الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ١٧
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات:

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء السابع عشر
دار احياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

الطبعة الثانية
(1965 م - 1387 ه‍)
جميع الحقوق محفوظة
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
قم - إيران 1404 ه‍ ق
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل (1)
(46) الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله:
أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين وأقمع به نخوة الأثيم،
وأسد به لهاه الثغر المخوف.
فاستعن بالله على ما أهمك، واخلط الشدة بضغث من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حين لا تغنى عنك إلا الشدة.
* * *
واخفض للرعية جناحك وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك،
وآس بينهم في اللحظة، والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء
في حيفك، ولا ييئس الضعفاء من عدلك. والسلام.
* * *
الشرح:
قد اخذ الشاعر معنى قوله: " وآس بينهم في اللحظة والنظرة: "، فقال

(1) ا: " وبه نستعين "، ود: " وبه ثقتي "
3

أقسم اللحظ بيننا ان في اللحظ * لعنوان ما تجن الصدور
إنما البر روضة فإذا ما * كان بشر فروضه وغدير
قوله: " وآس بينهم في اللحظة "، أي اجعلهم أسوة، وروى: " وساو بينهم في
اللحظة " والمعنى واحد.
واستظهر به: اجعله كالظهر.
والنخوة الكبرياء: والأثيم المخطئ المذنب.
وقوله: وأسد به لهاه الثغر " استعارة حسنه.
والضغث في الأصل: قبضة حشيش مختلط يابسها بشئ من الرطب، ومنه أضغاث
الأحلام " للرؤيا المختلطة التي لا يصح تأويلها، فاستعار اللفظة هاهنا، والمراد: امزج (1)
الشدة بشئ من اللين (2 فاجعلهما كالضغث وقال تعالى: (وخذ بيدك ضغثا) 2).
قوله فاعتزم بالشدة " أي إذا جد بك الحد فدع اللين، فان في حال الشدة
لا تغنى إلا الشدة، قال الفند الزماني:
فلما صرح الشر * فأمسى وهو عريان (3)
ولم يبق سوى العدوان * دناهم كما دانوا
قوله: " حتى لا يطمع العظماء في حيفك "، أي حتى لا يطمع العظماء في أن تمالئهم على
حيف الضعفاء، وقد تقدم مثل هذا فيما سبق.
.

(1) د: " مزج ".
(2 - 2) ساقط من د.
(3) ديوان الحماسة 1: 23 - بشرح التبريزي، من شعر قاله في حرب البسوس
4

(47)
الأصل:
ومن وصية له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه
ابن ملجم لعنه الله:
أوصيكما بتقوى الله، وإلا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شئ منها
زوى عنكما، وقولا بالحق، واعملا للاجر، وكونا للظالم خصما، وللمظلوم عونا.
أوصيكما وجميع ولدى وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم،
وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما صلى الله عليه وآله يقول: صلاح
ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام.
الله الله في الأيتام، فلا تغبوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم
والله الله في جيرانكم، فإنهم وصيه نبيكم، ما زال يوصى بهم حتى ظننا
أنه سيورثهم.
والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم.
والله الله في الصلاة، فإنها عمود دينكم.
والله الله في بيت ربكم، لا تخلوه ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا.
والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (1) في سبيل الله.
وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر و التقاطع، لا تتركوا
.

(1) ساقط من ب
5

الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فيولي عليكم أشراركم، ثم تدعون
فلا يستجاب لكم.
* * *
ثم قال:
يا بنى عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون:
قتل أمير المؤمنين، قتل أمير المؤمنين! ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل، فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.
* * *
الشرح:
روى: " واعملا للآخرة "، وروى فلا تغيروا أفواهكم "، يقول لا تطلبا الدنيا
وإن طلبتكما، فإذا كان من تطلبه الدنيا منهيا عن طلبها فمن لا تطلبه يكون منهيا عن
طلبها بالطريق الأولى.
ثم قال: " ولا تأسفا على شئ منها زوى عنكما "، أي قبض، قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: " زويت لي الدنيا فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي
ما زوى لي منها ".
وروى ولا تأسيا "، وكلاهما بمعنى واحد أي لا تحزنا، وهذا من قوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) (1).
.

(1) سورة الحديد 23
6

قوله: " صلاح ذات البين " أخذه هذه اللفظة عبد الملك بن مروان فقال لبنيه وقد جمعوا
عنده يوم موته:
انفوا الضغائن بينكم وعليكم * عند المغيب وفى حضور
المشهد بصلاح ذات البين طول حياتكم * إن مد في عمري وإن لم يمدد
إن القداح إذا اجتمعن فرامها * بالكسر ذو بطش شديد أيد
عزت فلم تكسر، وإن هي بددت * فالوهن والتكسير للمتبدد
وذات هاهنا زائدة مقحمة.
قوله: " فلا تغبوا أفواههم "، أي لا تجيعوهم بأن تطعموهم غبا، ومن روى: فلا تغيروا أفواههم " فذاك لان الجائع يتغير فمه، قال (عليه السلام): " لخلوف فم الصائم
أطيب عند الله من ريح المسك ".
قال: " ولا يضيعوا بحضرتكم " أي لا تضيعوهم، فالنهي في الظاهر للأيتام وفي المعنى
للأوصياء والأولياء، والظاهر أنه لا يعنى الأيتام الذين لهم مال تحت أيدي أوصيائهم، لان
أولئك الأوصياء محرم عليهم ان يصيبوا من أموال اليتامى إلا القدر النزر جدا عند الضرورة
ثم يقضونه مع التمكن، ومن هذه حاله لا يحسن أن يقال له لا تغيروا أفواه أيتامكم، وإنما الأظهر انه يعنى الذين مات آباؤهم وهم فقراء يتعين مواساتهم ويقبح القعود عنهم، كما قال
تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) (1)، واليتم في الناس من قبل
الأب، وفي البهائم من قبل الام لان الاباء من البهائم لا عناية لهم بالأولاد بل العناية للام
لأنها المرضعة المشفقة وأما الناس فإن الأب هو الكافل القيم بنفقة الولد، فإذا مات وصل
الضرر إليه لفقد كافله والام بمعزل عن ذلك. وجمع يتيم على أيتام كما قالوا: شريف
وأشراف. وحكى أبو علي في التكملة: " كمئ وأكماء ". ولا يسمى الصبي يتيما الا إذا
.

(1) سورة الانسان 8
7

كان دون البلوغ وإذا بلغ زال اسم اليتيم (1) عنه. واليتامى أحد الأصناف الذين عينوا
في الخمس بنص الكتاب العزيز.
* * *
[فصل في الآثار الواردة في حقوق الجار] ثم أوصى بالجيران، واللفظ الذي ذكره (عليه السلام) قد ورد مرفوعا في رواية عبد الله
ابن عمر لما ذبح شاة، فقال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله يقول: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه "، وفى الحديث أنه
صلى الله عليه وآله: " قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره:، وعنه (عليه
السلام) جار السوء في دار المقامة قاصمة الظهر وعنه (عليه السلام): " من جهد البلاء
جار سوء معك في دار مقامه إن رأى حسنة دفنها، وإن رأى سيئة أذاعها وأفشاها ".
ومن أدعيتهم: اللهم إني أعوذ بك من مال يكون على فتنة، ومن ولد يكون على
كلا، ومن حليله تقرب الشيب، ومن جار تراني عيناه وترعاني أذناه، إن رأى خيرا دفنه،
وإن سمع شرا طار به.
ابن مسعود يرفعه: " والذي نفسي بيده لا يسلم العبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ويأمن جاره بوائقه "، قالوا: ما بوائقه؟ قال: غشمه وظلمه ".
لقمان: يا بنى، حملت الحجارة والحديد فلم أر شيئا أثقل من جار السوء.
وأنشدوا:
ألا من يشترى دارا برخص * كراهة بعض جيرتها تباع
وقال الأصمعي: جاور أهل الشام الروم فأخذوا عنهم خصلتين: اللؤم وقلة الغيرة،
.

(1) ا: " اليتم "
8

وجاور أهل البصرة الخزر، فأخذوا عنهم خصلتين الزنا وقلة الوفاء وجاور أهل الكوفة
السواد، فأخذوا عنهم خصلتين: السخاء والغيرة.
وكان يقال من تطاول على جاره، حرم بركة داره.
وكان يقال من آذى جاره ورثه الله داره.
باع أبو الجهم العدوي داره، وكان في جوار سعيد بن العاص بمائة ألف درهم، فلما أحضرها المشترى قال له: هذا ثمن الدار فأعطني ثمن الجوار، قال: أي جوار؟ قال:
جوار سعيد بن العاص، قال وهل اشترى أحد جوارا قط! فقال رد على داري، وخذ
مالك لا أدع جوار رجل، إن قعدت سأل عنى، وإن رآني رحب بي، وإن غبت عنه
حفظني، وإن شهدت عنده قربني، وإن سألته قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وأن نابتني نائبه فرج عنى. فبلغ ذلك سعيدا فبعث إليه مائة ألف درهم، وقال: هذا ثمن
دارك، ودارك لك.
الحسن: ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار الصبر
على الأذى.
جاءت امرأة إلى الحسن فشكت إليه الخلة (1)، وقالت: أنا جارتك، قال: كم بيني
وبينك؟ قالت: سبع أدؤر، فنظر الحسن فإذا تحت فراشه سبعه دراهم، فأعطاها إياها،
وقال: كدنا نهلك.
وكان كعب بن مامة إذا جاوره رجل قام له بما يصلحه، وحماه ممن يقصده، وإن هلك له
شئ أخلفه عليه، وإن مات وداه لأهله، فجاوره أبو داود الأيادي، فزاره على العادة،
فبالغ في إكرامه. وكانت العرب إذا حمدت جارا قالت: جار كجار أبى داود، قال
قيس بن زهير:
.

(1) الخلة: الحاجة
9

أطوف ما أطوف ثم آوى * إلى جار كجار أبى داود (1)
ثم تعلم منه أبو داود، وكان يفعل لجاره فعل كعب به.
وقال مسكين الدارمي:
ما ضر جارا لي أجاوره * ألا يكون لبابه ستر (2)
أعمى إذا ما إذا جارتي خرجت * حتى يوارى جارتي الخدر
ناري ونار الجار واحده * وإليه قبلي ينزل القدر (3).
استعرض أبو مسلم صاحب الدولة فرسا محضيرا (4)، فقال لأصحابه: لماذا يصلح هذا؟
فذكروا سباق الخيل، وصيد الحمر والنعام واتباع الفار من الحرب فقال: لم تصنعوا
شيئا يصلح للفرار من الجار السوء.
سئل سليمان علي بن خالد بن صفوان عن ابنيه: محمد وسليمان - وكانا جاريه - فقال: كيف إحمادك جوارهما؟ فتمثل بقول يزيد بن مفرغ الحميري:
سقى الله دارا لي وأرضا تركتها * إلى جنب داري معقل بن يسار
أبو مالك جار لها وابن مرثد * فيا لك جارى ذله وصغار!
وفي الحديث المرفوع أيضا من رواية جابر: الجيران ثلاثة فجار له حق، وجار
له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فصاحب الحق الواحد جار مشرك لا رحم له، فحقه
.

(1) المضاف والمنسوب 1: 100.
(2) الأولان في أمالي المرتضى 1 43، 44.
(3) موضعه في أمالي المرتضى:
ويصم عما كان بينهما * سمعي وما بي غيره وقر
(4) فرس محضير، أي شديد الحضر، وهو العدو
10

حق الجوار وصاحب الحقين جار مسلم لا رحم له، وصاحب الثلاثة جار مسلم ذو رحم،
وأدنى حق الجوار ألا تؤذى جارك بقتار قدرك، إلا أن تقتدح له منها.
قلت: تقتدح تغترف، والمقدحة المغرفة.
وكان يقال: الجيران خمسة: الجار الضار السئ الجوار، والجار الدمث الحسن
الجوار، والجار اليربوعي المنافق، والجار البراقشي المتلون في أفعاله، والجار الحسدلي (1) الذي عينه تراك وقلبه يرعاك.
وروى أبو هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وآله: " يقول اللهم إني أعوذ بك
من جار السوء في دار المقامة، فإن دار البادية تتحول ".
* * *
قوله (عليه السلام): " الله الله في القرآن: أمرهما بالمسارعة إلى العمل به، ونهاهما
أن يسبقهما غيرهما إلى ذلك، ثم أمرهما بالصلاة والحج.
وشدد الوصاة في الحج، فقال: " فإنه إن ترك لم تناظروا " أي يتعجل الانتقام
منكم.
فأما المثلة فمنهي عنها، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله ان يمثل بهبار بن الأسود
لأنه روع زينب حتى أجهضت، ثم نهى عن ذلك وقال: لا مثله المثلة حرام.
.

(1) الحسدلي: منسوب إلى الحسدل، وهو القراد
11

(48)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية:
فإن البغي والزور يوتغان المرء في دينه ودنياه، ويبديان خلله عند من يعيبه
وقد علمت أنك غير مدرك ما قضى فواته، وقد رام أقوام أمرا بغير الحق، فتألوا
على الله فأكذبهم، فاحذر يوما يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله، ويندم من
أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه، وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ولست
من أهله، ولسنا إياك أجبنا ولكنا أجبنا القرآن في حكمه، والسلام.
* * *
الشرح:
يوتغان يهلكان والوتغ بالتحريك: الهلاك، وقد وتغ يوتغ وتغا، أي أثم وهلك، وأوتغه الله: أهلكه الله، وأوتغ فلان دينه بالإثم.
قوله: " فتألوا على الله:، أي حلفوا، من الألية وهي اليمين، وفي الحديث: " من تألى
على الله أكذبه الله "، ومعناه: من أقسم تجبرا واقتدارا: لأفعلن كذا، أكذبه الله
ولم يبلغ أمله.
وقد روى: " تأولوا على الله " أي حرفوا الكلم عن مواضعه، وتعلقوا بشبهة
في تأويل القرآن انتصارا لمذاهبهم وآرائهم، فأكذبهم الله بأن أظهر للعقلاء فساد تأويلاتهم. والأول أصح.
12

ويغتبط فيه يفرح ويسر، والغبطة: السرور، روى يغبط فيه " أي يتمنى
مثل حاله هذه.
قوله: " ويندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه " الياء التي هي حرف
المضارعة عائدة على المكلف الذي أمكن الشيطان من قياده. يقول: إذا لم يجاذب الشيطان من قياده فإنه يندم، فأما من جاذبه قياده فقد قام بما عليه.
ومثله قوله: " ولسنا إياك أجبنا قوله: " والله ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت
القرآن " ومعنى " مخلوقا ": بشرا لا محدثا.
13

(49)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية أيضا:
أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها، ولم يصب صاحبها منها شيئا إلا فتحت
له حرصا عليها، ولهجا بها، ولن يستغنى صاحبها بما نال فيها عما لم يبلغه منها
ومن وراء ذلك فراق ما جمع، ونقض ما أبرم، ولو اعتبرت بما مضى، حفظت
ما بقي والسلام.
* * *
الشرح:
هذا كما قيل في المثل: صاحب الدنيا كشارب ماء البحر، كلما ازداد شربا
ازداد عطشا، والأصل في هذا قول الله تعالى: " لو كان لابن آدم واديان من ذهب
لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب "، وهذا من القرآن الذي رفع ونسخت تلاوته.
وقد ذكر نصر بن مزاحم هذا الكتاب وقال:
إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كتبه إلى عمرو بن العاص، وزاد فيه زيادة لم يذكرها
الرضى: أما بعد، فإن الدنيا مشغلة عن الآخرة، وصاحبها منهوم (1) عليها، لم يصب
شيئا منها قط إلا فتحت عليه حرصا، وأدخلت عليه مؤنة (2) تزيده رغبة فيها،
.

(1) صفين: " مقهور فيها ".
(2) صفين: " مئونة "
14

ولن يستغنى صاحبها بما نال عما لم يدرك، ومن وراء ذلك فراق ما جمع، والسعيد من وعظ بغيره، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله (1 ولا تشرك معاوية في باطله 1)، فإن معاوية
غمص الناس، وسفه الحق (2). والسلام.
قال نصر: وهذا أول كتاب كتبه على (عليه السلام) إلى عمرو بن العاص، فكتب
إليه عمرو جوابه:
أما بعد، فإن الذي فيه صلاحنا، وألفة ذات بيننا، أن تنيب إلى الحق (4)
وأن تجيب إلى ما (5 ندعوكم إليه من الشورى 5)، فصبر الرجل منا نفسه على الحق،
وعذره الناس بالمحاجزة والسلام. (6)
قال نصر: فكتب على (عليه السلام) إلى عمرو بن العاص بعد ذلك كتابا غليظا.
وهو الذي ضرب مثله فيه بالكلب يتبع الرجل، وهو مذكور في " " نهج البلاغة " "
واللهج: الحرص.
ومعنى قوله (عليه السلام): " لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقي " أي لو اعتبرت
بما مضى من عمرك لحفظت باقية أن تنفقه في الضلال وطلب الدنيا وتضيعه.
* * *
.

(1 - 1) صفين: " ولا تجارين معاوية في باطله ".
(2) غمص الناس: احتقرهم، وسفه الحق، أي جهله.
(3) صفين 124.
(4) تنيب إلى لحق: ترجع.
(5 - 5) صفين: " أن نجيب إلى ما تدعون إليه من شورى ".
(6) صفين 123
15

(50)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أمرائه على الجيوش من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رفعة إلى أصحاب المسالح: أما بعد، فإن حقا على الوالي ألا يغيره على رعيته فضل ناله، ولا طول
خص به، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمه دنوا من عباده، وعطفا
على إخوانه.
ألا وإن لكم عندي ألا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب، ولا أطوى
دونكم أمرا إلا في حكم، ولا أؤخر لكم حقا عن محله، ولا أقف به دون
مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم
النعمة ولى عليكم الطاعة، وألا تنكصوا عن دعوه ولا تفرطوا في صلاح،
وإن تخوضوا الغمرات إلى الحق، فإن أنتم لم تستقيموا لي على ذلك، لم يكن
أحد أهون على ممن أعوج منكم، ثم أعظم له العقوبة ولا يجد عندي
فيها رخصه.
فخذوا هذا من أمرائكم، وأعطوهم من أنفسكم ما يصلح الله به أمركم
والسلام.
* * *
16

الشرح:
أصحاب المسالح: جماعات تكون بالثغر يحمون البيضة، والمسلحة هي الثغر، كالمرغبة،
وفي الحديث: " كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب (1)، قال: يجب على الوالي
ألا يتطاول على الرعية بولايته، وما خص به عليهم من الطول وهو الفضل، وإن تكون
تلك الزيادة التي أعطيها سببا لزيادة دنوه من الرعية وحنوه عليهم.
ثم قال: " لكم عندي ألا أحتجز دونكم بسر "، أي لا أستتر. قال: إلا في
حرب " وذلك لان الحرب يحمد فيها طي الاسرار، والحرب خدعه. ثم قال ولا أطوى دونكم أمرا إلا في حكم " أي أظهركم على كل ما نفسي
مما يحسن أن أظهركم عليه، فأما أحكام الشريعة والقضاء على أحد الخصمين فإني
لا أعلمكم به قبل وقوعه، كيلا تفسد القضية بأن يحتال ذلك الشخص لصرف
الحكم عنه.
ثم ذكر أنه لا يؤخر لهم حقا عن محله - يعنى العطاء - وأنه لا يقف دون مقطعه، والحق هاهنا غير العطاء، بل الحكم، قال زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث * يمين أو نفار أو جلاء (2)
أي متى تعين الحكم حكمت به وقطعت ولا أقف، ولا أتحبس.
ولما استوفى ما شرط لهم قال: فإذا أنا وفيت بما شرطت على نفسي وجبت لله عليكم النعمة
ولى عليكم (3) الطاعة.
ثم أخذ في الاشتراط عليهم كما شرط لهم، فقال: ولى عليكم ألا تنكصوا عن
.

(1) العذيب، بالتصغير: يطلق على مواضع، منها ماء بين القادسية والمغيثة، بينه وبين القادسية
أربعة أميان.
(2) ديوانه 75. النفار: المنافرة إلى الحاكم، أو رجل يحكم بينهم. الجلاء:
أن ينكشف الامر وينجلي.
(3) ا: " نحوكم "
17

دعوة أي لا تتقاعسوا عن الجهاد إذا دعوتكم إليه، ولا تفرطوا في صلاح أي إذا
أمكنتكم فرصة، أو رأيتم مصلحة في حرب العدو أو حماية الثغر، فلا تفرطوا فيها
فتفوت. وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق، أي تكابدوا المشاق العظيمة، ولا يهولنكم
خوضها إلى الحق.
ثم توعدهم إن لم يفعلوا ذلك، ثم قال فخذوا هذا من أمرائكم ليس يعنى به أن على هؤلاء أصحاب المسالح أمراء من قبله (عليه السلام) كالواسطة بينهم وبينه بل من
أمرائكم، يعنى منى وممن يقوم في الخلافة مقامي بعدي لأنه لو كان الغرض هو الأول
لما كان محلهم عنده أن يقول: " ألا أحتجز دونكم بسر ولا أطوى دونكم أمرا "
لان محل من كان بتلك الصفة دون هذا.
18

(51)
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عماله على الخراج:
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج:
أما بعد! فإن من لم يحذر ما هو سائر إليه، لم يقدم لنفسه ما يحرزها.
واعلموا أن ما كلفتم يسير وأن ثوابه كثير ولو لم يكن فيما نهى الله
عنه من البغي والعدوان عقاب يخاف، لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه، فأنصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم، فإنكم خزان الرعية،
ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة ولا تحشموا أحدا عن حاجته ولا تحبسوه
عن طلبته، ولا تبيعن الناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا عبدا، ولا تضربن أحدا سوطا لمكان درهم، ولا تمسن مال أحد
من الناس مصل ولا معاهد، إلا أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل
الاسلام، فإنه لا ينبغي للمسلم ان يدع ذلك في أيدي أعداء الاسلام، فيكون شوكه عليه.
ولا تدخروا أنفسكم نصيحة، ولا الجند حسن سيره ولا الرعية معونة،
ولا دين الله قوة.
وأبلوه في سبيل ما استوجب عليكم، فإن الله سبحانه قد اصطنع عندنا
19

وعندكم أن نشكره بجهدنا، وأن ننصره بما بلغت قوتنا، ولا قوه إلا بالله
العلي العظيم.
* * *
الشرح:
يقول: لو قدرنا أن القبائح العقلية كالظلم والبغي لا عقاب على فعلها بل في تركها ثواب
فقط لم يكن الانسان معذورا إذا فرط في ذلك الترك لأنه يكون قد حرم نفسه نفعا هو
قادر على إيصاله إليها.
قوله: " ولا تحشموا أحدا "، أي لا تغضبوا طالب حاجه فتقطعوه عن طلبها،
أحشمت زيدا، وجاء " حشمته "، وهو أن يجلس إليك فتغضبه وتؤذيه. وقال
ابن الأعرابي: حشمته: أخجلته، وأحشمته: أغضبته، والاسم الحشمة، وهي
الاستحياء والغضب.
ثم نهاهم أن يبيعوا لأرباب الخراج ما هو من ضرورياتهم كثياب أبدانهم وكدابة
يعتملون عليها، نحو بقر الفلاحة، وكعبد لا بد للانسان منه يخدمه، ويسعى
بين يديه.
ثم نهاهم عن ضرب الأبشار لاستيفاء الخراج.
وكتب عدى بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في عذاب العمال، فكتب إليه كأني لك جنة من عذاب الله، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله! من قامت عليه بينه، أو
أقر بما لم يكن مضطهدا مضطرا الا الاقرار به، فخذه بأدائه، فإن كان قادرا عليه فاستأد،
وإن أبى فاحبسه، وإن لم يقدر فخل سبيله، بعد أن تحلفه بالله أنه لا يقدر على شئ، فلان
يلقوا الله بجناياتهم أحب إلى من أن ألقاه بدمائهم.
20

ثم نهاهم أن يعرضوا لمال أحد من المسلمين أو من المعاهدين المعاهد هاهنا: هو الذمي
أو من يدخل دار الاسلام من بلاد الشرك على عهد، إما لأداء رسالة أو لتجارة: ونحو
ذلك ثم يعود إلى بلاده.
ثم نهاهم عن الظلم وأخذ أموال الناس على طريق المصادرة والتأويل الباطل، قال:
إلا أن تخافوا غائلة المعاهدين، بان تجدوا عندهم خيولا أو سلاحا، وتظنوا منهم وثبه على بلد
من بلاد المسلمين، فإنه لا يجوز الاغضاء عن ذلك حينئذ.
قوله: " وأبلوا في سبيل الله "، أي اصطنعوا من المعروف في سبيل الله ما استوجب
عليكم، يقال: هو يبلوه معروفا، أي يصنعه إليه قال زهير:
جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم * وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو (1).
قوله (عليه السلام) قد اصطنعا عندنا وعندكم أن نشكره "، أي لان نشكره، بلام
التعليل وحذفها، أي أحسن إلينا لنشكره، وحذفها أكثر نحو قوله تعالى: (لبئس ما
قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم) (2).
.

(1) ديوانه 116.
(2) سورة المائدة 80
21

(52)
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة:
أما بعد فصلوا بالناس الظهر حتى تفئ الشمس مثل مربض العنز، وصلوا بهم
العصر والشمس بيضاء حية في عضو من النهار حين يسار فيها فرسخان، وصلوا
بهم المغرب حين يفطر الصائم ويدفع الحاج إلى منى، وصلوا بهم العشاء حين
يتوارى الشفق إلى ثلث الليل، وصلوا بهم الغداة والرجل يعرف وجه صاحبه
وصلوا بهم صلاة أضعفهم، ولا تكونوا فتانين.
* * *
الشرح:
[بيان اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة]
قد اختلف الفقهاء في أوقات الصلاة، فقال أبو حنيفة: أول وقت الفجر إذا طلع الفجر
الثاني، وهو المعترض في الأفق، وآخر وقتها ما لم تطلع الشمس " وأول وقت الظهر إذا
زالت الشمس، وآخر وقتها إذا صار ظل كل شئ مثليه سوى الزوال. وقال أبو يوسف
ومحمد: آخر وقتها إذا صار الظل مثله.
قال أبو حنيفة: وأول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر، وهذا على القولين،
وآخر وقتها ما لم تغرب الشمس، وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس، وآخر وقتها
22

ما لم يغب الشفق وهو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة. وقال أبو يوسف ومحمد هو
الحمرة.
قال أبو حنيفة: وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق، وهذا (1) على القولين وآخر
وقتها ما لم يطلع الفجر.
وقال الشافعي: أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني، ولا يزال وقتها المختار باقيا
إلى أن يسفر، ثم يبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس.
وقال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية لا يبقى وقت الجواز، بل يخرج وقتها بعد
الاسفار ويصلى قضاء، ولم يتابعه على هذا القول أحد. قال الشافعي: وأول وقت الظهر
إذا زالت الشمس. وحكى أبو الطيب الطبري من الشافعية أن من الناس من قال لا تجوز
الصلاة حتى يصير الفئ بعد الزوال مثل الشراك.
وقال مالك: أحب ان يؤخر الظهر بعد الزوال بقدر ما يصير الظل ذراعا، وهذا مطابق لما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) حين تفئ الشمس كمربض العنز، أي كموضع تربض العنز،
وذلك نحو ذراع أو أكثر بزيادة يسيرة.
قال الشافعي: وآخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شئ مثله، ويعتبر المثل من حد
الزيادة على الظل الذي كان عند الزوال، وبهذا القول قال أبو يوسف ومحمد، وقد حكيناه من
قبل، وبه أيضا قال الثوري وأحمد، وهو رواية الحسن بن زياد اللؤلؤي عن أبي حنيفة، فأما
الرواية المشهورة عنه - وهي التي رواها أبو يوسف - فهو أن آخر وقت الظهر صيرورة الظل
مثليه، وقد حكيناه عنه فيما تقدم.
وقال ابن المنذر: تفرد أبو حنيفة بهذا القول، وعن أبي حنيفة رواية ثالثة أنه إذا صار
ظل كل شئ مثله خرج وقت الظهر، ولم يدخل وقت العصر إلى أن يصير ظل كل شئ
مثليه.
.

(1) ا: " وهو "
23

وقال أبو ثور ومحمد بن جرير الطبري: قدر أربع ركعات بين المثل والمثلين، يكون
مشتركا بين الظهر والعصر.
وحكى عن مالك أنه قال: إذا صار ظل كل شئ مثله، فهو آخر وقت الظهر وأول
وقت العصر، فإذا زاد على المثل زيادة بينة خرج وقت الظهر واختص الوقت بالعصر.
وحكى ابن الصباغ من الشافعية، عن مالك، أن وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل
شئ مثله وقتا مختارا، فأما وقت الجواز والأداء فآخره إلى أن يبقى إلى غروب الشمس قدر
أربع ركعات، وهذا القول مطابق لمذهب الامامية.
وقال ابن جريج وعطاء: لا يكون مفرطا بتأخيرها حتى تكون في الشمس صفرة.
وعن طاوس: لا يفوت حتى الليل.
فأما العصر: فإن الشافعي يقول: إذا زاد على المثل أدنى زيادة، فقد دخل وقت العصر،
والخلاف في ذلك بينه وبين أبي حنيفة، لأنه يقول: أول وقت العصر إذا صار ظل كل
شئ مثليه، وزاد عليه أدنى زيادة. وقد حكيناه عنه فيما تقدم.
وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في العصر مطابق لمذهب أبي حنيفة، لان بعد صيرورة
الظل مثليه، هو الوقت الذي تكون فيه الشمس حية بيضاء في عضو من النهار، حين يسار فيه فرسخان، وأما قبل ذلك فإنه فوق ذلك يسار من الفراسخ أكثر من ذلك،
ولا يزال وقت الاختيار عند الشافعي للعصر باقيا حتى يصير ظل كل شئ مثليه، ثم يبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس.
وقال أبو سعيد الإصطخري من أصحابه: يصير قضاء بمجاوزة المثلين، فأما وقت المغرب فإذا غربت الشمس وغروبها سقوط القرص.. وقال أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي من الشافعية: لا بد أن يسقط القرص ويغيب
24

حاجب الشمس وهو الضياء المستعلى عليها كالمتصل بها، ولم يذكر ذلك من الشافعية
أحد غيره.
وذكر الشاشي في كتاب " حليه العلماء " أن الشيعة قالت: أول وقت المغرب إذا
اشتبكت النجوم. قال قد حكى هذا عنهم. ولا يساوى الحكاية، ولم تذهب الشيعة إلى
هذا، وسنذكر قولهم فيما بعد.
وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في المغرب لا ينص على وقت معين لأنه عرف ذلك بكونه
وقت الافطار ووقت ما يدفع الحاج، وكلا الامرين يحتاج إلى تعريف كما يحتاج وقت
الصلاة، اللهم إلا أن يكون قد عرف أمراء البلاد الذين يصلون بالناس من قبل هذا
الكتاب متى هذا الوقت الذي يفطر فيه الصائم، ثم يدفع فيه الحاج بعينه، ثم يحيلهم في هذا
الكتاب على ذلك التعريف المخصوص.
قال الشافعي: وللمغرب وقت واحد وهو قول مالك.
وحكى أبو ثور عن الشافعي أن لها وقتين، وآخر وقتها إذا غاب الشفق. وليس
بمشهور عنه، والمشهور القول الأول، وقد ذكرنا قول أبي حنيفة فيما تقدم، وهو امتداد وقتها إلى أن يغيب الشفق وبه قال أحمد وداود.
واختلف أصحاب الشافعي في مقدار الوقت الواحد، فمنهم من قال: هو مقدر بقدر
الطهارة وستر العورة والاذان والإقامة وفعل ثلاث ركعات، ومنهم من قدره بغير ذلك.
وقال أبو إسحاق الشيرازي منهم، التضييق إنما هو في الشروع، فأما الاستدامة
فتجوز إلى مغيب الشفق.
فأما وقت العشاء، فقال الشافعي: هو أن يغيب الشفق وهو الحمرة، وهو قول مالك
وأحمد وداود وأبى يوسف ومحمد وقد حكينا مذهب أبي حنيفة فيما تقدم، وهو أن يغيب الشفق الذي هو البياض و، به قال زفر والمزني.
25

قال الشافعي وآخر وقتها المختار إلى نصف الليل، هذا هو قوله القديم، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال في الجديد: إلى ثلث الليل. ويجب أن يحمل قول أمير المؤمنين (عليه
السلام) في العشاء أنها إلى ثلث الليل على وقت الاختيار، ليكون مطابقا لهذا القول، وبه
قال مالك وإحدى الروايتين عن أحمد. ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى
طلوع الفجر الثاني.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يبقى وقت الجواز بعد نصف الليل، بل يصير قضاء.
* * *
فقد ذكرنا مذهبي أبي حنيفة والشافعي في الأوقات، وهما الإمامان المعتبران في الفقه،
ودخل في ضمن حكاية مذهب الشافعي ما يقوله مالك وأحمد وغيرهما من الفقهاء.
فأما مذهب الإمامية من الشيعة، فنحن نذكره نقلا عن كتاب أبى عبد الله محمد بن
محمد بن النعمان رحمه الله المعروف بالمقيد " بالرسالة المقنعة " قال: وقت الظهر من بعد
زوال الشمس إلى أن يرجع الفئ سبعي الشخص وعلامة الزوال رجوع الفئ بعد انتهائه
إلى النقصان، وطريق معرفة ذلك بالأصطرلاب أو ميزان الشمس، وهو معروف عند
كثير من الناس، أو بالعمود المنصوب في الدائرة الهندية أيضا، فمن لم يعرف حقيقة العمل
بذلك، أو لم يجد آلته فلينصب عودا من خشب أو غيره في أرض مستوية السطح،
ويكون أصل العود غليظا ورأسه دقيقا شبه المذرى الذي ينسج به التكك أو المسلة التي
تخاط بها الأحمال، فان ظل هذا العود يكون بلا شك في أول النهار أطول من العود،
وكلما ارتفعت الشمس نقص من طوله حتى يقف القرص في وسط السماء فيقف الفئ
حينئذ، فإذا زال القرص عن الوسط إلى جهة المغرب رجع الفئ إلى الزيادة. فليعتبر من
أراد الوقوف على وقت الزوال ذلك بخطط وعلامات يجعلها على رأس ظل العود عند وضعه
26

في صدر النهار وكلما نقص في الظل شئ علم عليه، فإذا رجع إلى الزيادة على موضع العلامة
عرف حينئذ برجوعه ان الشمس قد زالت.
وبذلك تعرف أيضا القبلة فان قرص الشمس يقف فيها وسط النهار ويصير عن
يسارها ويمين المتوجه إليها بعد وقوفها وزوالها عن القطب فإذا صارت مما يلي حاجبه الأيمن من بين عينيه علم أنها قد زالت وعرف ان القبلة تلقاء وجهه ومن سبقت معرفته بجهة القبلة فهو يعرف زوال الشمس إذا توجه إليها، فرأى عين الشمس مما يلي حاجبه الأيمن
إلا أن ذلك لا يبين إلا بعد زوالها بزمان ويبين الزوال من أول وقته بما ذكرناه
من الأصطرلاب وميزان الشمس والدائرة الهندية والعمود الذي وصفناه، ومن لم يحصل له معرفة ذلك، أو فقد الآلة توجه إلى القبلة فاعتبر صيرورة الشمس على طرف حاجبه الأيمن
وقت العصر من بعد الفراغ من الظهر إذا صليت الظهر في أول أوقاتها - أعني بعد زوال الشمس بلا فصل - ويمتد إلى أن يتغير لون الشمس باصفرارها للغروب، وللمضطر والناسي
إلى مغيبها بسقوط القرص عما تبلغه أبصارنا من السماء، وأول وقت المغرب مغيب
الشمس، وعلامة مغيبها عدم الحمرة في المشرق المقابل للمغرب في السماء، وذلك أن المشرق
في السماء مطل على المغرب، فما دامت الشمس ظاهره فوق أرضنا فهي تلقى ضوءها على
المشرق في السماء فيرى حمرتها فيه، فإذا ذهبت الحمرة منه علم أن القرص قد سقط وغاب.
وآخره أول وقت العشاء الآخرة، وأول وقتها مغيب الشمس وهو الحمرة في المغرب، وآخره
مضى الثلث الأول من الليل، وأول وقت الغداة اعتراض الفجر، وهو البياض في المشرق يعقبه الحمرة في مكانه ويكون مقدمة لطلوع الشمس على الأرض من السماء وذلك أن
الفجر الأول، وهو البياض الظاهر في المشرق يطلع طولا ثم ينعكس بعد مدة عرضا ثم يحمر
الأفق بعده للشمس.
27

ولا ينبغي للانسان أن يصلى فريضة الغداة حتى يعترض البياض وينتشر صعدا في
السماء كما ذكرنا وآخر وقت الغداة طلوع الشمس.
هذا ما تقوله الفقهاء في مواقيت الصلاة.
فأما قوله (عليه السلام): " والرجل يعرف وجه صاحبه فمعناه الاسفار،
وقد ذكرناه.
وقوله (عليه السلام): " وصلوا بهم صلاة أضعفهم ". أي لا تطيلوا بالقراءة الكثيرة
والدعوات الطويلة.
ثم قال: " ولا تكونوا فتانين "، أي لا تفتنوا الناس بإتعابهم وادخال المشقة عليهم بإطالة الصلاة وإفساد صلاه المأمومين بما يفعلونه من أفعال مخصوصة، نحو أن يحدث الامام فيستخلف فيصلى الناس خلف خليفته، فإن ذلك لا يجوز على أحد قولي الشافعي ونحو أن
يطيل الامام الركوع والسجود، فيظن المأمومون أنه قد رفع فيرفعون أو يسبقونه بأركان
كثيرة، ونحو ذلك من مسائل يذكرها الفقهاء في كتبهم.
* * *
واعلم أن أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما بدأ بصلاة الظهر، لأنها أول فريضة افترضت على المكلفين من الصلاة على ما كان يذهب إليه (عليه السلام)، وإلى ذلك تذهب
الامامية، وينصر قولهم تسميتها بالأولى، ولهذا بدأ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بذكرها قبل غيرها، فأما من عدا هؤلاء فأول الصلاة المفروضة عندهم الصبح
وهي أول النهار.
* * *
وأيضا يتفرع على هذا البحث القول في الصلاة الوسطى، ما هي؟ فذهب جمهور
28

الناس إلى أنها العصر، لأنها بين صلاتي نهار وصلاتي ليل، وقد رووا أيضا في ذلك
روايات بعضها في الصحاح وقياس مذهب الإمامية أنها المغرب، لان الظهر إذا كانت
الأولى كانت المغرب الوسطى، إلا أنهم يروون عن أئمتهم (عليهم السلام) أنها الظهر،
ويفسرون الوسطى بمعنى الفضلى، لان الوسط في اللغة هو خيار كل شئ، ومنه قوله
تعالى: (جعلناكم أمه وسطا) (1)، وقد ذهب إلى أنها المغرب قوم من الفقهاء أيضا.
وقال كثير من الناس: إنها الصبح، لأنها أيضا بين صلاتي ليل وصلاتي نهار،
ورووا أيضا فيها روايات وهو مذهب الشافعي، ومن الناس من قال: إنها الظهر كقول الامامية ولم يسمع عن أحد معتبرا أنها العشاء إلا قولا شاذا ذكره بعضهم.
وقال: لأنها بين صلاتين لا تقصران
.

(1) سورة البقرة 143
29

(53)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر
وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر وهو أطول عهد كتبه
وأجمعه للمحاسن:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أمر به عبد الله على أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر
في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها
وعمارة بلادها.
أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها
وأن ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر
من نصره، وإعزاز من أعزه.
وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات وينزعها عند الجمحات، فإن
النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله.
ثم اعلم يا مالك انى قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل
وجور وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور
30

الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقوله فيهم، وإنما يستدل على الصالحين
بما يجرى الله لهم على ألسن عباده فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل
الصالح. فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس
الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت.
* * *
الشرح:
نصرة الله باليد: الجهاد بالسيف، وبالقلب الاعتقاد للحق، وباللسان قول الحق
والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وقد تكفل الله بنصره من نصره، لأنه تعالى
قال: (ولينصرن الله من ينصره (1)).
والجمحات منازعه النفس إلى شهواتها ومآربها ونزعها بكفها.
ثم قال له: قد كنت تسمع أخبار الولاة، وتعيب قوما وتمدح قوما، وسيقول الناس
في إمارتك الان نحو ما كنت تقول في الامراء فاحذر أن تعاب وتذم كما كنت تعيب
وتذم من يستحق الذم.
ثم قال إنما يستدل على الصالحين بما يكثر سماعه من ألسنة الناس بمدحهم والثناء
عليهم، وكذلك يستدل على الفاسقين بمثل ذلك. وكان يقال ألسنة الرعية أقلام الحق سبحانه إلى الملوك.
ثم أمره أن يشح بنفسه وفسر له الشح ما هو؟ فقال إن تنتصف منها فيما أحبت
.

(1) سورة الحج 40
31

وكرهت أي لا تمكنها من الاسترسال في الشهوات وكن أميرا عليها، ومسيطرا وقامعا لها من التهور والانهماك.
فإن قلت: هذا معنى قوله: " فيما أحبت "، فما معنى قوله: " وكرهت "؟
قلت: لأنها تكره الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات الشرعية ومن الواجبات العقلية وكما يجب أن يكون الانسان مهيمنا عليها في طرف الفعل يجب أن يكون مهيمنا عليها في طرف الترك.
* * *
الأصل:
وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن
عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين،
وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب وترضى
أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الامر عليك فوقك،
والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم.
ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك
عن عفوه ورحمته.
ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة.
ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين،
وتقرب من الغير.
32

وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم
ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك
يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك ويفئ إليك بما عزب
عنك من عقلك.
إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل
جبار، ويهين كل مختال!
* * *
الشرح:
أشعر قلبك الرحمة، أي اجعلها كالشعار له، وهو الثوب الملاصق للجسد، قال:
لان الرعية إما أخوك في الدين، أو إنسان مثلك تقتضي رقة الجنسية وطبع البشرية
الرحمة له.
قوله ويؤتى على أيديهم "، مثل قولك: " ويؤخذ على أيديهم "، أي
يهذبون ويثقفون، يقال: خذ على يد هذا السفيه، وقد حجر الحاكم على فلان، وأخذ على يده.
ثم قال: فنسبتهم إليك كنسبتك إلى الله تعالى، وكما تحب ان يصفح الله عنك
ينبغي ان تصفح أنت عنهم.
قوله لا تنصبن نفسك لحرب الله "، أي لا تبارزه بالمعاصي. فإنه لا يدي لك
بنقمته، اللام مقحمة، والمراد الإضافة، ونحوه قولهم لا أبا لك.
قوله: ولا تقولن إني مؤمر "، أي لا تقل انى أمير ووال آمر بالشئ فأطاع.
33

والإدغال: الافساد، ومنهكة للدين: ضعف وسقم.
ثم أمره عند حدوث الأبهة والعظمة عنده لأجل الرئاسة والإمرة أن يذكر عظمة الله
تعالى وقدرته على إعدامه وإيجاده، وإماتته وإحيائه، فإن تذكر ذلك يطامن من غلوائه،
أي يغض من تعظمه وتكبره، ويطأطئ منه.
والغرب: حد السيف، ويستعار للسطوة والسرعة في البطش والفتك.
قوله: " ويفئ "، أي يرجع إليك بما بعد عنك من عقلك، وحرف المضارعة
مضموم لأنه من " أفاء ".
ومساماة الله تعالى: مباراته في السمو وهو العلو.
* * *
الأصل:
أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك هوى
فيه من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمة دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع
أو يتوب.
وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم،
فإن الله يسمع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد.
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها
لرضا الرعية فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر
مع رضا العامة
34

وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤنة في الرخاء، وأقل معونة له في
البلاء وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف وأقل شكرا عند الاعطاء، وأبطأ
عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة، وإنما عمود الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء العامة من الأمة فليكن صغوك
لهم، وميلك معهم.
* * *
الشرح:
قال له أنصف الله أي قم له بما فرض عليك من العبادة والواجبات
العقلية و السمعية.
ثم قال: وأنصف الناس من نفسك ومن ولدك وخاصة أهلك ومن تحبه وتميل إليه
من رعيتك، فمتى لم تفعل ذلك كنت ظالما.
ثم نهاه عن الظلم، وأكد الوصاية عليه في ذلك.
ثم عرفه أن قانون الامارة الاجتهاد في رضا العامة، فإنه لا مبالاة بسخط خاصة
الأمير مع رضا العامة، فأما إذا سخطت العامة لم ينفعه رضا الخاصة، وذلك مثل أن يكون
في البلد عشرة أو عشرون من أغنيائه، وذوي الثروة من أهله، يلازمون الوالي ويخدمونه
ويسامرونه، وقد صار كالصديق لهم، فإن هؤلاء ومن ضارعهم من حواشي الوالي وأرباب الشفاعات والقربات عنده لا يغنون عنه شيئا عند تنكر العامة له، وكذاك لا يضر سخط
هؤلاء إذا رضيت العامة، وذلك لان هؤلاء عنهم غنى، ولهم بدل، والعامة لا غنى عنهم
ولا بدل منهم، ولأنهم إذا شغبوا عليه كانوا كالبحر إذا هاج واضطرب، فلا يقاومه أحد
وليس الخاصة كذلك.
35

ثم قال (عليه السلام) - ونعم ما قال ليس شئ أقل نفعا، ولا أكثر ضررا على الوالي
من خواصه أيام الولاية لأنهم يثقلون عليه بالحاجات، والمسائل والشفاعات، فإذا عزل
هجروه ورفضوه حتى لو لقوه في الطريق لم يسلموا عليه.
والصغو (1) بالكسر والفتح والصغا مقصور: الميل.
* * *
الأصل:
وليكن أبعد رعيتك منك، وأشنأهم عندك، أطلبهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها،
فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة
ما استطعت، يستر الله منك ما تحب ستره من (2) رعيتك.
أطلق عن الناس عقده كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب
عن كل ما لا يضح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فإن الساعي غاش
وإن تشبه بالناصحين.
ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا
يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن
والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله.
* *
.

(1) ب: " الصفو "، تحريف.
(2) في د: " عن "
36

الشرح:
أشنأهم عندك أبغضهم إليك:
وتغاب: تغافل، يقال: تغابى فلان عن كذا.
ويضح: يظهر والماضي وضح.
* * *
[فصل في النهى عن ذكر عيوب الناس وما ورد في ذلك من الآثار]
عاب رجل رجلا عند بعض الاشراف فقال له: لقد استدللت على كثره عيوبك بما
تكثر فيه من عيوب الناس، لان طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها.
وقال الشاعر: وأجرأ من رأيت بظهر غيب * على عيب الرجال أولو العيوب.
وقال آخر:
يا من يعيب وعيبه متشعب * كم فيك من عيب وأنت تعيب!
وفي الخبر المرفوع: " دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع بعض.
وقال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: كنت أساير أبى ورجل معنا يقع في رجل، فالتفت
أبى إلى فقال: " يا بنى، نزه سمعك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن الكلام به، فإن
المستمع شريك القائل، إنما نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك، ولو ردت كلمة
جاهل في فيه لسعد رادها كما شقى قائلها.
وقال ابن عباس، الحدث حدثان: حدث من فيك، وحدث من فرجك.
37

وعاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم فقال له قتيبة: أمسك ويحك! فقد تلمظت
بمضغة طالما لفظها الكرام.
ومر رجل بجارين له ومعه ريبة فقال أحدهما لصاحبه: أفهمت ما معه من الريبة؟
قال: وما معه؟ قال: كذا، قال عبدي حر لوجه الله شكرا له تعالى إذ لم يعرفني من
الشر ما عرفك.
وقال الفضيل بن عياض: إن الفاحشة لتشيع في كثير من المسلمين حتى إذا صارت
إلى الصالحين كانوا لها خزانا.
وقيل لبزرجمهر: هل من أحد لا عيب فيه؟ فقال: الذي لا عيب فيه لا يموت.
وقال الشاعر:
ولست بذي نيرب في الرجال * مناع خير وسبابها (1)
ولا من إذا كان في جانب * أضاع العشيرة واغتابها
ولكن أطاوع ساداتها * ولا أتعلم ألقابها.
وقال آخر:
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا * فيكشف الله سترا من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا * ولا تعب أحدا منهم بما فيكا.
وقال آخر:
ابدأ بنفسك فإنهما عن عيبها * فإذا انتهت عنه فأنت حكيم (2)
فهناك تعذر إن وعظت ويقتدى * بالقول منك ويقبل التعليم.
.

(1) النيرب: الشر وحمل العداوة.
(2) لأبي الأسود الدؤلي، خزانة الأدب 3: 617، والرواية هناك، " عن غيها "
38

فأما قوله (عليه السلام): " أطلق عن الناس عقدة كل حقد " فقد استوفى هذا المعنى
زياد في خطبته البتراء فقال: وقد كانت بيني وبين أقوام إحن (1)، وقد جعلت ذلك دبر
أذني وتحت قدمي فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا ومن كان منكم مسيئا فلينزع
عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال (2) من بغضي لم أكشف عنه قناعا،
ولم أهتك له سترا، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره، ألا فليشمل كل امرئ
منكم على ما في صدره، ولا يكونن لسانه شفرة تجرى على ودجه.
[فصل في النهى عن سماع السعاية وما ورد في ذلك من الآثار]
فأما قوله عليه السلام: " ولا تعجلن إلى تصديق ساع " فقد ورد في هذا المعنى كلام
حسن، قال ذو الرياستين: قبول السعاية شر من السعاية لان السعاية دلالة، والقبول إجازة،
وليس من دل على شئ كمن قبله وأجازه، فأمقت الساعي على سعايته، فإنه لو كان صادقا
كان لئيما، إذ هتك العورة، وأضاع الحرمة.
وعاتب مصعب بن الزبير الأحنف على أمر بلغه عنه فأنكره فقال مصعب: أخبرني
به الثقة، قال كلا أيها الأمير، أن الثقة لا يبلغ.
وكان يقال: لو لم يكن من عيب الساعي إلا أنه أصدق ما يكون أضر ما يكون على
الناس لكان كافيا.
كانت الأكاسرة لا تأذن لأحد أن يطبخ السكباج (3)، وكان ذلك مما يختص
به الملك، فرفع ساع إلى أنوشروان: إن فلانا دعانا ونحن جماعه إلى طعام له وفيه
.

(1) الإحن: جمع إحنة، وهي العداوة.
(2) السلال والسل بمعنى.
(3) السكباج: مرق يعمل من اللحم والخل، معرب
39

سكباج، فوقع أنو شروان على رقعته: قد حمدنا نصيحتك، وذممنا صديقك على سوء
اختياره للإخوان.
جاء رجل إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة عبد الملك على دمشق، فقال: أيها
الأمير، إن عندي نصيحة، قال: اذكرها، قال: جار لي رجع من بعثه سرا، فقال:
أما أنت فقد أخبرتنا أنك جار سوء، فإن شئت أرسلنا معك، فإن كنت كاذبا عاقبناك،
وإن كنت صادقا مقتناك، وإن تركتنا تركناك، قال بل أتركك أيها الأمير. قال: فانصرف.
ومثل هذا يحكى عن عبد الملك أن إنسانا سأله الخلوة، فقال لجلسائه: إذا شئتم! فانصرفوا، فلما تهيأ الرجل للكلام قال له: اسمع ما أقول، إياك أن تمدحني فأنا أعرف بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأى لمكذوب، أو تسعى بأحد إلى فإني
لا أحب السعاية قال: أفيأذن أمير المؤمنين بالانصراف! قال: إذا شئت. وقال بعض الشعراء:
لعمرك ما سب الأمير عدوه * ولكنما سب الأمير المبلغ.
وقال آخر:
حرمت منائي منك إن كان ذا الذي (1) * أتاك به الواشون عنى كما قالوا
ولكنهم لما رأوك شريعة * إلى تواصوا بالنميمة واحتالوا (2)
فقد صرت أذنا للوشاة سميعة ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا.
وقال عبد الملك بن صالح لجعفر بن يحيى وقد خرج يودعه لما شخص إلى خراسان:
أيها الأمير، أحب أن تكون لي كما قال الشاعر:
.

(1) في د " إن يكن الذي "، وهو مستقيم الوزن والمعنى أيضا.
(2) الشريعة: مورد الشاربة
40

فكوني على الواشين لداء شغبة * كما أنا للواشي ألد شغوب (1)
قال: بل أكون كما قال القائل:
وإذا الواشي وشى يوما بها * نفع الواشي بما جاء يضر
وقال العباس بن الأحنف:
ما حطك الواشون من رتبة * عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا * عليك عندي بالذي عابوا.
قوله عليه السلام: " ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك
الفقر " مأخوذ من قول الله تعالى: " الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء والله
يعدكم مغفرة منه وفضلا) (2)، قال المفسرون: الفحشاء هاهنا البخل، ومعنى "
يعدكم الفقر "، يخيل إليكم أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم فيخوفكم فتخافون فتبخلون.
قوله عليه السلام: " فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله "،
كلام شريف عال على كلام الحكماء، يقول: إن بينها قدرا مشتركا وإن كانت
غرائز وطبائع مختلفة، وذلك القدر المشترك هو سوء الظن بالله، لان الجبان يقول في
نفسه: إن أقدمت قتلت، والبخيل يقول: إن سمحت وأنفقت افتقرت، والحريص
يقول: إن لم أجد وأجتهد وأدأب فاتني ما أروم، وكل هذه الأمور ترجع إلى سوء
الظن بالله، ولو أحسن الظن الانسان بالله وكان يقينه صادقا لعلم أن الاجل مقدر،
وأن الرزق مقدر، وأن الغنى والفقر مقدران، وأنه لا يكون من ذلك إلا
ما قضى الله تعالى كونه.
* * *
.

(1) اللداء: الشديدة الخصومة.
(2) سورة البقرة 268
41

الأصل:
شر وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيرا، ومن شركهم في الآثام،
فلا يكونن لك بطانه، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد
منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم
وأوزارهم وآثامهم، ممن لم يعاون ظالما على ظلمة ولا آثما على إثمه أولئك،
أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة وأحنى عليك عطفا، وأقل لغيرك إلفا.
فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم
بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع.
* * *
الشرح:
نهاه عليه السلام ألا يتخذ بطانة قد كانوا من قبل بطانة للظلمة، وذلك لان الظلم
وتحسينه قد صار ملكة ثابتة في أنفسهم، فبعيد أن يمكنهم الخلو منها إذ قد صارت
كالخلق الغريزي اللازم لتكرارها
وصيرورتها عادة، فقد جاءت النصوص في الكتاب
والسنة بتحريم معاونة الظلمة ومساعدتهم وتحريم الاستعانة بهم، فإن من استعان بهم
كان معينا لهم، قال تعالى: (وما كنت متخذ المضلين عضدا) (1)، وقال " (لا تجد
قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) (2).
وجاء في الخبر المرفوع: " ينادى يوم القيامة: أين من بري (3) لهم - أي الظالمين قلما ".
.

(1) سورة الكهف 51.
(2) سورة المجادلة 22.
(3) ب: " يرى "، تحريف، صوابه في ا، د
42

أتى الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج فقال له ما تقول في الحجاج قال: وما
عسيت أن أقول فيه! هل هو إلا خطيئة من خطاياك، وشرر من نارك؟ فلعنك الله ولعن
الحجاج معك! وأقبل يشتمهما، فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال: ما تقول في هذا؟
قال: ما أقول فيه! هذا رجل يشتمكم، فإما أن تشتموه كما شتمكم، وإما أن تعفوا عنه.
فغضب الوليد وقال لعمر: ما أظنك إلا خارجيا! فقال عمر: وما أظنك إلا مجنونا، وقام
فخرج مغضبا، ولحقه خالد ب‍ الريان صاحب شرطة الوليد، فقال له ما دعاك إلى ما كلمت
به أمير المؤمنين! لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي أنتظر متى يأمرني بضرب عنقك، قال
أو كنت فاعلا لو أمرك قال نعم فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان فوقف على رأسه
متقلدا سيفه، فنظر إليه وقال: يا خالد، ضع سيفك فإنك مطيعنا في كل أمر نأمرك به -
وكان بين يديه كاتب للوليد، فقال له: ضع أنت قلمك، فإنك كنت تضر به وتنفع اللهم
إني قد وضعتهما فلا ترفعهما، قال: فوالله ما زالا وضيعين مهينين حتى ماتا.
وروى الغزالي في كتاب " إحياء علوم الدين " قال لما خالط الزهري السلطان
كتب أخ له في الدين إليه عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك، فقد أصبحت شيخا كبيرا، وقد أثقلتك نعم الله
عليك بما فهمك من كتابه، وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق
على العلماء، فإنه تعالى قال: (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) (1). واعلم أن أيسر
ما ارتكبت، واخف ما احتملت انك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي
بدنوك إلى من لم يؤد حقا، ولم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك أبا بكر قطبا تدور
.

(1) سورة آل عمران 187
43

عليه رحا ظلمهم وجسرا يعبرون عليه إلى بلائهم ومعاصيهم، وسلما يصعدون فيه إلى
ضلالتهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا
لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا من حالك
ودينك وما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا
الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) (1) يا أبا بكر، إنك تعامل من لا يجهل،
ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك فقد دخله سقم وهئ زادك فقد حضر سفر بعيد وما يخفى على الله من شئ في الأرض ولا في السماء) (2)،
والسلام.
* * *
والأصل والصق باهل الورع والصدق ثم رضهم على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدنى من العزة.
ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء فان، في ذلك تزهيدا لأهل
الاحسان في الاحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم
نفسه.
* * *
.

(1) سورة مريم 125.
(2) سورة إبراهيم 38
44

قوله: " والصق بأهل الورع "، كلمة فصيحة، يقول: اجعلهم خاصتك
وخلصاءك.
قال: ثم رضهم على ألا يطروك، أي عودهم ألا يمدحوك في وجهك. ولا يبجحوك
بباطل: لا يجعلوك ممن يبجح أي يفخر بباطل لم يفعله كما يبجح أصحاب الامراء الامراء
بان يقولوا لهم: ما رأينا أعدل منكم ولا أسمح، ولا حمى هذا الثغر أمير أشد بأسا منكم!
ونحو ذلك وقد جاء في الخبر: " أحثوا في وجوه المداحين التراب ".
. وقال عبد الملك لمن قام يساره ما تريد! أتريد أن تمدحني وتصفني،
أنا أعلم
بنفسي منك.
وقام خالد بن عبد الله القسري إلى عمر بن عبد العزيز يوم بيعته فقال: يا أمير المؤمنين،
من كانت الخلافة زائنته فقد زينتها، ومن كانت شرفته فقد شرفتها، فإنك لكما قال القائل:
وإذا الدر زان حسن وجوه * كان للدر حسن وجهك زينا.
فقال عمر بن عبد العزيز: لقد أعطى صاحبكم هذا مقولا، وحرم معقولا. وأمره
أن يجلس.
ولما عقد معاوية البيعة لابنه يزيد قام الناس يخطبون، فقال معاوية لعمرو بن سعيد
الأشدق: قم فاخطب يا أبا أمية فقام فقال: أما بعد، فإن يزيد ابن أمير المؤمنين أمل
تأملونه، وأجل تأمنونه، إن افتقرتم إلى حلمه وسعكم وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم،
وان اجتديتم ذات يده أغناكم وشملكم، جذع قارح، سوبق فسبق، وموجد فمجد،
45

وقورع فقرع، وهو خلف أمير المؤمنين، ولا خلف منه، فقال معاوية: أوسعت يا أبا
أمية فاجلس، فإنما أردنا بعض هذا.
وأثنى رجل على علي عليه السلام
في وجهه ثناء أوسع فيه - وكان عنده منهما - فقال
له: أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك.
وقال ابن عباس لعتبة بن أبي سفيان وقد أثنى عليه فأكثر: رويدا فقد أمهيت
يا أبا الوليد - يعنى بالغت، يقال أمهى حافر البئر، إذا استقصى حفرها.
فأما قوله عليه السلام: " ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء "، فقد أخذه
الصابي فقال: وإذا لم يكن للمحسن ما يرفعه، وللمسئ ما يضعه، زهد المحسن في الاحسان،
واستمر المسئ على الطغيان "، وقال أبو الطيب:
شر البلاد بلاد لا صديق بها * وشر ما يكسب الانسان ما يصم (1)
وشر ما قبضته راحتي قنص * شهب البزاة سواء فيه والرخم.
وكان يقال: قضاء حق المحسن أدب للمسئ وعقوبة المسئ جزاء للمحسن.
* * *
الأصل:
وأعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم،
وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم. فليكن
منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع
عنك نصبا طويلا، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وان أحق
من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده.
.

(1) ديوانه 3: 373
46

ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة
وصلحت عليها الرعية.
لا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضي تلك السنن، فيكون الاجر لمن سنها،
والوزر عليك بما نقضت منها.
وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر
بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك.
* * *
الشرح:
خلاصة صدر هذا الفصل، أن من أحسن إليك حسن ظنه فيك، ومن أساء إليك
استوحش منك، وذلك لأنك إذا أحسنت إلى انسان وتكرر منك ذلك الاحسان تبع
ذلك اعتقادك أنه قد أحبك، ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر، وهو أنك تحبه، لان
الانسان مجبول على أن يحب من يحبه، وإذا أحببته سكنت إليه وحسن ظنك فيه،
وبالعكس من ذلك إذا أسأت إلى زيد، لأنك إذا أسأت إليه وتكررت الإساءة تبع
ذلك اعتقادك أنه قد أبغضك، ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر، وهو أن تبغضه أنت
وإذا أبغضته انقبضت منه واستوحشت، وساء ظنك به.
قال المنصور للربيع: سلني لنفسك: قال يا أمير المؤمنين، ملأت يدي فلم يبق
عندي موضع للمسألة، قال: فسلني لولدك، قال أسألك أن تحبه، فقال المنصور:
يا ربيع، إن الحب لا يسأل، وإنما هو أمر تقتضيه الأسباب قال: يا أمير المؤمنين، وإنما أسألك أن تزيد من إحسانك، فإذا تكرر أحبك، وإذا أحبك أحببته. فاستحسن
47

المنصور ذلك ثم نهاه عن نقض السنن الصالحة التي قد عمل بها من قبله من صالحي الأمة
فيكون الوزر عليه بما نقض، والاجر لأولئك بما أسسوا، ثم أمره بمطارحة العلماء
والحكماء في مصالح عمله، فإن المشورة بركة، ومن استشار فقد أضاف عقلا إلى عقله.
ومما جاء في معنى الأول:
قال رجل لإياس بن معاوية من أحب الناس إليك؟ قال الذين يعطوني، قال:
ثم من؟ قال: الذين أعطيهم.
وقال رجل لهشام بن عبد الملك: إن الله جعل العطاء محبة، والمنع مبغضة،
فأعني على حبك، ولا تعنى في بغضك.
* * *
والأصل:
واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن
بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة،، ومنها قضاة العدل،
ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة
ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من
ذوي الحاجات والمسكنة، وكل قد سمى الله له سهمه، ووضع على حده وفريضته
في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله عهدا منه عندنا محفوظا.
فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الامن
وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج
الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من
وراء حاجتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال
48

والكتاب، لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه
من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات،
فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من
الترفق بأيديهم، مما لا يبلغه رفق غيرهم.
ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة، الذين يحق رفدهم ومعونتهم
وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه.
وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله تعالى من ذلك، إلا بالاهتمام
والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه فيما خف عليه
أو ثقل.
* * *
الشرح:
قالت الحكماء الانسان مدني بالطبع، ومعناه أنه خلق خلقة لا بد معها من أن
يكون منضما إلى اشخاص من بنى جنسه، ومتمدنا في مكان بعينه، وليس المراد بالمتمدن
ساكن المدينة ذات السور والسوق، بل لابد أن يقيم في موضع ما مع قوم من البشر،
وذلك لان الانسان مضطر إلى ما يأكله ويشربه ليقيم صورته، ومضطر إلى ما يلبسه،
ليدفع عنه أذى الحر والبرد، وإلى مسكن يسكنه ليرد عنه عادية غيره من الحيوانات، وليكون منزلا له ليتمكن من التصرف والحركة عليه، ومعلوم أن الانسان وحده
لا يستقل بالأمور التي عددناها، بل لابد من جماعة يحرث بعضهم لغيره الحرث، وذلك
الغير يحوك للحراث الثوب، وذلك الحائك يبنى له غيره المسكن، وذلك البناء يحمل له
49

غيره (1) الماء، وذلك السقاء يكفيه غيره أمر تحصيل الآلة التي يطحن بها الحب ويعجن بها
الدقيق، ويخبز بها العجين، وذلك المحصل لهذه الأشياء يكفيه غيره الاهتمام بتحصيل
الزوجة التي تدعو إليها داعية الشبق، فيحصل مساعدة بعض الناس لبعض لولا ذلك لما
قامت الدنيا، فلهذا معنى قوله عليه السلام: " إنهم طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض،
ولا غناء ببعضها عن بعض.
ثم فصلهم وقسمهم فقال: منهم الجند، (2 ومنهم الكتاب، ومنهم القضاة، ومنهم
العمال 2)، ومنهم أرباب الجزية من أهل الذمة، ومنهم أرباب الخراج من المسلمين، ومنهم
التجار، ومنهم أرباب الصناعات. ومنهم ذوو الحاجات والمسكنة، وهم أدون الطبقات.
ثم ذكر أعمال هذه الطبقات فقال: الجند للحماية، والخراج يصرف إلى الجند والقضاة
والعمال والكتاب لما يحكمونه من المعاقد، ويجمعونه من المنافع، ولا بد لهؤلاء جميعا من
التجار لأجل البيع والشراء الذي لا غناء عنه، ولابد لكل من أرباب الصناعات
كالحداد والنجار والبناء وأمثالهم. ثم تلي هؤلاء الطبقة السفلى، وهم أهل الفقر والحاجة الذين تجب معونتهم والاحسان إليهم.
وإنما قسمهم في هذا الفصل هذا التقسيم تمهيدا لما يذكره فيما بعد فإنه قد شرع بعد
هذا الفصل، فذكر طبقة طبقة وصنفا صنفا، وأوصاه في كل طبقة وفي كل
صنف منهم بما يليق بحاله، وكأنه مهد هذا التمهيد، كالفهرست لما يأتي بعده
من التفصيل.
.

(1) ب: " غير تحريف "،
(2 - 2) ساقط من ب، وأثبته من أ، د
(3) ا: " فكأنه "
50

الأصل:
فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأطهرهم جيبا، وأفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء،
وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف.
ثم الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة والسوابق
الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة، والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم،
وشعب من العرف.
ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شئ
قويتهم به. ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وان قل، فإنه داعيه لهم إلى بذل
النصيحة لك، وحسن الظن بك.
ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك
موضعا ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه، وليكن آثر رؤوس
جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم
ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو
فان عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك. ولا تصح نصيحتهم الا بحيطتهم
على ولاة أمورهم، وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم.
فافسخ في آمالهم، وواصل من حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء
.

(1) مخطوطة النهج: " بحيطتهم " بالياء المشددة المكسورة
51

منهم، فإن كثرة الذكر لحسن فعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناكل، إن شاء الله.
ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضمن بلاء امرئ إلى غيره،
ولا تقصرن به دون غاية بلائه.
ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة
امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما، واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك
من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله سبحانه لقوم أحب
إرشادهم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (1)، فالرد إلى الله الاخذ بمحكم
كتابه والرد إلى الرسول الاخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.
* * *
الشرح:
هذا الفصل مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش، أمره أن يولى أمر الجيش
من جنوده من كان أنصحهم لله في ظنه، وأطهرهم جيبا، أي عفيفا أمينا، ويكنى
عن العفة والأمانة بطهارة الجيب، لان الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه.
فإن قلت: وأي تعلق لهذا بولاة الجيش؟ إنما ينبغي أن تكون هذه الوصية
في ولاه الخراج!
قلت: لا بد منها في أمراء الجيش لأجل الغنائم.
ثم وصف ذلك الأمير فقال: " ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر "، أي يقبل
.

(1) سورة النساء 59
52

أدنى عذر، ويستريح إليه، ويسكن عنده، ويرؤف (1) على الضعفاء، يرفق بهم
ويرحمهم، والرأفة الرحمة. وينبو عن الأقوياء يتجافى عنهم ويبعد، أي يمكنهم
من الظلم والتعدي على الضعفاء. ولا يثيره العنف: لا يهيج غضبه عنف وقسوة. ولا يقعد
به الضعف، أي ليس عاجزا.
ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات، أي يكرمهم ويجعل معوله
في ذلك عليهم ولا يتعداهم إلى غيرهم، وكان يقال: عليكم بذوي الأحساب، فإن هم لم
يتكرموا استحيوا (2).
. ثم ذكر بعدهم أهل الشجاعة والسخاء، ثم قال: " إنها جماع من الكرم، وشعب من العرف، من هاهنا زائدة، وإن كانت في الايجاب على مذهب أبي الحسن الأخفش،
أي جماع الكرم، أي يجمعه كقول النبي صلى الله عليه وآله: " الخمر جماع الاثم ".
والعرف: المعروف.
وكذلك " من " في قوله: " وشعب من العرف " أي وشعب العرف، أي هي
أقسامه وأجزاؤه،، ويجوز أن تكون " من " على حقيقتها للتبعيض، أي هذه الخلال جملة من الكرم
وأقسام المعروف، وذلك لان غيرها أيضا من الكرم والمعروف، ونحو العدل
والعفة.
قوله: ثم تفقد من أمورهم الضمير هاهنا يرجع إلى الأجناد لا إلى الامراء لما
سنذكره مما يدل الكلام عليه.
فإن قلت: إنه لم يجر للأجناد ذكر فيما سبق، وإنما المذكور الامراء!
قلت: كلا بل سبق ذكر الأجناد، هو قوله: " الضعفاء والأقوياء ".
.

(1) د: " يرأف "، تحريف..
(2): " استحسبوا "، ب: " استحبوا، وأثبت ما في ا
53

وأمره عليه السلام أن يتفقد من أمور الجيش ما يتفقد الوالدان من حال الولد، وأمره ألا يعظم عنده ما يقويهم به وإن عظم، وألا يستحقر شيئا تعهدهم به وإن قل، وألا يمنعه
تفقد جسيم أمورهم عن تفقد صغيرها وأمره أن يكون آثر رؤوس جنوده عنده وأحظاهم
عنده وأقربهم إليه من واساهم في معونته، هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور
أولا للجند لا لأمراء الجند، لولا ذلك لما انتظم الكلام.
قوله: " من خلوف أهليهم "، أي ممن يخلفونه من أولادهم وأهليهم.
ثم قال لا يصح نصيحة الجند لك إلا بحيطتهم على ولاتهم، أي بتعطفهم عليهم
وتحننهم، وهي الحيطة على وزن الشيمة، مصدر حاطه يحوطه حوطا وحياطا، وحيطة،
أي كلأه ورعاه، وأكثر الناس يروونها " إلا بحيطتهم " بتشديد الياء وكسرها، والصحيح ما ذكرناه.
قوله: " وقلة استثقال دولهم "، أي لا تصح نصيحة الجند لك إلا إذا أحبوا أمراءهم
ثم لم يستثقلوا دولهم، ولم يتمنوا زوالها.
ثم أمره أن يذكر في المجالس والمحافل بلاء ذوي البلاء منهم، فإن ذلك مما يرهف
عزم الشجاع ويحرك الجبان.
قوله: ولا تضمن بلاء امرئ إلى غيره "، أي أذكر كل من أبلى
منهم مفردا غير مضموم ذكر بلائه إلى غيره كي لا يكون مغمورا في جنب ذكر
غيره.
ثم قال له: لا تعظم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم، ولا تحقر بلاء ذوي الضعة
لضعة أنسابهم، بل أذكر الأمور على حقائقها.
ثم أمره أن يرد إلى الله ورسوله ما يضلعه من الخطوب، أي ما يؤوده ويميله
54

لثقله، وهذه الرواية أصح من رواية من رواها بالظاء، وإن كان لتلك وجه.
* * *
[رسالة الإسكندر أي أرسطو ورد أرسطو عليه]
وينبغي أن نذكر في هذا الموضع رسالة أرسطو إلى الإسكندر في معنى المحافظة على أهل
البيوتات وذوي الأحساب، وأن يخصهم بالرياسة والإمرة، ولا يعدل عنهم إلى العامة
والسفلة، فإن في ذلك تشييدا لكلام أمير المؤمنين عليه السلام، ووصيته.
لما ملك الإسكندر إيران شهر - وهو العراق مملكة الأكاسرة - وقتل دارا بن دارا
كتب إلى أرسطو وهو ببلاد اليونان:
عليك أيها الحكيم منا السلام، أما بعد فإن الأفلاك الدائرة، والعلل السمائية،
وإن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائبين، فإنا جد واجدين لمس
الاضطرار إلى حكمتك، غير جاحدين لفضلك والاقرار بمنزلتك، والاستنامة (1) إلى مشورتك
والاقتداء برأيك: والاعتماد لأمرك ونهيك، لما بلونا من جدا ذلك علينا، وذقنا
من جنا منفعته، حتى صار ذلك بنجوعه فينا وترسخه في أذهاننا وعقولنا كالغذاء لنا،
فما ننفك نعول عليه، ونستمد منه استمداد الجداول من البحور، وتعويل الفروع على
الأصول، وقوة الاشكال بالاشكال. وقد كان مما سيق إلينا من النصر والفلج، وأتيح
لنا من الظفر، وبلغنا في العدو من النكاية والبطش ما يعجز القول عن وصفه،
ويقصر شكر المنعم عن موقع الانعام به، وكان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية والجزيرة
إلى بابل وأرض فارس، فلما حللنا بعقوة (2) أهلها وساحة بلادهم، لم يكن إلا ريثما
تلقانا نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا، وطلبا للحظوة عندنا، فأمرنا بصلب من
.

(1) كذا في ا، واستنام إلى الامر: سكن إليه، وفى ب: " الاستبانة ".
(2) العقوة: ما حول الدار.
55

جاء به وشهرته لسوء بلائه وقلة ارعوائه ووفائه، ثم أمرنا بجمع من كان هناك من
أولاد ملوكهم وأحرارهم وذوي الشرف منهم، فرأينا رجالا (1) عظيمة أجسامهم
وأحلامهم، حاضرة ألبابهم وأذهانهم، رائعة مناظرهم ومناطقهم، دليلا على أن ما يظهر
من روائهم و منطقهم أن وراءه من قوة أيديهم، وشدة نجدتهم وبأسهم ما لم يكن
ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم وإعطائهم بأيديهم، لولا أن القضاء أدالنا منهم، وأظفرنا
بهم وأظهرنا عليهم، ولم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم، ونجتث
أصلهم ونلحقهم بمن مضى من أسلافهم، لتسكن القلوب بذلك الامن إلى جرائرهم وبوائقهم، فرأينا ألا نجعل بإسعاف بادي الرأي في قتلهم دون الاستظهار عليهم بمشورتك
فيهم. فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك، وتقليبك إياه بجلي نظرك،
وسلام أهل السلام، فليكن علينا وعليك.
فكتب إليه أرسطو:
لملك الملوك، وعظيم العظماء، الإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء، المهدى له الظفر
بالملوك، من أصغر عبيده وأقل خوله، أرسطو طاليس البخوع بالسجود والتذلل في
السلام، والاذعان في الطاعة:
أما بعد، فإنه لا قوة بالمنطق وإن احتشد الناطق فيه، واجتهد في تثقيف معانيه،
وتأليف حروفه ومبانيه على الإحاطة بأقل ما تناله القدرة من بسطة علو الملك وسمو ارتفاعه
عن كل قول، وإبرازه على كل وصف، واغترافه بكل إطناب. وقد كان تقرر عندي
من مقدمات إعلام فضل الملك في صهلة سبقه، وبروزه شأوه، ويمن نقيبته، مذ أدت
إلى حاسة بصري صورة شخصه، واضطرب في حس سمعي صوت لفظه، ووقع وهمي
.

(1) ب: " رجالة "
56

على تعقيب نجاح رأيه أيام كنت أؤدي إليه من تكلف تعليمي إياه ما أصبحت قاضيا على
نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه. ومهما يكن منى إليه في ذلك، فإنما هو عقل مردود إلى عقله،
مستنبطة أو إليه وتواليه من علمه وحكمته. وقد جلا إلى كتاب الملك ومخاطبته إياي
ومسألته لي عما لا يتخالجني الشك في لقاح ذلك وإنتاجه من عنده، فعنه صدر وعليه ورد
و أنا فيما أشير به على الملك - وإن اجتهدت فيه واحتشدت له، وتجاوزت حد الوسع والطاقة
منى في استنظافه واستقصائه - كالعدم مع الوجود بل كما لا يتجزأ في جنب معظم الأشياء ولكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل، مع علمي ويقيني بعظيم غناه عنى، وشدة فاقتي إليه، وأنا راد إلى الملك ما اكتسبته منه، ومشير عليه بما أخذته،
منه فقائل له:
إن لكل تربة لا محاله قسما من الفضائل، وإن لفارس قسمها من النجدة والقوة،
وإنك ان تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء على أعقابهم، وتورث سفلتهم على منازل عليتهم،
وتغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم، ولم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم وأشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة، وذل الوجوه فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك
الطبقة من الغلبة والحركة، فإنه إن نجم منهم بعد اليوم على جندك وأهل بلادك ناجم دهمهم منه ما لا روية فيه، ولا بقية معه فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره، واعمد إلى
من قبلك من أولئك العظماء والأحرار، فوزع بينهم مملكتهم، وألزم اسم الملك
كل من وليته منهم ناحيته، واعقد التاج على رأسه وإن صغر ملكه، فإن المتسمى
بالملك لازم لاسمه والمعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره، فليس ينشب (1) ذلك أن
يوقع كل ملك منهم بينه وبين صاحبه تدابرا وتقاطعا وتغالبا على الملك، وتفاخرا بالمال والجند، حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك وأوتارهم فيك، ويعود حربهم لك حربا
.

(1) ا: " يلبث "
57

بينهم، وحنقهم عليك حنقا منهم على أنفسهم ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة إلا أحدثوا
لك بها استقامة، إن دنوت منهم دانوا لك، وإن نأيت عنهم تعززوا بك، حتى يثب من
ملك منهم على جاره باسمك، ويسترهبه بجندك، وفي ذلك شاغل لهم عنك، وأمان لإحداثهم بعدك، وإن كان لا أمان للدهر، ولا ثقة بالأيام.
قد أديت إلى الملك ما رايته لي حظا، وعلى حقا من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه، ومحضته النصيحة فيه، والملك أعلى عينا، وأنفذ روية، وأفضل رأيا، وأبعد همة فيما
استعان بي عليه، وكلفني بتبيينه والمشورة عليه فيه. لا زال الملك متعرفا من عوائد النعم
وعواقب الصنع وتوطيد الملك، وتنفيس الاجل، ودرك الامل، ما تأتى فيه قدرته على غاية قصوى ما تناله قدرة البشر!
والسلام الذي لا انقضاء له، ولا انتهاء ولا غاية ولا فناء، فليكن على الملك.
قالوا: فعمل الملك برأيه، واستخلف على إيران شهر أبناء الملوك والعظماء من أهل
فارس، فهم ملوك الطوائف الذين بقوا بعده، والمملكة موزعة بينهم إلى أن جاء أردشير
ابن بابك فانتزع الملك منهم.
* * *
الأصل:
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن، لا تضيق به الأمور، ولا
تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه. وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم وأصبرهم
58

على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء ولا
يستميله إغراء، وأولئك قليل.
ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيح علته، وتقل معه
حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك،
ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظرا بليغا، فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا.
* * *
الشرح:
تمحكه الخصوم: تجعله ما حكا، أي لجوجا، محك الرجل، أي لج، وماحك زيد
عمرا، أي لاجه.
قوله: " ولا يتمادى في الزلة "، أي إن زل رجع وأناب، والرجوع إلى الحق خير
من التمادي في الباطل.
قوله ": ولا يحصر من الفئ " هو المعنى الأول بعينه، والفئ الرجوع، إلا أن
هاهنا زيادة، وهو أنه لا يحصر، أي لا يعيا في المنطق، لان من الناس من إذا زل حصر عن أن يرجع وأصابه كالفهاهة والعي خجلا.
قوله: " ولا تشرف نفسه "، أي لا تشفق. والاشراف الاشفاق والخوف، وأنشد الليث:
ومن مضر الحمراء إسراف أنفس * علينا وحياها علينا تمضرا.
59

وقال عروة بن أذينة:
لقد علمت وما الاشراف من خلقي * أن الذي هو رزقي سوف يأتيني (1).
والمعنى: ولا تشفق نفسه وتخاف من فوت المنافع والمرافق.
ثم قال ولا يكتفى بأدنى فهم أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم، بل يستقصى ويبحث أشد البحث.
قوله: " وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم "، أي تضجرا، وهذه الخصلة من
محاسن ما شرطه عليه السلام فان القلق والضجر والتبرم قبيح وأقبح ما يكون
من القاضي.
قوله: " وأصرمهم، أي أقطعهم وأمضاهم. وازدهاه كذا، أي استخفه. والإطراء:
المدح. والإغراء: التحريض.
ثم أمره أن يتطلع على أحكامه وأقضيته، وأن يفرض له عطاء واسعا يملأ عينه،
ويتعفف به عن المرافق والرشوات، وأن يكون قريب المكان منه، كثير الاختصاص
به ليمنع قربه من سعاية الرجال به وتقبيحهم ذكره عنده. ثم قال: " إن هذا الدين قد كان أسيرا "، هذه إشارة إلى قضاة عثمان وحكامه، وأنهم
لم يكونوا يقضون بالحق عنده بل بالهوى لطلب الدنيا.
وأما أصحابنا فيقولون: رحم الله عثمان! فإنه كان ضعيفا، واستولى عليه أهله، قطعوا
الأمور دونه، فإثمهم عليهم وعثمان برئ منهم.
* * *
.

(1) اللسان (شرف)
60

[فصل في القضاة وما يلزمهم وذكر بعض نوادرهم]
قد جاء في الحديث المرفوع لا يقضى القاضي وهو غضبان ". وجاء في
الحديث المرفوع أيضا: " من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته
ومجلسه ومقعده ".
دخل ابن شهاب على الوليد - أو سليمان - فقال له: يا بن شهاب، ما حديث يرويه أهل
الشام؟ قال: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: إنهم يروون أن الله تعالى إذا استرعى عبدا رعية كتب له
الحسنات، ولم يكتب عليه السيئات، فقال كذبوا يا أمير المؤمنين، أيما أقرب إلى الله، نبي أم خليفة! قال: بل نبي قال: فإنه تعالى يقول لنبيه داود: (يا داود إنا جعلناك
خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن
الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد (1)). فقال سليمان إن الناس ليغروننا عن ديننا.
وقال بكر بن عبد الله العدوي لابن أرطاة - وأراد أن يستقضيه: والله ما أحسن القضاء، فإن كنت صادقا لم يحل لك أن تستقضي من لا يحسن، وإن كنت كاذبا فقد فسقت، والله لا يحل أن تستقضي الفاسق.
وقال الزهري ثلاث إذا كن في القاضي فليس بقاض، أن يكره اللائمة، ويحب
المحمدة، ويخاف العزل.
وقال محارب بن زياد للأعمش: وليت القضاء فبكى أهلي، فلما عزلت بكى
أهلي، فما أدرى مم ذلك؟ قال لأنك وليت القضاء وأنت تكرهه وتجزع منه،
.

(1) سورة ص 26
61

فبكى أهلك لجزعك، وعزلت عنه فكرهت العزل وجزعت فبكى أهلك لجزعك. قال:
صدقت.
أتى ابن شبرمة بقوم يشهدون على قراح (1) نخل فشهدوا - وكانوا عدولا - فامتحنهم
فقال: كم في القراح (1) من نخله؟ قالوا: لا نعلم، فرد شهادتهم، فقال له أحدهم: أنت أيها
القاضي تقضى في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة، فأعلمنا كم فيه من أسطوانة؟ فسكت
وأجازهم.
خرج شريك وهو على قضاء الكوفة يتلقى الخيزران، وقد أقبلت تريد الحج، وقد كان استقضى وهو كاره، فأتى شاهى (2)، فأقام بها ثلاثا، فلم تواف، فخف زاده وما كان
معه، فجعل يبله بالماء ويأكله بالملح، فقال العلاء بن المنهال الغنوي:
فإن كان الذي قد قلت حقا * بأن قد أكرهوك على القضاء (2)
فما لك موضعا في كل يوم * تلقى من يحج من النساء
مقيما في قرى شاهى ثلاثا * بلا زاد سوى كسر وماء!
وتقدمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث - وكانت جميلة - وأخوها الوليد
بن سريع إلى عبد الملك بن عمير، وهو قاض بالكوفة، فقضى لها على أخيها، فقال هذيل الأشجعي:
أتاه وليد بالشهود يسوقهم * على ما ادعى من صامت المال والخول
وجاءت إليه كلثم وكلامها * شفاء من الداء المخامر والخبل
فأدلى وليد عند ذاك بحقه * وكان وليد ذا مراء وذا جدل
فدلهت القبطي حتى قضى لها * بغير قضاء الله في محكم الطول
.

(1) القراح هنا: البستان، وانظر ياقوت (قرح).
(2) شاهى: موضع قرب القادسية.
(3) الخبر والأبيات في معجم البلدان 5: 224
62

فلو كان من في القصر يعلم علمه * لما استعمل القبطي فينا على عمل
له حين يقضى للنساء تخاوص * وكان وما فيه التخاوص والحول
إذا ذات دل كلمته لحاجة * فهم بأن يقضى تنحنح أو سعل
وبرق عينيه ولاك لسانه * يرى كل شئ ما خلا وصلها جلل
وكان عبد الملك بن عمير يقول لعن الله الأشجعي، والله لربما جاءتني السعلة والنحنحة
وأنا في المتوضأ فأردهما لما شاع من شعره.
كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية: أما بعد، فقد كتبت إليك في القضاء بكتاب لم
آلك ونفسي فيه خيرا، الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ بأفضل حظك: إذا تقدم
إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة، وأدن الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط
لسانه، وتعهد الغريب فإنك إن لم تتعهده ترك حقه ورجع إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم
يرفق به، وآس بين الخصوم في لحظك ولفظك، وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء.
وكتب عمر إلى شريح: لا تسارر ولا تضارر، ولا تبع ولا تبتع في مجلس القضاء،
ولا تقض وأنت غضبان، ولا شديد الجوع، ولا مشغول القلب.
شهد رجل عند سوار القاضي فقال: ما صناعتك؟ فقال: مؤدب، قال: أنا لا أجيز
شهادتك، قال: ولم؟ قال لأنك تأخذ على تعليم القرآن أجرا، قال: وأنت أيضا تأخذ على
القضاء بين المسلمين أجرا، قال: إنهم أكرهوني، قال نعم أكرهوك على القضاء، فهل
أكرهوك على أخذ الأجر! قال هلم شهادتك.
ودخل أبو دلامة ليشهد عند أبي ليلى، فقال حين جلس بين يديه:
إذا الناس غطوني تغطيت عنهم * وان بحثوا عنى ففيهم مباحث (1)
.

(1) الأغاني 10: 234، وفيه " إن الناس "
63

وإن حفروا بئري حفرت بئارهم * ليعلم ما تخفيه تلك النبائث.
فقال بل نغطيك يا أبا دلامة ولا نبحثك، وصرفه راضيا، وأعطى المشهود عليه من
عنده قيمه ذلك الشئ.
كان عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب وقاضيها، فنزل به قوم يستفتونه في الخنثى
وميراثه، فلم يدر ما يقضى فيه، وكان له جارية اسمها خصيلة، ربما لامها في الابطاء عن
الرعى وفى الشئ يجده عليها، فقال لها: يا خصيلة لقد أسرع هؤلاء القوم في غنمي،
وأطالوا المكث، قالت: وما يكبر عليك من ذلك؟ اتبعه مباله وخلاك ذم، فقال لها:
" أمسى (1) خصيل بعدها أو روحي ".
وقال أعرابي لقوم يتنازعون: هل لكم في الحق أو ما هو خير من الحق؟ قيل:
وما الذي هو خير من الحق؟ قال: التحاط والهضم، فإن أخذ الحق كله مر.
وعزل عمر بن عبد العزيز بعض قضاته، فقال لم عزلتني فقال: بلغني أن كلامك
أكثر من كلام الخصمين إذا تحاكما إليك.
ودخل إياس بن معاوية الشام وهو غلام، فقدم خصما إلى باب القاضي في أيام عبد الملك،
فقال القاضي: أما تستحي! تخاصم وأنت غلام شيخا كبيرا فقال الحق أكبر منه،
فقال اسكت ويحك! قال فمن ينطق بحجتي إذا! قال ما أظنك تقول اليوم حقا حتى
تقوم، فقال: لا إله إلا الله. فقام القاضي ودخل على عبد الملك وأخبره، فقال: اقض
حاجته وأخرجه من الشام كي لا يفسد علينا الناس.
واختصم أعرابي وحضري إلى قاض، فقال الأعرابي: أيها القاضي، إنه وإن هملج (2)
إلى الباطل، فإنه عن الحق لعطوف.
ورد رجل جاريه على رجل اشتراها منه بالحمق، فترافعا إلى إياس بن معاوية،
.

(1) في مجمع الأمثال 2: 295 " مسي سخيل بعدها أو صبحي ".
(2) هملج: أسرع
64

فقال لها إياس: أي رجليك أطول فقالت: هذه، فقال: أتذكرين ليلة ولدتك أمك؟
قالت: نعم فقال إياس: رد رد.!
وجاء في الخبر المرفوع من رواية عبد الله بن عمر: " لا قدست أمه لا يقضى فيها
بالحق "، ومن الحديث المرفوع من رواية أبي هريرة: " ليس أحد يحكم بين الناس إلا
جئ به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، فكه العدل، وأسلمه الجور "
واستعدى رجل على علي بن أبي طالب عليه السلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى جالس فالتفت عمر إليه، فقال: قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك، فقام فجلس
معه وتناظرا، ثم انصرف الرجل ورجع علي عليه السلام إلى محله، فتبين عمر التغير في
وجهه، فقال: يا أبا الحسن، ما لي أراك متغيرا! أكرهت ما كان؟ قال نعم قال:
وما ذاك قال: كنيتني بحضرة خصمي، هلا قلت: قم يا علي فاجلس مع خصمك! فاعتنق
عمر عليا، وجعل يقبل وجهه، وقال بأبي أنتم! بكم هدانا الله، وبكم أخرجنا من
الظلمة إلى النور.
أبان بن عبد الحميد اللاحقي في سوار بن عبد الله القاضي:
لا تقدح الظنة في حكمه * شيمته عدل وإنصاف
يمضى إذا لم تلقه شبهة * وفى اعتراض الشك وقاف
كان ببغداد رجل يذكر بالصلاح والزهد يقال له رويم، فولى القضاء، فقال الجنيد:
من أراد أن يستودع سره من لا يفشيه فعليه برويم، فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة
إلى أن قدر عليها.
الأشهب الكوفي يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم * مذ صار قاضيكم نوح بن دراج
لو كان حيا له الحجاج ما سلمت * صحيحة يده من وسم حجاج.
65

وكان الحجاج يسم أيدي النبط بالمشراط والنيل.
لما وقعت فتنة ابن الزبير اعتزل شريح القضاء وقال: لا أقضى في الفتنة، فبقي
لا يقضى تسع سنين، ثم عاد إلى القضاء وقد كبرت سنه، فاعترضه رجل وقد انصرف من
مجلس القضاء، فقال له: أ ما حان لك أن تخاف الله! كبرت سنك، وفسد ذهنك، وصارت الأمور تجوز عليك، فقال، والله لا يقولها بعدك لي أحد. فلزم بيته
حتى مات.
قيل لأبي قلابة وقد هرب من القضاء: لو أجبت؟ قال: أخاف الهلاك، قيل:
لو اجتهدت لم يكن عليك بأس، قال: ويحكم! إذا وقع السابح في البحر كم عسى
أن يسبح!
دعا رجل لسليمان الشاذكوني، فقال: أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء إصبهان!
قال: ويحك! إن كان ولا بد فعلى خراجها، فان أخذ أموال الأغنياء أسهل من أخذ
أموال الأيتام.
ارتفعت جميلة بنت عيسى بن جراد - وكانت جميلة كاسمها - مع خصم لها إلى الشعبي -
وهو قاضي عبد الملك - فقضى لها، فقال هذيل الأشجعي:
فتن الشعبي لما * رفع الطرف إليها
فتنته بثنايا * ها وقوسي حاجبيها
ومشت مشيا رويدا * ثم هزت منكبيها
فقضى جورا على الخصم * ولم يقض عليها
فقبض الشعبي عليه وضربه ثلاثين سوطا.
قال ابن أبي ليلى: ثم انصرف الشعبي يوما من مجلس القضاء وقد شاعت الأبيات
66

و تناشدها الناس، ونحن معه، فمررنا بخادم تغسل الثياب، وتقول:
* فتن الشعبي لما *
ولا تحفظ تتمة البيت، فوقف عليها ولقنها، وقال:
* رفع الطرف إليها *
ثم ضحك وقال: أبعده الله! والله ما قضينا (1) لها إلا بالحق.
جاءت امرأة إلى قاض فقالت: مات بعلي وترك أبوين وابنا وبنى عم، فقال القاضي: لأبويه الثكل، ولابنه اليتم، ولك اللائمة، ولبني عمه الذلة، واحملي المال إلينا إلى أن
ترتفع الخصوم!
لقي سفيان الثوري شريكا بعد ما استقضى، فقال له يا أبا عبد الله، بعد الاسلام والفقه
والصلاح تلي القضاء! قال، يا أبا عبد الله، فهل للناس بد من قاض! قال: ولا بد يا أبا
عبد الله للناس من شرطي.
وكان الحسن بن صالح بن حي يقول لما ولى شريك القضاء: أي شيخ أفسدوا.
قال أبو ذر رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا ذر، أعقل (2)
ما أقول لك، جعل يرددها على ستة أيام، ثم قال لي في اليوم السابع: أوصيك بتقوى الله في
سريرتك وعلانيتك، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألن أحدا شيئا ولو سقط سوطك،
ولا تتقلدن أمانة، ولا تلين ولاية، ولا تكفلن يتيما، ولا تقضين بين اثنين ".
أراد عثمان بن عفان أن يستقضي عبد الله بن عمر، فقال له: ألست قد سمعت النبي
صلى الله عليه وآله يقول: " من استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ! " قال: بلى، قال فإني أعوذ
بالله منك أن تستقضيني.
.

(1) ا، د: " قضيت "، وأثبت ما في د.
(2) في د: " افعل ".
67

وقد ذكر الفقهاء في آداب القاضي (1) أمورا قالوا: لا يجوز أن يقبل هدية في أيام القضاء
إلا ممن كانت له عادة يهدى إليه قبل أيام القضاء،، ولا يجوز قبولها في أيام القضاء ممن له
حكومة وخصومة، وإن كان ممن له عادة قديمة، وكذلك إن كانت الهدية أنفس وأرفع مما
كانت قبل أيام القضاء لا يجوز قبولها.
ويجوز أن يحضر القاضي الولائم، ولا يحضر عند
قوم دون قوم، لان التخصيص يشعر بالميل، ويجوز أن يعود المرضى، ويشهد الجنائز،
ويأتي مقدم الغائب. ويكره له مباشرة البيع والشراء. ولا يجوز أن يقضى وهو غضبان
ولا جائع ولا عطشان، ولا في حال الحزن الشديد، ولا الفرح الشديد، ولا يقضى والنعاس
يغلبه، والمرض يقلقه، ولا وهو يدافع الأخبثين،
ولا في حر مزعج، ولا في برد مزعج وينبغي أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد، ولا يحتجب إلا لعذر.
ويستحب أن يكون مجلسه فسيحا لا يتأذى بذلك هو أيضا. ويكره الجلوس في المساجد
للقضاء فإن احتاج إلى وكلاء جاز أن يتخذهم ويوصيهم بالرفق بالخصوم. ويستحب أن
يكون له حبس، وأن يتخذ كاتبا إن احتاج إليه، ومن شرط كاتبه ان يكون عارفا بما
يكتب به عن القضاء.
واختلف في جواز كونه ذميا، والأظهر انه لا يجوز ولا يجوز أن يكون كاتبه
فاسقا، ولا يجوز أن يكون الشهود عنده قوما معينين، بل الشهادة عامة فيمن استكمل
شروطها.
* * *
الأصل:
ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختيارا، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة. وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات
الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل
في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا.
.

(1) كذا في ا، د و هو الصواب وفى ب: " القضاء "
68

ثم أسبغ عليهم الأرزاق فان ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم أن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك
ثم تفقد أعمالهم، وأبعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك
في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة، والرفق بالرعية. وتحفظ من
الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار
عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما
أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة،
ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة.
* * *
الشرح:
لما فرغ عليه السلام من أمر القضاء، شرع في أمر العمال، وهم عمال السواد
والصدقات والوقوف والمصالح وغيرها، فأمره أن يستعملهم بعد اختبارهم وتجربتهم وألا يوليهم محاباة لهم، ولمن يشفع فيهم، ولا أثره ولا إنعاما عليهم.
كان أبو الحسن بن الفرات يقول: الأعمال للكفاة من أصحابنا، وقضاء الحقوق
على خواص أموالنا.
وكان يحيى بن خالد يقول من تسبب إلينا بشفاعة في عمل فقد حل عندنا محل من ينهض بغيره، ومن لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلا.
ووقع جعفر بن يحيى في رقعة متحرم به: هذا فتى له حرمة الامل، فامتحنه بالعمل،
فإن كان كافيا فالسلطان له دوننا، وإن لم يكن كافيا فنحن له دون السلطان.
ثم قال عليه السلام: " فإنهما - يعنى استعمالهم للمحاباة والإثرة - جماع من شعب الجور
والخيانة ". وقد تقدم شرح مثل هذه اللفظة، والمعنى أن ذلك يجمع ضروبا من الجور والخيانة.
أما الجور فإنه يكون قد عدل عن المستحق إلى غير المستحق ففي ذلك جور على المستحق.
69

وأما الخيانة فلان الأمانة تقتضي تقليد الأعمال الأكفاء، فمن لم يعتمد ذلك فقد خان
من ولاه.
ثم أمره بتخير من قد جرب، ومن هو من أهل البيوتات والأشراف لشدة الحرص
على الشئ والخوف من فواته.
ثم أمره بإسباغ الأرزاق عليهم، فإن الجائع لا أمانة له ولأن الحجة تكون
لازمه لهم إن خانوا لأنهم قد كفوا مؤنة
أنفسهم وأهليهم بما فرض لهم من الأرزاق (1). ثم أمره بالتطلع عليهم وإذكاء (2) العيون والأرصاد على حركاتهم.
وحدوة باعث، يقال: حداني هذا الامر حدوة على كذا، وأصله سوق الإبل،
ويقال للشمال حدواء، لأنها تسوق السحاب.
ثم أمره بمؤاخذة من ثبتت خيانته واستعاده المال منه، وقد صنع عمر كثيرا من ذلك،
وذكرناه فيما تقدم.
قال بعض الأكاسرة لعامل من عماله: كيف نومك بالليل؟ قال: أنامه كله، قال:
أحسنت! لو سرقت ما نمت هذا النوم.
* * *
الأصل:
وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن
سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لان الناس كلهم عيال على الخراج
وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان
ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك
.

(1) في د " الزرق ".
(2) في ا، د " وبعث "
70

العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، فإن شكوا ثقلا أو علة، أو انقطاع شرب،
أو بالة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خففت عنهم
بما ترجو أن يصلح به أمرهم.
ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك
في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجحك
باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوتهم، بما ذخرت عندهم من إجماعك لهم،
والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم
ورفقك بهم فربما حدث من الأمور ما
إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبه أنفسهم به فان العمران محتمل ما
حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من اعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف
أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر.
* * *
الشرح:
انتقل عليه السلام من ذكر العمال إلى ذكر أرباب الخراج ودهاقين السواد، فقال تفقد
أمرهم، فإن الناس عيال عليهم، وكان يقال: استوصوا بأهل الخراج، فإنكم
لا تزالون سمانا ما سمنوا.
ورفع إلى أنوشروان أن عامل الأهواز قد حمل من مال الخراج ما يزيد على العادة
وربما يكون ذلك قد أجحف بالرعية، فوقع: يرد هذا المال على من قد استوفى منه
فإن تكثير الملك ماله بأموال رعيته بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد
بنيانه.
71

وكان على خاتم أنوشروان: لا يكون عمران، حيث يجور السلطان.
وروى: " استحلاب الخراج بالحاء.
ثم قال: فإن شكوا ثقلا "، أي ثقل طسق (1) الخراج المضروب عليهم، أو ثقل
وطأة العامل.
قال: " أو علة " نحو ان يصيب الغلة آفة كالجراد والبرق أو البرد.
قال: " أو انقطاع شرب " (2)، بأن ينقص الماء في النهر، أو تتعلق أرض الشرب عنه
لفقد الحفر.
قال: " أو بالة "، يعنى المطر.
قال: " أو إحالة أرض اغتمرها غرق "، يعنى أو كون الأرض قد حالت، ولم يحصل
منها ارتفاع، لان الغرق غمرها وأفسد زرعها.
قال: " أو أجحف بها عطش "، أي أتلفها.
فإن قلت: فهذا هو انقطاع الشرب؟ قلت: لا قد يكون الشرب غير منقطع، ومع ذلك يجحف بها العطش، بأن
لا يكفيها الماء الموجود في الشرب.
ثم أمره أن يخفف عنهم متى لحقهم شئ من ذلك، فإن التخفيف يصلح أمورهم،
وهو وإن كان يدخل على المال نقصا في العاجل إلا أنه يقتضى (2) توفير زيادة في الاجل،
فهو بمنزلة التجارة التي لابد فيها من إخراج رأس المال وانتظار عوده وعود ربحه.
.

(1) في اللسان عن التهذيب: " الطسق شبه الخراج له مقدار معلوم، وليس بعربي خالص ".
(2) الشرب بالكسر: النصيب من الماء.
(3) في د " يفضي إلى "
72

قال: " ومع ذلك فإنه يفضي إلى تزين بلادك بعمارتها، وإلى أنك تبجح بين
الولاة بإفاضة العدل في رعيتك معتمدا فضل قوتهم "، و " معتمدا "، منصوب على الحال
من الضمير في " خففت " الأولى، أي خففت عنهم معتمدا بالتخفيف فضل قوتهم.
والإجمام: الترفيه. ثم قال له:
وربما احتجت فيما بعد إلى تكلفهم بحادث يحدث عندك المساعدة
بمال يقسطونه عليهم قرضا أو معونة محضة، فإذا كانت لهم ثروة نهضوا بمثل ذلك، طيبة قلوبهم (1) به.
ثم قال عليه السلام: فإن العمران محتمل ما حملته.
سمعت أبا محمد بن خليد - وكان صاحب ديوان الخراج في أيام الناصر لدين الله - يقول لمن قال له: قد قيل عنك: إن واسط والبصرة قد خربت لشدة العنف بأهلها في
تحصيل الأموال! فقال أبو محمد: ما دام هذا الشط بحاله، والنخل نابتا في منابته بحاله، ما تخرب واسط والبصرة أبدا.
ثم قال عليه السلام: إنما تؤتى الأرض "، أي إنما تدهى من إعواز أهلها أي من فقرهم.
قال: والموجب لإعوازهم طمع ولاتهم في الجباية وجمع الأموال لأنفسهم ولسلطانهم
وسوء ظنهم بالبقاء يحتمل أن يريد به أنهم يظنون طول البقاء وينسون الموت والزوال.
ويحتمل أن يريد به أنهم يتخيلون العزل والصرف، فينتهزون الفرص، ويقتطعون الأموال ولا ينظرون في عمارة البلاد.
* * *
.

(1) في د " نفوسهم "
73

[عهد سابور بن أردشير لابنه]
وقد وجدت في عهد سابور بن أردشير إلى ابنه كلاما يشابه كلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا العهد، وهو قوله:
واعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج، ودرور الخراج بعمارة البلاد وبلوغ الغاية في ذلك
استصلاح أهله بالعدل عليهم، والمعونة لهم، فان بعض الأمور لبعض سبب، وعوام
الناس لخواصهم عدة، وبكل صنف منهم إلى الاخر حاجة، فاختر لذلك أفضل من
تقدر عليه من كتابك، وليكونوا من أهل البصر والعفاف والكفاية، واسترسل إلى
كل امرئ منهم شخصا (1) يضطلع به ويمكنه تعجيل الفراغ منه، فإن اطلعت على أن
أحدا منهم خان أو تعدى فنكل به، وبالغ في عقوبته، واحذر أن تستعمل على الأرض
الكثير خراجها إلا البعيد الصوت، العظيم شرف المنزلة. ولا تولين أحدا من قواد جندك
الذين هم عده للحرب، وجنة من الأعداء، شيئا من أمر الخراج، فلعلك تهجم من
بعضهم على خيانة في المال، أو تضييع للعمل، فإن سوغته المال، وأغضيت له على
التضييع، كان ذلك هلاكا وإضرارا بك وبرعيتك، وداعية إلى فساد غيره، وإن
أنت كافأته فقد استفسدته، وأضقت (2) صدره، وهذا أمر توقيه حزم، والاقدام عليه
خرق والتقصير فيه عجز.
واعلم أن من أهل الخراج من يلجئ بعض أرضه وضياعه إلى خاصة الملك وبطانته، لأحد أمرين أنت، حرى بكراهتهما: إما لامتناع من جور العمال وظلم الولاة، وتلك
منزله يظهر بها سوء أثر العمال وضعف الملك وإخلاله بما تحت يده، وإما للدفع عما يلزمهم
.

(1) في د " شقصا ".
(2) في د " وأضغنت "
74

من الحق والتيسر له وهذه خلة تفسد بها آداب الرعية، وتنتقص بها أموال الملك،
فاحذر ذلك، وعاقب الملتجئين والملجأ إليهم.
* * *
ركب زياد يوما بالسوس يطوف بالضياع والزروع، فرأى عمارة حسنة، فتعجب منها،
فخاف أهلها أن يزيد في خراجهم، فلما نزل دعا وجوه البلد، وقال: بارك الله عليكم،
فقد أحسنتم العمارة، وقد وضعت عنكم مائة ألف درهم. ثم قال: ما توفر على من تهالك
غيرهم على العمارة وأمنهم جوري أضعاف ما وضعت عن هؤلاء الان، والذي وضعته بقدر
ما يحصل من ذاك، وثواب عموم العمارة وأمن الرعية أفضل ربح.
* * *
الأصل:
ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي
تدخل فيها مكايدك و أسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ممن لا تبطره
الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملا. ولا تقصر به الغفلة
عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، و إصدار جواباتها على الصواب عنك، وفيما
يأخذ لك ويعطى منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما
عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه
يكون بقدر غيره أجهل.
ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك.
75

فان الرجال يتعرضون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن حديثهم وليس وراء
ذلك من النصيحة والأمانة شئ، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك،
فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثرا، وأعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل
على نصيحتك لله، ولمن وليت أمراه.
واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم، لا يقهره كبيرها،
ولا يتشتت عليه كثيرها، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته.
* * *
[فصل فيما يجب على مصاحب الملك]
الشرح:
لما فرغ من أمر الخراج، شرع في أمر (1) الكتاب الذين يلون أمر الحضرة،
ويترسلون عنه إلى عماله وأمرائه، وإليهم معاقد التدبير وأمر الديوان، فأمره أن يتخير
الصالح منهم، ومن يوثق على الاطلاع على الاسرار والمكايد والحيل والتدبيرات.
ومن لا يبطره الاكرام والتقريب، فيطمع فيجترئ على مخالفته في ملا من الناس
والرد عليه، ففي ذلك من الوهن للأمير وسوء الأدب الذي انكشف الكاتب عنه
ما لا خفاء به.
قال الرشيد للكسائي: يا علي بن حمزة، قد أحللناك المحل الذي لم تكن تبلغه همتك،
فرونا من الاشعار أعفها، ومن الأحاديث أجمعها لمحاسن الأخلاق وذاكرنا بآداب
الفرس والهند، ولا تسرع علينا الرد في ملا، ولا تترك تثقيفنا في خلاء.
وفي آداب ابن المقفع: لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على
.

(1) في د " ذكر "
76

طاعتهم في المكروه عندك وموافقتهم فيما خالفك وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك،
فإن كنت حافظا إذا ولوك. حذرا إذا قربوك، أمينا إذا ائتمنوك، تعلمهم وكأنك تتعلم
منهم، وتأدبهم وكأنك تتأدب بهم، وتشكر لهم ولا تكلفهم الشكر، ذليلا إن صرموك، راضيا إن أسخطوك، وإلا فالبعد منهم كل البعد والحذر منهم كل الحذر، وإن
وجدت عن السلطان وصحبته غنى فاستغن عنه، فإنه من يخدم السلطان حق خدمته يخلى
بينه وبين لذة الدنيا وعمل الأخرى، ومن يخدمه غير حق الخدمة فقد احتمل وزر الآخرة،
وعرض نفسه للهلكة والفضيحة في الدنيا. فإذا صحبت السلطان فعليك بطول الملازمة
من غير إملال، وإذا نزلت منه بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثر له من الدعاء،
ولا تردن عليه كلاما في حفل وإن أخطأ، فإذا خلوت به فبصره في رفق، ولا يكونن طلبك
ما عنده بالمسألة، ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولا تخبرنه أن لك عليه حقا، وأنك تعتمد عليه
ببلاء، وإن استطعت ألا تنسى حقك وبلاءك بتجديد النصح والاجتهاد فافعل، ولا
تعطينه المجهود كله من نفسك في أول صحبتك له، وأعد موضعا للمزيد. وإذا سأل غيرك
عن شئ فلا تكن المجيب.
واعلم أن استلابك الكلام خفة فيك واستخفاف منك بالسائل والمسؤول، فما أنت قائل
إن قال لك السائل: ما إياك سألت، أو قال المسؤول: أجب بمجالسته ومحادثته أيها المعجب
بنفسه، والمستخف بسلطانه.
وقال عبد الملك بن صالح لمؤدب ولده بعد أن اختصه بمجالسته ومحادثته: يا عبد الله،
كن على التماس الحظ فيك بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام، فإنهم قالوا:
إذا أعجبك الكلام فاصمت وإذا أعجبك الصمت فتكلم. وأعلم أن أصعب الملوك معاملة
الجبار الفطن المتفقد،
فإن ابتليت بصحبته فاحترس، وإن عوفيت فاشكر الله على
السلامة، فإن السلامة أصل كل نعمه. لا تساعدني على ما يقبح بي. ولا تردن على
77

خطا في مجلس، ولا تكلفني جواب التشميت والتهنئة، ودع عنك: كيف أصبح الأمير،
وكيف أمسى! وكلمني بقدر ما أستنطقك، وأجعل بدل التقريظ لي صواب الاستماع منى.
وأعلم أن صواب الاستماع أحسن من صواب القول، فإذا سمعتني أتحدث فلا يفوتنك منه
شئ، وأنى فهمك إياه في طرفك ووجهك، فما ظنك بالملك وقد أحلك محل المعجب بما يسمعك إياه، وأحللته محل من لا يسمع منه! وكل من هذا يحبط إحسانك،
ويسقط حق حرمتك، ولا تستدع الزيادة من كلامي بما تظهر من استحسان ما يكون
منى، فمن أسوأ حالا ممن يستكد الملوك بالباطل، وذلك يدل على تهاونه بقدر ما أوجب
الله تعالى من حقهم. واعلم أنى جعلتك مؤدبا، بعد أن كنت معلما، وجعلتك جليسا
مقربا بعد أن كنت مع الصبيان مباعدا، فمتى لم تعرف نقصان ما خرجت منه،
لم تعرف رجحان ما دخلت فيه، وقد قالوا: من لم يعرف سوء ما أولى، لم يعرف
حسن ما أبلى.
* * *
ثم قال عليه السلام: وليكن كاتبك غير مقصر عن عرض مكتوبات عمالك عليك،
والإجابة عنها حسن الوكالة والنيابة عنك فيما يحتج به لك عليهم من مكتوباتهم، وما
يصدره عنك إليهم من الأجوبة فإن عقد لك عقدا قواه وأحكمه، وإن عقد عليك عقدا
اجتهد في نقضه وحلة. قال: وأن يكون عارفا بنفسه، فمن لم يعرف قدر نفسه لم يعرف
قدر غيره.
ثم نهاه أن يكون مستند اختياره لهؤلاء فراسته فيهم، وغلبة ظنه بأحوالهم، فإن
التدليس ينم في ذلك كثيرا، وما زال الكتاب يتصنعون للأمراء بحسن الظاهر، وليس
وراء ذلك كثير طائل في النصيحة، والمعرفة، ولكن ينبغي أن يرجع في ذلك إلى ما حكمت
78

به التجربة لهم، وما ولوه من قبل، فإن كانت ولايتهم وكتابتهم حسنة مشكورة فهم هم،
وإلا فلا، ويتعرفون لفراسات الولاة، يجعلون أنفسهم بحيث يعرف بضروب من التصنع،
وروى: " يتعرضون ".
ثم أمره أن يقسم فنون الكتابة وضروبها بينهم نحو أن يكون أحدهم للرسائل إلى
الأطراف والأعداء، والاخر لأجوبة عمال السواد، والآخرة بحضرة الأمير في خاصته وداره، وحاشيته وثقاته.
ثم ذكر له أنه مأخوذ مع الله تعالى بما يتغابى عنه، ويتغافل من عيوب كتابه، فإن
الدين لا يبيح الاغضاء والغفلة عن الأعوان والخول، ويوجب التطلع عليهم.
* * *
[فصل في الكتاب وما يلزمهم من الآداب]
واعلم أن الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين عليه السلام إليه هو الذي يسمى الان في
الاصطلاح العرفي وزيرا، لأنه صاحب تدبير حضره الأمير، والنائب عنه في أموره، وإليه تصل مكتوبات العمال وعنه تصدر الأجوبة، وإليه العرض على الأمير، وهو المستدرك
على العمال، والمهيمن عليهم، وهو على الحقيقة كاتب الكتاب ولهذا يسمونه:
الكاتب المطلق.
وكان يقال: للكاتب على الملك ثلاث: رفع الحجاب عنه، واتهام الوشاة عليه،
وإفشاء السر إليه.
وكان يقال: صاحب السلطان نصفه، وكاتبه كله وينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل
الجلوس، ويديم العبوس، ويستخف بالشفاعات.
79

وكان يقال إذا كان الملك ضعيفا، والوزير شرها، والقاضي جائرا، فرقوا الملك
شعاعا.
وكان يقال: لا تخف صولة الأمير مع رضا الكاتب، ولا تثقن برضا الأمير مع سخط
الكاتب، وأخذ هذا المعنى أبو الفضل بن العميد فقال:
وزعمت أنك لست تفكر بعد ما * علقت يداك بذمه الامراء
هيهات قد كذبتك فكرتك التي * قد أوهمتك غنى عن الوزراء
لم تغن عن أحد سماء لم تجد * أرضا ولا أرض بغير سماء.
وكان يقال: إذا لم يشرف الملك على أموره، صار أغش الناس إليه وزيره.
وكان يقال: ليس الحرب الغشوم بأسرع في اجتياح (1) الملك من تضييع مراتب الكتاب
حتى يصيبها أهل النذالة، ويزهد فيها أولو الفضل.
[فصل في ذكر ما نصحت به الأوائل الوزراء]
وكان يقال: لا شئ أذهب بالدول من استكفاء الملك الاسرار.
وكان يقال: من سعادة جد المرء ألا يكون في الزمان المختلط وزيرا للسلطان.
وكان يقال: كما أن أشجع الرجال يحتاج إلى السلاح، وأسبق الخيل يحتاج إلى
السوط، وأحد الشفار يحتاج إلى المسن، كذلك أحزم الملوك وأعقلهم يحتاج إلى
الوزير الصالح.
وكان يقال: صلاح الدنيا بصلاح الملوك، وصلاح الملوك بصلاح الوزراء،
.

(1) اجتياح الملك: الذهاب به
80

وكما لا يصلح الملك إلا بمن يستحق الملك، كذلك لا تصلح الوزارة إلا بمن
يستحق الوزارة.
وكان يقال: الوزير الصالح لا يرى أن صلاحه في نفسه كائن صلاحا حتى يتصل
بصلاح الملك وصلاح رعيته، وأن تكون عنايته فيما عطف الملك على رعيته، وفيما استعطف
قلوب الرعية والعامة على الطاعة للملك، وفيما فيه قوام أمر الملك من التدبير الحسن،
حتى يجمع إلى أخذ الحق تقديم عموم الامن. وإذا طرقت الحوادث، كان للملك عدة
وعتادا، وللرعية كافيا محتاطا، ومن ورائها محاميا ذابا، يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من
صلاح نفسه دونها.
وكان يقال: مثل الملك الصالح إذا كان وزيره فاسدا مثل الماء العذب الصافي
وفيه التمساح، لا يستطيع الانسان - وإن كان سابحا، وإلى الماء ظامئا - دخوله، حذرا
على نفسه.
قال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظي حين استخلف: لو كنت كاتبي وردءا
لي على ما دفعت إليه! قال: لا أفعل، ولكني سأرشدك، أسرع الاستماع، وأبطئ في
التصديق حتى يأتيك واضح البرهان، ولا تعملن ثبجتك فيما تكتفي فيه بلسانك،
ولا سوطك فيما تكتفي فيه بثبجتك، ولا سيفك فيما تكتفي فيه بسوطك.
وكان يقال: التقاط الكاتب للرشا وضبط الملك لا يجتمعان.
وقال أبرويز لكاتبه: اكتم السر، وأصدق الحديث، واجتهد في النصيحة،
وعليك بالحذر، فإن لك على ألا أعجل عليك حتى أستأني لك، ولا أقبل فيك قولا
حتى أستيقن، ولا أطمع فيك أحدا فتغتال، واعلم أنك بمنجاة (1) رفعة فلا تحطنها، وفي
.

(1) المنجاة: ما ارتفع من الأرض
81

ظل مملكة فلا تستزيلنه. قارب الناس مجاملة من نفسك، وباعدهم مسامحة عن عدوك،
واقصد إلى الجميل ازدراعا لغدك، وتنزه بالعفاف صونا لمروءتك، وتحسن عندي
بما قدرت عليه. احذر لا تسرعن الألسنة عليك، ولا تقبحن الأحدوثة عنك، وصن
نفسك صون الدرة الصافية، وأخلصها إخلاص الفضة البيضاء، وعاتبها معاتبة الحذر
المشفق، وحصنها تحصين المدينة المنيعة، لا تدعن أن ترفع إلى الصغير فإنه يدل على (1) الكبير، ولا تكتمن عنى الكبير فإنه ليس بشاغل عن الصغير. هذب أمورك ثم القنى
بها، وأحكم أمرك ثم راجعني فيه، ولا تجترئن على فامتعض، ولا تنقبضن منى
فأتهم، ولا تمرضن ما تلقاني به ولا تخدجنه (2)، وإذا أفكرت فلا تجعل، وإذا كتبت فلا تعذر، ولا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية، ولا تقصرن عن
التحقيق فإنها هجنة بالمقالة، ولا تلبس كلاما بكلام، ولا تبعدن معنى عن معنى.
وأكرم لي كتابك عن ثلاث: خضوع يستخفه، وانتشار يهجنه، ومعان تعقد به. واجمع
الكثير مما تريد في القليل مما تقول وليكن بسطة كلامك على كلام السوقة كبسطة الملك
الذي تحدثه على الملوك. لا يكن ما نلته عظيما، وما تتكلم به صغيرا، فإنما كلام الكاتب
على مقدار الملك، فاجعله عاليا كعلوه، وفائقا كتفوقه، فإنما جماع الكلام كله خصال
أربع: سؤالك الشئ، وسؤالك عن الشئ وأمرك بالشئ وخبرك عن الشئ، فهذه
الخصال دعائم المقالات، إن التمس إليها خامس لم يوجد، وإن نقص منها واحد لم يتم،
فإذا أمرت فأحكم، وإذا سألت فأوضح، وإذا طلبت فأسمح، وإذا أخبرت فحقق، فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بجراثيم القول كله، فلم يشتبه عليك واردة، ولم تعجزك
صادره. أثبت في دواوينك ما أخذت، وأحص فيها ما أخرجت، وتيقظ لما تعطى،
وتجرد لما تأخذ ولا يغلبنك النسيان عن الإحصاء، ولا الأناة عن التقدم، ولا تخرجن
.

(1) كذا في ا، وهو الوجه، وفى ب: " عن الكبير ".
(2) التمريض: التوهين، والتخديج: أن تأتى بالشئ ناقصا
82

وزن قيراط في غير حق، ولا تعظمن إخراج الألوف الكثيرة في الحق، وليكن ذلك كله
عن مؤامرتي.
* * *
الأصل:
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيرا، المقيم منهم
والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق،
وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث
لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته،
وصلح لا تخشى غائلته.
وتفقد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك. واعلم - مع ذلك - أن في
كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات،
وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل
، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكره بعد
نهيك إياه فنكل به، وعاقبه من غير إسراف.
* * *
الشرح:
خرج عليه السلام الان إلى ذكر التجار وذوي الصناعات، وأمره (1) بأن يعمل معهم
الخير، وأن يوصى غيره من أمرائه وعماله أن يعملوا معهم الخير، واستوص بمعنى " أوص "
.

(1) ا، ب: " أمره "، بدون واو
83

نحو قر في المكان واستقر، وعلا قرنه واستعلاه.
وقوله: " استوص بالتجار خيرا "، أي أوص نفسك بذلك، ومنه قول النبي
صلى الله عليه وآله: " استوصوا بالنساء خيرا "، ومفعولا " استوص وأوص " هاهنا
محذوفان للعلم بهما، ويجوز أن يكون " استوص " أي اقبل الوصية منى بهم، وأوص
بهم أنت غيرك.
ثم قسم عليه السلام الموصى بهم ثلاثة أقسام: اثنان منها للتجار (1)، وهما المقيم،
والمضطرب، يعنى المسافر، والضرب: السير في الأرض، قال تعالى: (إذا ضربتم في
الأرض (2)، وواحد لأرباب الصناعات، وهو قوله: " والمترفق ببدنه "،
وروى " بيديه "، تثنية يد.
والمطارح: الأماكن البعيدة.
وحيث لا يلتئم الناس: لا يجتمعون، وروى " حيث لا يلتئم " بحذف الواو.
ثم قال: " فإنهم أولو سلم "، يعنى التجار والصناع، استعطفه عليهم،
واستماله إليهم.
وقال: ليسوا كعمال الخراج وأمراء الأجناد، فجانبهم ينبغي أن يراعى، وحالهم
يجب أن يحاط ويحمى، إذ لا يتخوف منهم بائقة لا في مال يخونون فيه، ولا في دولة
يفسدونها. وحواشي البلاد: أطرافها.
ثم قال له: قد يكون في كثير منهم نوع من الشح والبخل فيدعوهم ذلك إلى
الاحتكار في الأقوات، والحيف في البياعات، والاحتكار (3): ابتياع الغلات في أيام
.

(1) د: " التجار ".
(2) سورة النساء 101.
(3) د: " فالاحتكار "
84

رخصها، وادخارها في المخازن (1) إلى أيام الغلاء والقحط. والحيف: تطفيف في الوزن
والكيل، وزيادة في السعر (2)، وهو الذي عبر عنه بالتحكم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله
عن الاحتكار، وأما التطفيف وزيادة التسعير فمنهي عنهما في نص الكتاب (3).
وقارف حكرة: واقعها، والحاء مضمومة، وأمره أن يؤدب فاعل ذلك من غير
إسراف، وذلك أنه دون المعاصي التي توجب الحدود، فغاية أمره من التعزير الإهانة والمنع.
* * *
الأصل:
ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين
وأهل البؤسى والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا.
واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم. واجعل لهم قسما من بيت مالك،
وقسما من غلات صوافي الاسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى،
وكل قد استرعيت حقه.
ولا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييع التافه لأحكامك الكثير
المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم. وتفقد أمور من لا يصل
إليك منهم، ممن تقتحمه العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك
من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم.
ثم اعمل فيهم بالاعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية
أحوج إلى الانصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأديه حقه إليه.
.

(1) د: " المحارز ".
(2) د: " التفسير ".
(3) وهو قوله تعالى: (ويل للمطففين)
85

وتعهد أهل اليتم، وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة
نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام
طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم.
* * *
الشرح:
انتقل من التجار وأرباب الصناعات إلى ذكر فقراء الرعية ومغموريها، فقال:
وأهل البؤسى، وهي البؤس كالنعمى للنعيم، والزمني أولو الزمانة.
والقانع: السائل، والمعتر: الذي يعرض لك ولا يسألك، وهما من ألفاظ الكتاب
العزيز (1).
وأمره أن يعطيهم من بيت مال المسلمين لأنهم من الأصناف المذكورين في قوله تعالى:
(واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل) (2)، وأن يعطيهم من غلات صوافي الاسلام - وهي الأرضون
التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب - وكانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وآله،
فلما قبض صارت لفقراء المسلمين، ولما يراه الامام من مصالح الاسلام.
ثم قال له: " فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى "، أي كل فقراء المسلمين سواء
في سهامهم، ليس فيها أقصى وأدنى، أي لا تؤثر من هو قريب إليك أو إلى أحد
من خاصتك على من هو بعيد ليس له سبب إليك، ولا علقة بينه وبينك، ويمكن
أن يريد به: لا تصرف غلات ما كان من الصوافي في بعض البلاد إلى مساكين ذلك
.

(1) وهو قوله تعالى في سورة الحج 36: (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر).
(2) سورة الأنفال 41
86

البلد خاصة، فإن حق البعيد عن ذلك البلد فيها كمثل حق المقيم في ذلك البلد.
والتافه: الحقير. وأشخصت زيدا من موضع كذا، أخرجته عنه. وفلان يصعر خده
للناس، أي يتكبر عليهم.
وتقتحمه العيون: تزدريه. وتحتقره والاعذار إلى الله: الاجتهاد والمبالغة في تأدية حقه
والقيام بفرائضه.
* * *
كان بعض الأكاسرة يجلس للمظالم بنفسه، ولا يثق إلى غيره، ويقعد بحيث يسمع
الصوت، فإذا سمعه أدخل المتظلم فأصيب بصمم في سمعه فنادى مناديه، أن الملك يقول:
أيها الرعية إني إن أصبت بصمم في سمعي فلم أصب في بصري، كل ذي ظلامة فليلبس ثوبا
أحمر، ثم جلس لهم في مستشرف له.
وكان لأمير المؤمنين عليه السلام بيت سماه بيت القصص، يلقى الناس فيه رقاعهم،
وكذلك كان فعل المهدى محمد بن هارون الواثق، من خلفا بنى العباس.
* * *
الأصل:
واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا
عاما، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول في غير موطن: " لن تقدس أمه لا يؤخذ للضعيف فيها حقه
من القوى غير متتعتع ".
87

ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والأنف، يبسط الله عليك
بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته. وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع
في إجمال وإعذار.
ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها، منها إجابة عمالك بما يعيا عنه
كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك بما تحرج به صدور
أعوانك. وأمض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه.
* * *
الشرح:
هذا الفصل من تتمة ما قبله، وقد روى: " حتى يكلمك مكلمهم "، فاعل من " كلم "
والرواية الأولى الأحسن.
. وغير متتعتع: غير مزعج ولا مقلق.
والمتتعتع في الخبر النبوي: المتردد المضطرب كلامه عيا من خوف لحقه، وهو
راجع إلى المعنى الأول.
والخرق:
الجهل. وروى: " ثم احتمل الخرق منهم والغي ". والغي وهو الجهل
أيضا، والرواية الأولى أحسن.
ثم بين له عليه السلام أنه لا بد له من هذا المجلس لأمر آخر غير ما قدمه عليه السلام وذلك لأنه لابد من أن يكون في حاجات الناس ما يضيق به صدور أعوانه، والنواب
عنه، فيتعين عليه أن يباشرها بنفسه، ولا بد من أن يكون في كتب عماله الواردة عليه
88

ما يعيا كتابه عن جوابه، فيجيب عنه بعلمه. ويدخل في ذلك أن يكون فيها ما لا يجوز
في حكم السياسة ومصلحة الولاية أن يطلع الكتاب عليه، فيجيب أيضا عن ذلك
بعلمه.
ثم قال له: لا تدخل عمل يوم في عمل يوم آخر فيتعبك ويكدرك، فإن لكل يوم
ما فيه من العمل.
* * *
الأصل:
واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله تعالى أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك
الأقسام، وأن كانت كلها لله، إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية.
وليكن في خاصته ما تخلص به لله دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة،
فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به إلى الله سبحانه من
ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص، بالغا من بدنك ما بلغ.
وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مضيعا، فإن في الناس
من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلى بهم؟ فقال: " صل بهم كصلاة أضعفهم،
وكن بالمؤمنين رحيما ".
* * *
الشرح:
لما فرغ عليه السلام من وصيته بأمور رعيته، شرع في وصيته بأداء الفرائض التي
89

افترضها الله عليه من عبادته، ولقد أحسن عليه السلام في قوله: وإن كانت كلها لله "،
أي أن النظر في أمور الرعية مع صحة النية وسلامة الناس من الظلم من جملة العبادات
والفرائض أيضا.
ثم قال له: " كاملا غير مثلوم "، أي لا يحملنك شغل السلطان على أن تختصر
الصلاة اختصارا بل صلها بفرائضها وسننها وشعائرها في نهارك وليلك، وإن أتعبك ذلك
ونال من بدنك وقوتك.
ثم أمره إذا صلى بالناس جماعة ألا يطيل فينفرهم عنها، وألا يخدج الصلاة وينقصها
فيضيعها (1).
ثم روى خبرا عن النبي صلى الله عليه وآله، وهو قوله عليه السلام له: " صل بهم
كصلاة أضعفهم "، وقوله: " وكن بالمؤمنين رحيما " يحتمل أن يكون من تتمة الخبر
النبوي، ويحتمل أن يكون من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، والظاهر أنه من كلام
أمير المؤمنين من الوصية للأشتر، لان اللفظة الأولى عند أرباب الحديث هي المشهور
في الخبر.
* * *
الأصل:
وأما بعد هذا، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن
الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم
علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير ويقبح الحسن،
ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه
الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من
.

(1) د: " فيضعفها "
90

الكذب، وإنما أنت أحد رجلين إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم
احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه! أو مبتلى بالمنع فما
أسرع كف الناس عن مسألتك، إذا أيسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات
الناس إليك ما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف
في معاملة.
* * *
الشرح:
نهاه عن الاحتجاب فإنه مظنة انطواء الأمور عنه، وإذا رفع الحجاب دخل عليه
كل أحد فعرف الاخبار، ولم يخف عليه شئ من أحوال عمله.
ثم قال: لم تحتجب، فإن أكثر الناس يحتجبون كيلا يطلب منهم الرفد!
وأنت فإن كنت جوادا سمحا لم يكن لك إلى الحجاب داع، وإن كنت ممسكا فسيعلم
الناس ذلك منك، فلا يسألك أحد شيئا.
ثم قال: على أن أكثر ما يسأل منك ما لا مؤونة عليه في ماله، كرد ظلامة أو إنصاف
من خصم.
* * *
[ذكر الحجاب وما ورد فيه من الخبر والشعر]
والقول في الحجاب كثير:
حضر باب عمر جماعة من الاشراف: منهم سهيل بن عمرو وعيينة بن حصن والأقرع
ابن حابس، فحجبوا، ثم خرج الاذن فنادى: أين عمار؟ أين سلمان؟ أين صهيب؟
91

فأدخلهم فتمعرت (1) وجوه القوم، فقال سهيل بن عمرو: لم تتمعر وجوهكم! دعوا ودعينا
فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر اليوم لأنتم غدا لهم (2) أحسد.
واستأذن أبو سفيان على عثمان فحجبه، فقيل له: حجبك! فقال: لا عدمت من أهلي
من إذا شاء حجبني.
وحجب معاوية أبا الدرداء؟ فقيل لأبي الدرداء: حجبك معاوية! فقال: من يغش
أبواب الملوك يهن ويكرم، ومن صادف بابا مغلقا عليه وجد إلى جانبه بابا مفتوحا، إن سأل أعطى، وإن دعا أجيب، وإن يكن معاوية قد احتجب فرب معاوية
لم يحتجب.
وقال أبرويز لحاجبة: لا تضعن شريفا بصعوبة حجاب، ولا ترفعن وضيعا بسهولته،
ضع الرجال مواضع أخطارهم، فمن كان قديما شرفه ثم ازدرعه (3) ولم يهدمه بعد آبائه
فقدمه على شرفه الأول، وحسن رأيه الاخر، ومن كان له شرف متقدم ولم يصن ذلك
حياطة له، ولم يزدرعه تثمير المغارسة، فألحق بآبائه من رفعة حاله ما يقتضيه سابق شرفهم،
وألحق به في خاصته ما ألحق بنفسه، ولا تأذن له إلا دبريا وإلا سرارا، ولا تلحقه بطبقة
الأولين. وإذا ورد كتاب عامل من عمالي فلا تحبسه عنى طرفه عين إلا أن أكون على
حال لا تستطيع الوصول إلى فيها، وإذا أتاك من يدعى النصيحة لنا فلتكتبها سرا ثم
أدخله بعد أن تستأذن له، حتى إذا كان منى بحيث أراه فادفع إلى كتابه، فان أحمدت
قبلت، وإن كرهت رفضت. وإن أتاك عالم مشتهر بالعلم والفضل يستأذن، فأذن له، فإن
العلم شريف وشريف صاحبه، ولا تحجبن عنى أحدا من أفناء الناس، إذا أخذت مجلسي
مجلس العامة، فإن الملك لا يحجب إلا عن ثلاث: عي يكره أن يطلع عليه منه،
أو بخل يكره أن يدخل عليه من يسأله، أو ريبة هو مصر عليها فيشفق من إبدائها،
.

(1) تمعرت وجوههم: تغيرت غيظا وحنقا.
(2) ساقطة من د.
(3) ازدرعه: أثبته
92

ووقوف الناس عليها ولا بد أن يحيطوا بها علما، وإن اجتهد في سترها. وقد أخذ هذا
المعنى الأخير محمود الوراق فقال:
إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه * ورد ذوي الحاجات دون حجابه
ظننت به إحدى ثلاث وربما * رجمت بظن واقع بصوابه
أقول به مس من العي ظاهر * ففي إذنه للناس إظهار ما به
فإن لم يكن عي اللسان فغالب * من البخل يحمى ماله عن طلابه
وإن لم يكن لا ذا ولا ذا فريبة * يكتمها مستورة بثيابه.
أقام عبد العزيز بن زرارة الكلابي على باب معاوية سنة في شملة من صوف لا يأذن له:
ثم أذن له وقربه وأدناه، ولطف محله عنده حتى ولاه مصر، فكان يقال: استأذن أقوام
لعبد العزيز بن زرارة، ثم صار يستأذن لهم، وقال في ذلك:
دخلت على معاوية بن حرب * ولكن بعد يأس من دخول
وما نلت الدخول عليه حتى * حللت محلة الرجل الذليل
وأغضيت الجفون على قذاها * ولم أنظر إلى قال وقيل
وأدركت الذي أملت منه * وحرمان المنى زاد العجول
ويقال: إنه قال له لما دخل عليه أمير المؤمنين: دخلت إليك بالأمل، واحتملت
جفوتك بالصبر، ورأيت ببابك أقواما قدمهم الحظ وآخرين أخرهم الحرمان، فليس
ينبغي للمقدم أن يأمن عواقب الأيام، ولا للمؤخر أن ييئس من عطف الزمان.
وأول المعرفة الاختبار، فابل واختبر إن رأيت. وكان يقال: لم يلزم باب السلطان
أحد فصبر على ذل الحجاب، وكلام البواب، وألقى الانف، وحمل الضيم، وأدام
الملازمة إلا وصل إلى حاجته أو إلى معظمها.
93

قال عبد الملك لحاجبه: إنك عين أنظر بها، وجنة أستلئم بها، وقد وليتك ما وراء
بأبي، فماذا تراك صانعا برعيتي؟ قال: أنظر إليهم بعينك، وأحملهم على قدر منازلهم عندك،
وأضعهم في إبطائهم عن بابك، ولزوم خدمتك مواضع استحقاقهم، وأرتبهم حيث وضعهم
ترتيبك، وأحسن إبلاغهم عنك وإبلاغك عنهم. قال: لقد وفيت بما عليك، ولكن إن
صدقت ذلك بفعلك. وقال دعبل وقد حجب عن باب مالك بن طوق:
لعمري لئن حجبتني العبيد * لما حجبت دونك القافيه (1)
سأرمي بها من وراء الحجاب * شنعاء تأتيك بالداهية
تصم السميع، وتعمي البصير * ويسأل من مثلها العافية
وقال آخر:
سأترك هذا الباب ما دام اذنه * على ما أرى حتى يلين قليلا
فما خاب من لم يأته مترفعا * ولا فاز من قد رام فيه دخولا
إذا لم نجد للاذن عندك موضعا * وجدنا إلى ترك المجئ سبيلا.
وكتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف الكاتب وقد حجبه:
وإن عدت بعد اليوم إني لظالم * سأصرف وجهي حيث تبغى المكارم
متى يفلح الغادي إليك لحاجة * ونصفك محجوب، نصفك نائم!
يعنى ليله ونهاره.
استأذن رجلان على معاوية، فأذن لأحدهما - وكان أشرف منزلة من الاخر - ثم
أذن للآخر فدخل، فجلس فوق الأول، فقال معاوية: إن الله قد ألزمنا تأديبكم
.

(1) ديوانه 212، ونقلها عن ابن أبي الحديد (النجف 1962)
94

كما ألزمنا رعايتكم، وإنا لم نأذن له قبلك، ونحن نريد أن يكون مجلسه دونك، فقم
لا أقام الله لك وزنا. وقال بشار:
تأبى خلائق خالد وفعاله * إلا تجنب كل أمر عائب
وإذا أتينا الباب وقت غدائه * أدنى الغداء لنا برغم الحاجب.
وقال آخر يهجو:
يا أميرا على جريب من الأرض * له تسعة من الحجاب
قاعد في الخراب يحجب عنا * ما سمعنا بحاجب في خراب.
وكتب بعضهم إلى جعفر بن محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب:
أبا جعفر إن الولاية أن تكن * منبلة قوسا فأنت لها نبل
فلا ترتفع عنا لأمر وليته * كما لم يصغر عندنا شأنك العزل.
ومن جيد ما مدح به بشر بن مروان قول القائل:
بعيد مراد الطرف ما رد طرفه * حذار الغواشي باب دار ولا ستر
ولو شاء بشر كان من دون بابه * طماطم سود أو صقالبة حمر (1)
ولكن بشرا يستر الباب للتي * يكون لها في غبها الحمد والاجر.
وقال بشار: خليلي من كعب أعينا أخاكما * على دهره إن الكريم يعين
ولا تبخلا بخل ابن قرعة إنه * مخافة أن يرجى نداه حزين
إذا جئته للعرف أغلق بابه * فلم تلقه إلا وأنت كمين
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا * وفى كل معروف عليك يمين!
.

(1) الطماطم: الأعاجم
95

وقال إبراهيم بن هرمة:
هش إذا نزل الوفود ببابه * سهل الحجاب مؤدب الخدام (1)
وإذا رأيت صديقه وشقيقه * لم تدر أيهما ذوي الأرحام.
وقال آخر:
وإني لأستحي الكريم إذا أتى * على طمع عند اللئيم يطالبه
وأرثي له من مجلس عند بابه * كمرثيتي للطرف والعلج راكبه.
وقال عبد الله بن محمد بن عيينة:
أتيتك زائرا لقضاء حق * فحال الستر دونك والحجاب
ورأيي مذهب عن كل ناء * يجانبه إذا عز الذهاب
ولست بساقط في قدر قوم * وإن كرهوا كما يقع الذباب.
وقال آخر:
ما ضاقت الأرض على راغب * تطلب الرزق ولا راهب
بل ضاقت الأرض على شاعر * أصبح يشكو جفوة الحاجب
قد شتم الحاجب في شعره * وإنما يقصد للصاحب
* * *
الأصل:
ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة،
فاحسم مئونة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك
وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن
يليها من الناس في
.

(1) المحاسن والمساوي 1: 264
96

شرب أو عمل مشترك، يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنا ذلك لهم
دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة.
وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا،
واقعا ذلك من قرابتك وخواصك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه،
فإن مغبة ذلك محمودة.
وإن ظنت الرعية بك حيفا، فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم
بإصحارك، فإن في ذلك إعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.
* * *
الشرح:
نهاه عليه السلام عن أن يحمل أقاربه وحاشيته وخواصه على رقاب الناس، وأن
يمكنهم من الاستئثار عليهم والتطاول والإذلال ونهاه من أن يقطع أحدا منهم قطيعة،
أو يملكه ضيعة تضر بمن يجاورها من السادة والدهاقين (1) في شرب يتغلبون على الماء
منه، أو ضياع يضيفونها إلى ما ملكهم إياه، وإعفاء لهم من مؤنة، أو حفر وغيره،
فيعفيهم الولاة منه مراقبة لهم، فيكون مؤنة ذلك الواجب عليهم قد أسقطت عنهم، وحمل ثقلها على غيرهم.
ثم قال عليه السلام: لان منفعة ذلك في الدنيا تكون لهم دونك، والوزر في الآخرة
عليك، والعيب والذم في الدنيا أيضا لاحقان بك.
ثم قال له: إن اتهمتك الرعية بحيف عليهم، أو ظنت بك جورا، فاذكر لهم عذرك
.

(1) الدهاقين: جمع دهقان، وهو من ألقاب الرؤساء في الأعاجم
97

في ذلك، وما عندك ظاهرا غير مستور، فإنه الأولى والأقرب إلى استقامتهم لك
على الحق.
وأصحرت بكذا، أي كشفته، مأخوذ من الإصحار، وهو الخروج إلى الصحراء.
وحامة الرجل: أقاربه وبطانته. واعتقدت عقدة، أي ادخرت ذخيرة. والمهنأ مصدر
هنأه كذا. ومغبة الشئ عاقبته.
واعدل عنك ظنونهم: نحها. والإعذار: إقامة العذر.
* * *
[طرف من أخبار عمر بن عبد العزيز ونزاهته في خلافته]
رد عمر بن عبد العزيز المظالم التي احتقبها (1) بنو مروان فأبغضوه وذموه، وقيل:
إنهم سموه فمات.
وروى الزبير بن بكار في " الموفقيات " أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز
دخل على أبيه يوما وهو في قائلته، فأيقظه. وقال له: ما يؤمنك أن تؤتى في منامك
وقد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها! فقال: يا بنى إن نفسي مطيتي إن لم أرفق بها
لم تبلغني، إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يكن ذلك إلا قليلا حتى أسقط ويسقطوا،
وإني لأحتسب في نومتي من الاجر مثل الذي أحتسب في يقظتي، إن الله جل ثناؤه
لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، ولكنه أنزل الآية والآيتين حتى استكثر (2) الايمان
في قلوبهم.
ثم قال: يا بنى مما أنا فيه أمر هو أهم إلى أهل بيتك، هم أهل العدة والعدد، وقبلهم
ما قبلهم، فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشارهم على، ولكني أنصف من الرجل
.

(1) يقال احتقب فلان الاثم، كأنه جمعه واحتقبه من خلفه.
(2) د: " استكبر "
98

والاثنين، فيبلغ ذلك من وراءهما، فيكون أنجع له، فإن يرد الله إتمام هذا الامر أتمه، وإن تكن الأخرى فحسب عبد أن يعلم الله منه أنه يحب أن ينصف جميع رعيته.
وروى جويرية بن أسماء، عن إسماعيل بن أبي حكيم، قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز،
فلما تفرقنا نادى مناديه: الصلاة جامعة! فجئت المسجد، فإذا عمر على المنبر، فحمد الله
وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن هؤلاء - يعنى خلفاء بنى أمية قبله - قد كانوا أعطونا
عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها منهم، وما كان ينبغي لهم أن يعطوناها، وإني قد رأيت
الان أنه ليس على في ذلك دون الله حسيب، وقد بدأت بنفسي والأقربين من أهل بيتي،
اقرأ يا مزاحم، فجعل مزاحم يقرأ كتابا فيه الإقطاعات بالضياع والنواحي، ثم يأخذه عمر
بيده فيقصه بالجلم (1)، لم يزل كذلك حتى نودي بالظهر.
وروى الفرات بن السائب، قال: كان عند فاطمة بنت عبد الملك بن مروان جوهر جليل،
وهبها أبوها، ولم يكن لأحد مثله، وكانت تحت عمر بن عبد العزيز، فلما ولى الخلافة قال
لها: اختاري، إما أن تردى جوهرك وحليك إلى بيت مال المسلمين، وإما أن تأذني لي في
فراقك، فإني أكره أن أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد. فقالت بل أختارك عليه
وعلى أضعافه لو كان لي، وأمرت به فحمل إلى بيت المال فلما، هلك عمر واستخلف يزيد
ابن عبد الملك قال لفاطمة أخته: إن شئت رددته عليك، قالت: فإني لا أشاء ذلك، طبت
عنه نفسا في حياة عمر، وأرجع فيه بعد موته! لا والله أبدا. فلما رأى يزيد ذلك قسمه بين
ولده وأهله.
وروى سهيل بن يحيى المروزي عن أبيه عن عبد العزيز، عن عمر بن عبد العزيز،
قال: لما دفن سليمان صعد عمر على المنبر فقال: إني قد خلعت ما في رقبتي من بيعتكم.
فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك، فنزل ودخل وأمر بالستور فهتكت،
.

(1) الجلم: المقص
99

والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت إلى بيت المال، ثم خرج ونادى مناديه: من
كانت له مظلمة من بعيد أو قريب من أمير المؤمنين فليحضر فقام، رجل ذمي من أهل حمص
أبيض الرأس واللحية، فقال: أسألك كتاب! الله قال: ما شأنك؟ قال: العباس بن الوليد
ابن عبد الملك اغتصبني ضيعتي - والعباس جالس - فقال عمر: ما تقول يا عباس؟ قال:
أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد، وكتب لي بها سجلا. فقال عمر: ما تقول أنت أيها الذمي؟
قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله! فقال عمر: إيها لعمري إن كتاب الله لاحق أن
يتبع من كتاب الوليد، أردد عليه يا عباس ضيعته، فجعل لا يدع شيئا مما كان في أيدي
أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة.
وروى ميمون بن مهران، قال: بعث إلى عمر بن عبد العزيز وإلى مكحول وأبى قلابة
فقال: ما ترون في هذه الأموال التي أخذها أهلي من الناس ظلما؟ فقال مكحول قولا
ضعيفا كرهه عمر، فقال: أرى أن تستأنف وتدع ما مضى، فنظر إلى عمر كالمستغيث بي،
فقلت: يا أمير المؤمنين، أحضر ولدك عبد الملك لننظر ما يقول، فحضر، فقال: ما تقول
يا عبد الملك؟ فقال: ماذا أقول؟ ألست تعرف مواضعها! قال: بلى والله، قال: فارددها،
فإن لم تفعل كنت شريكا لمن أخذها.
وروى ابن درستويه، عن يعقوب بن سفيان، عن جويرية بن أسماء، قال: كان بيد
عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة ضيعته المعروفة بالسهلة، وكانت باليمامة. وكانت أمرا عظيما لها غلة
عظيمة كثيرة، إنما عيشه وعيش أهله منها، فلما ولى الخلافة قال لمزاحم مولاه -
وكان فاضلا -: إني قد عزمت أن أرد السهلة إلى بيت مال المسلمين، فقال مزاحم: أتدري
كم ولدك؟ إنهم كذا وكذا قال فذرفت عيناه، فجعل يستدمع ويمسح الدمعة بأصبعه
الوسطى، ويقول أكلهم إلى الله أكلهم إلى الله! فمضى مزاحم فدخل على عبد الملك
ابن عمر، فقال له: ألا تعلم ما قد عزم عليه أبوك! إنه يريد أن يرد السهلة، قال: فما قلت
100

له؟ قال: ذكرت له ولده فجعل يستدمع ويقول: أكلهم إلى الله. فقال عبد الملك:
بئس وزير الدين أنت! ثم وثب و انطلق إلى أبيه فقال للاذن: استأذن لي عليه، فقال:
إنه قد وضع رأسه الساعة للقائلة، فقال: استأذن لي عليه، فقال: أما ترحمونه! ليس له
من الليل والنهار إلا هذه الساعة. قال: استأذن لي عليه لا أم لك! فسمع عمر كلامهما،
فقال: ائذن لعبد الملك، فدخل فقال: على ما ذا عزمت؟ قال: أرد السهلة قال: فلا تؤخر
ذلك قم الان. قال: فجعل عمر يرفع يديه ويقول: الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من
يعينني على أمر ديني. قال: نعم يا بنى أصلى الظهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانية على
رؤوس الناس، قال: ومن لك أن تعيش إلى الظهر! ثم من لك أن تسلم نيتك إلى الظهر
إن عشت إليها! فقام عمر فصعد المنبر، فخطب الناس ورد السهلة.
* * *
قال: وكتب عمر بن الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز لما أخذ بنى مروان
برد المظالم كتابا أغلظ له فيه، من جملته: إنك أزريت على كل من كان قبلك من الخلفاء
وعبتهم، وسرت بغير سيرتهم بغضا لهم وشنآنا لمن بعدهم من أولادهم، وقطعت ما أمر
الله به أن يوصل، وعمدت إلى أموال قريش ومواريثهم فأدخلتها بيت المال جورا وعدوانا،
فاتق الله يا بن عبد العزيز وراقبه، فإنك خصصت أهل بيتك بالظلم والجور. ووالذي خص
محمد صلى الله عليه وآله بما خصه به لقد ازددت من الله بعدا بولايتك هذه التي زعمت أنها
عليك بلاء. فأقصر عن بعض ما صنعت وأعلم أنك بعين جبار عزيز وفى قبضته،
ولن يتركك على ما أنت عليه.
قالوا: فكتب عمر جوابه: أما بعد، فقد قرأت كتابك، وسوف أجيبك بنحو منه،
أما أول أمرك يا بن الوليد فإن أمك نباتة أمة السكون، كانت تطوف في أسواق حمص،
وتدخل حوانيتها، ثم الله أعلم بها اشتراها ذبيان بن ذبيان من فئ المسلمين، فأهداها
101

لأبيك فحملت بك، فبئس الحامل وبئس المحمول! ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا. وتزعم
أنى من الظالمين لأني حرمتك وأهل بيتك فئ الله الذي هو حق القرابة والمساكين والأرامل! وإن أظلم منى وأترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين تحكم
فيهم برأيك، ولم يكن له في ذاك نية إلا حب الوالد ولده، فويل لك وويل لأبيك! ما أكثر
خصماء كما يوم القيامة! وإن أظلم منى وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف على
خمسي العرب، يسفك الدم الحرام، ويأخذ المال الحرام. وإن أظلم منى وأترك لعهد
الله من استعمل قرة بن شريك، أعرابيا جافيا على مصر، وأذن له في المعازف والخمر
والشرب واللهو. وإن أظلم منى وأترك لعهد الله من استعمل عثمان بن حيان على الحجاز،
فينشد الاشعار على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله ومن جعل للعالية البربرية سهما في
الخمس، فرويدا يا بن نباتة، ولو التقت حلقتا البطان (1) ورد الفئ إلى أهله، لتفرغت
لك ولأهل بيتك فوضعتكم على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق، وأخذتم في بنيات
الطريق! ومن وراء هذا من الفضل ما أرجو أن أعمله، بيع رقبتك، وقسم ثمنك بين
الأرامل واليتامى والمساكين، فإن لكل فيك حقا، والسلام علينا، ولا ينال سلام
الله الظالمين.
وروى الأوزاعي قال: لما قطع عمر بن عبد العزيز عن أهل بيته ما كان من قبله
يجرونه عليهم من أرزاق الخاصة، فتكلم في ذلك عنبسة بن سعيد، فقال: يا أمير المؤمنين،
إن لنا قرابة فقال: مالي إن يتسع لكم، وأما هذا المال فحقكم فيه كحق رجل بأقصى
برك الغماد (2)، ولا يمنعه من أخذه إلا بعد مكانه. والله إني لأرى أن الأمور
.

(1) التقت حلقتا البطان: مثل يضرب للامر العظيم.
(2) برك الغماد: موضع بين مكة وزبيد
102

لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من
عذاب الله.
وروى الأوزاعي أيضا، قال: قال عمر بن عبد العزيز يوما وقد بلغه عن بنى أمية
كلام أغضبه: إن لله في بنى أمية يوما - أو قال: ذبحا - وأيم الله لئن كان ذلك الذبح -
أو قال ذلك اليوم - على يدي لأعذرن الله فيهم. قال: فلما بلغهم ذلك كفوا،
وكانوا يعلمون صرامته، وإنه إذا وقع في أمر مضى فيه.
وروى إسماعيل بن أبي حكيم، قال: قال عمر بن عبد العزيز يوما لحاجبه: لا تدخلن
على اليوم إلا مروانيا. فلما اجتمعوا قال: يا بنى مروان، إنكم قد أعطيتم حظا وشرفا
وأموالا، إني لأحسب شطر أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم، فسكتوا، فقال: ألا
تجيبوني؟ فقال رجل منهم: فما بالك؟ قال: إني أريد أن أنتزعها منكم، فأردها إلى بيت مال المسلمين. فقال رجل منهم: والله لا يكون ذلك حتى يحال بين رؤوسنا وأجسادنا،
والله لا نكفر أسلافنا، ولا نفقر (1) أولادنا، فقال عمر: والله لولا أن تستعينوا على بمن
أطلب هذا الحق له لأضرعت خدودكم! قوموا عنى.
وروى مالك بن أنس قال: ذكر عمر بن عبد العزيز من كان قبله من المروانية
فعابهم، وعنده هشام بن عبد الملك، فقال يا أمير المؤمنين، إنا والله نكره أن تعيب
آباءنا، وتضع شرفنا، فقال عمر: وأي عيب أعيب مما عابه القرآن!
وروى نوفل بن الفرات، قال: شكا بنو مروان إلى عاتكة بنت مروان بن الحكم
عمر، فقالوا: إنه يعيب أسلافنا، ويأخذ أموالنا. فذكرت ذلك له - وكانت
عظيمة عند بنى مروان - فقال لها: يا عمة، إن رسول الله صلى الله عليه وآله قبض وترك
.

(1) ب: " ونقعر "
103

الناس على نهر مورود، فولى ذلك النهر بعده رجلان لم يستخصا أنفسهما وأهلهما منه
بشئ ثم وليه ثالث فكرى منه ساقية، ثم لم تزل الناس يكرون منه السواقي حتى
تركوه يابسا لا قطرة فيه، وأيم الله لئن أبقاني الله لأسكرن (1) تلك السواقي حتى أعيد
النهر إلى مجراه الأول، قالت فلا يسبون إذا عندك! قال: ومن يسبهم! إنما يرفع الرجل
مظلمته فأردها عليه.
وروى عبد الله بن محمد التيمي، قال: كان بنو أمية ينزلون عاتكة بنت مروان بن الحكم على أبواب قصورهم، وكانت جليلة الموضع عندهم، فلما ولى عمر قال: لا يلي إنزالها أحد غيري، فأدخلوها على دابتها إلى باب قبتها فأنزلها، ثم طبق لها وسادتين،
إحداهما على الأخرى، ثم أنشأ يمازحها - ولم يكن من شأنه ولا من شأنها المزاح - فقال:
أما رأيت الحرس الذين على الباب؟ فقالت: بلى، وربما رأيتهم عند من هو خير منك!
فلما رأى الغضب لا يتحلل عنها ترك المزاح وسألها أن تذكر حاجتها، فقالت إن
قرابتك يشكونك، ويزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك، قال: ما منعتهم شيئا هو لهم،
ولا أخذت منهم حقا يستحقونه قالت: إني أخاف أن يهيجوا عليك يوما عصيبا (2)، وقال:
كل يوم أخافه - دون يوم القيامة - فلا وقاني الله شره. ثم دعا بدينار ومجمرة وجلد فألقى
الدينار في النار، وجعل ينفخ حتى أحمر، ثم تناوله بشئ فأخرجه فوضعه على الجلد،
فنش وفتر، فقال: يا عمة، أما تأوين لابن أخيك، من مثل هذا فقامت فخرجت إلى
بنى مروان فقالت: تزوجون في آل عمر بن الخطاب، فإذا نزعوا إلى الشبه (3) جزعتم!
اصبروا له.
وروى وهيب بن الورد، قال اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز، فقالوا
لولد له: قل لأبيك يأذن لنا، فإن لم يأذن فأبلغ إليه عنا رسالة، فلم يأذن لهم، وقال:
.

(1) سكر الساقية: سدها.
(2) د: " أن يهيجوا عليك غضبا يوما ".
(3) كذا في د، وفى ا، ب " السنة "
104

فليقولوا فقالوا: قل له: إن من كان قبلك من الخلفاء كان يعطينا، ويعرف لنا مواضعنا،
وإن أباك قد حرمنا ما في يديه. فدخل إلى أبيه فأبلغه عنهم، فقال: اخرج فقل لهم: إني
أخلف أن عصيت ربى عذاب يوم عظيم.
وروى سعيد بن عمار، عن أسماء بنت عبيد، قال: دخل عنبسة بن سعيد بن العاص
على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، أن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطوننا
عطايا منعتناها، ولى عيال وضيعة، فأذن لي أخرج إلى ضيعتي، وما يصلح عيالي! فقال
عمر: إن أحبكم إلينا من كفانا مؤونته. فخرج عنبسة، فلما صار إلى الباب ناداه: أبا خالد! أبا خالد! فرجع فقال: أكثر ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك.
وروى عمر بن علي بن مقدم، قال: قال ابن صغير لسليمان بن عبد الملك لمزاحم: إن
لي حاجة إلى أمير المؤمنين عمر، قال: فاستأذنت له، فأدخله فقال: يا أمير المؤمنين، لم
أخذت قطيعتي؟ قال: معاذ الله أن آخذ قطيعة ثبتت في الاسلام! قال: فهذا كتابي بها -
وأخرج كتابا من كمه - فقرأه عمر وقال: لمن كانت هذه الأرض؟ قال كانت للمسلمين،
قال: فالمسلمون أولى بها، قال: فاردد على كتابي، قال: إنك لو لم تأتني به لم أسألكه،
فأما إذ جئتني به فلست أدعك تطلب به ما ليس لك بحق. فبكى ابن سليمان فقال، مزاحم:
يا أمير المؤمنين، ابن سليمان تصنع به هذا - قال: وذلك لان سليمان عهد إلى عمر، وقدمه
على إخوته - فقال عمر: ويحك يا مزاحم! إني لأجد له من اللوط (1) ما أجد لولدي،
ولكنها نفسي أجادل عنها.
وروى الأوزاعي، قال: قال هشام بن عبد الملك، وسعيد بن خالد بن عمر بن عثمان
.

(1) في اللسان: " ق لاط حبه بقلبي، أي لصق، وفى حديث أبي البختري: ما أزعم أن عليا أفضل
من أبى بكر وعمر، ولكن أجد له من اللوط ما لا أجد لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم "
105

ابن عفان لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، استأنف العمل برأيك فيما تحت يدك،
وخل بين من سبقك وبين ما ولوه عليهم كان، أو لهم فإنك مستكف أن تدخل في خير
ذلك وشره. قال: أنشدكما الله الذي إليه تعودان، لو أن رجلا هلك وترك بنين أصاغر
وأكابر، فغر الأكابر الأصاغر بقوتهم، فأكلوا أموالهم، ثم بلغ الأصاغر الحلم فجاؤكما
بهم وبما صنعوا في أموالهم ما كنتما صانعين؟ قالا: كنا نرد عليهم حقوقهم حتى يستوفوها.
قال: فإني وجدت كثيرا ممن كان قبلي من الولاة غر الناس بسلطانه وقوته، وآثر
بأموالهم أتباعه وأهله ورهطه وخاصته، فلما وليت أتوني بذلك، فلم يسعني إلا الرد على
الضعيف من القوى، وعلى الدنئ من الشريف. فقالا: يوفق الله أمير المؤمنين.
* * *
الأصل:
ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك لله فيه رضا، فإن في الصلح دعة لجنودك
وراحة من همومك، وأمنا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد
صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن وإن عقدت بينك وبين عدو لك عقدة، أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك
بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة.
واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله شئ الناس
أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود
وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا من عواقب الغدر.
فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ
على الله إلا جاهل شقي وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته،
106

وحريما يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا
خداع فيه.
ولا تعقده عقدا تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن القول بعد التأكيد والتوثقة
ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب - داد انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته، وأن
تحيط بك من الله طلبة لا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك.
* * *
الشرح:
أمره أن يقبل السلم والصلح إذا دعى إليه، لما فيه من دعة الجنود، والراحة من الهم،
والامن للبلاد، ولكن ينبغي أن يحذر بعد الصلح من غائلة العدو وكيده، فإنه ربما قارب
بالصلح ليتغفل، أي يطلب غفلتك، فخذ بالحزم، واتهم حسن ظنك، لا تثق ولا تسكن
إلى حسن ظنك بالعدو، وكن كالطائر الحذر.
ثم أمره بالوفاء بالعهود، قال: واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، أي ولو ذهبت
نفسك فلا تغدر.
وقال الراوندي: الناس مبتدأ وأشد مبتدأ ثان، ومن تعظيم الوفاء خبره، وهذا المبتدأ
الثاني مع خبره خبر المبتدأ الأول، ومحل الجملة نصب لأنها خبر ليس، ومحل ليس مع اسمه
وخبره رفع، لأنه خبر، فإنه وشئ اسم ليس، ومن فرائض الله حال، ولو تأخر
لكان صفة لشئ. والصواب أن " شئ " اسم ليس، وجاز ذلك وإن كان نكرة
لاعتماده على النفي، ولأن الجار والمجرور قبله في موضع الحال كالصفة، فتخصص بذلك
وقرب من المعرفة، والناس: مبتدأ، وأشد: خبره، وهذه الجملة المركبة من مبتدأ
107

وخبر في موضع رفع لأنها صفه " شئ " وأما خبر المبتدأ الذي هو " شئ " فمحذوف،
وتقديره " في الوجود " كما حذف الخبر في قولنا: لا إله إلا الله، أي في الوجود. وليس
يصح ما قال الراوندي من أن " أشد " مبتدأ ثان، و " من تعظيم الوفاء " خبره، لان
حرف الجر إذا كان خبرا لمبتدأ تعلق بمحذوف، وهاهنا هو متعلق بأشد نفسه، فكيف
يكون خبرا عنه! وأيضا فإنه لا يجوز أن يكون أشد من تعظيم الوفاء خبرا عن الناس، كما
زعم الراوندي، لان ذلك كلام غير مفيد، ألا ترى أنك إذا أردت أن تخبر بهذا الكلام
عن المبتدأ الذي هو " الناس " لم يقم من ذلك صورة محصلة تفيدك شيئا، بل يكون
كلاما مضطربا!
ويمكن أيضا أن يكون " من فرائض الله " في موضع رفع، لأنه خبر المبتدأ، وقد قدم
عليه، ويكون موضع " الناس " وما بعده رفع، لأنه خبر المبتدأ الذي هو " شئ " كما
قلناه أولا، وليس يمتنع أيضا أن يكون: " من فرائض الله " منصوب الموضع، لأنه حال،
ويكون موضع " الناس أشد " رفعا، لأنه خبر المبتدأ، الذي هو " شئ ".
ثم قال له عليه السلام: وقد لزم المشركون مع شركهم الوفاء بالعهود، وصار ذلك لهم
شريعة وبينهم سنة، فالاسلام أولى باللزوم والوفاء.
واستوبلوا: وجدوه وبيلا، أي ثقيلا، استوبلت البلد، أي استوخمته واستثقلته، ولم يوافق مزاجك.
ولا تخيسن بعهدك، أي لا تغدرن، خاس فلان بذمته، أي غدر ونكث.
قوله: " ولا تختلن عدوك "، أي لا تمكرن به، ختلته، أي خدعته.
وقوله: " أفضاه بين عباده "، جعله مشتركا بينهم، لا يختص به فريق دون
فريق.
108

قال: " ويستفيضون إلى جواره "، أي ينتشرون في طلب حاجاتهم ومآربهم،
ساكنين إلى جواره، فإلى هاهنا متعلقة بمحذوف مقدر، كقوله تعالى: (في تسع
آيات إلى فرعون) (1)، أي مرسلا. قال: " فلا إدغال "، أي لا إفساد، والدغل:
الفساد. ولا مدالسة أي لا خديعة، يقال، فلان لا يوالس ولا يدالس، أي
لا يخادع ولا يخون، وأصل الدلس الظلمة والتدليس في البيع: كتمان عيب السلعة
عن المشترى.
ثم نهاه عن أن يعقد عقدا يمكن فيه التأويلات والعلل وطلب المخارج. ونهاه إذا
عقد العقد بينه وبين العدو أن ينقضه معولا على تأويل خفى أو فحوى قول، أو يقول:
إنما عنيت كذا، ولم أعن ظاهر اللفظة، فإن العقود إنما تعقد على ما هو ظاهر في الاستعمال
متداول في الاصطلاح والعرف لا على ما في الباطن.
وروى " انفساحه " بالحاء المهملة، أي سعته.
* * *
[فصل فيما جاء في الحذر من كيد العدو]
قد جاء في الحذر من كيد العدو والنهى عن التفريط في الرأي السكون إلى ظاهر السلم
أشياء كثيرة، وكذا في النهى عن الغدر والنهى عن طلب تأويلات العهود وفسخها بغير الحق.
فرط عبد الله بن طاهر في أيام أبيه في أمر أشرف فيه على العطب، ونجا بعد لأي (2)
فكتب إليه أبوه: أتاني يا بنى من خبر تفريطك ما كان أكبر عندي من نعيك لو ورد،
لأني لم أرج قط ألا تموت وقد كنت أرجو ألا تفتضح بترك الحزم والتيقظ.
وروى ابن الكلبي أن قيس بن زهير لما قتل حذيفة بن بدر ومن معه بجفر الهباءة
.

(1) سورة النمل 12.
(2) بعد لأي بعد جهد
109

خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط وقال: لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم، فقال
يا: معاشر النمر، أنا قيس بن زهير، غريب حريب طريد شريد موتور، فانظروا لي
امرأة قد أدبها الغنى وأذلها الفقر. فزوجوه بامرأة منهم، فقال لهم: إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي، أنا فخور غيور أنف، ولست أفخر حتى أبتلي، ولا أغار حتى أرى،
ولا آنف حتى أظلم. فرضوا أخلاقه، فأقام فيهم حتى ولد له، ثم أراد أن يتحول عنهم، فقال: يا معشر النمر، إن لكم حقا على في مصاهرتي فيكم، ومقامي بين أظهركم، وإن موصيكم بخصال آمركم بها، وأنهاكم عن خصال: عليكم بالأناة فإن بها تدرك
الحاجة، وتنال الفرصة، وتسويد من لا تعابون بتسويده، والوفاء بالعهود فإن به
يعيش الناس، وإعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة، ومنع ما تريدون منعه قبل الانعام، وإجارة الجار على الدهر، وتنفيس البيوت عن منازل الأيامى، وخلط الضيف بالعيال.
وأنهاكم عن الغدر، فإنه عار، الدهر وعن الرهان فإن به ثكلت مالكا أخي، وعن البغي فإن به صرع زهير أبى، وعن السرف في الدماء، فإن قتلى أهل البهاءة أورثني
العار. ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، وأنكحوا الأيامى الأكفاء فإن
لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور. واعلموا أنى أصبحت ظالما ومظلوما، ظلمني
بنو بدر بقتلهم مالكا، وظلمتهم بقتلى من لا ذنب له.
ثم رحل عنهم إلى غمار (1) فتنصر
بها، وعف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن مات.
* * *
الأصل:
إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شئ أدعى لنقمة، ولا أعظم
.

(1) غمار: اسم واد بنجد
110

لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها،
والله سبحانه مبتدى بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة،
فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله
وينقله.
ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لان فيه قود البدن،
وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة
فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدى إلى أولياء المقتول
حقهم.
* * *
الشرح: قد ذكرنا في وصية قيس بن زهير آنفا النهى عن الاسراف في الدماء، وتلك وصية
مبنية على شريعة الجاهلية مع حميتها وتهالكها على القتل والقتال، ووصية أمير المؤمنين
عليه السلام مبنية على الشريعة الاسلامية، والنهى عن القتل والعدوان الذي لا يسيغه
الدين، وقد ورد في الخبر المرفوع: " إن أول ما يقضى الله به يوم القيامة بين العباد أمر
الدماء ". قال: إنه ليس شئ أدعى إلى حلول النقم، وزوال النعم، وانتقال الدول، من
سفك الدم الحرام، وإنك إن ظننت أنك تقوى سلطانك بذلك، فليس الامر كما ظننت، بل تضعفه، بل تعدمه بالكلية.
ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود وقال له: " قود البدن " أي يجب عليك هدم
صورتك كما هدمت صورة المقتول، والمراد إرهابه بهذه اللفظة أنها أبلغ من أن يقول له:
" فإن فيه القود.
ثم قال: إن قتلت خطا أو شبه عمد كالضرب بالسوط فعليك الدية. وقد اختلف
111

الفقهاء في هذه المسألة، فقال أبو حنيفة وأصحابه: القتل على خمسة أوجه عمد: وشبه عمد،
وخطأ، وما أجرى مجرى الخطأ وقتل بسبب.
فالعمد: ما تعمد به ضرب الانسان بسلاح، أو ما يجرى مجرى السلاح، كالمحدد
من الخشب وليطة (1) القصب، والمروة (2) المحددة، والنار، وموجب ذلك المأثم والقود
إلا أن يعفو الأولياء، ولا كفارة فيه.
وشبه العمد أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح، ولا أجرى مجرى السلاح، كالحجر
العظيم، والخشية العظيمة، وموجب ذلك المأثم والكفارة، ولا قود فيه، وفيه الدية
مغلظة على العاقلة.
والخطأ على وجهين: خطأ في القصد، وهو أن يرمى شخصا يظنه صيدا، فإذا هو
آدمي. وخطأ في الفعل، وهو أن يرمى غرضا فيصيب آدميا، وموجب النوعين جميعا
الكفارة والدية على العاقلة،
ولا مأثم فيه.
وما أجرى مجرى الخطأ مثل النائم يتقلب على رجل فيقتله، فحكمه حكم الخطأ.
وأما القتل بسبب، فحافر البئر وواضع الحجر في غير ملكه، وموجبه إذا تلف فيه
إنسان الدية على العاقلة، ولا كفارة فيه.
فهذا قول أبي حنيفة ومن تابعه، وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد في شبه العمد،
وقالا: إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة غليظة فهو عمد، قال: وشبه العمد أن يتعمد
ضربه بما لا يقتل به غالبا، كالعصا الصغيرة والسوط، وبهذا القول قال الشافعي.
وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يدل على أن المؤدب من الولاة إذا تلف تحت
.

(1) الليط: قشر القصب اللازق به.
(2) المروة: حجر أبيض، وفى الحديث: " قال له عدى بن حاتم: إذا أصاب أحدنا صيدنا وليس
معه سكين، أيذبح بالمروة وشقة العصا "؟
112

يده إنسان في التأديب فعليه الدية وقال لي قوم من فقهاء الإمامية: إن مذهبنا أن لا دية
عليه، وهو خلاف ما يقتضيه كلام أمير المؤمنين عليه السلام
* * *
الأصل:
وإياك والاعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء فإن ذلك
من أوثق فرص الشيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.
وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم، فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الاحسان، والتزيد يذهب
بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله سبحانه وتعالى:
(كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (1).
وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها. أو التساقط فيها عند إمكانها،
أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع كل أمر
موضعه، وأوقع كل عمل موقعه.
وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما تعنى به مما قد وضح
للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور،
وينتصف منك للمظلوم.
أملك حمية أنفك، وسورة حدك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس
من كل ذلك بكف البادرة، وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك، فتملك الاختيار.
ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.
.

(1) سورة الصف 3
113

والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك، من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا صلى الله عليه وآله، أو فريضة في كتاب الله فتقتدي
بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي
هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك، لكيلا تكون لك علة عند تسرع
نفسك إلى هواها.
* * *
الشرح:
قد اشتمل هذا الفصل على وصايا نحن شارحوها منها قوله عليه السلام: " إياك وما يعجبك من نفسك والثقة بما يعجبك منها " قد ورد في الخبر: ثلاث مهلكات:
شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه " وفى الخبر أيضا: لا وحشة أشد
من العجب " وفي الخبر: الناس لآدم، وآدم من تراب، فما لابن آدم والفخر
والعجب! ". وفي الخبر: " الجار ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة " وفى الخبر
- وقد رأى أبا دجانة يتبختر: " إنها لمشية يبغضها الله إلا بين الصفين ".
ومنها قوله: " وحب الإطراء " ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني المتكلم،
فجعل يصدقه ويطريه ويستحسن قوله، فقال المأمون: يا محمد، أراك تنقاد إلى ما تظن
أنه يسرني قبل وجوب الحجة لي عليك، وتطريني بما لست أحب أن عليه السلام أطرى به،
وتستخذي لي في المقام الذي ينبغي أن تكون فيه مقاوما لي، ومحتجا على، ولو شئت أن
أقسر الأمور بفضل بيان، وطول لسان، وأغتصب الحجة بقوة الخلافة، وأبهة الرياسة
لصدقت وإن كنت كاذبا، وعدلت وإن كنت جائرا، وصوبت وإن كنت مخطئا،
114

لكني لا أرضى إلا بغلبة الحجة، ودفع الشبهة، وإن أنقص الملوك عقلا، وأسخفهم رأيا،، من رضى بقولهم: صدق الأمير.
وأثنى رجل على رجل، فقال: الحمد لله الذي سترني عنك وكان بعض الصالحين يقول إذا أطراه انسان ليسألك الله عن حسن ظنك. ومنها قوله: " وإياك والمن "، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا
صدقاتكم بالمن والأذى) (2). وكان يقال: المن محبة للنفس، مفسده للصنع.
ومنها نهيه إياه عن التزيد في فعله، قال عليه السلام: إنه يذهب بنور الحق، وذلك
لأنه محض الكذب، مثل أن يسدي ثلاثة أجزاء من الجميل فيدعى في المجالس والمحافل
أنه أسدى عشرة، وإذا خالط الحق الكذب أذهب نوره.
ومنها نهيه إياه عن خلف الوعد، قد مدح الله نبيا من الأنبياء وهو إسماعيل بن
إبراهيم عليه السلام بصدق الوعد. وكان يقال وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم
مطل وتعطيل، وكتب بعض الكتاب: وحق لمن أزهر بقول، أن يثمر بفعل.
وقال أبو مقاتل الضرير: قلت لأعرابي: قد أكثر الناس في المواعيد، فما قولك فيها؟ فقال: بئس الشئ! الوعد مشغلة للقلب الفارغ، متعبة للبدن الخافض، خيره غائب، وشره
حاضر. وفى الحديث المرفوع: " عدة المؤمن كأخذ باليد "، فإما أمير المؤمنين عليه السلام
فقال: " إنه يوجب المقت "، واستشهد عليه بالآية والمقت: البغض.
ومنها نهيه عن العجلة، وكان يقال: أصاب متثبت أو كاد، وأخطأ عجل أو كاد. وفي
المثل: " رب عجلة تهب ريثا "، وذمها الله تعالى فقال: (خلق الانسان من
عجل) (3).
.

(1) في د: لأساءك.
(2) سورة البقرة 264.
(3) سورة الأنبياء 37
115

ومنها نهيه عن التساقط في الشئ الممكن عند حضوره وهذا عبارة عن النهى عن
الحرص والجشع، قال الشنفري:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن * بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل
ومنها نهيه عن اللجاجة في الحاجة إذا تعذرت، كان يقال: من لاج الله فقد جعله
خصما، وكان الله خصمه فهو مخصوم، قال الغزي:
دعها سماوية تجرى على قدر * لا تفسدنها برأي منك معكوس
ومنها نهيه له عن الوهن فيها إذا استوضحت، أي وضحت وانكشفت، ويروى:
" واستوضحت " فعل ما لم يسم فاعله، والوهن فيها إهمالها وترك انتهاز الفرصة فيها،
قال الشاعر:
فإذا أمكنت فبادر إليها * حذرا من تعذر الامكان.
ومنها نهيه عن الاستئثار، وهذا هو الخلق النبوي، غنم رسول الله صلى الله عليه
وآله غنائم خيبر، وكانت ملء الأرض نعما، فلما ركب راحلته وسار تبعه الناس يطلبون
الغنائم وقسمها، وهو ساكت لا يكلمهم، وقد أكثروا عليه إلحاحا وسؤالا، فمر بشجرة
فخطفت (1) رداءه، فالتفت فقال: ردوا على ردائي فلو ملكت بعدد رمل تهامة مغنما
لقسمته بينكم عن آخره ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا، ونزل وقسم ذلك المال عن الآخرة
عليهم كله، لم يأخذ لنفسه منه وبرة.
ومنها نهيه له عن التغابي، وصوره ذلك أن الأمير يومى إليه أن فلانا من خاصته يفعل
كذا ويفعل كذا من الأمور المنكرة ويرتكبها سرا، فيتغابى عنه ويتغافل، نهاه عليه السلام
عن ذلك وقال: إنك مأخوذ منك لغيرك، أي معاقب، تقول اللهم خذ لي من
فلان بحقي، أي اللهم انتقم لي منه.
.

(1) د " فاختطفت
116

ومنها نهيه إياه عن الغضب، وعن الحكم بما تقتضيه قوته الغضبية حتى يسكن
غضبه، قد جاء في الخبر المرفوع: " لا يقضى القاضي وهو غضبان "، فإذا كان قد نهى
أن يقضى القاضي وهو غضبان على غير صاحب الخصومة، فبالأولى أن ينهى الأمير
عن أن يسطو على إنسان وهو غضبان عليه.
وكان لكسرى أنوشروان صاحب قد رتبه ونصبه لهذا المعنى يقف على رأس الملك
يوم جلوسه، فإذا غضب على إنسان وأمر به قرع سلسلة تاجه بقضيب في يده وقال له:
إنما أنت بشر، فارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.
* * *
الأصل:
ومن هذا العهد وهو آخره:
وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة، أن يوفقني
وإياك لما فيه رضاه، من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، من حسن
الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة، وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إلى الله راغبون (1)، والسلام على رسول الله
صلى الله عليه و [على (2)] آله الطيبين الطاهرين.
* * *
الشرح:
روى: " كل رغيبة: والرغيبة ما يرغب فيه، فإما الرغبة فمصدر رغب في كذا،
كأنه قال: القادر على إعطاء كل سؤال أي إعطاء كل سائل ما سأله.
.

(1) في د " وانا إليه راغبون ".
(2) من " د ".
117

ومعنى قوله: " من الإقامة على العذر "، أي أسأل الله أن يوفقني للإقامة على
الاجتهاد، وبذل الوسع في الطاعة، وذلك [لأنه (1)] إذا بذل جهده فقد أعذر،
ثم فسر اجتهاده في ذلك في رضا الخلق، ولم يفسر اجتهاده في رضا الخالق، لأنه معلوم،
فقال: هو حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد.
فإن قلت: فقوله " وتمام النعمة " على ماذا تعطفه؟
قلت، هو معطوف على " ما " من قوله " لما فيه "، كأنه قال: أسال الله توفيقي
لذا ولتمام النعمة، أي ولتمام نعمته على، وتضاعف كرامته لدى، وتوفيقه لهما هو توفيقه
للأعمال الصالحة التي يستوجبهما بها.
* * *
[فصل في ذكر بعض وصايا العرب]
وينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا من كلام قوم من رؤساء العرب أوصوا بها
أولادهم ورهطهم، فيها آداب حسان، وكلام فصيح وهي مناسبة لعهد أمير المؤمنين
عليه السلام هذا، ووصاياه المودعة فيه، وإن كان كلام أمير المؤمنين عليه السلام أجل وأعلى من أن يناسبه كلام، لأنه قبس من نور الكلام الإلهي، وفرع من دوحة
المنطق النبوي.
روى ابن الكلبي قال: لما (2) حضرت الوفاة أوس بن حارثة أخا الخزرج، لم يكن له
ولد غير مالك بن الأوس، وكان لأخيه الخزرج خمسة، قيل له: كنا نأمرك بأن تتزوج
في شبابك فلم تفعل حتى حضرك الموت، ولا ولد لك إلا مالك! فقال: لم يهلك هالك
ترك مثل مالك، وإن كان الخزرج ذا عدد، وليس لمالك ولد، فلعل الذي استخرج
.

(1) من د.
(2) أمالي القالي 1: 20
118

العذق من الجريمة (1) والنار من الوثيمة (2) أن يجعل لمالك نسلا، ورجالا بسلا (3)،
وكلنا إلى الموت. يا مالك، المنية ولا الدنية، والعتاب قبل العقاب، والتجلد لا التبلد،
واعلم أن القبر خير من الفقر، ومن لم يعط قاعدا حرم قائما، وشر الشرب الاشتفاف وشر
الطعم الاقتفاف (4)، وذهاب البصر خير من كثير من النظر، ومن كرم الكريم الدفع
عن الحريم، ومن قل ذل، وخير الغنى، القناعة وشر الفقر الخضوع. الدهر صرفان:
صرف رخاء، وصرف بلاء، واليوم يومان: يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر
وإذا كان عليك فاصطبر، وكلاهما سينحسر (5) وكيف بالسلامة، لمن ليست له إقامة
وحياك ربك.
* * *
وأوصى (6) الحارث بن كعب بنيه فقال يا بنى، قد أتت على مائة وستون سنة
ما صافحت يميني يمين غادر، ولا قنعت لنفسي بخلة فاجر، ولا صبوت بابنة عم
ولا كنة (7)، ولا بحت لصديق بسر، ولا طرحت عن مومسة قناعا، ولا بقي على دين عيسى بن مريم وقد روى على دين شعيب من العرب غيري وغير تميم بن مر بن أسد
ابن خزيمة، فموتوا على شريعتي، واحفظوا [على (8)] وصيتي، وإلهكم فاتقوا، يكفكم
ما أهمكم، ويصلح لكم حالكم، وإياكم ومعصيته، فيحل بكم الدمار، ويوحش منكم الديار. كونوا جميعا، ولا تفرقوا فتكونوا شيعا، وبزوا قبل أن تبزوا (9)، فموت
.

(1) الجريمة: النواة، والعذق: النخلة.
(2) الوثيمة: الصخرة.
(3) بسل: جمع باسل، وهو الشجاع.
(4) الاشتفاف: الامتصاص والاقتفاف: الاخذ بعجلة.
(5) يعنى ينكشف.
(6) الوصايا 123، ونسب هذه الوصية إلى مالك بن المنذر البجلي، قال: " وقد كان أصاب دما في قومه،
فخرج هاربا بأهله حتى أتى بهم بنى هلال، فلما احتضر أوصى بنيه، وأمرهم أن يعطوا قومه النصف من
حدثه الذي أحدثه فيهم.
(7) الكنة: امرأة الابن أو الأخ.
(8) تكملة من د.
(9) بزه: سبله
119

في عز خير من حياة في ذل وعجز، وكل ما هو كائن كائن، وكل جمع إلى تباين، والدهر
صرفان: صرف بلاء، وصرف رخاء، واليوم يومان: يوم حبرة (1)، ويوم عبرة والناس رجلان: رجل لك، ورجل عليك. زوجوا النساء الأكفاء، وإلا فانتظروا بهن القضاء، وليكن أطيب طيبهم الماء، وإياكم والورهاء فإنها أدوا الداء وإن ولدها إلى أفن
يكون. لا راحة لقاطع القرابة. وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم، وآفة العدد اختلاف
الكلمة، والتفضل بالحسنة يقي السيئة، والمكافأة بالسيئة دخول فيها، وعمل السوء يزيل النعماء، وقطيعة الرحم تورث الهم، وانتهاك الحرمة يزيل النعمة، وعقوق الوالدين
يعقب النكد، ويخرب البلد، ويمحق العدد، والاسراف في النصيحة، هو الفضيحة
والحقد منع الرفد، ولزوم الخطيئة يعقب البلية وسوء الدعة (3) يقطع أسباب المنفعة،
والضغائن تدعو إلى التباين، يا بنى إني قد أكلت مع أقوام وشربت، فذهبوا وغبرت،
وكأني بهم قد لحقت، ثم قال:
أكلت شبابي فأفنيته * وأبليت بعد دهور دهورا
ثلاثة أهلين صاحبتهم * فبادروا وأصبحت شيخا كبيرا
قليل العظام عسير القيام * قد ترك الدهر خطوى قصيرا
أبيت أراعي نجوم السماء * أقلب أمري بطونا ظهورا
* * *
وصى أكثم بن صيفي بنيه ورهطه فقال، يا بنى تميم، لا يفوتنكم وعظي، إن
فاتكم الدهر بنفسي، إن بين حيزومي وصدري لكلاما لا أجد له مواقع إلا (4) أسماعكم
ولا مقار إلا قلوبكم، فتلقوه بأسماع مصغية، وقلوب واعية، تحمدوا مغبته: الهوى
.

(1) الحبرة: السرور.
(2) الأفن: الفساد.
(3) الوصايا: " السرعة ".
(4) في د " غير "
120

يقظان، والعقل راقد، والشهوات مطلقة، والحزم معقول، والنفس مهملة، والروية مقيدة،
ومن جهة التواني وترك الروية يتلف الحزم، ولن يعدم المشاور مرشدا، والمستبد برأيه
موقوف على مداحض الزلل، ومن سمع سمع به، ومصارع الرجال تحت بروق الطمع،
ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام، وعلى الاعتبار طريق الرشاد،
ومن سلك الجدد (1) أمن العثار، ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه، ويشغل فكره، ويورث غيظه، ولا تجاوز مضرته نفسه. يا بنى تميم، الصبر على جرع الحلم أعذب من
جنا ثمر الندامة، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم، وكلم اللسان أنكى من كلم السنان، والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم، فإذا نجمت مزجت، فهي أسد محرب، أو نار تلهب، ورأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز، ونفاذ الرأي في الحرب، أجدى من
الطعن والضرب.
* * *
وأوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلدا حين استخلفه على جرجان فقال له يا بنى،
قد استخلفتك على هذه البلاد فانظر هذا الحي من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر:
إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم * فرش واصطنع عند الذين بهم ترمى.
وانظر هذا الحي من ربيعه فإنهم شيعتك وأنصارك، فاقض حقوقهم، وانظر هذا الحي
من تميم فأمطرهم (2) ولا تزه لهم، ولا تدنهم فيطمعوا، ولا تقصهم فيقطعوا، وانظر هذا الحي من قيس فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية، ومناصفوهم المآثر في الاسلام، ورضاهم
منك البشر. يا بنى، إن لأبيك صنائع فلا تفسدها، فإنه كفى بالمرء نقصا أن يهدم
ما بنى أبوه، وإياك والدماء فإنه لا تقية معها، وإياك وشتم الاعراض فإن الحر
.

(1) الجدد: الأرض المستوية.
(2) د " فانظرهم "
121

لا يرضيه عن عرضه عوض، وإياك وضرب الأبشار فإنه عار باق، ووتر مطلوب، واستعمل
على النجدة والفضل دون الهوى، ولا تعزل إلا عن عجز أو خيانة، ولا يمنعك من
اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه، فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها. وليكن
صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر. احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم.
وإذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه، وليكن رسولك فيما بيني وبينك من
يفقه عنى وعنك، فإن كتاب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع سره وأستودعك
الله فلا بد للمودع أن يسكت، وللمشيع أن يرجع. وما عف من المنطق وقل من الخطيئة
أحب إلى أبيك.
* * *
وأوصى قيس بن عاصم المنقري بنيه، فقال يا نبي، خذوا عنى فلا أحد أنصح لكم
منى. إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم، فسودوا أكبركم، فان القوم إذا سودوا أكبرهم
خلفوا أباهم، وإذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم، وإياكم ومعصية الله وقطيعة
الرحم، وتمسكوا بطاعة أمرائكم فإنهم من رفعوا ارتفع، ومن وضعوا اتضع. وعليكم بهذا
المال فأصلحوه، فإنه منبهة للكريم، وجنة لعرض اللئيم. وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب
الرجل، وإن أحدا لم يسأل إلا ترك الكسب، وإياكم والنياحة فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله ينهى عنها، وادفنوني في ثيابي التي كنت أصلى فيها وأصوم، ولا يعلم
بكر بن وائل بمدفني فقد كانت بيني وبينهم مشاحنات في الجاهلية والاسلام وأخاف، أن يدخلوا عليكم بي عارا. وخذوا عنى ثلاث خصال: إياكم وكل عرق لئيم أن تلابسوه فإنه
إن يسرركم اليوم يسؤكم غدا، واكظموا الغيظ، واحذروا بنى أعداء آبائكم فإنهم على
منهاج آبائهم، ثم قال:
122

أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا * فلن تبيد وللآباء أبناء.
قال ابن الكلبي: فيحكي الناس هذا البيت سابقا للزبير وما هو إلا لقيس بن عاصم.
* * *
وأوصى عمرو بن كلثوم التغلبي (1) [بنيه (2)] فقال: يا بنى، إني قد بلغت من العمر
ما لم يبلغ أحد من آبائي وأجدادي، ولابد من أمر مقتبل، وأن ينزل بي ما نزل بالآباء
والأجداد والأمهات والأولاد، فاحفظوا عنى ما أوصيكم به. إني والله ما عيرت رجلا قط
أمرا إلا عيرني مثله، إن حقا فحق، وإن باطلا فباطل، ومن سب سب، فكفوا عن الشتم
فإنه أسلم لأعراضكم. وصلوا أرحامكم تعمر داركم (3)، وأكرموا جاركم بحسن ثنائكم، وزوجوا بنات العم بنى العم فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن [عن] (4) الأكفاء.
وأبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال، فإنه أغض للبصر، وأعف للذكر، ومتى
كانت المعاينة واللقاء، ففي ذلك داء من الأدواء ولا خير فيمن لا يغار لغيره كما يغار لنفسه، وقل من انتهك حرمة لغيره إلا انتهكت حرمته. وامنعوا القريب من ظلم
الغريب، فإنك تدل على قريبك، ولا يجمل بك ذل غريبك، وإذا تنازعتم في الدماء فلا
يكن حقكم الكفاء، فرب رجل خير من ألف، وود خير من خلف، وإذا حدثتم فعوا،
وإذا حدثتم فأوجزوا، فإن مع الاكثار يكون الاهذار، وموت عاجل خير من ضني
آجل، وما بكيت من زمان إلا دهاني بعده زمان، وربما شجاني (5) من لم يكن أمره

(1) ب: " الثعلبي " تحريف.
(2) تكملة من د.
(3) في د " دياركم ".
(4) من د.
(5) شجاني: أحزنني
123

عناني، وما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة. واعلموا أن أشجع القوم العطوف،
وخير الموت تحت ظلال السيوف، ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا فيمن إذا
عوتب لم يعتب ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره، فبكوءه (1) خير من
دره، وعقوقه خير من بره، ولا تبرحوا في حبكم فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح
بغض، وكم قد زارني إنسان وزرته، فانقلب الدهر بنا فقبرته. واعلموا أن الحليم سليم،
وأن السفيه كليم، إني لم أمت ولكن هرمت، ودخلتني ذلة فسكت، وضعف قلبي
فأهترت (2)، سلمكم ربكم وحياكم!
* * *
ومن كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه والملوك من بعده: رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان الملك والدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فالدين أس الملك
وعماده، ثم صار الملك حارس الدين فلا بد للملك من أسه، ولا بد للدين من حارسه، فأما
مالا حارس له فضائع، وما لا أس له فمهدوم، إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة
إياكم إلى دراسة الدين وتأويله والتفقه فيه، فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم، فتحدث في الدين رياسات منتشرات سرا فيمن قد وترتم وجفوتم، وحرمتم وأخفتم،
وصغرتم من سفلة الناس والرعية وحشو العامة، ثم لا تنشب تلك الرياسات أن تحدث
خرقا في الملك ووهنا في الدولة. واعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجسادكم الرعية لا على
قلوبها. وإن غلبتم الناس على ما في أيديهم فلن تغلبوهم على ما في عقولهم وآرائهم ومكايدهم.
واعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه، وهو أقطع سيفيه، وإن أشد ما يضر بكم من
لسانه ما صرف الحيلة فيه إلى الدين، فكان للدنيا يحتج (3)، وللدين فيما يظهر يتعصب فيكون
.

(1) بكأت الناقلة بكوءا: قل لبنها.
(2) الهتر: ذهاب العقل.
(3) ا: " يجنح "
124

للدين بكاؤه، وإليه دعاؤه، ثم هو أوحد للتابعين والمصدقين والمناصحين والمؤازرين، لان تعصب (1) الناس موكل بالملوك، ورحمتهم ومحبتهم موكلة بالضعفاء المغلوبين، فاحذروا هذا
المعنى كل الحذر. واعلموا أنه ليس ينبغي للملك أن يعرف للعباد والنساك بأن يكونوا أولى بالدين منه،
ولا أحدب عليه ولا أغضب له. [ولا ينبغي] (2) له أن يخلى النساك والعباد من الأمر والنهي
في نسكهم ودينهم، فإن خروج النساك وغيرهم من الأمر والنهي عيب على الملوك وعلى المملكة وثلمة بينة الضرر على الملك وعلى من بعده.
واعلموا أنه قد مضى قبلنا من أسلافنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الحماية بالتفتيش
والجماعة بالتفضيل، والفراغ بالاشتغال، كتعهده جسده بقص فضول الشعر والظفر وغسل
الدرن والغمر (3) ومداواة ما ظهر من الأدواء وما بطن، وقد كان من أولئك الملوك من صحه ملكه أحب إليه من صحة جسده، فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد،
وكأن أرواحهم روح واحدة، يمكن أولهم لآخرهم، ويصدق آخرهم أولهم يجتمع أبناء
أسلافهم، ومواريث آرائهم، وثمرات عقولهم عند الباقي منهم بعدهم، وكأنهم جلوس
معه يحدثونه ويشاورونه، حتى كأن على رأس دارا بن دارا ما كان من غلبة الإسكندر
الرومي على ما غلب عليه من ملكه. وكان إفساده أمرنا، وتفرقته جماعتنا، وتخريبه
عمران مملكتنا أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا فلما أذن الله عز وجل في جمع مملكتنا
وإعادة أمرنا، كان من بعثه إيانا ما كان. وبالاعتبار يتقى العثار، والتجارب الماضية
دستور يرجع إليه من الحوادث الآتية.
واعلموا أن طباع الملوك على غير طباع الرعية والسوقة: فان الملك يطيف به العز
والامن والسرور والقدرة على ما يريد، والأنفة والجرأة والعبث
125

في العمر تنفسا، وفى الملك سلامة ازداد من هذه الطبائع والأخلاق حتى يسلمه ذلك إلى
سكر السلطان الذي هو أشد من سكر الشراب، فينسى النكبات والعثرات، والغير
والدوائر وفحش تسلط الأيام، ولؤم غلبة الدهر، فيرسل يده بالفعل ولسانه بالقول. وعند حسن الظن بالأيام تحدث الغير، وتزول النعم، وقد كان من أسلافنا وقدماء ملوكنا
من يذكره عزه الذل، وأمنه الخوف، وسروره الكآبة، وقدرته المعجزة، وذلك هو
الرجل الكامل قد جمع بهجة الملوك، وفكرة السوقة، ولا كمال إلا في جمعها.
واعلموا أنكم ستبلون على الملك بالأزواج والأولاد والقرباء والوزراء والأخدان،
والأنصار والأعوان والمتقربين والندماء والمضحكين، وكل هؤلاء - إلا قليلا - أن يأخذ
لنفسه أحب إليه من أن يعطى منها عمله، وإنما عمله سوق ليومه، وذخيرة لغده، فنصيحته
للملوك فضل نصيحته لنفسه وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه، وغاية الفساد عنده فسادها،
يقيم للسلطان سوق المودة ما أقام له سوق الأرباح والمنافع، إذا استوحش الملك من ثقاته
أطبقت عليه ظلم الجهالة. أخوف ما يكون العامة [آمن ما يكون الوزراء، وآمن ما يكون
العامة (1)] أخوف ما يكون الوزراء.
واعلموا أن كثيرا من وزراء الملوك من يحاول استبقاء دولته وأيامه بإيقاع الاضطراب،
والخبط في أطراف مملكة الملك، ليحتاج الملك إلى رأيه وتدبيره، فإذا عرفتم هذا من
وزير من وزرائكم فاعزلوه فإنه يدخل الوهن والنقص على الملك والرعية لصلاح حال نفسه،
ولا تقوم نفسه بهذه النفوس كلها.
واعلموا أن بدء ذهاب الدولة ينشأ من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة
ولا أعمال معلومة، فإذا نشأ الفراغ تولد منه النظر في الأمور، والفكر في الفروع و الأصول. فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفة فتختلف بهم المذاهب، ويتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم وتضاغنهم، وهم مع اختلافهم هذا متفقون و مجتمعون على بغض الملوك،
فكل صنف منهم أنما يجرى إلى فجيعة الملك، بملكه، ولكنهم لا يجدون سلما إلى
.

(1) تكملة من د بها يستقيم الكلام
126

ذلك أوثق من الدين والناموس، ثم يتولد من تعاديهم أن الملك لا يستطيع جمعهم على هوى
واحد، فإن انفرد؟ باختصاص بعضهم صار عدو بقيتهم، ولى طباع العامة استثقال الولاة
وملالهم، والنفاسة (1) عليهم، والحسد لهم، وفى الرعية المحروم والمضروب والمقام عليه الحدود، ويتولد من كثرتهم مع عداوتهم أن يجبن الملك عن الاقدام عليهم، فإن في إقدام
الملك على الرعية كلها كافة تغريرا بملكه. ويتولد من جبن الملك عن الرعية استعجالهم عليه،
وهم أقوى عدو له وأخلقه بالظفر، لأنه حاضر مع الملك في دار ملكه، فمن أفضى إليه الملك
بعدي فلا يكونن بإصلاح جسده أشد اهتماما منه بهذه الحال، ولا تكونن لشئ من الأشياء
أكره وأنكر لرأس صار ذنبا، وذنب صار رأسا، ويد مشغولة وصارت فارغة، أو غنى
صار فقيرا، أو عامل مصروف، أو أمير معزول.
واعلموا أن سياسة الملك وحراسته ألا يكون ابن الكاتب إلا كاتبا، وابن الجندي إلا
جنديا، وابن التاجر إلا تاجرا، وهكذا في جميع الطبقات، فإنه يتولد من تنقل الناس عن
حالاتهم أن يلتمس كل امرئ منهم فوق مرتبته، فإذا انتقل أو شك أن يرى شيئا أرفع مما انتقل إليه، فيحسد أو ينافس، وفى ذلك من الضرر المتولد ما لا خفاء به، فإن عجز
ملك منكم عن إصلاح رعيته كما أوصيناه فلا يكون للقميص القمل أصرع خلعا منه لما لبس
من قميص ذلك الملك.
واعلموا أنه ليس ملك إلا وهو كثير الذكر لمن يلي الامر بعده، ومن فساد أمر الملك نشر ذكره ولاة العهود، فإن في ذلك ضروبا من الضرر، وأن ذلك دخول عداوة
بين الملك وولى عهده، لأنه تطمح عينه إلى الملك، ويصير له أحباب وأخدان يمنونه ذلك، ويستبطئون موت الملك. ثم إن الملك يستوحش منه، وتنساق الأمور إلى هلاك أحدهما،
ولكن لينظر الوالي منكم لله تعالى ثم لنفسه ثم للرعية، ولينتخب وليا للعهد من بعده
.

(1) النفاسة: كراهة الخير لهم
127

ولا يعلمه ذلك، ولا أحد من الخلق قريبا كان منه أو بعيدا، ثم يكتب اسمه في أربع
صحائف، ويختمها بخاتمه، ويضعها عند أربعة نفر من أعيان أهل المملكة، ثم لا يكون
منه في سره وعلانيته أمر يستدل به على ولى عهده من هؤلاء في إدناء وتقريب يعرف به،
ولا في إقصاء، وإعراض يستراب له. وليتق ذلك في اللحظة والكلمة، فإذا هلك الملك جمعت تلك الصحائف إلى النسخة التي تكون في خزانة الملك، فتفض جميعا، ثم ينوه حينئذ باسم ذلك الرجل، فيلقى الملك إذا لقيه بحداثة عهده بحال السوقة، ويلبسه إذا لبسه ببصر السوقة
وسمعها، فإن في معرفته بحاله قبل إفضاء الملك إليه سكرا تحدثه عنده ولاية العهد، ثم
يلقاه الملك فيزيده سكرا إلى سكره، فيعمى ويصم، هذا مع ما لا بد أن يلقاه أيام ولاية
العهد من حيل العتاة، وبغى الكذابين، وترقية النمامين، وإيغار صدره، وإفساد قلبه على
كثير من رعيته، وخواص دولته، وليس ذلك بمحمود ولا صالح.
واعلموا أنه ليس للملك أن يحلف، لأنه لا يقدر أحد استكراهه، وليس له أن يغضب لأنه قادر، والغضب لقاح الشر والندامة، وليس له أن يعبث ويلعب، لان اللعب
والعبث من عمل الفراغ، وليس له أن يفرغ لان الفراغ من أمر السوقة، وليس
للملك أن يحسد أحدا إلا على حسن التدبير، وليس له أن يخاف لأنه لا يد
فوق يده.
واعلموا أنكم لن تقدروا على أن تختموا أفواه الناس من الطعن والإزراء
عليكم، ولا قدرة لكم على أن تجعلوا القبيح من أفعالكم حسنا، فاجتهدوا في أن تحسن أفعالكم كلها، وإلا تجعلوا للعامة إلى الطعن عليكم سبيلا.
واعلموا أن لباس الملك ومطعمه ومشربه مقارب للباس السوقة ومطعمهم، وليس
128

فضل الملك على السوقة إلا بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم، فإن الملك إذا شاء
أحسن، وليس كذلك السوقة.
واعلموا أن لكل ملك بطانة، ولكل رجل من بطانته بطانه، ثم إن لكل امرئ
من بطانة البطانة بطانة، حتى يجتمع من ذلك أهل المملكة، فإذا أقام الملك بطانته على
حال الصواب فيهم، أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح
عامه الرعية.
احذروا بابا واحدا طالما أمنته فضرني، وحذرته فنفعني احذروا إفشاء السر بحضرة الصغار من أهليكم وخدمكم، فإنه ليس يصغر واحد منهم عن حمل ذلك السر كاملا،
لا يترك منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون إما سقطا أو غشا.
واعلموا أن في الرعية صنفا أتوا الملك من قبل النصائح له، والتمسوا إصلاح منازلهم
بإفساد منازل الناس، فأولئك أعداء الناس وأعداء الملوك، ومن عادى الملوك والناس
كلهم فقد عادى نفسه.
واعلموا أن الدهر حاملكم على طبقات، فمنها حال السخاء حتى يدنو أحدكم من
السرف، ومنها حال التبذير حتى يدنو من البخل، ومنها حال الأناة حتى يدنو من البلادة ومنها حال
انتهاز الفرصة حتى يدنو من الخفة، ومنها حال الطلاقة في اللسان حتى يدنو من الهذر، ومنها
حال الاخذ بحكمة (1) الصمت حتى يدنو من العي، فالملك منكم جدير أن يبلغ من كل طبقه في محاسنها
حدها، فإذا وقف عليه ألجم نفسه عما وراءها. واعلموا أن ابن الملك وأخاه
ابن عمه يقول: كدت أن أكون ملكا، وبالحرى ألا أموت حتى أكون ملكا، فإذا
قال ذلك قال ما لا يسر الملك، وإن كتمه فالداء
.

(1) الحكمة في الأصل: اللجام، والكلام على الاستعارة
129

في كل مكتوم، وإذا تمنى ذلك جعل الفساد سلما إلى الصلاح، ولم يكن الفساد سلما
إلى صلاح قط. وقد رسمت لكم في ذلك مثالا، اجعلوا الملك لا ينبغي إلا لأبناء الملوك
من بنات عمومتهم، ولا يصلح من أولاد بنات العم إلا كامل غير سخيف العقل،
ولا عازب الرأي، ولا ناقص الجوارح، ولا مطعون عليه في الدين، فإنكم إذا فعلتم
ذلك قل طلاب الملك، وإذا قل طلابه استراح كل امرئ إلى ما يليه، ونزع إلى حد
يليه، وعرف حاله، ورضى معيشته، واستطاب زمانه.
فقد ذكر وصايا قوم من العرب، ووصايا أكثر ملوك الفرس وأعظمهم حكمة
لتضم إلى وصايا أمير المؤمنين فيحصل منها وصايا الدين والدنيا، فإن وصايا أمير المؤمنين
عليه السلام، الدين عليها أغلب، ووصايا هؤلاء الدنيا عليها أغلب، فإذا أخذ من أخذ
التوفيق بيده بمجموع ذلك فقد سعد، ولا سعيد إلا من أسعده الله.
130

(54)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى طلحة والزبير مع عمران بن الحصين الخزاعي،
وذكر هذا الكتاب أبو جعفر الإسكافي في كتاب المقامات:
أما بعد فقد علمتما - وإن كتمتما - أنى لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني، وإنكما ممن أرادني وبايعني، وإن العامة لم تبايعني لسلطان
غالب، ولا لحرص حاضر، فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى الله
من قريب، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما
الطاعة وإسراركما المعصية. ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان وان دفعكما هذا الامر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به.
وقد زعمتما أنى قتلت عثمان، فبيني وبينكما من تخلف عنى وعنكما من
أهل المدينة ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل.
فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما، فإن الان أعظم أمركما العار، من قبل أن يجتمع العار والنار. والسلام.
* * *
131

الشرح:
[عمران بن الحصين]
هو عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد بن نهم بن سالم بن غاضرة بن سلول
ابن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي. يكنى أبا بجيد بابنه بجيد بن عمران.
أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر، وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول أهل البصرة
عنه: إنه كان يرى الحفظة وكانت تكلمه حتى اكتوى.
وقال محمد بن سيرين: أفضل من نزل البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله عمران بن الحصين وأبو بكرة. واستقضاه عبد الله بن عامر بن كريز على البصرة
فعمل له أياما، ثم استعفاه فأعفاه، ومات بالبصرة سنه اثنتين وخمسين في
أيام معاوية.
[أبو جعفر الإسكافي]
وأما أبو جعفر الإسكافي - وهو شيخنا محمد بن عبد الله الإسكافي - عده قاضي القضاة
في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة مع عباد بن سليمان الصيمري، ومع زرقان، ومع عيسى بن الهيثم الصوفي، وجعل أول الطبقة ثمامة بن أشرس أبا معن، ثم أبا عثمان
الجاحظ، ثم أبا موسى عيسى بن صبيح المردار، ثم أبا عمران يونس بن عمران
ثم محمد بن شبيب، ثم محمد بن إسماعيل بن العسكري، ثم عبد الكريم بن روح
العسكري، ثم أبا يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام، ثم أبا الحسين الصالحي،
132

ثم الجعفران، جعفر بن جرير وجعفر بن ميسر ثم أبا عمران بن النقاش، ثم أبا سعيد أحمد
ابن سعيد الأسدي، ثم عباد بن سليمان ثم أبا جعفر الإسكافي هذا. وقال: كان أبو جعفر فاضلا عالما، وصنف سبعين كتابا في علم الكلام.
وهو الذي نقض كتاب " العثمانية " على أبى عثمان الجاحظ في حياته، ودخل
الجاحظ الوراقين ببغداد، فقال من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرض لنقض
كتابي! وأبو جعفر جالس! فاختفى منه حتى لم يره.
وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد، ويبالغ في ذلك، وكان علوي
الرأي محققا منصفا، قليل العصبية.
* * *
ثم نعود إلى شرح ألفاظ الفصل ومعانيه:
قوله عليه السلام: " لم أرد الناس: أي لم أرد الولاية عليهم حتى أرادوا
هم منى ذلك.
قال: " ولم أبايعهم حتى بايعوني "، أي لم أمدد يدي إليهم مد الطلب والحرص على
الامر، ولم أمددها إلا بعد أن خاطبوني بالإمرة والخلافة، وقالوا بألسنتهم: قد بايعناك،
فحينئذ مددت يدي إليهم.
قال: ولم يبايعني العامة والمسلمون لسلطان غصبهم وقهرهم على ذلك، ولا لحرص حاضر، أي مال موجود فرقته عليهم.
ثم قسم عليهما الكلام، فقال: إن كنتما بايعتماني طوعا عن رضا فقد وجب عليكما
الرجوع، لأنه لا وجه لانتقاض تلك البيعة، وإن كنتما بايعتماني مكرهين عليها فالإكراه
133

له صورة، وهي أن يجرد السيف ويمد العنق، ولم يكن قد وقع ذلك، ولا يمكنكما أن
تدعياه، وإن كنتما بايعتماني لا عن رضا ولا مكرهين بل كارهين، وبين المكره والكاره
فرق بين، فالأمور الشرعية إنما تبنى على الظاهر، وقد جعلتما لي على أنفسكما السبيل
بإظهاركما الطاعة، والدخول فيما دخل فيه الناس، ولا اعتبار بما أسررتما من كراهية ذلك.
على أنه لو كان عندي ما يكرهه المسلمون لكان المهاجرون في كراهية ذلك سواء، فما الذي
جعلكما أحق المهاجرين كلهم بالكتمان والتقية!.
ثم قال: وقد كان امتناعكما عن البيعة في مبدأ الامر أجمل من دخولكما فيها
ثم نكثها.
قال: وقد زعمتما أن الشبهة التي دخلت عليكما في أمري أنى قتلت عثمان، وقد جعلت
الحكم بيني وبينكما من تخلف عنى وعنكما من أهل المدينة، أي الجماعة التي لم تنصر عليا
ولا طلحة كمحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، يعنى أنهم
غير متهمين عليه ولا على طلحة والزبير، فإذا حكموا لزم كل امرئ منا بقدر ما تقتضيه
الشهادات. ولا شبهة أنهم لو حكموا وشهدوا بصوره الحال لحكموا ببراءة علي عليه السلام
من دم عثمان وبأن طلحة كان هو الجملة والتفصيل في أمره وحصره، وقتله، وكان الزبير
مساعدا له على ذلك، وإن لم يكن مكاشفا مكاشفة طلحة. ثم نهاهما عن الاصرار على الخطيئة، وقال لهما: إنكما إنما تخافان العار في رجوعكما
وانصرا فكما عن الحرب، فإن لم ترجعا اجتمع عليكما العار والنار، أما العار فلأنكما
تهزمان وتفران عند اللقاء فتعيران بذلك، وأيضا سيكشف للناس أنكما كنتما على باطل
فتعيران بذلك، وأما النار فإليها مصير العصاة إذا ماتوا على غير توبة واحتمال العار، وحده
أهون من احتماله واحتمال النار معه.
134

الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية:
أما بعد فإن الله سبحانه جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم
أحسن عملا، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا، وإنما وضعنا فيها لنبتلى بها، وقد ابتلاني الله بك وابتلاك بي، فجعل أحدنا حجة على الاخر، فغدوت
على طلب الدنيا بتأويل القرآن، وطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني، وعصبته
أنت وأهل الشام بي، وألب عالمكم جاهلكم، وقائمكم قاعدكم.
فاتق الله في نفسك، ونازع الشيطان قيادك، وأصرف إلى الآخرة وجهك،
فهي طريقنا وطريقك، واحذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة تمس الأصل،
وتقطع الدابر، فإني أولى لك بالله إليه غير فاجرة، لئن جمعتني وإياك جوامع
الاقدار لا أزال بباحتك، (حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين).
* * *
الشرح:
قال عليه السلام: إن الله قد جعل الدنيا لما بعدها "، أي جعلها طريقا إلى الآخرة.
ومن الكلمات الحكمية: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وابتلى فيها أهلها
أي اختبرهم ليعلم أيهم أحسن عملا، وهذا من ألفاظ القرآن العزيز، والمراد ليعلم خلقه،
135

أو ليعلم ملائكته ورسله، فحذف المضاف، وقد سبق ذكر شئ يناسب ذلك فيما تقدم،
قال: " ولسنا للدنيا خلقنا " أي لم نخلق للدنيا فقط.
قال: " ولا بالسعي فيها أمرنا "، أي لم نؤمر بالسعي فيها لها، بل أمرنا بالسعي فيها
لغيرها.
ثم ذكر أن كل واحد منه ومن معاوية مبتلى بصاحبه، وذلك كابتلاء آدم بإبليس
وإبليس بآدم.
قال: " فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن "، أي تعديت وظلمت، و " على "
هاهنا متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام، تقديره مثابرا على طلب الدنيا أو مصرا على
طلب الدنيا، وتأويل القرآن ما كان معاوية يموه به على أهل الشام فيقول لهم: أنا ولى
عثمان، وقد قال الله تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا (1)). ثم يعدهم الظفر والدولة على أهل العراق بقوله تعالى: (فلا يسرف في القتل إنه
كان منصورا (1)).
قوله: " وعصبته أنت وأهل الشام "، أي ألزمتنيه كما تلزم العصابة الرأس، " وألب
عالمكم جاهلكم "، أي حرض.
والقياد: حبل تقاد به الدابة.
قوله: واحذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة، الضمير في " منه " راجع إلى الله
تعالى، " ومن " لابتداء الغاية.
.

(1) سورة الإسراء 33.
136

وقال الراوندي: منه، أي من البهتان الذي أتيته، أي من أجله، و " من " للتعليل،
وهذا بعيد وخلاف الظاهر.
قوله: " تمس الأصل "، أي تقطعه، ومنه ماء ممسوس أي يقطع الغلة ويقطع الدابر
أي العقب والنسل.
والألية: اليمين. وباحة الدار: وسطها، وكذلك ساحتها، وروى بناحيتك.
قوله: " بعاجل قارعة، وجوامع الاقدار "، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف (1) للتأكيد، كقوله تعالى: (وإنه لحق اليقين (2)).

(1) د: " الصلة إلى المصول ".
(2) سورة الحاقة 51
137

(56)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام وصى به شريح بن هانئ لما جعله على مقدمته
إلى الشام:
اتق الله في كل مساء وصباح، وخف على نفسك الدنيا الغرور، ولا تأمنها
على حال.
واعلم أنك إن لم تردع نفسك عن كثير مما تحب مخافة مكروهه، سمت بك
الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعا رادعا، ولنزواتك عند الحفيظة واقما قامعا.
* * *
[شريح بن هانئ]
الشرح:
هو شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان بن الضباب، وهو سلمه
ابن الحارث بن ربيعة بن الحارث بن كعب المذحجي. كان هانئ يكنى في الجاهلية
أبا الحكم، لأنه كان يحكم بينهم، فكناه رسول الله صلى الله عليه وآله بأبي شريح،
إذ وفد عليه، وابنه شريح هذا من جلة
أصحاب علي عليه السلام، شهد معه المشاهد كلها،
وعاش حتى قتل بسجستان في زمن الحجاج، وشريح جاهلي إسلامي، يكنى أبا المقدام،
138

ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب (1).
قوله عليه السلام: وخف على نفسك الغرور، يعنى الشيطان، فأما الغرور بالضم
فمصدر. والرادع: الكاف المانع، والنزوات: الوثبات. والحفيظة: الغضب. والواقم:
فاعل، من وقمته أي رددته أقبح الرد وقهرته. يقول عليه السلام: إن لم تردع نفسك
عن كثير من شهواتك أفضت بك إلى كثير من الضرر، ومثل هذا قول الشاعر:
فإنك إن أعطيت بطنك سؤلها * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا (2)
.

(1) الاستيعاب 607.
(2) البيت لحاتم، وهو من شواهد المغني 331
139

(57)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة
إلى البصرة:
أما بعد، فإني خرجت عن حيى هذا إما ظالما وإما مظلوما، وإما باغيا
وإما مبغيا عليه، وإنا أذكر الله من بلغه كتابي هذا لما نفر إلى، فإن كنت
محسنا أعانني، وإن كنت مسيئا استعتبني.
* * *
الشرح:
ما أحسن هذا التقسيم وما أبلغه في عطف القلوب عليه، واستماله النفوس إليه!
قال: لا يخلو حالي في خروجي من أحد أمرين: إما أن أكون ظالما أو مظلوما،
وبدأ بالظالم هضما لنفسه (1)، ولئلا يقول عدوه: بدأ بدعوى كونه مظلوما، فأعطى عدوه
من نفسه ما أراد.
قال: فلينفر المسلمون إلى فإن وجدوني مظلوما أعانوني، وإن وجدوني ظالما نهوني
عن ظلمي لأعتب وأنيب إلى الحق. وهذا كلام حسن، ومراده عليه السلام يحصل على
كلا الوجهين، لأنه إنما أراد أن يستنفرهم، وهذان الوجهان يقتضيان نفيرهم إليه على كل
حال، والحي: المنزل، ولما هاهنا بمعنى إلا، كقوله تعالى: (إن كل نفس لما عليها
حافظ) (1) في قراءة من قرأها بالتشديد.
.

(1) في د " وأراد بالظالم هدم نفسه ".
(2) سورة الطارق 4
140

(58)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام كتبه إلى أهل الأمصار يقص فيه ما جرى بينه
وبين أهل صفين:
وكان بدء أمرنا أنا التقينا بالقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد،
ونبينا واحد، ودعوتنا في الاسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الايمان بالله
والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا، والامر واحد إلا ما اختلفنا فيه من
دم عثمان، ونحن منه براء، فقلنا: تعالوا نداوي ما لا يدرك اليوم بإطفاء
النائرة، وتسكين العامة، حتى يشتد الامر ويستجمع، فنقوى على وضع الحق
في مواضعه، فقالوا: بل نداويه بالمكابرة فأبوا حتى جنحت الحرب وركدت،
ووقدت نيرانها وحمشت (1).
فلما ضرستنا وإياهم، ووضعت مخالبها فينا وفيهم، أجابوا عند ذلك إلى
الذي دعوناهم إليه، فأجبناهم إلى ما دعوا، وسارعناهم إلى ما طلبوا، حتى
استبانت عليهم الحجة، وانقطعت منهم المعذرة، فمن تم على ذلك منهم
فهو الذي أنقذه الله من الهلكة ومن لج وتمادى فهو الراكس الذي ران الله
على قلبه، وصارت دائرة السوء على رأسه
* * *
.

(1) في د " وحميت "
141

الشرح:
روى: " التقينا والقوم بالواو، كما قال:
* قلت إذ أقبلت وزهر تهادى *
ومن لم يروها بالواو فقد استراح من التكلف.
قوله: والظاهر أن ربنا واحد "، كلام من لم يحكم لأهل صفين من جانب معاوية
حكما قاطعا بالاسلام، بل قال: ظاهرهم الاسلام، ولا خلف بيننا وبينهم فيه، بل
الخلف في دم عثمان.
قال عليه السلام: قلنا لهم: تعالوا فلنطفئ هذه النائرة الان يوضع الحرب، إلى أن
تتمهد قاعدتي في الخلافة وتزول هذه الشوائب التي تكدر على الامر، ويكون للناس
جماعه ترجع إليها، وبعد ذلك أتمكن من قتلة عثمان بأعيانهم فأقتص منهم، فأبوا
إلا المكابرة والمغالبة.
والحرب.
قوله: " حتى جنحت الحرب وركدت "، جنحت: أقبلت، ومنه: قد جنح
الليل، أي أقبل، وركدت: دامت وثبتت.
قوله: " ووقدت نيرانها "، أي التهبت.
قوله: " وحمشت "، أي استعرت وشبت. وروى: " واستحشمت (1) " وهو
أصح، ومن رواها " حمست " بالسين المهملة أراد اشتدت وصلبت.
قوله: " فلما ضرستنا وإياهم " أي عضتنا بأضراسها، ويقال: ضرسهم الدهر، أي
اشتد عليهم.
.

(1) في د " واستجرت ". والمغني عليه يستقيم أيضا
142

قال: لما اشتدت الحرب علينا وعليهم وأكلت منا ومنهم، عادوا إلى ما كنا سألناهم
ابتداء، وضرعوا إلينا في رفع الحرب، ورفعوا المصاحف يسألون النزول على حكمها،
وإغماد السيف، فأجبناهم إلى ذلك.
قوله: " وسارعناهم إلى ما طلبوا " كلمة فصيحة، وهي تعدية الفعل اللازم، كأنها لما
كانت في معنى المسابقة، والمسابقة متعدية عدى المسارعة.
قوله: " حتى استبانت "، يقول: استمررنا على كف الحرب ووضعها، إجابة
لسؤالهم، إلى أن استبانت عليهم حجتنا، وبطلت معاذيرهم وشبهتهم في الحرب وشق العصا،
فمن تم منهم على ذلك، أي على انقياده إلى الحق بعد ظهوره له، فذاك الذي خلصه الله من
الهلاك وعذاب الآخرة ومن لج منهم على ذلك وتمادى في ضلاله فهو الراكس، قال قوم:
الراكس هنا بمعنى المركوس، فهو مقلوب فاعل بمعنى مفعول، كقوله تعالى: " فهو في
عيشة راضية) (1) أي مرضية، وعندي أن اللفظة على بابها، يعنى أن من لج فقد
ركس نفسه، فهو الراكس، وهو المركوس، يقال: ركسه وأركسه بمعنى، والكتاب
العزيز جاء بالهمز فقال: (والله أركسهم بما كسبوا) (2)، أي ردهم إلى كفرهم (3)،
ويقول: ارتكس فلان في أمر كان نجا منه، وران على قلبه، أي ران هو على قلبه، كما
قلنا في الراكس، ولا يجوز أن يكون الفاعل - وهو الله - محذوفا، لان الفاعل لا يحذف،
بل يجوز أن يكون الفاعل كالمحذوف، وليس بمحذوف، ويكون المصدر وهو
الرين، ودل الفعل عليه كقوله تعالى: (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا
الآيات) (4) أي بدا لهم البداء. وران بمعنى غلب وغطى، وروى " فهو الراكس
الذي رين على قلبه "
.

(1) القارعة 7.
(2) سورة النساء 88.
(3) في د " كيدهم ".
(4) سورة يوسف 35
143

قال: وصارت دائرة السوء على رأسه، من ألفاظ القرآن العزيز، قال الله تعالى:
(عليهم دائرة السوء) (1) والدوائر: الدول.
قال:
* وإن على الباغي تدور الدوائر. *
والدائرة أيضا: الهزيمة، يقال: على من الدائرة منهما، والدوائر أيضا الدواهي.
.

(1) سورة الفتح 7
144

(59)
ومن كتاب له عليه السلام إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان:
أما بعد، فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرا من العدل، فليكن
أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجور عوض من العدل، فاجتنب
ما تنكر أمثاله، وابتذل نفسك فيما افترض الله عليك، راجيا ثوابه، ومتخوفا عقابه.
واعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة إلا كانت فرغته
عليه حسرة يوم القيامة، وإنه لن يغنيك عن الحق شئ أبدا، ومن الحق عليك
حفظ نفسك، والاحتساب على الرعية بجهدك، فإن الذي يصل إليك من ذلك
أفضل من الذي يصل بك، والسلام.
* * *
الشرح:
[الأسود بن قطبة]
لم أقف إلى الان على نسب الأسود بن قطبة، وقرأت في كثير من النسخ أنه حارثي
من بنى الحار ث بن كعب، ولم أتحقق ذلك، والذي يغلب على ظني انه الأسود بن زيد
ابن قطبة بن غنم الأنصاري من بنى عبيد بن عدي. ذكره أبو عمر بن عبد البر في
كتاب " الاستيعاب " وقال إن موسى بن عقبة عده فيمن شهد بدرا. (1).
.

(1) سورة الفتح 7
145

قوله عليه السلام "، إذا اختلف هوى الوالي منعه كثيرا من الحق قول صدق
لأنه متى لم يكن الخصمان عند الوالي سواء في الحق جار وظلم.
ثم قال له: فإنه ليس في الجور عوض من العدل، وهذا أيضا حق، وفى العدل كل العوض من الجور.
ثم أمره باجتناب ما ينكر مثله من غيره، وقد تقدم نحو هذا..
وقوله: " إلا كانت فرغته " كلمة فصيحة وهي المرة الواحدة من الفراغ،
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله: " إن الله يبغض الصحيح الفارغ لا في شغل
الدنيا ولا في شغل الآخرة "، ومراد أمير المؤمنين عليه السلام هاهنا الفراغ من عمل الآخرة خاصة.
قوله فان الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك "، معناه: فإن
الذي يصل إليك من ثواب الاحتساب على الرعية، وحفظ نفسك من مظالمهم والحيف
عليهم، أفضل من الذي يصل بك من حراسة دمائهم (1) وأعراضهم وأموالهم،
ولا شبهة في ذلك، لان إحدى المنفعتين دائمة، والأخرى منقطعة، والنفع الدائم أفضل
من المنقطع.
.

(1) ب: " دعاتهم " تصحيف، صوابه في ا، د
146

(60)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى العمال الذين يطأ عملهم الجيوش (1):
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى من مر به الجيش من جباه الخراج
وعمال البلاد:
أما بعد، فإني قد سيرت جنودا هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم
بما يجب لله عليهم من كف الأذى وصرف الشذى، وأنا أبرأ إليكم
وإلى ذمتكم من معرة الجيش، إلا من جوعه المضطر لا يجد عنها مذهبا
إلى شبعه (2)، فنكلوا من تناول منهم ظلما عن ظلمهم، وكفوا أيدي سفهائكم
عن مضادتهم، والتعرض لهم فيما استثنيناه منهم، وأنا بين أظهر الجيش
، فارفعوا إلى مظالمكم، وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم ولا تطيقون دفعه إلا بالله (3) وبي، أغيره بمعونة الله. إن شاء الله.
* * *
الشرح:
روى " عن مضارتهم " بالراء المشددة. وجباة الخراج: الذين يجمعونه، جبيت الماء
في الحوض، أي جمعته. والشذى والضرب والشر تقول: لقد أشذيت وآذيت. وإلى ذمتكم،
أي إلى اليهود والنصارى الذين بينكم (4)، قال عليه السلام: من آذى ذميا فكأنما (5) آذاني "،
.

(1) د " عملهم الجيش ".
(2) مخطوطة النهج: " إلا إلى شبعه ".
(3) د " بإذن الله ".
(4) د " بذمتكم ".
(5) د " فقد "
147

وقال: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا، ويسمى هؤلاء
ذمه، أي أهل ذمة، بحذف المضاف. والمعرة: المضرة قال الجيش ممنوع من أذى
من يمر به من المسلمين وأهل الذمة إلا من سد جوعة المضطر منهم خاصة، لان المضطر
تباح له الميتة فضلا عن غيرها.
ثم قال: فنكلوا من تناول، وروى " بمن تناول " بالباء، أي عاقبوه. و " عن " في قوله: " عن ظلمهم " يتعلق بنكلوا، لأنها في معنى " اردعوا "، لان النكال
يوجب الردع.
ثم أمرهم أن يكفوا أيدي أحداثهم وسفهائهم عن منازعة الجيش ومصادمته والتعرض لمنعه عما استثناه، وهو سد الجوعة عند الاضطرار، فإن ذلك لا يجوز في الشرع،
وأيضا فإنه يفضي إلى فتنة وهرج.
ثم قال: " وأنا بين أظهر الجيش "، أي أنا قريب منكم، وسائر على إثر الجيش،
فارفعوا إلى مظالمكم وما عراكم منهم على وجه الغلبة والقهر، فإني مغير ذلك ومنتصف
لكم منهم.
148

(61)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى كميل بن زياد النخعي وهو عامله على هيت
ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالبا للغارة أما بعد، فإن تضييع المرء ما ولى، وتكلفه ما كفى، لعجز حاضر،
ورأي متبر، وإن تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا، وتعطيلك مسالحك التي وليناك
- ليس لها من يمنعها ولا يرد الجيش عنها - لرأى شعاع، فقد صرت جسرا لمن
أراد الغارة من أعدائك على أوليائك، غير شديد المنكب، ولا مهيب الجانب،
ولا ساد ثغرة، ولا كاسر لعدو شوكة، ولا مغن عن أهل مصره (1)، ولا مجز
عن أميره.
* * *
الشرح:
[كميل بن زياد ونسبه]
هو كميل بن زياد بن سهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان
ابن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد كان من أصحاب
علي عليه السلام وشيعته وخاصته، وقتله الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعة،
وكان كميل بن زياد عامل علي عليه السلام على هيت، وكان ضعيفا، يمر عليه سرايا معاوية
تنهب أطراف العراق ولا يردها، ويحاول أن يجبر ما عنده من الضعف بأن يغير
.

(1) في د " النصرة "
149

على أطراف أعمال معاوية مثل قرقيسيا وما يجرى مجراها من القرى التي على الفرات،
فأنكر عليه السلام ذلك من فعله، وقال: إن من العجز الحاضر أن يهمل الوالي ما وليه، ويتكلف ما ليس من تكليفه.
* * *
والمتبر الهالك، قال تعالى: (ان هؤلاء متبر ما هم فيه.) (1) والمسالح: جمع مسلحة، وهي المواضع
التي يقام فيها طائفة من الجند لحمايتها.
ورأي شعاع، بالفتح، أي متفرق.
ثم قال له: " قد صرت جسرا " أي يعبر عليك العدو كما يعبر الناس على الجسور،
وكما أن الجسر لا يمنع من يعبر به ويمر عليه فكذاك أنت.
والثغرة. الثلمة. ومجز: كاف ومغن، والأصل " مجزئ " بالهمز، فخفف.
.

(1) سورة الأعراف 139
150

(62)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر رحمه الله
لما ولاه إمارتها:
أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وآله نذيرا للعالمين، ومهيمنا على المرسلين، فلما مضى صلى الله عليه وآله تنازع المسلمون الامر
من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا
الامر من بعده صلى الله عليه وآله عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه عنى من
بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت بيدي حتى رأيت
راجعه الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله
فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما، تكون المصيبة به على أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل،
يزول منها ما كان، كما يزول السراب، وكما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك
الاحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه.
* * *
الشرح:
المهيمن: الشاهد، قال الله تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا)، أي تشهد بايمان من آمن وكفر من كفر. وقيل تشهد بصحة نبوة الأنبياء قبلك.
151

وقوله على المرسلين يؤكد صحة هذا التفسير الثاني، وأصل اللفظة من " آمن
غيره من الخوف لان الشاهد يؤمن غيره من الخوف بشهادته ثم تصرفوا فيها فأبدلوا
إحدى همزتي " مؤامن " ياء فصار " مؤيمن "، ثم قلبوا الهمزة هاء كأرقت وهرقت
فصار " مهيمن ".
والروع الخلد، وفى الحديث: " إن روح القدس نفت في روعي "، قال ما يخطر لي ببال أن العرب تعدل بالامر بعد وفاة محمد صلى الله عليه وآله عن بني هاشم، ثم من بني هاشم
عنى: لأنه كان المتيقن بحكم الحال الحاضرة. وهذا الكلام يدل على بطلان دعوى الامامية
النص وخصوصا الجلي.
قال: فما راعني إلا انثيال الناس "، تقول للشئ يفجؤك بغته: ما راعني إلا
كذا، والروع بالفتح، الفزع، كأنه يقول: ما أفزعني شئ بعد ذلك السكون الذي كان
عندي وتلك الثقة التي اطمأننت إليها إلا وقوع ما وقع من انثيال الناس - أي
انصبابهم من كل وجه كما ينثال التراب - على أبى بكر، وهكذا لفظ الكتاب الذي
كتبه للأشتر، وإنما الناس يكتبونه الان " إلى فلان " تذمما من ذكر الاسم كما يكتبون
في أول الشقشقية: " أما والله لقد تقمصها فلان "، واللفظ " أما الله لقد تقمصها
ابن أبي قحافة ".
قوله: " فأمسكت يدي "، أي امتنعت عن بيعته، حتى رأيت راجعة الناس،
يعنى أهل الردة كمسيلمة، وسجاح وطليحة بن خويلد ومانعي الزكاة وإن كان مانعوا
الزكاة قد اختلف في أنهم أهل ردة أم لا.
ومحق الدين إبطاله.
وزهق: خرج وزال. تنهنه: سكن، وأصله الكف، تقول: نهنهت السبع فتنهنه،
152

أي كف عن حركته وإقدامه، فكأن الدين كان متحركا مضطربا فسكن وكف عن ذلك
الاضطراب.
* * *
روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير أن رسول الله صلى الله عليه
وآله لما مات اجتمعت أسد وغطفان وطيئ على طليحة بن خويلد إلا ما كان من خواص
أقوام في الطوائف الثلاث فاجتمعت، أسد بسميراء، وغطفان بجنوب طيبة (1) وطيئ في
حدود أرضهم، واجتمعت ثعلبه بن أسد ومن يليهم من قيس بالأبرق (2) من الربذة،
وتأشب (3) إليهم ناس من بنى كنانة، ولم تحملهم البلاد، فافترقوا فرقتين: أقامت إحداهما
بالأبرق، وسارت الأخرى إلى ذي القصة، وبعثوا وفودا إلى أبى بكر يسألونه أن يقارهم
على إقامة الصلاة ومنع الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق، فقال: لو منعوني عقالا (3)
لجاهدتهم عليه، ورجع الوفود إلى قومهم فأخبروهم بقلة من أهل المدينة، فأطمعوهم فيها
وعلم أبو بكر والمسلمون بذلك، وقال لهم أبو بكر: أيها المسلمون، إن الأرض كافرة،
وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلا تؤتون أم نهارا، وأدناهم منكم على
بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا
إليهم، فأعدوا واستعدوا. فخرج علي عليه السلام بنفسه، وكان على نقب من أنقاب
المدينة، وخرج الزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وغيرهم فكانوا على الأنقاب الثلاثة،
فلم يلبثوا إلا قليلا حتى طرق القوم المدينة غاره مع الليل، وخلفوا بعضهم بذي حسي
.

(1) في الأصول: " طمية " والصواب ما أثبته من تاريخ الطبري (2) في الأصول: " الأزرق "، والصواب ما أثبته من الطبري.
(3) تأشبوا إليهم: انضموا.
(4) أراد بالعقال الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في إبل الصدقة، وانظر نهاية ابن الأثير.
153

ليكونوا ردءا لهم فوافوا الأنقاب وعليها المسلمون، فأرسلوا إلى أبى بكر بالخبر، فأرسل
إليهم أن الزموا مكانكم ففعلوا، وخرج أبو بكر في جمع من أهل المدينة على النواضح،
فانتشر العدو بين أيديهم، واتبعهم المسلمون على النواضح حتى بلغوا ذا حسي فخرج،
عليهم الكمين بأحناء (1) قد نفخوها وجعلوا، فيها الحبال، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه
الإبل، فتدهده (2) كل نحى منها في طوله (3) فنفرت إبل المسلمين، وهم عليها - ولا تنفر
الإبل من شئ نفارها من الأنحاء فعاجت بهم لا يملكونها حتى دخلت بهم المدينة،
ولم يصرع منهم أحد ولم يصب، فبات المسلمون تلك الليلة يتهيئون، ثم خرجوا على تعبية،
فما طلع الفجر إلا وهم والقوم على صعيد واحد، فلم يسمعوا للمسلمين حسا ولا همسا حتى
وضعوا فيهم السيف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذر قرن الشمس إلا وقد ولوا الادبار وغلبوهم
على عامة ظهرهم، ورجعوا إلى المدينة ظافرين (4).
قلت: هذا هو الحديث الذي أشار عليه السلام إلى أنه نهض فيه أيام أبى بكر. وكأنه
جواب عن قول قائل: إنه عمل لأبي بكر، وجاهد بين يدي أبى بكر، فبين عليه السلام
عذره في ذلك، وقال: إنه لم يكن كما ظنه القائل، ولكنه من باب دفع الضرر عن
النفس والدين، فإنه واجب سواء كان للناس إمام أو لم يكن.
[ذكر ما طعن به الشيعة في امامة أبى بكر والجواب عنها]
وينبغي حيث جرى ذكر أبى بكر في كلام أمير المؤمنين عليه السلام أن نذكر ما أورده
قاضي القضاة في " المغني " من المطاعن التي طعن بها فيه وجواب قاضي القضاة
.

(1) الأنحاء: جمع نحى، وهو الزق.
(2) دهدهوها: دفعوها.
(3) الطول: الحبل يشد به.
(4) تاريخ الطبري 3: 244 (طبعة المعارف) مع تصرف واختصار
154

عنها، واعتراض المرتضى في " الشافي " على قاضي القضاة، ونذكر ما عندنا في ذلك ثم نذكر مطاعن أخرى لم يذكرها قاضي القضاة.
* * *
[الطعن الأول]
قال قاضي القضاة بعد أن ذكر ما طعن به فيه في أمر فدك، وقد سبق القول فيه.
ومما طعن به عليه قولهم: كيف يصلح للإمامة من يخبر عن نفسه أن له شيطانا يعتريه
ومن يحذر الناس نفسه، ومن يقول: " أقيلوني " بعد دخوله في الإمامة، مع أنه لا يحل
للامام أن يقول: أقيلوني البيعة!
أجاب قاضي القضاة فقال: إن شيخنا أبا على قال: لو كان ذلك نقصا فيه لكان قول
الله في آدم وحواء: (فوسوس لهما الشيطان) (1)، وقوله: (فأزلهما الشيطان) (2)،
وقوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في
أمنبته) (3)، يوجب النقص في الأنبياء، وإذا لم يجب ذلك، فكذلك ما وصف به أبو بكر
نفسه، وإنما أراد أنه عند الغضب يشفق من المعصية ويحذر منها، ويخاف أن يكون
الشيطان يعتريه في تلك الحال فيوسوس إليه، وذلك منه على طريقه الزجر لنفسه عن
المعاصي، وقد روى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه ترك مخاصمة الناس في حقوقه إشفاقا
من المعصية، وكان يولى ذلك عقيلا، فلما أسن عقيل كان يوليها عبد الله بن جعفر. فأما
ما روى في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف، وإن صح فالمراد به التنبيه على أنه لا يبالي لأمر
يرجع إليه أن يقيله الناس البيعة، وإنما يضرون بذلك أنفسهم، وكأنه نبه بذلك
.

(1) سورة الأعراف 20.
(2) سورة البقرة 36.
(3) سورة الحج 52
155

على أنه غير مكره لهم، وأنه قد خلاهم وما يريدون إلا أن يعرض ما يوجب خلافه. وقد روى
أن أمير المؤمنين عليه السلام أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله، والمراد بذلك أنه
تركه وما يختار.
اعترض المرتضى رضي الله عنه فقال: أما قول أبى بكر: " وليتكم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني، وإن اعوججت فقوموني، فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي،
فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم " فإنه يدل على أنه لا يصلح
للإمامة من وجهين: أحدهما أن هذا صفة من ليس بمعصوم، ولا يأمن الغلط على نفسه
من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية، وقد بينا ان الامام لا بد ان يكون
معصوما موفقا مسددا، والوجه الاخر أن هذه صفة من لا يملك نفسه، ولا يضبط غضبه
ومن هو في نهاية الطيش والحدة والخرق والعجلة. ولا خلاف أن الامام يجب أن
يكون منزها عن هذه الأوصاف، غير حاصل عليها وليس يشبه قول أبى بكر ما تلاه من
الآيات كلها. لان أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب، وأن عادته بذلك
جاريه، وليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان ولا يطيعه، ويزين له القبيح فلا
يأتيه، وليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك عن الصواب، بل
هو زيادة في التكليف، ووجه يتضاعف معه الثواب وقوله تعالى: (ألقى الشيطان في أمنيته) قيل: معناه في تلاوته، وقيل: في فكرته، على سبيل الخاطر، وأي الامرين
كان، فلا عار في ذلك على النبي صلى الله عليه وآله ولا نقص وإنما العار والنقص على من
يطيع الشيطان ويتبع ما يدعو إليه. وليس لأحد أن يقول: هذا إن سلم لكم في جميع
الآيات لم يسلم في قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان)، لأنه قد خبر عن تأثير غوايته ووسوسته
بما كان منهما من الفعل. وذلك أن المعنى الصحيح في هذه الآية أن آدم وحواء
كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة وترك التناول منها، ولم يكن ذلك عليهما واجبا لازما،
156

لان الأنبياء لا يخلون بالواجب، فوسوس لهما الشيطان حتى تناولا من الشجرة، فتركا
مندوبا إليه، وحرما بذلك أنفسهما الثواب وسماه إزلالا، لأنه حط لهما عن درجة الثواب وفعل الأفضل، وقوله تعالى في موضع آخر: (وعصى آدم ربه فغوى) (1) لا ينافي هذا
المعنى، لان المعصية قد يسمى بها من أخل بالواجب والندب معا. قوله: " فغوى " أي
خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب إليه على أن صاحب الكتاب يقول:
إن هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحق بها عقابا ولا ذما، فعلى مذهبه أيضا
تكون المفارقة بينه وبين أبى بكر ظاهرة، لان أبا بكر خبر عن نفسه ان الشيطان يعتريه
حتى يؤثر في الاشعار والأبشار، ويأتي ما يستحق به التقويم، فأين هذا من ذنب صغير
لا ذم ولا عقاب عليه، وهو يرجى من وجه من الوجوه مجرى المباح، لأنه لا يؤثر
في أحوال فاعله (2) وحط رتبته، وليس يجوز أن يكون ذلك منه على سبيل الخشية والاشفاق على
ما ظن، لان مفهوم خطابه يقتضى خلاف ذلك، ألا ترى أنه قال: " إن لي شيطانا
يعتريني " وهذا قول من قد عرف عادته، ولو كان على سبيل الاشفاق والخوف لخرج
عن هذا المخرج، ولكان يقول: فإني آمن من كذا وإني لمشفق منه. فأما ترك
أمير المؤمنين عليه السلام مخاصمة الناس في حقوقه فكأنه إنما كان تنزها وتكرما
وأي نسبة بين ذلك وبين من صرح وشهد على نفسه بما لا يليق بالأئمة وأما خبر استقاله
البيعة وتضعيف صاحب الكتاب له فهو أبد يضعف ما لا يوافقه من غير حجة يعتمدها في تضعيفه. وقوله: إنه ما استقال على التحقيق، وإنما نبه على أنه لا يبالي بخروج الامر عنه، وأنه غير مكره لهم عليه فبعيد من الصواب: لان ظاهر قوله " أقيلوني " أمر بالإقالة،
وأقل أحواله أن يكون عرضا لها وبذلا، وكلا الامرين قبيح. ولو أراد ما ظنه لكان له
.

(1) سورة طه 121.
(2) الشافي: " حال فاعله "
157

في غير هذا القول مندوحة ولكان يقول: إني ما أكرهتكم ولا حملتكم على مبايعتي
وما كنت أبالي ألا يكون هذا الامر في ولا إلى، وإن مفارقته لتسرني لولا ما ألزمنيه
الدخول فيه من التمسك به، متى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل، جر ذلك علينا ما لا
قبل لنا به. وأما أمير المؤمنين عليه السلام فإنه لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخولها فيها
وإنما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء فأعفاه قلة فكر فيه، وعلما بأن إمامته
لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها، فأين هذا من استقاله بيعة قد تقدمت
واستقرت (1)!
* * *
قلت: أما قول أبى بكر: وليتكم ولست بخيركم " فقد صدق عند كثير من أصحابنا،
لان خيرهم علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن لا يقول بذلك يقول بما قاله الحسن البصري:
والله إنه ليعلم أنه خيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه. ولم يطعن المرتضى فيه بهذه اللفظة
لنطيل القول فيها. وأما قول المرتضى عنه أنه قال: فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي "،
فالمشهور في الرواية: " فإن لي شيطانا يعتريني " (2)، قال المفسرون: أراد بالشيطان
الغضب وسماه شيطانا على طريق الاستعارة، وكذا ذكره شيخنا أبو الحسين في " الغرر ".
قال معاوية لانسان غضب في حضرته فتكلم بما لا يتكلم بمثله في حضره الخلفاء: أربع
على ظلعك (3) أيها الانسان، فإنما الغضب شيطان، وأنا لم نقل إلا خيرا.
وقد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في " كتاب التاريخ الكبير " خطبتي
أبى بكر عقيب بيعته بالسقيفة، ونحن نذكرهما نقلا من كتابه، أما الخطبة الأولى فهي:
.

(1) الشافي 415، 416.
(2) أي من غير ذكر لفظ " عند الغضب ".
(3) أربع على نفسك، أي توقف
158

أما بعد أيها الناس، فإني وليتكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت
فقوموني، لان الصدق أمانة، والكذب خيانة الضعيف منكم قوى عندي حتى
أريح عليه حقه، والقوى منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، لا يدع قوم الجهاد
في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني
ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم: قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله.
وأما الخطبة الثانية: فهي: أيها الناس إنما أنا مثلكم، وإني لا أدرى لعلكم
ستكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يطيقه (1). إن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وآله
على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمتبوع، فإن استقمت
فاتبعوني، وإن زغت فقوموني، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله قبض وليس أحد من
هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها. ألا وان لي شيطانا يعتريني، فإذا غضبت
فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم. ألا وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد
غيب عنكم علمه، فإن استطعتم ألا يمضى هذا الاجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا،
ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله. فسابقوا في مهل آجالكم من قبل ان تسلمكم آجالكم إلى
انقطاع الأعمال، فإن قوما نسوا آجالهم، وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم. الجد الجد! الوحا الوحا! فإن وراءكم طالبا حثيثا أجل (2) مره
سريع. احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والاخوان. ولا تغبطوا الاحياء إلا بما
يغبط به الأموات (3).
إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما يراد به وجهه فأريدوا وجه الله بأعمالكم، واعلموا
.

(1) الطبري: " يطيق ".
(2) الطبري: " أجلا ".
(3) إلى هنا في الطبري نهاية الخبة، وما بعدها من خطبة أخرى
159

أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فلطاعة أتيتموها، وحظ ظفرتم به، وضرائب أديتموها،
وسلف قدمتموه من إيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم، فاعتبروا عباد الله بمن
مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس وأين هم اليوم! أين الجبارون؟
أين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا
رميما، قد تركت عليهم القالات الخبيثات، وإنما الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات.
وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها! قد بعدوا بسيئ ذكرهم، وبقى ذكرهم
وصاروا كلا شئ ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات ومضوا
والأعمال أعمالهم، والدنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفا من بعدهم فإن نحن اعتبرنا بهم
نجونا، وإن اغتررنا كنا مثلهم، أين الوضاء (1) الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم!
صاروا ترابا، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط،
وجعلوا فيها العجائب، وتركوها لمن خلفهم! فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلم
القبور، (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) (2). أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم! قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا عليه، وأقاموا للشقوة
وللسعادة. ألا إن الله لا شريك له، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به
خيرا، ولا يصرف عنه به شرا إلا بطاعته واتباع أمره واعلموا أنكم عباد مدينون،
وأن ما عنده لا يدر ك إلا بتقواه وعبادته. ألا وإنه لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر
بعد الجنة (3).
فهذه خطبتا أبى بكر يوم السقيفة، واليوم الذي يليه، إنما قال: " إن لي شيطانا
يعتريني، وأراد بالشيطان الغضب، ولم يرد أن له شيطانا من مردة الجن يعتريه إذا
.

(1) الوضاء: ذووا الوضاءة والحسن.
(2) سورة مريم: 98.
(3) تاريخ الطبري 3: 223، 225
160

غضب فالزيادة فيما ذكره المرتضى في قوله: " إن لي شيطانا يعتريني عند غضبي "، تحريف
لا محالة، ولو كان له شيطان من الجن يعتاده وينوبه لكان في عداد المصروعين من
المجانين وما ادعى أحد على أبى بكر هذا لا من أوليائه ولا من أعدائه، وإنما ذكرنا
خطبته على طولها والمراد منها كلمة واحدة، لما فيها من الفصاحة والموعظة على عادتنا
في الاعتناء بإيداع هذا الكتاب ما كان ذاهبا هذا المذهب، وسالكا هذا السبيل.
فأما قول المرتضى: " فهذه صفه من ليس بمعصوم "، فالامر كذلك والعصمة عندنا
ليست شرطا في الإمامة ولو لم يدل على عدم اشتراطها، إلا أنه قال على المنبر بحضور
الصحابة هذا القول، وأقروه على الإمامة - لكفى في عدم كون العصمة شرطا، لأنه قد
حصل الاجماع على عدم اشتراط ذلك، إذ لو كان شرطا لأنكر منكر إمامته كما لو قال:
إني لا أصبر عن شرب الخمر وعن الزنى.
فأما قوله: " هذه صفة طائش لا يملك نفسه "، فلعمري إن أبا بكر كان حديدا، وقد
ذكره عمر بذلك، وذكره غيره من الصحابة بالحدة والسرعة ولكن لا بحيث أن تبطل أهليته للإمامة، لان الذي يبطل الإمامة من ذلك وما يخرج الانسان عن العقل،
وأما هو دون ذلك فلا. وليس قوله: " فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم " محمول
على ظاهره، وإنما أراد به المبالغة في وصف القوة الغضبية عنده، وإلا فما سمعنا ولا نقل
ناقل من الشيعة ولا من غير الشيعة أن أبا بكر في أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ولا في الجاهلية ولا في أيام خلافته احتد على إنسان فقام إليه فضربه بيده ومزق شعره.
فأما ما حكاه قاضي القضاة عن الشيخ أبى على من تشبيه هذه اللفظة بما ورد في القرآن،
فهو على تقدير أن يكون أبو بكر عنى الشيطان حقيقة. وما اعترض به المرتضى ثانية
عليه غير لازم، لان الله تعالى قال: فوسوس لهما الشيطان)، وتعقب ذلك قبولهما
161

وسوسته، وأكلهما من الشجرة فكيف يقول المرتضى: ليس قول أبى بكر بمنزله من
وسوس له الشيطان فلم يطعه! وكذلك قوله تعالى في قصة موسى لما قتل القبطي: (هذا
من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين)، وكذلك قوله: (فأزلهما الشيطان عنها)،
وقوله: (ألقى الشيطان في أمنيته)، وما ذهب إليه المرتضى من التأويلات مبنى على مذهبه
في العصمة الكلية، وهو مذهب يحتاج في نصرته إلى تكلف شديد وتعسف عظيم في تأويل
الآيات، على أنه إذا سلم أن الشيطان ألقى في تلاوة الرسول (صلى الله عليه وآله) ما ليس من
القرآن حتى ظنه السامعون كلاما من كلام الرسول، فقد نقض دلالة التنفير المقتضية عنده
في العصمة لأنه لا تنفير عنده أبلغ من تمكين الله الشيطان أن يخلط كلامه بكلامه،
ورسوله يؤديه إلى المكلفين حتى يعتقد السامعون كلهم أن الكلامين كلام واحد.
وأما قوله: إن آدم كان مندوبا إلى ألا يأكل من الشجرة لا محرم عليه أكلها،
ولفظة " عصى " إنما المراد بها خالف المندوب (1)، ولفظة " غوى "، إنما المراد " خاب:
من حيث لم يستحق الثواب على اعتماد ما ندب إليه، فقول يدفعه ظاهر الآية لان الصيغة
صيغة النهي، وهي قوله: (ولا تقربا هذه الشجرة) والنهى عند المرتضى يقتضى التحريم
لا محالة، وليس الامر الذي قد يراد به الندب، وقد يراد به الوجوب.
وأما قول شيخنا أبى على: إن كلام أبى بكر خرج مخرج الاشفاق والحذر من المعصية
عند الغضب فجيد.
واعتراض المرتضى عليه بأنه ليس ظاهر اللفظ ذاك غير لازم، لأن هذه عادة العرب،
يعبرون عن الامر بما هو منه بسبب وسبيل، كقولهم: لا تدن من الأسد فيأكلك، فليس
أنهم قطعوا على الاكل عند الدنو، وإنما المراد الحذر والخوف والتوقع للاكل عند
الدنو.
.

(1) ا: " الندب "
162

وأما الكلام في قوله: " أقيلوني "، فلو صح الخبر لم يكن فيه مطعن عليه، لأنه إنما
أراد في اليوم الثاني اختبار حالهم في البيعة التي وقعت في اليوم الأول ليعلم وليه من عدوه
منهم، وقد روى جميع أصحاب السير أن أمير المؤمنين خطب في اليوم الثاني من بيعته
فقال: أيها الناس، إنكم بايعتموني على السمع والطاعة وأنا أعرض اليوم عليكم
ما دعوتموني إليه أمس، فإن أجبتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد. وليس بجيد
قول المرتضى: أنه لو كان يريد العرض والبذل لكان قد قال كذا وكذا. فإن هذه
مضايقة منه شديدة للألفاظ، ولو شرعنا في مثل هذا لفسد أكثر ما يتكلم به الناس.
على أنا لو سلمنا أنه استقالهم البيعة حقيقة، فلم قال المرتضى: إن ذلك لا يجوز؟ أليس يجوز
للقاضي أن يستقيل من القضاء بعد توليته (1) إياه، ودخوله فيه! فكذلك يجوز للامام أن
يستقيل من الإمامة إذا انس من نفسه ضعفا عنها، أو أنس من رعيته نبوة عنه، أو أحس بفساد ينشأ في الأرض من جهة ولايته على الناس، ومن يذهب إلى أن الإمامة تكون
بالاختيار كيف يمنع من جواز استقالة الامام وطلبه إلى الأمة أن يختاروا غيره لعذر يعلمه
من حال نفسه! وإنما يمنع من ذلك المرتضى وأصحابه القائلون بأن الإمامة بالنص،
وإن الامام محرم عليه ألا يقوم بالإمامة، لأنه مأمور بالقيام بها لتعينه خاصة دون كل
أحد من المكلفين. وأصحاب الاختيار يقولون: إذا لم يكن زيد إماما كان عمرو إماما
عوضه، لأنهم لا يعتبرون الشروط التي يعتبرها الامامية من العصمة، وأنه أفضل أهل
عصره وأكثرهم ثوابا وأعلمهم وأشجعهم، وغير ذلك من الشروط التي؟ تقتضي
تفرده وتوحده بالامر، على أنه إذا جاز عندهم أن يترك الامام الإمامة في الظاهر
كما فعله الحسن، وكما فعله غيره من الأئمة بعد الحسين (عليه السلام) للتقية جاز للامام
.

(1) كذا في ا ود، وفى ب: " توليه "
163

على مذهب أصحاب الاختيار أن يترك الإمامة ظاهرا وباطنا لعذر يعلمه من حال نفسه
أو حال رعيته.
* * *
الطعن الثاني
قال قاضي القضاة بعد أن ذكر قول عمر: " كانت بيعة أبى بكر فلتة " - وقد تقدم
منا القول في ذلك في أول هذا الكتاب: ومما طعنوا به على (1) أبى بكر أنه قال عند موته:
ليتني كنت سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ثلاثة، فذكر في أحدها: ليتني كنت
سألته: هل للأنصار في هذا الامر حق؟ قالوا، وذلك يدل على شكه في صحه بيعته، وربما قالوا: قد روى أنه قال في مرضه: ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه،
وليتني في ظلة بنى ساعدة كنت: ضربت على [يد] (2) أحد الرجلين فكان هو
الأمير، وكنت الوزير. قالوا: وذلك يدل على ما روى من إقدامه على بيت فاطمة (عليها
السلام) عند اجتماع على (عليه السلام) والزبير وغيرهما فيه، ويدل على أنه كان يرى الفضل
لغيره لا لنفسه.
قال قاضي القضاة: والجواب ان قوله: " ليتني " لا يدل على الشك فيما تمناه، وقول
إبراهيم (عليه السلام): (رب أرني كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن
ليطمئن قلبي) (3) أقوى من ذلك في الشبهة. ثم حمل تمنيه على أنه أراد سماع شئ
مفصل، أو أراد: ليتني سألته عند الموت، لقرب العهد، لان ما قرب عهد لا ينسى
ويكون أردع للأنصار على ما حاولوه ثم قال: على أنه ليس في ظاهره أنه تمنى أن
.

(1) ب: " في ".
(2) تكملة من كتاب الشافي.
(3) سورة البقرة 62
164

يسأل هل لهم حق في الإمامة أم لا؟ لان الإمامة قد يتعلق بها حقوق سواها. ثم دفع
الرواية المتعلقة ببيت فاطمة (عليه السلام)، وقال: فأما تمنيه أن يبايع غيره، فلو ثبت لم يكن
ذما لان من اشتد التكليف عليه فهو يتمنى خلافه (1).
* * *
اعترض المرتضى رحمه الله هذا الكلام فقال: ليس يجوز أن يقول أبو بكر: " ليتني
كنت سألت عن كذا ". إلا مع الشك والشبهة، لان مع العلم واليقين (2) لا يجوز مثل هذا القول، هكذا يقتضى الظاهر، فأما قول إبراهيم (عليه السلام)، فإنما ساغ أن يعدل
ظاهره لأن الشك لا يجوز على الأنبياء، ويجوز على غيرهم، على أنه (عليه السلام) قد نفى عن
نفسه الشك بقوله: (بلى ولكن ليطمئن قلبي)، وقد قيل، إن نمرود قال له: إذا كنت تزعم أن لك ربا يحيى الموتى فاسأله أن يحيى لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا،
فإن لم تفعل ذلك قتلتك، فأراد بقوله: (ولكن ليطمئن قلبي)، أي لآمن توعد
عدوك لي بالقتل، وقد يجوز أن يكون طلب ذلك لقومه وقد سألوه أن يرغب إلى الله تعالى
فيه فقال: ليطمئن قلبي إلى إجابتك لي، وإلى إزاحة علة قومي، ولم يرد: ليطمئن قلبي إلى
أنك تقدر على أن تحيى الموتى، لان قلبه قد كان بذلك مطمئنا، وأي شئ يريد
أبو بكر من التفضيل أكثر من قوله: " إن هذا الامر لا يصلح إلا لهذا الحي من
قريش "! وأي فرق بين ما يقال عند الموت وبين ما يقال قبله إذا كان محفوظا معلوما، لم
ترفع كلمة ولم تنسخ!
وبعد، فظاهر الكلام لا يقتضى (3) هذا التخصيص، ونحن مع الاطلاق والظاهر.
وأي حق يجوز أن يكون للأنصار في الإمامة غير أن يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن
يكون الحق الذي تمنى أن يسأل عنه غير الإمامة! وهل هذا إلا تعسف وتكلف!
.

(1) نقله المرتضى في الشافي 419.
(2) الشافي: " التيقن ".
(3) ا: " يقضى "
165

وأي شبهة تبقى بعد قول أبى بكر: ليتني كنت سألته: هل للأنصار في هذا الامر حق
فكنا لا ننازعه أهله؟ ومعلوم أن التنازع لم يقع بينهم إلا في الإمامة نفسها، لا في حق
آخر من حقوقها.
فأما قوله: إنا قد بينا أنه لم يكن منه في بيت فاطمة ما يوجب أن يتمنى أنه لم يفعله،
فقد بينا فساد ما ظنه فيما تقدم.
فأما قوله: إن من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه، فليس بصحيح، لأن ولاية
أبى بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين، والنظر للمسلمين في تلك الحال وما عداها كان مفسدة ومؤديا إلى الفتنة، فالتمني لخلافها لا يكون إلا قبيحا (1).
* * *
قلت: أما قول قاضي القضاة: إن هذا التمني لا يقتضى الشك في أن الإمامة لا تكون
إلا في قريش، كما أن قول إبراهيم: (ولكن ليطمئن قلبي)، لا يقتضى الشك في أنه
تعالى قادر على ذلك فجيد.
فأما قول المرتضى: إنما ساغ أن يعدل عن الظاهر في حق إبراهيم لأنه نبي معصوم
لا يجوز عليه الشك، فيقال له: وكذلك ينبغي أن يعدل عن ظاهر كلام أبى بكر، لأنه رجل
مسلم عاقل، فحسن الظن به يقتضى صيانة أفعاله وأقواله عن التناقض. قوله: إن إبراهيم قد نفى عن نفسه الشك بقوله: " بلى ولكن ليطمئن قلبي " قلنا: إن أبا بكر قد نفى عن نفسه
الشك بدفع الأنصار عن الإمامة وإثباتها في قريش خاصة، فإن كانت لفظة " بلى " دافعة
لشك إبراهيم الذي يقتضيه قوله: (ولكن ليطمئن قلبي)، ففعل أبى بكر وقوله يوم السقيفة
.

(1) الشافعي 419، وفى د: " إلا نسخا "
166

يدفع الشك الذي يقتضيه قوله: " ليتني سألته "، ولا فرق في دفع الشك بين أن يتقدم
الدافع أو يتأخر أو يقارن.
ثم يقال للمرتضى: " ألست في هذا الكتاب - وهو " الشافي " بينت (1) أن قصة
السقيفة لم يجر فيها ذكر نص عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن الأئمة من قريش،
وأنه لم يكن هناك إلا احتجاج أبى بكر وعمر بأن قريشا أهل النبي (صلى الله عليه وآله)
وعشيرته، وأن العرب لا تطيع غير قريش، وذكرت عن الزهري وغيره أن القول
الصادر عن أبي بكر: إن هذا الامر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش، ليس نصا مرويا
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنما هو قول قاله أبو بكر من تلقاء نفسه، ورويت
في ذلك الروايات، ونقلت من الكتب من تاريخ
الطبري وغيرة صورة الكلام والجدال
الدائر بينه وبين الأنصار! فإذا كان هذا قولك فلم تنكر على أبى بكر قوله: ليتني كنت
سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله): هل للأنصار في هذا الامر حق! لأنه لم يسمع النص
ولا رواه ولا روى له، وإنما دفع الأنصار بنوع من الجدل، فلا جرم بقي في نفسه شئ
من ذلك، وقال عند موته: ليتني كنت سالت رسول الله (صلى الله عليه وآله). وليس ذلك
مما يقتضى شكه في بيعته كما زعم الطاعن، لأنه إنما يشك في بيعته لو كان
قال قائل
أو ذهب ذاهب إلى أن الإمامة ليست إلا في الأنصار، ولم يقل أحد ذلك، بل النزاع
كان في: هل الإمامة مقصورة على قريش خاصة، أم هي فوضى بين الناس كلهم؟
وإذا كانت الحال هذه لم يكن شاكا في إمامته وبيعته بقوله: " ليتني سألت رسول الله
(صلى الله عليه وآله): " هل للأنصار في هذا حق؟ " لان بيعته على كلا التقديرين تكون
صحيحه.
.

(1) في د " أثبت "
167

فأما قول قاضي القضاة: لعله أراد حقا للأنصار غير الإمامة نفسها، فليس بجيد،
والذي اعترضه به المرتضى جيد، فإن الكلام لا يدل إلا على الإمامة نفسها، ولفظة المنازعة
تؤكد ذلك.
وأما حديث الهجوم على بيت فاطمة (عليها السلام) فقد تقدم الكلام فيه، والظاهر
عندي صحة ما يرويه المرتضى والشيعة، ولكن لا كل ما يزعمونه، بل كان بعض ذلك، وحق لأبي بكر أن يندم ويتأسف على ذلك، وهذا يدل على قوة دينه وخوفه من الله تعالى،
فهو بأن يكون منقبة (1) له أولى من كونه طعنا عليه.
فأما قول قاضي القضاة: أن من اشتد التكليف عليه فقد يتمنى خلافه واعتراض
المرتضى عليه، فكلام قاضي القضاة أصح وأصوب، لان أبا بكر - وإن كانت ولايته - مصلحة وولاية غير مفسدة - فإنه ما يتمنى أن يكون الامام غيره، مع استلزام ذلك
للمفسدة، بل تمنى أن يلي الامر غيره وتكون المصلحة بحالها، ألا ترى أن خصال
الكفارة في اليمين كل واحدة منها مصلحة وما عداها لا يقوم مقامها في المصلحة، وأحدها يقوم مقام الأخرى في المصلحة! فأبو بكر تمنى أن يلي الامر عمر أو أبو عبيدة
بشرط أن تكون المصلحة الدينية التي تحصل من بيعته حاصلة من بيعة كل واحد
من الآخرين.
* * *
الطعن الثالث
قالوا: إنه ولى عمر الخلافة، ولم يوله رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا
.

(1) منقبة، أي مفخرة
168

من أعماله البتة إلا ما ولاه يوم خيبر، فرجع منهزما وولاه الصدقة، فلما شكاه العباس
عزله.
أجاب قاضي القضاة بأن تركه (عليه السلام) أن يوليه لا يدل على أنه لا يصلح لذلك،
وتوليته إياه لا يدل على صلاحيته للإمامة، فإنه (صلى الله عليه وآله) قد ولى خالد بن الوليد
وعمرو بن العاص، ولم يدل ذلك على صلاحيتهما للإمامة وكذلك تركه أن يولى لا يدل
على أنه غير صالح، بل المعتبر بالصفات التي تصلح للإمامة، فإذا كملت صلح لذلك، ولى
من قبل أو لم يول، وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) ترك أن يولى أمير المؤمنين
(عليه السلام) أمورا كثيره ولم يجب إلا من يصلح لها، وثبت أن أمير المؤمنين (عليه السلام)
لم يول الحسين (عليه السلام) ابنه، ولم يمنع ذلك من أن يصلح للإمامة، وحكى عن أبي
على أن ذلك إنما كان يصح أن يتعلق به لو ظفروا بتقصير من عمر فيما تولاه، فأما
وأحواله معروفة في قيامه بالامر حين يعجز غيره، فكيف يصح ما قالوه! وبعد فهلا
دل ما روى من قوله: وإن تولوا عمر تجدوه قويا في أمر الله، قويا في بدنه على جواز
ذلك! وإن ترك النبي (صلى الله عليه وآله) توليته، لان هذا القول أقوى من الفعل (1).
اعترض المرتضى رحمه الله فقال: قد علمنا بالعادة أن من ترشح لكبار الأمور لابد من أن يدرج إليها بصغارها، لان من يريد بعض الملوك تأهيله للامر من
بعده لابد من أن ينبه عليه بكل قول وفعل يدل على ترشيحه لهذه المنزلة، ويستكفيه
من أمور ولآياته (2) ما يعلم عنده أو يغلب على ظنه صلاحه لما يريده له. وإن من يرى الملك
مع حضوره وامتداد الزمان وتطاوله لا يستكفيه شيئا من الولايات، ومتى ولاه عزله وإنما
يولى غيره ويستكفي سواه، لابد أن يغلب في الظن أنه ليس بأهل للولاية، وإن جوزنا
أنه لم يوله لأسباب كثيرة سوى أنه لا يصلح للولاية، إلا أن مع هذا التجويز لا بد أن
.

(1) نقله المرتضى في الشافي 419.
(2) الشافي: من أموره وولاياته "
169

يغلب على الظن بما ذكرناه. فأما خالد وعمرو فإنما لم يصلحا للإمامة لفقد شروط الإمامة
فيهما، وإن كانا يصلحان لما ولياه من الامارة فترك الولاية مع امتداد الزمان وتطاول
الأيام، وجميع الشروط التي ذكرناها تقتضي غلبه الظن لفقد الصلاح والولاية لشئ (1)
لا تدل على الصلاح لغيره إذا كانت الشرائط في القيام بذلك الغير معلوما فقدها. وقد
نجد الملك يولى بعض أموره من لا يصلح للملك بعده لظهور فقد الشرائط فيه، ولا يجوز
أن يكون بحضرته من يرشحه للملك بعده، ثم لا يوليه على تطاول الزمان شيئا من
الولايات فبان الفرق بين الولاية وتركها فيما ذكرناه.
فأما أمير المؤمنين (عليه السلام) وإن يتول جميع أمور النبي (صلى الله عليه وآله) في
حياته، فقد تولى أكثرها وأعظمها وخلفه في المدينة، وكان الأمير على الجيش المبعوث إلى خيبر، وجرى الفتح على يديه بعد انهزام من انهزم منها، وكان المؤدى عنه سورة براءة
بعد عزل من عزل عنها وارتجاعها، منه، إلى غير ذلك من عظيم الولايات والمقامات بما
يطول شرحه ولو لم يكن إلا أنه لم يول عليه واليا قط لكفى.
فأما اعتراضه بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يول الحسين فبعيد عن الصواب، لان أيام
أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تطل فيتمكن فيها من مراداته، وكانت على قصرها منقسمة بين
قتال الأعداء، لأنه (عليه السلام) لما بويع لم يلبث أن خرج عليه أهل البصرة فاحتاج إلى قتالهم،
ثم انكفأ من قتالهم إلى قتال أهل الشام، وتعقب ذلك قتال أهل النهروان، ولم تستقر
به الدار ولا امتد به الزمان، وهذا بخلاف أيام النبي (صلى الله عليه وآله) التي تطاولت
وامتدت، على أنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن، وإنما تطلب الولايات لغلبة
الظن بالصلاح للإمامة.
فإن كان هناك وجه يقتضى العلم بالصلاح لها كان أولى من طريق الظن، على أنه
.

(1) الكافي للشئ
170

لا خلاف بين المسلمين أن الحسين (عليه السلام) كان يصلح للإمامة وإن لم يوله أبوه الولايات، وفي مثل ذلك خلاف من حال عمر، فافترق الأمران. فاما قوله: إنه لم يعثر
على عمر بتقصير في الولاية، فمن سلم بذلك! أو ليس يعلم أن مخالفته تعد تقصيرا كثيرا،
ولو لم يكن إلا ما اتفق عليه من خطئه في الاحكام ورجوعه من قول إلى غيره، واستفتائه الناس في الصغير والكبير، وقوله كل الناس أفقه من عمر، لكان فيه كفاية. وليس
كل النهوض بالإمامة يرجع إلى حسن التدبير والسياسة الدنياوية ورم الأعمال والاستظهار
في جباية الأموال وتمصير الأمصار ووضع الأعشار، بل حظ الإمامة من العلم بالأحكام
والفتيا بالحلال والحرام، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه أقوى، فمن قصر في هذا
لم ينفعه أن يكون كاملا في ذلك.
فأما قوله: فهلا دل ما روى من قوله (عليه السلام): " فان وليتم عمر وجدتموه قويا
في أمر الله قويا في بدنه "، فهذا لو ثبت لدل، وقد تقدم القول (1) عليه، وأقوى ما يبطله
عدول أبى بكر عن ذكره، والاحتجاج به لما أراد النص على عمر، فعوتب على ذلك وقيل
له ما تقول لربك إذ وليت علينا فظا غليظا! فلو كان صحيحا لكان يحتج به ويقول:
وليت عليكم من شهد النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه قوى في أمر الله، قوى في بدنه.
وقد قيل في الطعن على صحة هذا الخبر: إن ظاهره يقتضى تفضيل عمر على أبى بكر،
والاجماع بخلاف ذلك، لان القوة في الجسم فضل قال الله تعالى: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) (2). وبعد فكيف يعارض ما اعتمدناه من
عدوله (عليه السلام) عن ولايته - وهو أمر معلوم - بهذا الخبر المردود المدفوع!.
قلت: أما ما ادعاه من عادة الملوك، فالامر بخلافه، فإنا قد وقفنا على
سير الأكاسرة وملوك الروم وغيرهم فما سمعنا أن أحدا منهم رشح ولده
.

(1) في د " الكلام "
171

للملك بعده باستعماله على طرف من الأطراف، ولا جيش من الجيوش، وإنما كانوا
يثقفونهم بالآداب والفروسية في مقار ملكهم لا غير والحال في ملوك الاسلام كذلك،
فقد سمعنا بالدولة الأموية، ورأينا الدولة العباسية، فلم نعرف الدولة التي ادعاها المرتضى،
وإنما قد يقع في الأقل النادر شئ مما أشار إليه، والأغلب الأكثر خلاف ذلك،
على أن أصحابنا لا يقولون إن عمر كان مرشحا للخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ليقال لهم: فلو كان قد رشحه للخلافة بعده لاستكفاه كثيرا من أموره، وإنما عمر
مرشح عندهم في أيام أبى بكر للخلافة بعد أبي بكر، وقد كان أبو بكر استعمله على القضاء
مدة خلافته، بل كان هو الخليفة في المعنى، لأنه فوض إليه أكثر التدبير، فعلى هذا
يكون قد سلمنا أن ترك استعمال النبي (صلى الله عليه وآله) لعمر يدل على أنه غير مرشح
في نظره للخلافة بعده، وكذلك نقول: ولا يلزم من ذلك ألا يكون خليفة بعد أبي
بكر، على أنا لا نسلم أنه ما استعمله، فقد ذكر الواقدي وابن إسحاق أنه بعثه
في سرية في سنة سبع من الهجرة إلى الوادي المعروف ببرمة - بضم الباء وفتح الراء -
وبها جمع من هوازن، فخرج ومعه دليل من بنى هلال، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون
النهار، وأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالهم، فلم يلق منهم أحدا، فانصرف إلى المدينة.
ثم يعارض المرتضى بما ذكره قاضي القضاة من ترك تولية على ابنه الحسين (عليهما
السلام)، وقوله في العذر عن ذلك: إن عليا (عليه السلام) كان ممنوا بحرب البغاة والخوارج
لا يدفع المعارضة، لان تلك الأيام التي هي أيام حروبه مع هؤلاء هي الأيام التي كان ينبغي
أن يولى الحسين (عليه السلام) بعض الأمور فيها، كاستعماله على جيش ينفذه سرية إلى بعض
الجهات، واستعماله على الكوفة بعد خروجه منها إلى حرب صفين، أو استعماله على القضاء،
172

وليس اشتغاله بالحرب بمانع له عن ولاية ولده، وقد كان مشتغلا بالحرب، وهو يولى
بنى عمه العباس الولايات والبلاد الجليلة
فأما قوله: على أنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن، فهذا يغنى عن توليته
شيئا من الأعمال، فلقائل أن يمنع ما ذكره من حديث النص، فإنه أمر تنفرد به
الشيعة وأكثر أرباب السير والتواريخ لا يذكرون أن أمير المؤمنين (عليه السلام) نص
على أحد. ثم إن ساغ له ذلك ساغ لقاضي القضاة ان يقول: إن قول النبي (صلى الله عليه وآله)
: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبى بكر وعمر " يغنى عن تولية عمر شيئا من
الولايات، لان هذا القول آكد من الولاية في ترشحه للخلافة.
فأما قوله: على أنه لا خلاف بين المسلمين في صلاحية الحسين للخلافة
وإن لم يوله أبوه الولايات، وفى عمر خلاف ظاهر بين المسلمين، فلقائل أن يقول له:
إجماع المسلمين على صلاحية الحسين للخلافة لا يدفع المعارضة، بل يؤكدها،
لأنه إذا كان المسلمون قد أجمعوا على صلاحيته للخلافة ولم يكن ترك توليه أبيه
إياه الولايات قادحا في صلاحيته لها بعده، جاز أيضا أن يكون ترك تولية
رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمر الولايات في حياته غير قادح في صلاحيته
للخلافة بعده.
ثم ما ذكره من تقصير عمر في الخلافة بطريق اختلاف أحكامه، ورجوعه إلى
فتاوى العلماء، فقد ذكرنا ذلك فيما تقدم لما تكلمنا في مطاعن الشيعة على عمر
وأجبنا عنه.
واما قوله: لا يغنى حسن التدبير والسياسة ورم الأمور، مر القصور في الفقه،
فأصحابنا يذهبون إلى أنه إذا تساوى اثنان في خصال الإمامة إلا أنه كان أحدهما اعلم والاخر:
173

أسوس، فإن الأسوس أولى بالإمامة، لان حاجه الإمامة إلى السياسة وحسن التدبير
آكد من حاجتها إلى العلم والفقه.
وأما الخبر المروى في عمر - وهو قوله: وإن تولوها عمر - فيجوز ألا يكون
أبو بكر سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويكون الراوي له غيره، ويجوز أن
يكون سمعه وشذ عنه أن يحتج به على طلحة لما أنكر استخلاف عمر، ويجوز
ألا يكون شذ عنه وترك الاحتجاج به استغناء عنه لعلمه أن طلحة لا يعتد بقوله عند
الناس إذا عارض قوله. ولعله كنى عن هذا النص بقوله: إذا سألني ربى قلت له:
استخلفت عليهم خير أهلك، على أنا متى فتحنا باب " هلا احتج فلان بكذا "
جر علينا ما لا قبل لنا به. وقيل هلا احتج على (عليه السلام) على طلحة وعائشة والزبير
بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من كنت مولاه فهذا على مولاه "، وهلا احتج
عليهم بقوله: " أنت منى بمنزلة هارون من موسى "، ولا يمكن الشيعة أن يعتذروا هاهنا
بالتقية، لان السيوف كانت قد سلت من الفريقين، ولم يكن مقام تقية.
وأما قوله: هذا الخبر لو صح لاقتضى أن يكون عمر أفضل من أبى بكر، وهو
خلاف إجماع المسلمين، فلقائل أن يقول لم قلت إن المسلمين أجمعوا على أن أبا بكر
أفضل من عمر، مع أن كتب الكلام والتصانيف المصنفة في المقالات مشحونة بذكر
الفرقة العمرية، وهم القائلون إن عمر أفضل من أبى بكر، وهي طائفة عظيمة من
المسلمين، يقال: إن عبد الله بن مسعود منهم، وقد رأيت أن جماعة من الفقهاء يذهبون
إلى هذا، ويناظرون عليه، على أنه لا يدل الخبر على ما ذكره المرتضى، لأنه وإن كان
عمر أفضل منه باعتبار قوة البدن، فلا يدل على أنه أفضل منه مطلقا، فمن الجائز أن يكون بإزاء هذه الخصلة خصال كثيرة في أبى بكر من خصال الخير يفضل بها على عمر،
174

ألا ترى أنا نقول: أبو دجانة أفضل من أبى بكر بجهاده بالسيف في مقام الحرب، ولا يلزم
من ذلك أن يكون أفضل منه مطلقا، لان في أبى بكر من خصال الفضل ما إذا قيس بهذه
الخصلة أربى عليها أضعافا مضاعفة.
* * *
الطعن الرابع
قالوا: إن أبا بكر كان في جيش أسامة، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كرر حين
موته الامر بتنفيذ جيش أسامة، فتأخره يقتضى مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فإن قلتم:
إنه لم يكن في الجيش، قيل لكم: لا شك أن عمر بن الخطاب كان في الجيش، وأنه حبسه ومنعه
من النفوذ مع القوم، وهذا كالأول في أنه معصية، وربما قالوا: إنه (صلى الله عليه وآله)
جعل هؤلاء القوم في جيش أسامة ليبعدوا بعد وفاته عن المدينة، فلا يقع منهم توثب على
الإمامة، ولذلك لم يجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك الجيش، وجعل فيه
أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وذلك من أوكد الدلالة على أنه لم يرد أن يختاروا للإمامة (1).
أجاب قاضي القضاة بأن أنكر أولا أن يكون أبو بكر في جيش أسامة، وأحال
على كتب المغازي، ثم سلم ذلك وقال: إن الامر لا يقتضى الفور، فلا يلزم من تأخر أبى بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا. ثم قال: إن خطابه (صلى الله عليه وآله) بتنفيذ الجيش
يجب أن يكون متوجها إلى القائم بعده، لأنه من خطاب الأئمة وهذا يقتضى ألا يدخل
المخاطب بالتنفيذ في الجملة: ثم قال، وهذا يدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص
عليه، لأنه لو كان لأقبل بالخطاب عليه، وخصه بالامر بالتنفيذ دون الجميع.

(1) الشافي 42.
175

ثم ذكر أن أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابد أن يكون مشروطا بالمصلحة وبأن
لا يعرض ما هو أهم منه، لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ، وإن أعقب ضررا في الدين، ثم
قوى ذلك بأنه لم ينكر على أسامة تأخره، وقوله: " لم أكن لأسأل عنك الركب "،
ثم قال: لو كان الامام منصوصا عليه لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته،
وكذلك إذا كان بالاختيار، ثم حكى عن الشيخ أبى على استدلاله على أن أبا بكر لم
يكن في جيش أسامة بأنه ولاه الصلاة في مرضه، مع تكريره أمر الجيش
بالنفوذ والخروج.
ثم ذكر أن الرسول (صلى الله عليه وآله) إنما يأمر بما يتعلق بمصالح الدنيا من الحروب
ونحوها عن اجتهاده، وليس بواجب أن يكون ذلك عن وحى، كما يجب في الأحكام الشرعية، وأن اجتهاده يجوز أن يخالف بعد وفاته، وإن لم يجز في حياته، لان اجتهاده في الحياة
أولى من اجتهاد غيره، ثم ذكر أن العلة في احتباس عمر عن الجيش حاجة أبى بكر إليه،
وقيامه بما لا يقوم به غيره، وأن ذلك أحوط للدين من نفوذه.
ثم ذكر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) حارب معاوية بأمر الله تعالى وأمر رسوله، ومع
هذا فقد ترك محاربته في بعض الأوقات، ولم يجب بذلك ألا يكون متمثلا للامر. وذكر
توليته (عليه السلام) أبا موسى، وتولية الرسول (صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد مع ما
جرى (1) منهما وأن ذلك يقتضى الشرط.
ثم ذكر أن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش أسامة يجب تأخيره ليختار للإمامة
أحدهم، فإن ذلك أهم من نفوذهم، فإذا جاز لهذه العلة التأخير قبل العقد جاز التأخير بعده
للمعاضدة وغيرها، وطعن في قول من جعل إن إخراجهم في الجيش على جهة الابعاد
لهم عن المدينة بأن قال: إن بعدهم عن المدينة لا يمنع من أن يختاروا للإمامة،

(1) في د " ظهر ".
176

ولأنه (عليه السلام) لم يكن قاطعا على موته لا محالة، يرد: نفذوا جيش أسامة في
حياتي. ثم ذكر أن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي فضله وأنهما دونه، وذكر ولاية
عمرو بن العاص عليهما وإن لم يكونا دونه في الفضل، وأن أحدا لم يفضل
أسامة عليهما.
ثم ذكر أن السبب في كون عمر من جملة جيش أسامة أن عبد الله بن أبي ربيعة
المخزومي قال عند ولاية أسامة: تولى علينا شاب حدث ونحن مشيخة قريش! فقال عمر:
يا رسول الله، مرني حتى أضرب عنقه، فقد طعن في تأميرك إياه، ثم قال: أنا أخرج في
جيش أسامة تواضعا وتعظيما لامره (عليه السلام).
اعترض المرتضى هذه الأجوبة، فقال: أما كون أبى بكر في جملة جيش أسامة
فظاهر، قد ذكره أصحاب السير والتواريخ، وقد روى البلاذري في تاريخه وهو معروف
بالثقة والضبط وبرئ من ممالاة الشيعة ومقاربتها، أن أبا بكر وعمر معا كانا في جيش
أسامة والانكار لما يجرى هذا المجرى لا يغنى شيئا، وقد كان يجب على من أحال بذلك
على كتب المغازي في الجملة أن يومئ إلى الكتاب المتضمن لذلك بعينه ليرجع إليه، فأما
خطابة (عليه السلام) بالتنفيذ للجيش فالمقصود به الفور دون التراخي، إما من حيث مقتضى
الامر على مذهب من يرى ذلك لغة، وإما شرعا من حيث وجدنا جميع الأمة من لدن
الصحابة إلى هذا الوقت يحملون أو امره على الفور (1)، ويطلبون في تراخيها الأدلة. ثم
لو لم يثبت كل ذلك لكان قول أسامة: لم أكن لأسأل عنك الركب، أوضح
دليل على أنه عقل من الامر الفور، لان سؤال الركب عنه (عليه السلام) بعد وفاته
لا معنى له.

(1) الشافي: " من حيث دل دليل الشرع عليه ".
177

وأما قول صاحب الكتاب: إنه لم ينكر على أسامة تأخره فليس بشئ،
وأي إنكار أبلغ من تكراره الامر، وترداده القول في حال يشغل عن المهم،
ويقطع الفكر إلا فيها! وقد كرر الامر على المأمور تارة بتكرار الامر، وأخرى
بغيره. وإذا سلمنا أن أمره (عليه السلام) كان متوجها إلى القائم بعده بالامر لتنفيذ الجيش
بعد الوفاة لم يلزم ما ذكره من خروج المخاطب بالتنفيذ عن الجملة، كيف يصح ذلك
وهو من جملة الجيش، والامر متضمن تنفيذ الجيش! فلا بد من نفوذ كل من كان في
جملته، لان تأخر بعضهم يسلب النافذين اسم الجيش على الاطلاق. أو ليس من مذهب
صاحب الكتاب أن الامر بالشئ أمر بما لا يتم إلا معه! وقد اعتمد على هذا في مواضع
كثيره فإن كان خروج الجيش ونفوذه لا يتم إلا بخروج أبى بكر، فالامر بخروج الجيش
أمر لأبي بكر بالنفوذ والخروج، وكذلك لو أقبل عليه على سبيل التخصيص، وقال:
نفذوا جيش أسامة، وكان هو من جمله الجيش، فلا بد أن يكون ذلك أمرا له بالخروج.
واستدلاله على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه بعموم الامر بالتنفيذ، ليس بصحيح،
لأنا قد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين، ولم يتوجه إلى الامام بعده، على أن
هذا لازم له، لان الامام بعده لا يكون إلا واحدا، فلم عمم الخطاب ولم يفرد به الواحد
فيقول: لينفذ القائم من بعدي بالامر جيش أسامة، فإن الحال لا يختلف في كون الامام
بعده واحدا بين أن يكون منصوصا عليه أو مختارا.
وأما ما ادعاه أن الشرط (1) في أمره (عليه السلام) لهم بالنفوذ فباطل، لان إطلاق
الامر يمنع من إثبات الشرط، وإنما يثبت من الشروط ما يقتضى الدليل إثباته من
التمكن والقدرة، لان ذلك شرط ثابت في كل أمر ورد من حكيم، والمصلحة
بخلاف ذلك، لان الحكيم لا يأمر بشرط المصلحة، بل إطلاق الامر منه يقتضى ثبوت
المصلحة وانتفاء المفسدة وليس كذلك التمكن، وما يجرى مجراه، ولهذا لا يشترط

(1) في د " وأما ادعاؤه الشرط ".
178

أحد في أوامر الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) بالشرائع المصلحة وانتفاء المفسدة.
وشرطوا في ذلك التمكن ورفع التعذر، ولو كان الامام منصوصا عليه بعينه واسمه لما جاز
أن يسترد جيش أسامة، بخلاف ما ظنه، ولا يعزل من ولاه (عليه السلام) ولا يولى من عزله
للعلة التي ذكرناها.
فأما استدلال أبى على على أن أبا بكر لم يكن في الجيش بحديث الصلاة، فأول ما فيه
أنه اعتراف بأن الامر بتنفيذ الجيش كان في الحياة دون بعد الوفاة، وهذا ناقض لما بنى
صاحب الكتاب عليه أمره (عليه السلام).
ثم إنا قد بينا أنه (عليه السلام) لم يوله الصلاة وذكرنا ما في ذلك. ثم ما المانع من أن
يوليه تلك الصلاة إن كان ولاه إياها ثم يأمره بالنفوذ من بعد مع الجيش! فإن الامر
بالصلاة في تلك الحال لا يقتضى أمره بها على التأبيد.
وأما ادعاؤه أن النبي (صلى الله عليه وآله) يأمر بالحروب وما يتصل بها عن اجتهاد
دون الوحي، فمعاذ الله أن يكون صحيحا، لان حروبه (عليه السلام) لم تكن مما يختص
بمصالح أمور الدنيا، بل للدين فيها أقوى تعلق، لما يعود على الاسلام وأهله بفتوحه من
العز والقوة وعلو الكلمة. وليس يجرى ذلك مجرى أكله وشربه ونومه، لان ذلك
لا تعلق له بالدين، فيجوز أن يكون عن رأيه، ولو جاز أن تكون مغازيه وبعوثه مع التعلق
القوى لها بالدين عن اجتهاد لجاز ذلك في الاحكام.
ثم لو كان ذلك عن اجتهاد لما ساغت مخالفته فيه بعد وفاته، كما لا تسوغ في حياته.
فكل علة تمنع من أحد الامرين هي مانعة من الاخر. فأما الاعتذار له عن حبس عمر
عن الجيش بما ذكره فباطل، لأنا قد قلنا إن ما يأمر به (عليه السلام) لا يسوغ مخالفته مع
الامكان، ولا مراعاة لما عساه يعرض فيه من رأى غيره، وأي حاجة إلى عمر بعد تمام
العقد، واستقراره ورضا الأمة به، على طريق (1) المخالف وإجماعها عليه، ولم يكن

(1) في د: " مذهب ".
179

هناك فتنة ولا تنازع ولا اختلاف يحتاج فيه إلى مشاورته وتدبيره! وكل هذا
تعلل باطل.
فأما محاربة أمير المؤمنين (عليه السلام) معاوية فإنما كان مأمورا بها مع التمكن ووجود
الأنصار، وقد فعل (عليه السلام) من ذلك ما وجب عليه لما تمكن منه، فأما مع التعذر
وفقد الأنصار فما كان مأمورا بها. وليس كذلك القول في جيش أسامة، لان تأخر من
تأخر عنه كان مع القدرة التمكن. فأما تولية أبى موسى فلا ندري كيف يشبه ما نحن
فيه، لأنه إنما ولاه بأن يرجع إلى كتاب الله تعالى فيحكم وفى خصمه بما يقتضيه، وأبو موسى فعل خلاف ما جعل إليه، فلم يكن ممتثلا لأمر من ولاه، وكذلك خالد
ابن الوليد إنما خالف ما أمره به الرسول (صلى الله عليه وآله) فتبرأ من فعله، وكل
هذا لا يشبه أمره (عليه السلام) بتنفيذ جيش أسامة أمرا مطلقا، وتأكيده ذلك
وتكراره له، فأما جيش أسامة فإنه لم يضم من يصلح للإمامة، فيجوز تأخرهم ليختار
أحدهم على ما ظنه صاحب الكتاب. على أن ذلك لو صح أيضا لم يكن عذرا في التأخر: لان
من خرج في الجيش يمكن أن يختار وإن كان بعيدا، ولا يمنع بعده من صحة الاختيار،
وقد صرح صاحب الكتاب بذلك. ثم لو صح هذا العذر لكان عذرا في
التأخر قبل العقد، فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه، والمعاضدة التي ادعاها قد
بينا ما فيها.
فأما ادعاء (1) صاحب الكتاب رادا على من جعل إخراج القوم في الجيش ليتم أمر
النص أن من أبعدهم لا يمنع أن يختاروا للإمامة فيدل على أنه لم يتبين معنى هذا الطعن على حقيقته، لان الطاعن به لا يقول إنه أبعدهم لئلا يختاروا للإمامة، وإنما يقول: إنه أبعدهم
حتى ينتصب بعده في الأرض من نص عليه، ولا يكون هناك من
ينازعه ويخالفه.

(1). ف د: " قول ".
180

وأما قوله: لم يكن قاطعا على موته فلا يضر تسليمه، أليس كان مشفقا وخائفا! وعلى
الخائف أن يتحرز ممن يخاف منه، فأما قوله: فإنه لم يرد نفذوا الجيش في حياتي فقد
بينا ما فيه.
فأما ولاية أسامة على من ولى عليه فلا بد من اقتضائها لفضله على الجماعة فيما كان واليا فيه، وقد دللنا فيما تقدم من الكتاب على أن ولاية المفضول على الفاضل فيما
كان أفضل منه فيه قبيحة، فكذلك القول في ولاية عمرو بن العاص عليهما فيما تقدم، والقول
في الامرين واحد.
وقوله: إن أحدا لم يدع فضل أسامة على أبى بكر وعمر، فليس الامر على ما ظنه، لان
من ذهب إلى فساد إمامة المفضول لا بد من أن يفضل أسامة عليهما فيما كان واليا فيه،
فأما ادعاؤه ما ذكره من السبب في دخول عمر في الجيش فما نعرفه، ولا وقفنا عليه إلا
من كتابه، ثم لو صح لم يغن شيئا، لان عمر لو كان أفضل من أسامة لمنعه الرسول
(صلى الله عليه وآله) من الدخول في إمارته والمسير تحت لوائه، والتواضع لا يقتضى فعل
القبيح (1).
* * *
قلت: إن الكلام في هذا الفصل قد تشعب شعبا كثيرة، والمرتضى رحمه الله
لا يورد كلام قاضي القضاة بنصه، وإنما يختصره ويورده مبتورا، ويومئ إلى المعاني
إيماء لطيفا، وغرضه الايجاز، ولو أورد كلام قاضي القضاة بنصه لكان أليق، وكان أبعد عن الظنة، وأدفع لقول قائل من خصومه: إنه يحرف كلام قاضي القضاة ويذكر
على غير وجه، ألا ترى أن من نصب نفسه لاختصار كلام فقد ضمن على نفسه أنه قد
فهم معاني ذلك الكلام حتى يصح منه اختصاره، ومن الجائز أن يظن أنه قد فهم

(1) الشافي 420، 421.
181

بعض المواضع ولم يكن قد فهمه على الحقيقة، فيختصر ما في نفسه لا ما في تصنيف ذلك الشخص، وأما من يورد كلام الناس بنصه فقد استراح من هذه التبعة، وعرض عقل
غيره وعقل نفسه على الناظرين والسامعين.
ثم نقول: إن هذا الفصل ينقسم أقساما:
منها قول قاضي القضاة: لا نسلم أن أبا بكر كان في جيش أسامة.
وأما قول المرتضى: إنه قد ذكره أرباب السير والتواريخ، وقوله: إن البلاذري
ذكره في تاريخه، وقوله: هلا عين قاضي القضاة الكتاب الذي ذكر أنه يتضمن عدم
كون أبى بكر في ذلك الجيش! فإن الامر عندي في هذا الموضع مشتبه والتواريخ
مختلفة في هذه القضية (1)، فمنهم من يقول: إن أبا بكر كان في جمله الجيش، ومنهم
من يقول: إنه لم يكن، وما أشار إليه قاضي القضاة بقوله في كتب المغازي لا ينتهى إلى أمر
صحيح، ولم يكن ممن يستحل القول بالباطل في دينه ولا في رئاسته. ذكر الواقدي في كتاب
المغازي أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة، وإنما كان عمر، وأبو عبيدة وسعد بن أبي
وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم،
ورجال كثير من المهاجرين، والأنصار، قال: وكان المنكر لإمارة أسامة عياش بن أبي
ربيعه. وغير الواقدي يقول: عبد الله بن عياش، وقد قيل: عبد الله بن أبي ربيعة
أخو عياش.
وقال الواقدي: وجاء عمر بن الخطاب فودع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليسير
مع أسامة. وقال: وجاء أبو بكر فقال: يا رسول الله، أصبحت مفيقا بحمد الله، واليوم
يوم ابنه خارجة، فإذن لي، فأذن له، فذهب إلى منزله بالسنح (2) وسار أسامة
في العسكر، وهذا تصريح بأن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة.
.

(1) في د: " القصة ".
(2) السنح: إحدى محال المدينة، وكان بها منزل أبى بكر حين
تزوج مليكة، وقيل حبيبة بنت خارجة (ياقوت).
182

وذكر موسى بن عقبة في كتاب " المغازي " أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة
وكثير من المحدثين يقولون: بل كان في جيشه.
فأما أبو جعفر محمد بن جرير الطبري فلم يذكر أنه كان في جيش أسامة إلا عمر.
وقال أبو جعفر: حدثني السدى بإسناد ذكره أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضرب
قبل وفاته بعثا على أهل المدينة ومن حولهم وفيهم عمر بن الخطاب، وأمر عليهم أسامة
ابن زيد، فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فوقف
أسامة بالناس ثم قال لعمر: أرجع إلى خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاستأذنه
يأذن لي أرجع بالناس، فإن معي وجوه الصحابة، ولا آمن على خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وثقل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون
حول المدينة، وقالت الأنصار لعمر سرا: فإن أبى إلا أن يمضى فأبلغه عنا، واطلب إليه أن يولى أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة، فخرج عمر بأمر أسامة فأتى أبا بكر فأخبره
بما قال أسامة، فقال أبو بكر: لو تخطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به
رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال: فإن الأنصار أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون إليك
أن تولى أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة، فوثب أبو بكر - وكان جالسا - فأخذ بلحية
عمر وقال: ثكلتك أمك يا بن الخطاب! أيستعمله رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وتأمرني أن أنزعه! فخرج عمر إلى الناس، فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيت في سبيلكم اليوم من خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)! ثم خرج
أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم (1) وسبيلكم اليوم من خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)! ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم (1) وشيعهم، وهو ماش وأسامة راكب، وعبد الرحمن
ابن عوف يقود دابة أبى بكر، فقال له أسامة بن زيد: يا خليفة رسول الله، لتركبن
أو لأنزلن، فقال: والله لا تنزل ولا أركب، وما على أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة

(1) أشخصهم: بعث بهم.
183

فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترفع له،
وسبعمائة خطيئة تمحى عنه، حتى إذا انتهى قال لأسامة: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل،
فأذن له ثم قال: أيها الناس، قفوا حتى أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لا تخونوا
ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة،
ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بعيرا
ولا بقرة إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم للعبادة في الصوامع،
فدعوهم فيما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بصحاف فيها ألوان
الطعام، فلا تأكلوا من شئ حتى تذكروا اسم الله عليه، وسوف تلقون أقواما
قد حصوا (1) أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم (2) بالسيوف خفقا،
أفناهم الله بالطعن والطاعون، سيروا على اسم الله.
وأما قول الشيخ أبى على فإنه يدل على أنه لم يكن في جيش أسامة أمره إياه بالصلاة.
وقول المرتضى: هذا اعتراف بأن الامر بتنفيذ الجيش كان في الحال دون ما بعد الوفاة،
وهذا ينقض ما بنى عليه قاضي القضاة أمره، فلقائل أن يقول: إنه لا ينقض ما بناه
لان قاضي القضاة ما قال: إن الامر بتنفيذ الجيش ما كان إلا بعد الوفاة، بل قال:
إنه أمر، والامر على التراخي، فلو نفذ الجيش في الحال لجاز، ولو تأخر إلى بعد
الوفاة لجاز. فأما إنكار المرتضى أن تكون صلاة أبى بكر بالناس كانت عن أمر رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فقد ذكرنا ما عندنا في هذا فيما تقدم.
وأما قوله: يجوز أن يكون أمره بصلاة واحدة أو صلاتين، ثم أمره بالنفوذ بعد

(1). حص شعره: حلقه.
(2) اخفقوهم: اضربوهم.
184

ذلك فهذا لعمري جائز، وقد يمكن أن يقال إنه لما خرج متحاملا من شده المرض فتأخر أبو بكر عن مقامه، وصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالناس، أمره بالنفوذ مع
الجيش، وأسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أثناء ذلك اليوم، واستمر أبو بكر
على الصلاة بالناس، إلى أن توفى (عليه السلام)، فقد جاء في الحديث أنه أسكت، وأن
أسامة دخل عليه فلم يستطع كلامه لكنه كان يرفع يديه ويضعهما (1) عليه كالداعي له.
ويمكن أن يكون زمان هذه السكتة قد امتد يوما أو يومين، وهذا الموضع من المواضع المشتبهة عندي ومنها قول قاضي القضاة: إن الامر على التراخي، فلا يلزم من تأخر أبى بكر عن
النفوذ أن يكون عاصيا.
فأما قول المرتضى: الامر على الفور إما لغة عند من قال به، أو شرعا لاجماع الكل على أن الأوامر الشرعية على الفور إلا ما خرج بالدليل، فالظاهر في هذا الموضع
صحة ما قاله المرتضى، لان قرائن الأحوال عند من يقرأ السير ويعرف التواريخ
تدل على أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يحثهم على الخروج والمسير، وهذا هو الفور.
وأما قول المرتضى وقول أسامة: لم أكن لأسأل عنك الركب، فهو أوضح دليل على أنه
عقل من الامر الفور، لان سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له. فلقائل أن يقول:
إن ذلك لا يدل على الفور، بل يدل على أنه مأمور في الجملة بالنفوذ والمسير، فإن التعجيل والتأخير (2) مفوضان إلى رأيه، فلما قال له النبي (صلى الله عليه وآله): لم تأخرت عن
المسير؟ قال: لم أكن لأسير وأسأل عنك الركب، إني انتظرت عافيتك فإني إذا سرت
وأنت على هذه الحال لم يكن لي قلب للجهاد، بل أكون قلقا شديد الجزع أسأل

(1) في د " ويحطهما ".
(2) في د " والتأجيل ".
185

عنك الركبان، وهذا الكلام لا يدل على أنه عقل من الامر الفور لا محالة، بل هو على
أن يدل على التراخي أظهر، وقول النبي (صلى الله عليه وآله): " لم تأخرت عن المسير؟ "
لا يدل على الفور، لأنه قد يقال مثل ذلك لمن يؤمر بالشئ على جهة التراخي إذا لم يكن
سؤال إنكار.
وقول المرتضى: لان سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له، قول من قد توهم
على قاضي القضاة أنه يقول: " إن النبي (صلى الله عليه وآله) ما أمرهم بالنفوذ إلا بعد وفاته،
ولم يقل قاضي القضاة ذلك، وإنما ادعى أن الامر على التراخي لا غير، وكيف يظن بقاضي
القضاة أنه حمل كلام أسامة على سؤال الركب بعد الموت! وهل كان أسامة يعلم الغيب
فيقول ذاك! وهل سأل أحد عن حال أحد من المرضى بعد موته!
فأما قول المرتضى عقيب هذا الكلام: لا معنى لقول قاضي القضاة إنه لم ينكر على
أسامة تأخره، فإن الانكار قد وقع بتكرار الامر حالا بعد حال، فلقائل أن يقول:
إن قاضي القضاة لم يجعل عدم الانكار على أسامة حجه على كون الامر على التراخي،
وإنما جعل ذلك دليلا على أن الامر كان مشروطا بالمصلحة ومن تأمل كلام قاضي القضاة
الذي حكاه عنه المرتضى تحقق ذلك، فلا يجوز للمرتضى أن ينتزعه من الوضع الذي أورده فيه،
فيجعله في موضع آخر.
ومنها قول قاضي القضاة: الامر بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجها إلى الخليفة بعده،
والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب، واعتراض المرتضى عليه بأن لفظة " الجيش " يدخل
تحتها " أبو بكر " فلا بد من وجوب النفوذ عليه، لأن عدم نفوذه يسلب الجماعة اسم
" الجيش " فليس بجيد، لان لفظة " الجيش " لفظة موضوعة لجماعة من الناس قد أعدت
للحرب، فإذا خرج منها واحد أو اثنان لم يزل مسمى الجيش عن الباقين، والمرتضى
186

اعتقد أن ذلك مثل الماهيات المركبة، نحو العشرة إذا عدم منها واحد زال مسمى العشرة،
وليس الامر كذلك، يبين ذلك أنه لو قال بعض الملوك لمائة إنسان: أنتم جيشي،
ثم قال لواحد منهم: إذا مت فأعط كل واحد من جيشي درهما من خزانتي، فقد جعلتك
أميرا عليهم لم يكن له أن يأخذ لنفسه درهما، ويقول: أنا من جملة الجماعة الذين أطلق عليهم
لفظة الجيش.
ومنها قول قاضي القضاة: هذه القضية تدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه،
وأما قول المرتضى: فقد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين لا إلى القائم بالامر بعده،
فلم نجد في كلامه في هذا الفصل بطوله ما بين فيه ذلك، ولا أعلم على ماذا أحال! ولو كان
قد بين - على ما زعم - أن الخطاب متوجه إلى الحاضرين، لكان الاشكال قائما،
لأنه يقال له: إذا كان الامام المنصوص عليه حاضرا عنده فلم وجه الخطاب إلى الحاضرين!
ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول الملك للرعية: اقضوا بين هذين الشخصين والقاضي حاضر
عنده، إلا إذا كان قد عزله عن القضاء في تلك الواقعة عن الرعية!
فأما قول المرتضى: هذا ينقلب عليكم، فليس ينقلب، وإنما ينقلب لو كان يريد
تنفيذ الجيش بعد موته فقط، ولا يريده وهو حي، فكان يجئ ما قاله المرتضى لينفذ
القائم بالامر بعدي جيش أسامة، فأما إذا كان يريد نفوذ الجيش من حين ما أمر بنفوذه
فقد سقط القلب، لان الخليفة حينئذ لم يكن قد تعين، لان الاختيار ما وقع بعد،
وعلى مذهب المرتضى الامام متعين حاضر عنده نصب عينه، فافترق الوصفان.
* * *
ومنها قول قاضي القضاة: إن مخالفه أمره (صلى الله عليه وآله) في النفوذ مع الجيش
أو في انفاذ الجيش لا يكون معصية وبين ذلك من وجوه:
187

أحدها: أن أمره (عليه السلام) بذلك لابد أن يكون مشروطا بالمصلحة، وألا يعرض
ما هو أهم من نفوذ الجيش، لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ وإن أعقب ضررا في الدين،
فأما قول المرتضى: الامر المطلق يدل على ثبوت المصلحة، ولا يجوز أن يجعل الامر المطلق،
فقول جيد إذا اعترض به على الوجه الذي أورده قاضي القضاة، فأما إذا أورده أصحابنا على وجه
آخر فإنه يندفع كلام المرتضى، وذلك أنه يجوز تخصيص عمومات النصوص بالقياس الجلي
عند كثير من أصحابنا، على ما هو مذكور في أصول الفقه، فلم لا يجوز لأبي بكر أن يخص
عموم قوله: " أنفذوا بعث أسامة " لمصلحة غلبت على ظنه في عدم نفوذه نفسه، ولمفسدة
غلبت على نفسه (1) في نفوذه نفسه مع البعث!
وثانيها: أنه (عليه السلام) كان يبعث السرايا عن اجتهاد لا عن وحى يحرم مخالفته.
فأما قول المرتضى: إن للدين تعلقا قويا بأمثال ذلك (2)، وإنها ليست من الأمور الدنياوية
المحضة نحو أكله شربه ونومه، فإنه يعود على الاسلام بفتوحه عز وقوة وعلو كلمة
فيقال له: وإذا أكل اللحم وقوى مزاجه بذلك ونام نوما طبيعيا يزول عنه به المرض
والإعياء، اقتضى ذلك أيضا عز الاسلام وقوته، فقل إن ذلك أيضا عن وحى.
ثم إن الذي يقتضيه فتوحه وغزواته وحروبه من العز وعلو الكلمة لا ينافي كون
تلك الغزوات والحروب باجتهاده، لأنه لا منافاة بين اجتهاده وبين عز الدين وعلو كلمته
بحروبه، وأن الذي ينافي اجتهاده بالرأي هو مثل فرائض الصلوات ومقادير الزكوات
ومناسك الحج، ونحو ذلك من الاحكام التي تشعر بأنها متلقاة من محض الوحي،
وليس للرأي والاجتهاد فيها مدخل، وقد خرج بهذا الكلام الجواب عن قوله:

(1) في د " ظنه ".
(2) ا: " هذا ".
188

لو جاز أن تكون السرايا والحروب عن اجتهاده، لجاز أن تكون الاحكام كلها عن
اجتهاده. وأيضا فإن الصحابة كانوا يراجعونه في الحروب وآرائه التي يدبرها بها ويرجع
(عليه السلام) إليهم في كثير منها بعد أن قد رأى غيره. وأما الاحكام فلم يكن يراجع فيها
أصلا، فكيف يحمل أحد البابين على الاخر.
فأما قوله: لو كانت عن اجتهاد لوجب أن يحرم مخالفته فيها وهو حي، لا فرق بين
الحالين، فلقائل أن يقول: القياس يقتضى ما ذكرت، إلا أنه وقع الاجماع على أنه لو كان
في الاحكام أو في الحروب والجهاد ما هو باجتهاده لما جازت مخالفته، والعدول عن
مذهبه وهو حي لم يختلف أحد من المسلمين في ذلك، وأجازوا مخالفته بعد وفاته بتقدير أن يكون ما صار إليه عن اجتهاد، والاجماع حجة. فأما قول قاضي القضاة: لان اجتهاده وهو حي أولى من اجتهاد غيره، فليس يكاد
يظهر، لان اجتهاده، وهو ميت أولى أيضا من اجتهاد غيره، ويغلب على ظني أنهم فرقوا
بين حالتي الحياة والموت، فإن في مخالفته وهو حي نوعا من أذى له، وأذاه محرم لقوله
تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) (1)، والأذى بعد الموت لا يكون، فافترق
الحالان.
* * *
وثالثها: أنه لو كان الامام منصوصا عليه لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته،
فكذلك إذا كان بالاختيار، وهذا قد منع منه المرتضى، وقال: إنه لا يجوز للمنصوص
عليه ذلك، ولا أن يولى من عزله رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا أيعزل من ولاه
رسول الله (صلى الله عليه وآله).

(1) سورة الأحزاب 53.
189

ورابعها: أنه (عليه السلام) ترك حرب معاوية في بعض الحالات، ولم يوجب ذلك
أن يكون عاصيا، فكذلك أبو بكر في ترك النفوذ في جيش أسامة.
فأما قول المرتضى: إن عليا (عليه السلام) كان مأمورا بحرب معاوية مع التمكن ووجود الأنصار، فإذا عدما لم يكن مأمورا بحربه، فلقائل أن يقول: وأبو بكر كان مأمورا
بالنفوذ في جيش أسامة مع التمكن ووجود الأنصار، وقد عدم التمكن لما استخلف،
فإنه قد تحمل أعباء الإمامة وتعذر عليه الخروج عن المدينة، التي هي دار الإمامة،
فلم يكن مأمورا الحال هذه بالنفوذ في جيش أسامة.
فإن قلت: الاشكال عليكم إنما هو من قبل الاستخلاف، كيف جاز لأبي بكر
أن يتأخر عن المسير؟ وكيف جاز له أن يرجع إلى المدينة وهو مأمور بالمسير؟ وهلا نفذ
لوجهه ولم يرجع، وإن بلغه موت رسول الله (صلى الله عليه وآله). قلت لعل أسامة أذن له، فهو مأمور بطاعته، ولأنه رأى أسامة وقد عاد باللواء
فعاد هو لأنه لم يكن يمكنه أن يسير إلى الروم وحده، وأيضا فإن أصحابنا قالوا: إن
ولاية أسامة بطلت بموت النبي (صلى الله عليه وآله)، وعاد الامر إلى رأى من ينصب
للامر، قالوا: لان تصرف أسامة إنما كان من جهة النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم زال
تصرف النبي (صلى الله عليه وآله) بموته، فوجب أن يزول تصرف أسامة لان تصرفه
تبع لتصرف الرسول (صلى الله عليه وآله). قالوا: وذلك كالوكيل تبطل وكالته بموت
الموكل، قالوا: ويفارق الوصي لان ولايته لا تثبت إلا بعد موت الموصى، فهو كعهد
الامام إلى غيره لا يثبت إلا بعد موت الامام ثم فرع أصحابنا على هذا الأصل مسألة
وهي: الحاكم هل ينعزل بموت الامام أم لا قال قوم من أصحابنا: لا ينعزل وبنوه على أن
التولي من غير جهة الامام يجوز، فجعلوا الحاكم نائبا عن المسلمين أجمعين، لا عن الامام،
190

وأن وقف تصرفه على اختياره، وصار ذلك عندهم بمنزلة أن يختار المسلمون واحدا يحكم
بينهم، ثم يموت من رضى بذلك، فإن تصرفه يبقى على ما كان عليه وقال قوم من
أصحابنا: ينعزل، وإن هذا النوع من التصرف لا يستفاد إلا من جهة الامام ولا يقوم به
غيره، وإذا ثبت أن أسامة قد بطلت ولايته لم تبق تبعة (1) على أبى بكر في الرجوع من
بعض الطريق إلى المدينة.
* * *
وخامسها: أن أمير المؤمنين عليه السلام ولى أبا موسى الحكم، وولى رسول الله
(صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد السرية إلى الغميصاء (2) وهذا الكلام إنما ذكره قاضي القضاة تتمة لقوله: إن أمره عليه السلام بنفوذ بعث أسامة كان مشروطا بالمصلحة، قال:
كما أن توليته (عليه السلام) أبا موسى كانت مشروطة باتباع القرآن، وكما أن تولية رسول الله
(صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد كانت مشروطة بأن يعمل بما أوصاه به، فخالفا ولم يعملا
الحق، فإذا كانت هذه الأوامر مشروطة فكذلك أمره جيش أسامة بالنفوذ كان مشروطا
بالمصلحة وألا يعرض ما يقتضى رجوع الجيش أو بعضه إلى المدينة، وقد سبق القول في
كون الامر مشروطا.
وسادسها: أن أبا بكر كان محتاجا إلى مقام عمر عنده ليعاضده (3) ويقوم في تمهيد
أمر الإمامة ما لا يقوم به غيره، فكان ذلك أصلح في باب الدين من مسيره (3) مع الجيش،
فجاز أن يحبسه عنده لذلك، وهذا الوجه مختص بمن قال: إن أبا بكر لم يكن في الجيش،
وإيضاح عذره في حبس عمر عن النفوذ (5) مع الجيش.

(1) ا: " شئ ".
(2) الغميصاء: موضع أوقع فيه خالد بن الوليد ببني جذيمة.
(3) بعدها في ا، " ويعاونه ".
(4) ا: " سيره ".
(5) ا: " التنفيذ ".
191

فأما قول المرتضى فإن ذلك غير جائز، لان مخالفة النص حرام، فقد قلنا: إن هذا
مبنى على مسألة تخصيص العمومات الواردة في القرآن بالقياس.
وأما قوله: أي حاجة كانت لأبي بكر إلى عمر بعد وقوع البيعة، ولم يكن هناك تنازع
ولا اختلاف! فعجيب، وهل كان لولا مقام عمر وحضوره في تلك المقامات يتم لأبي بكر
أمر أو ينتظم له حال! ولولا عمر لما بايع على ولا الزبير، ولا أكثر الأنصار، والامر
في هذا أظهر من كل ظاهر. وسابعها: أن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش أسامة يجب تأخرهم ليختار للإمامة
أحدهم، فإن ذلك أهم من نفوذهم، فإذا جاز لهذه العلة التأخر قبل العقد جاز التأخر بعده
للمعاضدة وغيرها.
فأما قول المرتضى: إن ذلك الجيش لم يضم من يصلح للإمامة، فبناء على مذهبه في
أن كل من ليس بمعصوم لا يصلح للإمامة. فأما قوله: ولو صح ذلك لم يكن عذرا في
التأخر، لان من خرج في الجيش يمكن أن يختار ولو كان بعيدا، ولا يمكن بعده من
صحه الاختيار، فلقائل أن يقول: دار الهجرة هي التي فيها أهل الحل والعقد، وأقارب
رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقراء وأصحاب السقيفة، فلا يجوز العدول عن الاجتماع
والمشاورة فيها إلى الاختيار على البعد، وعلى جناح السفر من غير مشاركة من ذكرنا من
أعيان المسلمين.
فأما قوله: ولو صح هذا العقد لكان عذرا في التأخر قبل العقد، فأما بعد
إبرامه فلا عذر فيه، فلقائل أن يقول: إذا أجزت التأخر قبل العقد لنوع
من المصلحة فأجز التأخر بعد العقد لنوع آخر من المصلحة، وهو المعاضدة والمساعدة.
192

هذه الوجوه السبعة كلها لبيان قوله: تأخر أبى بكر أو عمر عن النفوذ في جيش
أسامة وإن كان مأمورا بالنفوذ.
* * *
ثم نعود إلى تمام أقسام الفصل.
ومنها قول قاضي القضاة لا معنى لقول من قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قصد إبعادهم عن المدينة، لان بعدهم عنها لا يمنعهم من أن يختاروا واحدا منهم
للإمامة، ولأنه (عليه السلام) لم يكن قاطعا على موته لا محالة، لأنه لم يرد نفذوا جيش
أسامة في حياته.
وقد اعترض المرتضى هذا فقال: إنه لم يتبين معنى الطعن، لان الطاعن لا يقول:
إنهم أبعدوا عن المدينة كي لا يختاروا واحدا للإمامة، بل يقول: إنما أبعدوا لينتصب
بعد موته (صلى الله عليه وآله) في المدينة الشخص الذي نص عليه ولا يكون حاضرا بالمدينة
من يخالفه وينازعه، وليس يضرنا ألا يكون (صلى الله عليه وآله) قاطعا على موته، لأنه
وإن لم يكن قاطعا فهو لا محالة يشفق ويخاف من الموت، وعلى الخائف أن يتحرز مما يخاف
منه، وكلام المرتضى في هذا الموضع أظهر من كلام قاضي القضاة.
ومنها قول قاضي القضاة: إن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي كونهما دونه في الفضل،
كما أن عمرو بن العاص لما ولى عليهما لم يقتض كونه أفضل منهما. وقد اعترض المرتضى
هذا بأنه (2) يقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه، وأن تقديم عمرو بن
العاص عليهما في الامرة يقتضى أن يكون أفضل منهما فيما يرجع إلى الإمرة والسياسة،
ولا يقتضى أفضليته عليهما في غير ذلك، وكذلك القول في أسامة.

(1) انظر ص 182.
(2) د: " فإنه ".
193

ولقائل أن يقول أن الملوك قد يؤمرون الامراء على الجيوش لوجهين: أحدهما أن
يقصد الملك بتأمير ذلك الشخص أن يسوس الجيش ويدبره بفضل رأيه وشيخوخته
وقديم تجربته وما عرف من يمن نقيبته في الحرب وقود العساكر، والثاني أن يؤمر
على الجيش غلاما حدثا من غلمانه أو من ولده أو من أهله، ويأمر الأكابر من الجيش أن
يثقفوه ويعلموه، ويأمره أن يتدبر بتدبيرهم، ويرجع إلى رأيهم، ويكون قصد الملك
من ذلك تخريج ذلك الغلام وتمرينه على الامارة، وأن يثبت له في نفوس الناس منزلة،
وأن يرشحه لجلائل (1) الأمور ومعاظم الشؤون، ففي الوجه الأول يقبح تقديم المفضول على
الفاضل، وفى الوجه الثاني لا يقبح، فلم لا يجوز أن يكون تأمير أسامة عليهما من قبيل
الوجه الثاني؟ والحال يشهد لذلك، لان أسامة كان غلاما لم يبلغ ثماني عشرة سنة حين
قبض النبي (صلى الله عليه وآله)، فمن أين حصل له من تجربة الحرب وممارسة الوقائع وقود
الجيش ما يكون
به أعرف بالإمرة من أبى بكر وعمر وأبى عبيدة وسعد بن أبي
وقاص وغيرهم!
ومنها قول قاضي القضاة: إن السبب في كون عمر في الجيش أنه أنكر على عبد الله
ابن عياش بن أبي ربيعة تسخطه إمرة أسامة، وقال: أنا أخرج في جيش أسامة،
فخرج من تلقاء نفسه تعظيما لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله). وقد اعترضه المرتضى فقال:
هذا شئ لم نسمعه من راو، ولا قرأناه في كتاب، وصدق المرتضى فيما قال، فإن هذا
حديث غريب لا يعرف.
وأما قول عمر: دعني أضرب عنقه فقد نافق، فمنقول مشهور لا محالة، وإنما الغريب
الذي لم يعرف كون عمر خرج من تلقاء نفسه في الجيش مراغمة لعبد الله بن عياش ابن أبي
ربيعه، حيث أنكر ما أنكر، ولعل قاضي القضاة سمعه من راو أو نقله من كتاب، إلا أنا نحن ما وقفنا على ذلك.

(1) ب: " بجلائل "، وما أثبته من ا، د.
(2) ا: " سخطه ".
194

الطعن الخامس قالوا: إنه (صلى الله عليه وآله) لم يول أبا بكر الأعمال وولى غيره ولما ولاه الحج بالناس وقراءة سورة براءة على الناس، عزله عن ذلك كله. وجعل الامر إلى أمير المؤمنين
(عليه السلام)، وقال: " لا يؤدي عنى إلا أنا أو رجل منى "، حتى يرجع أبو بكر إلى النبي
(صلى الله عليه وآله).
أجاب قاضي القضاة فقال: لو سلمنا أنه لم يوله، لما دل ذلك على نقص، ولا على أنه
لم يصلح للإمارة والإمامة، بل لو قيل: إنه لم يوله لحاجته إليه بحضرته، وإن ذلك رفعة له
لكان أقرب، لا سيما، وقد روى عنه ما يدل على أنهما وزيراه، وأنه كان (صلى الله
عليه وآله) محتاجا إليهما، وإلى رأيهما، فلذلك لم يولهما، ولو كان للعمل على تركه فضل
لكان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما أفضل من أكابر الصحابة، لأنه
(عليه السلام) ولاهما وقدمهما، وقد قدمنا أن توليته هي بحسب الصلاح، وقد يولى المفضول
على الفاضل تارة والفاضل أخرى، وربما ولى الواحد لاستغنائه عنه بحضرته، وربما
ولاه لاتصال بينه وبين من يولى عليه، إلى غير ذلك. ثم ادعى أنه ولى أبا بكر على
الموسم والحج قد ثبتت بلا خلاف بين أهل الأخبار ولم يصح أنه عزله ولا يدل رجوع أبى بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) مستفهما عن القصة على العزل، ثم جعل إنكار
من أنكر حج أبى بكر في تلك السنة بالناس، كإنكار عباد وطبقته أخذ أمير المؤمنين
(عليه السلام) سورة براءة من أبى بكر. وحكى عن أبي على أن المعنى كان في أخذ
السورة من أبى بكر أن من عاده العرب أن سيدا من سادات قبائلهم إذا عقد عقد القوم،
فإن ذلك العقد لا ينحل إلا أن يحله هو أو بعض سادات قومه، فلما كان هذا عادتهم
وأراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن ينبذ (1) إليهم عقدهم، وينقض ما كان بينه وبينهم علم

(1) نبذ العقد: نقضه.
195

أنه لا ينحل ذلك إلا به أو بسيد من سادات رهطه فعدل عن أبي بكر إلى أمير المؤمنين
المقرب في النسب. ثم ادعى أنه (صلى الله عليه وآله) ولى أبا بكر في مرضه الصلاة، وذلك
أشرف الولايات، وقال في ذلك: يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر.
ثم اعترض نفسه بصلاته (عليه السلام) خلف عبد الرحمن بن عوف: وأجاب بأنه
(صلى الله عليه وآله) إنما صلى خلفه لا أنه ولاه الصلاة وقدمه فيها. قال: وإنما قدم
عبد الرحمن عند غيبة النبي (صلى الله عليه وآله) فصلى بغير أمره، وقد ضاق الوقت،
فجاء النبي (صلى الله عليه وآله) فصلى خلفه.
اعترض المرتضى فقال: قد بينا أن تركه (صلى الله عليه وآله) الولاية لبعض أصحابه
مع حضوره وإمكان ولايته والعدول عنه إلى غيره، مع تطاول الزمان وامتداده، لابد من
أن تقتضي غلبة الظن بأنه لا يصلح للولاية، فأما ادعاؤه أنه لم يوله لافتقاره إليه بحضرته
وحاجته إلى تدبيره ورأيه، فقد بينا أنه (عليه السلام) ما كان يفتقر إلى رأى أحد لكماله
ورجحانه على كل أحد، وإنما كان يشاور أصحابه على سبيل التعليم لهم والتأديب، أو لغير
ذلك مما قد ذكر. وبعد فكيف استمرت هذه الحاجة، واتصلت منه إليهما حتى
لم يستغن في زمان من الأزمان عن حضورهما فيوليهما! وهل هذا إلا قدح في رأى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونسبته إلى أنه كان ممن يحتاج إلى أن يلقن ويوقف
على كل شئ، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك! فأما ادعاؤه أن الرواية قد وردت بأنهما
وزيراه فقد كان يجب أن يصحح ذلك قبل أن يعتمده ويحتج به، فإنا ندفعه عنه أشد
دفع. فأما ولاية عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد تكلمنا عليها من قبل، وبينا أن
ولايتهما تدل على صلاحهما لما ولياه، ولا تدل على صلاحهما للإمامة لان شرائط
الإمامة لم تتكامل فيهما، وبينا أيضا أن ولاية المفضول على الفاضل لا تجوز، فأما تعظيمه

(1) نقله المرتضى في الشافي 421.
196

وإكباره قول من يذهب إلى أن أبا بكر عزل عن أداء السورة والموسم جميعا، وجمعه بين
ذلك في البعد وبين إنكار عباد أن يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) ارتجع سوره براءة
من أبى بكر، فأول ما فيه أنا لا ننكر أن يكون أكثر الاخبار واردة بأن أبا بكر حج بالناس في تلك السنة إلا أنه قد روى قوم من أصحابنا خلاف ذلك، وأن أمير المؤمنين
عليه السلام كان أمير الموسم في تلك السنة، وإن عزل الرجل كان عن الامرين معا.
واستكبار ذلك. وفيه خلاف لا معنى له، فأما ما حكاه عن عباد فإنا لا نعرفه، وما نظن
أحدا يذهب إلى مثله، وليس يمكنه بإزاء ذلك جحد مذهب أصحابنا الذي حكيناه، وليس
عباد لو صحت الرواية عنه بإزاء من ذكرناه، فهو ملئ بالجهالات ودفع الضرورات.
وبعد، فلو سلمنا أن ولاية الموسم لم تفسخ لكان الكلام باقيا، لأنه إذا كان ما ولى مع
تطاول الزمان إلا هذه الولاية ثم سلب شطرها، والأفخم الأعظم منها، فليس ذلك
إلا تنبيها على ما ذكرناه.
فأما ما حكاه عن أبي على من أن عادة العرب ألا يحل ما عقده الرئيس منهم
إلا هو أو المتقدم من رهطه، فمعاذ الله أن يجرى النبي (صلى الله عليه وآله) سنته وأحكامه
على عادات الجاهلية، وقد بين (عليه السلام) لما رجع إليه أبو بكر يسأله عن اخذ السورة
منه الحال، فقال أنه أوحى إلى ألا يؤدى عنى إلا أنا أو رجل منى، ولم يذكر
ما ادعاه أبو علي، على أن هذه العادة قد كان يعرفها النبي (صلى الله عليه وآله) قبل بعثه
أبا بكر بسورة براءة فما باله لم يعتمدها في الابتداء ويبعث من يجوز أن يحل عقده من قومه!
فأما ادعاؤه ولاية أبى بكر الصلاة فقد ذكرنا فيما تقدم أنه لم يوله إياها. فأما فصله بين صلاته خلف عبد الرحمن وبين صلاه أبى بكر بالناس، فليس بشئ،
لأنا إذا كنا قد دللنا على أن الرسول (صلى الله عليه وآله) ما قدم أبا بكر إلى الصلاة، فقد
197

استوى الأمران. وبعد، فأي فرق بين أن يصلى خلفه وبين أن يوليه ويقدمه، ونحن
نعلم أن صلاته خلفه إقرار لولايته ورضا بها، فقد عاد الامر إلى أن عبد الرحمن كأنه قد
صلى بأمره وإذنه! على أن قصه عبد الرحمن أوكد، لأنه قد اعترف بأن الرسول صلى
خلفه، ولم يصل خلف أبى بكر، وإن ذهب كثير من الناس إلى أنه قدمه وأمر بالصلاة
قبل خروجه إلى المسجد وتحامله.
ثم سأل المرتضى رحمه الله نفسه، فقال: إن قيل: ليس يخلو النبي (صلى الله عليه وآله)
من أن يكون سلم في الابتداء سورة براءة إلى أبى بكر بأمر الله أو باجتهاده ورأيه فإن كان بأمر الله تعالى، فكيف يجوز أن يرتجع منه السورة قبل وقت الأداء، وعندكم أنه
لا يجوز نسخ الشئ قبل تقضى وقت فعله! وإن كان باجتهاده (صلى الله عليه وآله)،
فعندكم أنه لا يجوز أن يجتهد فيما يجرى هذا المجرى!
وأجاب فقال: إنه ما سلم السورة إلى أبى بكر إلا بإذنه تعالى، إلا أنه لم يأمره
بأدائها، ولا كلفه قراءتها على أهل الموسم لان أحدا لم يمكنه أن ينقل عنه عليه السلام
في ذلك لفظ الامر والتكليف، فكأنه سلم سورة براءة (عليه السلام) إليه لتقرأ على أهل الموسم،
ولم يصرح بذكر القارئ المبلغ لها في الحال، ولو نقل عنه تصريح لجاز أن يكون
مشروطا بشرط لم يظهر.
فإن قيل: فأي فائدة في دفع السورة إلى أبى بكر وهو لا يريد أن يؤديها ثم
ارتجاعها منه؟ وهلا دفعت في الابتداء إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
قيل: الفائدة في ذلك ظهور فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومرتبته، وأن الرجل
الذي نزعت السورة عنه لا يصلح لما يصلح له، وهذا غرض قوى في وقوع الامر على ما وقع عليه (1)

(1) الشافي 421، 422.
198

قلت: قد ذكرنا فيما تقدم القول في تولية الملك بعض أصحابه، وترك تولية بعضهم،
وكيفية الحال في ذلك، على أنه قد روى أصحاب المغازي أنه أمر أبا بكر في شعبان من سنة
سبع على سرية بعثها إلى نجد فلقوا جمعا من هوازن فبيتوهم (1)، فروى إياس بن سلمة
عن أبيه قال: كنت في ذلك البعث، فقتلت بيدي سبعة منهم، وكان شعارنا: " أمت أمت "، وقتل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) قوم، وجرح أبو بكر وارتث (2)
وعاد إلى المدينة، على أن أمراء السرايا الذين كان يبعثهم (صلى الله عليه وآله) كانوا قوما مشهورين بالشجاعة ولقاء الحروب، كمحمد بن مسلمة، وأبى دجانة، وزيد بن حارثة
ونحوهم، ولم يكن أبو بكر مشهورا بالشجاعة ولقاء الحروب، ولم يكن جبانا ولا خوارا (3)
وإنما كان رجلا مجتمع القلب عاقلا، ذا رأى وحسن تدبير، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يترك بعثه في السرايا، لان غيره أنفع منه فيها، ولا يدل ذلك على أنه لا يصلح
للإمامة، وأن الإمامة لا تحتاج أن يكون صاحبها من المشهورين بالشجاعة، وإنما يحتاج
إلى ثبات القلب، وألا يكون هلعا طائر (4) الجنان. وكيف يقول المرتضى: إنه (صلى الله عليه وآله)
لم يكن محتاجا إلى رأى أحد، وقد نقل الناس كلهم رجوعه من رأى إلى رأى
عند المشورة، نحو ما جرى يوم بدر من تغير المنزل لما أشار عليه الحباب بن المنذر،
ونحو ما جرى يوم الخندق من فسخ رأيه في دفع ثلث تمر المدينة إلى عيينة بن حصن ليرجع بالأحزاب عنهم، لأجل ما رآه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة من الحرب،
والعدول عن الصلح، ونحو ما جرى في تلقيح النخل بالمدينة وغير ذلك! فأما ولاية
أبى بكر الموسم فأكثر الاخبار على ذلك، ولم يرو عزله عن الموسم إلا قوم من الشيعة.

(1) بيتوهم، أي دبروا أمرهم.
(2) ارتث، على البناء للمجهول: حمل من المعركة رثيثا، أي جريحا وبه رمق.
(3) الخوار: الضعيف.
(4) الهلع: أفحش الجمع.
199

وأما ما أنكره المرتضى من حال عباد بن سليمان ودفعه أن يكون على أخذ براءة من أبى بكر
واستغرابه ذلك عجب، فإن قول عباد قد ذهب إليه كثير من الناس، ورووا أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يدفع براءة إلى أبى بكر، وأنه بعد أن نفذ أبو بكر بالحجيج
أتبعه عليا ومعه تسع آيات من براءة، وقد أمره أن يقرأها على الناس ويؤذنهم بنقض العهد
وقطع الدنية، فانصرف أبو بكر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأعاده على الحجيج، وقال له: أنت
الأمير، وعلى المبلغ، فإنه يبلغ عنى إلا أنا أو رجل منى، ولم ينكر
عباد أمر براءة بالكلية، وإنما أنكر أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) دفعها إلى أبى بكر
ثم انتزعها، منه وطائفة عظيمة من المحدثين يروون ما ذكرناه، وإن كان الأكثر
الأظهر أنه دفعها إليه ثم أتبعه بعلي (عليه السلام) فانتزعها منه، والمقصود أن المرتضى
قد تعجب مما لا يتعجب من مثله، فظن أن عبادا أنكر حديث براءة بالكلية، وقد
وقفت أنا على ما ذكره عباد في هذه القضية في كتابه المعروف بكتاب " الأبواب "،
وهو الكتاب الذي نقضه شيخنا أبو هاشم، فأما عذر شيخنا أبى على، وقوله: إن عادة
العرب ذلك، واعتراض المرتضى عليه، فالذي قاله المرتضى أصح وأظهر، وما نسب
إلى عادة العرب غير معروف، وإنما هو تأويل تأول به متعصبو أبى بكر لانتزاع براءة منه،
وليس بشئ. ولست أقول ما قاله المرتضى من أن غرض رسول الله (صلى الله عليه وآله)
إظهار أن أبا بكر لا يصلح للأداء عنه بل أقول: فعل ذلك لمصلحة رآها، ولعل السبب
في ذلك أن عليا (عليه السلام) من بنى عبد مناف وهم جمرة قريش بمكة، وعلى أيضا
شجاع لا يقام له (1)، وقد حصل في صدور قريش منه الهيبة الشديدة والمخافة العظيمة
فإذا حصل مثل هذا الشجاع البطل وحوله من بنى عمه وهم أهل العزة والقوة والحمية

(1) ب: " لا يقال " تحريف.
200

كان أدعى إلى نجاته من قريش، وسلامة نفسه وبلوغ الغرض من نبذ العهد على يده
ألا ترى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عمره الحديبية بعث عثمان بن عفان إلى مكة
يطلب منهم الاذن له في الدخول، وإنما بعثه لأنه من بنى عبد مناف، ولم يكن
بنو عبد مناف - وخصوصا بنى عبد شمس - ليمكنوا من قتله، ولذلك حمله بنو سعيد
ابن العاص على بعير يوم دخل مكة وأحدقوا به مستلئمين بالسلاح، وقالوا له: أقبل
وأدبر، ولا تخف أحدا، بنو سعيد أعزه الحرم. وأما القول في تولية رسول الله
(صلى الله عليه وآله) أبا بكر الصلاة، فقد تقدم، وما رامه قاضي القضاة من الفرق بين صلاة أبى بكر
بالناس وصلاة عبد الرحمن بهم، مع كون رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلى خلفه ضعيف،
وكلام المرتضى أقوى منه. فأما السؤال الذي سأله المرتضى من نفسه فقوى، والجواب
الصحيح أن بعث براءة مع أبي بكر كان باجتهاد من الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يكن
عن وحى ولا من جملة الشرائع التي تتلقى عن جبرائيل (عليه السلام)، فلم يقبح نسخ ذلك
قبل تقضى وقت فعله، وجواب المرتضى ليس بقوي، لأنه من البعيد أن يسلم سورة
براءة إلى أبى بكر ولا يقال له: ما ذا تصنع بها؟ بل يقال: خذ هذه معك لا غير.
والقول بأن الكلام مشروط بشرط لم يظهر خلاف الظاهر، وفتح هذا الباب يفسد كثيرا
من القواعد.
* * *
الطعن السادس
إن أبا بكر لم يكن يعرف الفقه وأحكام الشريعة، فقد قال في الكلالة (2): أقول

(1) المستلئم: لابس اللامة.
(2) الكلالة: من لا ولد والد، وما لم يكن من النسب لي.
201

فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني (1)، ولم يعرف ميراث الجد، ومن حاله هذه لا يصلح للإمامة.
أجاب قاضي القضاة بأن الامام لا يجب أن يعلم جميع الأحكام، وأن القدر الذي يحتاج
إليه هو القدر الذي يحتاج إليه الحاكم، وأن القول بالرأي هو الواجب فيما لا نص فيه،
وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) بالرأي في مسائل كثيرة.
اعترض المرتضى فقال: قد دللنا على أن الامام لا بد أن يكون عالما بجميع الشرعيات،
وفرقنا بينه وبين الحاكم، ودللنا على فساد الرأي والاجتهاد. وأما أمير المؤمنين (عليه السلام)
فلم يقل قط بالرأي، وما يروى من خبر بيع أمهات الأولاد غير صحيح، ولو صح
لجاز أن يكون أراد بالرأي الرجوع إلى النصوص والأدلة، ولا شبهة عندنا أن قوله
كان واحدا في الحالين (2)، وإن ظهر في أحدهما خلاف مذهبه للتقية (3). قلت: هذا الطعن مبنى على أمرين: أحدهما هل من شرط الإمامة أن يعلم الامام
كل الأحكام الشرعية أم لا؟ وهذا مذكور في كتبنا الكلامية، والثاني هو القول
في الاجتهاد والرأي حق أم لا؟ وهذا مذكور في كتبنا الأصولية.
* * *
الطعن السابع
قصة خالد بن الوليد وقتله مالك بن نويرة ومضاجعته امرأته من ليلته، وأن أبا بكر

(1) الشافي: فمني ومن الشيطان، ونحو قوله وقد سئل عن قوله: (وفاكهة وأبا)،
فلم يعرف معناه، والأب: المرعي في اللغة، لا يذهب على أحد له أدني له أنس بالعربية، ونحو ميراث الجدة
وأنه لم يعرف الحكم فيه، ونظائر ذلك كثيرة معروفة.
(2) ب: " القولين "
(3) انظر الشافي 422.
202

ترك إقامة الحد عليه، وزعم أنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه، مع أن الله تعالى قد أوجب القود وحد الزنا عموما، وأن عمر نبهه وقال له: اقتله، فإنه قتل مسلما.
أجاب قاضي القضاة فقال: إن شيخنا أبا على قال: إن الردة ظهرت من مالك بن نويرة،
لأنه جاء في الاخبار أنه رد صدقات قومه عليهم لما بلغه موت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
كما فعله سائر أهل الردة فاستحق القتل، فإن قال: قائل: فقد كان يصلى، قيل له: وكذلك
سائر أهل الردة، وإنما كفروا بالامتناع من الزكاة، واعتقادهم إسقاط وجوبها دون غيره.
فإن قيل: فلم أنكر عمر؟ قيل: كان الامر إلى أبى بكر، فلا وجه لانكار عمر، وقد
يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على عمر. فإن قيل: فما معنى ما روى
عن أبي بكر من أن خالدا تأول فأخطأ، قيل: أراد عجلته عليه بالقتل، وقد كان الواجب
عنده على خالد أن يتوقف للشبهة. واستدل أبو علي على ردته، بأن أخاه متمم بن نويرة
لما أنشد عمر مرثيته أخاه قال له: وددت أنى أقول الشعر فأرثي أخي زيدا بمثل
ما رثيت به أخاك! فقال متمم: لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك ما رثيته،
فقال عمر: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك فدل هذا على أن مالكا لم يقتل على الاسلام
كما قتل زيد.
وأجاب عن تزويج خالد بامرأته بأنه إذا قتل على الردة في دار الكفر جاز
تزويج امرأته عند كثير من أهل العلم، وإن كان لا يجوز أن يطأها
إلا بعد الاستبراء.
وحكى عن أبي على أنه إنما قتله لأنه ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: " صاحبك "، وأوهم بذلك أنه ليس بصاحب له، وكان عنده أن ذلك ردة وعلم عند المشاهدة
203

المقصد، وهو أمير القوم، فجاز أن يقتله وإن كان الأولى ألا يستعجل، وأن يكشف الامر
في ردته حتى يتضح، فلهذا لم يقتله أبو بكر به. فاما وطؤه لامرأته فلم يثبت، فلا يصح
أن يجعل طعنا فيه (1).
اعترض المرتضى فقال: أما منع خالد في قتل مالك بن نويرة واستباحة امرأته وأمواله
لنسبته إياه إلى رده لم تظهر منه، بل كان الظاهر خلافها من الاسلام، فعظيم. ويجرى
مجراه في العظم تغافل من تغافل عن أمره، ولم يقم فيه حكم الله تعالى، وأقره على الخطأ
الذي شهد هو به على نفسه، ويجرى مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها ولم يتصفح
ما روى من الاخبار في هذا الباب وتعصب لأسلافه ومذهبه. وكيف يجوز عند خصومنا
على مالك وأصحابه جحد الزكاة مع المقام على الصلاة، وهما جميعا في قرن (2)! لان العلم
الضروري بأنهما من دينه (عليه السلام) وشريعته على حد واحد، وهل نسبة مالك إلى
الردة مع ما ذكرناه إلا قدح في الأصول ونقض لما تضمنته من أن الزكاة معلومة ضرورة
من دينه (عليه السلام). وأعجب من كل عجيب قوله: وكذلك سائر أهل الردة، يعنى أنهم
كانوا يصلون ويجحدون الزكاة، كل عجيب قوله: وكذلك سائر أهل الردة، يعنى أنهم
كانوا يصلون ويجحدون الزكاة، لأنا قد بينا أن ذلك مستحيل غير ممكن! وكيف
يصح ذلك، وقد روى جميع أهل النقل أن أبا بكر لما وصى الجيش الذين أنفذهم بأن
يؤذنوا ويقيموا، فإن أذن القوم كأذانهم وإقامتهم كفوا عنهم، وإن لم يفعلوا أغاروا عليهم،
فجعل أمارة الاسلام والبراءة من الردة الأذان والإقامة! وكيف يطلق في سائر أهل الردة
ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون، وقد علمنا أن أصحاب مسيلمة وطليحة وغيرهما ممن كان
ادعى النبوة وخلع الشريعة ما كانوا يرون الصلاة ولا شيئا مما جاءت به شريعتنا.
وقصة مالك معروفة عند من تأمل كتب السير والنقل، لأنه كان على صدقات قومه بنى

(1) نقله الشافي في المرتضى 422، 423.
(2) القرن: الحبل، والكلام على الاستعارة.
204

يربوع واليا من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولما بلغته وفاه رسول الله
(صلى الله عليه وآله) أمسك عن أخذ الصدقة من قومه وقال لهم: تربصوا بها حتى يقوم قائم بعد
النبي (صلى الله عليه وآله)، وننظر ما يكون من أمره وقد صرح بذلك في شعره حيث يقول:
وقال رجال سدد اليوم مالك * وقال رجال مالك لم يسدد
فقلت: دعوني لا أبا لأبيكم * فلم أخط رأيا في المقام ولا الندى
وقلت: خذوا أموالكم غير خائف * ولا ناظر فيما يجئ به غدي
فدونكموها إنما هي مالكم * مصورة أخلاقها لم تجدد
سأجعل نفسي دون ما تحذرونه * وأرهنكم يوما بما قلته يدي
فإن قام بالامر المجدد قائم * أطعنا وقلنا: الدين دين محمد.
فصرح كما ترى أنه استبقى الصدقة في أيدي قومه رفقا بهم وتقربا إليهم، إلى أن
يقوم بالامر من يدفع ذلك إليه. وقد روى جماعة من أهل السير، وذكره الطبري في
تاريخه، أن مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات وفرقهم، وقال يا بنى
يربوع، إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين وبطأنا الناس عنه، فلم
نفلح ولم ننجح، وإني قد نظرت في هذا الامر فوجدت الامر يتأتى لهؤلاء القوم بغير
سياسة، وإذا أمر لا يسوسه الناس فإياكم ومعاداة قوم يصنع لهم فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم، ورجع مالك إلى منزله، فلما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الاسلام
وان يأتوه بكل من لم يجب، وأمرهم إن امتنع أن يقاتلوه، فجاءته الخيل بمالك بن
نويرة في نفر من بنى يربوع، واختلف السرية في أمرهم، وفى السرية أبو قتادة
الحارث بن ربعي، فكان ممن شهد أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم
205

أمر بهم خالد فحبسوا وكانت ليلة باردة لا يقوم لها شئ، فأمر خالد مناديا ينادى: " ادفئوا (1)
أسراءكم " (2) فظنوا أنهم أمروا بقتلهم، لأن هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل،
فقتل ضرار بن الأزور مالكا، وتزوج خالد زوجته أم تميم بنت المنهال (3).
وفى خبر آخر أن السرية التي بعث بها خالد لما غشيت القوم تحت الليل راعوهم،
فأخذ القوم السلاح! قال: فقلنا: إنا المسلمون، فقالوا: ونحن المسلمون، قلنا: فما بال
السلاح معكم! قلنا فضعوا السلاح، فلما وضعوا السلاح ربطوا أسارى فأتوا بهم خالدا.
فحدث أبو قتادة خالد بن الوليد أن القوم نادوا بالاسلام، وأن لهم أمانا، فلم يلتفت خالد
إلى قولهم وأمر بقتلهم، وقسم سبيهم، وحلف أبو قتادة ألا يسير تحت لواء خالد في جيش
أبدا، وركب فرسه شاذا إلى أبى بكر، فأخبره الخبر، وقال له: إني نهيت خالدا عن قتله،
فلم يقبل قولي، وأخذ بشهادة الاعراب الذين غرضهم الغنائم، وإن عمر لما سمع ذلك
تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال: إن القصاص قد وجب عليه.
ولما أقبل خالد
ابن الوليد قافلا دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد، معتجرا (4) بعمامة له قد
غرز في عمامته أسهما، فلما دخل المسجد قام إليه عمر فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها،
ثم قال له: يا عدو نفسه، أعدوت على امرئ مسلم فقتلته ثم نزوت على امرأته!
والله لنرجمنك بأحجارك. وخالد لا يكلمه، ولا يظن إلا أن رأى أبى بكر مثل رأيه حتى
دخل إلى أبى بكر واعتذر إليه بعذره وتجاوز عنه، فخرج خالد وعمر جالس في المسجد
فقال: هلم إلى يا بن أم شملة! فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلمه، ودخل
بيته (5).
وقد روى أيضا أن عمر لما ولى جمع من عشيرة مالك بن نويرة من وجد منهم

(1) ب: " ادفوا "، صوابه في د والطبري.
(2) الطبري: " أسراءكم ".
(3) تاريخ الطبري 3: 278 (المعارف)، مع تصرف واختصار.
(4) اعتجر العمامة: لبسها.
(5) تاريخ الطبري 3: 279: 280.
206

واسترجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم وأولادهم ونسائهم، فرد ذلك عليهم جميعا مع
نصيبه كان منهم. وقيل: إنه ارتجع بعض نسائهم من نواحي دمشق، وبعضهن حوامل،
فردهن على أزواجهن. فالامر ظاهر في خطأ خالد. وخطأ من تجاوز عنه. وقول صاحب
الكتاب: إنه يجوز أن يخفى عن عمر ما يظهر لأبي بكر ليس بشئ لان الامر في قصة
خالد لم يكن مشتبها، بل كان مشاهدا معلوما لكل من حضره، وما تأول به في القتل
لا يعذر لأجله، وما رأينا أبا بكر حكم فيه بحكم المتأول ولا غيره، ولا تلافى خطأه
وزلله، وكونه سيفا من سيوف الله على ما ادعاه لا يسقط عنه الاحكام، ويبرئه من الآثام،
وأما قول متمم: لو قتل أخي على ما قتل عليه أخوك لما رثيته، لا يدل على أنه كان
مرتدا، فكيف يظن عاقل أن متمما يعترف بردة أخيه وهو يطالب أبا بكر بدمه
والاقتصاص من قاتليه، ورد سبيه، وأنه أراد في الجملة التقرب إلى عمر بتقريظ أخيه!
ثم لو كان ظاهر هذا القول كباطنه لكان إنما يقصد تفضيل قتلة زيد على قتلة مالك،
والحال في ذلك أظهر، لان زيدا قتل في بعث المسلمين ذابا عن وجوههم، ومالك قتل على
شبهة وبين الامرين فرق.
وأما قوله في النبي (صلى الله عليه وآله): " صاحبك " فقد قال أهل العلم: إنه أراد القرشية
لان خالدا قرشي. وبعد، فليس في ظاهر إضافته إليه دلالة على نفيه له عن نفسه، ولو كان علم
من مقصده الاستخفاف والإهانة على ما ادعاه صاحب الكتاب لوجب أن يعتذر خالد
بذلك عند أبي بكر وعمر ويعتذر به أبو بكر لما طالبه عمر بقتله، فإن عمر
ما كان يمنع من قتل قادح في نبوة النبي (صلى الله عليه وآله)، وإن كان الامر على
ذلك فأي معنى لقول أبى بكر: تأول فأخطأ! وإنما تأول فأصاب إن كان الامر
على ما ذكر (1).

(1) الشافي 422، 423.
207

قلت: أما تعجب المرتضى من كون قوم منعوا الزكاة وأقاموا على الصلاة ودعواه أن
هذا غير ممكن ولا صحيح، فالعجب منه كيف ينكر وقوع ذلك، وكيف ينكر
إمكانه! أما الامكان فلأنه لا ملازمة بين العبادتين إلا من كونهما مقترنتين في بعض
المواضع في القرآن، وذلك لا يوجب تلازمهما في الوجود، أو من قوله: إن الناس يعلمون
كون الزكاة واجبه في دين الاسلام ضرورة، كما تعلمون كون الصلاة في دين الاسلام
ضرورة، وهذا لا يمنع اعتقادهم سقوط وجوب الزكاة لشبهة دخلت عليهم. فإنهم قالوا:
إن الله تعالى قال لرسوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل
عليهم إن صلاتك سكن لهم قالوا: فوصف الصدقة المفروضة بأنها صدقة من
شأنها أن يطهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس ويزكيهم بأخذها منهم، ثم عقب ذلك بأن فرض عليه مع أخذ الزكاة منهم أن يصلى عليهم صلاه تكون سكنا لهم. قالوا: وهذه الصفات لا تتحقق في غيره، لان غيره لا يطهر الناس ويزكيهم بأخذ الصدقة، ولا إذا صلى
على الناس كانت صلاته سكنا لهم، فلم يجب علينا دفع الزكاة إلى غيره. وهذه الشبهة
لا تنافى كون الزكاة معلوما وجوبها ضرورة من دين محمد (صلى الله عليه وآله) لأنهم
ما جحدوا وجوبها، ولكنهم قالوا: إنه وجوب مشروط، وليس يعلم بالضرورة انتفاء
كونها مشروطة وإنما يعلم ذلك بنظر وتأويل، فقد بان أن ما ادعاه من الضرورة ليس
بدال على أنه لا يمكن أحد اعتقاد نفى وجوب الزكاة بعد موت الرسول، ولو عرضت
مثل هذه الشبهة في صلاة لصح لذاهب أن يذهب إلى أنها قد سقطت عن الناس، فأما
الوقوع فهو المعلوم ضرورة بالتواتر، كالعلم بأن أبا بكر ولى الخلافة بعد الرسول
(صلى الله عليه وآله) ضرورة بطريق التواتر، ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر في كتب التواريخ

(1) سورة التوبة 103.
208

فإنها تشتمل من ذلك على ما يشفى ويكفي. وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في
التاريخ الكبير بإسناد ذكره: إن أبا بكر أقام بالمدينة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وتوجيهه أسامة في جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بن حارثة لم يحدث شيئا وجاءته وفود
العرب مرتدين يقرون بالصلاة ويمنعون الصدقة، فلم يقيل منهم وردهم، وأقام حتى قدم
أسامة بعد أربعين يوما من شخوصه، ويقال: بعد سبعين يوما (1).
وروى أبو جعفر، قال: امتنعت العرب قاطبة من أداء الزكاة بعد رسول الله (صلى الله
عليه وآله) إلا قريشا وثقيفا (2).
وروى أبو جعفر، عن السرى عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة
عن أبيه، قال: ارتدت العرب ومنعت الزكاة إلا قريشا وثقيفا، فأما هوازن فقدمت
رجلا وأخرت أخرى، أمسكوا الصدقة (4).
وروى أبو جعفر، قال: لما منعت العرب الزكاة كان أبو بكر ينتظر قدوم أسامة
بالجيش، فلم يحارب أحدا قبل قدومه إلا عبسا وذبيان، فإنه قاتلهم قبل رجوع
أسامة.
وروى أبو جعفر، قال قدمت وفود من قبائل العرب المدينة، فنزلوا على وجوه الناس
بها، ويحملونهم إلى أبى بكر أن يقيموا الصلاة وألا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لأبي بكر
على الحق، وقال: لو منعوني عقال بعير لجاهدتهم عليه (6).
وروى أبو جعفر شعرا للخطيل (7) بن أوس، أخي الحطيئة في معنى منع الزكاة، وأن

(1) تاريخ الطبري 3: 170.
(2) تاريخ الطبري 3: 242 (3) ب: " السدي "، صوابه في ا، د وتاريخ الطبري.
(4) تاريخ الطبري 3: 242.
(5) تاريخ الطبري 3: 243.
(6) تاريخ الطبري 3: 244. والعقال: الحبل الذي كان يعقل به البعير الذي يؤخذ في الصدقة
(7) في الأصول: " الخطل "، وصوابه من تاريخ الطبري.
209

أبا بكر رد سؤال العرب ولم يجبهم من جملته:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا * فيا لعباد الله ما لأبي بكر! (1)
أيورثها بكر إذا مات بعده * وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بإجابة * وهلا حسبتم منه راعية البكر
فإن الذي سألوكم فمنعتم * لكالتمر أو أحلى لحلف بنى فهر (2)
وروى أبو جعفر قال: لما قدمت العرب المدينة على أبى بكر فكلموه في إسقاط
الزكاة، نزلوا على وجوه الناس بالمدينة فلم يبق أحد إلا وأنزل عليه ناسا منهم، إلا العباس
ابن عبد المطلب، ثم اجتمع إلى أبى بكر المسلمون، فخوفوه بأس العرب واجتماعها. قال
ضرار بن الأزور: فما رأيت أحدا - ليس رسول الله - أملا بحرب شعواء من أبى بكر
فجعلنا (3) نخوفه (3) ونروعه، وكأنما إنما نخبره بما له لا ما عليه، واجتمعت كلمة المسلمين على إجابة
العرب إلى ما طلبت، وأبى أبو بكر أن يفعل إلا ما كان يفعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وأن يأخذ إلا ما كان يأخذ، ثم أجلهم يوما وليلة، ثم أمرهم بالانصراف، وطاروا إلى
عشائرهم (5).
وروى أبو جعفر قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث عمرو بن العاص إلى
عمان قبل موته، فمات وهو بعمان، فأقبل قافلا إلى المدينة، فوجد العرب قد منعت الزكاة،
فنزل في بنى عامر على قرة بن هبيرة، وقرة يقدم رجلا ويؤخر أخرى، وعلى ذلك
بنو عامر كلهم إلا الخواص. ثم قدم المدينة فأطافت به قريش، فأخبرهم أن العساكر
معسكرة حولهم، فتفرق المسلمون، وتحلقوا حلقا، وأقبل عمر بن الخطاب، فمر بحلقة

(1) أورد صاحب الأغاني البيت الأول والثاني (2: 157 - طبعة دار الكتب) ونسبهما إلى الحطيئة.
(2) الطبري 3: 246، وفيه: " أو أحلى إلى من التمر:
(3) ب: " يجعلنا "، وصوابه من الطبري، د.
(4) الطبري: " نخبره ".
(5) تاريخ الطبري 3: 258.
210

وهم يتحدثون فيما سمعوا من عمرو، وفي تلك الحلقة على وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن
ابن عوف وسعد، فلما دنا عمر منهم سكتوا، فقال: في أي شئ أنتم؟ فلم يخبروه
فقال: ما أعلمني بالذي خلوتم عليه! فغضب طلحة وقال: الله يا بن الخطاب! إنك لتعلم
الغيب! فقال: لا يعلم الغيب إلا الله، ولكن أظن قلتم: ما أخوفنا على قريش من العرب
وأخلقهم ألا يقروا بهذا الامر. قالوا: صدقت، فقال فلا تخافوا هذه المنزلة، أنا والله
منكم على العرب أخوف منى عليكم من العرب (1). قال أبو جعفر: وحدثني السرى، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن هشام بن
عروة، عن أبيه قال: نزل عمرو بن العاص بمنصرفه من عمان بعد وفاة رسول الله
(صلى الله عليه وآله) بقرة بن هبيرة بن سلمة بن يسير، وحوله عساكر من أفنائهم، فذبح له،
وأكرم منزلته، فلما أراد الرحلة خلا به وقال: يا هذا، إن العرب لا تطيب لكم أنفسا
بالإتاوة فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع وتطيع، وأن أبيتم فإنها تجتمع عليكم
فقال عمرو: أتوعدنا بالعرب وتخوفنا بها! موعدنا حفش أمك، أما والله لأوطئنه عليك
الخليل، وقدم على أبي بكر والمسلمين فأخبرهم (2).
وروى أبو جعفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرق عماله في بنى تميم
على قبض الصدقات فجعل الزبرقان بن بدر على عوف والرباب، وقيس بن عاصم على
مقاعس والبطون، وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو على بنى عمرو، ومالك بن نويرة
على بنى حنظلة، فلما توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ضرب صفوان إلى أبى بكر حين
وقع إليه الخبر بموت النبي (صلى الله عليه وسلم) بصدقات بنى عمر، وبما ولى منها، وما ولى
سبرة، وأقام سبرة في قومه لحدث إن ناب، وأطرق قيس بن عاصم ينظر ما الزبرقان صانع؟
فكان له عدوا وقال وهو ينتظره وينتظر ما يصنع: ويلي عليه! ما أدرى ما أصنع إن أنا

(1) تاريخ الطبري 3: 258، 259.
(2) تاريخ الطبري 3: 259.
211

بايعت أبا بكر وأتيته بصدقات قومي خلفني فيهم فساءني عندهم، وأن رددتها عليهم فليأتين
أبا بكر فيسوءني عنده، ثم عزم قيس على قسمتها في مقاعس والبطون، ففعل وعزم الزبرقان
على الوفاء، فأتبع صفوان بصدقات عوف والرباب حتى قدم بها المدينة وقال شعرا يعرض
فيه بقيس بن عاصم، ومن جملته:
وفيت بأذواد الرسول وقد أبت * سعاة فلم يردد بعيرا أميرها.
فلما أرسل أبو بكر إلى قيس العلاء بن الحضرمي أخرج الصدقة، فأتاه بها وقدم معه
إلى المدينة (1).
وفي تاريخ أبى جعفر الطبري من هذا الكثير الواسع، وكذلك في تاريخ غيره من
التواريخ، وهذا أمر معلوم باضطرار، لا يجوز لأحد أن يخالف فيه.
فأما قوله: كيف يصح ذلك، وقد قال لهم أبو بكر، إذا أذنوا وأقاموا كأذانكم وإقامتكم،
فكفوا عنهم، فجعل أمارة الاسلام والبراءة من الردة الأذان والإقامة، فإنه قد أسقط
بعض الخبر، قال أبو جعفر الطبري في كتابه: كانت وصيته لهم: إذا نزلتم فأذنوا وأقيموا فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم، فإن لم يفعلوا فلا شئ إلا الغارة، ثم اقتلوهم كل قتله
الحرق فما سواه، وإن أجابوا داعية الاسلام فاسألوهم، فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم،
وإن أبوا فلا شئ إلا الغارة ولا كلمة (2).
فأما قوله: وكيف يطلق قاضي القضاة في سائر أهل الردة ما أطلقه من أنهم كانوا
يصلون ومن جملتهم أصحاب مسيلمة وطلحة! فإنما أراد قاضي القضاة بأهل الردة هاهنا
مانعي الزكاة لا غير، ولم يرد من جحد الاسلام بالكلية.
فأما قصة مالك بن نويرة وخالد بن الوليد فإنها مشتبهة عندي، ولا غرو فقد
اشتهت على الصحابة، وذلك أن من حضرها من العرب اختلفوا في حال القوم: هل كان

(1) تاريخ الطبري 3: 267، 268.
(2) تاريخ الطبري 3: 279.
212

عليهم شعار الاسلام أولا؟ وأختلف أبو بكر وعمر في خالد مع شدة اتفاقهما، فأما الشعر
الذي رواه المرتضى لمالك بن نويرة فهو معروف إلا البيت الأخير، فإنه غير معروف،
وعليه عمدة المرتضى في هذا المقام، وما ذكره بعد من قصة القوم صحيح كله مطابق لما في
التواريخ إلا مويضعات يسيرة:
منها قوله: إن مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات، فإن ذلك غير منقول
وإنما المنقول أنه نهى قومه عن الاجتماع في موضع واحد، وأمرهم أن يتفرقوا في
مياههم، ذكر ذلك الطبري ولم يذكر نهيه إياهم عن الاجتماع على منع الصدقة،
وقال الطبري: إن مالكا تردد في أمره: هل يحمل الصدقات أم لا؟ فجاءه خالد وهو
متحير سبح.
ومنها أن الطبري ذكر أن ضرار بن الأزور قتل مالكا عن غير أمر خالد، وأن
خالدا لما سمع الواعية خرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه، قال
الطبري: وغضب أبو قتادة لذلك، وقال لخالد: هذا عملك! وفارقه وأتى أبا بكر فأخبره
فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه فيه عمر، فلم يرض إلا أن يرجع إلى خالد، فرجع إليه
حتى قدم معه المدينة (1).
ومنها أن الطبري روى أن خالدا لما تزوج أم تميم بنت المنهال امرأة مالك لم يدخل
بها وتركها حتى تقضى طهرها، ولم يذكر المرتضى ذلك. ومنها أن الطبري روى أن متمما لما قدم المدينة طلب إلى أبى بكر في سبيهم
فكتب، له برد السبي، والمرتضى ذكر أنه لم يرد إلا في خلافة عمر.
فأما قول المرتضى: أن قول متمم: لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك لما رثيته،

(1) تاريخ الطبري 3: 278.
213

لا يدل على ردته، فصحيح، ولا ريب أنه قصد تقريظ زيد بن الخطاب وأن يرضى
عمر أخاه بذلك. نعما قال المرتضى! إن بين القتلتين فرقا ظاهرا، وإليه أشار متمم
لا محاله.
فأما قول مالك: صاحبك، يعنى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقد روى هذه اللفظة
الطبري في التاريخ، قال: كان خالد يعتذر عن قتله، فيقول: إنه قال له وهو يراجعه:
ما إخال صاحبكم إلا قال كذا وكذا، فقال له خالد: أو ما تعده لك صاحبا (1)! وهذه
لعمري كلمة جافية، وإن كان لها مخرج في التأويل، إلا أنه مستكره، وقرائن الأحوال
يعرفها من شاهدها وسمعها، فإذا كان خالد قد كان يعتذر بذلك، فقد اندفع قول
المرتضى: هلا اعتذر بذلك! ولست أنزه خالدا عن الخطأ، وأعلم أنه كان جبارا فاتكا
لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب وهوى نفسه، ولقد وقع منه في حياة رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) مع بنى؟ جذيمة بالغميصاء أعظم مما وقع منه في حق مالك بن نويرة،
وعفا عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد أن غضب عليه مدة وأعرض عنه، وذلك العفو
هو الذي أطمعه حتى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح.
الطعن الثامن
قولهم: إن مما يؤثر في حاله وحال عمر دفنهما مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في
بيته، وقد منع الله تعالى الكل من ذلك في حال حياته - فكيف - بعد الممات - بقوله
تعالى: " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) (2).
أجاب قاضي القضاة بأن الموضع كان ملكا لعائشة، وهي حجرتها التي كانت

(1) تاريخ الطبري 3: 280.
(2) سورة الأحزاب 53.
214

معروفه بها والحجر كلها كانت أملاكا لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد نطق
القرآن بذلك في قوله: (وقرن في بيوتكن) (1)، وذكر أن عمر استأذن عائشة
في أن يدفن في ذلك الموضع، وحتى قال: إن لم تأذن لي فادفنوني في البقيع، وعلى هذا
الوجه يحمل ما روى عن الحسن (عليه السلام) أنه لما مات أوصى أن يدفن إلى جنب
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإن لم يترك ففي البقيع، فلما كان من مروان وسعيد بن
العاص ما كان دفن بالبقيع. وإنما أوصى بذلك بإذن عائشة، ويجوز أن يكون علم
من عائشة أنها جعلت الموضع في حكم الوقف، فاستباحوا ذلك لهذا الوجه، قال: وفى
دفنه (عليه السلام) في ذلك الموضع ما يدل على فضل أبى بكر لأنه (عليه السلام) لما مات اختلفوا
في موضع دفنه، وكثر القول حتى روى أبو بكر عنه (صلى الله عليه وآله أنه قال ما يدل
على أن الأنبياء إذا ماتوا دفنوا حيث ماتوا، فزال الخلاف في ذلك (2). اعترض المرتضى فقال: لا يخلو موضع قبر النبي (صلى الله عليه وآله) من أن يكون
باقيا على ملكه (عليه السلام)، أو يكون انتقل في حياته إلى عائشة على ما ادعاه، فإن كان
الأول لم يخل أن يكون ميراثا بعده أو صدقه، فإن كان ميراثا فما كان يحل لأبي بكر
ولا لعمر من بعده أن يأمرا بدفنهما فيه إلا بعد إرضاء الورثة الذين هم على مذهبنا فاطمة
وجماعه الأزواج، وعلى مذهبهم هؤلاء والعباس، ولم نجد واحدا منهما خاطب أحدا من هؤلاء
الورثة على ابتياع هذا المكان ولا استنزله عنه بثمن ولا غيره. وإن كان صدقه فقد كان يجب أن يرضى عنه جماعة المسلمين ويبتاعه منهم، هذا إن جاز الابتياع لما يجرى هذا
المجرى، وإن كان انتقل في حياته فقد كان يجب أن يظهر سبب انتقاله والحجة فيه، فإن
فاطمة (عليها السلام) لم يقنع منها في انتقال فدك إلى ملكها بقولها، ولا بشهادة من

(1) سورة الأحزاب: 33.
(2) نقله المرتضى في الشافي 424.
215

شهد لها. فأما تعلقه بإضافة البيوت إليهن في قوله: (وقرن في بيوتكن)، فمن ضعيف
الشبهة، لأنا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب أن هذه الإضافة لا تقتضي الملك، وإنما
تقتضي السكنى، والعادة في استعمال هذه اللفظة فيما ذكرناه ظاهرة قال تعالى: (لا تخرجوهن
من بيوتهن) (1)، ولم يرد الله تعالى إلا حيث يسكن وينزلن دون حيث يملكن وما أشبهه،
وأظرف من كل شئ تقدم قوله: إن الحسن (عليه السلام) استأذن عائشة في أن يدفن في
البيت حتى منعه مروان وسعيد بن العاص، لأن هذه مكابرة منه ظاهرة، فان المانع
للحسن (عليه السلام) من ذلك لم يكن إلا عائشة، ولعل من ذكره من مروان وسعيد
وغيرهما أعانها واتبع في ذلك أمرهما، وروى أنها خرجت في ذلك اليوم على بغل حتى قال
ابن عباس: يوما على بغل ويوما على جمل! فكيف تأذن عائشة في ذلك، وهي مالكة
الموضع على قولهم، ويمنع منه مروان وغيره ممن لا ملك له في الموضع ولا شركة ولا يد!
وهذا من قبيح (2) ما يرتكب. وأي فضل لأبي بكر في روايته عن النبي (صلى الله عليه وآله)
حديث الدفن! وعملهم بقوله إن صح فمن مذهب صاحب الكتاب وأصحابه العمل
بخبر الواحد العدل في أحكام الدين العظيمة، فكيف لا يعمل بقول أبى بكر في الدفن
وهم يعملون بقول من هو دونه فيما هو أعظم من ذلك (3)!
* * *
قلت: أما أبو بكر، فإنه لا يلحقه بدفنه مع الرسول (صلى الله عليه وآله) ذم، لأنه
ما دفن نفسه، وإنما دفنه الناس وهو ميت، فإن كان ذلك خطأ فالاثم والذم لاحقان
بمن فعل به ذلك، ولم يثبت عنه بأنه أوصى أن يدفن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وإنما قد يمكن أن يتوجه هذا الطعن إلى عمر، لأنه سأل عائشة أن يدفن في الحجرة
مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبى بكر. والقول عندي مشتبه في أمر حجر الأزواج:

(1) سورة الطلاق 1.
(2) الشافي: " أقبح ".
(3) الشافي 424.
216

هل كانت على ملك رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أن توفى، أم ملكها نساؤه والذي
تنطق به التواريخ أنه لما خرج من قباء ودخل المدينة وسكن منزل أبى أيوب
اختط المسجد واختط حجر نسائه وبناته، وهذا يدل على أنه كان المالك للمواضع
وأما خروجها عن ملكه إلى الأزواج والبنات فمما لم أقف عليه. ويجوز أن تكون
الصحابة قد فهمت من قرائن الأحوال ومما شاهدوه منه (عليه السلام)، أنه قد أقر كل بيت
منها في يد زوجة من الزوجات على سبيل الهبة والعطية، وأن لم ينقل عنه في ذلك صيغة
لفظ معين، والقول في بيت فاطمة (عليها السلام) كذلك، لان فاطمة (عليها السلام) لم تكن
تملك مالا، وعلى (عليه السلام) بعلها كان فقيرا في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
حتى إنه كان يستقى الماء ليهود، بيده يسقى بساتينهم لقوت يدفعونه إليه، فمن أين
كان له ما يبتاع به حجرة يسكن فيها هو وزوجته (1)! والقول في كثير من الزوجات
كذلك أنهن كن فقيرات مدقعات، نحو صفية بنت حيى بن أخطب، وجويرية بنت
الحارث، وميمونة، وغيرهن، فلا وجه يمكن أن يتملك منه هؤلاء النسوة والبنت
الحجر، إلا أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهبها لهن، هذا إن ثبت أنها خرجت
عن ملكيته (عليه السلام)، وإلا فهي باقية على ملكيته باستصحاب الحال. والقول في
حجرة زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذلك، لأنه أقدمها من مكة مفارقة
لبعلها أبى العاص بن الربيع، فأسكنها بالمدينة في حجرة منفردة خالية عن بعل، فلا بد
أن تكون تلك الحجرة بمقتضى ما يتغلب على الظن ملكا له (عليه السلام)، فيستدام
الحكم بملكه لها إلى أن نجد دليلا ينقلنا عن ذلك. وأما رقية وأم كلثوم زوجتا عثمان،
فإن كان مثريا ذا مال فيجوز أن يكون ابتاع حجرة سكنت فيها الأولى منهما، ثم
الثانية بعدها.

(1) ب: " زوجة ".
217

فأما احتجاج قاضي القضاة بقوله: (وقرن في بيوتكن)، فاعتراض المرتضى عليه
قوى، لأن هذه الإضافة إنما تقتضي التخصيص فقط لا التمليك، كما قال: (لا تخرجوهن
من بيوتهن) (1)، ويجوز أن يكون أبو بكر لما روى قوله: " نحن لا نورث " ترك
الحجر في أيدي الزوجات والبنت على سبيل الاقطاع لهن لا التمليك، أي أباحهن السكنى
لا التصرف في رقاب الأرض والأبنية والآلات، لما رأى في ذلك من المصلحة، ولأنه
كان من المتهجن القبيح إخراجهن من البيوت، وليس كذلك فدك، فإنها قرية كبيرة
ذات نخل كثير خارجة عن المدينة، ولم تكن فاطمة متصرفة فيها من قبل نفسها
ولا بوكيلها، ولا رأتها قط، فلا تشبه حالها حال الحجر. وأيضا لإباحة هذه الحجر
ونزارة أثمانهن، فإنها كانت مبنية من طين قصيرة الجدران، فلعل أبا بكر والصحابة
استحقروها، فأقروا النساء فيها وعوضوا المسلمين عنها بالشئ اليسير مما يقتضى الحساب
أن يكون من سهم الأزواج والبنت عند قسمة الفئ.
وأما القول في الحسن وما جرى من عائشة وبنى أمية فقد تقدم، وكذلك القول في
الخبر المروى في دفن الرسول (صلى الله عليه وآله) فكان أبو المظفر هبة الله بن الموسوي
صدر المخزن المعمور، كان في أيام الناصر لدين الله إذا حادثته حديث وفاة رسول الله
(صلى الله عليه وآله) رواية أبى بكر ما رواه من قوله (عليه السلام): " الأنبياء يدفنون
حيث يموتون "، يحلف أن أبا بكر افتعل هذا الحديث في الحال والوقت، ليدفن النبي
(صلى الله عليه وآله) في حجرة ابنته، ثم يدفن هو معه عند موته، علما منه أنه لم يبق من
عمره إلا مثل ظمء (2) الحمار، وأنه إذا دفن النبي (صلى الله عليه وآله) في حجرة ابنته فإن
ابنته تدفنه لا محالة في حجرتها عند بعلها، وأن دفن النبي (صلى الله عليه وآله) في موضع

(1) سورة الطلاق 1.
(2) يقال: ما بقي منه إلا ظمء الحمار، أي شئ يسير لأنه ليس شئ أقعر ظمئا منه.
218

آخر فربما لا يتهيأ له أن يدفن عنده، فرأى أن هذا الفوز بهذا الشرف العظيم، وهذا
المكان الجليل، مما لا يقتضى حسن التدبير فوته، وإن انتهاز الفرصة فيه واجب،
فروى لهم الخبر، فلا يمكنهم بعد روايته ألا يعملوا به، لا سيما وقد صار هو الخليفة،
وإليه السلطان والنفع والضرر، وأدرك ما كان في نفسه، ثم نسج عمر على منواله،
فرغب إلى عائشة في مثل ذلك، وقد كان يكرمها ويقدمها على سائر الزوجات في العطاء
وغيره، فأجابته إلى ذلك، وكان مطاعا في حياته وبعد مماته، وكان يقول: واعجبا
للحسن وطمعه في أن يدفن في حجره عائشة والله لو كان أبوه الخليفة يومئذ
لما تهيأ له ذلك، ولا تم لبغض عائشة لهم، وحسد الناس إياهم وتمالأ بنى أمية وغيرهم
من قريش عليهم! ولهذا قالوا: يدفن عثمان في حش كوكب (1)، ويدفن الحسن
في حجره رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكيف والخليفة معاوية والامراء بالمدينة
بنو أمية، وعائشة صاحب الموضع، والناصر لبني هاشم قليل، والشانئ كثير.
وأنا أستغفر الله مما كان أبو المظفر يحلف عليه، وأعلم وأظن ظنا شبيها بالعلم أن أبا بكر
ما روى إلا ما سمع، وأنه كان أتقى لله من ذلك.
* * *
الطعن التاسع
قولهم: " إنه نص على عمر بالخلافة، فخالف رسول الله (صلى الله عليه وآله) على زعمه،
لأنه كان يزعم هو ومن قال بقوله أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستخلف.

(1) حش كوكب: موضع بالمدينة.
219

والجواب أن كونه لم يستخلف لا يدل على تحريم الاستخلاف، كما أنه من لم يركب الفيل
لا يدل على تحريم ركوب الفيل. فإن قالوا ركوب الفيل فيه منفعة ولا مضرة فيه
ولم يرد نص بتحريمه، فوجب أن يحسن. قيل لهم: والاستخلاف مصلحة، ولا مضرة
فيه، وقد أجمع المسلمون أنه طريق إلى الإمامة، فوجب كونه طريقا إليها، وقد روى
عن عمر أنه قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى - يعنى أبا بكر - وإن أترك
فقد ترك من هو خير منى - يعنى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأما الاجتماع المشار إليه
فهو أن الصحابة أجمعوا على أن عمر إمام بنص أبى بكر عليه، وأنفذوا أحكامه،
وانقادوا إليه لأجل نص أبى بكر لا لشئ سواه، فلو لم يكن ذلك طريقا إلى الإمامة لما
أطبقوا عليه. وقد اختلف الشيخان أبو علي وأبو هاشم في أن نص الامام على إمام بعده:
هل يكفي في انعقاد إمامته فقال أبو علي: لا يكفي، بل لابد من أن يرضى به أربعة
حتى يجرى عهده إليه مجرى عقد الواحد برضا أربعة، فإذا قارنه رضا أربعة صار بذلك
إماما، ويقول في بيعة عمر: إن أبا بكر أحضر جماعة من الصحابة لما نص عليه ورجع
إلى رضاهم بذلك، وقال أبو هاشم بل يكفي نصه عليه ولا يراعى في ذلك رضا غيره به
ولو ثبت أن أبا بكر فعله لكان على طريق التبع للنص، لا أنه يؤثر في إمامته مع العهد،
ولعل أبا بكر إن كان فعل ذلك فقد استطاب به نفوسهم، ولهذا لم يؤثر فيه كراهية طلحة
حين قال: وليت علينا فظا غليظا. ويبين ذلك أنه لم ينقل استئناف العقد من الصحابة لعمر
بعد موت أبى بكر ولا اجتماع جماعة لعقد البيعة له، والرضا به، فدل على أنهم اكتفوا
بعهد أبى بكر إليه
* * *
220

الطعن العاشر
قولهم: إنه سمى نفسه بخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لاستخلافه إياه بعد موته،
مع اعترافه أنه لم يستخلفه.
والجواب أن الصحابة سمته خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لاستخلافه إياه
على الصلاة عند موته، والاستخلاف على الصلاة عند الموت له مزية على الاستخلاف
على الصلاة حال الحياة، لان حال الموت هي الحال التي تكون فيها العهود والوصايا
وما يهتم به الانسان من أمور الدنيا، والدين لأنها حال المفارقة. وأيضا فان رسول الله
(صلى الله عليه وآله) ما استخلف أحدا على الصلاة بالمدينة وهو حاضر، وإنما كان يستخلف
على الصلاة قوما أيام غيبته عن المدينة، فلم يحصل الاستخلاف المطلق على الصلاة بالناس
كلهم، وهو (صلى الله عليه وآله) حاضر بين الناس حي إلا لأبي بكر، وهذه مزية ظاهرة
على سائر الاستخلافات في أمر الصلاة فلذلك سموه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وبعد، فإذا ثبت أن الاجماع على كون الاختيار طريقا (1) إلى الإمامة وحجة، وثبت أن قوما من أفاضل الصحابة اختاروه للخلافة، فقد ثبت أنه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
، لأنه لا فرق بين أن ينص الرسول (صلى الله عليه وآله) على شخص معين، وبين
أن يشير إلى قوم فيقول؟: من اختار هؤلاء القوم فهو الامام، في أن كل واحد منهما
يصح أن يطلق عليه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2).

(1) ا: " سبيلا ".
221

الطعن الحادي عشر
قولهم: أنه حرق الفجاءة السلمي بالنار، وقد نهى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يحرق
أحد بالنار.
والجواب أن الفجاءة جاء إلى أبى بكر كما ذكر أصحاب التواريخ فطلب منه سلاحا
يتقوى به على الجهاد في أهل الردة، فأعطاه، فلما خرج قطع الطريق ونهب أموال المسلمين
وأهل الردة جميعا، وقتل كل من وجد، كما فعلت الخوارج حيث خرجت، فلما ظفر به
أبو بكر رأى حرقه بالنار إرهابا لأمثاله من أهل الفساد، ويجوز للامام أن يخص النص العام
بالقياس الجلي عندنا (1).
* * *
الطعن الثاني عشر
قولهم: إنه تكلم في الصلاة قبل التسليم، فقال: لا يفعلن خالد ما أمرته، قالوا:
ولذلك جاز عند أبي حنيفة أن يخرج الانسان من الصلاة بالكلام وغيره من مفسدات
الصلاة من دون تسليم، وبهذا احتج أبو حنيفة.
والجواب أن هذا من الاخبار التي تتفرد بها الامامية، ولم تثبت، وأما أبو حنيفة
فلم يذهب إلى ما ذهب إليه لأجل هذا الحديث، وإنما احتج بأن التسليم خطاب آدمي،
وليس هو من الصلاة وأذكارها، ولا من أركانها، بل هو ضدها، ولذلك يبطلها قبل التمام،
ولذلك لا يسلم المسبوق تبعا لسلام الامام، بل يقوم من غير تسليم فدل على أنه ضد للصلاة
وجميع الأضداد بالنسبة إلى رفع الضد على وتيرة واحدة، ولذلك استوى الكل في

(1) الجلي الواضح.
222

الابطال قبل التمام، فيستوي الكل في الانتهاء بعد التمام، وما يذكره القوم من سبب كلام
أبى بكر في الصلاة أمر بعيد، ولو كان أبو بكر يريد ذلك لأمر خالد أن يفعل ذلك الفعل
بالشخص المعروف وهو نائم ليلا في بيته، ولا يعلم أحد من الفاعل.
الطعن الثالث عشر
قولهم: إنه كتب إلى خالد بن الوليد وهو على الشام يأمره أن يقتل سعد بن عباده
فكمن له هو وآخر معه ليلا، فلما مر بهما رمياه فقتلاه، وهتف صاحب خالد في ظلام
الليل بعد أن ألقيا سعدا في بئر هناك فيها ماء ببيتين:
نحن قتلنا سيد الخزرج * سعد بن عباده
ورميناه بسهمين * فلم تخط فؤاده.
يوهم أن ذلك شعر الجن، وأن الجن قتلت سعدا فلما أصبح الناس فقدوا سعدا، وقد سمع قوم منهم ذلك الهاتف فطلبوه فوجدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر وقد اخضر،
فقالوا هذا مسيس الجن وقال شيطان الطاق لسائل سأله: ما منع عليا أن يخاصم أبا بكر
في الخلافة؟ فقال: يا بن أخي، خاف أن تقتله الجن.
والجواب، أما أنا فلا أعتقد أن الجن قتلت سعدا، ولا أن هذا شعر الجن، ولا أرتاب
أن البشر قتلوه، وأن هذا الشعر شعر البشر، ولكن لم يثبت عندي أن أبا بكر أمر خالدا، ولا
أستبعد أن يكون فعله من تلقاء نفسه ليرضى بذلك أبا بكر - وحاشاه فيكون الاثم على
223

خالد، وأبو بكر برئ من إثمه وما ذلك من أفعال خالد ببعيد.
* * *
الطعن الرابع عشر
قولهم: إنه لما استخلف قطع لنفسه على بيت المال اجره كل يوم ثلاثة دراهم، قالوا:
وذلك لا يجوز، لان مصارف أموال بيت المسلمين لم يذكر فيها اجره للامام.
والجواب أنه تعالى جعل في جملة مصرف أموال الصدقات العاملين عليها، وأبو بكر من
العاملين. واعلم أن الامامية لو أنصفت لرأت أن هذا الطعن بان يكون من مناقب أبى بكر
أولى من أن يكون من مساويه (1) ومثالبه، ولكن العصبية لا حيلة فيها.
* * *
الطعن الخامس عشر
قولهم: إنه لما استخلف صرخ مناديه في المدينة: من كان عنده شئ من كلام الله فليأتنا
به، فإنا عازمون على جمع القرآن، ولا يأتنا بشئ منه إلا ومعه شاهدا عدل، قالوا: وهذا خطأ، لان القرآن قد بان بفصاحته عن فصاحة البشر، فأي حاجه إلى شاهدي عدل!
والجواب، أن المرتضى ومن تابعه من الشيعة لا يصح لهم هذا الطعن، لان القرآن
عندهم ليس معجزا بفصاحته، على أن من جعل معجزته للفصاحة لم يقل: إن كل آية
من القرآن هي معجزة في الفصاحة، وأبو بكر إنما طلب كل آية من القرآن لا السورة
بتمامها وكمالها التي يتحقق الاعجاز من طريق الفصاحة فيها. وأيضا فإنه لو أحضر انسان
آية أو آيتين ولم يكن معه شاهد، فربما تختلف العرب هل هذه في الفصاحة بالغة

(1) ا: " عيوبه ".
224

مبلغ الاعجاز الكلى، أم هي ثابتة من كلام العرب بثبوته غير بالغة إلى حد الاعجاز
فكان يلتبس الامر ويقع النزاع، فاستظهر أبو بكر بطلب الشهود تأكيدا، لأنه إذا
انضمت الشهادة إلى الفصاحة الظاهرة ثبت أن ذلك الكلام من القرآن.
* * *
الأصل:
ومن هذا الكتاب
إني والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت،
وإني من ضلالهم الذي هم فيه، والهدى الذي أنا عليه، لعلى بصيرة من نفسي،
ويقين من ربى وإني إلى لقاء الله لمشتاق، ولحسن ثوابه لمنتظر راج،
ولكنني آسى أن يلي هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا
وعباده خولا، والصالحين حربا والفاسقين حزبا، فإن منهم الذي شرب فيكم
الحرام، وجلد حدا في الاسلام. وإن منهم من لم يسلم حتى رضخت له
على الاسلام الرضائخ، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم وتأنيبكم، وجمعكم
وتحريضكم، ولتركتكم إذ أبيتم وونيتم.
ألا ترون إلى أطرافكم قد انتقصت، وإلى أمصاركم قد افتتحت، وإلى
ممالككم تزوى، وإلى بلادكم تغزى! انفروا رحمكم الله إلى قتال عدوكم، ولا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا
بالخسف، وتبوءوا بالذل، ويكون نصيبكم الأخس، وأن أخا الحرب الأرق
ومن نام لم ينم عنه، والسلام
225

الشرح:
طلاع الأرض: ملؤها، ومنه قول عمر: لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به
من هول المطلع.
وآسى: أحزن.
وأكثرت تأليبكم: تحريضكم وإغراءكم به. والتأنيب: أشد اللوم.
وونيتم: ضعفتم وفترتم. وممالككم تزوى، أي تقبض.
ولا تثاقلوا، بالتشديد، أصله " تتثاقلوا ". وتقروا بالخسف: تعترفوا بالضيم
وتصبروا له. وتبوءوا بالذل ترجعوا به. والأرق: الذي لا ينام. ومثل قوله (عليه
السلام): " من نام لم ينم عنه " قول الشاعر:
لله درك ما أردت بثائر * حران ليس عن الترات براقد (1)
أسهرته ثم اضطجعت ولم ينم * حنقا عليك وكيف نوم الحاقد!
فأما الذي رضخت له على الاسلام الرضائخ، فمعاوية والرضيخة شئ قليل يعطاه
الانسان يصانع به عن شئ (2) يطلب منه كالأجر، وذلك لأنه من المؤلفة قلوبهم الذين
رغبوا في الاسلام والطاعة بجمال وشاء دفعت إليهم، وهم قوم معروفون كمعاوية وأخيه
يزيد، وأبيهما أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام
ابن المغيرة، وحويطب بن عبد العزى، والأخنس بن شريق، وصفوان بن أمية،
وعمير بن وهب الجمحي، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس
وغيرهم، وكان إسلام هؤلاء للطمع والأغراض الدنياوية، ولم يكن عن أصل ولا عن
يقين وعلم.

(1) التراث: جمع ترة، وهي الاخذ بالثأر.
(2) في د " أمر ".
226

وقال الراوندي عنى بقوله: " رضخت لهم الرضائخ عمرو بن العاص، وليس بصحيح،
لان عمرا لم يسلم بعد الفتح، وأصحاب الرضائخ كلهم أسلموا بعد الفتح، صونعوا على الاسلام
بغنائم حنين. ولعمري إن إسلام عمرو كان مدخولا أيضا إلا أنه لم يكن عن رضيخة،
وإنما كان لمعنى آخر. فأما الذي شراب الحرام، وجلد في حد الاسلام، فقد قال الراوندي:
هو المغيرة بن شعبة، وأخطأ فيما قال، لان المغيرة إنما اتهم بالزنا ولم يحد ولم يجر للمغيرة
ذكر في شرب الخمر، وقد تقدم خبر المغيرة مستوفى، وأيضا فان المغيرة لم يشهد صفين مع
معاوية ولا مع علي (عليه السلام) وما للراوندي ولهذا! إنما يعرف هذا الفن أربابه
والذي عناه على (عليه السلام) الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان أشد الناس عليه وأبلغهم تحريضا لمعاوية وأهل الشام على حربه.
* * *
[أخبار الوليد بن عقبة]
ونحن نذكر خبر الوليد وشربه الخمر منقولا من كتاب " الأغاني " لأبي الفرج
علي بن الحسين الأصفهاني، قال أبو الفرج: كان سبب إمارة الوليد بن عقبة الكوفة لعثمان
ما حدثني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني
عبد العزيز بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد، عن أبيه، قال لم يكن
يجلس مع عثمان على سريره إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب، والحكم
ابن أبي، العاص، والوليد بن عقبة، ولم يكن سريره يسع إلا عثمان وواحدا منهم، فأقبل
الوليد يوما فجلس، فجاء الحكم بن أبي العاص فأومأ عثمان إلى الوليد، فرحل له عن
مجلسه، فلما قام الحكم قال الوليد: والله يا أمير المؤمنين لقد تلجلج في صدري بيتان
قلتهما حين رأيتك آثرت ابن عمك على ابن أمك - وكان الحكم عم عثمان، والوليد أخاه
227

لامه - فقال عثمان: إن الحكم شيخ قريش، فما البيتان؟ فقال:
رأيت لعم المرء زلفى قرابة * دوين أخيه حادثا لم يكن قدما
فأملت عمرا أن يشب وخالدا * لكي يدعواني يوم نائبة عما.
يعنى عمرا وخالدا ابني عثمان. قال: فرق له عثمان وقال: قد وليتك الكوفة،
فأخرجه إليها (1).
قال أبو الفرج: وأخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال حدثني عمر بن شبه قال: حدثني
بعض أصحابنا، عن ابن (2) دأب قال: لما ولى عثمان الوليد بن عقبه الكوفة قدمها
وعليها سعد بن أبي وقاص، فأخبر بقدومه ولم يعلم أنه قد أمر فقال: وما صنع؟ قالوا:
وقف في السوق فهو يحدث الناس هناك، ولسنا ننكر شيئا من أمره، فلم يلبث أن جاءه
نصف النهار، فاستأذن على سعد، فأذن له، فسلم عليه بالإمرة، وجلس معه، فقال له
سعد: ما أقدمك يا أبا وهب؟ قال: أحببت زيارتك، قال وعلى ذاك أجئت بريدا؟ قال:
أنا أرزن من ذلك، ولكن القوم احتاجوا إلى عملهم فسرحوني إليه، وقد استعملني
أمير المؤمنين على الكوفة فسكت سعد طويلا، ثم قال: لا والله ما أدرى أصلحت بعدنا
أم فسدنا بعدك! ثم قال:
كليني وجريني ضباع وأبشري * بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره.
فقال الوليد: أما والله لأنا أقول للشعر منك، وأروى له، ولو شئت لأجبتك، ولكني
أدع ذاك لما تعلم، نعم والله لقد أمرت بمحاسبتك، والنظر في أمر عمالك، ثم بعث إلى
عمال سعد فحبسهم وضيق عليهم، فكتبوا إلى سعد يستغيثون به، فكلمه فيهم فقال له:
أو للمعروف عندك موضع؟ قال: نعم فخلى سبيلهم. (3)

(1) الأغاني 4: 174 (ساسي)، وفي د " فأخرج ".
228

قال أحمد (1): وحدثني عمر، عن أبي بكر الباهلي، عن هشيم، عن العوام
ابن حوشب. قال: لما قدم الوليد على سعد قال له سعد: والله ما أدرى كست بعدنا
أم حمقنا بعدك! فقال: لا تجزعن يا أبا إسحاق، فإنه الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون.
فقال سعد: أراكم والله ستجعلونه ملكا (2).
قال أبو الفرج: وحدثنا أحمد قال: حدثني عمر قال: حدثني هارون بن معروف،
عن ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب قال: صلى الوليد بأهل الكوفة الغداة أربع
ركعات، ثم التفت إليهم فقال: أزيدكم؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما زلنا معك
في زيادة منذ اليوم (3).
قال أبو الفرج: وحدثني أحمد قال: حدثنا عمر قال حدثنا محمد بن حميد،
قال: حدثنا جرير، عن الأجلح عن الشعبي قال: قال الحطيئة يذكر الوليد:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه * أن الوليد أحق بالغدر (4)
نادى وقد تمت صلاتهم * أأزيدكم - سكرا - ولم يدر (5)
فأبوا أبا وهب ولو أذنوا * لقرنت بين الشفع والوتر (6)
كفوا عنانك إذ جريت ولو * تركوا عنانك لم تزي (7) ترجى.

(1) هو أحمد بن عبد العزيز الجوهري.
(2) الأغاني 4: 176.
(3) الأغاني 4: 176.
(4) الأغاني 4: 176 وفي د " حين يذكر ربه ".
(5) الديوان: " أأزيدكم ثملا ".
(6) الديوان. " ليزيدهم خيرا ولو قبلوا ".
(7) الديوان: " خلعوا عنانك "، وبعده:
ورأوا شمائل ماجد أنف * يعطي على الميسور والعسر
قرعت مكذوبا عليك ولم * تردد إلى عذر ولا فقر.
229

وقال الحطيئة أيضا تكلم في الصلاة وزاد فيها * علانية وأعلن بالنفاق (1)
ومج الخمر في سنن المصلى * ونادى والجميع إلى افتراق
أزيدكم على أن تحمدوني * فما لكم وما لي من خلاق. (2)
قال أبو الفرج: وأخبرنا محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال:
حدثني أبي قال: قال أبو عبيدة وهشام بن الكلبي والأصمعي: كان الوليد زانيا
يشرب الخمر، فشرب بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع، فصلى بهم
أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال: أزيدكم؟ وتقيأ في المحراب بعد أن قرأ بهم رافعا
صوته في الصلاة علق القلب الربابا * بعد ما شابت وشابا.
فشخص أهل الكوفة إلى عثمان فأخبروه بخبره، وشهدوا عليه بشرب الخمر،
فأتى به، فأمر رجلا من المسلمين أن يضربه الحد، فلما دنا منه قال: نشدتك الله وقرابتي من أمير المؤمنين! فتركه، فخاف علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يعطل الحد،
فقام إليه فحده بيده، فقال الوليد: نشدتك الله والقرابة! فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
أسكت أبا وهب، فإنما هلك بنو إسرائيل لتعطيلهم الحدود، فلما ضربه وفرغ منه قال:
لتدعوني قريش بعدها جلادا، قال إسحاق: وحدثني مصعب بن الزبير قال: قال الوليد
بعد ما شهدوا عليه فجلد: اللهم إنهم قد شهدوا على بزور، فلا ترضهم عن أمير،
ولا ترض عنهم أميرا، قال: وقد عكس الحطيئة أبياته فجعلها مدحا للوليد:
شهد الحطيئة حين يلقى ربه * أن الوليد أحق بالعذر

(1) ملحق ديوانه 119، وفيه: " وجاهر بالنفاق ".
(2) الأغاني 4: 176.
230

كفوا عنانك إذ جريت ولو * تركوا عنانك لم تزل تجرى
ورأوا شمائل ماجد أنف * يعطى على الميسور والعسر
فنزعت مكذوبا عليك ولم * تنزع على طمع ولا ذعر (1). قال أبو الفرج: ونسخت من كتاب هارون بن الرباب بخطه، عن عمر بن شبة،
قال: شهد رجل عند أبي العجاج - وكان على قضاء البصرة - على رجل من المعيطيين
بشهادة، وكان الشاهد سكران، فقال المشهود عليه، وهو المعيطي: أعزك الله أيها
القاضي، إنه لا يحسن من السكر أن يقرأ شيئا من القرآن، فقال الشاهد: بلى أحسن،
قال: فاقرأ فقال:
علق القلب الربابا * بعد ما شابت وشابا
. يمجن (2) بذلك، ويحكى ما قاله الوليد في الصلاة، وكان أبو العجاج أحمق،
فظن أن هذا الكلام من القرآن، فجعل يقول: صدق الله ورسوله، ويلكم، كم
تعلمون ولا تعملون! (3)
قال أبو الفرج: وأخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن شبة، عن
المدائني، عن مبارك بن سلام، عن فطر بن خليفة، عن أبي الضحى، قال كان ناس من
أهل الكوفة يتطلبون عثرة الوليد بن عقبة، منهم أبو زينب الأزدي، وأبو مورع،
فجاءا يوما ولم يحضر الوليد الصلاة، فسألا عنه، فتلطفا حتى علما أنه يشرب، فاقتحما الدار
فوجداه يقئ، فاحتملاه وهو سكران حتى وضعاه على سريره، وأخذا خاتمه من يده، فأفاق، فافتقد خاتمه، فسأل عنه أهله، فقالوا: لا ندري، وقد رأينا رجلين دخلا عليك

(1) الأغاني 4: 176 - 177.
(2) يمجن: يقول قولا لا يدرى ما عاقبته، ومنه الماجن، وفي الأغاني: " وإنما تماجن ".
(3) الأغاني 4: 177 178.
231

فاحتملاك فوضعاك على سريرك. فقال: صفوهما لي، فقالوا: أحدهما آدم (1) طوال حسن
الوجه، والاخر عريض مربوع عليه خميصة (2)، فقال: هذا أبو زينب، وهذا أبو مورع،
قال: ولقى أبو زينب وصاحبه عبد الله بن حبيش الأسدي وعلقمة بن يزيد البكري
وغيرهما، فأخبروهم، فقالوا: اشخصوا إلى أمير المؤمنين فأعلموه، وقال بعضهم: إنه لا يقبل
قولكم في أخيه، فشخصوا إليه فقالوا: إنا جئناك في أمر، ونحن مخرجوه إليك من
أعناقنا، وقد قيل: إنك لا تقبله، قال: وما هو قالوا: رأينا الوليد وهو سكران من
خمر شربها، وهذا خاتمه أخذناه من يده وهو لا يعقل. فأرسل عثمان إلى علي (عليه السلام)
فأخبره، فقال: أرى أن تشخصه، فإذا شهدوا عليه بمحضر منه حددته. فكتب
عثمان إلى الوليد، فقدم عليه، فشهد عليه أبو زينب وأبو مورع وجندب الأزدي وسعد
ابن مالك الأشعري، فقال عثمان لعلى (عليه السلام) قم يا أبا الحسن فاجلده، فقال على
(عليه السلام) للحسن ابنه: قم فاضربه فقال الحسن: مالك ولهذا، يكفيك غيرك، فقال على
لعبد الله بن جعفر: قم فاضربه فضربة بمخصرة (3) فيها سير له رأسان، فلما بلغ أربعين
قال: حسبك.
قال أبو الفرج: وحدثني أحمد قال: حدثنا عمر قال: حدثني المدائني
عن الوقاصي، عن الزهري قال: خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد،
فقال: أكلما غضب رجل على أميره رماه بالباطل!
لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم،
فاستجاروا بعائشة، وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة،
فقال: أما يجد فساق العراق ومراقها ملجا إلا بيت عائشة! فسمعت، فرفعت نعل رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وقالت: تركت سنة صاحب هذا النعل، وتسامع الناس فجاءوا حتى
ملأوا المسجد، فمن قائل: قد أحسنت ومن قائل: ما للنساء ولهذا! حتى تخاصموا

(1) الآدم: الأسمر.
(2) الخميصة: كساء أسود مربع له علمان.
(3) المخصرة: ما اختصره الانسان بيده فأمسكه من عصا أو مقرعة أو عكازة وما أشبهها.
232

وتضاربوا بالنعال، ودخل رهط من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عثمان فقالوا له:
اتق الله ولا تعطل الحدود، وأعزل أخاك عنهم، ففعل (1).
قال أبو الفرج: حدثنا أحمد قال: حدثني عمر، عن المدائني، عن أبي محمد الناجي
عن مطر الوراق، قال قدم رجل من أهل الكوفة إلى المدينة فقال لعثمان: إني صليت
صلاه الغداة خلف الوليد، فالتفت في الصلاة إلى الناس، فقال: أأزيدكم، فإني أجد اليوم
نشاطا؟ وشممنا منه رائحة الخمر، فضرب عثمان الرجل، فقال الناس: عطلت الحدود،
وضربت الشهود (2).
قال أبو الفرج: وحدثنا أحمد قال: حدثنا عمر قال: حدثنا أبو بكر الباهلي، عن
بعض من حدثه قال: لما شهد على الوليد عند عثمان بشرب الخمر كتب إليه يأمره
بالشخوص، فخرج وخرج معه قوم يعذرونه منهم عدى بن حاتم الطائي فنزل الوليد
يوما يسوق بهم، فارتجز وقال:
لا تحسبنا قد نسينا الأحقاف (3) * والنشوات من معتق صاف
* وعزف قينات علينا عزاف *
فقال عدى: فأين تذهب بنا إذن! فأقم (3). قال أبو الفرج: وقد روى أحمد عن عمر، عن رجاله، عن الشعبي، عن جندب
الأزدي قال: كنت فيمن شهد على الوليد عند عثمان، فلما استتممنا عليه الشهادة حبسه
عثمان. ثم ذكر باقي الخبر وضرب على (عليه السلام) إياه، وقول الحسن ابنه: " مالك
ولهذا ". وزاد فيه وقال على (عليه السلام): لست إذن مسلما، أو قال: من المسلمين.

(1) الأغاني 4: 178.
(2) الأغاني 4: 178.
(3) الأغاني: " الإيجاف "، وهو ضرب من السير.
(4) الأغاني 4: 178 - 179.
(5) الأغاني 4: 179.
233

قال أبو الفرج وأخبرني أحمد، عن عمر عن رجاله، أن الشهادة لما تمت قال عثمان
لعلى (عليه السلام): دونك ابن عمك فأقم عليه الحد. فامر على (عليه السلام)
ابنه الحسن
(عليه السلام)، فلم يفعل، فقال: يكفيك غيرك! فقال على (عليه السلام): بل ضعفت ووهنت
وعجزت، قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده، فقام فجلده، وعلى (عليه السلام) يعد حتى بلغ
أربعين، فقال له على (عليه السلام): أمسك حسبك، جلد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين، وكل سنة (1).
قال أبو الفرج: وحدثني أحمد عن عمر، عن عبد الله بن محمد بن حكيم، عن خالد
ابن سعيد، قال: وأخبرني بذلك أيضا إبراهيم بن محمد بن أيوب، عن عبد الله بن مسلم،
قالوا جميعا: لما ضرب عثمان الوليد الحد، قال: إنك لتضربني اليوم بشهادة قوم ليقتلنك
عاما قابلا (2).
قال أبو الفرج: وحدثني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن عمر بن شبة،
عن عبد الله بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد. وأخبرني أيضا إبراهيم، عن
عبد الله، قالوا جميعا: كان أبو زبيد الطائي نديما للوليد بن عقبة أيام ولايته الكوفة،
فلما شهدوا عليه بالسكر من الخمر خرج عن الكوفة معزولا، فقال أبو زبيد يتذكر
أيامه وندامته:
من يرى العير أن تمشى على ظهر * المروري حداتهن عجال!
ناعجات والبيت بيت أبى وهب * خلاء تحن فيه الشمال
يعرف الجاهل المضلل أن الدهر * فيه النكراء والزلزال
ليت شعري كذا كم العهد أم كانوا * أناسا كمن يزول فزالوا!

(1) الأغاني 4: 179.
(2) 4: 179.
(3) ابن أروي، هو الوليد بن عقبة، وأروي هي أم عثمان بن عفان.
234

بعد ما تعلمين يا أم عمرو * كان فيهم عزلنا وجمال
ووجوه تودنا مشرقات * ونوال إذا أريد النوال
أصبح البيت قد تبدل بالحي * وجوها كأنها الأقيال (1)
كل شئ يحتال فيه الرجال * غير أن ليس للمنايا احتيال
ولعمر الاله لو كان * للسيف مضاء وللسان مقال (2)
ما تناسيتك الصفاء ولا الود ولا حال دونك الاشغال
ولحرمت لحمك المتعضي * ضلة ضل حلمهم ما اغتالوا (3)
قولهم شربك الحرام وقد كان * شراب سوى الحرام حلال
وأبى ظاهر العداوة والشنان * إلا مقال ما لا يقال
من رجال تقارضوا منكرات * لينالوا الذي أرادوا فنالوا
غير ما طالبين ذحلا ولكن * مال دهر على أناس فمالوا
من يخنك الصفاء أو يتبدل * أو يزل مثل ما يزول الظلال
فاعلمن أنني أخوك أخو الود حياتي حتى تزول الجبال
ليس بخلي عليك يوما بمال * أبدا ما أقل نعلا قبال (4)
ولك النصر باللسان وبالكف إذا كان لليدين مصال (5)
قال أبو الفرج: وحدثني أحمد قال: حدثني عمر قال: لما قدم الوليد بن عقبة
الكوفة قدم عليه أبو زبيد فأنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد، وهي التي
235

تعرف بدار القبطي، فكان مما احتج به عليه أهل الكوفة أن أبا زبيد كان يخرج إليه من
داره وهو نصراني يخترق المسجد فيجعله طريقا (1).
قال: أبو الفرج: وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمى عبيد الله، عن
ابن حبيب عن ابن الأعرابي، أن أبا زبيد وفد على الوليد حين استعمله عثمان على الكوفة، فأنزله
الوليد دار عقيل بن أبي طالب عند باب المسجد، واستوهبها منه، فوهبها له، فكان ذلك
أول الطعن عليه من أهل الكوفة لان أبا زبيد كان يخرج من داره حتى يشق المسجد
إلى الوليد فيسمر عنده، ويشرب معه، ويخرج فيشق المسجد وهو سكران، فذاك نبههم
عليه. قال: وقد كان عثمان ولى الوليد صدقات بنى تغلب، فبلغه عنه شعر فيه خلاعة،
فعزله. قال: فلما ولاه الكوفة اختص أبا زبيد الطائي وقربه، ومدحه أبو زبيد بشعر كثير،
وقد كان الوليد استعمل الربيع بن مري بن أوس بن حارثة بن لام الطائي على الحمى فيما بين
الجزيرة وظهر الحيرة: فأجدبت الجزيرة، وكان أبو زبيد في بنى تغلب نازلا، فخرج بإبلهم
ليرعيهم، فأبى عليهم الربيع بن مري ومنعهم، وقال لأبي زبيد: أن شئت أرعيك وحدك
فعلت، فأتى أبو زبيد إلى الوليد فشكاه، فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام، إلى القصور
الحمر من الحيرة وجعلها له حمى، وأخذها من الربيع ابن مري، فقال أبو زبيد يمدح الوليد،
والشعر يدل على أن الحمى كان بيد مري بن أوس، لا بيد الربيع ابنه، وهكذا هو في رواية
عمر بن شبة:
لعمر أبيك يا بن أبي مري * لغيرك من أباح لنا الديارا (2)
أباح لنا أبارق ذات قور * ونرعى القف منها والقفارا (3)

(1) الأغاني 4: 180.
(2) الأغاني: " لها الديارا ".
(3) الأبارق: جمع الأبرق، وهو الأرض الغليظة فيها حجارة ورمل وطين مختلطة. والقف ما يبس من
البقول وتناثر حبه وورقه، ترعاه الإبل وتسمن عليه.
236

بحمد الله ثم فتى قريش * أبى وهب غدت بدنا غزارا (1)
أباح لنا ولا نحمي عليكم * إذا ما كنتم سنة جزارا.
قال: يقول: إذا أجدبتم فإنا لا نحميها عليكم، وإذا كنتم أسأتم وحميتموها علينا.
فتى طالت يداه إلى المعالي * وطحطحت المجذمة القصارا (2).
قال، ومن شعر أبى زبيد فيه يذكر نصره له على مري بن أوس بن حارثة:
يا ليت شعري بأنباء أنبؤها * قد كان يعنى بها صدري وتقديري
عن امرئ ما يزده الله من شرف * أفرح به ومري غير مسرور
إن الوليد له عندي وحق له * ود الخليل ونصح غير مذخور
لقد دعاني وأدناني أظهرني * على الأعادي بنصر غير تغرير
وشذب القوم عنى غير مكترث * حتى تناهوا على رغم وتصغير
نفسي فداء أبى وهب وقل له * يا أم عمرو فحلى اليوم أو سيرى (3).
وقال أبو زبيد يمدح الوليد ويتألم لفراقه حين عزل عن الكوفة:
لعمري لئن أمسى الوليد ببلدة * سواي لقد أمسيت للدهر معورا (4)
خلا أن رزق الله غاد ورائح * وإني له راج وإن سار أشهرا
وكان هو الحصن الذي ليس مسلمي * إذا أنا بالنكراء هيجت معشرا
إذا صادفوا دوني الوليد فإنما * يرون بوادي ذي حماس مزعفرا (5).

(1) غزارا: جمع غزيرة، وهي من الإبل الكثيرة اللبن.
(2) طحطح الرجل ماله: فرقة.
(3) الأغاني 4: 180.
(4) المعور: الذي لا حافظ له.
(5) ذو حماس: موضع تلقاء عرعر، أو مأسدة. والمزعفر: الأسد الورد، وبعده في الأغاني:
خضيب بنان ما يزال براكب * يخب وضاحي جلده قد تقشرا.
237

وهي طويلة يصف فيها الأسد (1).
قال أبو الفرج: وحدثنا أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر عن رجاله، عن الوليد قال: لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم، فيدعو لهم
بالبركة، ويمسح يده على رؤوسهم، فجئ بي إليه وأنا مخلق، فلم يمسني، وما منعه إلا أن
أمي خلقتني بخلوق، فلم يمسني من أجل الخلوق (2). قال أبو الفرج: وحدثني إسحاق بن بنان الأنماطي، عن حنيش بن ميسر، عن عبد الله
ابن موسى، عن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال
الوليد بن عقبة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): أنا أحد منك سنانا، وأبسط منك لسانا،
وأملأ للكتيبة، فقال على (عليه السلام): اسكت يا فاسق فنزل القرآن فيهما: (أفمن
كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون (3).
قال أبو الفرج: وحدثني أحمد بن عبد العزيز، عن عمر بن شبة عن محمد
ابن حاتم، عن يونس بن عمر، عن شيبان، عن يونس، عن قتادة في قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (4). قال: هو الوليد بن عقبة بعثه
النبي (صلى الله عليه وآله) مصدقا إلى بنى المصطلق، فلما رأوه أقبلوا نحوه، فهابهم، فرجع
إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: إنهم ارتدوا عن الاسلام، فبعث النبي (صلى الله عليه وآله)
خالد بن الوليد، فعلم عملهم، وأمره أن يتثبت، وقال له: انطلق ولا تعجل،
فانطلق حتى أتاهم ليلا، وأنفذ عيونه نحوهم، فلما جاءوه أخبروه أنهم متمسكون بالاسلام
وسمع أذانهم وصلاتهم، فلما أصبح أتاهم فرأى ما يعجبه، فرجع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)
فأخبره، فنزلت هذه الآية (5).

(1) الأغاني 4: 182.
(2) الأغاني 4: 182.
(3) سورة السجدة: 18.
(4) سورة الحجرات 6.
(5) الأغاني 4: 182.
238

قلت: قد لمح ابن عبد البر صاحب كتاب " الاستيعاب " في هذا الموضع نكتة
حسنة، فقال في حديث الخلوق: هذا حديث مضطرب منكر، لا يصح، وليس يمكن
أن يكون من بعثه النبي (صلى الله عليه وآله) مصدقا صبيا يوم الفتح، قال: ويدل أيضا
على فساده أن الزبير بن بكار وغيره من أهل العلم بالسير والاخبار ذكروا أن الوليد وأخاه عمارة ابني عقبة بن أبي معيط خرجا من مكة ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة،
وكانت هجرتها في الهدنة التي بين النبي (صلى الله عليه وآله) وبين أهل مكة، ومن كان
غلاما مخلقا بالخلوق يوم الفتح ليس يجئ منه مثل هذا. قال: ولا خلاف بين أهل العلم
بتأويل القرآن أن قوله عز وجل: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) أنزلت في الوليد
لما بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مصدقا، فكذب على بنى المصطلق وقال: إنهم
ارتدوا وامتنعوا من أداء الصدقة. قال أبو عمر: وفيه وفي علي (عليه السلام) نزل:
(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) (1)، في قصتهما المشهورة قال: ومن
كان صبيا يوم الفتح لا يجئ منه مثل هذا، فوجب أن ينظر في حديث الخلوق، فإنه رواية
جعفر بن برقان، عن ثابت، عن الحجاج، عن أبي موسى الهمداني، وأبو موسى مجهول
لا يصح حديثه.
* * *
ثم نعود إلى كتاب أبى الفرج الأصبهاني، قال أبو الفرج: وأخبرني أحمد بن
عبد العزيز، عن عمر بن شبة، عن عبد الله بن موسى، عن نعيم بن حكيم، عن أبي مريم،
عن علي (عليه السلام) أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله)
تشتكي إليه الوليد، وقالت: إنه يضربها، فقال لها: ارجعي إليه وقولي له:
إن رسول الله قد أجارني، فانطلقت، فمكثت ساعة، ثم رجعت فقالت: إنه
239

ما أقلع عنى، فقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) هدبه (1) من ثوبه وقال، اذهبي بها
إليه وقولي له: إن رسول الله قد أجارني، فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت: ما زادني إلا ضربا، فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده قال: اللهم عليك بالوليد "
مرتين أو ثلاثا (2).
قال أبو الفرج: واختص الوليد لما كان واليا بالكوفة ساحرا كاد يفتن الناس، كان
يريه كتيبتين تقتتلان فتحمل إحداهما على الأخرى فتهزمها، ثم يقول له أيسرك أن
أريك المنهزمة تغلب الغالبة فتهزمها؟ فيقول: نعم، فجاء جندب الأزدي مشتملا على
سيفه، فقال: أفرجوا، لي، فأفرجوا فضربه حتى قتله، فحبسه الوليد قليلا ثم تركه. (3) قال أبو الفرج: وروى أحمد عن عمر، عن رجاله: أن جندبا لما قتل الساحر
حبسه الوليد، فقال له دينار بن دينار: فيم حبست هذا، وقد قتل من أعلن بالسحر في
دين محمد (صلى الله عليه وسلم)، ثم مضى إليه فأخرجه من الحبس، فأرسل الوليد إلى دينار
ابن دينار فقتله (4).
قال أبو الفرج: حدثني عمى الحسن بن محمد قال: حدثني الخراز، عن المدائني، عن علي
بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، عن الزهري وغيره، أن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) لما انصرف عن غزاة بنى المصطلق نزل رجل من المسلمين فساق
بالقوم ورجز، ثم آخر فساق بهم ورجز، ثم بدا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يواسي
أصحابه، فنزل فساق بهم ورجز، وجعل يقول فيما يقول:
جندب وما جندب والأقطع زيد الخير

(1) الاستيعاب.
(2) الأغاني 4: 183.
(3) الأغاني 4: 183.
(4) الأغاني 4: 183.
240

فدنا منه أصحابه فقالوا: يا رسول الله، ما ينفعنا سيرنا مخافة أن تنهشك دابة، أو
تصيبك نكبة. فركب ودنوا منه وقالوا: قلت قولا لا ندري ما هو؟ قال: وما ذاك؟ قالوا:
كنت تقول: جندب وما جندب، والأقطع زيد الخير.
فقال: رجلان يكونان في هذه الأمة يضرب أحدهما ضربة يفرق بين الحق والباطل، وتقطع يد الآخر في سبيل الله ثم، يتبع الله آخر جسده بأوله، وكان زيد، هو زيد بن
صوحان، وقطعت يده في سبيل الله يوم جلولاء، وقتل يوم الجمل مع علي بن أبي طالب
(عليه السلام) وأما جندب هذا فدخل على الوليد بن عقبة وعنده ساحر يقال له: أبو شيبان، يأخذ أعين الناس، فيخرج مصارين بطنهم ثم يردها، فجاء من خلفه
فضربه فقتله، وقال:
العن وليدا وأبا شيبان وابن حبيش راكب الشيطان
* رسول فرعون إلى هامان (1) *
قال أبو الفرج: وقد روى أن هذا الساحر كان يدخل عند الوليد في جوف بقرة
حية، ثم يخرج منها، فرآه جندب فذهب إلى بيته، فاشتمل على سيف، فلما دخل
الساحر في البقرة قال جندب: (أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ثم ضرب وسط
البقرة فقطعها وقطع الساحر معها، فذعر الناس، فسجنه الوليد، وكتب بأمره
إلى عثمان (3).
* * *
قال أبو الفرج: فروى أحمد بن عبد العزيز، عن حجاج بن نصير، عن قره، عن

(1) الأغاني 4: 183، 184.
(2) سورة الأنبياء 3.
(3) الأغاني 4: 184.
241

محمد بن سيرين، قال: انطلق بجندب بن كعب الأزدي قاتل الساحر بالكوفة إلى السجن،
وعلى السجن رجل نصراني من قبل الوليد، وكان يرى جندب بن كعب يقوم بالليل ويصبح
صائما، فوكل بالسجن رجلا، ثم خرج فسأل الناس عن أفضل أهل الكوفة، فقالوا: الأشعث بن قيس، فاستضافه فجعل يراه ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه، فخرج من
عنده وسأل: أي أهل الكوفة أفضل؟ قالوا: جرير بن عبد الله، فذهب إليه فوجده
ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه، فاستقبل القبلة، وقال: ربى رب جندب، وديني دين
جندب. ثم أسلم (1).
قال أبو الفرج: فلما نزع عثمان الوليد عن الكوفة أمر عليها سعيد بن العاص،
فلما قدمها قال: اغسلوا هذا المنبر، فإن الوليد كان رجلا نجسا، فلم يصعده حتى غسل. قال
أبو الفرج: وكان الوليد أسن من سعيد بن العاص، وأسخى نفسا، وألين جانبا، وأرضى
عندهم، فقال بعض شعرائهم:
وجاءنا من بعده سعيد (2) * ينقص في الصاع ولا يزيد
وقال آخر منهم:
فررنا من الوليد إلى سعيد * كأهل الحجر إذ فزعوا فباروا
يلينا من قريش كل عام * أمير محدث أو مستشار
لنا نار تحرقنا فنخشى * وليس لهم - ولا يخشون - نار (3).
قال أبو الفرج: وحدثنا أحمد، قال: حدثنا عمر، عن المدائني، قال: قدم الوليد بن

(1) الأغاني 4: 183.
(2) أول الرجز في الأغاني: * يا ويلنا قد ذهب الوليد *
(3) الأغاني 4: 184.
242

عقبة الكوفة في أيام معاوية زائرا للمغيرة بن شعبة، فأتاه أشراف الكوفة فسلموا عليه.
وقالوا: والله ما رأينا بعدك مثلك، فقال: أخيرا أم شرا! قالوا: بل خيرا، قال: ولكني
ما رأيت بعدكم شرا منكم. فأعادوا الثناء عليه، فقال: بعض ما تأتون به! فوالله إن
بغضكم لتلف، وإن حبكم لصلف (1).
قال أبو الفرج: وروى عمر بن شبة، أن قبيصة بن جابر كان ممن كثر (2) على الوليد،
فقال معاوية يوما والوليد وقبيصة عنده: يا قبيصة ما كان شأنك وشأن الوليد؟ قال:
خير يا أمير المؤمنين، إنه في أول الأمر وصل الرحم، وأحسن الكلام، فلا تسأل عن
شكر وحسن ثناء، ثم غضب على الناس وغضبوا عليه، وكنا معهم، فإما ظالمون فنستغفر
الله، وأما مظلومون فيغفر الله له، فخذ في غير هذا يا أمير المؤمنين، فإن الحديث ينسى
القديم. قال معاوية: ما أعلمه إلا قد أحسن السيرة، وبسط الخير، وقبض الشر. قال:
فأنت يا أمير المؤمنين اليوم أقدر على ذلك فافعله، فقال: اسكت لا سكت، فسكت
وسكت القوم، فقال معاوية بعد يسير: ما لك لا تتكلم يا قبيصة؟ قال: نهيتني عما كنت
أحب فسكت عما لا أحب.
قال أبو الفرج: ومات الوليد بن عقبة فويق الرقة، ومات أبو زبيد هناك، فدفنا
جميعا في موضع واحد، فقال في ذلك أشجع السلمي وقد مر بقبريهما:
مررت على عظام أبى زبيد * وقد لاحت ببلقعة صلود
فكان له الوليد نديم صدق * فنادم قبره قبر الوليد
وما أدرى بمن تبدو المنايا * بحمزة أم بأشجع أم يزيد!
قيل: هم إخوته، وقيل: ندماؤه (3).
قال أبو الفرج: وحدثني أحمد بن عبد العزيز، عن محمد بن زكريا الغلابي،

(1) الأغاني 4: 184.
(2) كذا في ا، د، وفي ب: " كبر ".
(3) الأغاني 4: 185.
243

عن عبد الله بن الضحاك، عن هشام بن محمد عن أبيه قال: وفد الوليد بن عقبة - وكان
جوادا - إلى معاوية فقيل له هذا الوليد بن عقبة بالباب، فقال: والله ليرجعن مغيظا
غير معطي، فإنه الان قد أتانا يقول: على دين وعلى كذا، ائذن له، فأذن له، فسأله
وتحدث معه، ثم قال له معاوية: أما والله إن كنا لنحب إتيان مالك بالوادي، ولقد كان
يعجب أمير المؤمنين، فإن رأيت أن تهبه ليزيد فافعل، قال: هو ليزيد،، ثم خرج وجعل
يختلف إلى معاوية، فقال له يوما: انظر يا أمير المؤمنين في شأني،، فإن على مؤونة، وقد
أرهقني دين، فقال له: ألا تستحي لنفسك وحسبك، تأخذ ما تأخذه فتبذره، ثم
لا تنفك تشكو دينا! فقال الوليد: أفعل، ثم انطلق من مكانه، فسار إلى الجزيرة، وقال
يخاطب معاوية:
فإذا سئلت تقول: " لا " * وإذا سألت تقول: هات
تأبى فعال الخير لا * تروى وأنت على الفرات
أفلا تميل إلى " نعم " * أو ترك " لا " حتى الممات!
وبلغ معاوية شخوصه إلى الجزيرة فخافه، وكتب إليه: أقبل، فكتب:
أعف واستعفى كما قد أمرتني * فأعط سواي ما بدا لك وابخل
سأحدو ركابي عنك إن عزيمتي * إذا نابني أمر كسلة منصل
وإني امرؤ للنأي منى تطرب * وليس شبا قفل على بمقفل
ثم رحل إلى الحجاز، فبعث إليه معاوية بجائزة (1)
* * *
. وأما أبو عمر بن عبد البر فإنه ذكر في " الاستيعاب " في باب الوليد، قال: إن له أخبارا
فيها شناعة تقطع على سوء حاله، وقبح أفعاله، غفر الله لنا وله، فلقد كان من رجال قريش

(1) الأغاني 4: 187.
244

ظرفا وحلما وشجاعة وجودا وأدبا، وكان من الشعراء المطبوعين. قال: وكان الأصمعي
وأبو عبيدة وابن الكلبي وغيرهم يقولون: إنه كان فاسقا شريب خمر، وكان شاعرا
كريما. قال: وأخباره في شربه الخمر ومنادمته أبا زبيد الطائي كثيرة مشهورة،
ويسمج بنا ذكرها، ولكنا نذكر منها طرفا. ثم ذكر ما ذكره أبو الفرج في الأغاني،
وقال: إن خبر الصلاة وهو سكران، وقوله: " أأزيدكم؟ " خبر مشهور روته الثقات
من نقلة الحديث.
قال أبو عمر بن عبد البر: وقد ذكر الطبري في رواية أنه تغضب عليه قوم من
أهل الكوفة حسدا وبغيا، وشهدوا عليه بشرب الخمر، وقال: إن عثمان قال له: يا أخي
اصبر، فإن الله يأجرك ويبوء القوم بإثمك.
قال أبو عمر: هذا الحديث لا يصح عند أهل الأخبار ونقلة الحديث، ولا له عند
أهل العلم أصل، والصحيح ثبوت الشهادة عليه عند عثمان، وجلده الحد، وأن عليا
هو الذي جلده. قال: ولم يجلده بيده، وإنما أمر بجلده، فنسب الجلد إليه.
قال أبو عمر: ولم يرو الوليد من السنة ما يحتاج فيها إليه، ولكن حارثة بن مضرب
روى عنه أنه قال: " ما كانت نبوة إلا كان بعدها ملك

(1) الاستيعاب 1552 وما بعدها (طبعة نهضة مصر).
245

(63)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أبى موسى الأشعري وهو عامله على الكوفة،
وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل:
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس: أما بعد، فقد بلغني
عنك قول هو لك وعليك، فإذا قدم عليك رسولي فارفع ذيلك، واشدد مئزرك
وأخرج من جحرك، واندب من معك، فإن حققت فانفذ، وإن تفشلت فابعد،
وأيم الله لتؤتين من حيث أنت، ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك، وذائبك
بجامدك، وحتى تعجل
عن قعدتك، وتحذر من أمامك، كحذرك من خلفك،
وما هي بالهوينى التي ترجو، ولكنها الداهية الكبرى، يركب جملها، ويذل
صعبها، ويسهل جبلها. فاعقل عقلك، واملك أمرك، وخذ نصيبك وحظك، فإن
كرهت فتنح إلى غير رحب، ولا في نجاة فبالحري لتكفين وأنت نائم حتى لا يقال: أين فلان! والله إنه لحق مع محق وما يبالي ما صنع الملحدون! والسلام.
* * *
الشرح:
المراد بقوله: " قول هو لك وعليك "، أن أبا موسى كان يقول لأهل الكوفة:
إن عليا أمام هدى، وبيعته صحيحة إلا أنه لا يجوز القتال معه لأهل القبلة، وهذا القول بعضه حق، وبعضه باطل.
246

وقوله: " فارفع ذيلك "، أي شمر للنهوض معي واللحاق بي، لنشهد حرب أهل البصرة،
وكذلك قوله: " واشدد مئزرك " وكلتاهما كنايتان عن الجد والتشمير
في الامر.
قال: " واخرج من جحرك " أمر له بالخروج من منزله للحاق به، وهي كناية
فيها غض من أبى موسى واستهانة به لأنه لو أراد إعظامه لقال: واخرج من خيسك (1)،
أو من غيلك (2) كما يقال للأسد، ولكنه جعله ثعلبا أو ضبا.
قال: " واندب من معك "، أي واندب رعيتك من أهل الكوفة إلى الخروج معي
واللحاق بي.
ثم قال: " وإن تحققت فانفذ " " أي أمرك مبنى على الشك، وكلامك في طاعتي
؟ كالمتناقض؟ فإن حققت لزوم طاعتي لك فانفذ، أي سر حتى تقدم على، وإن أقمت على
الشك فاعتزل العمل، فقد عزلتك.
قوله: " وأيم الله لتؤتين " معناه إن أقمت على الشك والاسترابة وتثبيط أهل الكوفة عن الخروج إلى وقولك لهم: لا يحل لكم سل السيف لا مع علي ولا مع طلحة،
والزموا بيوتكم، واكسروا سيوفكم، ليأتينكم. وأنتم في منازلكم بالكوفة أهل البصرة
مع طلحة، ونأتينكم نحن بأهل المدينة والحجاز، فيجتمع عليكم سيفان من أمامكم ومن
خلفكم، فتكون ذلك الداهية الكبرى التي لا شواة لها.
قوله: " ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك " تقول للرجل إذا ضربته حتى أثخنته:
لقد ضربته حتى خلطت زبده بخاثره وكذلك حتى خلطت ذائبه بجامده، والخاثر:
اللبن الغيظ، والزبد خلاصه اللبن وصفوته، فإذا أثخنت الأسنان ضربا كنت كأنك

(1) الخيس: معرس الأسد.
(2) الغيل: الشجر الكثير الملتف.
247

خلطت ما رق ولطف من أخلاطه بما كثف وغلظ منها، وهذا مثل، ومعناه لتفسدن
حالك ولتخلطن، وليضربن ما هو الان منتظم من أمرك.
قوله: وحتى تعجل عن قعدتك "، القعدة بالكسر هيئة القعود كالجلسة والركبة
أي وليعجلنك الامر عن هيئة قعودك، يصف شدة الامر وصعوبته.
قوله: وتحذر من أمامك كحذرك من خلفك "، يعنى يأتيك من خلفك إن أقمت
على منع الناس عن الحرب معنا ومعهم أهل البصرة وأهل المدينة، فتكون كما قال الله
تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم) (1).
قوله: " (وما هي بالهوينى التي ترجو "، الهوينى تصغير " الهونى " التي هي أنثى
" أهون "، أي ليست هذه الداهية والجائحة التي اذكرها لك بالشئ الهين الذي ترجو
اندفاعه وسهولته.
ثم قال: بل هي الداهية الكبرى ستفعل لا محالة إن استمررت على ما أنت عليه،
وكنى عن قوله: " ستفعل لا محالة " بقوله: " يركب جملها " وما بعده، وذلك لأنها إذا
ركب جملها، وذلل صعبها وسهل وعرها فقد فعلت، أي لا تقل: هذا أمر عظيم صعب
المرام، أي قصد الجيوش من كلا الجانبين الكوفة، فإنه إن دام الامر على ما أشرت
إلى أهل الكوفة من التخاذل والجلوس في البيوت، وقولك لهم: " كن عبد الله المقتول "
لنقعن بموجب ما ذكرته لك، وليرتكبن أهل الحجاز وأهل البصرة هذا الامر
المستصعب، لأنا نحن نطلب أن نملك الكوفة، وأهل البصرة كذلك، فيجتمع عليها
الفريقان.
ثم عاد إلى أمره بالخروج إليه فقال له: " فاعقل عقلك، واملك أمرك، وخذ نصيبك

(1) سورة الأحزاب 10.
248

وحظك "، أي من الطاعة، واتباع الامام الذي لزمتك بيعته، فإن كرهت ذلك،
فتنح عن العمل فقد عزلتك، وابعد عنا لا في رحب، أي لا في سعة، وهذا ضد قولهم
مرحبا.
ثم قال: فجدير أن تكفى ما كلفته من حضور الحرب وأنت نائم، أي لست
معدودا عندنا ولا عند الناس من الرجال الذين تفتقر الحروب والتدبيرات إليهم
فسيغني الله عنك ولا يقال: أين فلان؟
ثم أقسم أنه لحق، أي أنى في حرب هؤلاء لعلى حق، وإن من أطاعني مع إمام
محق ليس يبالي ما صنع الملحدون، وهذا إشارة إلى قول النبي (صلى الله عليه وآله):
" اللهم أدر الحق معه حيثما دار
249

(64)
الأصل:
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية جوابا عن كتابه *:
أما بعد، فإنا كنا نحن وأنتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة، ففرق بيننا
وبينكم أمس أنا آمنا وكفرتم، واليوم أنا استقمنا وفتنتم، وما أسلم مسلمكم
إلا كرها، وبعد أن كان أنف الاسلام كله لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حربا.
وذكرت أنى قتلت طلحة والزبير، وشردت بعائشة، ونزلت بين المصرين،
وذلك أمر غبت عنه، فلا عليك، ولا العذر فيه إليك.
وذكرت أنك زائري في جمع المهاجرين والأنصار، وقد انقطعت الهجرة يوم
أسر أخوك، فإن كان فيك عجل فاسترفه، فإني أن أزرك فذلك جدير أن يكون
الله إنما بعثني إليك للنقمة منك، وإن تزرني فكما قال أخو بنى أسد:
مستقبلين رياح الصيف تضربهم * بحاصب بين أغوار وجلمود
وعندي السيف الذي أعضضته بجدك وخالك وأخيك في مقام واحد
فإنك والله ما علمت الأغلف القلب، المقارب العقل، والأولى أن يقال لك:
إنك رقيت سلما أطلعك مطلع سوء عليك لا لك، لأنك نشدت غير ضالتك،
ورعيت غير سائمتك وطلبت أمرا لست من أهله ولا في معدنه، فما أبعد قولك
من فعلك!
250

وقريب ما أشبهت من أعمام وأخوال! حملتهم الشقاوة وتمنى الباطل، على
الجحود بمحمد (صلى الله عليه وآله) فصرعوا مصارعهم حيث علمت، لم يدفعوا عظيما، ولم يمنعوا حريما، بوقع سيوف ما خلا منها الوغى، ولم تماشها
الهوينى.
وقد أكثرت في قتله عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلى،
أحملك وإياهم على كتاب الله تعالى، وأما تلك التي تريد، فإنها خدعة الصبي عن اللبن
في أول الفصال، والسلام لأهله.
* * *
الشرح:
[كتاب معاوية إلى علي] أما الكتاب الذي كتبه إليه معاوية، وهذا الكتاب جوابه، فهو:
من معاوية بن أبي سفيان، إلى علي بن أبي طالب: أما بعد، فإنا بنى عبد مناف لم نزل ننزع من قليب واحد، ونجري في حلبة واحدة،
ليس لبعضنا على بعض فضل، ولا لقائمنا على قاعدنا فخر، كلمتنا مؤتلفة وألفتنا جامعة،
ودارنا واحدة، يجمعنا كرم العرق، ويحوينا شرف النجار، ويحنو قوينا على ضعيفنا،
ويواسي غنينا فقيرنا، قد خلصت قلوبنا من وغل الحسد، وطهرت أنفسنا من خبث
النية فلم نزل كذلك حتى كان منك ما كان من الادهان في أمر ابن عمك، والحسد له،
ونصرة الناس عليه، حتى قتل بمشهد منك، لا تدفع عنه بلسان ولا يد. فليتك
251

أظهرت نصره، حيث أسررت خبره، فكنت كالمتعلق بين الناس بعذر (1) وإن ضعف،
والمتبرئ من دمه بدفع وإن وهن، ولكنك جلست في دارك تدس إليه الدواهي،
وترسل إليه الأفاعي، حتى إذا قضيت وطرك منه، أظهرت شماتة وأبديت طلاقة،
وحسرت للامر عن ساعدك، وشمرت عن ساقك، ودعوت الناس إلى نفسك، وأكرهت أعيان المسلمين على بيعتك، ثم كان منك بعد ما كان، من قتلك شيخي المسلمين
أبى محمد طلحة وأبى عبد الله الزبير، وهما من الموعودين بالجنة، والمبشر قاتل أحدهما بالنار
في الآخرة، هذا إلى تشريدك بأم المؤمنين عائشة وإحلالها محل الهون، متبذلة بين أيدي
الاعراب وفسقه أهل الكوفة، فمن بين مشهر لها، وبين شامت بها، وبين ساخر منها.
ترى ابن عمك كان بهذه لو رآه راضيا، أم كان يكون عليك ساخطا، ولك عنه زاجرا!
أن تؤذى أهله وتشرد بحليلته، وتسفك دماء أهل ملته. ثم تركك دار الهجرة التي قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنها: " إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفى الكير (2) خبث الحديد "،
فلعمري لقد صح وعده وصدق قوله، ولقد نفت خبثها، وطردت عنها من ليس بأهل أن
يستوطنها، فأقمت بين المصرين، وبعدت عن بركة الحرمين، ورضيت بالكوفة بدلا
من المدينة وبمجاورة الخورنق والحيرة عوضا من مجاورة خاتم النبوة، ومن قبل ذلك ما
عبت خليفتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيام حياتهما، فقعدت عنهما وألبت عليهما،
وامتنعت من بيعتهما، ورمت أمرا لم يرك الله تعالى له أهلا ورقيت سلما وعرا، وحاولت
مقاما دحضا، وادعيت ما لم تجد عليه ناصرا، ولعمري لو وليتها حينئذ لما ازدادت
إلا فسادا واضطرابا، ولا أعقبت ولايتكها إلا انتشارا وارتدادا، لأنك الشامخ بأنفه،
الذاهب بنفسه، المستطيل على الناس بلسانه ويده، وها أنا سائر إليك في جمع

(1) ا: " بعدو ".
(2) الكير: زق ينفخ فيه الحداد.
252

من المهاجرين والأنصار تحفهم سيوف شامية، ورماح قحطانية حتى يحاكموك إلى الله.
فانظر لنفسك وللمسلمين، وادفع إلى قتله عثمان، فإنهم خاصتك وخلصاؤك والمحدقون بك،
فإن أبيت إلا سلوك سبيل اللجاج، والاصرار على الغي والضلال، فاعلم أن هذه الآية إنما
نزلت فيك وفي أهل العراق معك: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف
بما كانوا يصنعون) (1)
* * *
ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل ومعانيه، قال (عليه السلام): لعمري إنا كنا بيتا واحدا
في الجاهلية، لأنا بنو عبد مناف، إلا أن الفرقة بيننا وبينكم حصلت منذ بعث الله محمدا
(صلى الله عليه وآله)، فأنا آمنا وكفرتم ثم تأكدت الفرقة اليوم بأنا استقمنا على منهاج
الحق وفتنتم.
ثم قال: " وما أسلم من أسلم منكم إلا كرها "، كأبي سفيان وأولاده يزيد ومعاوية
وغيرهم من بنى عبد شمس.
قال: " وبعد أن كان أنف الاسلام محاربا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أي في أول الاسلام، يقال: كان ذلك في أنف دولة بنى فلان، أي في أولها، وأنف كل شئ
أوله وطرفه، وكان أبو سفيان وأهله من بنى عبد شمس أشد الناس على رسول الله (صلى الله عليه وآله)
في أول الهجرة، إلى أن فتح مكة، ثم أجابه عن قوله: " قتلت طلحة
والزبير،
وشردت بعائشة، ونزلت بين المصرين " بكلام مختصر أعرض فيه عنه

(1) سورة النحل 112.
253

هوانا به، فقال هذا أمر غبت عنه، فليس عليك كان العدوان الذي تزعم، ولا العذر
إليك لو وجب على العذر عنه.
فأما الجواب المفصل فأن يقال: إن طلحة والزبير قتلا أنفسهما ببغيهما ونكثهما،
ولو استقاما على الطريقة لسلما، ومن قتله الحق فدمه هدر، وأما كونهما شيخين من
شيوخ الاسلام فغير مدفوع، ولكن العيب يحدث، وأصحابنا يذهبون إلى أنهما تابا وفارقا
الدنيا نادمين على ما صنعا، وكذلك نقول نحن، فان الاخبار كثرت بذلك، فهما من أهل
الجنة لتوبتهما ولولا توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما، فإن الله تعالى لا يحابى أحدا
في الطاعة والتقوى، (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينه (1)).
وأما الوعد لهما بالجنة فمشروط بسلامة العاقبة، والكلام في سلامتهما، وإذا
ثبتت توبتهما فقد صح الوعد لهما وتحقق، وقوله: " بشر قاتل ابن صفية بالنار "، فقد اختلف
فيه، فقال قوم من أرباب السير وعلماء الحديث: هو كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) غير
مرفوع، وقوم منهم جعلوه مرفوعا، وعلى كل حال فهو حق، لان ابن جرموز قلته موليا
خارجا من الصف، مفارقا للحرب، فقد قتله على توبة وإنابة ورجوع من الباطل، وقاتل
من هذه حاله فاسق مستحق للنار، وأما أم المؤمنين عائشة فقد صحت توبتها، والأخبار الواردة
في توبتها أكثر من الأخبار الواردة في توبة طلحة والزبير، لأنها عاشت زمانا طويلا، وهما لم يبقيا، والذي جرى لها كان خطأ منها، فأي ذنب لأمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك
ولو أقامت في منزلها لم تبتذل بين الاعراب وأهل الكوفة، على أن أمير المؤمنين (عليه السلام)
أكرمها وصانها وعظم من شأنها، ومن أحب أن يقف على ما فعله معها فليطالع كتب
السيرة. ولو كانت فعلت بعمر ما فعلت به، وشقت عصا الأمة عليه، ثم ظفر بها، لقتلها
ومزقها إربا إربا، ولكن عليا كان حليما كريما.

(1) سورة الأنفال 42.
254

وأما قوله: " لو عاش رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبربك هل كان يرضى لك أن
تؤذى حليلته! فلعلي (عليه السلام) أن يقلب الكلام عليه، فيقول أفتراه لو عاش أكان
يرضى لحليلته أن تؤذى أخاه ووصيه! وأيضا أتراه لو عاش أكان يرضى لك يا بن أبي سفيان
أن تنازع عليا الخلافة وتفرق جماعه هذه الأمة! وأيضا أتراه لو عاش أكان يرضى لطلحة
والزبير أن يبايعا، ثم ينكثا لا لسبب، بل قالا: جئنا نطلب الدراهم، فقد قيل لنا: إن
بالبصرة أموالا كثيرة! هذا كلام يقوله مثلهما.
فأما قوله: " تركت دار الهجرة "، فلا عيب عليه إذا انقضت عليه أطراف الاسلام
بالبغي والفساد أن يخرج من المدينة إليها، ويهذب أهلها وليس كل من خرج من المدينة
كان خبثا، فقد
كان خبثا، خرج عنها عمر مرارا إلى الشام. ثم لعلى (عليه السلام) أن يقلب عليه
الكلام فيقول له: وأنت يا معاوية فقد نفتك المدينة أيضا عنها، فأنت إذا خبث، وكذلك
طلحة والزبير وعائشة الذين تتعصب لهم وتحتج على الناس بهم وقد خرج عن المدينة
الصالحون، كابن مسعود وأبي ذر وغيرهما، وماتوا في بلاد نائية عنها،
وأما قوله: " بعدت عن حرمة الحرمين، ومجاورة قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)،
فكلام إقناعي ضعيف، والواجب على الامام أن يقدم الأهم فالأهم من مصالح الاسلام،
وتقديم قتال أهل البغي على المقام بين الحرمين أولى. فأما ما ذكره من خذلانه عثمان
وشماتته به ودعائه الناس بعد قتله إلى نفسه وإكراهه طلحة والزبير وغيرهما على بيعته
فكله دعوى والامر بخلافها، ومن نظر كتب السير عرف أنه قد بهته وادعى عليه ما لم
يقع منه.
وأما قوله: " التويت على أبى بكر وعمر،
وقعدت عنهما، وحاولت الخلافة بعد رسول الله
(صلى الله عليه وآله)، فإن عليا (عليه السلام) لم يكن يجحد ذلك ولا ينكره، ولا ريب
255

أنه كان يدعى الامر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنفسه على الجملة، إما لنص
كما تقوله الشيعة، أو لأمر آخركما يقوله أصحابنا. فأما قوله: " لو وليتها حينئذ لفسد الامر
واضطرب الاسلام "، فهذا علم غيب لا يعلمه إلا الله، ولعله لو وليها حينئذ لاستقام الامر
وصلح الاسلام وتمهد فإنه، ما وقع الاضطراب عند ولايته بعد عثمان إلا لان أمره هان
عندهم بتأخره عن الخلافة، وتقدم غيره عليه، فصغر شأنه في النفوس، وقرر من تقدمه
في قلوب الناس أنه لا يصلح لها كل الصلاحية، والناس على ما يحصل في نفوسهم،
ولو كان وليها ابتداء وهو على تلك الحالة التي كان عليها أيام حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وتلك المنزلة الرفيعة والاختصاص الذي كان له، لكان الامر غير الذي رأيناه عند ولايته
بعد عثمان. وأما قوله: " لأنك الشامخ بأنفه، الذاهب بنفسه "، فقد أسرف في وصفه بما
وصفه به، ولا شك أن عليا (عليه السلام) كان عنده زهو لكن لا هكذا، وكان (عليه السلام)
مع زهوه ألطف الناس خلقا.
* * *
ثم نرجع إلى تفسير ألفاظه (عليه السلام)، قوله: وذكرت أنك زائري في جمع من
المهاجرين والأنصار، وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك " هذا الكلام تكذيب له
في قوله: " في جمع من المهاجرين والأنصار "، أي ليس معك مهاجر لان أكثر من معك
ممن رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم أبناء الطلقاء ومن أسلم بعد الفتح، وقد قال
النبي (صلى الله عليه وآله): " لا هجرة بعد الفتح ".
وعبر عن يوم الفتح بعبارة حسنه فيها تقريع لمعاوية وأهله بالكفر، وأنهم ليسوا
من ذوي السوابق، فقال: " قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك يعنى يزيد بن أبي
سفيان أسر يوم الفتح في باب الخندمه، وكان خرج في نفر من قريش يحاربون ويمنعون
256

من دخول مكة فقتل منهم قوم وأسر يزيد بن أبي سفيان، أسره خالد بن الوليد،
فخلصه أبو سفيان منه، وأدخله داره، فآمن لان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال يومئذ:
" من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ".
* * *
[ذكر الخبر عن فتح مكة]
ويجب أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الواقدي في كتاب " المغازي "
في فتح مكة، فإن الموضع يقتضيه، لقوله (عليه السلام): " ما أسلم مسلمكم إلا كرها "،
وقوله: " يوم أسر أخوك ".
قال محمد بن عمر الواقدي في كتاب " المغازي ":
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد هادن قريشا في عام الحديبية عشر سنين، وجعل خزاعة داخلة معه، وجعلت قريش بنى بكر بن عبد مناة من كنانة داخلة معهم،
وكان بين بنى بكر وبين خزاعة تراث في الجاهلية ودماء، وقد كانت خزاعة من قبل
حالفت عبد المطلب بن هاشم، وكان معها كتاب منه، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يعرف ذلك، فلما تم صلح الحديبية وأمن الناس، سمع غلام من خزاعة إنسانا من
بنى كنانة يقال له: أنس بن زنيم الدؤلي (1) ينشد هجاء له في رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
فضربه فشجه، فخرج أنس إلى قومه فأراهم شجته فثار بينهم الشر، وتذاكروا أحقادهم
القديمة، والقوم مجاورون بمكة، فاستنجدت بكر بن عبد مناه (2) قريشا على خزاعة،
فمن قريش من كره ذلك وقال: لا أنقض عهد محمد، ومنهم من خف إليه. وكان أبو سفيان
أحد من كره ذلك، وكان صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص

(1) ا " الديلي ".
(2) ب: " مناف "، وصوابه في ا، د.
257

ممن أعان بنى بكر، ودسوا إليهم الرجال بالسلاح سرا، وبيتوا خزاعة ليلا، فأوقعوا بهم،
فقتلوا منهم عشرين رجلا، فلما أصبحوا عاتبوا قريشا، فجحدت قريش أنها أعانت بكرا،
وكذبت في ذلك، وتبرأ أبو سفيان وقوم من قريش مما جرى، وشخص قوم من خزاعة
إلى المدينة مستصرخين برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدخلوا عليه وهو في المسجد،
فقام عمرو بن سالم الخزاعي فأنشده:
لا هم إني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الا تلدا (3)
لكنت والدا وكنا ولدا (2) * ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيتونا بالوتير هجدا (3) نتلو القرآن ركعا وسجدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا * وهم أذل وأقل عددا
فانصر هداك الله نصرا أيدا (4) * وادع عباد الله يأتوا مددا (5)
في فيلق كالبحر يجرى مزبدا (6) فيهم رسول الله قد تجردا
* قرم لقوم من قروم أصيدا *
ثم ذكروا له ما أثار الشر، وقالوا له: إن أنس بن زنيم هجاك، وإن صفوان
بن أمية وفلانا وفلانا دسوا إلينا رجال قريش مستنصرين، فبيتونا بمنزلنا بالوتير فقتلونا،
وجئناك مستصرخين بك، فزعموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام مغضبا يجر رداءه
ويقول: " لا نصرت إن لم أنصر خزاعة فيما أنصر منه نفسي! "

(1) في الأصول: " الأملدا " وصوابه من ابن هشام 4: 10. والأتلد: القديم.
(2) ابن هشام: " قد كنتم ولدا ".
(3) الوتير: اسم ماء بعينه.
(4) أيدا: قويا، وفي ب: " أبدا "، والصواب ما في ا وابن هشام.
(5) المدد، العون.
(6) الفليق: العسكر.
258

قلت: فصادف ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إيثارا وحبا لنقض العهد، لأنه
كان يريد أن يفتح مكة وهم بها في عام الحديبية فصد، ثم هم بها في عمرة القضية،
ثم وقف لأجل العهد والميثاق الذي كان عقده معهم، فلما جرى ما جرى على
خزاعة اغتنمها.
قال الواقدي فكتب إلى جميع الناس في أقطار الحجاز وغيرها يأمرهم أن يكونوا
بالمدينة في رمضان من سنة ثمان للهجرة فوافته الوفود والقبائل من كل جهة فخرج من
المدينة بالناس يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان في عشره آلاف فكان، المهاجرون
سبعمائة، ومعهم من الخيل ثلاثمائة فرس، وكانت الأنصار أربعة آلاف معهم، من الخيل خمسمائة
وكانت مزينة ألفا، فيها من الخيل مائة فرس، وكانت أسلم أربعمائة، فيها من
الخيل ثلاثون فرسا، وكانت جهينة ثمانمائة معها خمسون فرسا، ومن سائر الناس تمام
عشره آلاف، وهم بنو ضمرة وبنو غفار وأشجع وبنو سليم وبنو كعب بن عمرو
وغيرهم. وعقد للمهاجرين، ثلاثة ألوية: لواء مع علي، ولواء مع الزبير، ولواء مع سعد
ابن أبي وقاص، وكانت الرايات في الأنصار، وغيرهم وكتم عن الناس الخبر، فلم يعلم به
إلا خواصه، وأما قريش بمكة فندمت على ما صنعت بخزاعة، وعرفت أن ذلك
انقضاء ما بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله) من العهد، ومشى الحارث بن هشام
وعبد الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان فقالا له: إن إذا أمر لابد له أن يصلح، والله
إن لم يصلح لا يروعكم إلا محمد في أصحابه. وقال أبو سفيان: قد رأت هند بنت عتب
رؤيا كرهتها وأفظعتها، وخفت من شرها، قالوا: ما رأت قال: رأت كأن دما أقبل
من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة مليا، ثم كان ذلك الدم لم يكن، فكره القوم
ذلك وقالوا: هذا شر.
قال الواقدي: فلما رأى أبو سفيان ما رأى من الشر قال: هذا والله أمر لم أشهده
259

ولم أغب عنه، لا يحمل هذا إلا على، ولا والله ما شوورت ولا هونت (1) حيث بلغني، والله
ليغزونا محمد إن صدق ظني وهو صادق، وما لي بد أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في
الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الامر. قالت قريش: قد والله أصبت، وندمت
قريش على ما صنعت بخزاعة وعرفت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابد أن يغزوها
فخرج أبو سفيان وخرج معه مولى له على راحلتين، وأسرع السير وهو يرى أنه أول من
خرج من مكة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
قال الواقدي: وقد روى الخبر على وجه آخر، وهو أنه لما قدم ركب خزاعة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبروه بمن قتل منهم، قال لهم: بمن تهمتكم وطلبتكم؟
قالوا: بنو بكر بن عبد مناة قال: كلها؟ قالوا: لا، ولكن تهمتنا بنو نفاثة قصرة (2)،
ورأسهم نوفل بن معاوية النفاثي، فقال: هذا بطن من بكر، فأنا باعث إلى أهل مكة
فسائلهم عن هذا الامر، ومخيرهم في خصال. فبعث إليهم ضمره يخيرهم بين إحدى خلال
ثلاث: بين أن يدوا خزاعة، أو يبرأوا من حلف نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء، فأتاهم
ضمرة فخيرهم بين الخلال الثلاث، فقال قريظة بن عبد عمر الأعمى: أما أن ندى قتلى
خزاعة، فإنا إن وديناهم لم يبق لنا سبد ولا لبد (3)، وأما أن نبرأ من حلف نفاثة، فإنه
ليس قبيلة تحج هذا البيت أشد تعظيما له من نفاثة، وهم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم،
ولكنا ننبذ إليه على سواء. فعاد ضمرة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك، وندمت
قريش أن ردت ضمرة بما ردته به.
قال الواقدي: وقد روى غير ذلك، روى أن قريشا لما ندمت على قتل خزاعة
وقالت: محمد غازينا، قال لهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح - وهو يومئذ كافر مرتد

(1) ب. " هويت "، وأثبت ما في ا، د،.
(2) قصرة: أي هم دون غيرهم.
(3) يقال: ما له سيد ولا لبد، أي لا قليل ولا كثير.
260

" عندهم -: إن عندي رأيا، أن محمدا ليس يغزوكم حتى يعذر إليكم ويخيركم في خصال كلها
أهون عليكم من غزوه، قالوا: ما هي؟ قال: يرسل إليكم أن تدوا قتلى خزاعة، أو تبرءوا
من حلف من نقض العهد وهم بنو نفاثة، أو ينبذ إليكم العهد فقال القوم: أحر بما قال
ابن أبي سرح أن يكون! فقال سهيل بن عمرو: ما خصلة أيسر علينا من أن نبرأ من حلف نفاثة، فقال شيبة بن عثمان العبدري: حطت أخوالك (1) خزاعة، وغضبت لهم! قال
سهيل: وأي قريش لم تلد خزاعة! قال شيبة لا، ولكن ندى قتلى خزاعة فهو أهون
علينا. فقال قريظة بن عبد عمرو: لا والله لا نديهم ولا نبرأ عن نفاثة أبر العرب بنا،
وأعمرهم لبيت ربنا، ولكن ننبذ إليهم على سواء. فقال أبو سفيان: ما هذا بشئ، وما
الرأي إلا جحد هذا الامر أن تكون قريش دخلت في نقض العهد، أو قطع مدة، فإن
قطعه قوم بغير هوى منا ولا مشورة فما علينا! قالوا: هذا هو الرأي، لا رأى إلا الجحد
لكل ما كان من ذلك، فقال: أنا أقسم أنى لم أشهد ولم أوامر، وأنا صادق، لقد كرهت
ما صنعتم، وعرفت أن سيكون له يوم غماس (2)، قالت قريش لأبي سفيان: فاخرج أنت
بذلك، فخرج.
قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عطاء بن أبي مروان، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعائشة صبيحة الليلة التي أوقعت فيها نفاثة وقريش بخزاعة
بالوتير: يا عائشة لقد حدث الليلة في خزاعة أمر، فقالت عائشة: يا رسول الله، أترى قريشا
تجترئ على نقض العهد بينك وبينهم! أينقضون وقد أفناهم السيف! فقال: العهد لأمر يريده
الله بهم، فقالت: خير أم شر يا رسول الله فقال: خير.
قال الواقدي: وحدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثني عمران بن أبي أنس، عن
ابن عباس، قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يجر طرف ردائه ويقول

(1) ب: " إخوانك ". وما أثبته من ا، د.
(2) يوم غموس، أي شديد.
261

لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب - يعنى خزاعة فيما أنصر منه نفسي! ".
قال الواقدي: وحدثني حرام بن هشام، عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
لكأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يقول: جدد العهد وزد في الهدنة وهو راجع بسخطه.
وقال لبني خزاعة عمرو بن سالم وأصحابه: ارجعوا وتفرقوا في الأودية، وقام فدخل على
عائشة وهو مغضب، فدعا بماء فدخل يغتسل، قالت عائشة: فأسمعه يقول وهو يصب الماء على
رجليه: " لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب "!
قال الواقدي: فأما أبو سفيان فخرج من مكة وهو متخوف أن يكون عمرو بن سالم
ورهطه من خزاعة سبقوه إلى المدينة، وكان القوم لما رجعوا من المدينة وأتوا الأبواء تفرقوا
كما أوصاهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فذهبت طائفة إلى الساحل تعارض الطريق، ولزم
بديل بن أم أصرم الطريق في نفر معه فلقيهم أبو سفيان، فلما رآهم أشفق أن يكونوا
لقوا محمدا (صلى الله عليه وآله) بل كان اليقين عنده، فقام للقوم: منذ كم عهدكم بيثرب؟ قالوا: لا عهد لنا بها، فعرف أنهم كتموه، فقال: أما معكم من تمر يثرب
شئ تطعموناه، فإن لتمر يثرب فضلا على تمر تهامة؟ قالوا: لا، ثم أبت نفسه أن
تقر، فقال: يا بديل، هل جئت محمدا؟ قال: لا ولكني سرت في بلاد خزاعة من هذا
الساحل في قتيل كان بينهم حتى أصلحت بينهم. قال: يقول أبو: سفيان إنك - والله
ما علمت - بر واصل. فلما راح بديل وأصحابه جاء أبو سفيان إلى أبعار إبلهم ففتها فإذا فيها
النوى، ووجد في منزلهم نوى من تمر عجوة كأنه ألسنة العصافير، فقال: أحلف بالله لقد
جاء القوم محمدا. وأقبل حتى قدم المدينة، فدخل على النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال:
يا محمد، إني كنت غائبا في صلح الحديبية، فأشدد العهد وزدنا في المدة فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله): ولذلك قدمت يا أبا سفيان قال: نعم قال: فهل كان قبلكم حدث؟
262

فقال: معاذ الله! فقال رسول الله فنحن على موثقنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير
ولا نبدل. فقام من عنده فدخل على ابنته أم حبيبة فلما، ذهب ليجلس على فراش
رسول الله (صلى الله عليه وآله) طوته دونه، فقال: أرغبت بهذا الفراش عنى، أم رغبت
بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأنت امرؤ نجس مشرك.
قال: يا بنية، لقد أصابك بعدي شر، فقالت: إن الله هداني للاسلام، وأنت يا أبت
سيد قريش وكبيرها، كيف يخفى عنك فضل الاسلام، وتعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر
فقال: يا عجبا! وهذا منك أيضا! أأترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد! ثم قام من
عندها فلقي أبا بكر! فكلمه، وقال: تكلم أنت محمدا، وتجير أنت بين الناس. فقال:
أبو بكر: جواري جوار رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم لقي عمر فكلمه بمثل ما كلم
به أبا بكر، فقال عمر: والله لو وجدت السنور تقاتلكم لأعنتها عليكم. قال أبو سفيان:
جزيت من ذي رحم شرا! ثم دخل على عثمان بن عفان فقال له: إنه ليس في القوم
أحد أمس بي رحما منك، فزدني الهدنة وجدد العهد، فإن صاحبك لا يرد عليك أبدا،
والله ما رأيت رجلا قط أشد إكراما لصاحب من محمد لأصحابه، فقال عثمان: جواري
جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو سفيان حتى دخل على فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فكلمها، وقال: أجيري بين الناس، فقالت: إنما أنا امرأة، قال:
إن جوارك جائز، وقد أجارت أختك أبا العاص بن الربيع، فأجاز محمد ذلك. فقالت
فاطمة: ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأبت عليه، فقال: مري أحد هذين
ابنيك يجير بين الناس، قالت: إنهما صبيان، وليس يجير الصبي. فلما أبت عليه أتى
عليا (عليه السلام) فقال: يا أبا حسن، أجر بين الناس وكلم محمدا ليزيد في المدة، فقال
على (عليه السلام): ويحك يا أبا سفيان! إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد عزم
263

ألا يفعل، وليس أحد يستطيع أن يكلمه في شئ يكرهه، قال أبو سفيان: فما الرأي
عندك فتشير لأمري، فإنه قد ضاق على؟ فمرني بأمر ترى أنه نافعي، قال على (عليه السلام)
: والله ما أجد لك شيئا مثل أن تقوم فتجير بين الناس، فإنك سيد كنانة
قال: أترى ذلك مغنيا عنى شيئا؟ قال على: إني لا أظن ذلك والله، ولكني لا أجد
لك غيره. فقام أبو سفيان بين ظهري الناس فصاح: ألا إني قد أجرت بين الناس،
ولا أظن محمدا (1) يحقرني. ثم دحل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد ما أظن
أن ترد جواري! فقال (عليه السلام): أنت تقول ذلك يا أبا سفيان! ويقال: إنه لما صاح
لم يأت النبي (صلى الله عليه وآله) وركب راحلته وانطلق إلى مكة، ويروى أنه أيضا أتى
سعد بن عبادة فكلمه في ذلك: وقال يا أبا ثابت، قد عرفت الذي كان بيني وبينك،
وإني كنت لك في حرمنا جارا، وكنت لي بيثرب مثل ذلك، وأنت سيد هذه المدرة،
فأجر بين الناس، وزدني في المدة. فقال سعد: جواري جوار رسول الله (صلى الله عليه وسلم)،
ما يجير أحد على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فلما انطلق أبو سفيان إلى مكة، وقد
كان طالت غيبته عن قريش وأبطأ، فاتهموه وقالوا: نراه قد صبا واتبع محمدا سرا، وكتم
إسلامه، فلما دخل على هند ليلا قالت: قد احتبست حتى اتهمك قومك، فإن كنت
جئتهم بنجح فأنت الرجل. وقد كان دنا منها ليغشاها، فأخبرها الخبر وقال: لم أجد إلا ما قال
لي على، فضربت برجلها في صدوره وقالت: قبحت من رسول قوم.
قال الواقدي: فحدثني عبد الله بن عثمان، عن أبي سليمان، عن أبيه، قال: لما أصبح
أبو سفيان حلق رأسه عند الصنمين: أساف ونائلة، وذبح لهما، وجعل يمسح بالدم
رؤوسهما، ويقول: لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبى. قال: فعل ذلك
ليبرئ نفسه مما اتهمته قريش به

(1) د: " يجيرني ".
264

قال الواقدي: وقالت قريش لأبي سفيان: ما صنعت؟ وما وراءك؟ وهل جئتنا
بكتاب من محمد وزيادة في المدة؟ فإنا لا نأمن من أن يغزونا، فقال: والله لقد أبى على،
ولقد كلمت عليه أصحابه فما قدرت على شئ منهم، ورموني بكلمة منهم واحدة إلا أن
عليا قال لما ضاقت بي الأمور: أنت سيد كنانة، فأجر بين الناس، فناديت بالجوار،
ثم دخلت على محمد فقلت: إني قد أجرت بين الناس، وما أظن محمدا يرد جواري، فقال
محمد: أنت تقول ذاك يا أبا سفيان! لم يزد على ذلك قالوا: ما زاد على على أن يلعب بك
تلعبا، قال فوالله ما وجدت غير ذلك.
قال الواقدي: فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم،
قال: لما خرج أبو سفيان عن المدينة قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعائشة جهزينا
وأخفى أمرك. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اللهم خذ عن قريش الاخبار والعيون
حتى نأتيهم بغتة وروى أنه قال: اللهم خذ على أبصارهم فلا يروني إلا بغتة ولا يسمعون بي إلا فجأة. قال: وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأنقاب وجعل
عليها الرجال، ومنع من يخرج من المدينة، فدخل أبو بكر على عائشة وهي تجهز رسول
الله (صلى الله عليه وسلم)، تعمل له قمحا سويقا ودقيقا، وتمرا فقال لها: أهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)
بغزو؟ قالت: لا أدرى، قال: إن كان هم بسفر فآذنينا نتهيأ له، قالت:
لا أدرى لعله أراد بنى سليم، لعله أراد ثقيفا أو هوازن! فاستعجمت (1) عليه، فدخل
على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، أردت سفرا؟ قال: نعم، قال:
أفأتجهز؟ قال: نعم، قال: وأين تريد؟ قال: قريشا، وأخف ذلك يا أبا بكر، وأمر
رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس فتجهزوا. وطوى عنهم الوجه الذي يريد، وقال له
أبو بكر: يا رسول الله، أو ليس بيننا وبينهم مدة؟ فقال: إنهم غدروا ونقضوا العهد،

(1) يقال: استعجم عليه، إذا سكت ولم يحر جوابا.
265

فأنا غازيهم، فاطو ما ذكرت لك، فكان الناس بين ظان يظن أنه يريد سليما، وظان
يظن أنه يريد هوازن، وظان يظن أنه يريد ثقيفا، وظان يظن أنه يريد الشام،
وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا قتادة بن ربعي في نفر إلى بطن ليظن الناس
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قدم أمامه أولئك الرجال لتوجهه إلى تلك الجهة، ولتذهب
بذلك الاخبار.
قال الواقدي:: حدثني المنذر بن سعد، عن يزيد بن رومان، قال: لما أجمع رسول
الله (صلى الله عليه وآله) المسير إلى قريش، وعلم بذلك من علم من الناس، كتب حاطب
ابن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمرهم،
وأعطى الكتاب امرأة من مزينة، وجعل لها على ذلك جعلا على أن تبلغه قريشا،
فجعلت الكتاب في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها وخرجت به، وأتى الخبر إلى النبي
(صلى الله عليه وآله) من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا (عليه السلام) والزبير فقال:
أدركا امرأة من مزينة قد كتب معها حاطب كتابا يحذر قريشا، فخرجا وأدركاها بذي الحليفة فاستنزلاها والتمسا الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئا، فقالا لها:
نحلف بالله ما كذب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا كذبنا، ولتخرجن الكتاب
أو لنكشفنك. فلما رأت منهما الجد حلت قرونها، واستخرجت الكتاب فدفعته إليهما فأقبلا به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدعا حاطبا وقال له: ما حملك على هذا؟
فقال: يا رسول الله، والله إني لمسلم مؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني
كنت أمرا ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم.
فقال عمر: قاتلك الله ترى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى
قريش تحذرهم! دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد نافق، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
266

وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم
فقد غفرت لكم! قال الواقدي: فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المدينة
بالألوية المعقودة والرايات بعد العصر من يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان
لم يحل عقده حتى انتهى إلى الصلصل (1)، والمسلمون يقودون الخيل، وقد امتطوا الإبل،
وقدم أمامه الزبير بن العوام في مائتين، قال: فلما كان بالبيداء نظر إلى عنان السماء،
فقال: إني لأرى السحاب تستهل (2) بنصر بنى كعب - يعنى خزاعة.
قال الواقدي وجاء كعب بن مالك ليعلم أي جهة يقصد؟ فبرك بين يديه على
ركبتيه، ثم أنشده:
قضينا من تهامة كل نحب (3) * وخيبر ثم أحمينا السيوفا
فسائلها ولو نطقت لقالت * قواضبهن دوسا أو ثقيفا
فلست بحاضر إن لم تروها * بساحة داركم منها ألوفا
فننتزع الخيام ببطن و ج * ونترك دوركم منها خلوفا.
قال: فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يزد على ذلك، فجعل الناس يقولون:
والله ما بين لك رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا، فلم تزل الناس كذلك حتى نزلوا
بمر الظهران.
قال الواقدي: وخرج العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل من مكة يطلبان
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ظنا منهما أنه بالمدينة يريدان الاسلام، فلقياه بالسقيا.

(1) صلصل: بنواحي المدينة على سبعة أميال منها، نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
خرج من المدينة إلى مكة عام الفتح. ياقوت.
(2) استهل السحاب، إذا كثر انصبابه.
(3) النحب: النذر.
267

قال الواقدي: فلما كانت الليلة التي أصبح فيها بالجحفة رأى فيها أبو بكر في منامه
أن النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه قد دنوا من مكة فخرجت عليهم كلبة تهر (1)
فلما دنوا منها استلقت على قفاها، وإذا أطباؤها (2) تشخب لبنا. فقصها على رسول الله
(صلى الله عليه وآله)، فقال ذهب كلبهم، وأقبل درهم، وهم سائلونا بأرحامهم، وأنتم
لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه. قال الواقدي: وإلى أن وصل مر الظهران لم يبلغ قريشا حرف واحد من حاله، فلما
نزل بمر الظهران أمر أصحابه أن يوقدوا النار، فأوقدوا عشرة آلاف نار، وأجمعت قريش
أن يبعثوا أبا سفيان يتجسس لهم الاخبار، فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء.
قال: وقد كان العباس بن عبد المطلب قال: وا سوء صباح قريش! والله إن دخلها رسول الله
(صلى الله عليه وآله) عنوة إنه لهلاك قريش آخر الدهر،
قال العباس: فأخذت بغله رسول الله
(صلى الله عليه وآله) الشهباء فركبتها، وقلت: ألتمس حطابا أو إنسانا أبعثه إلى قريش فيلقوا
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يدخلها عليهم عنوة، فوالله إني لفي الأراك ليلا
أبتغي ذلك إذ سمعت كلاما يقول: والله إن رأيت كالليلة نارا، قال: يقول بديل بن ورقاء:
إنها نيران خزاعة جاشها (3) الحرب. قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أذل من أن تكون هذه
نيرانها وعسكرها، فعرفت صوته، فقلت: أبا حنظلة! فعرف، صوتي، فقال: لبيك أبا الفضل!
فقلت: ويحك! هذا رسول الله في عشرة آلاف، وهو مصبحكم، فقال: بأبي وأمي، فهل
من حيلة! فقلت: نعم، تركب عجز هذه البغلة، فأذهب بك إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
فإنه إن ظفر بك دون ذلك ليقتلنك، قال: والله أنا أرى ذلك، فركب خلفي، ورحل

(1) تهر: تنبح.
(2) الأطباء: حلمات الضرع من ذات الخف والظلف والحافر.
(3) جاشها الحرب: أفزعها.
268

بديل وحكيم فتوجهت به فلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا
رأوني قالوا: عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على بغلة رسول الله حتى مررت بنار
عمر بن الخطاب، فلما رآني قال: من هذا؟ قلت: العباس، فذهب ينظر فرأى
أبا سفيان خلفي، فقال: أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد
ولا عقد! ثم خرج يشتد نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وركضت البغلة حتى اجتمعنا
جميعا على باب قبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فدخلت ودخل عمر بن الخطاب على
أثرى، فقال عمر: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عقد
ولا عهد، فدعني أضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله، أنى قد أجرته، ثم لزمت رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر فيه
قلت: مهلا يا عمر! فإنه لو كان رجلا من عدى بن كعب ما قلت هذا، ولكنه أحد
بنى عبد مناف. فقال عمر: مهلا يا أبا الفضل، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من
إسلام الخطاب - أو قال: من إسلام رجل من ولد الخطاب - لو أسلم، فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله): اذهب به فقد أجرناه، فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت.
فلما أصبحت غدوت به، فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ويحك يا أبا سفيان!
ألم يأن لك أن تعلم لا إله إلا الله! قال: بأبي أنت ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك!
قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع الله إله آخر لأغنى، قال: يا أبا سفيان ألم يأن لك أن
تعلم أنى رسول الله! قال: بأبي أنت ما أحملك وأكرمك وأعظم عفوك! أما هذه فوالله
إن في النفس منها لشيئا بعد، قال العباس: فقلت ويحك! تشهد وقل لا إله إلا الله
محمد رسول الله قبل أن تقتل. فتشهد. وقال العباس: يا رسول الله. إنك قد عرفت
أبا سفيان وفيه الشرف والفخر، فاجعل له شيئا، فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو
آمن، ومن أغلق داره فهو آمن ثم قال: خذه فاحبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل
269

حتى تمر عليه جنود الله فيراها. قال العباس: فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم
الجبل فحبسته هناك، فقال: أغدرا يا بني هاشم! فقلت له: إن أهل النبوة لا يغدرون،
وإنما حبستك لحاجة، قال: فهلا بدأت بها أولا فأعلمتنيها، فكان أفرخ لروعي! ثم
مرت به القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها فكان أول من مر به خالد بن
الوليد في بنى سليم، وهم ألف، ولهم لواءان يحمل أحدهما العباس بن مرداس والاخر
خفاف بن ندبة، وراية يحملها المقداد، فقال أبو سفيان، يا أبا الفضل، من هؤلاء؟ قال:
هؤلاء بنو سليم، وعليهم خالد بن الوليد، قال: الغلام؟ قال: نعم، فلما حاذى خالد
العباس وأبا سفيان كبر ثلاثا وكبروا معه، ثم مضوا. ومر على أثره الزبير بن العوام في
خمسمائة فيهم جماعة من المهاجرين وقوم من أفناء الناس، ومعه راية سوداء، فلما حاذاهما
كبر: ثلاثا وكبر أصحابه فقال. من هذا؟ قال: هذا الزبير، قال: ابن أختك! قال: نعم،
قال: ثم مرت به بنو غفار في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبو ذر - ويقال: إيماء بن رحضة - فلما
حاذوهما كبروا ثلاثا، قال: يا أبا الفضل: من هؤلاء؟ قال: بنو غفار، قال: ما لي
ولبني غفار! ثم مرت به أسلم في أربعمائة يحمل لواءها يزيد بن الخصيب، ولواء آخر مع
ناجية بن الأعجم، فلما حاذوه كبروا ثلاثا، فسأل عنهم فقال: هؤلاء أسلم، فقال: ما لي
ولأسلم! ما كان بيننا وبينهم ترة قط، ثم مرت بنو كعب بن عمرو بن خزاعة في خمسمائة
يحمل رايتهم بشر بن سفيان، فقال؟: من هؤلاء؟ قال كعب بن عمرو، قال نعم حلفاء
محمد، فلما حاذوه كبروا ثلاثا.. ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية مع النعمان
ابن مقرن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو، فلما حاذوهما كبروا، قال: من
هؤلاء؟ قال: مزينة، قال: يا أبا الفضل، ما لي ولمزينة قد جاءتني تقعقع من شواهقها (1)

(1) الشواهق: الجبال.
270

ثم مرت جهينة في ثمانمائة، فيها أربعة ألوية مع معبد بن خالد، وسويد بن صخر،
ورافع بن مكيث، وعبد الله بن بدر، فلما حاذوه كبروا ثلاثا فسأل عنهم، فقيل
جهينة. ثم مرت بنو كنانة وبنو ليث وضمرة وسعد بن أبي بكر في مائتين، يحمل لواءهم
أبو واقد الليثي، فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم أهل
شؤم هؤلاء الذين غزانا محمد لأجلهم! أما والله ما شوورت فيهم، ولا علمته، ولقد كنت
له كارها حيث بلغني، ولكنه أمر حم (1)، قال العباس، لقد خار الله لك في غزو محمد
إياكم، ودخلتم في الاسلام كافة، ثم مرت أشجع - وهم آخر من مر به قبل أن تأتى
كتيبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهم ثلاثة يحمل لواءهم معقل بن سنان، ولواء آخر مع
نعيم بن مسعود فكبروا - قال: من هؤلاء؟ قال: أشجع، فقال: هؤلاء كانوا أشد
العرب على محمد، قال العباس: نعم، ولكن الله أدخل الاسلام قلوبهم، وذلك من
فضل الله. فسكت وقال: أما مر محمد بعد؟ قال: لا ولو رأيت الكتيبة التي هو فيها
لرأيت الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحد به طاقة، فلما طلعت كتيبة رسول الله
(صلى الله عليه وآله) الخضراء طلع سواد شديد وغبرة من سنابك الخيل، وجعل الناس
يمرون، كل ذلك يقول: أما مر محمد بعد؟ فيقول العباس: لا، حتى مر رسول الله
(صلى الله عليه وآله) يسير على ناقته القصوى بين أبى بكر وأسيد بن حضير، وهو يحدثهما
وقال له العباس: هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كتيبته الخضراء، فانظر، قال:
وكان في تلك الكتيبة وجوه المهاجرين و الأنصار وفيها الألوية والرايات، وكلهم منغمسون
في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، ولعمر بن الخطاب فيها زجل (2) وعليه الحديد،
وصوته عال وهو يزعها فقال يا أبا الفضل من هذا المتكلم قال هذا

(1) حم، أي وقع.
(2) زجل، أي صوت.
271

عمر بن الخطاب، قال لقد أمر أمر بنى عدى بعد قلة وذلة!
فقال: إن الله يرفع من يشاء
بما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الاسلام، وكان في الكتيبة ألفا دارع، وراية رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) مع سعد بن عبادة وهو أمام الكتيبة، فلما حاذاهما سعد نادى:
يا أبا سفيان:
اليوم يوم الملحمة * اليوم تسبى الحرمة
اليوم أذل الله قريشا، فلما حاذاهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ناداه أبو سفيان:
يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟ إن سعدا قال:
اليوم يوم الملحمة * اليوم تسبى الحرمة
اليوم أذل الله قريشا، وإني أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس، وأرحم الناس،
وأوصل الناس. فقال عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، إنا لا نأمن
سعدا أن يكون له في قريش صولة فوقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وناداه، يا أبا
سفيان، بل اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشا، وأرسل إلى سعد فعزله عن اللواء.
واختلف فيمن دفع إليه اللواء فقيل دفعه إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فذهب
به حتى دخل مكة، فغرزه عند الركن - وهو قول ضرار بن الخطاب الفهري - وقيل: دفعه
إلى قيس بن سعد بن عبادة ورأي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم يخرجه عن
سعد حيث دفعه إلى ولده، فذهب به حتى غرزه بالحجون، قال: وقال أبو سفيان للعباس:
ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط، ولا أخبرنيه مخبر، سبحان الله! ما لأحد بهؤلاء طاقة
ولا يدان! لقد أصبح ملك ابن أخيك يا عباس عظيما، قال: فقلت: ويحك! إنه ليس
بملك، وإنها النبوة، قال: نعم.
قال الواقدي: قال العباس: فقلت له: انج ويحك، فأدرك قومك قبل أن يدخل
272

عليهم، فخرج أبو سفيان حتى دخل من كداء وهو ينادى: من دخل دار أبي سفيان فهو
آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، حتى انتهى إلى هند بنت عتبة فقالت: ما وراءك؟
قال: هذا محمد في عشره آلاف، عليهم الحديد، وقد جعل لي أنه من دخل داري فهو آمن،
ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، فقالت: قبحك الله من رسول
قوم! وجعلت تقول: ويحكم اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم! فيقول أبو سفيان:
ويحكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإني رأيت ما لم تروا: الرجال، والكراع،
والسلاح، ليس لأحد بهذا طاقة، محمد في عشرة آلاف، فأسلموا تسلموا. وقال المبرد في
" الكامل ": أمسكت هند برأس أبي سفيان وقالت: بئس طليعة القوم! والله ما خدشت
خدشا، يا أهل مكة، عليكم الحميت الدسم فاقتلوه. قال الحميت: الزق المزفت.
قال الواقدي: وخرج أهل مكة إلى ذي طوى ينظرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانضوى
إلى صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ناس من أهل مكة ومن
بنى بكر وهذيل، فلبسوا السلاح، وأقسموا لا يدخل محمد مكة عنوة أبدا. وكان رجل من
بنى الدؤل يقال له: حماس بن قيس بن خالد الدؤلي لما سمع برسول الله (صلى الله عليه وآله)
جلس يصلح سلاحه، فقالت له امرأته: لم تعد السلاح؟ قال: لمحمد وأصحابه، وإني لأرجو
أن أخدمك منهم خادما، فإنك إليه محتاجة، قالت: ويحك لا تفعل! لا تقال محمدا،
والله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمدا وأصحابه، قال: سترين، وأقبل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وهو على ناقته القصواء معتجرا (1) ببرد حبرة، وعليه عمامة سوداء، ورايته
سوداء، ولواؤه أسود، حتى وقف بذي طوى، وتوسط الناس، وإن عثنونه ليمس واسطة
الرحل، أو يقرب منه تواضعا لله حيث رأى ما رأى من الفتح وكثرة المسلمين وقال لا عيش الا عيش الآخرة.
273

وجعلت الخيل تعج بذي طوى في كل وجه، ثم ثابت وسكنت، والتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أسيد بن حضير، فقال كيف قال حسان بن ثابت؟
قال: فأنشده:
عدمنا خيلنا إن لم تروها * تثير النقع موعدها كداء (1)
تظل جيادنا متمطرات * تلطمهن بالخمر النساء (2).
فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحمد الله، وأمر الزبير بن العوام أن يدخل من
كداء، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط، وأمر قيس بن سعد أن يدخل من
كدي، ودخل هو (صلى الله عليه وآله) من أذاخر.
قال الواقدي: وحدثني مروان بن محمد عن عيسى بن عميلة الفزاري، قال: دخل
رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة بين الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن.
قال الواقدي: وروى عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله، عن أسماء بنت أبي
بكر، قالت: صعد أبو قحافة بصغرى بناته واسمها قريبة، وهو يومئذ أعمى، وهي
تقوده حتى ظهرت به إلى أبى قبيس، فلما أشرفت به قال: يا بنية، ماذا ترين؟ قالت:
أرى سوادا مجتمعا مقبلا كثيرا! قال: يا بنية، تلك الخيل فانظري، ماذا ترين؟ قالت:
أرى رجلا يسعى بين ذلك السواد مقبلا ومدبرا، قال: ذاك الوازع، فانظري ما ذا ترين؟
قالت: قد تفرق السواد، قال قد تفرق الجيش، البيت البيت، قالت: فنزلت الجارية
به وهي ترعب لما ترى، فقال: يا بنية، لا تخافي، فوالله إن أخاك عتيقا لآثر
أصحاب محمد عند محمد، قالت: وعليها طوق من فضة، فاختلسه بعض من دخل،

(1) ديوانه 5 والنقع: الغبار.
(2) متمطرات: مسرعات. والخبر: جمع خمار.
274

فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة جعل أبو بكر ينادى:: أنشدكم الله أيها
الناس طوق أختي، فلم يرد أحد عليه، فقال يا أخيه احتسبي طوقك فان الأمانة في الناس
قليل.
قال الواقدي: ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الحرب، وأمر بقتل ستة رجال
وأربع نسوة عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح،
ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نفيل، وعبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي،
وهند بنت عتبة وسارة مولاه لبني هاشم، وقينتين لابن خطل: قريبا وقريبة، ويقال:
قرينا وأرنب.
قال الواقدي. ودخلت الجنود كلها، فلم تلق حربا إلا خالد بن الوليد فإنه وجد
جمعا من قريش وأحابيشها قد جمعوا له، فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل،
وسهيل بن عمرو، فمنعوه الدخول، وشهروا السلاح، ورموه بالنبل، وقالوا: لا تدخلها
عنوة أبدا، فصاح خالد في أصحابه، وقاتلهم، فقتل من قريش أربعة وعشرون، ومن
هذيل أربعة، وانهزموا أقبح انهزام حتى قتلوا بالحزورة، وهم مولون من كل وجه،
وانطلقت طائفة منهم فوق رؤوس الجبال، واتبعهم المسلمون، وجعل أبو سفيان بن حرب
وحكيم بن حزام يناديان: يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو
آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، فجعل الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم الأبواب، ويطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذه المسلمون.
قال الواقدي وأشرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من على ثنية أذاخر، فنظر إلى
البارقة فقال: ما هذه البارقة؟ ألم أنه عن القتال؟ قيل: يا رسول الله، خالد بن الوليد
275

قوتل، ولو لم يقاتل ما قاتل، فقال: قضاء الله خير، وأقبل ابن خطل مدججا في الحديد
على فرس ذنوب (1) بيده قناة يقول: لا والله لا يدخلها عنوة حتى يرى ضربا كأفواه
المزاد، فلما انتهى إلى الخندمة ورأي القتال دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة،
ومر هاربا حتى انتهى إلى الكعبة، فدخل بين أستارها بعد أن طرح سلاحه وترك فرسه،
وأقبل حماس بن خالد الدؤلي منهزما حتى أتى بيته فدقه، ففتحت له امرأته فدخل، وقد ذهبت
روحه، فقالت: أين الخادم التي وعدتني؟ ما زلت منتظرتك منذ اليوم، تسخر به، فقال: دعى هذا وأغلقي الباب، فإنه من أغلق بابه فهو آمن، قالت: ويحك! ألم أنهك
عن قتال محمد! وقلت لك: إني ما رأيته يقاتلكم مرة إلا وظهر عليكم، وما بابنا؟ قال:
إنه لا يفتح على أحد بابه، ثم أنشدها (2):
إنك لو شهدتنا بالخندمه * إذ فر صفوان وفر عكرمة
وأبو يزيد كالعجوز المؤتمه * وضربناهم بالسيوف المسلمة (3)
لهم زئير خلفنا وغمغمه * لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه (4)
قال الواقدي: وحدثني قدامة بن موسى، عن بشير مولى المازنيين عن جابر بن
عبد الله، قال: كنت ممن لزم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يومئذ، فدخلت معه يوم
الفتح من أذاخر، فلما أشرف نظر إلى بيوت مكة، فحمد الله وأثنى عليه، ونظر إلى موضع
قبة بالأبطح تجاه شعب بني هاشم حيث حصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأهله ثلاث

(1) ذنوب. وافر الذنب بالتحريك.
(2) سيرة ابن هشام 4: 27.
(3) المؤتمة: التي قتل زوجها فبقي لها أولاد أيتام، والمسلمة، أراد المسلمين، وبعده في ابن هشام:
يقطعن كل ساعد وجمجمه * ضربا فلا يسع إلا غمغمه
(4) ابن هشام: " لهم نهيت ".
276

سنين، وقال: يا جابر، إن منزلنا اليوم حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها، قال جابر:
فذكرت كلاما كنت أسمعه في المدينة قبل ذلك، كان يقول: منزلنا غدا إن شاء الله إذا
فتح علينا مكة في الخيف حيث تقاسموا على الكفر.
قال الواقدي: وكانت قبته يومئذ بالأدم ضربت له بالحجون، فأقبل حتى انتهى إليها
ومعه أم سلمة وميمونة
قال الواقدي: وحدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي رافع،
قال: قيل للنبي (صلى الله عليه وآله) ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: وهل ترك
لنا عقيل من منزل! وكان عقيل قد باع منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنازل
إخوته من الرجال والنساء بمكة، فقيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): فأنزل في بعض
بيوت مكة من غير منازلك. فأبى وقال: لا أدخل البيوت، فلم يزل مضطربا بالحجون لم
يدخل بيتا، وكان يأتي إلى المسجد من الحجون، قال: وكذلك فعل في عمرة
القضية وفى حجته.
قال الواقدي: وكانت أم هانئ بنت أبي طالب تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي فلما
كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها: عبد الله بن أبي ربيعة والحارث بن هشام
المخزوميان، فاستجارا بها، وقالا نحن في جوارك، فقالت: نعم أنتما في جواري. قالت
أم هانئ: فهما عندي إذ دخل على فارس مدجج في الحديد ولا أعرفه، فقلت له، أنا بنت
عم رسول الله، فأسفر عن وجهه، فإذا على أخي فاعتنقته، ونظر إليهما فشهر السيف
عليهما، فقلت: أخي من بين الناس تصنع بي هذا؟ فألقيت عليهما ثوبا، فقال:
أتجيرين المشركين! فحلت دونهما، وقلت: لا والله وابتدئ بي قبلهما، قالت: فخرج ولم
يكد، فأغلقت عليهما بيتا، وقلت: لا تخافا، و ذهبت إلى خباء رسول الله (صلى الله عليه وآله)
277

بالبطحاء فلم أجده، ووجدت فيه فاطمة فقلت: لها: ما لقيت من ابن أمي على!
أجرت حموين لي من المشركين، فتفلت عليهما ليقتلهما، قالت، وكانت أشد على من
زوجها، وقالت: لم تجيرين المشركين! وطلع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعليه الغبار
فقال: مرحبا بفاختة - وهو اسم أم هانئ - فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي على ما كدت
أفلت منه! أجرت حموين لي من المشركين، فتفلت عليهما ليقتلهما، فقال: ما كان ذلك
له، قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت، ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلا فاغتسل، ثم
صلى ثماني ركعات في ثوب واحد ملتحفا به وقت الضحى، قالت: فرجعت إليهما وأخبرتهما،
وقلت: إن شئتما فأقيما، وإن شئتما فارجعا إلى منازلكما، فأقاما عندي في منزلي يومين، ثم
انصرفا إلى منازلهما.
وأتى آت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: إن الحارث بن هشام وعبد الله
ابن أبي ربيعة جالسان في ناديهما متفضلان في الملاء المزعفر، فقال: لا سبيل
إليهما، قد أجرناهما.
قال الواقدي: ومكث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبة ساعة من النهار، ثم
دعا براحلته بعد أن اغتسل وصلى، فأدنيت إلى باب القبة وخرج وعليه السلاح والمغفر
على رأسه، وقد صف له الناس، فركبها والخيل تمعج (1) ما بين الخندمه إلى الحجون، ثم
مر وأبو بكر إلى جانبه على راحلة أخرى يسير ويحادثه، وإذا بنات أبى
أحيحة سعيد بن العاص بالبطحاء حذاء منزل أبى أحيحة، وقد نشرن شعورهن، فلطمن
وجوه الخيل بالخمر، فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أبى بكر، فتبسم وأنشده
قول حسان

(1) تمعج: تسرع.
278

تظل جيادنا متمطرات * تلطمهن بالخمر النساء
فلما انتهى إلى الكعبة تقدم على راحلته، فاستلم الركن بمحجنه، وكبر فكبر
المسلمون لتكبيره، وعجوا بالتكبير حتى ارتجت مكة، وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يشير إليهم أن اسكتوا، والمشركون فوق الجبال ينظرون، ثم طاف بالبيت على
راحلته، ومحمد بن مسلمة آخذ بزمامها، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما مرصوصة
بالرصاص، وكان هبل أعظمها، وهو تجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون
ويذبحون الذبائح، فجعل كلما يمر بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول: (جاء الحق
وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)، فيقع الصنم لوجهه، ثم أمر بهبل فكسر وهو
واقف عليه، فقال الزبير لأبي سفيان: يا أبا سفيان، قد كسر هبل، أما إنك قد كنت منه
يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم، فقال: دع هذا عنك يا بن العوام فقد أرى ان لو كان
مع إله محمد غيره لكان غير ما كان.
قال الواقدي: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ناحية من المسجد وأرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يأتيه بالمفتاح مفتاح الكعبة، فقال عثمان: نعم، فخرج إلى
أمه وهي بنت شيبة، فقال لها والمفتاح عندها يومئذ: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قد طلب المفتاح، فقالت: أعيذك بالله أن يكون الذي يذهب مأثرة قومه على يده! فقال:
فوالله لتأتيني به أو ليأتينك غيري فيأخذه منك، فأدخلته في حجرتها، وقالت أي
رجل يدخل يده هاهنا! فبينما هما على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبى بكر وعمر
في الدار، وعمر رافع صوته حين رأى عثمان أبطأ: يا عثمان اخرج، فقالت أمه: خذ المفتاح،
فلان تأخذه أنت أحب إلى من أن يأخذه تيم وعدي، فأخذه فأتى به رسول الله
(صلى الله عليه وآله)، فلما تناوله بسط العباس بن عبد المطلب يده وقال: يا رسول الله، بأبي أنت! أجمع
لنا بين السقاية والحجابة، فقال: إنما أعطيكم ما ترضون فيه، ولا أعطيكم ما ترزءون منه،
279

قالوا: وكان عثمان بن طلحة قد قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع خالد بن الوليد
وعمرو بن العاص مسلما قبل الفتح.
قال الواقدي: وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمر بن الخطاب ومعه عثمان بن
طلحة، وأمره أن يفتح البيت فلا يدع فيه صورة ولا تمثالا إلا صورة إبراهيم
الخليل (عليه السلام)، فلما دخل الكعبة رأى صورة إبراهيم شيخا كبيرا يستقسم
بالأزلام.
قال الواقدي: وقد روى أنه أمره بمحو الصور كلها لم يستثن، فترك عمر صورة إبراهيم،
فقال لعمر: ألم آمرك ألا تدع فيها صورة! فقال عمر: كانت صورة إبراهيم، قال فامحها، وقال: قاتلهم الله، جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام!
. قال: ومحا صورة مريم. قال وقد روى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) محا الصور
بيده، روى ذلك ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد، قال: دخلت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكعبة، فرأى
فيها صورا، فأمرني أن آتيه في الدلو بماء، فجعل يبل به الثوب ويضرب به الصور ويقول:
" قاتل الله قوما يصورون مالا يخلقون! "
قال الواقدي: وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالكعبة فأغلقت عليه،
ومعه فيها أسامة بن زيد، وبلال بن رباح وعثمان بن طلحة، فمكث فيها ما شاء الله،
وخالد بن الوليد واقف على الباب يذب الناس عنه، حتى خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله)
، فوقف وأخذ بعضادتي (2) الباب، وأشرف على الناس وفي يده المفتاح، ثم جعله
في كمه، وأهل مكة قيام تحته، وبعضهم جلوس قد ليط بهم، فقال الحمد لله الذي

(1) الأزلام: القداح.
(2) عضادتا الباب: جانباه.
280

صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ماذا تقولون؟ وما ذا تظنون؟ قالوا:
نقول خيرا، ونظن شرا! أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال: إني أقول كما قال أخي يوسف: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)
ألا أن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة
وسقاية الحاج. إلا وفى قتيل شبه العمد، قتيل العصا والسوط الدية مغلظة مائة ناقة، منها
أربعون في بطونها أولادها. إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم
لآدم، وآدم من تراب. وأكرمكم عند الله أتقاكم. ألا إن الله حرم مكة يوم خلق
السماوات والأرض، فهي حرام بحرم الله، لم تحل لأحد كان قبل، ولا تحل لأحد يأتي
بعدي، وما أحلت لي إلا ساعة من النهار - قال: يقصدها رسول الله صلى الله عليه وآله
بيده هكذا - لا ينفر صيدها، ولا يعضد عضاهها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يختلى
خلاها. فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لابد منه للقبور والبيوت، فسكت
رسول الله صلى الله عليه وآله ساعة ثم قال ألا الإذخر، فإنه حلال، ولا وصية لوارث، والولد
للفراش، وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة أن تعطى من مالها إلا باذن زوجها،
والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، يد واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يسعى
بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده،
ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، والبينة
على من ادعى، واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم
ولا صلاة بعد العصر، ولا بعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين: يوم الأضحى ويوم
الفطر. ثم قال: ادعوا لي عثمان بن طلحة فجاء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله
قال له يوما بمكة قبل الهجرة ومع عثمان المفتاح: لعلك المفتاح بيدي يوما أضعه
حيث شئت، فقال عثمان: لقد هلكت قريش إذا وذلت! فقال عليه السلام بل عمرت
وعزت، قال عثمان: فلما دعاني يومئذ والمفتاح بيده ذكرت قوله حين قال، فاستقبلته
281

ببشر، فاستقبلني بمثله، ثم قال: خذوها يا بنى أبى طلحة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم
إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف قال عثمان: فلما وليت
ناداني فرجعت، فقال: ألم يكن الذي قلت لك! يعنى ما كان قاله بمكة من قبل، فقلت:
بلى أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال الواقدي: وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ برفع السلاح، وقال:
إلا خزاعة عن بنى بكر إلى صلاة العصر. فخبطوهم بالسيف ساعة، وهي الساعة التي
أحلت لرسول الله صلى الله عليه وآله.
قال الواقدي: وقد كان نوفل بن معاوية الدؤلي من بني بكر استأمن رسول الله صلى الله عليه وآله
على نفسه، فأمنه، وكانت خزاعة تطلبه ب‍ دماء من قتلت بكر وقريش منها
بالوتير، وقد كانت خزاعة قالت أيضا لرسول الله صلى الله عليه وآله: إن أنس بن زنيم
هجاك، فهدر رسول الله صلى الله عليه وآله دمه، فلما فتح مكة هرب والتحق بالجبال،
وقد كان قبل أن يفتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة قال شعرا يعتذر فيه إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله، من جملته:
أنت الذي تهدى معد بأمره * بك الله يهديها وقال لها ارشدي
فما حملت من ناقة فوق كورها * أبر وأوفى ذمة من محمد
أحث على خير وأوسع نائلا * إذا راح يهتز اهتزاز المهند
وأكسى لبرد الخال قبل ارتدائه * وأعطى لرأس السابق المتجرد
تعلم رسول الله أنك مدركي * وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
تعلم رسول الله أنك قادر * على كل حي من تهام ومنجد
ونبي رسول الله أنى هجوته * فلا رفعت سوطي إلى إذن يدي
سوى أنني قد قلت يا ويح فتية * أصيبوا بنحس يوم طلق وأسعد!
282

أصابهم من لم يكن لدمائهم * كفاء فعزت عبرتي وتلددي
ذؤيبا وكلثوما وسلمى تتابعوا * جميعا فإلا تدمع العين أكمد
على أن سلمى ليس منهم كمثله * وإخوته وهل ملوك كأعبد!
فإني لا عرضا خرقت ولا دما * هرقت ففكر عالم الحق واقصد
قال الواقدي: وكانت كلمته هذه قد بلغت رسول الله صلى الله عليه وآله قبل أن يفتح
مكة، فنهنهت عنه، وكلمه يوم الفتح نوفل بن معاوية الدؤلي، فقال: يا رسول الله
أنت أولى الناس بالعفو، ومن منا لم يعادك ولم يؤذك، ونحن في جاهلية لا ندري ما
نأخذ وما ندع، حتى هدانا الله بك، وأنقذنا بيمنك من الهلكة، وقد كذب عليه
الركب، وكثروا في أمره عندك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: دع الركب عنك،
إنا لم نجد بتهامة أحدا من ذوي رحم ولا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة، فاسكت
يا نوفل، فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قد عفوت عنه فقال نوفل:
فداك أبي وأمي.
قال الواقدي: وجاءت الظهر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بلالا أن يؤذن
فوق ظهر الكعبة وقريش في رؤوس الجبال، ومنهم من قد تغيب وستر وجهه خوفا من أن
يقتلوا ومنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد أمن، فلما أذن بلال وبلغ إلى قوله:
" أشهد أن محمدا رسول الله "، صلى الله عليه وآله رفع صوته كأشد ما يكون، قال: تقول
جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك فأما الصلاة فسنصلي، ولكن والله
لا نحب من قتل الأحبة أبدا، ولقد كان جاء أبى الذي جاء محمدا من النبوة، فردها ولم
يرد خلاف قومه.
وقال خالد بن سعيد بن العاص: الحمد لله الذي أكرم أبى فلم يدرك هذا اليوم،
283

وقال الحارث بن هشام: وا ثكلاه! ليتني مت قبل هذا اليوم قبل أن أسمع بلالا ينهق
فوق الكعبة!
وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث العظيم، أن يصيح عبد
بنى جمح، يصيح بما يصيح به على بيت أبى طلحة، وقال سهيل بن عمرو، إن كان هذا
سخطا من الله تعالى فسيغيره، وإن كان لله رضا فسيقره، وقال أبو سفيان أما أنا فلا أقول
شيئا، لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء، قال: فأتى جبرئيل عليه السلام رسول الله
صلى الله عليه وآله فأخبره مقالة القوم.
قال الواقدي: فكان سهيل بن عمرو يحدث فيقول: لما دخل محمد مكة انقمعت
فدخلت بيتي وأغلقته على، وقلت لابني عبد الله بن سهيل: أذهب فاطلب لي جوارا
من محمد، فإني لا آمن أن أقتل، وجعلت أتذكر أثرى عنده وعند أصحابه فلا أرى أسوا أثرا
منى، فإني لقيته يوم الحديبية بما لم يلقه أحد به، وكنت الذي كاتبه، مع حضوري
بدرا وأحدا، وكلما تحركت قريش كنت فيها، فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، أبى تؤمنه! قال: نعم، هو آمن بأمان الله،
فليظهر، ثم التفت إلى من حوله فقال: من لقي سهيل بن عمرو فلا يشدن النظر إليه،
ثم قال: قل له: فليخرج، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل
الاسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه إن لم يكن له تتابع، فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره
بمقالة رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال سهيل: كان والله برا صغيرا وكبيرا، وكان
سهيل يقبل ويدبر غير خائف، وخرج إلى خيبر مع النبي صلى الله عليه وآله وهو على
شركه حتى أسلم بالجعرانة.
تم الجزء السابع عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
ويليه الجزء الثامن عشر
284