى: 11) فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم فقد خالف سبيلهم وبالله
التوفيق ا ه‍ ".
فليس مما يستطيع الحشوي أن يتخذه سندا في ترويج مزاعم المشبهة
رغم محاولة بعضهم ذلك لأن في سياق كلامه ما يحتم التفويض مع التنزيه
وهو مذهب جمهور السلف وليس أحد من أهل العلم يمنع من إجراء المتشابه في
الكتاب والسنة المشهورة على اللسان بدون خوض في المعنى فمن خاض وحمل
على ما ينافي التنزيه فهو الذي خالف سبيلهم، بل الصحابة كلهم أجمعوا
على تنزيه الله سبحانه عن مشابهة المخلوقات في ذاته وصفاته وأفعاله ومن
ضرورة ذلك صرف الألفاظ المستعملة في الخلق عن معانيها المتعرفة بينهم إلى
معان تتسامى عنها عند نسبة تلك الألفاظ إلى الله سبحانه على مقتضى
قوله تعالى: " ليس كمثله شئ " وهو. تأويل إجمالي وأما تعيين تلك
المعاني المتسامية تفصيلا بقرائن قائمة فمما يختلف مبلغ انتباه أهل العلم إليه
على اختلاف ما آتاهم الله من الفهم فمن بان له وجه الكلام كوضح الصبح
يسلك طريق التبيين بل يدخل هذا المتشابه في حقة في عداد المحكم - وذلك
كالنظري بالنسبة إلى الحدسي وكم من نظري مستصعب عند أناس يكون
حدسيا مكشوفا عند أناس آخرين - فأحاديث النزول مثلا إبعادها عن معان
توجب التشبيه والنقلة موضع اتفاق بين أهل الحق سلفا وخلفا وحملها على
المجاز في الطرف أو على الإسناد المجازي استعمال عربي صحيح وموافق للتنزيه
وقد يترجح عند بعضهم الأول وعند بعضهم الثاني، ولكن الذي صح عنده
رواية الإنزال أو اطلع على صحة حديث أبي هريرة في سنن النسائي (إن الله
عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب
له) يجزم بإرادة الإسناد المجازي في باقي الروايات فيخرج حديث النزول في
نظره من عداد المتشابه ويدخل في عداد المحكم حيث رده ألية.
تحقيق ابن دقيق العيد
قال الإمام المجتهد ابن دقيق العيد: " إن بهان التأويل من المجاز البين
الشايع فالحق سلوكه من غير توقف، أو من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه،
وإن استوى الأمران فالاختلاف في جوازه وعدم جوازه مسألة فقهية اجتهادية
والأمر فيها ليس بالخطر بالنسبة للفريقين ا ه‍ "
وهذا كلام نفيس جدا ينبئ عن علم جم، وصراحة في بيان الحق، وتوسط
حكيم بخلاف كلام الذين يسعون في إرضاء الطوائف بكلام معقد متشابه يفتح
باب التقول لمن بعدهم من الزائغين في المتشابهات، وأين هؤلاء من ابن دقيق
العيد في التروي والأمانة والصراحة والتحقيق وا لجمع بين الأصلين والفقه
والحديث؟. وعن ابن دقيق العيد هذا يقول ابن المعلم: (كان مبارزا لأهل
البدع من الحشوية والصوتية والقائلين بالجهة... منكرا عليهم بيده ولسانه
ولفظه وجنانه يغري ويؤلب عليهم ولا يدع لهم رأسا قائمة إلا اقتطعها ولا
شجرة يخشى شرها إلا اقتلعها) فتبين من ذلك أن المسلم في سعة من
التفويض والتأويل فالأول في حينه أسلم والثاني بشرطه أحكم فلا يتصور أن
ينقل التصريح بوجوب التأويل التفصيلي عن الصحابة لأنه لو نقل لوجب
التأويل التفصيلي على العالم والجاهل على حد سواء وهذا مما يبرأ منه الشرع
الحنيف.
صنيع الصحابة في التأويل
وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم لا يخوضون في المعضلات حرصا منهم
على معتقد الذين قرب عهدهم بالجاهلية وتدريبا لهم على الأعمال النافعة دون
المماحكات الفارغة، لأن الخوض فيها يضر ولا ينفع في شخص دون شخص
وفي وقت دون وقت - وعمل الفاروق رضي الله عنه في صبيغ معروف - ولم
148



يتقاعس الصحابة عن الإجابة عند حدوث ضرورة كما فعل ابن عباس رضي الله
عنهما مع نافع بن الأزرق فلا يكون المؤول بشرطه مخالفا للصحابة رض الله
عنهم بل مقتديا بهم، وقد سرد المحدث النظار الفخر بن المعلم القرشي
الشافعي في (نجم المهتدي) في باب خاص منه نماذج كثيرة من التأويلات
المروية عن الصحابة والتابعين وقد اكتظت كتب التفسير بالرواية بما روى عنهم
في هذا الصدد. وكانت الصحابة يفهمون بسليقتهم كلام الله وكلام رسوله
صلى الله عليه وسلم ولم يكن يصعب عليهم فهم ما يستعصى فهمه على
كثير ممن تأخر زمنه عن زمن الوحي، ولم يقع في كلام أحد منهم شئ ينافي
التنزيه أصلا وأما ما وقع في بعض الروايات مما يوهم ذلك فمن تغيير أعراب
الرواة وأعاجمهم والرواية بالمعنى من غير فقهاء الرواة في حاجة إلى التنقيب
والنظر وحيث كان غالب ألفاظ الروايات ألفاظ الرواة - على حسب فهمهم
المعاني - لا يعول محققو علماء العربية في اللغة على ألفاظ الحديث المروى
بالمعنى فكيف يتصور أن يتخذ علماء أصول الدين ألفاظ هؤلاء الرواة - على
حسب أفهامهم - حجة في دين الله من غير نظر فيما إذا كان مخالفا للتنزيه
والبراهين القائمة؟. والحاصل أن التفويض مع التنزيه مذهب جمهور السلف
لانتفاء الضرورة في عهدهم والتأويل مع التنزيه مذهب جمهور الخلف حيث عن
لهم ضرورة التأويل لكثرة السماعين في الإضلال في زمنهم. وليس بين
الفريقين خلاف حقيقي لأن كليهما منزه ومن أهل العلم من توسط بين هؤلاء
وهؤلاء كما أشرت إليه.
وأما المشبهة فتراهم يقولون: نحن لا نؤول بل نحمل آيات الصفات وأخبارها
على ظاهرها. وهم في قولهم هذا غير منتبهين إلى أن استعمال اللفظ في الله
سبحانه بالمعنى المراد عند استعماله في الخلق تشبيه صريح وحمله على معنى
سواه تأويل على أن الأخبار المحتج بها في الصفات إنما هي الصحاح المشاهير
دون الوحدان والمفاريد والمناكير والمنقطعات والضعاف والموضوعات مع أنهم
يسوقون جميعها في مساق واحد في كتب يسمونها التوحيد أو الصفات أو
السنة أو العلو أو نحوها.
اضطراب الحشوية
ومن الأدلة القاطعة على رد مزاعم الحشوية في دعوى التمسك بالظاهر في
اعتقاد الجلوس على العرش خاصة قوله تعالى " وإذا سالك عبادي عني فإني
قريب " (البقرة: 186) وقوله تعالى " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد "
(ق: 16) وقوله تعالى " واسجد واقترب " (العلق: 19) وقوله تعالى
" ألا إنه بكل شئ محيط " (فصلت: 54) وقوله تعالى " وهو معكم أينما
كنتم " (الحديد: 4) إلى غير ذلك مما لا يحصى في الكتاب والسنة المشهورة
مما ينافي الجلوس على العرش وأهل السنة يرونها أدلة على تنزه الله سبحانه
عن المكان كما هو الحق فلا يبقى للحشوية أن يعملوا شيئا إزاء أمثال تلك
النصوص غير محاولة تأويلها مجازفة أو العدول عن القول بالاستقرار المكاني
فأين التمسك بالظاهر في هاتين الحالتين؟. وهكذا سائر مزاعمهم على أن من
عرف أقسام النظم باعتبار الوضوح والخفاء وأقر بكون آيات الصفات وأخبارها
من المتشابه كيف يتصور في هذا المقام ظاهرا يحمل المتشابه عليه؟. وإنما حقه
أن يحمل المتشابه في الصفات على محكم قوله تعالى " ليس كمثله شئ "
(الشورى: 11) بالتأويل الإجمالي ومن الحشوية من يزعم أن الآية المذكورة
متشابهة ليتنكب الحمل المذكور، بل منهم من بلغ به الكفر إلى حد أن
يقول (له ساق كساقي هذه والمراد بالآية نفي المماثلة في الإلهية لا في كل
أمر) كما تجد ذلك في ترجمة العبدري الظاهري في تاريخ ابن عساكر. وهذا
كفر بواح، فتلاوة المشبه الآية المذكورة لا تفيد بمجردها التنزيه بالمعنى الذي
يفهمه أهل الحق من الآية فلا تغفل ولا تنخدع فمن المضحك المبكي تمسكهم
مرة في نفي العلم بالتأويل بقوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله " (آل عمران
: 7) باعتبار الوقف على الاسم الكريم مع دعوى الحمل على الظاهر، وزعمهم
أخرى أن التأويل بمعنى التفسير مع الوقف على " والراسخون في العلم " (آل
عمران: 7) مدعين أنهم يعلمون تأويل المتشابه باعتبار أنهم من الراسخين في
العلم ومجترئين على النطق بكلمات في المتشابهات لا ينطق بمثلها من يخاف
مقام ربه، وأما أهل الحق فلا يدعون معرفة جميع التأويل بل يفوضون علمه
إلى الله ويردون المتشابه إلى المحكم جملة وتفصيلا ولا يحملون لفظ التأويل
في تلك الآية على خلاف معناه المعلوم من السياق بل يحمل بعض المحققين
منهم النفي في الآية - بالوقف على لفظة " الله " كما هو المؤيد دراية ورواية -
على سلب العموم دون عموم السلب بالنظر إلى أن التأويل مصدر مضاف
فيكون من ألفاظ العموم فبانصباب النفي على العموم يكون المعنى: ما يعلم
غيره تعالى بنفسه جميع التأويل وهذا لا يمانع معرفة الرسول صلى الله عليه
وسلم جميع التأويل بتعليم الله سبحانه وحيا ولا يمنع أهل العلم من الأمة من
السعي في معرفة ما دون الجميع من التأويل كما هو حكم رفع الإيجاب
الكلي، ومنهج كثير من السلف الذين اختاروا الوقف على لفظة " الله "
فضلا عن الخلف وبهذا تعرف قيمة ما أطال به ابن تيمية الكلام في تفسير
سورة الإخلاص متظاهرا بالمسايرة مع الخلف مخادعة منه في صدد توهين
الوقف على لفظة " الله " مع إخراج التأويل عن معناه ليتمكن من حمل
المتشابهات على معتقد الحشوية، فإذا تدبرت كلامه الطويل هناك تحت نور
هذا البيان تجده يضمحل ويذهب هباء ومن الطريف تأويل التأويل ممن ينكر
التأويل ويدعي الأخذ بالظاهر.
ثم إني أوص الشحيح بدينه أن لا يلتفت إلى كلام مثل البرهان
الكوراني (وله أمثال) ممن ضاع صوابه بين نزعات متضاربة من حشوية
وتصوف وفلسفة وكلام حيث أطلق عنان الهذيان في التلفيق بينها من غير أن
يستبحر في علم منها والكلام بعد الاستطراف المجرد مرقع في التخريف
ومصداق ذلك في (الأمم لإيقاظ الهمم) له في (ص 23 - 26) منه فما يرويه
فيه عن كتب تنهب إلى الأشعري على خلاف ما هو مدون في كتب الصحابة
وأصحاب أصحابه ليس بموضع تعويل لمنافاته لنقل الكافة ولإبادة الحشوية
لكتبه في فتن بغداد ولتصرفهم في البقية الباقية التي يذيعونها بما يخالف نقل
الكافة ولعدم روايتها سماعا بطريق أهل السنة، كما بينت ذلك في موضع
آخر. وأما ما يرويه عن عبد الغني القدسي بسنده عن الشافعي من الاعتقاد
فباطل موضوع وفي سنده العشاري وأبو العز بن كادش وسيأتي حالهما في
أواخر الكتاب وعبد الغني نفسه ليس ممن يقبل قوله في الصفات، راجع ذيل
الروضتين. فلا يعول على مثل هذا السند إلا مثل الكوراني.
التجلي في الصور
وقول الكوراني بالتجلي في الصور مجون في مجون وجنون ليس فوقه
جنون، وقال أبو بكر ابن العربي في القواصم والعواصم (2 - - 28) فيمن
يحمل حديث (... فيأتيهم في صورة ثم يأتيهم في صورة أخرى...) على
التبدل والانتقال والتحول: إنه ليس من أهل القبلة بل حكم بخروجه أصلا
وفرعا من الملة. وحمل الصورة على ظاهرها فضيحة ليس فوقها فضيحة
والله هو الهادي.
148

فذكر أن التأويل أصل كل بلية ثم قال: " والتأويل الصحيح هو تفسيره
وظهور معناه كقول عائشة يتأول القرآن وحقيقة التأويل معناه الرجوع إلى
149

الحقيقة لا خلف بين أئمة التفسير في هذا، تأويله هو عندهم تفسيره بالظاهر (1) ما
قال منهم قط شخص واحد تأويله صرف عن الرجحان ولا نفى الحقيقة ".

(1) وحمل التأويل على معنى التفسير في باب المتشابهات تحريف للكلم عن
مواضعه وملاحظة ظاهر للمتشابه جهل يأباه كثير من العامة فضلا عن الخاصة
قد رضى الناظم لنفسه بهذا الجهل وأنى يتصور ظاهر في متشابه؟ فالظاهر
في اللغة يقابل الخفي فلا يتصور حيث لا يكون المدلول عليه واضحا فلا يعقل
أن يلاحظ هذا المعنى في المتشابه الذي هو غاية في الخفاء، وأما في أصول
الفقه فهو بمعنى الراجح من الاحتمالين بالوضع أو بالدليل وهو من أقسام
الوضوح المقابل للخفاء الذي من أقسامه المتشابه فلا يتصور اجتماعهما في لفظ
ويطلق الظاهر أيضا على ما، يدل على المراد بإحدى الدلالات المعتبرة عند أهل
اللسان فيكون مقابلا للباطن الذي ابتدعه القرامطة، ولا شأن لهذا المعنى في
هذا البحث، وقد يطلق الظاهر بمعنى المستفيض المشهور وهو مراد من يقول
من أهل السنة (بإجراء أخبار الصفات على ظاهرها) حيث يريد إجراء اللفظ
المستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفات الإله على اللسان كما ورد
مع التفويض أو التأويل على ما سبق، وهذا المعنى هو المراد في قول الفقهاء
(هذا ظاهر الرواية) يعنون أنه المروي عن صاحب المذهب بطريق الاستفاضة
والشهرة. وفيما علقت على الاختلاف في اللفظ (ص 45): " أما ما
يروى عن بعض السلف من إجراء أحاديث الصفات وإمرارها على ظاهرها
فليس بمعنى الظاهر المصطلح في أصول الفقه الذي يبقى حين ترجح الاحتمال
الآخر بالدليل كالنجم عند شروق الشمس ولا بمعنى ما يظهر للعامة من اللفظ بل
بالمعنى المقابل للغريب الذي ينفرد بلفظه راو في إحدى الطبقات فيكون بمعنى
تجويز إمرار اللفظ على اللسان وإجرائه عليه إذا كان اللفظ مرويا بطريق
الظهور والشهرة في جميع الطبقات كما وقع إطلاق الظاهر بهذا المعنى في كلام
الإمام مالك رضي الله عنه وغيره وقد يغالط بعضهم في ذلك فيضل ويضل
فلزم التنبيه على ذلك ا ه‍ ".
تبديع الفلاسفة وإكفارهم
156

قال الله تعالى في المتشابه " ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله "
(آل عمران: 7) فكيف يكون تأويله تفسيره بالظاهر والمتشابه لا ظاهر له وقوله ما
قال منهم أحد إن التأويل صرف عن الرجحان: كذب بل خلق قالوا ذلك وينطلق
التأويل أيضا على تدبر القرآن وتفهم معناه.
" فصل "
فيما يلزم مدعي التأويل "
ثم قال: " دليل صارف واحتمال الفظ وتعيين المقصود ".
هذا كثرة كلام في أمر سهل مفروغ منه.
" فصل "
" في طريقة ابن سينا (1) وذويه من الملاحدة في التأويل ".

(1) ذكر الغزالي مخالفته لما عليه أهل الحق في نحو عشرين مسألة أكفره
بثلاث منها وبدعه في الباقي في كتاب التهافت فقدم العالم وإنكار الحشر
الجسماني ومسألة العلم بالجزئيات هي المكفرات عنده لكن الناظم وشيخه قائلان
بالقدم النوعي ولا يقولان بإعادة الأجزاء المعدمة بل ولا يجمع الأجزاء المفرقة
راجع تفسير سورة الإخلاص لشيخه - وقولهما في العلم بالمتجددات
معروف - راجع ما سننقله من مفردات ابن تيمية من ذخائر القصر - فهما من
أوقع الناس في شبكة التفلسف عن جهل، على أن قول ابن رشد في تهافت
التهافت ومناهج الأدلة وقول الرازي في المطالب العالية وقول الدواني في شرح
العضدية مما يثير اهتمام الباحث بتلك المسائل. وقد صرح ابن سيناء في بعض
كتبه بأن العقل لا يدرك غير الحشر الروحاني وأما البعث الجسماني فطريق
معرفته وحي الرسل وليس في هذا إنكار للبعث الجسماني.
157

ذكر ابن سينا والملاحدة هنا للتنفير وإلا لما جاء بابن سينا والملاحدة معنا.
قال: " ويقول تأويلي كتأويل الفوقية والصفات والعلو تأويله أشد من تأويل
القيامة وحدوث العالم ".
ليس مقصود هذا الناظم إلا أن يفظع مقالات خصومه من الفقهاء وأهل العلم
ويجعلها في قلوب العامة أقبح من مقالات الفلاسفة لتشتد نفرتهم عنها واندفع في
مخارق وسفه ودعاوى لا حقيقة لها.
" فصل "
قال: " هذا وثم بلية مستورة ورث المحرف من اليهود وأنى إلى حزب الهدى
وأعطاهم شبه اليهود قال استوى استولى وذا من جهله عشرون (1) وجها تبطله أفردت

(1) وقد سبق إبطال جميع تلك الوجوه، والمصنف ذكر فيما سبق وجه حسن استعمال
استوى مجازا. عن استولى بحيث لا يدع لقائل مقالا، على أن الاستعارة
التمثيلية في هذا المقام أقعد وأوقع فيكون المجاز على هذا التقدير في المركب
دون أن يسري في مفرداته كما هو مدون في محله وقد أشرت إلى اختيار ذلك
فيما علقته على الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة (ص 41).
158

بتصنف تصنيف حبر عالم رباني وشبه النون التي زادتها اليهود في حطة بلام تعطيل
الجهمية ".
وهذا من الخرافات.
" فصل "
قال: " ومن العجائب قولهم فرعون مذهبه العلو وفرعون قال إن موسى كاذب
إذ ادعى فوقية الرحمن ".
أين ادعى موسى فوقية الرحمن؟.
" فصل "
قال: " تركيب استوى مع حرف الاستعلاء نص في العلو بوضع كل لسان "
نص في العلو أما في الذات فلا، فقولك؟ استوى قيس على العراق. لا
يستلزم أن يكون إذ ذاك في العراق بل ملكه فيها وعليها.
" فصل "
كله دعاوى وفقاقيع فارغة.
" فصل "
فيه إنكار المجردات (1).

تجرد الروح
(1) القول بتجرد الروح مما ذهب إليه إمام الهدى أبو منصور الماتريدي والحليمي
والراغب والغزالي والبيضاوي وغيرهم من كبار علماء السنة وبه يزول كثير من
الإشكالات، وإن خفيت أدلة ذلك على جمهور المتكلمين فضلا عن مكسري
الحشوية.
159

" فصل "
سوى فيه بينهم وبين المنافين والقرامطة وجعل المجسمة مقابل الجميع، وأن ما
ثم إلا التجسيم أو التعطيل وقد تقدم مثله، وإنما زاد التكرير والتفظيع ليزرع الريبة
في القلوب.
" فصل "
قال: " الاستواء ونحوه والمشيئة ونحوها كلاهما من صفات الأجسام - وطلب
الفرق بينهما - والله لو نشرت شيوخك كلها لم يقدروا أبدا. على فرقان ".
أنظر هذا الجلف الجاري على ما لا يعلم، وكل عاقل يعلم أن الاستواء بمعنى
القعود أقرب إلى صفات الأجسام من المشيئة والقدرة.
قال: " قال زعيمهم في الفرق هذه الصفات بالعقل والقرآن فيقال إن نفى
العقل التجسيم فانفوها وانسلخوا من القرآن وإن أثبته فلم الفرار؟ وإن نفاه في
وصف وأثبته في وصف فما الفرق؟.
(1) أنظر هل بعد هذا الكلام شئ في التجسيم (1)؟.

نص من ابن تيمية في الحد والجسم
(1) وشيخه أصرح منه وأجهر صوتا في ذلك حيث يقول فيما رد به على أساس
التقديس: " ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به
سلب الصفات - يريد ما يشمل المجئ ونحوه - ولا سلب إدراكه بالحواس ولا
نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم،
ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ا ه‍ ".
وهذا صريح جدا لعلك لا تحوجني
إلى شرح ذلك، راجع الكواكب الدراري لابن زكنون الحنبلي المحفوظ بظاهرية
دمشق ففي المجلد رقم 24 و 25 و 26 منه رده على أساس التقديس وفيه
فوق ما تقدم التصريح بأنه يمكنه التزام قدم بعض الأجسام يريد الباري سبحانه
فهل يتصور أن ينطق مبتدع مارق أبا صرح من هذا في وسط المسلمين
والناظم متقلد مذهبه بدون تفكير والله سبحانه ينتقم منهما بما أثارا من الفتن
بين العوام.
160

" فصل "
كله سفاهة.
" فصل "
حكى مذاهب خصومه بأقبح ما يكنون ثم قال: " جربت هذا كله ووقعت في
تلك الشباك وكنت ذا طيران حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني
حبر أتى من أرض حران فيا أهلا بمن قد جاء من حران (1) "

(1) وكم أضل من خلطائه ولهم معه موقف يوم القيامة لا يغبط عليه وهو الذي
جاهر بقيام الحوادث بذاته تعالى - يعزو ذلك إلى أئمة أبرياء من مثل هذا
الالحاد - وبالقدم النوعي، وبالجهة والحركة والثقل وتجويز الجسمية والاستقرار
في جانب الله سبحانه مع التطاول على كثير من الأمة والشذوذ عما عليه
جمهور أهل العلم في كثير من المسائل النوعية، والرد على كبير العلماء
وصغيرهم حتى الصحابة وتلبيس ذلك بمذهب السلف خيانة وكذبا، ومما يجب
التنبه إليه أن من وجوه تحيل الناظم وشيخه ومن على شاكلتهما من المتشبعين
بما لم يعطوا تتبع ما دون ضد الأئمة المتبوعين من مؤاخذات في مسائل
واتخاذ تلك المؤاخذات وسيلة للتهجم عليهم كلما شاءوا لأجل أن يظهروا بمظهر
أنهم من السعة في العلم بحيث تضيق علوم الأئمة عن علومهم ويجب هجر
آراء هؤلاء إلى أهوائهم، هذا شأنهم في أئمة علوم الشرع وهكذا صنيعهم مع
علماء باقي العلوم بدون تفرغ العلم، ولا شك أن كل عالم مهما علت منزلته
في علمه لا بد وأن تقع منه هفوات تكون مدونة في كتاب لأحد نقاد هذا العلم
المتفرغين للتمحيص فيه خاصة إذ لا عصمة لغير الأنبياء عليهم السلام،
فمن تعود أن يجمع تلك المؤاخذات من مظانها كالباب الخاص في مصنف أبي
شيبة في مخالفات أبي حنيفة لأحاديث صحيحة صريحة في نظر صاحب
المصنف، وكتاب إبراهيم ابن علية في مالك وكتاب محمد بن عبد الحكم في
حق الشافعي، وكتاب الكياهراسي في مفردات أحمد وكتاب الأهوازي في
الأشعري ونحوها، وأخذ يتحامل على الأئمة بتوجيه تلك المؤاخذات إليهم
متظاهرا بإنها من بنات أفكاره داسا في غضون كلامه ما شاء من الأباطيل
يظن به من لا بصر له بالحقائق من العامة أن له من العلم ما يجعله فوق الأئمة.
فهما وتحقيقا وإحاطة مع أنه لابس ثوبي زور، وقد رد على غالب تلك
المؤاخذات في كتب خاصة بحيث لا تقوم لها قائمة لكن الذي يجهل ذلك
ينخدع بخزعبلاته ويقع في المهالك إذا تقاعس علماء أهل الحق عن البحث
والتنقيب والرد على الشذاذ بمثل أسلحتهم كما يجب، والله سبحانه يتولى
هدانا بمنه وكرمه وأيقظنا جميعا من رقدتنا وألهمنا طريق حراسة مذاهب أهل
الحق في الأصول والفروع وأشعرنا عظم المسؤولية في الآخرة ووقانا شر التساهل
في ذلك إنه سميع مجيب.
قال الحافظ ابن طولون في " ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر " عند
ذكره سبب انتقال الشيخ عبد النافع بن عراق من المذهب الحنبلي إلى المذهب
الشافعي بعد أن جعله والده حنبليا: " قال الحافظ صلاح الدين العلائي (وقل
من أفضله عليه من متأخري الشافعية في الجمع بين الفقه والحديث كما يجب)
ذكر المسائل التي خالف فيها ابن تيمية الناس في الأصول والفروع. فمنها ما
خالف فيها الإجماع، ومنها، ما خالف فيها الراجح في المذاهب: فمن ذلك يمين
الطلاق. قال بأنه لا يقع عند وقوع المحلوف عليه بل عليه فيها كفارة يمين، ولم
يقل قبله بالكفارة فيها واحد من فقهاء المسلمين البتة ودام افتاؤه بذلك زمانا
طويلا وعظم الخطب ووقع في تقليده جم غفير من العوام وعم البلاء، وأن
طلاق الحائض لا يقع وكذلك الطلاق في طهر جامع فيه زوجته، وأن الطلاق
الثلاث يرد إلى واحدة، وكان قبل ذلك قد نقل إجماع المسلمين في هذه المسألة
على خلاف ذلك، وإن من خالفه فقد كفر، ثم إنه أفتى بخلافه وأوقع خلقا
كثيرا من الناس فيه، وأن الصلاة إذا تركت عمدا. لا يشرع قضاؤها، وأن
الحائض تطوف في البيت من غير كفارة وهو مباح لها، وإن المكوس حلال لمن
أقطعها، وإذا أخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاة وإن لم يكن باسم الزكاة ولا
على رسمها، وأن المايعات لا تنجس بموت الفأرة ونحوها فيها، وأن الجنب
يصلي تطوعه بالليل بالتيمم ولا يؤخره إلى أن يغتسل عند الفجر وإن كان
بالبلد. وقد رأيت من يفعل ذلك ممن قلده فمنعته منه، وسمعته حين سئل
عن رجل قدم فراشا لأمير فيجنب بالليل في السفر ويخاف إن اغتسل عند
الفجر أن يتهمه أستاذه فأفتاه بصلاة الصبح بالتيمم وهو قادر على الغسل
(ومسألة أبي يوسف غير هذه) وسئل عن شرط الواقف قال غير معتبر
بالكلية بل الوقف على الشافعية يصرف إلى الحنفية وعلى الفقهاء إلى
الصوفية وبالعكس، وكان يفعل هكذا في مدرسته فيعطي منها الجند والعوام
ولا يحضر درسا على اصطلاح الفقهاء وشرط الواقف بل يحضر فيها ميعادا. يوم
الثلاثاء ويحضره العوام ويستغني بذلك عن الدرس، وسئل عن جواز بيع
أمهات الأولاد فرجحه وأفتى به.
ومن المسائل المنفرد بها في الأصول مسألة الحسن والقبح التي يقول بها
المعتزلة (بل أربى عليهم بتحكيم العقل في الخلود راجع المعتمد لأبي
الحسين البصري المعتزلي في المسألة وكلام ابن تيمية فيها حتى تعلم مبلغ
مجازفته وتهوره) فقال بها ونصرها وصنف فيها وجعلها دين الله بل ألزم كل
ما يبنى عليه كالموازنة في الأعمال (فيالته حينما حكم العقل حكم العقل
السليم ولم يحكم عقل نفسه الظاهر اختلاله جدا بما فاه به في ذات الله
وصفاته، تعالى الله عما يقول الجاهلون).
وأما مقالاته في أصول الدين فمنها أن الله سبحانه محل للحوادث، تعالى
الله عما يقول علوا كبيرا.، وأنه مركب مفتقر إلى (اليد والعين والوجه
والساق ونحوها) افتقار الكل إلى الجزء، وإن القرآن محدث في ذاته تعالى،
وأن العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوق دائما فجعله موجبا بالذات لا
فاعلا بالاختيار - سبحانه ما أحلمه - ومنها قوله بالجسمية والجهة والانتقال
وهو منزه عن ذلك - وصرح في بعض تصانيفه بأن الله بقدر العرش لا أكبر ولا
أصغر تعالى الله عن ذلك، وصنف جزءا في أن علم الله لا يتعلق بما لا
يتناهى كنعيم أهل الجنة وأنه لا يحيط بغير التناهي وهي التي زلق فيها
الإمام (يعني ابن الجويني في البرهان) ومنها أن الأنبياء غير معصومين وأن
نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام ليس له جاه ولا يتوسل به أحد إلا وأن
يكون مخطئا، وصنف في ذلك عدة أوراق، وأن إنشاء السفر لزيارة نبينا
صلى الله عليه وسلم معصية لا تقصر فيها الصلاة وبالغ في ذلك، ولم يقل به
أحد من المسلمين قبله، وإن عذاب أهل النار ينقطع ولا يتأبد (وجزء التقي
السبكي في الرد عليه مطبوع) ومن أفراده أيضا أن التوراة والإنجيل لم تبدل
ألفاظهما بل هي باقية على ما أنزلت وإنما وقع التحريف في تأويلهما وله فيه
مصنف (هذا يخالف كتاب الله والتاريخ الصحيح، وما في البخاري عن ابن
عباس من الكلام الطويل في ذلك بين صدره وعجزه كلام مدرج، ما أسنده أحد
وفي الايهام فلا يصح أن يتمسك به أحد على خلاف كتاب الله وخلاف ما صح
عن ابن عباس نفسه في البخاري نفسه) آخر ما رأيت وأستغفر الله من كتابة
مثل هذا فضلا عن اعتقاده انتهى ما نقله ابن طولون عن الصلاح العلائي ".
وصاحب هذه الطامات هو الذي يرحب به الناظم ويتخذه قدوة فتبا لهذا التابع
وهذا المتبوع. ومما ذكره ابن رجب في مفرداته ارتفاع الحدث بالمياه المعتصرة
كماء الورد ونحوه، وجواز المسح على كل ما يحتاج في نزعه من الرجل إلى
معالجة باليد أو بالرجل الأخرى، وعدم توقيت المسح على الخفين مع
الحاجة، وجواز التيمم خشية فوت الوقت لغير المعذور وفوت الجمعة والعيدين
وأنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره ولا لسن الإياس، وأن قصر الصلاة
يجوز في قصير السفر وطويله، وأن البكر لا تستبرئ ولو كانت كبيرة وأنه
لا يشترط الوضوء لسجود التلاوة، وأنه يجوز المسابقة بلا محلل، واستبراء
المختلعة بحيضة وكذا الموطوءة بشبهة والمطلقة آخر ثلاث تطليقات وغيرها
ا ه‍ فكم له من شواذ نحو ما تقدم. وقد ذكر ابن حجر الهيثمي في الفتاوى
الحديثية كثيرا من شواذ ابن تيمية وقال عنه: " عبد خذله الله وأخزاه وأصمه
وأعماه " وقد حاول الشيخ نعمان الآلوسي - بإشارة صديق خان الذي كان له
به صلة مادية متينة الرد عليه في (جلاء العينين) متوخيا تبرئة ساحة ابن
تيمية من غالب تلك الشواذ لكن سقط في يده حيث فضحت هذه المرحلة من
الدعاية لابن تيمية بطبع كتب له فيما بعد تصرح بما نفى هو عنه بل ربما تطبع
له كتب أخرى مثل (التأسيس في رد أساس التقديس) بالنظر إلى أن بعض
صنائع الحشوية نقله حديثا فيخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المسلمين وفيما
ذكرناه كفاية في لفت النظر إلى نماذج من مفرداته والشيخ نعمان المذكور ناقض
نفسه حيث يناقض كلامه في الكتاب المذكور ما سطره هو في (غالية الواعظ)
لكن قاتل الله المادة ما دخلت في شئ إلا أفسدته وهو ليس بأمين على طبع
تفسير والده ولو قابله أحدهم بالنسخة المحفوظة اليوم بمكتبة راغب باشا
باصطنبول - وهى النسخة التي كان المؤلف أهداها إلى السلطان عبد المجيد خان
لوجد ما يطمئن إليه. نسأل الله السلامة.
فهل تلقيب عمرو بن عبيد لابن عمر رض الله عنه بالحشوي إفكا وزورا على
تقدير ثبوت ذلك عنه يمنع من تلقيب الحسن البصري لطوائف المجسمة حشوية
حقا وصدقا، فاضحك ثم اضحك على عقل من يأبى هذا التلقيب وهو متلبس
بهذه الوصمة الشنيعة بشهادة نفسه.
161

" فصل "
قال: " ومن العجائب قولهم حشوية (1) سمى به ابن عبيد " فيه سفه.
165

" فصل "
قال: " كم ذا مجسمة، وإذا سببتم بالمحال فسبنا بأدلة وحجاج ذي برهان
فحقيقة التجسيم إن يك عندكم وصف الإله بصفاته العليا فتحملوا عنا الشهادة
واشهدوا في كل مجتمع وكل مكان أنا مجسمة بفضل الله وليشهد بذلك معكم
الثقلان ".
نقول له أنت أبديت لنا اعتقادك ووصفت بأمور يمتحن فيها كل عاقل منصف إذا
عرضت على خال من الأغراض كلها من امرأة أو صبي أو أعجمي أو عربي عامي
وعموم الناس هل يفهمون من الاستواء والقعود والنزول والمجئ والإتيان والوجه (1)
واليد والساق والقدم والجنب والعين والانتقال في الدرجات وغير ذلك مما قد ذكرته
معنى الجسم ويرسم ذلك في نفسه أولا فإن قال إنه لا يفهم منها إلا معنى الجسم
فيكفيك إثما عند الله إضلال مثل هؤلاء وحملهم على اعتقاد التجسيم الذي تزعم
أنت بلسانك أنت لا تقول به فالمحقق منك إضلال أكثر العالم، وأما أنت في نفسك فإن
كذبت في إنكارك التجسيم فقد جمعت إلى فساد الاعتقاد الكذب، وإن صدقت في
زعمك فقد لبست عليك نفسك وخيلت لك فرقا أو كان عندك فرق الله أعلم به، هذا

(1) ليس بخاف على ملم باللغة العربية وبمناحي الكلام في اللسان العربي المبين أن
لكل كلمة مع صاحبتها شأنا ليس لها مع كلمة أخرى، فمن جمع ما فرقه الله
سبحانه في كتابه من الصفات العليا أو فرق ما جمعه فقد خان الله حيث جعل
صفات الله سبحانه عرضة لتقولات المتقولين من أصحاب الأهواء وكذلك ما ورد
في السنة من الصفات والأفعال. وكم بين المجسمة من ألف فيما يسمونه
التوحيد أو السنة أو الصفات أبوابا في اليد والعين والساعد والأصبع واليمين
والذراع والكف والجنب والقدم والحقو والصدر ونحوها. جمعا لا تفرق في
الروايات المختلفة لمختلف الرواة لهوى في نفوسهم، وليس تفريق المجموع
وجمع المفرق في هذا الباب من شأن من يخافه سبحانه، وأنت علمت معاني تلك
الصفات على مذهب أهل إلحق.
166

في الباطن الذي أمره إلى الله في الآخرة وإما في الدنيا فإن في قبول قولك عندنا نظر
فإن قبل أو لم يقبل - وإن كنا لم نقل بالتكفير ولا بالقتل - فلا أقل من القدر الذي
ينكف به ضررك عن المسلمين. وهذه الأشياء التي ذكرناها هي عند أهل اللغة أجزاء
لا أوصاف، فهي صريحة في التركيب والتركيب للأجسام، فذكرك لفظ الأوصاف
تلبيس وكل أهل اللغة لا يفهمون من الوجه والعين (1) والجنب والقدم إلا الأجزاء ولا
يفهم من الاستواء بمعنى القعود إلا أنه هيئة وضع المتمكن في المكان ولا من المجئ

قول السلف في العبن واليد
(1) ومن ذكر من السلف أن العين واليد صفتان تبرأ بهذا اللفظ عن القول
بالجارحة بل يكون قائلا بأن المراد بالعين معنى قائم بالله وكذلك اليد لكن لا
أعين ذلك المعنى المراد بأن أقول إنه الرؤية أو الحفظ، والقدرة أو النعمة أو
العناية الخاصة لكون تعيين المراد من بين المحتملات الموافقة للتنزيه تحكما على
مراد الله وتسميته لهما صفتين تدل على أنه جازم بأنهما ليستا من قبيل أجزاء
الذات تعالى الله عن ذلك، ومن قال وله يد بها يبطش وعين بها يرى
جعلهما من قبيل الجوارح وخالف السلف الصالح. وقد قال الترمذي عند الكلام
على حديث (يمين الرحمن ملأى سخاء...) وهذا حديث قد روته الأئمة
نؤمن به كما جاء من غير أن يفسر أو يتوهم، هكذا قال غير واحد من الأئمة
منهم الثوري ومالك بن أنس وابن عيينة وابن المبارك أنه تروى هذه الأشياء
ويؤمن بها فلا يقال كيف ا ه‍ ".
خداع الناظم وشيخه
وأين هذا من عمل الناظم وشيخه؟. نعم قد يقع في كلامهما ذكر الوجه
والعين واليد وغيرها بأنها صفات لكن السياق والسياق في كلامهما يناديان
أنهما أرادا بها أجزاء الذات لا المعاني القائمة بالله سبحانه كما يقول السلف،
واصطلحا في الصفة على معنى، يجامع الجزء على خلاف المعروف بين
أهل العلم وإلا لما بقي وجه لتشددهما ضد أهل الحق.
وشيخ الناظم يقول في الأجوبة المصرية: " إن الله يقبض السماوات والأرض
باليدين اللتين هما اليدان " فماذا يجدي بعد هذا التصريح أن يسميها
صفات؟ والله سبحانه هو الهادي.
معنى القبضة عند الخلف
وأهل العلم من الخلف يحملون القبض على أنه مجاز عن إخراج السماوات
من الإظلال والأرض من الاقلال وإيقافهما عن أن تكونا صالحتين لتناسل
المتناسلين كما يشير إلى ذلك البيضاوي وهو القابض الباسط أي الموقف عن
المسير متى شاء والمجري للأمور كما يشاء. راجع العارضة في شرح
الأسماء الحسنى. والسلف يفوضون مع التنزيه، وأما حمل القبض على
القبض الحسي فقول بالتجسيم والجارحة، تعالى الله عن ذلك.
167

والإتيان والنزول إلا الحركة الخاصة بالجسم، وأما المشيئة والعلم والقدر ونحوها فهي
صفات ذات وهي فينا ذات أمرين أحدهما عرض قائم بالجسم، والله تعالى منزه عنه،
والثاني المعاني المتعلقة بالمراد والمعلوم والمقدور وهي الموصوف بها الرب سبحانه
وتعالى وليست مختصة بالأجسام فظهر الفرق.
فصل
قال: " يا وارد القلوط " (1)
فأتى ببضعة عشر بيتا من هذا القبيل فهل سمع أحد بأن هذا كلام أهل
العلم، وما دعاني إلى الوقوف على هذا الوسخ؟. ينبغي أن يأتي له (مجلى)
مثله يتكلم معه زيبق المشاعلي أو غرير المرقد أو أهل جعفر أو عماد فكيف بابن
حجاج؟.

(1) لفظة عامية لا ينطق بها من العوام إلا من هو بالغ الوقاحة فضلا عن أهل
العلم فنأبى شرح هذه الكلمة القذرة المنتنة.
168

" فصل "
فيه أكثر من تسعين بيتا... وقال في أواخره:
من قال بالتعطيل فهو مكذب * بجميع رسل الله والفرقان
إن المعطل لا إله له * سوى المنحوت في الأذهان
وكذا إله المشركين نحتته * الأيدي هما في نحتهم سيان
لكن إله المرسلين هو الذي * فوق السماء مكون الأكوان
المعطل في الأصل من ينفي الصانع
وهذا الرجل يسمي خصومه معطلة لأنهم نفوا الصانع الذي يقول هو به ويصفه
بتلك الصفات بزعمه ويجعلهم يعبدون إلها آخر ويكفرهم كالمشركين العابدين للأصنام،
فيا خيبة المسلمين إن كان يكفر بعضهم بعضا. ولم لا يقول هذا الجاهل إن الكل يقرون
بالله ووحدانيته ويغلط بعضهم في وصفه ولا يخرجهم ذلك الغلط عن الإسلام؟ وإن
كان ولا بد من الإخراج فمن أولى به؟ ومن أولى بعبادة ما نحته ذهنه؟ من ركب
أجزاء مقصودة معقولة أو من قال أعبد إلها واحدا أنا عاجز عن معرفته وعن كنه
ذاته فهو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصف به عباده، وعقلي يقصر عن سبحات
وجهه وعلمي يضل في علمه ويتضاءل دون عظمته وملكوت سلطانه وقدرته وقهره
لا شريك له سبحانه وتعالى " ليس كمثله شئ وهو السميع البصير " (الشورى: 19) كل ما تصوره الذهن فالله بخلافه لو اجتمعت عقول العالمين كلها لم تبلغ
معرفة حقيقة ذاته ولا كنه صفاته، وإنما علموا منها ما دلهم على التوحيد وأمر
السيد العبيد وأنعم عليهم بالرسول أرشدهم إلى ما فيه صلاحهم وأنزل عليهم
كتابا كلفهم فيه بتكاليف إن عملوا بها وصلوا إلى دار السلام فلا ينبغي لهم
الاشتغال بغيرها - فاشتغالهم بغيرها فضول - وإن فكروا فكروا في آلائه لا في
ذاته، فإن هناك تضل العقول، وانظر إلى هذه الصفات التي يثبتها هذا المبتدع لم
تجئ قط في الغالب مقصودة وإنما في ضمن كلام يقصد منه أمر آخر وجاءت لتقرير
169

ذلك الأمر، وقد فهمها الصحابة ولذلك لم يسألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم
لأنها كانت معقولة عندهم بوضع اللسان وقرائن الأحوال وسياق ا لكلام وسبب النزول
ومضت الأعصار الثلاثة التي هي خيار القرون على ذلك حتى حدثت البدع والأهواء
فيجئ مثل هذ المتخلف يجمع كلمات وقعت في أثناء آيات أو أخبار فهم الموفقون
معناها بانضمامها مع الكلام المقصود فجعلها هذا المتخلف في أمثاله مقصودة وبالغ
فيها فأورث الريب في قلوب المهتدين، وانظر إلى أكثرها لا تجده مقصودا بالكلام بل
المقصود غيره إما بسياق قبله أو بسياق بعده، أو بأن يكون المحدث عنه معنى آخر
والمحدث به ويكون ذلك مذكورا على جهة الوصف المقوي لمعنى ما سيق الكلام
لأجله، وما مثل المشتغلين بذلك وبالكلام إلا مثل سرية أتاها كتاب السلطان يأمرهم
بما يعتمدونه في الغزاة التي ندبهم لها ويوصيهم بأمور مهمة لما بين أيديهم وينهاهم
عن أمور وينبههم على مكان لعدوهم وعدوه حتى يحترزوا عن غوائلها فأخذوا
يتأملون في ذلك الكتاب ويفكرون فيمن كتبه وفي حروفه ومتى كتب وأين كان
السلطان حين كتبه وعلم عليه، وهل كان في القلعة أو في غيرها وربما كان فيهم
من لم ير السلطان قط فصار يسأل عن صفته وشغلوا الزمان بذلك وبسؤال حامل
الكتاب عنه وبالفكرة فيه واشتغلوا به عما هم بصدده من الجهاد الذي أمرهم به وعن
تلك الأمور التي وصاهم بها في الكتاب وأمرهم بها ونهاهم عنها وما كفاهم ذلك
حتى أداهم اختلافهم في صفة السلطان وفي أين كان لما كتب ومن كتب الكتاب
عنه إلى أن قال كل فريق منهم عن الأخر الذي وصفه بخلاف ما وصفه به رفيقه إنه
أنكر السلطان وقال إنه لا سلطان له فهل يكون لهؤلاء عقل، اللهم إنا نسألك أن لا
تضل عقولنا ولا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وتحفظ علينا ديننا يا مقلب القلوب
يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
" فصل "
أكثر من مائة بيت كلها إغراء بخصومة والله ينتقم لهم منه ثم إنه يناقض قوله
فينكر على خصومه تكفيره فلم لا ينكر على نفسه تكفيرهم بعين ما كفروه به.
170

" فصل "
مختصر في معناه.
" فصل "
قريب منه.
" فصل "
قال: اسمع سرا عجيبا * كان مكتوما منذ زمان (1)
جيم وجيم ثم جيم معها * مقرونة مع أحرف بوزان
فيها لدى الأقوام طلسم متى * تحلله تحلله ذروة العرفان
فإذا رأيت الثور فيه تقارن * الجيمات بالتثليث شر قران
دلت على أن النحوس جميعها * سهم الذي قد فاز بالخذلان
جبر وإرجاء وجيم تجهم فتأمل المجموع في الميزان
فاحكم لطالعها لمن حصلت له * بخلاصه من ربقة الإيمان
وأخذ يذكر مفاسد المذاهب الثلاثة " وقياد الجبر (2) إلى الكفر والبهتان
والإرجاء كذلك بالجد في العصيان وشتم الرسل ومن أتوا من عنده والسجود للصنم،

(1) هذا من الدليل على أنه من ورثة علوم الصابئة عبدة الأجرام العلوية كاد أن
يبوح بما عنده من عزائم الكواكب كما فعل عبد السلام الجيلي، راجع ترجمته
من طبقات ابن رجب وذيل الروضتين لأبي شامة الحافظ.
(2) والجبر الذي يريده الناظم هو قول الأشعري إن العبد كاسب والرب سبحانه هو
الخالق وحده، وأين الجبر في ذلك؟ نعم جهم بن صنوان كان يقول بالجبر،
لكن ليس له من يتابعه بعده، وأما الإرجاء الذي يريده فهو القول بأن الإيمان
هو الاعتقاد الجازم كما نص عليه الحديث الصحيح (الإيمان أن تؤمن بالله
...) ومن جعل الأعمال من أركان الإيمان حقيقة فقد تابع الخوارج من حيث
يعلم أو لا يعلم - راجع (ص 27. 28) - وأما التجهم الذي يذكره فمراده
به نفي حلول الحوادث في الله سبحانه وتنزيهه تعالى عن قيام الحوادث به
سبحانه كما هو مذهب أهل الحق فظهر أنه ينبز بتلك الألقاب السيئة جمهور
أهل الحق افتراء منه عليهم وإلا فلا وجود للجبرية حقيقة ولا للإرجاء بالمعنى
البدعي ولا للجهمية في عصر الناظم والله سبحانه ينتقم منه.
171

فإذا أضفت إلى الجيمين جيم تجهم أين الصفات والجهم أصلها جميعا والوارثون له
أصحابها لا شيعة الإيمان لكن نجا أهل الحديث المحض أتباع الرسول وتابعوا القرآن ".
فصل
قال: (وسل المعطل ماذا يقول لربه ".
وساق ما يقولونه كله يقبح وأنهم يخاطبون به الله يوم القيامة، وعن طائفته ما
يولونه ومخاطبتهم به وهاتان طائفتان من المسلمين يعرفون عظمة الله تعالى، وكل
أحد قد بذل جهده وطاقته فيما اعتقده ويخاف ويفرق، ويوم القيامة يكون أشد خوفا
يوم لا يتكلم إلا الرسل ويود كل من دونهم أن ينجو كفافا، فتصوير مخاطبة الله
تعالى بذلك في ذلك الموقف العظيم إنما يصدر عن قلب فارغ.
" فصل "
في تحميل أهل الإثبات للمعطلين شهادة تؤدي عند رب العالمين " قال: " يا
أيها الباغي على أتباعه قد حملوك شهادة فاشهد بها إن كنت مقبولا لدى الرحمن
فاشهد عليهم إن سئلت بأنهم قالوا إله العرش والأكوان فوق السماوات العلى حقا على
العرش استوى والأمر ينزل منه وإليه يصعد ما يشاء وإليه صعد الرسول صلى الله
عليه وسلم وعيسى ابن مريم والأملاك تصعد دائما من هنا إليه وروح العبد بعد
الموت وأنه متكلم بالقرآن سمع الأمين كلامه منه هو قول رب العالمين حقيقة لفظا (1)

(1) قد سبق إبطال القول بالفوقية الحسية والنزول الحسي والجلوس على العرش
ونحوها مما هو معتقد المجسمة إبطالا لا مزيد عليه، وقوله هنا في الكلام إعادة
لزعمه الحرف والصوت في كلام الله وقد سبق إبطال ذلك أيضا ومن الغريب أن
يؤلف مثل الموفق بن قدامة (الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم)
وكفى ما سبق في إبطاله. وابن بطة صاحب الإبانة فضح نفسه بأن
يزيد في رواية حديث موسى عليه السلام (من ذا العبراني الذي يكلمني من
الشجرة؟) ليجعل كلام الله من قبيل كلام الخلق فجمع بين الاختلاق وسوء
المعتقد وابن بطة هذا من أئمة الناظم ولست في صدد استقصاء أهل الكذب
والزيغ من أئمته وبين هذا المتأخر زمنا وعلما كلمات جوفاء في تزويق مزاعم
الحشوية في تلك المسائل، ومن ظن به أنه أتى بشئ جديد غير الجمع بين
الحشوية والتصوف السالمي الهاذي بالتجلي في الصور فقد ولى فهمه وأدبر
علمه وكم من مصاب في عقله ودينه يتكلم في هذه الأبحاث بدون علم ولا
فهم ولا تقى، نسأل الله المعافاة.
172

ومعنى وأنهم وصفوا الإله بكل ما جاء في القرآن وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم
نص (1) يفيد علم اليقين ".
فمن ينازع في ذلك؟ وإن أراد الآحاد أو الذي جوزت اللغة احتمال لفظه فحكمه
عليه بإفادة علم اليقين جهل منه.
قال: " وإنهم قابلوا التعطيل والتمثيل بالنكران أن المعطل والممثل ما هما

(1) قول الرسول القطعي الثبوت والقطعي الدلالة نص يفيد علم اليقين من غير
خلاف، وأما ما هو ظني الدلالة منه فلا، كما تقرر في الأصول ودعوى إفادة
خبر الآحاد العلم من هواجس الظاهرية إلا إذا كان متحفا بقرائن، وقد بينا
الحق في ذلك في تعليقاتنا المهمة على شروط الأئمة فليراجع هناك. والحشوية
يحشرون في كتبهم في المعتقد المنقطعات والوحدان وروايات المجاهيل
والضعفاء والوضاعين ويقولون عنها إنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم مع
إنها مما لا يحتج به في باب الاعتقاد أصلا بل لا يتمسك بها في باب الأعمال
أيضا، وتوثيق مثل ابن حبان لرجل لا يخرجه من الجهالة عند من يعرف
مصطلح ابن حبان في التوثيق. وإنما الحجة في باب الاعتقاد هي الكتاب المنزل
والصحاح المشاهير من الحديث.
173

متيقنين عبادة الرحمن ذا عابد المعدوم لا سبحانه أبدا. وهذا عابد الأوثان وأنهم يتأولون
حقيقة التأويل وأن تأويلاتهم محرف عن المرجوح (1) للرجحان وأنهم حملوا النصوص
على الحقيقة لا على المجاز إلا إذا اضطروا للمجاز بحس أو برهان وأنهم لا يكفرونكم
بما قلتم من الكفران إذ أنتم أهل الجهالة عندهم لستم أولى كفر ولا إيمان (2) ".
فالبالغ المكلف الذي بلغته الدعوة إما كافر وإما مؤمن فكيف ينتفيان عنه
والجهل ليس عذرا في ذلك.
قال: " لا تفرقون حقيقة الكفران بل لا تفرقون حقيقة الإيمان إلا إذا عاندتم
ورددتم قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل قول فلان فهناك أنتم أكفر الثقلين
وأشهد عليهم أنهم فاعلون حقيقة: الجبر عندهم محال هكذا نفى القضاء ".
قد أشهد على نفسه بالفوقية وباللفظ والله يعلم ما تصوره قلبه منهما وبمعنى
التأويل وأين هذا من التابعين الذين قيل فيهم ما منهم إلا من يخاف النفاق على نفسه

(1) صرف اللفظ عن الاحتمال المرجوح إلى الراجح مما لا معنى له لأن اللفظ
منصرف بنفسه إلى الراجح من الاحتمالين، واللفظ ظاهر بالنسبة إلى الراجح
مطلقا سواء كان بالوضع أو بالدليل كما ذكره أبو الخطاب في التمهيد في
أصول الحنابلة فما يرى مرجوحا بالنظر إلى الوضع فقط قد يكون راجحا بالنظر
إلى الدليل فيكون اللفظ حينذاك ظاهرا في احتمال قد ترجح بالدليل حيث لا
يكون هذا الاحتمال مرجوحا عند قيام الدليل على الرجحان فقولهم
بالظهور في جانب الوضع إنما هو بالنظر إلى حالة عدم قيام دليل مرجح
للاحتمال المقابل. والحاصل أن الظاهر بالوضع هو ما لا يقارنه دليل يرجح
الاحتمال الأخر فلا ظاهر بالوضع عند ترجح الاحتمال الثاني بالدليل، فإطلاق
الظاهر على ما بالوضع عند قيام الدليل المرجح للاحتمال الثاني ما هو إلا
تسامح فليعرف ذلك.
(2) وهذا بظاهره قول بالمنزلة بين المنزلتين كما هو معتقد المعتزلة الذين هم من
أبغض خلق الله إليه. وإخراج أهل الحق من الإيمان محض هذيان.
174

كانوا مع صحة الاعتقاد والاجتهاد في العمل يخافون النفاق، ونحن اليوم مع البعد
وشتان ما بيننا وبينهم - بيننا من يتجاسر هذه الجسارة ويدل هذا الإدلال.
فصل
في عهود المثبتين مع الله رب العالمين
قال: " يا ناصر الإسلام اشرح لدينك صدر كل موحد وانصر به حزب الهدى
فوحق نعمتك التي وليتني وأريتني البدع المضلة لأجاهد لك عداك ما أبقيتني
ولأجعلن لحومهم ودماءهم في يوم نصرك أعظم القربان ".
هذا يقتضي أنه يعتقد كفرهم وسفك دمائهم، وقد حملهم في الفصل الذي قبل
هذا شهادة أنه لا يكفرهم فيناقض كلامه وقال هناك إنهم جهال لا كفار ولا مؤمنين
فلعله يرى أنهم كالبهائم لكنه صرح هنا بأنهم أعداء الله وغير الكافر ليس عدو الله.
فصل
افتراؤهم المثلث على الأشعرية
قال: إنا تحملنا الشهادة بالذي قلتم نؤديها لدى الرحمن
ما عندكم في الأرض (1) قرآن * كلام الله حقا يا أولى العدوان
كلا ولا فوق السماوات العلى رب (2)

(1) تلك الثلاثة هي أقانيم اختلاقهم على الأشعري وأصحابه، لهج بها أبو نصر
الوائلي السجزي صاحب الإبانة وابن مت صاحب ذم الكلام ومن تابعهما في
البهت على أئمة الدين. ومن قال إن القرآن القائم بالله في الأرض فهو
حلولي زائغ وهذا ظاهر جدا.
(2) نعم هم لا يعتقد صنما متمكنا بمكان وإنما يؤمنون بإله العالمين الذي ليس
كمثله شئ، وله الأسماء الحسنى، تعالى الله عما يقول الجاهلون من الجاهلية
بعد الإسلام.
175

مطاع ولا في القبر (1) عندكم من يرسل فالروح عندكم عرض قائم بجسم الحي، وكذا
صفات الحي قائمة به مشروطة بالحياة، فإذا انتفت الحياة انتفى مشروطها ورسالة
المبعوث مشروطة بها كصفاته بالعلم والإيمان فإذا انتفت تلك الحياة فكل مشروط بها
عدم ".
قوله ما في الأرض قرآن شهادة زور ونحن نطلق القرآن على ما في المصحف
وهو إن كان لا يطلقه عليه لزمه ما ألزمنا وإن كان يقول إنه في الصحف حقيقة فهو
قد قال فيما تقدم إن الصوت من العبد مخلوق فالخط بطريق الأولى وعندنا أن القرآن
مكتوب في المصاحف ولهذا يحرم على المحدث حمل المصحف ومتلو بالألسنة ومحفوظ
في الصدور.

(1) وقال إمام الحرمين فيما رد به على السجزي، السابق ذكره في مقدمة المصنف:
ما كنت أظن أن هذا الجاهل يبلغ حمقه وخرقه هذا المبلغ (وهو زعمه أن من
مذهب الأشعرية أن النبوة عرض لا يبقى زمانين وإذا مات النبي زالت
نبوته) وهذا الذي حكاه لم يقل به قائل ولم ينقله قبله ناقل ولو سئل هذا
الأحمق عن النبوة وحقيقتها ومعناها لتبلد في غمه وتردد في غيه ولم
يتمسك إلا بدهش الحيرة كما نسب إليها غيره فليست النبوة عرضا من
الأعراض باتفاق من المحققين وإطباق من المحصلين - ثم ذكر الدليل على
أن النبوة ليست عرضا ثم قال - فبطل المصير إلى أن النبوة عرض ووجب
القضاء بأن النبوة هي حكم الله تعالى برسالة رسول وإخباره عن سفارته
وأمره إياه بتبليغ الشرائع وشرع الأحكام وقد حكم الله تعالى بنبوة
الأنبياء عليهم السلام في حياهم وبعد مماتهم وكونهم مرسلين، وعلم ذلك
منهم في السابقة والعاقبة فهذا مذهب أهل الحق ودينهم، فعلى من يصفهم
بغير ذلك لعنة الله ولعنة الملائكة والناس أجمعين. انتهى ما ذكره إمام
الحرمين وهو نص ما نقله اللبلى عنه.
176

" فصل "
في حياة الأنبياء
قال:
ولأجل هذا رام ناصر * قولكم ترقيعه يا كثرة الخلقان
قال الرسول بقبره حي (1)

(1) الناظم وشيخه ينفيان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار تفرقتهما بين
حالتيه صلى الله عليه وسلم حال حياته وحال وفاته وبإخراجهما للحديث
الصحيح في التوسل عن دلالته الصريحة بالرأي عن هوى، وقد أقام قاضي
قضاة الشافعية العلامة علاء الدين القونوي الشافعي النكير على ابن تيمية
بعنف في هذه المسألة في كتابه (شرح التعرف) وهو من محفوظات
التيمورية، وعد دلك مأخوذا من اليهود مع أنه كان من المثنين عليه قبل هذه
الحادثة، وفي الاطلاع على شرح التعرف هذا تنوير للمسألة. وقد أغنانا عن
بسط ذلك هنا ما نقله التقي الحصني منه في كتاب (دفع الشبه) وهو
مطبوع. وفي كتاب الروح للناظم كثير مما ينافي ما ذكره هنا، والتناقض شأن
من أصيب في عقله أو دينه، نسأل الله السلامة والمعافاة. وأما كلمة ابن حزم
في الفصل فاغترار منه بتقولات الرواة من الحشوية في حق الأشعري كما بينت
ذلك فيما علقته على تبيين كذب المفتري لابن عساكر.
فتيا الأئمة في إنكاره شد الرحل لزيارته صلى الله عليه وسلم
وقد بلغ بالناظم وشيخه الغلو في هذا الصدد إلى حد تحريم شد الرحل لزيارة
النبي صلى الله عليه وسلم وعد السفر لأجل ذلك سفر معصية لا تقصر فيه
الصلاة فأصدر الشاميون فتيا في ابن تيمية وكتب عليها البرهان ابن الفركاح
الفزاري نحو أربعين سطرا بأشياء إلى أن قال بتكفيره ووافقه على ذلك
الشهاب بن جهبل، وكتب تحت خطه كذلك المالكي، ثم عرضت الفتيا لقاضي
قضاة الشافعية بمصر البدر بن جماعة فكتب على ظاهر الفتوى: الحمد لله،
هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله إن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة
وما ذكره من نحو ذلك وأنه لا يرخص بالسفر لزيارة الأنبياء باطل مردود
عليه، وقد نقل جماعة من العلماء أن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم
فضيلة وسنة مجمع عليها، وهذا المفتي المذكور - يعني ابن تيمية - ينبغي
أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الغريبة، ويحبس إذا لم يمتنع من ذلك ويشهد
أمره ليحتفظ الناس من الاقتداء به.
وكتبه محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي.
وكذلك يقول محمد بن الجريري الأنصاري الحنفي لكن يحبس الآن
جزما مطلقا.
وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي ويبالغ في زجره حسبما تندفع تلك
المفسدة وغيرها من المفاسد.
وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي، راجع دفع الشبه (45 - 47)
وهؤلاء الأربعة هم قضاة المذاهب الأربعة بمصر أيام تلك الفتنة في سنة 726
والنهي عن شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة في الحديث باعتبار أنه لا
مضاعفة لثواب المصلي في غيرها ولا علاقة له أصلا بمثل زيارة القبور، وهذا
ظاهر جدا فمعنى الحديث النهي عن شد الرحل إلى مساجد غير المساجد الثلاثة
التي يضاعف فيها الثواب حيث لا داعي إلى تجشم المشاق والاستثناء المفرغ
بقدر فيه المستثنى منه بقدر أدنى ما يصحح الاستثناء لأن التقدير ضرورة فلا
يزيد على القدر الضروري في تصحيح الكلام - وما زاد على ذلك ليس مما
يعتبره أهل العلم كما لا يخفى على أن شد الرحل لأجل العلم أو الجهاد أو
التجارة أو الاعتبار أو استعادة الصحة ونحو هذا لا يتصور أن يتناوله النهي
في الحديث فلا يصح تقدير المستثنى منه من أعم ما يتناول المستثنى ومن
تصور خلاف ذلك فقد غلط غلطا فاحشا واستعجم عليه الحديث.
والأحاديث في زيارته صلى الله عليه وسلم في غاية من الكثرة وقد جمع
طرقها الحافظ صلاح الدين العلائي في جزء كما سبق وعلى العمل بموجبها
استمرت الأمة إلى أن شذ ابن تيمية عن جماعة المسلمين في ذلك، قال على
القاري في شرح الشفا: " وقد فرط ابن تيمية من الحنابلة حيث حرم السفر
لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم كما أفرط غيره حيث قال كون الزيارة قربة
معلوم من الدين بالضرورة وجاحده محكوم عليه بالكفر ولعل الثاني أقرب إلى
الصواب لأن تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفرا. لأنه فوق تحريم
المباح المتفق عليه... ا ه‍ ".
فسعيه في منع الناس من زيارته صلى الله عليه وسلم يدل على ضغينة
كامنة فيه نحو الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف يتصور الإشراك بسبب
الزيارة والتوسل في المسلمين الذين يعتقدون في حقه صلى الله عليه وسلم
" أنه عبده ورسوله " وينطقون بذلك في صلواتهم نحو عشرين مرة في كل يوم
على أقل تقدير إدامة لذكرى ذلك. ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع
في كل شؤونهم ويرشدونهم إلى السنة في الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعة
في شئ ولم يعدوهم في يوم من الأيام مشركين بسبب الزيارة أو التوسل،
كيف وقد أنقذهم الله من الشرك وأدخل في قلوبهم الإيمان وأول من رماهم
بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية وجرى خلفه من أراد استباحة أموال
المسلمين ودماءهم لحاجة في النفس ولم يخف ابن تيمية من الله في رواية عد
السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة عن
الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي، وحاشاه عن ذلك - راجع كتاب التذكرة له
تجد فيه مبلغ عنايته بزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتوسل به كما هو
مذهب الحنابلة - وإنما قوله بذلك في السفر إلى المشاهد المعروفة في العراق لما
قارن ذلك من البدع في عهده وفي نظره.
نص ابن عقيل الحنبلي في تذكرته
وإليك نص عبارته في التذكرة المحفوظة بظاهرية دمشق تحت رقم 87 في
الفقه الحنبلي.
" فصل. ويستحب له قدوم مدينة الرسول صلوات الله عليه فيأتي مسجده
فيقول عند دخوله باسم الله اللهم صل على محمد وآل محمد وافتح لي أبواب
رحمتك وكف عني أبواب عذابك، الحمد لله الذي بلغ بنا هذا المشهد وجعلنا
لذلك أهلا، الحمد لله رب العالمين. ثم تأتي حائط القبر فلا تمسه ولا تلصق
به صدرك، لأن ذلك عادة اليهود واجعل القبر تلقاء وجهك وقم مما يلي المنبر
وقل السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته اللهم صل على محمد وعلى
آل محمد... إلى آخر ما تقوله في التشهد الأخير، ثم تقول اللهم أعط محمدا
الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة والمقام المحمود الذي وعدته. اللهم صل
على روحه في الأرواح وجسده في الأجساد كما بلغ رسالاتك وتلا آياتك
وصدع بأمرك حتى أتاه اليقين، اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك صلى الله عليه
وسلم " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول
لوجدوا الله توابا رحيما " (النساء: 64) وإني قد أتيت نبيك تائبا مستغفرا
فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم إني أتوجه
إليك بنبيك صلى الله عليه نبي الرحمة، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي
ليغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي ذنوبي، اللهم اجعل
محمدا أول الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الأولين والآخرين اللهم كما آمنا
به ولم نره وصدقناه ولم نلقه فأدخلنا مدخله واحشرنا في زمرته وأوردنا
حوضه واسقنا بكأسه مشربا صافيا رويا سائغا هنيا لا نظمأ بعده أبدا غير
خزايا ولا ناكثين ولا مارقين ولا مغضوبا علينا ولا ضالين واجعلنا، من أهل
شفاعته. ثم تقدم عن يمينك فقل السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام
عليك يا عمر الفاروق، اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيرا، اللهم
" اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان... " (الحشر: 10) وتصلي بين
القبر والمنبر في الروضة وإن أحببت تمسح بالمنبر وبالحنانة وهو الجذع الذي كان
يخطب عليه صلى الله عليه وسلم فلما اعتزل عنه حن إليه كحنين الناقة،
وتأتي مسجد قباء فتصلي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصده فيصلي
فيه، وإن أمكنك فأت قبور الشهداء وزرهم وأكثر من الدعاء في تلك المشاهد
حتى كأنك تنظر إلى مواقفهم واصنع عند الخروج ما صنعت عند الدخول ".
ويقال عن كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي هذا إنه في ثمانمائة مجلد ويقول
الذهبي عنه إنه لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب. ومن هو نظير ابن
عقيل هذا بين الحنابلة في الجمع والتحقيق؟ وأنت رأيت نص عبارته في المسألة
على خلاف ما يعزو إليه ابن تيمية.
177

وذكر أربعين نبيا في إنكار ذلك وقد صنف البيهقي (1) جزءا في حياة
الأنبياء ولكن هذا المدبر بعيد عن التوفيق.
فصل
قال: " فإن احتججتم بالشهيد ".
وذكر غيره أشياء من حججنا.
فصل
قال في الجواب: " إن الشهيد حياته منصوصة مع النهي عن أن ندعوه ميتا،
ونساؤه حل لنا من بعده وماله مقسوم وهو مع ذلك حي فارح قلتم فالرسل أولى ".
فانظر إلى قلب الدليل عليهم ما قلب شيئا قلب الله قلبه.

(1) وجزء البيهقي في حياة الأنبياء مطبوع فاستغنينا به عن الكلام في ذلك.
181

قال: " ورؤيته موسى مصليا في قبره في القلب منه حسيكة هل قاله؟ ولذلك
أعرض البخاري عنه عمدا والدارقطني أعله ورأى أنه موقوف على أنس لكن تقلد
مسلما، لكن هذا ليس مختصا به روى ابن حبان صلاة العصر في قبر الذي مات مؤمنا
فتمثل الشمس التي قد كان يرعاها لأجل الصلاة عند الغروب يخاف فوت صلاته
فيقول للملكين تدعاني حتى أصلي العصر قالا ستفعل ذلك بعد الآن، هذا مع الموت
المحقق لا الذي حكيت لنا بثبوته القولان.
وثابت البناني دعا أن لا يزال مصليا في قبره وحديث ذكر حياتهم بقبورهم لما
يصح، وظاهر النكران ونحن نقول إنهم أحياء عند ربهم كالشهيد ". يعني وننكر
حياتهم في قبورهم.
قال: " هذى نهايات لأقدام الورى في ذا المقام الضنك والحق فيه ليس تحمله
عقول بني الزمان لغلظة الأذهان ولجهلهم بالروح هل في عقولهم أن الروح في أعلى
الرفيق مقيمة بجنان. وترد أوقات السلام عليه وأجواف الطير الخضر مسكنها لدى
الجنات، من ليس يحمل عقله هذا فاعذره على النكران للروح شأن غير ذي الأكوان،
وهو الذي حار الورى فيه فلم يعرفه غير الفرد في الأزمان، هذا وأمر فوق ذا لو قلته
بادرت بالإنكار والعدوان فلذاك أمسكت العنان ولو أرى ذاك الرفيق جريت في
الميدان، وقولي إنها مخلوقة وليست كما قال أهل الإفك لا داخلة فينا ولا خارجة عنا
والله - لا الرحمن أثبتم ولا أرواحكم، عطلتم الأبدان من أرواحها والعرش
عطلتم من الرحمن.
استشكال معرفة الروح صحيح لكنه ما أظنه يفهمه وإنما قاله تقليدا، وإنكاره
حياة الأنبياء ليس لي عليه حامل صحيح (1).

حياة الأنبياء
(1) وعن أنس مرفوعا (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون) رواه أبو يعلى
الموصلي والبزار قال الهيثمي ورجال أبي يعلى ثقات. والحياة البرزخية الثابتة
للأنبياء فوق الحياة الثابتة للشهداء ويغنينا عن الكلام في حياة الأنبياء جزء
البيهقي المطبوع، نعم انقطعت حاجتهم إلى الأكل والشرب من ماكل هذه
الدار ومشاربها، ولذلك صح وصفهم بالموت " إنك ميت وإنهم ميتون " (الزمر:
30) وحامل الناظم على إنكار حياتهم البرزخية هو التذرع بذلك إلى تحريم
التوسل بهم عن هوى وفي دفع الشبه للتقي الحصني ووفاء الوفاء للنور
السمهودي وغيرهما أحاديث وآثار كثيرة في الندب إليه، وليس هذا موضع سرد
لتلك الأحاديث وله موضع آخر وفي المطالب العالية للرازي وفي شرح المقاصد
للتفتازاني وفيما علقه الشريف الجرجاني على شرح المطالع ما يسكن إليه
صدور المقتدين بأئمة أصول الدين من البيان في هذه المسألة، وكنت بسطت
المسألة قبل سنين متطاولة في (إرغام المريد) الذي كنت ألفته سنة 1320 ولا
بأس في أن أورد هنا بعض ما كنت نقلته فيه، مما قاله الفخر الرازي والسعد
التفتازاني، والشريف الجرجاني في هذا الصدد فإنهم أئمة في أصول الدين
يميزون بين الحق والباطل والتوحيد والإشراك حق التمييز، ولا يرميهم أحد من
أهل الحق بنزعة تخالف مذهب أهل الحق في هذه المسألة ومن الغريب رمى أهل
التجسيم لأهل الحق بالإشراك بوسيلة التوسل وفيما ننقله عن أئمة أصول الدين
في هذا الصدد قمع من يرمى أهل الحق بدائه وهم من أبعد الناس عن الإشراك
بخلاف من يقول بالجهة والتحيز وسائر لوازم الجسمية تعالى الله عن ذلك.
نصوص من المطالب العالية للفخر الرازي
قال الإمام فخر الدين الرازي بعد بسط مقدمات في الفصل الثامن عشر من
كتابه المطالب العالية وهو من أمتع مؤلفاته في علم أصول الدين: " وإذا
عرفت هذه المقدمات فنقول إن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوي النفس كامل
الجوهر شديد التأثير ووقف هناك ساعة وتأثرت نفسه من تلك التربة حصل
لنفس الزائر تعلق بتلك التربة وقد عرفت أن لنفس الميت تعلقا بتلك التربة أيضا
فحينئذ يحصل لنفس هذا الزائر الحي ولنفس ذلك الإنسان الميت ملاقاة بسبب
اجتماعهما على تلك التربة فصارت هاتان النفسان شبيهتين بمرآتين صقيلتين
وضعتا بحيث ينعكس الشعاع من واحدة منهما إلى الأخرى فكل ما حصل في
نفس هذا الزائر الحي من المعارف البرهانية والعلوم الكسبية والأخلاق الفاضلة
من الخضوع لله تعالى والرضى بقضاء الله، ينعكس منه نور إلى روح ذلك
الإنسان الميت وكل ما حصل في نفس ذلك الإنسان الميت من العلوم المشرفة
والآثار العلوية الكاملة فإنه ينعكس منه نور إلى روح هذا الزائر الحي،
وبهذا الطريق تصير تلك الزيارة سببا لحصول المنفعة الكبرى والبهجة العظمى
لروح الزائر ولروح المزور، فهذا هو السبب الأصلي في مشروعية الزيارة،
ولا يبعد أن يحصل فيها أسرار أخرى أدق وأحق مما ذكرناه، وتمام العلم
بالحقائق ليس إلا عند الله ا ه‍ ".
وأما بقاء النفس مدركة لبعض الجزئيات فقد بينها الرازي في الفصل
الخامس عشر من الكتاب المذكور وقال الرازي أيضا في تفسيره: " إن الأرواح
البشرية الخالية عن العلائق الجسمانية، المشتاقة إلى الاتصال بالعالم
العلوي، بعد خروجها من ظلمة الأجساد تذهب إلى عالم الملائكة ومنازل
القدس، ويظهر منها آثار في أحوال هذا العالم فهي المدبرات أمرا، أليس
الإنسان قد يرى أستاذه في المنام ويسأله عن مشكلة فيرشده إليها ا ه‍ ".
وقال العلامة سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد عند إثبات إدراك
بعض الجزئيات للميت ردا على الفلاسفة: " لما كان إدراك الجزئيات مشروطا
عند الفلاسفة بحصول الصورة في الآلات فعند مفارقة النفس وبطلان الآلات لا
تبقى مدركة له لجزئيات ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط وعندنا لما لم تكن
الآلات شرطا في إدراك الجزئيات إما لأنه ليس بحصول الصورة لا في النفس
ولا في الحس وإما لأنه لما يمتنع ارتسام صورة الجزئي في النفس بل الظاهر من
قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد الفارقة إدراكات متجددة جزئية واطلاع
على بعض جزئيات أحوال الأحياء، ولا سيما الذين كان بينهم وبين الميت
تعارف في الدنيا، ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستغاثة بنفوس الأخيار من
الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع الملمات، فإن للنفس بعد المفارقة تعلقا
بالبدن وبالتربة التي دفنت فيها، فإذا زار الحي تلك التربة وتوجهت تلقاء نفس
الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات ا ه‍ ".
وقال العلامة الشريف الجرجاني في أوائل حاشية شرح المطالع معلقا على
ما ذكره شارح المطالع في صدد بيان الحكمة في التوسل والصلاة على النبي
وآله صلى الله عليه وآله وسلم: " فإن قيل هذا التوسل إنما يتصور إذا كانوا
متعلقين بالأبدان وأما إذا تجردوا عنها فلا إذ لا جهة مقتضية للمناسبة، قلنا
يكفيه أنهم كانوا متعلقين بها متوجهين إلى تكميل النفوس الناقصة بهمة
عالية فإن أثر ذلك بأن فيهم ولذلك كانت زيارة مراقدهم معدة لفيضان أنوار
كثيرة منهم على الزائرين كما يشاهده أصحاب البصائر ا ه‍ ". ورأيت بخط
الحافظ الضياء المقدسي الحنبلي في كتابه - الحكايات المنثورة - المحفوظ تحت
رقم 98 من المجاميع بظاهرية دمشق أنه سمع الحافظ عبد الغني القدسي
الحنبلي يقول إنه خرج في عضده شئ يشبه الدمل فأعيته مداراته، ثم
مسح به قبر أحمد بن حنبل فبرئ ولم يعد إليه، وفي تاريخ الخطيب
(1 - 123) بسنده إلى الشافعي رض الله عنه أنه قال: " إني لأتبرك بأبي
حنيفة وأجيئ إلى قبره كل يوم - يعني زائرا - فإذا عرضت لي حاجة
صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد
عني حتى تقضى ا ه‍ ".
فمن الذي يستطيع أن يعد هؤلاء قبوريين يتعبدون الضرائح؟!.
182

فصل
قال: " ما معناه منجنيق المعطلة ما يدعونه من التركيب، وللتركيب ستة
معان أحدها: التركيب من متباين كتركيب الحيوان من هذه الأعضاء وتركيب
الأعضاء من الأركان الأربعة، الثاني تركيب الجوار من اثنين يفترقان، الثالث:
التركيب من متماثل يدعى الجواهر الفردة، الرابع: الجسم المركب من هيولي وصورة
185

عند الفيلسوف والجواهر الفرد ليس ممكنا، الخامس: التركيب من ذات وأوصاف سموه
تركيبا وليس بتركيب، السادس: التركيب من ماهية ووجودها، واختلفوا هل الذات
الوجود أو غيره فيكون تركيبا محالا أو يفرق بين الواجب والممكن حتى أتى من أرض
آمد ثور كبير (1)، بل حقير الشأن قال الصواب الوقف فقصاراه أن شك في الله ".
جوابه أنه لم يشك في الله في الوجود هل هو زائد أو لا ولا يجوز أن يقال له
ثور ولا أنه حقير الشأن، وقد اعترف في التركيبين الأخيرين بالامتناع فيسأل من
أهل اللغة هل القدم واليد والجنب أعضاء (2) أو صفات.

(1) سيف الدين الآمدي المعروف بين الفرق ببالغ الذكاء ذنبه عند الحشوية أنه نشأ
حشويا ثم هداه الله إلى مذهب الأشاعرة ولأجل ذلك يرى متقشفو الحشوية
من تمام ورعهم اختلاق حكايات في حقه ويسعى ابن تيمية جهده في مناقشته
في معقوله، ويقوم الذهبي بحظه في الاختلاق عليه في ميزانه. وتآليفه
الخالدة في أصول الدين وأصول الفقه والجدل هي آية كونه ثورا كبيرا في نظر
الناظم فليعتبر.
(2) فإن اعترف بعد السؤال من أهل اللغة بأنها أعضاء يكون المركب منها من القسم
الأول فيكون عابد جسم ذي أعضاء وإن لم يعترف بأنها أعضاء بل قال إنها
مجازات عن صفات ثابته له تعالى فقد قرن مذهبه وكان جهاده في غير عدو
ولكن أنى يعترف بأنها مجازات مع الغلو المشهود في نحلته؟ ومن ألطف
النكت الجارية مجرى الإلزامات الظاهرة على المجسمة ما ذكره الفخر الرازي في
تفسيره (7 - 148) حيث قال: إن من قال إنه مركب من الأعضاء والأجزاء
فإما أن يثبت الأعضاء التي ورد ذكرها في القرآن ولا يزيد عليها وإما أن
يزيد عليها، فإن كان الأول لزمه إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح
لأنه يلزمه إثبات وجه بحيث لا يوجد منه إلا مجرد رقعة الوجه لقوله تعالى
" كل شئ هالك إلا وجهه " (القصص: 88) ويلزمه أن يثبت في تلك الرقعة
عيونا كثيرة لقوله تعالى: " تجري بأعيننا " (القمر: 14) وأن يثبت
له جنبا وأحدا لقوله تعالى " يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله "
(الزمر: 56) وأن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله تعالى " مما عملت
أيدينا " (يس: 71) وبتقدير أن يكون له يدان فإنه يجب أن يكون كلاهما
على جانب واحد لقوله صلى الله عليه وسلم (وكلتا يديه يمين) وأن يثبت له
ساقا واحدا لقوله تعالى " يوم يكشف عن ساق " (القلم: 42) فيكون
الحاصل من هذه الصورة مجرد رقعة الوجه ويكون عليها عيون كثيرة وجنب
واحد ويكون عليه أيد كثيرة وساق واحد ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور
ولو كان هذا عبدا لم يرغب أحد في شرائه فكيف يقول العاقل إن رب العالمين
موصوف بهذه الصورة؟! وإن كان الثاني وهو أن لا يقتصر على الأعضاء
المذكورة في القرآن بل يزيد وينقص على وفق التأويلات فحينئذ يبطل مذهبه
في الحمل على مجرد الظواهر ولا بد له من قبول دلائل العقل ا ه‍.
186

فصل
قال: " ودلالة الأسماء مطابقة وتضمن والتزام فالمطابقة يفهم منها ذات الإله
والوصف والتضمن دلالته على أحدهما واللازم دلالته على الصفة التي اشتق الاسم
منها كالرحمن، فالذات والرحمة مدلولاه تضمنا ودلالته على الحياة بالالتزام ".
مقصوده بهذا المبالغة في القول بالتركيب في المعنى (1) وإن أنكره باللفظ
فيما تقدم، ومدلول الرحمن في اللغة ذو الرحمة وهو شئ واحد لا مركب وإن كان

(1) لأن كلام أهل العربية في الدلالات الثلاث (دلالة اللفظ على تمام ما وضع له
مطابقة وعلى جزئه تضمن وعلى الخارج اللازم التزام) والاجتراء على إجراء
ذلك في الأسماء المقدسة مبالغة في القول بالتركيب في المعنى بإثبات الجزء في
دلالتها كما قال المصنف على أن ابن حزم قطع على الحشوية سيل التقول بالمرة
بأن قال إن الأسماء الحسنى أسماء أعلام للذات العلية لا تدل على الصفات
باعتبار أن الله سماها أسماء. فضاقوا ذرعا من كلامه هذا جدا وليس هذا
موضع توسع لبيان ما له وما عليه، وكفى للبصير مجرد الإشارة إليه.
187

يقتضي أن له رحمة وكذا ضارب، مدلوله شئ له الضرب ولا نقول بأن الضرب بعض
مدلوله وإن كان قاله بعض الأصوليين من جهة تركيب العقل ما دل عليه اللفظ لا من
جهة أن الواضع وضعه لهما كما أشعر به كلام هذا القدم، واستعماله في الأسماء
المقدسة جرأة جرأتها عقيدة سوء ميالة إلى معنى التركيب.
فصل
قال: " الملحدون ثلاثة: المشركون وإخوانهم الاتحادية، والثاني: المعطلة
يقولون ما ثم غير الاسم عطل حرف ثم أول وافقها واقذف بتجسيم وبالكفران
للمثبتين، فإن احتجوا عليك فقل مجاز فإن غلبت عن المجاز فقل الألفاظ لا تفيد
اليقين فإن غلبت عن تقريره فقل العقل مقدم على النقل، والثالث: منكر الخالق
الصانع لا يوحشنك غربة بين الورى قل لي متى سلم الرسول وصحبه وتظن أنك وارث
لهم ولا جاهدت في الله حق جهاده ".
هذا الرجل قال قبل ذلك إنه لم ينكر أحد الخالق وقد ناقض هنا وجعل القسم
الثاني من الملحدة خصماءه ووصفهم بما قال، وهم هداة الأمة.
" فصل "
في النوع الثاني من توحيد المرسلين المخالف لتوحيد المعطلين والمشركين ".
قال: " وهو أن لا تعبد غير الله، فالمشركون اتخذوا أندادا يحبونهم كحب
الله، ولقد رأينا من فريق يدعي الإسلام شركا جعلوا له شركاء سووهم به في الحب
بل زادوا لهم حبا - والله - ما غضبوا إذا انتهكت محارم ربهم حتى إذا ما قيل في
الوثن الذي يدعونه ما فيه من نقصان فأجارك الرحمن من غضب ومن حرب ومن
شتم ومن عدوان وضرب وتعزير وسب وتسجان، قالوا تنقصت الأكابر والأمر
والله العظيم - يزيد فوق الوصف، وإذا ذكرت الله توحيدا رأيت وجوههم
مكسوفة الألوان، وإذا ذكرت بمدحة شركاءهم يستبشرون - والله - ما شموا
روائح دينه ". انتهى ثناؤه على المسلمين قبحه الله.
188

" فصل "
في صفة العسكرين وتقابل الصفين واستدارة رحى الحرب العوان وتصاول
الأقران ".
أبصر كيف يوقع الملعون العداوة بين المسلمين.
فذكر جماعة ثم قال: " وخيار عسكرهم فذاك الأشعري الفدم " أو القرم
" ذاك مقدم الفرسان ".
سواء أقال القدم أو القرم قد جعله من عسكر الملحدين.
قال: " لكنكم ما أنتم على إثباته صفوا الجيوش وعبئوها وأبرزوا للحرب
واقتربوا من الفرسان فهم إلى لقياكم بالشوق كي يوفوا بنذرهم من القربان، تبا لكم
لو تستحون لكنتم خلف الخدور كأضعف النسوان، من أين أنتم والحديث وأهله ما
عندكم إلا الدعاوى والشكاوى وشهادات على البهتان هذا الذي والله نلنا منكم قبح
الإله مناصبا ومآكلا قامت على البهتان والعدوان ".
أيكون أقبح من هذا الإغراء.
فصل
في الهدنة بين المعطلة والاتحادية حزب جنكسخان
قال: " يا قوم صالحتم نفاة الذات ولأجل ذا كنتم مخانيثا لهم ".
ينبغي أن يعرض عن كلام هذا المتخلف.
فصل
في مصارع المعطلة بأسنة الموحدين
قال: " وإذا أردت ترى مصارع من خلا من أمة التعطيل وترى
وترى وترى فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة شيخ الوجود العالم الرباني أعني
189

أبا العباس (1) واقرأ كتاب العقل.

كلمة صاحب الدرة المضيئة في ابن تيمية
(1) وعن هذا الشيخ الذي يطريه الناظم يقول صاحب الدرة المضيئة: " قد أحدث
ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد ونقض من دعائم الإسلام الأركان
والمعاقد، بعد أن كان متسترا بتبعية الكتاب والسنة، مظهرا أنه داع إلى
الحق هاد إلى الجنة، فخرج عن الاتباع إلى الابتداع، وشذ عن جماعة المسلمين
بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتراكيب في الذات المقدسة وبأن
الافتقار إلى الجزء ليس بمحال وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى وأن القرآن
محدث تكلم الله به بعد أن لم يكن وأنه يتكلم ويسكت ويحدث في ذاته
الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم بالقول
بأنه لا أول للمخلوقات، فقال بحوادث لا أول لها فأثبت الصفة القديمة حادثة
والمخلوق الحادث قديما، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نحلة
من النحل فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاث والسبعين التي افترقت عليها
الأمة وكل ذلك وإن كان كفرا شنيعا مما تقل جملته بالنسبة إلى ما أحدث في
الفروع فإن متلقى الأصول عنه وفاهم ذلك منه هم الأقلون والداعي إليه من
أصحابه هم الأرذلون، وإذا حوققوا في ذلك أنكروه. وأما ما أحدثه في
الفروع فأمر قد عمت به البلوى.. وقد بث دعاته في أقطار الأرض لنشر
دعوته الخبيئة وأضل بذلك جماعة من العوام ومن العرب والفلاحين.. ولبس
عليهم.. ا ه‍ ".
والدرة المضية هذه مطبوعة ضمن المجموعة السبكية ونسخة مخطوطة منها
موجودة في مكتبة أيا صوفيا في اصطنبول. ومثل هذا الضال المضل اتخذه
الناظم قدوة في فتنه عاملهما الله تعالى بعدله. ولم يكن بغض علماء أهل الحق
لهما إلا بغضا في الله شأنهم مع كل زائغ، ومن حمل ذلك على الحسد لم
يعرف سيرة الرادين عليه ولا مبلغ زيغ الناظم وشيخه فمثل هذا القول ينبئ
عن جهل قائله أو زيغه.
190

والنقل، والمنهاج (1)، والتأسيس وغيرها وقرأت أكثرها عليه فزادني - والله - في علم
وفي إيمان، هذا ولو حدثت أنه قبلي يموت لكان غير الشأن وله المقامات الشهيرة أبدى
فضائحهم (2) وبين جهلهم وأصارهم تحت نعال أهل الحق، كانت نواصينا بأيديهم
فصارت نواصيهم بأيدينا وغدت ملوكهم مماليكا والفدم يوحشنا وليس هنا كم
فحضوره ومغيبه سيان ".
وهذا الفصل تسعون بيتا ماذا تضمن من الكذب الذي يدل على أن قائله خرق
جلباب الحياء.
" فصل "
يزيد على مائة وعشرين بيتا مما يهيج ويوقع العداوة وليس فيه قط إفادة

(1) مطبوع في هامش منهاجه، وأما التأسيس في رد أساس التقديس فقد فضح
ابن تيمية به نفسه وهو في ضمن الكواكب الدراري لابن زكنون الحنبلي في
المجلدات (رقم 24 و 25 و 26) بظاهرية دمشق وقد سبق أن وصفت
الكواكب فيما علقته على المصعد الأحمد لابن الجزري فلو قام بطبع التأسيس
أحدهم لما بقي من أهل البسيطة أحد لم يعلم دخائل ابن تيمية. وقد نقلت
منه نصوصا كثيرة فيما علقت على هذا الكتاب كما سبق في مواضع على أن
مبلغ زيفه ظاهر من الكتابين المذكورين لمن ألقى السمع وهو شهيد، ويتبجح
بهما هذا الزائغ كتبجحه بالتأسيس، هكذا شأن مقلدة الزائغين يثنون على
الزيغ ويزدادون غواية. وقد أشرت إلى بعض ما في منهاجه ومعقوله في
" الاشفاق على أحكام الطلاق " فليراجع هناك.
(2) كلا بل فضح نفسه وأذنابه وقادته وأصارهم تحت نعال أهل الحق بجهله وخرقه
ولم يزل ينقل من محبس إلى محبس ومن هوان إلى هوان حتى أفضى إلى ما
عمل وخلف شواذه وصمة الأبد، لكن قاتل الله الوقاحة تحاول قلب الحقائق.
191

" فصل "
في كسر الطاغوت الذي نفوا به الصفات
ثمانية وثمانون بيتا كلها تهييج وإشلاء وسفاهة.
من جملتها:
فتعين الإلزام حينئذ على * قول الرسول ومحكم القرآن
وجعلتم أتباعه مانسترا * خوفا من التصريح بالكفران
" والله - ما قلنا (1) سوى ما قاله فجعلتمونا جنة والقصد مفهوم فنحن وقاية القرآن ".
ما يحسن أن يتخيل أحد في مسلم أنه يقصد الرد على القرآن والرسول.
ثم قال: " والله لو نشرت لكم أشياخكم عجزوا
إن كنتم فخولا فابرزوا * ودعوا الشكاوى حيلة النسوان
وإذا اشتكيتم فاجعلوا * الشكوى إلى الوحيين (2) لا القاضي ولا السلطان

(1) إتق الله لا تحلف به كذبا هذا الكذب المكشوف أين قال الله أو قال رسوله صلى
الله عليه وسلم إن الله متمكن على العرش تمكن استقرار أو إن الحوادث تقوم
به؟ أو إن الحوادث لا أول لها وإن من لم يقل ذلك معطل ملحد وإنه في جهة
العلو من رؤوس العباد أو إنه تكلم بحرف وصوت إلى آخر تلك المخازي أو أين
قال الله أو قال رسوله صلى الله عليه وسلم إن المنزهين لله من المادة والماديات
والجسم والجسمانيات من حزب جنكزخان.
(2) إن كان يريد بهما الكتاب والسنة فقد ظهور ظهورا لا مزيد عليه بما بسطناه في
هذا الكتاب من تحاكمنا إليهما أننا على الحق وخصومنا على الزيغ والضلال
المبين، وإن كان يريد بهما وحي شياطين الجن ووحي شياطين الإنس على ما هو
الظاهر من تلبيساته فلسنا نتحاكم معه إلى الطواغيت " وسيعلم الذين ظلموا
أي منقلب ينقلبون " (الشعراء: 227) ولا بأس أن أهمس في أذنه وآذان
أشياعه أنه لم يبق في غالب البلاد سلطان لأحكام الشرع يخاف الفاتنون جانبه
بسبب تلك الفتن الدامية التي كانت الحشوية يثيرونها على طول القرون في
أخطر أيام الإسلام حتى تركوا الشرع لا سلطان له إلا على قلوب المسلمين حقا
وأصبح الإسلام بالحالة التي نراها والله سبحانه وتعالى ينتقم من هؤلاء
الفاتنين الدائبين على السعي في تفريق كلمة المسلمين وتوهين سلطان الدين
وأعاد إلى الدين سلطانه، إنه قريب مجيب.
192

" فصل "
في مبدأ العداوة بين الموحدين والمعطلين
قال: " يا قوم تدرون العداوة بيننا من أجل ماذا؟ إنا تحيزنا إلى القرآن
والنقل الصحيح والعقل الصريح فاشتد ذاك الحرب بين فريقنا وفريقكم وتأصلت تلك
العداوة من يوم أمر إبليس بالسجود فأتى التلاميذ الوقاح فانظر إلى ميراثهم ذا الشيخ
هذا الذي ألقى العداوة بيننا ".
فصل
في أن التعطيل أساس الزندقة
قال: " من قال إن الله ليس بفاعل فعلا يقوم (1) به وليس أمره قائما به وليس

(1) كم يكرر الناظم قيام الفعل به تعالى وهو الذي دعاه وشيخه إلى القول بحوادث
لا أول لها وهذا من الخطورة بمكان، قال الإمام أبو منصور عبد القاهر في أصول
الدين: وأما جسمية خراسان من الكرامية فتكفيرهم واجب لقولهم بأن الله له
حد ونهاية من جهة السفل، ومنها يماس عرشه ولقولهم بأن الله محل للحوادث
إنما يرى الشئ برؤية تحدث فيه ويدرك ما يسمعه بإدراك يحدث فيه ولولا
حدوث الإدراك فيه لم يكن مدركا لصوت ولا مدركا لمرئي وقد أفسدوا. بإجازة
حلول الحوادث في ذات الله تعالى لأنفسهم دلالة الموحدين على حدوث الأجسام
بحلول الحوادث ا ه‍. وأنت عرفت مذهب الناظم في تلك المسائل.
193

فوق عباده، فثلاثة لا تبقى من الإيمان حبة خردل وقد استراح من القرآن والرسول
وشريعة الإسلام وتمام ذاك جحوده للصفات وتمامه الإرجاء وتمامه قوله في المعاد (1) ".
" فصل "
في بهت أهل الشرك والتعطيل
قال: " قالوا تنقصتم رسول الله، واعجبا، ونظيره قول النصارى إنا تنقصنا
المسيح ".
هذه الفصول كلها كما ترى.
فصل
قال: " ولنا الحقيقة من كلام إلهنا ونصيبكم منه المجاز الثاني وخيامنا مضروبة
بمشاعر الوحيين وخيامكم (2) مضروبة في التيه فالمكان كل ملدد حيران، هذه شهادتهم

(1) ثم قال: (وتمام هذا قولكم بفناء * دار الخلد فالداران فانيتان) مع أن الناظم
يقول في كثير من كتبه بنفي الخلود للكفار في النار وبهذا حكم على نفسه
بالكفر، أنظر كلامه فيمن لا يرى قيام الحوادث بالله والفوقية المكانية له
تعالى. وجعل العمل جزءا من الإيمان حقيقة مؤد إلى تكفير مرتكبي الكبائر
كما هو مذهب الخوارج. ونفى قيام الأفعال الحادثة به تعالى بعده نفى الصفات
والله ينتقم منه.
(2) بل أهل السنة هم الذين جمعوا بين الكتاب والسنة وآثار السلف والبراهين
العقلية التي هي من حجج الله سبحانه، من غير إهمال شئ منها، مراعين
مراتب الأدلة ووجوه الدلالة وإنما مذهب السلف عدم الخوض في الصفات مع
التنزيه العام وهم من أبعد الناس عن حمل ما في كتاب الله وما صح في السنة
على ما يوهم التشبيه فإذا تكلموا إنما يتكلمون بما يوافق التنزيه وهم الذين
يقولون فيما صح لفظه: " أمروه كما جاء، بدون تفسيره بل تفسيره قراءته بلا
كيف ولا معنى " كما تواتر ذلك عن السلف ولا سيما عن أحمد وقد ذكرنا
بعض نصوص لهم في ذلك، وأما أصحاب الناظم فهم الذين جمعوا بين
الإسرائيليات والجاهليات وأنواع الخرافات والأخبار الموضوعات كما يظهر من
كتبهم في العلو والسنة والتوحيد والنحل أين في الصحاح والسنن (ينزل
بذاته) و (يستوي على العرش استواء استقرار وجلوس) و (يتورك)
و (يتكلم بصوت)؟ فلو وقفوا حيث وقف الكتاب والسنة والبرهان العقلي
وأبوا الخوض في الصفات بعقولهم الضئيلة لكانوا على الهدى لكنهم حادوا
وزادوا، قاتلهم الله ما أوقحهم وأشنع إفكهم على أهل الحق.
عظم شأن الفخر الرازي في الرد على الحشوية
194

على محصولهم عند الممات والله يشهد أنهم أيضا كذا ولنا المسانيد والصحاح ولكم
تصانيف الكلام ونقول: قال الله قال رسوله في كل تصنيف وكل مكان لكن تقولون:
قال أرسطو وقال ابن الخطيب (1) وقال ذو العرفان شيخ لكم يدعى ابن سينا، وخيار

(1) هو الإمام فخر الدين الرازي، سيف الله المسلول على المجسمة وهو من أبغض
أهل العلم إليهم لأنه تمكن ببيانه الواضح وبرهانه الدامغ من إزالة شرور المجسمة
من بلاد الشرق كما أجهز على المجسمة الذين أووا إلى الشام بكتابه (أساس
التقديس) وهو كتاب يحق أن يكتب بماء الذهب وأن يجعل من كتب الدراسة
في بلاد تشيع فيها مخازي المشبهة وهو كاف في قمعهم، والله سبحانه يكافيه
على ذلك، وتفسيره الكبير من أهم الكتب في الرد على الحشوية وفي ذلك
ما يكون كفارة لما بدر منه من بعض أغلاط، سامحه الله وأعلى منزلته في
الجنة.
195

ما تأتون قال: الأشعري وتشهدون (1) عليه بالبهتان، والكفر عندكم خلاف شيوخكم
ورفاقهم فحقيقة الإيمان ".
انتهى، يكفيه أن ينسب القائلين عند موتهم بالعجز عن حقيقة الإدراك إلى
الكفر وهي كلمة الصديق الأكبر (إن العجز عن حقيقة الإدراك إدراك).
" فصل "
أنكر فيه على خصومه تكفيرهم إياه وقال: " إسمع إذن يا منصفا حكميهما
وانظر إذن هل يستوي الحكمان، هم عندنا قسمان أهل جهالة ومعاند فالمعاند كافر
والجاهل نوعان أحدهما متمكن من العلم فهو فاسق وفي كفره قولان، والوقف عندي
فيهم لست الذي بالكفر أنعتهم ولا الإيمان، والله أعلم بالبطانة منهم لكنهم
مستوجبون عقابه قطعا لأجل البغي والعدوان، النوع الثاني عاجز عن بلوغ الحق مع
قصد وإيمان وهم ضربان أحدهما قوم دهاهم حسن ظنهم بشيوخهم فمعذورون إن لم
يظلموا أو يكفروا والآخرون طالبون للحق لكن صدهم عن علمه شيئان أحدهما طلب
الحقائق من سوى أبوابها فأولاء بين الذنب والأجرين فانظر إلى أحكامنا فيهم
وأحكامهم فينا ".
انتهى كلامه، وهو كلام من يعتقد أن خصومه خارجون بتكفيره وخصومه
يقولون لا تكفر أحدا من أهل القبلة.
فصل
في أذان أهل السنة بصريحها جهرا. على رؤوس منابر الإسلام
قال: " شبهتم الرحمن بالأوثان (2) في عدم الكلام هم أهل تعطيل وتشبيه معا

(1) ومذهبه هو ما في كتب أصحابه وأصحاب أصحابه كأبي منصور عبد القاهر
البغدادي والقشيري وابن الجويني ونحوهم وقد أفنى الحشوية مؤلفات الإمام
في فتن بغداد وتصرفوا فيما بالأيدي من كتبه ودسوا ما شاءوا، قاتلهم الله.
ناحت العجل
(2) بل من قال إن كلام معبوده حرف وصوت قائمان به فهو الذي نحت عجلا
: " لا يحل لمسلم أن يعتقد أن كلام الله صوت وحرف لا من طريق العقل
ولا من طريق الشرع، فأما طريق العقل فلأنه الصوت والحرف مخلوقان
محصوران، وكلام الله يجل عن ذلك كله وأما من طريق الشرع فلأنه لم يرد
في كلام الله صوت وحرف من طريق صحيحة ولهذا لم نجد طريقا صحيحة
لحديث ابن أنيس وابن مسعود ا ه‍.
وأنت تعلم مبلغ استبحار ابن العربي في الحديث وجزء الصوت للحافظ أبي
الحسن المقدسي لا يدع أي متمسك في الروايات في هذا الصدد لهؤلاء الزائغين
ومن رأى نصوص فتاوى العز بن عبد السلام وابن الحاجب والجمال الحصيري
والعلم السخاوي ومن قبلهم ومن بعدهم من أهل الحق كما هو مدون في نجم
المهتدي ودفع الشبه وغيرهما يعلم مبلغ الخطورة في دعوى أن كلام الله حرف
وصوت قائمان به تعالى وقد سبق نقل بعض النصوص منها ولا تصح نسبة
الصوت إلى الله إلا نسبة ملك وخلق لكن هؤلاء السخفاء رغم تضافر البراهين
ضدهم ودثور الآثار التي يريدون البناء عليها يعاندون الحق ويظنون أن كلام
الله من قبيل كلام البشر الذي هو كيفية اهتزازية تحصل للهواء من ضغطه
باللهاة واللسان، تعالى الله عن ذلك، ويدور أمرهم بين التشبيه بالصنم أو
التشبيه يا بن آدم " أولئك كالأنعام بل هم أضل " (الأعراف: 179).
الكلام النفسي
196

بالجامدات تسعون وجها يبطل المعنى الذي قلتم هو النفس (1) للقرآن ".
ولا وجه واحد. (وتسعون إلى آخره ساقطة من المطبوع)
قال: " وإليه قد عرج الرسول حقيقة ".
جسدا له خوار يحمل أشياعه على تعبده، قال أبو بكر ابن العربي في العارضة

(1) وقد صح عن أحمد فيما جاوب به المتوكل وغيره كما هو مذكور في كتاب
السنة وعيون التواريخ وغيرهما أنه كان يقول القرآن من علم الله وعلم الله غير
مخلوق فالقرآن غير مخلوق وهذا دليل على أنه كان يريد بالقرآن ما هو قائم
بالله، وتابعه ابن جزم في الفصل. فقوله تعالى " فأسرها يوسف في
نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا " (يوسف: 77) فقال إما بدل من أسر
أو استئناف بياني وعلى التقديرين تدل الآية على أن للنفس كلاما لقوله في
نفسه (كما حكى القرآن الكريم) " أنتم شر مكانا " وكذلك قوله تعالى:
" أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم " (الزخرف: 80) وفي الحديث السر
ما أسره ابن آدم في نفسه وقوله تعالى ".. يقولون لو كان لنا من الأمر
شئ ما قتلنا ههنا) (آل عمران: 154) أي يقولون في أنفسهم بدليل
السياق وقوله تعالى " واذكر ربك في نفسك " (الأعراف: 205).
كل ذلك من أدلة الكلام النفسي وحديث أم سلمة في الطبراني في رجل
سأل النبي صلى الله عليه وسلم قائلا (إني لأحدث نفسي بالشئ لو تكلمت به
لأحبطت أجري) فقال صلى الله عليه وسلم: لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن. وما
في الحديث القدسي (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) من أدلة الكلام
النفسي أيضا وقد أقر الذهبي بحجية الأخير في ذلك في كتاب العلو له،
ومن الدليل على ذلك أيضا قوله تعالى " ويقولون في أنفسهم " (المجادلة: 8)
فقوله تعالى " بألسنتهم " و " بأفواههم " في قوله تعالى " يقولون بألسنتهم
ما ليس في قلوبهم " (الفتح: 11) و " يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم "
(آل عمران: 167) لم يجعل القول باللسان مجازا حتى يظن المجازية في القول
في النفس تمسكا بلفظ " في أنفسهم " كما توهم بعض أهل الأهواء وقول عمر
الفاروق (زورت في نفسي كلاما) أشهر من نار على علم، فمن رد أن يكن
كلام في النفسي رد على تلك الأدلة الصريحة والحامل لأهل الحق على القول
بالكلام النفسي هو إجماع التابعين على القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق
فخرجوا إجماعهم هذا على هذا الوجه المعقول وإلا لما صح قولهم. وتسفيه
أحلام التابعين جميعا لا يصدر إلا عن مجازف فالفرق بين ما هو قائم بالخلق
والمعنى القائم بالله سبحانه هو المخلص الوحيد في هذه المسألة فاللفظي حديث
والنفسي قديم كما أشار إلى هذا وإلى ذاك إمام الأئمة أبو حنيفة وتابعه أهل
الحق. ويتضح بهذا البيان الواضح أن قول بعض زهاد الحشوية في هذا البحث:
" نحن نستدل في الحرف والصوت بقوله تعالى " كهيعص " (مريم: 1)
ونحوه وقول النبي صلى الله عليه وسلم (يجمع الله الخلائق يوم القيامة..)
وخصومنا يستدلون بقول الأخطل النصراني (إن البيان لفي الفؤاد)
بتحريف البيان إلى الكلام " هواء بعيد عن الحقيقة بعد الأرض عن السماء
وهراء لا يصدر إلا من السفهاء ومثل هذا السفه حمل بعض الشافعية أن
يشترط في مدرسة بناها بدمشق أن لا يطأ أرضها يهودي ولا نصراني ولا
حشوي حنبلي كما في الدارس في تاريخ المدارس وقانا الله شر الغلو.
197

أين في القرآن إليه؟.
" قال والله أكبر من أشار رسوله حقا إليه بإصبع وبنان)
أين في الحديث إليه؟.
" قال والله فوق العرش والكرسي ".
أين في القرآن إن الله فوق العرش؟.
فصل
في تلازم التعطيل والشرك
" قال: واعلم بأن الشرك والتعطيل مذ كانا هما لا شك مصطحبان أبدا فكل
معطل هو مشرك ".
سواء أراد بالتعطيل الإنكار للذات أو إنكار الصفات أو بعضها هو مباين
للشرك.
قال: " والناس في ذا ثلاث طوائف: إحدى الطوائف يشرك بإلهه فإذا دعاه دعا
199

إلها ثاني، وثانيها: جاحد يدعو سوى الرحمن، هو جاحد للرب يدعو غيره شركا
وتعطيلا له قدمان ".
هذا ما يستقيم يا هذا.
قال: " وثالث هذه الأقسام خير الخلق فمعطل الأوصاف ذو شرك كذا ذو
الشرك فهو معطل الرحمن ".
قال:
لكن أخو التعطيل شر من * أخي الإشراك بالعقول والبرهان
والله لا معقول ولا برهان وأخذ يبينه بما لا يصح وإن كان فيه شئ كثير من
الصحيح لا يحصل به مقصوده بل يلبس به.
ثم قال:
لكن أخو التعطيل ليس لدي‍ * - ه إلا النفي أين النفي من إيمان
فصل
في مثل المشرك والمعطل
قال:
أين الذي قد قال في ملك عظي‍ * - م لست فينا قط ذا سلطان
فذكر ثمانية أبيات من هذا الخطاب الذي قد خرق حجاب الهيبة ثم قال:
" هذا وثان قال أنت مليكنا إذ حزت أوصاف الكمال ولقد جلست على سرير الملك
متصفا بتدبير عظيم الشأن ".
هذا تصريح بالجلوس (1). (وفي المطبوع وقد استويت).

(1) يعجب المصنف كيف يصرح الناظم بالجلوس. ولأحد تلامذته الأخصاء جزء
في إثبات المماسة ردا على من ينزه الله سبحانه عن ذلك وما ينطوي عليه
هؤلاء أفظع بكثير من فلتات لسانهم فلو كانوا بين قوم على معتقدهم
لكنت تراهم يصرحون بكل ما تكن صدورهم. قال ذلك التلميذ أعني محمدا
المنبجي صاحب الفرج بعد الشدة في الجزء المذكور: قال الخلال في كتاب السنة
حدثنا أحمد بن الحسين الرقي حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح
حدثني أبي عن سعيد بن الحارث عن عبيد بن حنين قال بينما أنا جالس في
المسجد إذ جاءني قتادة بن النعمان يحدث وثاب إليه الناس، فقال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله لما فرغ من خلقه استوى على
عرشه واستلقى ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال إنها لا تصلح لبشر ".
قال الحافظ الذهبي وغيره إسناده على شرط البخاري ومسلم ا ه‍
ولعلك علمت بذلك قيمة كتاب السنة للخلال، وفي ذلك الجزء من المخازي
ما يضاهي ما نقلناه آنفا، ولابن بدران الدشتي جزء في إثبات الحد والجلوس
لله سبحانه ويسوق فيه الحديث المذكور بطرق كما ذكرت ذلك فيما علقت على
ذيول طبقات الحفاظ قاتلهم الله ما أجرأهم على الله. ولعلك علمت بذلك
أيضا قيمة تهويلهم بأنهم يتابعون السنة كما علمت قيمة تصحيحهم للروايات
المطابقة لزيغهم.
" تنبيه " الذهبي يبعد عن رشده ويفقد صوابه إذا جاء دور الكلام على
أحاديث في الصفات أو في فضائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أهل
بيته عليهم السلام وكذلك حينما يترجم لشافعي من الأشاعرة أو حنفي مطلقا
رغم تظاهره بالإنصاف والبعد عن التعصب في كثير من المواضع على سعة
علمه في الحديث ورجاله. فهل يتصور من عالم يعقل ما يقول أن يصحح مثل
هذا الحديث الذي بطلانه أظهر من الشمس في ضحوة النهار؟ فطالب الحق لا
يعير سمعا لأقواله فيما ذكرناه. وهو شافعي الفروع إلا أنه مجسم اعتقادا
رغم تبريه منه في كثير من المواضع وعنده نزعة خارجية وإن كان أهون شرا
بكثير من الناظم وشيخه في ذلك كله، ومن لا يكون متساهلا في أمر دينه،
لا يثق بكلام مثله فيما ذكرناه بعد أن عرف دخائله. والتاج ابن السبكي أطراه
غاية الإطراء حيثما ترجم له في طبقات الشافعية الكبرى أداء لحق التلمذة
عليه لكن لم يمنعه ذلك من الإشارة إلى ما ينطوي عليه من البدع والأهواء في
مواضع من كتابه حيث قال في الكتاب المذكور (1 - 197): وأما تاريخ
شيخنا الذهبي فإنه على حسنه وجمعه مشحون بالتعصب المفرط، لا آخذه
الله فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين - أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق،
واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين والحنفيين ومال فأفرط على
الأشاعرة ومدح فزاد في المجسمة ا ه‍ حتى عده لا يعول على تراجمه لهؤلاء،
وقال أيضا في حقه (2 - 249) من الكتاب المذكور: وتأتي أنت تتسكع.
في ظلم التجسيم الذي تدعي أنك برئ منه وأنت من أعظم الدعاة إليه
وتزعم أنك تعرف هذا الفن (يعني علم أصول الدين) وأنت لا تفهم منه
نقيرا ولا قطميرا ا ه‍.
حال الذهبي - ما له وما عليه
وقال أيضا في ترجمة ابن جرير ناقلا عن الحافظ صلاح الدين العلائي أنه
قال عن الذهبي ما نصه: " لا أشك في دينه وورعه وتحريه فيما يقوله عن
الناس ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات ومنافرة التأويل والغفلة عن التنزيه
حتى أثر ذلك في طبعه انحرافا شديدا عن أهل التنزيه وميلا قويا إلى أهل
الإثبات فإذا ترجم واحدا منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن
ويبالغ في وصفه ويتغافل عن غلطاته ويتأول له ما أمكن، وإذا ذكر أحدا من
الطرف الأخر كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه ويكثر من قول
من طعن فيه ويعيد ذلك ويبديه ويعتمده دينا وهو لا يشعر ويعرض عن
محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها وكذلك
يفعل في أهل عصرنا إذا لم يقدر على أحد منهم بتصريح يقول في ترجمته
والله يصلحه... ونحو ذلك وسببه المخالفة في العقائد، انتهى ".
قال التاج ابن السبكي عقب ما تقدم ما نصه: " والحال في شيخنا الذهبي
أزيد مما وصف وهو شيخنا ومعلمنا غير أن الحق أحق أن يتبع وقد وصل من
التعصب المفرط إلى حد يسخر منه وأنا أخشى عليه يوم القيامة عند من لعل
أدناه عنده أوجه منه فالله المسؤول أن يخفف عنه وأن يلهمهم العفو عنه وأن
يشفعهم فيه، والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه وعدم
اعتبار قوله ولم يكن يستجرئ أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه
أنه لا ينقل عنه ما يعاب عليه، وأما قول العلائي عن (دينه وورعه وتحريه
فيما يقوله) فقد كنت أعتقد ذلك وأقول عند هذه الأشياء ربما اعتقدها دينا،
ومنها أمور أقطع بأنه يعرف بأنها كذب وأقطع بأنه لا يختلقها وأقطع بأنه
يحب وضعها في كتبه لتنشر وأقطع بأنه يحب أن يعتقد سامعها صحتها بغضا
للمتحدث فيه وتنفيرا للناس عنه مع قلة معرفته بمدلولات الألفاظ ومع اعتقاده
(أن ذلك) مما يوجب نصر العقيدة التي يعتقدها هو حقا، ومع عدم ممارسته
لعلوم الشريعة غير أني لما أكثرت بعد موته النظر في كلامه عند الاحتياج إلى
النظر فيه توقفت في تحريه فيما يقوله ولا أزيد على هذا غير الإحالة على
كلامه ".. إلى آخر ما قاله فليراجع باقي كلامه من أراد المزيد على ما نقلنا.
وقال التاج أيضا في طبقاته وهو يترجم لإمام الحرمين ما نصه: " وقد كان
الذهبي لا يدري شرح البرهان، ولا هذه الصناعة، ولكنه يسمع خرافات من
طلبة الحنابلة فيعتقدها حقا ويودعها تصانيفه، هذا قدر عقلية الذهبي
وقدر تحريه عند صاحب الطبقات، ولعل القارئ يرى هذه العقلية من أسخف
العقليات كيف لا وهي عقلية ترى الخرافات حقا تودع في المصنفات يبنى
عليها ما يتخذه عباد الله دينا، ورجل هذا حاله أي قدر يكون قدره عند أولي
النهى، الذين عرفوا دخائله.
ولسنا نطيل النقل للقارئ في شأن سقوط كلام هذا الرجل في علماء
الحنفية والمالكية والشافعية وهم قادة الأمة وأدلاؤها إذا أدلهم ليل
المشكلات وكفى القارئ في هذا الرجل قول ابن السبكي السابق (والذي
أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه وعدم اعتبار قوله) فإن هذا
معناه القضاء على الرجل وإسقاطه من عداد العلماء الذين يحترم قولهم،
ليتأمل القارئ طويلا في قول التاج ابن السبكي السابق أيضا (ولم يكن
يستجرئ أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أن لا ينقل عنه ما
يعاب عليه) فإن هذا معناه أن الرجل كان يعلم حق العلم أنه قال في تلك
الكتب ما يوقن أنه ليس بحق، ولذلك كان يحرص على أن لا يطلع الناس
عليه لئلا يفتضح بأكاذيبه البعيدة عما عليه العلماء الذين يكتب عنهم
وأرجو وألح في الرجاء أن لا يغفل القارئ عن قول صاحب الطبقات السابق في
هذا الرجل من أنه (كان قليل المعرفة بمدلولات الألفاظ) ومن من العقلاء
يرضى أن يسقط نفسه فيعد من زمرة العلماء رجلا يصل به الجهل إلى درجة
قلة المعرفة بمدلولات الألفاظ؟ كما أرجو القارئ أيضا وأشدد في هذا الرجاء
أن يلتفت لقول صاحب جمع الجوامع (إن الذهبي لم يمارس علوم الشريعة)
ومن فقد رشده وضاع صوابه حتى يستطيع أن يعد من العلماء رجلا لم يمارس
200



الشريعة فليعلم حق العلم ليراعي حق الرعاية. ولا ينسى القارئ أن ما تقدم
شهادة تلميذ هو إمام فهو أعرف بشيخه ولعل هذا يكفي في دفع ما ربما يقوله
بعض المغرورين بالذهبي أو ينقله عن بعض المغرورين.
وقد أشرت إلى حاله في مواضع مما علقت به على ذيول طبقات الحفاظ
وزغل العلم.
ومما يزيدك بصيرة في هذا الباب اجتراء الذهبي على حذف لفظ (إن صحت
الحكاية عنه) من كلام البيهقي في الأسماء والصفات (ص 303) عندما
نقل كلامه في كتاب العلو (ص 126) في صدد نسبة القول بأن الله في
السماء، إلى أبي حنيفة ليخيل إلى السامع أن سند هذه الرواية لا مغمز فيه
مع أن نوحا الجامع ربيب مقاتل بن سليمان المجسم، في السند هالك مثل
زرج أمه، وكذلك نعيم بن حماد ربيب نوح، وقد ذكره كثير من أئمة
أصول الدين في عداد المجسمة فأين التعويل على رواية مجسم فيما يحتج
به لمذهبه؟ وليس بقليل ما ذكره الذهبي في حقهما في ميزان الاعتدال على أنه
لو سبق التفاف نحو عشرة آلاف شخص حول بدعه امرأة أتت من ترمذ إلى
الكوفة للدعوة إلى مذهب جهم لكان لهذا النبأ شأن عظيم في كتب الأنباء
والرواية ولما انفرد بمثل ذلك الخبر يحيى بن يعلى المجهول عن نعيم بن حماد
الهالك عن نوح الجامع لكل شئ غير الصدق ولا كان انفرد أحمد بن جعفر بن
نصر عن يحيى المذكور ولا أبو الشيخ بن حيان صاحب كتاب العظمة الذي
يحوي كل هائف وقد ضعفه بلدية الحافظ العسال، وقد أشار البيهقي بقوله
(إن صحت الحكاية) إلى ما في الرواية من وجوه الخلل. وعندما حذف
الذهبي هذا اللفظ يظن من لا خبرة عنده بالرجال أن الإله في السماء قول
فقيه الملة إمام شطر هذه الأمة بل ثلثيها في جميع القرون مع بطلان رواية
ذلك عنه بالمرة. ولأبي حنيفة كلمة في الفقه الأبسط رواية أبي مطيع عنه
وهي (من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض كفر) وعلل الأصحاب
ذلك بأن هذا القائل جوز المكان في حقه تعالى وهر كفر؟ وما طبع في الهند
باسم شرح الفقه الأكبر للماتريدي إنما هو شرح أبي الليث على الفقه الأبسط مع
سقم النسخة الهندية، وبدار الكتب المصرية نسخة خطية جيدة من شرح أبي
الليث. وقد زاد أبو إسماعيل الهروي في الفروق على تلك الكلمة ما شاء من
كيسه مما يوافق مذهبه في التجسيم كذبا وزورا بسند مركب، ونقل الذهبي
في كتاب العلو جملة ذلك بدون أن يذكر سند الهروي في روايته تعمية
وتدريجا للباطل، وكذا فعل الناظم في عزوه - راجع شرح أبي الليث وشرح
البزدوي وإشارات المرام في عبارات الإمام للبياضي، ودفع الشبه للتقي
الحصني وشرح الفقه الأكبر لعلي القارئ فيما نقله عن ابن عبد السلام ولم
يراقب الله من زاد على الكلمة السابقة ما أشرنا إليه كما وقع في بعض نسخ
الكتاب المذكور من عهد ذلك الهروي. وقد روى الذهبي في كتاب العلو أيضا
عن الدارقطني الأبيات المعروفة عند المجسمة بسند يقول فيه أنبأنا أحمد بن
سلامة عن يحيى بن بوش أنبأنا ابن كادش أنشدنا أبو طالب العشاري أنشدنا
الدارقطني: حديث الشفاعة في أحمد. إلى أحمد المصطفى بسنده الأبيات
(وآخرها كما في بدائع الفوائد لابن القيم 4 - 39).
فلا تنكروا أنه قاعد * ولا تجحدوا أنه يقعد
فأحمد بن سلامة الحنبلي شيخ الذهبي مات سنة 678 والذهبي ابن خمس،
ويحيى بن أسعد بن بوش الحنبلي الخباز المتوفى سنة 593 وأحمد بن سلامة
ابن أربع كان أميا لا يكتب، وأبو العز بن كادش أحمد بن عبيد الله المتوفى
سنة 526 من أصحاب العشاري اعترف بالوضع ويقال ثم تاب، راجع الميزان.
وحكم مثله عند أهل النقد معروف، وأبو طالب محمد بن علي العشاري
الحنبلي المتوفى سنة 452 مغفل يتقن ما يلقن، وقد راجت عليه العقيدة
المنسوبة إلى الشافعي كذبا، وكل ذلك باعتراف الذهبي نفسه في الميزان
وغيره، فهل يصح عزو تلك الأبيات إلى الدارقطني بمثل هذا السند؟ وقال
الذهبي أيضا في العبر في ترجمة أبي يعلى الحنبلي: (صاحب التصانيف
وفقيه العصر كان إماما لا يدرك قراره ولا يشق غباره وجميع الطائفة معترفون
بفضله ومغترفون من بحره). وأنت علمت حال أبي يعلى مما ذكره ابن الجوزي
في دفع الشبه، ومما نقلناه عن كتبه في هذا الكتاب ومما ذكره ابن الأثير في
الكامل في حوادث سنة 429، وترى الذهبي كثيرا ما يقول في رد ما أخرجه
الحاكم في المستدرك في فضائله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عليهم
السلام: أظنه باطلا. بدون ذكر أي حجة، وقد ذكر ابن الوردي في تاريخه أنه
آذى كثيرا من الأحياء بتدوين ما كان يسمعه من أحداث يجتمعون به.
وفيما ذكرنا كفاية في معرفة حال الذهبي نسأل الله السلامة، ومع ذلك هو
أهون شرا من الناظم وشيخه كما سبق، وله رسالة إلى ابن تيمية ينصحه فيها
ويمنعه من المغالاة، وسبق نشرها مع زغل العلم له. وترى الذهبي مع ثنائه
البالغ في حق ابن تيمية في كثير من كتبه. يقول عنه: " وقد أوذيت من
الفريقين من أصحاب وأضداده وأنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية ا ه‍
كما في الدرر الكامنة، ويقول عنه أيضا: إنه أطلق عبارات أحجم عنها
الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها أ ه‍ " نقله ابن رجب عنه في
طبقاته. ويقول عنه أيضا في زغل العلم (ص 17).. وقد تعبت في وزنه
وتفتيشه حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت الذي أخره بين أهل مصر
والشام ومقتته نفوسهم وازدرؤا به وكذبوه وكفروه إلا الكبر والعجب وفرط
الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة
الظهور.. وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما
يستحقون فلا تكن في ريب من ذلك ا ه‍ ".
ويقول عنه أيضا في (ص 23) من زغل العلم: "... وقد رأيت ما آل
أمره إليه من الحط عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحق وبباطل
فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منورا مضيئا على محياه سيما السلف
ثم صار مظلما مكسوفا عليه قتمة عند خلائق من الناس، ودجالا أفاكا كافرا
عند أعدائه، ومبتدعا مضلا محققا بارعا عند طوائف من عقلاء الفضلاء أو
حامل راية الإسلام، وحامي حوزة الدين ومحيي السنة عند عموم عوام
أصحابه ا ه‍ ". وهذه الكلمات نقلها السخاوي عنه أيضا في (الإعلان
بالتوبيخ) ومن الخطأ الفاحش عزوها إلى (قمع المعارض) للسيوطي اغترارا
بوضع رقم التعليق في (القول الجلي) غلاط عند كلمة (قمع المعارض) مع
تصحيف (زغل العلم) إلى (رجل العلم) بعد أسطر في الطبعتين مع إن
أصل التعليق كان على (زغل العلم) المصحف إلى (رجل العلم) كما نبهت
على ذلك فيما علقت على الزغل المطبوع وإن لم ينفع تنبيهي عند أناس لا
يوقظهم من سباتهم العميق غير نفخة الصور ونسبة (زغل العلم) إلى
الذهبي ليست بموضع ريبة أصلا، وهو من المخطوطات المصورة في التيمورية
بدار الكتب المصرية وسنأتي إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب بصورة رسالة
الذهبي التي بعث بها إلى ابن تيمية ينصحه في شواذه ويكفي ما ذكرناه هنا
في تبيين نظر الذهبي لابن تيمية مع أنه من أهل مذهبه المنخدعين به فنسجل
للذهبي هذه الحسنات كتسجيلنا لسيئاته المذكورة مراعاة للعدل فيما له وفيما
عليه وإيقاظا للمغترين به، والله ولي الهداية.
200

قال: " إن المعطل بالعداوة معلن * والمشركون أخف في الكفران "
ما لن يعتقد في المسلمين هذا إلا السيف (1).
فصل
في أسبق الناس دخولا إلى الجنة
قال: " وروى ابن ماجة أن أولهم يصافحه (2) إله العرش ذو الإحسان
فاروق دين الله ".

(1) لأن ذلك زندقة مكشوفة ومروق ظاهر وإصرار على اعتقاد الإيمان كفرا قبحه
الله كيف يعتقد في المشركين أنهم أخف في الكفر من المؤمنين المنزهين والشيخ
الإمام المصنف رض الله عنه رجل معروف بالورع البالغ واللسان العفيف
والقول النزيه لا تكاد تسمع منه في مصنفاته كلمة تشم منها رائحة الشدة،
ولينظر القارئ حاله هذا مع قوله في ابن القيم (ما له إلا السيف) إنه إن
فكر في هذا قليلا علم العلم القاطع أن هذا الناظم بلغ في كفره مبلغا لا يجوز
السكوت عليه ولا يحسن لمؤمن أن يغضي عنه ولا أن يتساهل فيه.
(2) قاتله الله، حديث موضوع يستدل به وشأن هذا الخبر في السقوط فوق أن يقال
بين رجاله ضعيف بل بينهم ضعيف ومنكر الحديث وآخر قدري خلا استحالة
المتن وابن كثير أهون شرا من الناظم حيث أنكره جدا في جامع المسانيد (قال
المنبجي الحنبلي في إثبات المماسة): قال ابن تيمية والمعروف عند أئمة أهل
السنة وعلماء أهل الحديث إنهم لا يمتنعون عن وصف الله أنه يمس ما شاء من
خلقه بل يروون في ذلك الآثار ويردون على من نفاه. انتهى ذكره في الأجوبة
المصرية). قاتله الله، ما أجرأه على الله.
208

فصل
في عدد الجنات
قال: سبحان من غرست يداه (1) جنة الفردوس ويداه أيضا أتقنت لبنائها، هي
في الجنان كآدم لكنما الجهمي ليس لديه من ذا الفضل شئ فهو ذو نكران ". إنما
ينكر العضو والجارحة فإن كنت أنت تثبتها فاعرف.
قال: " ولد عقوق عق والده ولم يثبت بنا فضلا عن الشيطان ".
ما يستحيي يكذب على الناس.
قال: " ولقد روى حقا أبو الدرداء ذاك عويمر أثرا عظيم الشأن يهتز قلب العبد
عند سماعه طربا بقدر حلاوة الإيمان ما مثله أبدا يقال برأيه فيه النزول (3). ثلاث
ساعات: فإحداهن ينظر في الكتاب، الثاني: يمحو ويثبت ما يشاء

(1) خلق الله آدم بعناية خاصة وبدون سببية والد وأم هذا المعنى المجازي يعقله
كل من عنده ذوق العربية وأما الخبر الذي يشير إليها الناظم ففي سنده ابن علي
زيد بن جدعان لا يحتج به.
(2) هذا الخبر الموقوف ليس بثابت عن أبي الدرداء فضلا عن ثبوت رفعه إليه صلى
الله عليه وسلم. وفي سنده زيادة بن محمد الأنصاري، قال البخاري هو منكر
الحديث وقال ابن حبان يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك، نقله ابن
الجوزي، ولعلك علمت بذلك مبلغ قيمة ما يحتج به هذا البجباج النفاج.
209

بحكمة، والساعة الأخرى إلى عدن أهله هم صفوة الرحمن والساعة الأخرى إلى هذه
السماء يقول هل من تائب ندمان ".
الظاهر أنه ما ساق أبوابا في صفة الجنة إلا ليذكر هذا الحديث وأيضا
ليسكت الناس بسماع صفات الجنة فيقبلون على هذه القصيدة ويعكفون عليها
فيفتنهم، أسال الله العافية ويحق له اسم الحشوي لأن الباطل محشو في هذه
القصيدة اللحناء.
قال: " وروى ابن ماجة مسندا عن جابر بينا هم في عيشهم إذا بنور ساطع
رفعوا رؤوسهم فرأوه نور الواحد وإذا بربهم تعالى فوقهم (1) قد جاء للتسليم وقال
السلام عليكم جهرا، ومصداقه " سلام قولا من رب رحيم " (يس: 58) من رد ذا
فعلى رسول الله رد ". الذي يحمله على محمل صحيح لا يرده والذي يحمله على
صفات الأجسام هو الذي يرد ما يجب.
فصل
في يوم المزيد
قال " فيرون ربهم تعالى جهرة ويحاضر الرحمن واحدهم محاضرة الحبيب يقول
يا بن فلان، هل تذكر اليوم الذي قد كنت فيه مبارزا بالذنب قالوا يحق لنا وقد كنا إذا
جلساء رب العرش ".

(1) قال الذهبي إسناده ضعيف وقال ابن الجوزي موضوع وقال العقيلي: أبو
عاصم العباداني - في سنده - منكر الحديث لا يتابع عليه. وأما فضل
الرقاشي في السند فممن لا يكتب حديثه وبمثل هذا الخبر يحتج الناظم في
تكييف الرؤية.
(2) جمع طرقه أبو بكر بن أبي داود ذلك الكذاب الزائغ وسبق بيان أن ابن عساكر
ألف جزءا في توهين طرقه فتذكر. ولفظ الجلساء لم يقع إلا في بعض الطرق
الواهية لحديث يوم المزيد، راجع جزء ابن عساكر.
210

فصل
كله فيما للعبد عند ربه في الآخرة ولو كان مفردأ بالتصنيف كان حسنا، ولكن
إدخاله في قصيدة انتصب فيها للحكم بين الحشوي وخصومه وإسعار الحرب بينهم لأي
معنى؟.
فصل
رجع فيه إلى ما كان عليه مما في نفسه وذكر خصومه وفصول معه ذكر فيها
فرق المعادين له.
فصل
ختم به الكتاب فيه شئ يسير ولكن هذا آخر كلامنا في ذلك والله المستعان.
قال المؤلف شرعت فيه يوم السبت الرابع والعشرين من صفر سنة 749
وفرغت منه يوم السبت مستهل ربيع الأول من السنة (1)
والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم. حسبنا الله ونعم الوكيل.
" تم السيف الصقيل "

خاتمة السيف الصقيل
(1) فيكون تأليف السبكي لهذا الكتاب قبل وفاة ابن القيم بنحو سنتين. هذا
وكنا وعدنا عند الكلام على الذهبي أن نأتي في آخر الكتاب بصورة رسالة
بعث بها الذهبي إلى ابن تيمية يحذره فيها عواقب إصراره على الشذوذ عن
جمهور العلماء في مسائل أصلية وفرعية وقد ظفرنا بها بخط التقي ابن
قاضي شهبة منقولا عن خط البرهان ابن جماعة المنقول من خط الأحفظ أبي
سعيد الصلاح العلائي المنسوخ من خط الشمس الذهبي نفسه، وخط التقي
ابن قاضي شهبة معروف وتوجد كتب بخطه في دار الكتب المصرية والخزانة
الظاهرية بدمشق منها قطعة من طبقات الشافعية بدار الكتب المصرية، ومنها
ما انتقاه من التاريخ الكبير للذهبي مما يتعلق بتراجم الشافعية بالخزانة
الظاهرية ففي إمكان الباحث الذي لا يعرف خط ابن قاضي شهبة أن يتأكد من
خطه المقارنة بين الصورة الزنكوغرافية المنشورة هنا، المأخوذة عن الرسالة
المذكورة المحفوظة بدار الكتب المصرية وبين خطه المحفوظ في الدار والخزانة
المذكورتين وإلى تلك الرسالة أشار السخاوي حيث قال في الإعلان بالتوبيخ:
" ورأيت له رسالة كتبها لابن تيمية هي في دفع نسبته لمزيد تعصبه
مفيدة ". وذلك في صدد الدفاع عن الذهبي ردا على من ينسبه لفرط
التعصب كما ذكرت في صدر الرسالة عند نشرها مع الزغل قبل سنين.
مقدمة رسالة الذهبي إلى ابن تيمية
وقبل الرسالة لا بد من ذكر مقدمة هنا ليكون القارئ على بينة من أمر
ابن تيمية وهي أن ابن تيمية هذا ولد بحران ببيت علم من الحنابلة وقد أتى به
والده الشيخ عبد الحليم مع ذويه من هناك إلى الشام خوفا من المغول، وكان
أبوه رجلا هادئا أكرمه علماء الشام ورجال الحكومة حتى ولوه عدة وظائف
علمية مساعدة له، وبعد أن مات والده ولوا ابن تيمية هذا وظائف والده بل
حضروا درسه تشجيعا له على المضي في وطائف والده وأثنوا عليه خيرا كما
هو شأنهم مع كل ناشئ حقيق بالرعاية. وعطفهم هذا كان ناشئا من مهاجرة
ذويه من وجه المغول يصحبهم أحد بني العباس - وهو الذي تولى الخلافة
بمصر فيما بعد - ومن وفاة والده بدون مال ولا تراث بحيث لو عين الآخرون
في وظائفه للقي عياله البؤس والشقاء، وكان في جملة المثنين عليه التاج
الفزاري المعروف بالفركاح وابنه البرهان والجلال القزيني والكمال الزملكاني
ومحمد بن الجريري الأنصاري والعلا القونوي وغيرهم، لكن ثناء هؤلاء غر
ابن تيمية - ولم ينتبه إلى الباعث على ثنائهم - فبدأ يذيع بدعا بين حين وآخر
وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون
فلتات لا ينطوي هو عليها، لكن خاب ظنهم وعلموا أنه فاتن بالمعنى
الصحيح فتخلوا عنه واحدا إثر واحد على توالي فتنه، كما سبق. والذهبي
كان من أشياعه ومتابعيه إلا في مسائل، لكنه لما وجد أن فتنه تأخذ كل
مآخذ ولم يبق معه سوى مقلدة الحشوية والمنخدعين به وهم شباب بدأ يسعى
في تهدئة الفتنة، مرة يكتب إلى أضداده لأجل أن يخففوا لهجتهم معه
كما فعل مع السبكي على رواية ابن رجب ولم نطلع على غير صدر الجواب
على تقدير صحة ذلك الصدر - ومرة يكتب هذه الرسالة إلى ابن تيمية نفسه
211

نص الرسالة
215

نص الرسالة
ولا تخلو قراءة هذا الخط من صعوبة على بعض القراء فإليك الرسالة
بالحروف المعتادة مع عنوانها:
رسالة كتب (1) بها الشيخ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي إلى الشيخ تقي
الدين ابن تيمية كتبتها (2) من خط قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة رحمه الله
وكتبها هو من خط الشيخ الحافظ أبي سعيد بن العلائي وهو كتبها من خط مرسلها
الشيخ شمس الدين.
الحمد لله على ذلتي، يا رب ارحمني وأقلني عثرتي. واحفظ علي إيماني.
واحزناه على قلة حزني، وا أسفاه على السنة وذهاب أهلها. واشوقاه إلى إخوان
مؤمنين يعاونونني على البكاء. واحزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم وأهل
التقوى وكنوز الخيرات. آه على وجود درهم حلال وأخ مؤنس، طوبى لمن شغله عيبه
عن عيوب الناس. وتبا لمن شغله عيوب الناس عن عيبه. إلى كم ترى القذاة في عين
أخيك وتنسى الجذع في عينك!. إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء
وتتبع عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تذكروا موتاكم
إلا بخير، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) بلى أعرف أنك تقول لي لتنصر نفسك:
إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شموا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى
الله عليه وسلم وهو جهاد. بلى والله عرفوا خيرا كثيرا مما إذا عمل به العبد فقد فاز
وجهلوا شيئا كثيرا مما لا يعنيهم، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. يا رجل
بالله عليك كف عنا فإنك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام. إياكم والغلوطات في
الدين كره نبيك صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقال:

(1) بتضمين (بعث).
(2) والكاتب هو التقي ابن قاضي شهبة وقد ذكر في طبقات الشافعية أنه اطلع
على مجاميع وفوائد بخط البرهان ابن جماعة.
217

(إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان) وكثرة الكلام بغير زلل
تقسي القلوب إذا كان في الحلال والحرام، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية
والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمى القلوب. والله قد صرنا ضحكة في الوجود
فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد بعقولنا، يا رجل قد بلعت (سموم)
الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات. وكثرة استعمال السموم يدمن عليه الجسم وتكمن والله
في البدن. واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبر وخشية بتذكر وصمت بتفكر. وآها
لمجلس يذكر فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. بلى عند ذكر الصالحين
يذكرون بالازدراء واللعنة. كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما
بالله خلونا من ذكر بدعة الخميس وأكل. الحبوب وجدوا في ذكر بدع كنا نعدها من
أساس الضلال قد صارت هي محض السنة وأساس التوحيد ومن لم يعرفها فهو كافر
أو حمار، ومن لم يكفر فهو أكثر من فرعون. وتعد النصارى مثلنا، والله في
القلوب شكرك إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد. يا خيبة من اتبعك فإنه
معرض للزندقة والانحلال لا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطوليا شهوانيا. لكنه
ينفعك ويجاهد عندك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه فهل معظم أتباعك
إلا قعيد مربوط خفيف العقل أو عامي كذاب بليد الذهن أو غريب واجم قوي المكر أو
ناشف صالح عديم الفهم، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل، يا مسلم أقدم
حمار شهوتك لمدح نفسك. إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار. إلى كم تصادقها
وتزدري الأبرار. إلى كم تعظمها وتصغر العباد. إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد.
إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح - والله - بها أحاديث الصحيحين. يا ليت
أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والاهدار أو
بالتأويل والإنكار، أما آن لك أن ترعوى؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ أما أنت
في عشر السبعين وقد قرب الرحيل. بلى - والله - ما أذكر أنك تذكر الموت بل
تزدري بمن يذكر الموت فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي بل لك همة
كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب الكلام ولا تزال تنتصر حتى
أقول: وألبتة سكت. فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد فكيف
218

حالك عند أعدائك. وأعداؤك - والله - فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن أولياءك
فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر. قد رضيت منك بأن تسبني علانية
وتنتفع بمقالتي سرا (فرحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي) فإني كثير العيوب غزير
الذنوب. الويل لي إن أنا لا أتوب، ووافضيحتي من علام الغيوب ودوائي عفو الله
ومسامحته وتوفيقه وهدايته والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم
النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وهنا انتهت صورة رسالة الذهبي إلى ابن تيمية وفيها عبر بالغة. وليكن هذا
آخر تكملة الرد على نونية ابن القيم وبها يكون إن شاء الله تعالى (تبديد الظلام
المخيم من نونية ابن القيم).
لماذا يقال للناظم ابن القيم
وقد عرف الناظم بابن القيم حيث كان أبوه قيم المدرسة الجوزية الحنبلية التي
أنشأها محيي الدين ابن الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي بسوق القمح المعروفة
اليوم بالبزورية بدمشق، والغالب أن يقال له ابن قيم الجوزية لئلا يلتبس بابن
القيم الكبير المصري الراوي عن الفخر الفارسي فإنه معمر مقدم، وبذلك يعلم أن من
يقول عنه: (ابن القيم الجوزي) واهم وهما قبيحا وإنما هو (ابن قيم الجوزية) كما
قلنا - ويجد القارئ الكريم في كتابنا هذا الرد على ابن تيمية كما يجد فيه الرد على
ابن القيم باعتبار أن الثاني إنما يردد صدى الأول في أبحاثه كلها دون أن تكون له
شخصية خاصة بل هو ظل الأول في كل آرائه وجميع أهوائه فانتظمهما الرد ولعل
فيما رددنا به عليهما كفاية للمنصف وقطعا لعذر كل متعسف. وأما من تعود أن
يقول؟ (عنزة وإن طارت)
خاتمة تكملة الرد
فليس خطابي معه (والله يقول الحق ويهدي السبيل) (الأحزاب: 4) وكان
فراغي من إعادة النظر في الكتاب بمنزلي في آخر العباسية بمصر القاهرة حرسها الله
219

تعالى - ضحوة يوم الخميس المصادف لليوم الثالث من رجب سنة 1356 وأسال الله
سبحانه أن ينفع به المسلمين وأن يجعله ذخرا لي يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون
إلا من أتى الله بقلب سليم إنه المجيب البر التواب الرحيم، وأنا الفقير إلى عفو الله
ومسامحته " محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري " خادم العلم بدار السلطنة
العثمانية سابقا عفا الله عن سيئاته ورفع منزلته ومنازل ذويه في الآخرة وأغدق عليه
وعلى قرابته ومشايخه سحب رحمته ورضوانه وغفر لهم ولسائر المسلمين أجمعين..
وصلى الله على سيدنا محمد وآله صحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
220