الكتاب: المواقف
المؤلف: الإيجي
الجزء: ٣
الوفاة: ٧٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: عبد الرحمن عميرة
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٧ - ١٩٩٧م
المطبعة: لبنان - بيروت - دار الجيل
الناشر: دار الجيل
ردمك:
ملاحظات:

الموقف الخامس في الإلهيات وفيه سبعة مراصد
5

المرصد الأول في الذات
وفيه مقاصد
المقصد الأول في إثبات الصانع
وفيه مسالك
المتن
المسلك الأول للمتكلمين قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض
وقد يستدل بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه
فهذه وجوه أربعة
الأول الاستدلال بحدوث الجواهر
وهو أن العالم حادث وكل حادث فله محدث
الثاني بإمكانها
وهو أن العالم ممكن لأنه مركب وكثير
وكل ممكن فله علة مؤثرة
7

الثالث بحدوث الأعراض
مثل ما نشاهد من انقلاب النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما ودما
إذ لا بد من مؤثر صانع حكيم
الرابع بإمكان الأعراض
وهو أن الأجسام متماثلة
فاختصاص كل بما له من الصفات جائر
فلا بد في التخصيص من مخصص له
ثم بعد هذه الوجوه نقول مدبر العالم إن كان واجب الوجود فهو المطلوب
وإلا كان ممكنا فله مؤثر
ويعود الكلام فيه
ويلزم إما الدور أو التسلسل
وإما الانتهاء إلى مؤثر واجب الوجود لذاته
والأول بقسميه باطل لما مر
فتعين الثاني
وهو المطلوب
المسلك الثاني للحكماء وهو أن موجودا فإن كان واجبا فذاك
وإن كان ممكنا احتاج إلى مؤثر ولا بد من الانتهاء إلى الواجب
وإلا لزم الدور أو التسلسل
وفي هذا طرح لمؤنات كثيرة كما ترى
المسلك الثالث لبعض المتأخرين جميع الممكنات من حيث هو جميع ممكن لاحتياجه إلى أجزائه التي هي غيره
فله علة
وهي لا تكون نفس ذلك المجموع إذ العلة متقدمة على المعلول ويمتنع تقدم الشيء على نفسه ولا تكون جزءه إذ علة الكل علة لكل جزء فيلزم أن يكون علة المجموع علة لنفسه ولعلله
فإذا هو أمر خارج عنه
والخارج عن جميع الممكنات واجب لذاته
وهو المطلوب
واعترض عليه بوجوه
الأول المجموع يشعر بالتناهي
فإثباته به مصادرة على المطلوب
والجواب أن المراد به هو الممكنات بحيث لا يخرج عنها شيء منها
وذلك متصور في غير المتناهي
الثاني إن أردت بالمجموع كل واحد فعلته ممكن آخر متسلسلا إلى غير النهاية
وإن أردت به الكل المجموعي فلا نسلم أنه موجود إذ أوليس
ثمة هيئة اجتماعية
8

والجواب أنا نريد الكل من حيث هو كل
ولا حاجة إلى اعتبار الهيئة الاجتماعية كما في مجموع العشرة
الثالث إن أردت بالعلة التامة فلم لا يجوز أن تكون نفسه قولك العلة متقدمة
قلنا لا نسلم ذلك في التامة
فإنها مجموع أمور كل واحد منها مفتقر إليه
ولا يلزم من تقدم كل واحد تقدم الكل كما أن كل واحد من الأجزاء متقدم على الماهية
ومجموعها هو نفس الماهية
وإن أردت بها الفاعل فلم لا يجوز أن يكون جزءه قولك لأنه علة لكل جزء
قلنا ممنوع ولم لا يجوز أن يكون بعض الأجزاء بلا علة أو بعلة أخرى
والجواب أن المراد الفاعل المستقل بالفاعلية
وهو في مجموع كل جزء منه ممكن لا بد أن يكون فاعلا لكل
وإلا وقع بعض أجزائه بفاعل آخر
فإذا قطع النظر عنه لم تحصل الماهية فلم يكن فاعلا مستقلا
فإن قيل هذا منقوض بالمركب من الواجب والممكن وأيضا لو كان فاعل الكل فاعلا لكل جزء للزم في مركب في أجزائه ترتب زماني إما تقدم المعلول على علته أو تخلف المعلول عن علته
قلت الجواب عن الأول أنا قيدناه بما كل جزء منه ممكن فاندفع النقض
وعن الثاني الثاني أن التخلف عن العلة الفاعلية لا يمتنع
كيف والمراد أن علته لا تكون خارجة عن علة الكل وبذلك يتم مقصودنا
ولا
9

يلزم ما ذكرتم إذ قد تكون علة كل جزء جزء علة الكل بحيث يكون الكل علة الكل
المسلك الرابع وهو مما وفقنا لاستخراجه أن الموجودات لو كانت بأسرها ممكنة لاحتاج الكل إلى موجد مستقل يكون ارتفاع الكل مرة
بألا يوجد الكل ولا واحد من أجزائه أصلا
ممتنعا بالنظر إلى وجوده
إذ ما لا يمنع جميع أنحاء العدم لا يكون موجبا للوجود
والذي إذا فرض عدم جميع الأجزاء كان ممتنعا نظرا إلى وجوده يكون خارجا عن المجموع فيكون واجبا
وهو المطلوب
المسلك الخامس وهو قريب مما قبله لو لم يوجد واجب لذاته لم يوجد واجب لغيره
فيلزم ألا يوجد موجود
أما الأول فلأن ارتفاع الجميع مرة لا يكون ممتنعا لا بالذات ولا بالغير
وأما الثاني فلأن ما لم يجب إما بالذات وإما بالغير لا يوجد كما تقدم
وقد ذكر ههنا شبهات كثيرة حاصلها عائد إلى أمر واحد
وهو أن يوجد ههنا وفي كل مسألة تراد مذهبان متقابلان فيردد بينهما ترديدا مانعا من الخلو
ثم يبطل كل واحد منهما بدليل الآخر ليلزم نفي القدر المشترك
وحلها إجمالا هو القدح في دليل الطرف الضعيف من المذهبين أو في دليلهما إن أمكن
إذ قد يكون دليل الطرفين ضعيفا
ولا يلزم من بطلان دليلهما بطلانهما
ولنذكر منها عدة
الأولى لو كان الواجب موجودا لكان وجوده إما نفس ماهيته أو زائدا عليها
والأول باطل
لأن الوجود مشترك كما مر
والماهية غير مشتركة
والثاني باطل
وإلا كان وجوده معلول ماهيته فتتقدم عليه بالوجود
والجواب وجوده نفسه
ونمنع الاشتراك
بل المشترك الوجود بمعنى
10

الكون في الأعيان وأملنا صدق عليه الوجود فلا كالماهية والتشخص
أو وجوده غيره
وتقدم الماهية عليه أوليس
بالوجود كما تقدم
الثانية لو كان موجودا لكان إما مختارا أو موجبا
والأول باطل
لأن العالم قديم بدليله
والقديم لا يستند إلى المختار
والثاني باطل
وإلا لزم قدم الحادث اليومي أو التسلسل
والجواب لا نسلم أن العالم قديم
وقد مر ضعف دلائله
الثالثة لو كان موجودا لكان إما عالما بالجزئيات أو لا
والأول باطل
وإلا لزم التغير فيه لتغير المعلوم فلا يكون واجبا
والثاني باطل لأنا نعلم أن هذه الأفعال المتقنة لا تستند إلى عديم العلم
والجواب نختار أنه عالم بالجزئيات والتغير في الإضافات لا في الذات
وأنه جائز كما سيأتي
ولنقتصر على هذا القدر
فإن هذا منشأ للشبهات التي طول بها الكتب وعد ذلك تبحرا في العلوم
وعليك بعد الاهتداء إليه أن توقر من أمثاله الأباعر
خاتمة لما ثبت أن الصانع تعالى واجب فقد ثبت أنه أزلي أبدي
ولا حاجة إلى جعله مسألة برأسها
والمتكلمون إنما احتجوا عليه قبل إثبات ذلك
وعنه غنى
فلا نطول به الكتاب
الشرح
الموقف الخامس في الإلهيات التي هي المقصد الأعلى في هذا العلم وفيه سبعة مراصد لا خمسة كما وقع في بعض النسخ
11

المرصد الأول في الذات
وفيه مقاصد ثلاثة
المقصد الأول في إثبات الصانع
وللقوم فيه مسالك خمسة
المسلك الأول للمتكلمين قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض
وقد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه بناء على أن علة الحاجة عندهم إما الحدوث وحده
أو الإمكان مع الحدوث شرطا أو شطرا فهذه وجوه أربعة
الأول الاستدلال بحدوث الجواهر
قيل هذه طريقة الخليل صلوات الرحمن وسلامه عليه حيث قال * (لا أحب الآفلين) *
وهو أن العالم الجوهري
أي المتحيز بالذات حادث كما مر وكل حادث فله محدث كما تشهد به بديهة العقل
فإن من رأى بناء رفيعا حادثا جزم بأن له بانيا
وذهب أكثر مشايخ المعتزلة إلى أن هذه المقدمة استدلالية
واستدلوا عليها تارة بأن أفعالنا محدثة ومحتاجة إلى الفاعل لحدوثها
فكذا الجواهر المحدثة لأن علة الاحتياج مشتركة وأخرى بأن الحادث قد اتصف بالوجود بعد العدم
فهو قابل لهما فيكون ممكنا
وكل ممكن يحتاج في ترجيح وجوده على عدمه إلى مؤثر كما سلف في الأمور العامة
الثاني الاستدلال بإمكانها
وهو أن العالم الجوهري ممكن لأنه مركب من الجواهر الفردة إن كان جسما
وكثير إن كان جسما أو جوهرا فردا
والواجب لا تركيب فيه
ولا كثرة بل هو واحد حقيقي
وكل ممكن فله علة مؤثرة
الثالث الاستدلال بحدوث الأعراض أما في الأنفس مثل ما نشاهد
12

من انقلاب النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما ودما
إذ لا بد لهذه الأحوال الطارئة على النطفة من مؤثر صانع حكيم لأن حدوث هذه الأصوار لا من فاعل محال
وكذا صدورها عن مؤثر لا شعور له
لأنها أفعال عجز العقلاء عن إدراك الحكم المودعة فيها
وأما في الآفاق كما نشاهد من أحوال الأفلاك والعناصر والحيوان والنبات والمعادن
والاستقصاء مذكور في الكتاب المجيد ومشروح في التفاسير
الرابع الاستدلال بإمكان الأعراض مقيسة إلى محالها كما استدل به موسى عليه السلام حيث قال " ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى "
أي أعطى صورته الخاصة وشكله المعين المطابقين للحكمة والمنفعة المنوطة به وهو أن الأجسام متماثلة متفقة الحقيقة لتركبها من الجواهر المتجانسة على ما عرفت
فاختصاص كل من الأجسام بما له من الصفات جائز فلا بد في التخصيص من مخصص له ثم بعد هذه الوجوه الأربعة نقول مدبر العالم إن كان واجب الوجود فهو المطلوب
وإلا كان ممكنا فله مؤثر ويعود الكلام فيه
ويلزم إما الدور أو التسلسل
وأما الانتهاء إلى مؤثر واجب الوجود لذاته
والأول بقسميه باطل لما مر في مرصد العلة والمعلول من الأمور العامة فتعين الثاني
وهو المطلوب
ولا يذهب عليك أن ما ذكره تطويل ورجوع بالآخرة إلى اعتبار الإمكان وحده والاستدلال به
والمشهور أن المتكلمين استدلوا بأحوال خصوصيات الآثار على وجود المؤثر
فقالوا إن الأجسام محدثة لما مر فكذا الأعراض
فلا بد لها من صانع
ولا
13

يكون حادثا
وإلا احتاج إلى مؤثر آخر فيلزم الدور أو التسلسل أو الانتهاء إلى قديم
والأولان باطلان والثالث هو المطلوب
المسلك الثاني للحكماء وهو أن في الواقع موجودا مع قطع النظر عن خصوصيات الموجودات وأحوالها
وهذه مقدمة يشهد بها كل فطرة فإن كان ذلك الموجود واجبا فذاك هو المطلوب
وإن كان ممكنا احتاج إلى مؤثر
ولا بد من الانتهاء إلى الواجب
وإلا لزم الدور أو التسلسل
وفي هذا المسلك طرح لمؤنات كثيرة كانت في المسلك الأول من بيان حدوث العالم وإمكانه
وما يتوجه عليه من الأسئلة والأجوبة عنها فإنها سقطت ههنا كما ترى
المسلك الثالث لبعض المتأخرين يعني صاحب التلويحات
وهو أنه لا شك في وجود ممكن كالمركبات
فإن استند إلى الواجب ابتداء أو انتهى إليه فذاك
وإن تسلسلت الممكنات
قلنا جميع الممكنات المتسلسلة إلى غير النهاية من حيث هو جميع ممكن لاحتياجه إلى أجزائه التي هي غيره
فله علة موجدة ترجح وجوده على عدمه لما عرفت من أن الإمكان محوج
وهي لا تكون نفس ذلك المجموع إذ العلة متقدمة على المعلول
ويمتنع تقدم الشيء على نفسه ولا جميع أجزائه لأنه عينه
ولا تكون أيضا جزءه أي بعض أجزائه إذ علة الكل علة لكل جزء وذلك لأن كل جزء ممكن محتاج إلى علة
فلو لم تكن علة المجموع علة لكل واحد من الأجزاء لكان بعضها معللا بعلة أخرى فلا تكون تلك الأولى علة للمجموع
بل لبعضه فقط
وحينئذ فيلزم أن يكون الجزء الذي هو علة المجموع علة لنفسه ولعلله أيضا
وإذا لم تكن علة المجموع نفسه ولا أمرا
14

داخلا فيه فإذن هو أمر خارج عنه
والخارج عن جميع الممكنات واجب لذاته
وهو المطلوب ولا بد أن يستند إليه شيء من تلك الممكنات ابتداء فتنتهي به السلسلة
واعترض عليه بوجوه
الأول المجموع يشعر بالتناهي لأن ما لا يتناهى أوليس
له كل ولا مجموع ولا جملة
بل ذلك إنما يتصور في المتناهي
وتناهي الممكنات يتوقف على ثبوت الواجب فإثباته به أي إثبات الواجب بما يدل على تناهي الممكنات مصادرة على المطلوب
والجواب أن المراد به أي بالمجموع وما يرادفه في هذا المقام هو الممكنات بأسرها بحيث لا يخرج عنها شيء منها
وذلك متصور في غير المتناهي إذ يكفيه ملاحظة واحدة إجمالية شاملة لجميع آحاده
إنما الممتنع أن يتصور كل واحد مما لا يتناهى مفصلا ويطلق عليه المجموع بهذا الاعتبار
الثاني إن أردت بالمجموع كل واحد من آحاد السلسلة فعلته ممكن آخر متسلسلا إلى غير النهاية بأن يكون كل واحد منها علة لما بعده ومعلولا لما قبله من غير أن ينتهي إلى حد يقف عنده
وإن أردت به الكل المجموعي فلا نسلم أنه موجود إذ أوليس
ثمة هيئة اجتماعية إلا بحسب الاعتبار وما جزؤه اعتباري لا يكون موجودا خارجيا
والجواب أنا نريد بالمجموع الكل من حيث هو كل
ولا حاجة إلى اعتبار الهيئة الاجتماعية إذ الكل ههنا عين الآحاد كما في مجموع العشرة
ولا شك أن الكل بهذا المعنى موجود ههنا
الثالث إن أردت بالعلة العلة التامة فلم لا يجوز أن تكون نفسه
قولك العلة متقدمة
قلنا لا نسلم ذلك في العلة التامة
فإنها مجموع أمور كل واحد منها مفتقر إليه فيكون كل واحد من تلك الأمور متقدما على
15

المعلول
ولا يلزم من تقدم كل واحد تقدم الكل
كما أن كل واحد من الأجزاء متقدم على الماهية ومجموعها أوليس
متقدما بل هو نفس الماهية
وإن أردت بها أي بالعلة الفاعل وحده فلم لا يجوز أن يكون جزءه
قولك لأنه علة لكل جزء فيكون علة لنفسه ولعلله قلنا ذلك ممنوع
ولم لا يجوز أن يحصل بعض الأجزاء بلا علة أو بعلة أخرى
والجواب أن المراد بالعلة هو الفاعل المستقل بالفاعلية
وهو في مجموع كل جزء منه ممكن لا بد أن يكون فاعلا لكل من الأجزاء على معنى أنه لا يستند شيء منها بالمفعولية إلا إليه أو إلى ما صدر عنه
وإلا وقع بعض أجزائه بفاعل آخر لم يصدر عنه
فإذا قطع النظر عنه أي عن الآخر لم تحصل الماهية المعلولة التي هي المجموع
فلم يكن ذلك الفاعل فاعلا مستقلا بالمعنى المذكور
وهو خلاف المقدر
فإن قيل هذا الذي ذكرتموه منقوض بالمركب من الواجب والممكن فإن مجموعهما من حيث هو مجموع لا شك أنه ممكن لاحتياجه إلى جزئه الذي هو غيره مع أن فاعله أوليس
فاعلا لكل واحد من أجزائه
وأيضا لو كان فاعل الكل بالاستقلال فاعلا لكل جزء منه كذلك للزم في مركب في أجزائه ترتب زماني كالسرير مثلا إما تقدم المعلول على علته أو تخلف المعلول عن علته المستقلة
إذ عند وجود الجزء المتقدم كالخشب إن وجدت العلة المستقلة للكل لزم الأمر الثاني
وإن لم توجد لزم الأمر الأول
وكلاهما محال
قلت الجواب عن الأول وهو النقض أنا قيدناه أي الكل بما كل جزء منه ممكن كما مر آنفا فاندفع النقض
16

فإن قيل نحن نمنع كون فاعل الكل فاعلا لكل جزء منه ونسنده بالمركب من الواجب والممكن فلا يجديكم إخراجه بقيد الإمكان
قلنا هذا المنع مندفع بما قررناه من الدليل على أن الفاعل المستقل للكل يجب أن يكون فاعلا لكل جزء منه إذا كانت آحادة بأسرها ممكنة
وعن الثاني وهو المعارضة أن التخلف عن العلة الفاعلية المستقلة بالمعنى الذي صورناه لا يمتنع
إنما الممتنع هو التخلف عن العلة الفاعلية المستجمعة لجميع ما يتوقف عليه التأثير
أعني العلة التامة
على أنا نقول كيف يتجه علينا ما ذكرتم
والمراد بقولنا علة الكل يجب أن تكون علة لكل جزء منه أن علته أي علة الجزء لا تكون خارجة عن علة الكل
وبذلك الذي ذكرناه من المراد يتم مقصودنا وهو أن علة المجموع المركب من الممكنات كلها لا يجوز أن تكون جزءه
إذ يلزم حينئذ أن لا تكون علة ذلك الجزء خارجة عنه
فهي إما نفسه وهو محال
أو ما هو داخل فيه فينقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى ما يكون علة لنفسه
وعلى تقدير التسلسل نقول كل جزء فرض علة في تلك السلسلة فإن علته أولى منه بأن تكون علة لها فيلزم ترجيح المرجوح
هذا خلف
ولك أن تتمسك في إبطال علية الجزء بهذا ابتداء
ولا يلزم ما ذكرتم من أحد الأمرين إذ قد تكون علة كل جزء من الأجزاء جزء علة الكل بحيث يكون الكل علة الكل فعند وجود الجزء المتقدم توجد علته التامة وعند وجود الجزء المتأخر توجد علته التامة ويكون مجموع هاتين العلتين علة تامة للكل
ولا محذور فيه
نعم لو كانت العلة المستقلة للكل عين العلة المستقلة لكل واحد من أجزائه لزم ما ذكرتموه
17

المسلك الرابع وهو مما وفقنا لاستخراجه أن الموجودات لو كانت بأسرها ممكنة أي لو لم يوجد الواجب لانحصرت الموجودات في الممكن
ولو انحصرت فيه لاحتاج الكل أي المجموع بحيث لا يشذ عنه شيء من أجزائه الممكنة إلى موجد لكونه ممكنا مركبا من ممكنات مستقل في الإيجاد بأن لا يستند وجرد شيء من أجزائه إلا إليه أو إلى ما هو صادر عنه فيكون هو الموجد لكل واحد منها إما ابتداء أو بواسطة هي منه أيضا يكون ارتفاع الكل مرة أي بالكلية وذلك بأن لا يوجد الكل ولا واحد من أجزائه أصلا ممتنعا بالنظر إلى وجوده أي وجود ذلك الموجد المستقل إذ ما لا يمنع جميع أنحاء العدم لا يكون موجبا للوجود لما عرفت من أن الممكن ما لم يجب وجوده من علته لم يوجد ويلزم من ذلك امتناع عدمه من أجلها بحيث لا يتطرق إليه العدم أصلا بوجه من الوجوه
ولا شك أن عدم المجموع يكون على أنحاء شتى
فإنه قد يعدم بعدم هذا الجزء وبعدم جزء آخر
وهكذا فالموجد المستقل للكل يجب أن يكون بحيث يمتنع بسببه جميع هذه العدمات المنسوبة إلى أجزائه
والشيء الذي إذا فرض عدم جميع الأجزاء أي عدم واحد منها كان ذلك العدم ممتنعا نظرا إلى وجوده يكون خارجا عن المجموع لا نفسه ولا داخلا فيه لأن عدم شيء منهما أوليس
ممتنعا نظرا إلى ذاته وإلا كان واجبا لذاته فيكون ذلك الخارج عن جميع الممكنات واجبا وجوده في حد ذاته إذ لا موجود في الخارج سوى الممكن والواجب وهو المطلوب
فإن قلت ثبوت الواجب على تقدير انحصار الموجودات في الممكن
18

يكون خلفا لازما على تقدير نقيض المطلوب لا مطلوبا كأنه قيل إن لم يكن الواجب موجودا لزم انحصار الموجود في الممكنات
ويلزم من وجود هذا الانحصار عدمه
فيكون محالا فيبطل نقيض المطلوب فتظهر حقيته
قلت نعم
لكن الخلف اللازم قد يكون عين المطلوب
ولذلك يقال هذا خلف
ومع ذلك هو مطلوبنا
وهذا المسلك غير محتاج إلى إبطال الدور والتسلسل ومستخرج من ملاحظة حال عدم المعلول بالقياس إلى علته
كما أن المسلك السابق لوحظ فيه حال وجوده مقيسا إليها
المسلك الخامس وهو قريب مما قبله لو لم يوجد واجب لذاته لم يوجد واجب لغيره أي ممكن وحينئذ فيلزم أن لا يوجد موجود أصلا ضرورة انحصار الموجود في الواجب والممكن
أما الأول وهو أنه إذا لم يوجد واجب لم يوجد ممكن فلأن الواجب إذا لم يوجد كانت الموجودات بأسرها ممكنة
ولا شك أن ارتفاع الجميع المركب من الممكنات فقط مرة أي بالكلية لا يكون على ذلك التقدير ممتنعا لا بالذات وهو ظاهر لأنه وآحاده برمتها ممكنة
ولا بالغير لما عرفت من أن الغير الذي يمتنع به رفع الجميع بالمرة لا بد أن يكون موجودا خارجا عنه واجبا لذاته
والمفروض عدمه
وأما الثاني وهو أنه إذا لم يوجد واجب بذاته ولا بغيره لم يوجد موجود أصلا
فلأن ما لم يجب إما بالذات وإما بالغير لا يوجد كما تقدم من أن الموجود إما واجب مسبوق وجوده بموجوبه الذاتي وإما ممكن مسبوق وجوده بموجوبه من علته
وهذا المسلك كالرابع في الاستغناء عن حديث الدور والتسلسل
وقربه منه مكشوف لا سترة به
19

المسلك السادس ما أشار إليه بعض الفضلاء وتحريره أن الممكن لا يستقل بنفسه في وجوده
وهو ظاهر
ولا في إيجاده لغيره
لأن مرتبة الإيجاد بعد مرتبة الوجود
فإن الشيء ما لم يوجد لم يوجد
فلو انحصر الموجود في الممكن لزم أن لا يوجد شيء أصلا لأن الممكن وإن كان متعددا لا يستقل بوجود ولا إيجاد
وإذ لا وجود ولا إيجاد فلا موجود لا بذاته ولا بغيره
وهذا المسلك أخصر المسالك وأظهرها وقد ذكر ههنا أي في مقام إثبات الصانع شبهات كثيرة أوردها الإمام الرازي في كتبه وأجاب عنها لكن حاصلها عائد إلى أمر واحد
وهو أن يوجد ههنا وفي كل مسألة تراد مذهبان متقابلان فيردد بينهما ترديدا مانعا من الخلو ثم يبطل كل واحد منهما بدليل الآخر لئلا يلزم نفي القدر المشترك
وحلها إجمالا هو القدح في دليل الطرف الضعيف من المذهبين أو في دليلهما إن أمكن ولا استبعاد في إمكان القدح في دليلهما معا إذ قد يكون دليل الطرفين ضعيفا ولا يلزم من بطلان دليلهما بطلانهما حتى يلزم ارتفاع المتقابلين
وذلك لأن الدليل ملزوم للمدلول
وانتقاء الملزوم لا يستلزم انتفاء لازمه
ولنذكر منها أي من تلك الشبه مع أجوبتها عدة لتطلع بها على أحوال نظائرها
الأولى لو كان الواجب موجودا لكان وجوده إما نفس ماهيته أو زائدا عليها إذ لا محال لكونه جزءا منها
والأول باطل لأن الوجود مشترك كما مر
والماهية غير مشتركة
والثاني باطل
وإلا كان وجوده معلول ماهيته
20

لامتناع كونه معلولا لغيرها فتتقدم ماهيته عليه أي على وجوده بالوجود وهو محال كما سلف والواجب وجوده نفسه
ونمنع الاشتراك في الوجود الذي هو عينه بل المشترك هو الوجود بمعنى الكون في الأعيان أعني مفهوم الوجود العارض للموجودات الخارجية
وأما ما صدق عليه الوجود فلا اشتراك فيه
وذلك كالماهية والتشخص أو وجوه غيره أي زائد عليه ومعلول لماهيته وتقدم الماهية عليه أوليس
بالوجود كما تقدم
الثانية من تلك الشبه لو كان الواجب موجودا لكان إما مختارا أو موجوبا
والأول باطل
لأن العالم قديم بدليله
والقديم لا يستند إلى المختار
والثاني باطل وإلا لزم قدم الحادث اليومي أو التسلسل وكلاهما محال
والجواب لا نسلم أن العالم قديم وقد مر ضعف دلائله
الثالثة منها لو كان الواجب موجودا لكان إما عالما بالجزئيات أو لا والأول باطل وإلا لزم التغير فيه أي في ذات الواجب تعالى لتغير المعلوم الجزئي من حال إلى حال
فإن زيدا مثلا يتصف تارة بالقيام وأخرى بعدمه
والعلم لا بد فيه من أن يطابق معلومه فيتغير أيضا بحسبه فلا يكون الواجب على هذا التقدير واجبا بل حادثا لأن محل الحوادث حادث
والثاني باطل لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الأفعال المتقنة المشاهدة في الجزئيات لا تستند إلى عديم العلم
والجواب نختار أنه عالم بالجزئيات والتغير اللازم في العلم إنما هو في الإضافات لا في الذات أي لا في صفاته الحقيقية
فإن علمه تعالى صفة واحدة حقيقية قائمة بذاته ومتعلقة بالمعلومات كلها
فإذا تغيرت لم تتغير تلك الصفة بل تغيرت تعلقاته بها وإضافاته إليها فيكون تغيرا في أمور اعتبارية لا في صفات حقيقية
وأنه جائز في الواجب كما سيأتي
ولنقتصر على هذا القدر
فإن هذا منشأ للشبهات التي طول بها الكتب وعد ذلك التطويل تبحرا في العلوم وتوسعا في التحقيق والتدقيق
وعليك بعد الاهتداء إليه بما نبهناك به من الضابطة والأمثلة أن توقر من أمثاله الأباعر جمع بعير
21

خاتمة للمقصد الأول لما ثبت أن الصانع تعالى واجب وجوده وممتنع عدمه فقد ثبت أنه أزلي أبدي
ولا حاجة إلى جعله مسألة برأسها
قال الإمام الرازي في الأربعين كلاما محصله أنه لما ثبت انتهاء الموجودات إلى واجب الوجود لذاته والعدم على الواجب ممتنع لزم كونه تعالى أزليا أبديا
فلا حاجة إلى جعله مسألة على حدة
لكن المتكلمين لما لم يسلكوا تلك الطريقة بل أثبتوا أن هذه الممكنات المحسوسة محتاجة إلى موجود سواها احتاجوا في ذلك إلى وجود آخر فقالوا مثلا لو لم يكن أزليا لكان محدثا محتاجا إلى محدث آخر وتسلسل
ولو لم يكن باقيا دائما لكان عدمه بعد وجوده إما لذاته وهو باطل
وإما بفاعل وهو أيضا محال لأن العدم نفي محض فيمتنع كونه بالفاعل
وإما بطريان ضد
وأنه مستحيل
لأن القديم أقوى
فاندفاع الضد به أولى من انعدامه بالضد
وإما بزوال شرط وهو ممتنع لأن المحدث لا يكون شرطا للقديم
وإن فرض له شرط قديم نقلنا الكلام إليه ولزم التسلسل
ولما بطلت الأقسام كلها امتنع طريان العدم على الصانع
والمصنف صرح بأول كلامه ثم أشار إلى آخره بقوله والمتكلمون إنما احتجوا بوجوه أخر عليه أي على كون الصانع أزليا أبديا قبل إثبات ذلك أي قبل إثبات كونه واجبا وعنه أي عن الاحتجاج بتلك الوجوه على هذا المطلوب بعد بيان كونه واجبا غنى
فلا نطول به الكتاب كما طول به الإمام كتابه على ما أشرنا إليه
المقصد الثاني
المتن
22

في أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات
فهو منزه عن المثل والند تعالى عن ذلك علوا كبيرا
وقال قدماء المتكلمين ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات
وإنما تمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة الوجوب والحياة والعلم التام والقدرة التامة
وعند أبي هاشم يمتاز بحالة خامسة هي الموجبة لهذه الأربعة نسميها بالإلهية
قلنا لو شاركه غيره في الذات لخالفه بالتعين ضرورة الإثنينية
وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب
وهو ينافي الوجوب الذاتي كما تقدم
احتجوا على كون الذات مشتركة بما مر في الوجود من الوجوه
وتقريرها هنا أن الذات تنقسم إلى الواجب والممكن
ومورد القسمة مشترك بين أقسامه وأيضا فنحن نجزم به مع التردد في الخصوصيات
والجواب أن المشترك مفهوم للذات
وأنه عارض للذوات المخصوصة
وهذا الغلط منشأه عدم الفرق بين مفهوم الموضوع الذي يسمى عنوان الموضوع وبين ما صدق عليه المفهوم الذي يسمى ذات الموضوع
وهذا منشأ لكثير من الشبه
فإذا انتبهت له وكنت ذا قلب شيحان انجلت عليك وقدرت أن تغالط
وأمنت أن تغالط
منها قولهم الوجود مشترك
إذ نجزم به ونتردد في الخصوصيات
فنقول المجزوم به مفهوم الوجود لا ما صدق عليه الوجود والنزاع فيه
23

ومنها قولهم الوجود زائد إذ نعقل الوجود دون الماهية
وبالعكس قلنا فيه ما تقدم
ومنها الوحدة عدمية
وإلا تسلسل
قلنا مفهوم الوحدة
ولا يلزم فيما صدق عليه
فإنه مختلف
ومنها الصفات زائدة على الذات
وإلا لكان المفهوم من العلم ومن القدرة واحدا
قلنا يكون ما صدق عليه واحدا
وأما المفهوم فلا
وأمثال ذلك أكثر من أن تحصى
تنبيه نقل عن الحكماء أنهم قالوا ذاته وجوده المشترك بين جميع الموجودات ويمتاز عن غيره بقيد سلبي
وهو عدم عروضه للغير
فإن وجود الممكنات مقارن لماهية مغايرة له
ووجوده أوليس
كذلك
وهذا بطلانه ظاهر
ولم يتحقق عندي هذا النقل عنهم
بل قد صرح الفارابي وابن سينا بخلافه
فإنهما قالا الوجود المشترك
الذي هو الكون في الأعيان
زائد على ماهيته تعالى بالضرورة وإنما هو مقارن لوجود خاص هو المبحث
الشرح
المقصد الثاني في أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات إليه ذهب نفاة الأحوال
قالوا والمخالفة بينه وبينها لذاته المخصوصة لا لأمر زائد عليه
وهو مذهب الشيخ الأشعري وأبي الحسين البصري
فإنهما قالا
24

المخالفة بين كل موجودين من الموجودات إنما هي بالذات وليس بين الحقائق اشتراك إلا في الأسماء والأحكام دون الأجزاء المقومة
وعلى هذا فهو منزه عن المثل المشارك في تمام الماهية والند الذي هو المثل المنادى
تعالى عن ذلك علوا كبيرا
وقال قدماء المتكلمين ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات في الذاتية والحقيقة
وإنما تمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة الوجوب والحياة والعلم التام والقدرة التامة أي الواجبية والحيية والعالمية والقادرية التامتين
هذا عند أبي علي الجبائي
وأما عند أبي هاشم فإنه يمتاز عما عداه من الذوات بحالة خامسة هي موجبة لهذه الأربعة نسميها بالإلهية
قالوا ولا يرد علينا قوله تعالى " أوليس
كمثله شيء " لأن المماثلة المنفية ههنا هي المشاركة في أخص صفات النفس دون المشاركة في الذات والحقيقة
فإن قيل المذكور في الموقف الثاني الموجودية بدل الوجوب
وهو الموافق لما في المحصل والأربعين
أجيب بأن الوجود عند مثبتي الأحوال مشترك بين الموجودات كلها
فلا يتصور كونه مميزا
فالمراد بالموجودية المميزة هو الموجودية المقيدة بالواجبة فيرجع التمييز بالحقيقة إلى القيد
وتندفع المنافاة بين الكلامين
قلنا في إثبات المذهب الحق أنه تعالى لو شاركه غيره في الذات
25

والحقيقة لخالفه بالتعين ضرورة الإثنينية فإن المتشاركين في تمام الماهية لا بد أن يتخالفا بتعين وتشخص حتى تمتاز به هويتهما ويتعددا ولا شك أن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب في هوية كل منهما وهو ينافي الوجوب الذاتي كما تقدم
احتجوا على كون الذات مشتركة بين الواجب وغيره بما مر في اشتراك الوجود من الوجوه
وتقريرها هنا أن الذات تنقسم إلى الواجب والممكن ومورد القسمة مشترك بين أقسامه
وأيضا فنحن نجزم به أي بالذات مع التردد في الخصوصيات من الواجب والجواهر والأعراض على قياس ما مر في الوجود
وأيضا فقولنا المعلوم إما ذات وإما صفة حصر عقلي
فلولا أن المفهوم من الذات شيء واحد لم يكن كذلك
والجواب أن المشترك مفهوم الذات أعني ما يصح أن يعلم ويخبر عنه أو ما يقوم بنفسه وأنه أي مفهوم الذات على الوجهين أمر عارض للذوات المخصوصة المتخالفة الحقائق على مآل قولهم إلى أن الأشياء متساوية في تمام الماهية مع اختلافها في اللوازم
وهو غير معقول
ومآل قولنا إلى عكس ذلك وهو ممكن وهذا الغلط منشأه عدم الفرق بين مفهوم الموضوع الذي يسمى عنوان الموضوع وبين ما صدق عليه هذا المفهوم أعني الذي يسمى ذات الموضوع
وقد ثبت في غير هذا الفن أن العنوان قد يكون عين حقيقة الذات وقد يكون جزءها
وقد يكون عارضا لها
فمن أين يثبت التماثل والاتحاد في الحقيقة بمجرد اشتراك العنوان وهذه المغالطة
أعني اشتباه العارض بالمعروض منشأ لكثير من الشبه في مواضع عديدة
فإذا انتبهت له أي لهذا المنشأ ووقفت على حاله وكنت ذا قلب شيحان أي يقظان غيور على حرمه التي هي بنات فكره انجلت عليك تلك الشبه وقدرت على أن تغالط غيرك وأمنت من أن تغالط أنت
منها أي من تلك الشبه قولهم الوجود مشترك إذ نجزم به ونتردد في الخصوصيات
26

فنقول المجزوم به مفهوم الوجود لا ما صدق عليه الوجود لجواز أن يكون ذلك المفهوم خارجا عن حقائق أفراده المتخالفة فلا تكون حقيقة الوجود أمرا واحدا مشتركا مجزوما به
والنزاع إنما وقع فيه لا في مفهوم عارض لحقيقته
ومنها قولهم الوجود زائد إذ نعقل الوجود دون الماهية كما في الواجب مثلا
وبالعكس أي نعقل الماهية دون الوجود كما في المثلث فلا يكون الوجود عينا ولا داخلا
قلنا فيه ما تقدم من أن الزائد مفهومه لا حقيقته ومنها الوحدة عدمية
وإلا تسلسل
قلنا اللازم من دليلكم على تقدير صحته أن يكون مفهوم الوحدة عدميا لا وجوديا
إذ حينئذ يلزم تسلسل الوحدات الوجودية إلى ما لا نهاية له
ولا يلزم هذا التسلسل فيما صدق عليه فإنه مختلف فبعضه وجودي وبعضه عدمي وبعضه زائد وبعضه نفس الماهية كما مرت إليه الإشارة في مباحث الوحدة
ومنها الصفات زائدة على الذات
وإلا لكان المفهوم من العلم ومن القدرة ومن الصفات الأخر شيئا واحدا هو عين الذات
ولا شبهة في استحالته
قلنا يكون ما صدق أي ما صدق عليه العلم والقدرة مثلا واحدا
وأما المفهوم فلا يكون واحدا بل لكل منهما مفهوم على حدة
وأمثال ذلك أكثر من أن تحصى فلنكتف بما ذكرنا إذ لا يخفى عليك حالها
تنبيه نقل عن الحكماء أنهم قالوا ذاته تعالى وجوده المشترك بين جميع الموجودات
ويمتاز عن غيره بقيد سلبي وهو عدم عروضه للغير
فإن وجود الممكنات مقارن لماهية مغايرة له
ووجوده أوليس
كذلك
وفي هذه العبارة نوع قصور
والأظهر أن يقال ذاته الوجود المشترك بين الجميع
ويمتاز عن غيره بقيد سلبي هو أن وجوده أوليس
زائدا عليه بل هو عينه بخلاف سائر
27

الموجودات
فإن وجودها زائد على ماهياتها
أو يقال ذاته وجوده المساوي لسائر الموجودات بناء على اشتراك الموجود
ويمتاز عنها بعدم عروضه لماهيته بخلاف وجودات الممكنات
فإنها عارضة لماهياتها
وهذا باطل بطلانه ظاهر
أما على المعنى الأول فلأنه يلزم منه أن تكون حقيقة الواجب أمرا مخالطا لجميع الممكنات حتى القاذورات
ولا يخفى استحالته
وأما على المعنى الثاني فلأنه يلزم منه التساوي في الصفات اللازمة
قال المصنف ولم يتحقق عندي هذا النقل عنهم بل قد صرح الفارابي وابن سينا بخلافه
فإنهما قالا الوجود المشترك الذي هو الكون في الأعيان زائد على ماهيته تعالى بالضرورة
وإنما هو مقارن لوجود خاص هو المبحث هل هو زائد عارض لماهيته أو أوليس
بزائد
المقصد الثالث
المتن في أن وجوده نفس ماهيته أو زائد
وأنه مساو لوجود الممكنات أو مخالف
وقد تقدم في الأمور العامة ما فيه كفاية
الشرح
المقصد الثالث في أن وجوده نفس ماهيته كما هو مذهب الشيخ وأبي الحسين والحكماء
أم زائد عليها كما هو مذهب جمهور المتكلمين
وأنه مساو لوجود الممكنات أم مخالف
وقد تقدم في الأمور العامة ما فيه كفاية فلا معنى للإعادة
28

المرصد الثاني في تنزيهه وهي الصفات السلبية
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن أنه تعالى أوليس
في جهة ولا في مكان
وخالف فيه المشبهة
وخصصوه بجهة الفوق
ثم اختلفوا فذهب محمد بن كرام إلى أن كونه في الجهة ككون الأجسام فيها
وهو مماس للصفحة العليا من العرش ويجوز عليه الحركة والانتقال وتبدل الجهات
وعليه اليهود حتى قالوا العرش يئط من تحته أطيط الرحل الجديد
وأنه يفضل على العرش من كل جهة أربعة أصابع
وزاد بعض المشبهة كمضر وكهمس وأحمد الهجيمي أن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة
ومنهم من قال محاذ للعرش غير
29

مماس له
فقيل بمسافة متناهية
وقيل غير متناهية
ومنهم من قال أوليس
ككون الأجسام في الجهة
لنا وجوه
الأول لو كان في مكان لزم قدم المكان
وقد برهنا أن لا قديم سوى الله تعالى
وعليه الاتفاق
الثاني المتمكن محتاج إلى مكانه
والمكان مستغن عن المتمكن
الثالث لو كان في مكان فإما في بعض الأحياز أو في جميعها
وكلاهما باطل
أما الأول فلتساوي الأحياز ونسبته إليها فيكون اختصاصه ببعضها ترجيحا بلا مرجح
أو يلزم الاحتياج في تحيزه الذي لا تنفك ذاته عنه إلى الغير
وأما الثاني فلأنه يلزم تداخل المتحيزين وأنه محال بالضرورة
وأيضا فيلزم مخالطته لقاذورات العالم
تعالى عن ذلك علوا كبيرا
الرابع لو كان جوهرا فإما ألا ينقسم أو ينقسم
وكلاهما باطل
أما الأول فلأنه يكون جزء لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء
تعالى عن ذلك
وأما الثاني
فلأنه يكون جسما
وكل جسم مركب
وقد مر أنه ينافي الوجوب الذاتي
وأيضا فقد بينا أن كل جسم محدث فيلزم حدوث الواجب
وربما يقال له كان جسما لقام بكل جزء علم وقدرة
فيلزم تعدد الآلهة
وهذا المستدل يلتزم أن الإنسان الواحد علماء قادرون أحياء
وربما يقال لو كان متحيزا لكان مساويا لسائر المتحيزات فيلزم إما قدم الأجسام أو حدوثه
وهو بناء على تماثل الأجسام
وربما يقال لو كان متحيزا لساوى الأجسام في التحيز
ولا بد من أن يخالفها بغيره فيلزم التركيب
وقد علمت ما فيه
احتج الخصم بوجوه
30

الأول ضرورة العقل تجزم بأن كل موجود فهو متحيز أو حال فيه
والجواب منع الضرورة
وإنما ذلك حكم الوهم
وأنه غير مقبول
وربما يستعان في تصوره بالإنسان الكلي وعلمنا به
الثاني كل موجودين فإما أن يتصلا أو ينفصلا
فهو إن كان متصلا بالعالم فمتحيز
وإن كان منفصلا عنه فكذلك
والجواب منع الحصر
وهو من الطراز الأول
الثالث إنه إما داخل العالم أو خارج العالم
أو لا داخله ولا خارجه
والثالث خروج عن المعقول
والأولان فيهما المطلوب
والجواب أنه لا داخل ولا خارج
الرابع الموجود ينقسم إلى قائم بنفسه وقائم بغيره
والقائم بنفسه هو المتحيز بالذات
والقائم بغيره هو المتحيز تبعا
وهو قائم بنفسه فيكون متحيزا بذاته
والجواب منع التفسيرين
وقد يقال في تقريره أجمعنا أن له تعالى صفات قائمة بذاته
ومعنى القيام التحيز تبعا
الخامس الاستدلال بالظواهر الموهمة بالتجسم من الآيات والأحاديث نحو قوله تعالى * (الرحمن على العرش استوى) * * (وجاء ربك والملك صفا صفا) * * (فإن استكبروا فالذين عند ربك) * * (إليه يصعد الكلم الطيب) * * (تعرج الملائكة والروح إليه) * * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) * * (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) * * (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) *
وحديث
31

النزول
وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية الخرساء أين الله فأشارت إلى السماء فقرر
فالسؤال والتقرير يشعران بالجهة
والجواب أنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات
ومهما تعارض دليلان وجب العمل بهما ما أمكن فتؤول الظواهر إما إجمالا ويفوض تفصيلها إلى الله كما هو رأي من يقف على إلا الله
وعليه أكثر السلف كما روي عن أحمد الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والبحث عنها بدعة
وأما تفصيلا كما هو رأي طائفة فنقول الاستواء الاستيلاء نحو قد استوى عمرو على العراق
والعندية بمعنى الاصطفاء والإكرام كما يقال فلان قريب من الملك
* (وجاء ربك) * أي أمره
" وإليه يصعد الكلم الطيب " أي يرتضيه
فإن الكلم عرض يمتنع عليه الانتقال
و * (من في السماء) * أي حكمه أو سلطانه أو ملك موكل بالعذاب
وعليه فقس
الشرح
المرصد الثاني في تنزيهه
وهي الصفات السلبية
وفيه مقاصد سبعة
المقصد الأول أنه تعالى أوليس
في جهة من الجهات ولا في مكان من الأمكنة وخالف فيه المشبهة وخصصوه بجهة الفوق اتفاقا ثم اختلفوا فيما بينهما فذهب أبو عبد الله محمد بن كرام إلى أن كونه في الجهة ككون الأجسام فيها وهو أن يكون بحيث يشار إليه أنه ههنا أو هناك
قال وهو مماس للصفحة العليا من العرش ويجوز عليه الحركة والانتقال وتبدل
32

الجهات
وعليه اليهود
حتى قالوا العرش يئط من تحته أطيط الرحل الجديد تحت الركب الثقيل وقالوا أنه يفضل على العرش من كل جهة أربعة أصابع
وزاد بعض المشبهة كمضر وكهمس وأحمد الهجيمي أن المخلصين من المؤمنين يعانقونه في الدنيا والآخرة
ومنهم من قال هو محاذ للعرش غير مماس له
فقيل بعده عنه بمسافة متناهية
وقيل بمسافة غير متناهية
ومنهم من قال أوليس
كونه في الجهة ككون الأجسام في الجهة والمنازعة مع هذا القائل راجعة إلى اللفظ دون المعنى
والإطلاق اللفظي متوقف على ورود الشرع به
لنا في إثبات هذا المطلوب وجوه
الأول لو كان الرب تعالى في مكان أو جهة لزم قدم المكان أو الجهة
وقد برهنا أن لا قديم سوى الله تعالى
وعليه الاتفاق من المتخاصمين
الثاني المتمكن محتاج إلى مكانه بحيث يستحيل وجوده بدونه
والمكان مستغن عن المتمكن لجواز الخلاء فيلزم إمكان الواجب ووجوب المكان وكلاهما باطل
الثالث لو كان في مكان فإما أن يكون في بعض الأحياز أو في جميعها وكلاهما باطل
أما الأول فلتساوي الأحياز في أنفسها لأن المكان عند المتكلمين هو الخلاء المتشابه وتساوي نسبته أي نسبة ذات الواجب إليها وحينئذ فيكون اختصاصه ببعضها دون بعض آخر منها ترجيحا بلا مرجح إن لم يكن هناك مخصص من خارج أو يلزم الاحتياج أي احتياج الواجب في تحيزه الذي لا تنفك ذاته عنه إلى الغير إن كان
33

هناك مخصص خارجي
وأما الثاني وهو أن يكون في جميع الأحياز فلأنه يلزم تداخل المتحيزين لأن بعض الأحياز مشغول بالأجسام وأنه أي تداخل المتحيزين مطلقا محال بالضرورة
وأيضا فيلزم على التقدير الثاني مخالطته لقاذورات العالم
تعالى عن ذلك علوا كبيرا
الرابع لو كان متحيزا لكان جوهرا لاستحالة كون الواجب تعالى عرضا
وإذا كان جوهرا فإما أن لا ينقسم أصلا أو ينقسم
وكلاهما باطل
أما الأول فلأنه يكون جزءا لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء
تعالى الله عن ذلك
وأما الثاني فلأنه يكون جسما
وكل جسم مركب
وقد مر أنه أي التركيب الخارجي ينافي الوجوب الذاتي
وأيضا فقد بينا أن كل جسم محدث فيلزم حدوث الواجب
وربما يقال في إبطال الثاني لو كان الواجب جسما لقام بكل جزء منه علم وقدرة وحياة مغايرة لما قام بالجزء الآخر ضرورة امتناع قيام العرض الواحد بمحلين فيكون كل واحد من أجزائه مستقلا بكل واحد من صفات الكمال
فيلزم تعدد الآلهة
وهذا المستدل يلتزم أن الإنسان الواحد علماء قادرون أحياء
كيلا ينقض دليله بالإنسان الواحد لجريانه فيه
وهذا الاستدلال ضعيف جدا لجواز قيام الصفة الواحدة بالمجموع من حيث هو مجموع
فلا يلزم ما ذكر من المحذور
وربما يقال في نفي المكان عنه تعالى لو كان متحيزا لكان مساويا لسائر المتحيزات في الماهية فيلزم حينئذ إما قدم الأجسام أو حدوثه لأن المتماثلات تتوافق في الأحكام وهو أي هذا الاستدلال بناء على تماثل الأجسام بل على تماثل المتحيزات بالذات
وربما يقال لو كان متحيزا لساوى الأجسام في التحيز
ولا بد من أن يخالفها بغيره فيلزم التركيب في ذاته
وقد علمت في صدر الكتاب ما فيه وهو أن الاشتراك والتساوي في
34

العوارض لا يستلزم التركيب
احتج الخصم على إثبات الجهة والمكان بوجوه خمسة
الأول ضرورة العقل أي بديهته تجزم بأن كل موجود فهو متحيز أو حال فيه ليكون مختصا بجهة ومكان إما أصالة أو تبعا
والجواب منع الضرورة العقلية
وإنما ذلك حكم الوهم بضرورته وأنه غير مقبول فيما أوليس
بمحسوس وربما يستعان في تصوره أي تصور موجود لا حيز له أصلا بالإنسان الكلي المشترك بين أفراده وعلمنا به فإنهما موجودان وليسا متحيزين قطعا
أما الأول فلأنه لو كان متحيزا أو حالا فيه لاختص بمقدار معين ووضع مخصوص
فلا يطابق أفرادا متباينة المقادير والأوضاع
فلا يكون مشتركا بينها
وأما الثاني فلأن العلم بالماهية الكلية لا يختص بمقدار ووضع مخصوصين
وإلا لم يكن علما بتلك الماهية
فإن قلت الإنسان المشترك لا بد أن يكون له أعضاء مخصوصة من عين ويد وظهر وبطن وغيرها على أوضاع مختلفة ومقادير متناسبة وأبعاد متفاوتة
ولا شك في أنه من حيث هو كذلك يكون متحيزا
قلت هذا إنما يلزم إذا لم توجد تلك الأعضاء من حيث أنها كلية مشتركة
ولا شبهة أنها في الإنسان الكلي مأخوذة كذلك
وإنما قال وربما يستعان في تصوره ولم يقل وربما يستدل عليه لأن الاستدلال به موقوف على وجود الكلي الطبيعي ووجود العلم به في الخارج مع أنه مختلف فيه بخلاف الاستعانة المذكورة فإنها تتم مع ذلك الاختلاف الثاني
الثاني كل موجودين فإما أن يتصلا أو ينفصلا فهو أي الواجب
35

تعالى إن كان متصلا بالعالم فمتحيز
وإن كان منفصلا عنه فكذلك
والجواب منع الحصر
وهو من الطراز الأول أي من الأحكام الوهمية
وقد عرفت أن أحكامه لا تقبل في غير المحسوسات لكنها قد تشتبه بالأوليات فتحسب أنها منها
الثالث أنه إما داخل العالم أو خارج العالم أو لا داخله ولا خارجه
والثالث خروج عن المعقول وعما تقتضيه بداهة العقل
وإلا ولأن فيهما المطلوب وهو أنه متحيزة وفي جهة
والجواب أنه لا داخل ولا خارج وهذا خروج عن الموهوم دون المعقول
الرابع الموجود ينقسم إلى قائم بنفسه وقائم بغيره
والقائم بنفسه هو المتحيز بالذات
والقائم بغيره هو المتحيز تبعا وهو أي الواجب تعالى قائم بنفسه فيكون متحيزا بذاته
والجواب منع التفسيرين فإن القائم بنفسه هو المستغني عن محل يقومه
وليس يلزم من هذا كونه متحيز بذاته والقائم بغيره هو المحتاج إلى ذلك المحل
ولا يلزم منه كونه متحيزا تبعا
وقد يقال في تقريره أي تقرير الوجه الرابع أجمعنا على أن له تعالى صفات قائمة بذاته
ومعنى القيام هو التحيز تبعا فيكون هو متحيزا أصالة
ويجاب بأن القيام هو الاختصاص الناعت كما مر
الخامس الاستدلال بالظواهر الموهمة بالتجسم من الآيات والأحاديث نحو قوله تعالى * (الرحمن على العرش استوى) * * (وجاء ربك والملك صفا صفا) * * (فإن استكبروا فالذين عند ربك) * * (إليه يصعد الكلم الطيب) * * (تعرج الملائكة والروح إليه) * " هل
36

ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) * (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) * * (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) * وحديث النزول وهو أنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة
وفي رواية في كل ليلة جمعة فيقول هل من تائب فأتوب عليه
هل من مستغفر فأغفر له
وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية الخرساء (أين الله فأشارت إلى السماء فقرر) ولم ينكر
وقال إنها مؤمنة
فالسؤال والتقرير المذكوران يشعران بالجهة والمكان
والجواب أنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات الدالة على نفي المكان والجهة
كيف ومهما تعارض دليلان وجب العمل بهما ما أمكن فتؤول الظواهر إما إجمالا ويفوض تفصيله إلى الله كما هو رأي من يقف على الله
وعليه أكثر السلف كما روي عن أحمد الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والبحث عنها بدعة
وأما تفصيلا كما هو رأي طائفة فنقول الاستواء الاستيلاء
نحو قوله قد استوى عمرو على العراق من غير سيف ودم مهراق
والعندية بمعنى الاصطفاء
37

والإكرام كما يقال فلان قريب من الملك
* (وجاء ربك) * أي أمره " وإليه يصعد الكلم الطيب " أي يرتضيه
فإن الكل عرض يمتنع عليه الانتفال
" ومن في السماء " أي حكمه أو سلطانه
أو ملك من ملائكته موكل بالعذاب للمستحقين وعليه فقس سائر الآيات والأحاديث
فالعروج إليه هو العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه
وإتيانه في ظل إتيان عذابه والدنو هو قرب الرسول إليه بالطاعة والتقدير بقاب قوسين تصوير للمعقول بالمحسوس والنزول محمول على اللطف والرحمة وترك ما يستدعيه عظم الشأن وعلو الرتبة على سبيل التمثيل
وخص بالليل لأنه مظنة الخلوات وأنواع الخضوع والعبادات
والسؤال بأين استكشاف عما ظن أنها معتقدة له من الأينية في الإلهية
فلما أشارت إلى السماء علم أنها ليست وثنية وحمل إشارتها على أنها أرادت كونه تعالى خالق السماء فحكم بإيمانها إلى غير ذلك من التأويلات التي ذكرها العلماء لهذه الآيات والأحاديث ونظائرها
فارجع إلى الكتب المبسوطة تظفر بها
المقصد الثاني
المتن في أنه تعالى أوليس
بجسم
وذهب بعض الجهال إلى أنه جسم
فالكرامية قالوا هو جسم
أي موجود
وقوم قالوا هو جسم
أي قائم بنفسه
فلا نزاع معهم إلا في التسمية
ومأخذها التوقيف
ولا توقيف
والمجسمة قالوا هو جسم حقيقة
فقيل من لحم ودم كمقاتل بن سليمان
وقيل نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء
وطوله سبعة أشبار من شبر نفسه
38

ومنهم من يقول إنه على صورة إنسان
فقيل شاب أمرد جعد قطط
وقيل شيخ أشمط الرأس واللحية
تعالى الله عن قول المبطلين
والمعتمد في بطلانه أنه لو كان جسما لكان متحيزا
واللازم قد أبطلناه
وأيضا يلزم تركبه وحدوثه
وأيضا فإن كان جسما لاتصف بصفات الأجسام
إما كلها فيجتمع الضدان أو بعضها فيلزم الترجيح بلا مرجح أو الاحتياج
وأيضا فيكون متناهيا فيتخصص بمقدار وشكل
واختصاصه بهما دون سائر الأجسام يكون لمخصص
ويلزم الحاجة
وحجتهم ما تقدم والجواب الجواب
الشرح
المقصد الثاني في أنه تعالى أوليس
بجسم وهو مذهب أهل الحق
وذهب بعض الجهال إلى أنه جسم ثم اختلفوا فالكرامية أي بعضهم قالوا هو جسم
أي موجود
وقوم آخرون منهم قالوا هو جسم
أي قائم بنفسه
فلا نزاع معهم على التفسيرين إلا في التسمية أي إطلاق لفظ الجسم عليه ومأخذها التوقيف
ولا توقيف ههنا
والمجسمة قالوا هو جسم حقيقة
فقيل مركب من لحم ودم كمقاتل بن سليمان وغيره
وقيل هو نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء
وطوله سبعة أشبار من شبر نفسه
ومنهم أي من المجسمة من يبالغ ويقول إنه على صورة إنسان
فقيل شاب أمرد جعد قطط أي شديد الجعودة
وقيل هو شيخ أشمط الرأس واللحية
تعالى الله عن قول المبطلين
والمعتمد في بطلانه أنه لو كان جسما لكان متحيزا
واللازم قد أبطلناه في المقصد الأول
وأيضا يلزم
39

تركبه وحدوثه لأن كل جسم كذلك
وأيضا فإن كان جسما لاتصف بصفات الأجسام
إما كلها فيجتمع الضدان أو بعضها فيلزم الترجيح بلا مرجح إذا لم يكن هنالك مرجح من خارج
وذلك الاستواء نسبة ذاته تعالى إلى تلك الصفات كلها أو الاحتياج أي احتياج ذاته في الاتصاف بذلك البعض إلى غيره
وأيضا فيكون متناهيا على تقدير كونه جسما فيتخصص لا محالة بمقدار معين وشكل مخصوص
واختصاصه بهما دون سائر الأجسام يكون بمخصص خارج عن ذاته لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح
ويلزم حينئذ الحاجة إلى الغير في الاتصاف بذلك الشكل والمقدار وحجتهم ما تقدم من أن كل موجود فهو إما متحيز أو حال في المتحيز كما تشهد به البديهة
والثاني مما لا يتصور في حقه تعالى
والأول هو الجسم
وأيضا كل قائم بنفسه جسم
وأيضا الآيات والأحاديث دالة على كونه جسما والجواب الجواب
المقصد الثالث
المتن
أنه تعالى أوليس
جوهرا ولا عرضا أما الجوهر أما عند المتكلم فلأنه المتحيز
وقد أبطلناه
وأما عند الحكيم فلأنه ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع
وذلك إنما يتصور فيما وجوده غير ماهيته
ووجود الواجب نفس ماهيته
وأما العرض فلاحتياجه إلى محله
الشرح
المقصد الثالث أنه تعالى أوليس
جوهرا ولا عرضا
أما الجوهر فنقول إنه مسلوب عنه تعالى فأما عند المتكلم فلأنه المتحيز بالذات وقد
40

أبطلناه
وأما عند الحكيم فلأنه ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع
وذلك إنما يتصور فيما وجوده غير ماهيته ووجود الواجب نفس ماهيته فلا يكون جوهرا عندهم أيضا
وأما العرض فلاحتياجه في وجوده إلى محله
والواجب تعالى مستغن عن جميع ما عداه
المقصد الرابع
المتن
أنه تعالى أوليس
في زمان
هذا ما اتفق عليه أرباب الملل
ولا نعرف فيه للعقلاء خلافا
أما عند الحكماء فلأن الزمان مقدار حركة المحدد فلا يتصور فيما لا تعلق له بالحركة والجهة وأما عندنا فلأنه متجدد يقدر به متجدد فلا يتصور في القديم
فأي تفسير فسر به امتنع ثبوته لله تعالى
تنبيه يعلم مما ذكرنا أنا سواء قلنا العالم حادث بالحدوث الزماني أو الذاتي فتقدم الباري سبحانه عليه أوليس
تقدما زمانيا
وأن بقاءه أوليس
عبارة عن وجوده في زمانين ولا القدم عبارة عن أن يكون قبل كل زمان زمان
وأنه يبسط العذر في ورود ما ورد من الكلام الأزلي بصيغة الماضي ولو في الأمور المستقبلة
وههنا أسرار أخر لا أبوح بها ثقة بفطنتك
الشرح
المقصد الرابع إنه تعالى أوليس
في زمان أي أوليس
وجوده وجودا زمانيا
ومعنى كون الوجود زمانيا أنه لا يمكن حصوله إلا في زمان
كما أن معنى كونه مكانيا أنه لا يمكن حصوله إلا في مكان هذا مما اتفق عليه أرباب الملل
ولا نعرف فيه للعقلاء خلافا
وإن كان مذهب المجسمة يجر إليه كما يجر إلى الجهة والمكان
أما عند الحكماء فلأن الزمان
41

عندهم مقدار حركة المحدد للجهات فلا يتصور فيما لا تعلق له بالحركة والجهة وتوضيحه أن التعين التدريجي زماني بمعنى أنه يتقدر بالزمان وينطبق عليه
ولا يتصور وجوده إلا فيه والتغير الدفعي متعلق بالآن الذي هو طرف الزمان
فما لا تغير فيه أصلا لا تعلق له بالزمان قطعا
نعم وجوده تعالى مقارن للزمان وحاصل مع حصوله
وأما أنه زماني أو آني أي واقع في أحدهما
فكلا
وأما عندنا فلأنه أي الزمان متجدد يقدر به متجدد
فلا يتصور في القديم
فأي تفسير فسر الزمان به امتنع ثبوته لله تعالى
تنبيه على ما يتضمنه هذا الأصل الذي مهدناه آنفا يعلم مما ذكرنا أنا سواء قلنا العالم حدثنا بالحدوث الزماني كما هو رأينا أو الذاتي كما هو رأي الحكيم فتقدم الباري سبحانه عليه لكونه موجدا إياه أوليس
تقدما زمانيا وإلا لزم كونه تعالى واقعا في الزمان
بل هو تقدم ذاتي عندهم
وقسم سادس عندنا كتقدم بعض أجزاء الزمان على بعضها ويعلم أيضا أن بقاءه أوليس
عبارة عن وجوده في زمانين وإلا كان تعالى زمانيا بل هو عبارة امتناع عدمه ومقارنته مع الأزمنة ولا القدم عبارة عن أن يكون قبل كل زمان زمان وإلا لم يتصف به الباري تعالى وأنه أي ما ذكرناه من أنه تعالى أوليس
زمانيا يبسط العذر في ورود ما ورد من الكلام الأزلي بصيغة الماضي
ولو في الأمور المستقبلة الواقعة فيما لا يزال كقوله تعالى * (إنا أرسلنا نوحا) * وذلك لأنه إذا لم يكن زمانيا لا بحسب ذاته ولا بحسب صفاته كان نسبة كلامه الأزلي إلى جميع الأزمنة على السوية
إلا أن حكمته
42

تعالى اقتضت التعبير عن بعض الأمور بصيغة الماضي وعن بعضها بصيغة المستقبل فسقط ما تمسك به المعتزلة في حدوث القرآن من أنه لو كان قديما لزم الكذب في أمثال ما ذكر
فإن الإرسال لم يكن واقعا قبل الأزل
وههنا أسرار أخر لا أبوح بها ثقة بفطنتك
منها إذا قلنا كان الله موجودا في الأزل وسيكون موجودا في الأبد
وهو موجود الآن لم نرد به أن وجوده واقع في تلك الأزمنة بل أردنا أنه مقارن معها من غير أن يتعلق بها كتعلق الزمانيات
ومنها أنه لو ثبت وجود مجردات عقلية لم تكن أيضا زمانية
ومنها أنه إذا لم يكن زمانيا لم يكن بالقياس إليه ماض وحال ومستقبل
فلا يلزم من علمه بالتغيرات تغير في علمه
إنما يلزم ذلك إذا دخل فيه الزمان
المقصد الخامس
المتن في أنه تعالى لا يتحد بغيره لما علمت فيما تقدم من امتناع اتحاد الاثنين مطلقا
وأنه تعالى لا يجوز أن يحل في غيره لأن الحلول هو الحصول على سبيل التبعية
وأنه ينفي الوجوب
وأيضا لو استغنى على المحل لذاته لم يحل فيه
وإلا احتاج إليه لذاته ولزم قدم المحل
وأيضا فإن المحل إن قبل الانقسام لزم انقسامه وتركبه واحتياجه إلى أجزائه
وإلا كان أحقر الأشياء
وأيضا فلو حل في جسم فذاته قابلة للحلول
والأجسام متساوية في القبول
وإنما التخصيص للفاعل المختار
فلا يمكن الجزم بعدم حلوله في البقة والنواة
وأنه ضروري البطلان
والخصم معترف به
وربما يحتج عليه بأن معنى حلوله في الغير كون تحيزه تبعا لتحيز المحل فيلزم كونه متحيزا وفي جهة
وقد أبطلناه
وقد عرفت ضعفه
كيف وأنه ينتقض بصفاته تعالى
43

تنبيه كما لا تحل ذاته في غيره لا تحل صفته في غيره لأن الانتقال لا يتصور على الصفات
وإنما هو من خواص الذوات لا مطلقا بل الأجسام
واعلم أن المخالف في هذين الأصلين طوائف
الأولى النصارى
وضبط مذهبهم
أنهم إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح أو حلول ذاته فيه أو حلول صفته فيه كل ذلك إما ببدنه أو بنفسه
وإما ألا يقولوا بشيء من ذلك
وحينئذ فإما أن يقولوا أعطاه الله قدرة على الخلق أو لا ولكن خصه الله تعالى بالمعجزات وسماه ابنا تشريفا كما سمى إبراهيم خليلا
فهذه ثمانية احتمالات كلها باطلة إلا الأخير
فالستة الأولى باطلة لما بينا والسابع لما سنبينه أن لا مؤثر إلا الله
وأما تفصيل مذهبهم فسنذكره في خاتمة الكتاب
الثانية النصيرية والإسحاقية من الشيعة
قالوا ظهور الروحاني
44

بالجسماني لا ينكر ففي طرف الشر كالشياطين
وفي طرف الخير كالملائكة
فلا يمتنع أن يظهر الله تعالى في صورة بعض الكاملين وأولى الخلق بذلك أشرفهم وأكملهم وهو العترة الطاهرة
وهو من يظهر فيه العلم التام والقدرة التامة من الأئمة
ولم يتحاشوا عن إطلاق الآلهة على أئمتهم
الثالثة بعض المتصوفة
وكلامهم مخبط بين الحلول والاتحاد
والضبط ما ذكرناه في قول النصارى
ورأيت من ينكره ويقول إذ كل ذلك يشعر بالغيرية
ونحن لا نقول بها
وهذا العذر أشد من الجزم
الشرح
المقصد الخامس في أنه تعالى لا يتحد بغيره لما علمت فيما تقدم أي في الموقف الثاني من امتناع اتحاد الاثنين مطلقا
وفي أنه تعالى لا يجوز أن يحل في غيره وذلك لأن الحلول هو الحصول على سبيل التبعية
وأنه ينفي الوجوب الذاتي وأيضا لو استغنى عن المحل لذاته لم يحل فيه إذ لا بد في الحلول من حاجة
ويستحيل أن يعرض للغني بالذات ما يحوجه إلى المحل
لأن ما بالذات ما يحوجه إلى المحل لأن ما بالذات لا يزول بالغير وإلا احتياج إليه أي إلى المحل لذاته فإن الاستغناء عدم الاحتياج
فلا واسطة بينهما
ولزم حينئذ مع حاجة الواجب قدم المحل فيلزم محالان معا
وأيضا إذا حل في شيء فإن المحل إن قبل الانقسام لزم انقسامه وتركبه واحتياجه إلى أجزائه وهو باطل
وإلا أي إن
45

لم يقبل الانقسام كالجوهر الفرد كان الواجب أحقر الأشياء لحلوله فيه
وأيضا فلو حل في جسم فذاته قابلة للحلول في الجسم والأجسام متساوية في القبول لتركبها من الجواهر الأفراد المتماثلة
وإنما التخصيص ببعض الأجسام دون بعض للفاعل المختار
فلا يمكن الجزم بعدم حلوله في البقة والنواة وأنه ضروري البطلان
والخصم معترف به
وربما يحتج عليه بأن معنى حلوله في الغير كون تحيزه تبعا لتحيز المحل فيلزم كونه متحيزا في جهة
وقد أبطلناه
وقد عرفت ضعفه لأن الحلول مفسر بالاختصاص الناعت دون التبعية في التحيز كيف وأنه ينتقض بصفاته تعالى فإنها قائمة بذاته ولا تحيز هناك
تنبيه كما لا تحل ذاته في غيره لا تحل صفته في غيره لأن الانتقال لا يتصور على الصفات
وإنما هو من خواص الذوات لا مطلقا بل الأجسام
واعلم أن المخالف في هذين الأصلين يعني عدم الاتحاد وعدم الحلول طوائف ثلاث
الأولى النصارى ولما كان كلامهم مخبطا
ولذلك اختلف في نقله أشار إلى ما يفي بالمقصود فقال وضبط مذهبهم أنهم إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح أو حلول ذاته فيه أو حلول صفته فيه
كل ذلك إما ببدنه أي بدن عيسى أو بنفسه
فهذه ستة
وإما أن لا يقولوا بشيء من ذلك
وحينئذ فإما أن يقولوا أعطاه الله قدرة على الخلق والإيجاد أو لا
ولكن خصه الله تعالى بالمعجزات
وسماه ابنا تشريفا وإكراما كما سمى إبراهيم خليلا
فهذه ثمانية احتمالات باطلة إلا الأخير
فالستة الأولى باطلة لما بينا من امتناع الاتحاد والحلول
والسابع باطل لما سنبينه أن لا مؤثر في الوجود إلا الله
وهذا كلام إجمالي
وأما تفصيل مذهبهم
46

فسنذكره في خاتمة الكتاب
كان في عزيمته أن يشير هناك إلى جميع الملل والنحل إشارة خفيفة لكنه بعد إتمام الكتاب رأى الاقتصاد على بيان الفرق الإسلامية أولى خوفا من الإملال
الطائفة الثانية النصيرية والإسحاقية من غلاة الشيعة قالوا ظهور الروحاني بالجسماني لا ينكر
ففي طرف الشر كالشياطين فإنه كثيرا ما يتصور الشيطان بصورة إنسان ليعلمه الشر ويكلمه بلسانه
وفي طرف الخير كالملائكة فإن جبريل كان يظهر بصورة دحية الكلبي والأعرابي فلا يمتنع حينئذ أن يظهره الله تعالى في صورة بعض الكاملين وأولى الخلق بذلك أشرفهم وأكملهم وهو العترة الطاهرة
وهو من يظهر فيه العلم التام والقدرة التامة من الأئمة من تلك العترة ولم يتحاشوا عن إطلاق الآلهة على أئمتهم وهذه ضلالة بينة
الطائفة الثالثة بعض المتصوفة
وكلامهم مخبط بين الحلول
47

والاتحاد والضبط ما ذكرناه في قول النصارى والكل باطل سوى أنه تعالى خص أولياءه بخوارق عادات كرامة لهم
ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره ويقول لا حلول ولا اتحاد إذ كل ذلك يشعر بالغيرية
ونحن لا نقول بها بل نقول أوليس
في دار الوجود غيره ديار
وهذا العذر أشد قبحا وبطلانا من ذلك الجزم إذ يلزم تلك المخالطة التي لا يجترىء على القول بها عاقل ولا مميز أدنى تمييز
المقصد السادس
المتن في أنه تعالى يمتنع أن يقوم بذاته حادث
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات على شيء واحد فنقول الحادث الموجود بعد العدم
وأما ما لا وجود له وتجدد
ويقال له متجدد
ولا يقال له حادث فثلاثة
الأول الأحوال
ولم يجوز تجددها إلا أبو الحسين فإنه قال تتجدد العالمية فيه بتجدد المعلومات
الثاني الإضافات
ويجوز تجددها اتفاقا
الثالث السلوب
فما نسب إلى ما يستحيل اتصاف الباري تعالى به
امتنع تجدده
وإلا جاز
إذا عرفت هذا فقد اختلف في كونه تعالى محل الحوادث فمنعه الجمهور
وقال المجوس كل حادث قائم به
والكرامية بل كل حادث
48

يحتاج إليه في الإيجاد
فقيل هو الإرادة
وقيل كن واتفقوا أنه يسمى حادثا وما لا يقوم بذاته محدثا فرقا بينهما
لنا وجوه ثلاثة
الأول لو جاز قيام الحادث لجاز أزلا
واللازم باطل
أما الملازمة فلأن القابلية من لوازم الذات
وإلا لزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وأيضا فتكون القابلية طارئة على الذات فتكون صفة زائدة
ويلزم التسلسل وإذا كانت من لوازم الذات امتنع انفكاكها عنها فتدوم بدوامها والذات أزلية
فكذا القابلية
وهي تقتضي جواز اتصاف الذات به أزلا إذ لا معنى للقابلية إلا جواز الاتصاف به
وأما بطلان اللازم فلأن القابلية نسبة تقتضي قابلا ومقبولا
وصحتها أزلا تستلزم صحة الطرفين أزلا
فيلزم صحة وجود الحادث أزلا
هذا خلف
الثاني صفاته تعالى صفات كمال فخلوه عنها نقص
الثالث أنه تعالى لا يتأثر عن غيره
ويمكن الجواب عن الأول بأن اللازم أزلية الصحة
والمحال صحة الأزلية
فأين أحدهما من الآخر إذ لو لزم لزم في وجود العالم وإيجاده
لا يقال القابلية ذاتية دون الفاعلية لأنا نقول الكلام في قابلية الفعل
وعن الثاني لم لا يجوز أن يكون ثمة صفات كمال متلاحقة لا يمكن بقاؤها
وكل لاحق منها مشروط بالسابق
فلا ينتقل عن الكمال الممكن له إلا إلى كمال آخر
ولا يلزم الخلو وأما الخلو عن كل واحد منها
فإما لامتناع بقائه
ولا نسلم امتناع الخلو عن مثله
وإما لأنه لو لم يخل عنه لم
49

يمكن حصول غيره
فيلزم فقد كمالات غير متناهية
فكان فقده لتحصيل كمالات غير متناهية هو الكمال بالحقيقة
وعن الثالث وهو أنك إن أردت بتأثره عن غيره حصول الصفة له بعد أن لم يكن فهو أول المسألة
وإن أردت أن هذه الصفة تحصل في ذاته من فاعل غيره فممنوع لجواز أن يكون مقتضى لذاته
إما على سبيل الإيجاب لما ذكرنا من الترتب
وإما على سبيل الاختيار فكما أوجد سائر المحدثات يوجد الحادث في ذاته
وربما يقال لو قام الحادث بذاته لم يخل عنه وعن ضده وضد الحادث حادث
وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
وهذا يبتني على أربع مقدمات
الأولى أن لكل صفة حادثة ضدا
الثانية ضد الحادث حادث
الثالثة الذات لا تخلو عن الشيء وضده
الرابعة ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
والثلاث الأول مشكلة
والرابعة إذا تمت تم الدليل الثاني
احتج الخصم بوجوه
الأول الاتفاق على أنه متكلم سميع بصير
ولا تتصور إلا بوجود المخاطب والمسموع والمبصر
وهي حادثة
قلنا تعلقه
وإنه إضافة
الثاني المصحح للقيام به إما كونه صفة فيعم أو مع وصف القدم وهو كونه غير مسبوق بالعدم
وأنه سلب لا يصلح جزءا للمؤثر
50

قلنا المصحح هو حقيقة الصفة القديمة
وهي مخالفة لحقيقة الصفة الحادثة بذاتها
الثالث أنه تعالى صار خالقا للعالم بعد ما لم يكن وعالما بأنه وجد بعد أن كان عالما بأنه سيوجد
قلنا التغير في الإضافات
قالت الكرامية أكثر العقلاء يوافقوننا فيه
وإن أنكروه باللسان
فإن الجبائية قالوا بإرادة وكراهة حادثتين لا في محل
لكن المريدية والكارهية حادثتان في ذاته
وكذا السامعية والمبصرية تحدث بحدوث المسموع والمبصر
وأبو الحسين يثبت علوما متجددة
والأشعرية يثبتون النسخ وهو إما رفع الحكم أو انتهاؤه
وهما عدم بعد الوجود
والفلاسفة أثبتوا الإضافات مع عروض المعية والقبلية
والجواب أن التغير في الإضافات كما تقدم في تحرير محل النزاع
والحكماء لا يثبتون كل إضافة فلا يرد عليهم الإلزام
تنبيه الصفات حقيقية محضة كالسواد والبياض وذات إضافة كالعلم والقدرة
وإضافية محضة كالمعية والقبلية
ولا يجوز التغير في الأول مطلقا
ويجوز في الثالث مطلقا
والثاني لا يجوز التغير فيه ويجوز في تعلقه
51

الشرح
المقصد السادس في أنه تعالى يمتنع أن يقوم بذاته حادث
ولا بد أولا أي قبل الشروع في الاحتجاج من تحرير محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات من الجانبين على شيء واحد فنقول الحادث هو الموجود بعد العدم
وأما ما لا وجود له وتجدد
ويقال له متجدد ولا يقال له حادث وهو فثلاثة أقسام
الأول الأحوال
ولم يجوز تجددها في ذاته تعالى إلا أبو الحسين من المعتزلة فإنه قال تتجدد العالمية فيه بتجدد المعلومات هكذا ذكره الآمدي في أبكار الأفكار
وقال الإمام الرازي في نهاية العقول اختلفت المعتزلة في تجويز تجدد الأحوال مثل المدركية والسامعية المبصرية والمريدية والكارهية
وأما أبو الحسين فإنه أثبت تجدد العالميات في ذاته تعالى
الثاني الإضافات أي النسب ويجوز تجددها اتفاقا من العقلاء حتى يقال إنه تعالى موجود مع العالم بعد أن لم يكن معه
الثالث السلوب
فما نسب إلى ما يستحيل اتصاف الباري تعالى به امتنع تجدده كما في قولنا إنه أوليس
بجسم ولا جوهر ولا عرض
فإن هذه سلوب يمتنع تجددها
وإلا جاز فإنه تعالى موجود مع كل حادث
52

ويزول عنه هذه المعية إذا عدم الحادث فقد تجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن
إذا عرفت هذا الذي ذكرناه فقد اختلف في كونه تعالى محل الحوادث أي الأمور الموجودة بعد عدمها
فمنعه الجمهور من العقلاء من أرباب الملل وغيرهم
وقال المجوس كل حادث هو من صفات الكمال قائم به أي يجوز أن يقوم به الصفات الكمالية الحادثة مطلقا وقال الكرامية يجوز أن يقوم به الحادث لا مطلقا بل كل حادث يحتاج الباري تعالى إليه في الإيجاد أي في إيجاده للخلق ثم اختلفوا في ذلك الحادث فقيل هي الإرادة وقيل هو قوله كن فخلق هذا القول أو الإرادة في ذاته تعالى مستند إلى القدرة القديمة
وأما خلق باقي المخلوقات فمستند إلى الإرادة أو القول على اختلاف المذهبين
واتفقوا على أنه أي الحادث القائم بذاته يسمى حادثا
وما لا يقوم بذاته من الحوادث يسمى محدثا لا حادثا فرقا بينهما
لنا في إثبات هذا المدعى وجوه ثلاثة
الأول لو جاز قيام الحادث بذاته لجاز أزلا
واللازم باطل
أما الملازمة فلأن القابلية من لوازم الذات
وإلا لزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي فإن القابلية إذا لم تكن لازمة بل عارضة كان الذات في حد نفسها قبل عروض القابلية لها ممتنعة القبول للحادث المقبول
وبعد عروضها ممكنة القبول له
فيلزم ذلك الانقلاب
ولو فرض زوال القابلية بعد ثبوتها لزم الانقلاب من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي
ولما لم يكن لنا
53

حاجة إلى هذا لم نتعرض له وأيضا فتكون القابلية على تقدير عدم لزومها
وثبوتها للذات أزلا طارئة على الذات فتكون صفة زائدة عليها عارضة لها
وحينئذ فلا بد للذات من قابلية لهذه القابلية
فإن كانت قابلية القابلية لازمة للذات فذاك
وإلا فهناك قابلية ثالثة
ويلزم التسلسل في القابليات المحصورة بين حاصرين
وهو محال
وإذا كانت القابلية من لوازم الذات امتنع انفكاكها عنها فتدوم القابلية بدوامها
والذات أزلية
فكذا القابلية
وهي أي أزلية القابلية تقتضي جواز اتصاف الذات به أي بالحادث أزلا
إذ لا معنى للقابلية إلا جواز الاتصاف به أي بالمقبول
وأما بطلان اللازم فلأن القابلية نسبة تقتضي قابلا ومقبولا
وصحتها أزلا تستلزم صحة الطرفين أزلا فيلزم صحة وجود الحادث أزلا
هذا خلف
الثاني من تلك الوجوه صفاته تعالى صفات الكمال
فخلوه عنها نقص
والنقص عليه محال إجماعا
فلا يكون شيء من صفاته حادثا
وإلا كان خاليا عنه قبل حدوثه
الثالث منها أنه
تعالى لا يتأثر عن غيره
ولو قام به حادث لكانت ذاته متأثرة عن الغير متغيرة به
ويمكن الجواب عن الوجه الأول بأن اللازم مما ذكرتموه من لزوم القابلية للذات هو أزلية الصحة أي أزلية صحة وجود الحادث
وهذا اللازم أوليس
بمحال
فإن صحة وجود الحادث أزلية بلا شبهة والمحال هو صحة الأزلية أي صحة أزلية وجود الحادث
وهذا أوليس
بلازم
لأن أزلية الإمكان تغاير إمكان الأزلية ولا تستلزمه كما في الحوادث اليومية على ما مر تحقيقه
فأين أحدهما من الآخر وأيضا ما ذكرتموه منقوض إذ لو لزم وصح لزم مثله في وجود العالم وإيجاده
فإنه تعالى موصوف في الأزل بصحة إيجاد العالم
فيصح في الأزل وجوده قطعا
54

فيصح أن يكون العالم أزليا وهو محال
فلو لزم من القابلية الأزلية إمكان أزلية الحادث للزم من الفاعلية الأزلية إمكان أزلية العالم
لا يقال القابلية صفة ذاتية لازمة للذات فيلزم إمكان أزلية المقبول دون الفاعلية فإنها صفة غير لازمة
فلا يلزم إمكان أزلية المفعول لأنا نقول الكلام في قابلية الفعل والتأثير
فإنها أزلية كما أشرنا إليه
فيلزم إمكان أزلية المفعول لا في الفاعلية الحاصلة بالفعل
ويمكن الجواب عن الوجه الثاني بأن يقال لم لا يجوز أن يكون ثمة صفات كمال متلاحقة غير متناهية لا يمكن بقاؤها واجتماعها
وكل لاحق منها مشروط بالسابق على قياس الحركات الفلكية عند الحكماء
فلا ينتقل حينئذ عن الكمال الممكن له إلا إلى كمال آخر يعاقبه ولا يلزم الخلو عن الكمال المشترك بين تلك الأمور المتلاحقة
وأما الخلو عن كل واحد منها فإما لامتناع بقائه
ولا نسلم امتناع الخلو عن مثله مما يمتنع بقاؤه
إنما الممتنع هو الخلو عن كمال يمكن بقاؤه
وأما لأنه لو لم يخل عنه لم يمكن حصول غيره فيلزم حينئذ فقد كمالات غير متناهية
فكان فقده أي فقد كل واحد منها لتحصيل كمالات غير متناهية هو الكمال بالحقيقة لا وجد أنه مع فقدان تلك الكمالات
إلا أن هذا التصوير ينافيه برهان التطبيق على رأي المتكلم كما سيشير إليه المصنف
ويمكن الجواب عن الوجه الثالث وهو أنك إن أردت بتأثره عن غيره حصول الصفة له بعد أن لم يكن فهو أول المسألة إذ لا معنى لقيام الحادث بذاته تعالى سوى هذا فيكون قولك إنه لا يتأثر عن غيره
55

عين مدعاك فيكون مصادرة على المطلوب
وإن أردت أن هذه الصفة الحادثة تحصيل في ذاته من فاعل غيره فممنوع إن ذلك لازم من قيام الصفة الحادثة به لجواز أن يكون حصوله في ذاته مقتضى لذاته
إما على سبيل الإيجاب لما ذكرنا من الترتب والتلاحق وإما على سبيل الاختيار
فكما أوجد سائر المحدثات في أوقات مخصوصة يوجد الحادث في ذاته
وربما يقال لو قام الحادث بذاته لم يخل عنه وعن ضده وضد الحادث حادث
وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث
وهذا الاستدلال يبتني على أربع مقدمات
الأولى أن لكل صفة حادثة ضدا
الثانية ضد الحادث حادث
الثالثة الذات لا تخلو عن الشيء ضده
الرابعة ما لا يخلو عن الحادث فهو حادث
والثلاث الأول من هذه المقدمات مشكلة
إذ لا دليل على صحتها
فلا يصح الاستدلال بها
والرابعة إذا تمت تم الدليل الثاني واندفع عنه حديث تلاحق الصفات
احتج الخصم بوجوه ثلاثة
الأول الاتفاق على أنه متكلم سميع بصير
ولا تتصور هذه الأمور إلا بوجود المخاطب والمسموع والمبصر
وهي حادثة
فوجب حدوث هذه الصفات القائمة بذاته تعالى
قلنا الحادث تعلقه أي تعلق ما ذكر من الصفات
وأنه أي ذلك التعلق إضافة من الإضافات فيجوز تجددها
56

وتغيرها
إذا الكلام عندنا معنى نفسي قديم قائم بذاته لا يتوقف على وجود المخاطب بل يتوقف عليه تعلقه
وكذا السمع والبصر والإرادة والكراهة
الثاني المصحح للقيام به إما كونه صفة فيعم هذا المصحح الحادث أو كونه صفة مع وصف القدم
وكونه غير مسبوق بالعدم وأنه سلب لا يصلح جزءا للمؤثر في الصحة فتعين الأول فيصح قيام الصفة الحادثة به
قلنا المصحح للقيام به هو حقيقة الصفة القديمة
وهي مخالفة لحقيقة الصفة الحادثة بذاتها
فلا يلزم اشتراك الصحة
الثالث أنه تعالى صار مخالفا للعالم بعد ما لم يكن
وصار عالما بأنه وجد بعد أن كان عالما بأنه سيوجد فقد حدث فيه صفة الخالقية وصفة العلم
قلنا التغير في الإضافات فإن العلم صفة حقيقة لها تعلق بالمعلوم يتغير ذلك التعلق بحسب تغيره
والخالقية من الصفات الإضافية أو من الحقيقية
والمتغير تعلقها بالمخلوق لا نفسها
وقالت الكرامية أكثر العقلاء يوافقوننا فيه أي في قيام الصفة الحادثة بذاته تعالى وإن أنكروه باللسان
فإن الجبائية قالوا بإرادة وكراهة حادثتين لا في محل
لكن المريدية والكارهية حادثتان في ذاته
وكذا السامعية والمبصرية تحدث بحدوث المسموع والمبصر
وأبو الحسين يثبت علوما متجددة
والأشعرية يثبتون النسخ
وهو إما رفع الحكم القائم بذاته أو انتهاؤه
وهما عدم بعد الوجود فيكونان حادثين
والفلاسفة أثبتوا الإضافات أي قالوا بوجودها في الخارج مع عروض المعية والقبلية المتجددتين لذاته تعالى كما مر
فقد ذهبوا أيضا إلى قيام الحوادث به
والجواب أن التغير في الإضافات وهو جائز كما تقدم في تحرير محل النزاع فمراد الأشعرية أن تعلق الحكم به ينتهي أو يرتفع
وكذا مراد
57

أبي الحسين والجبائية هو أن تعلق العلم والمريدية والكارهية يتجدد
أو نقول هؤلاء ذهبوا إلى تجدد الأحوال في ذاته كما نبهت عليه
والحكماء لا يثبتون كل إضافة
فلا يرد عليهم الإلزام بالمعية والقبلية ونظائرهما
فإنها إضافات لا وجود لها
تنبيه على ضابط ينتفع به في دفع ما تمسك به الخصم الصفات على ثلاثة أقسام حقيقية محضة كالسواد والبياض والوجود والحياة
وحقيقة ذات إضافة كالعلم والقدرة
وإضافية محضة كالمعية والقبلية وفي عددها الصفات السلبية
ولا يجوز بالنسبة إلى ذاته تعالى التغير في القسم الأول مطلقا
ويجوز في القسم الثالث مطلقا
وأما القسم الثاني فإنه لا يجوز التغير فيه نفسه ويجوز في تعلقه
المقصد السابع
المتن اتفق العقلاء على أنه تعالى لا يتصف بشيء من الأعراض المحسوسة كالطعم واللون والرائحة والألم
وكذا اللذة الحسية
وأما اللذة العقلية فنفاها المليون
وأثبتها الفلاسفة
قالوا اللذة إدراك الملائم
فمن أدرك كمالا في ذاته التذ به
وذلك ضروري
ثم إن كماله تعالى أجل الكمالات
وإدراكه أقوى الإدراكات فوجب أن تكون لذته أقوى اللذات
والجواب لا نسلم أن اللذة نفس الإدراك كما مر
وإذا كان سببا
58

للذة فقد لا تكون ذاته قابلة للذة
ووجود السبب لا يكفي دون وجود القابل
وإن سلم فلم قلت إن إدراكنا مماثل لإدراكه بالحقيقة
الشرح
المقصد السابع اتفق العقلاء على أنه تعالى لا يتصف بشيء من الأعراض المحسوسة بالحس الظاهر أو الباطن كالطعم واللون والرائحة والألم مطلقا
وكذا اللذة الحسية وسائر الكيفيات النفسانية من الحقد والحزن والخوف ونظائرها
فإنها كلها تابعة للمزاج المستلزم للتركيب المنافي للوجوب الذاتي
وأما اللذة العقلية فنفاها المليون وأثبتها الفلاسفة
قالوا اللذة إدراك الملائم
فمن أدرك كمالا في ذاته التذ به
وذلك ضروري يشهد به الوجدان ثم إن كماله تعالى أجل الكمالات وإدراكه أقوى الإدراكات فوجب أن تكون لذاته أقوى اللذات
ولذلك قالوا أجل مبتهج هو المبدأ الأول بذاته تعالى
والجواب لا نسلم أن اللذة نفس الإدراك كما مر
وإذا كان سببا للذة فقد لا تكون ذاته قابلة للذة
ووجود السبب لا يكفي لوجود المسبب دون وجود القابل
وإن سلم قبول ذاته لها فلم قلت إن إدراكنا مماثل لإدراكه في الحقيقة حتى يكون هو أيضا سببا للذة كإدراكنا
ولو قدم هذا السؤال الثالث على الثاني لكان له وجه وجيه كما لا يخفى على ذي فطرة سليمة
59

المرصد الثالث في توحيده تعالى
المتن وهو مقصد واحد
وهو أنه يمتنع وجود إلهين
أما الحكماء فقالوا يمتنع وجود موجودين كل واحد منهما واجب لذاته لوجهين
الأول لو وجد واجبان
وقد تقدم أن الوجوب نفس الماهية
لتمايزا بتعين لامتناع الإثنينية بدون الامتياز بالتعين
فيلزم تركبهما
وأنه محال وهو مبني على أن الوجوب وجودي
فإن صح لهم ذلك تم الدست ولم يمكن منع كون الوجوب على تقدير ثبوته نفس الماهية وكون التعين أمرا ثبوتيا إذ قد فرغنا عنهما
الثاني الوجوب هو المقتضي للتعين فيمتنع التعدد
أما الأول فإذ لولاه فإما أن يستلزم التعين لوجوب فيلزم تأخره ويلزم الدور
أو لا يستلزم فيجوز الانفكاك بينهما فيجوز الوجوب بلا تعين وأنه محال
والتعين بلا وجوب فلا يكون واجبا لذاته
وهو أيضا بناء على كون الوجوب ثبوتيا
وأما الثاني فلما علمت أن الماهية المقتضية لتعينها ينحصر نوعها في شخص
وأما المتكلمون فقالوا يمتنع وجود إلهين مستجمعين لشرائط الإلهية لوجهين
60

الأول لو وجد إلهان قادران لكان نسبة المقدورات إليهما سواء إذ المقتضي للقدرة ذاتهما وللمقدورية الإمكان فتستوي النسبة
فإذا يلزم وقوع هذا المقدور المعين إما بهما وأنه باطل لما بينا من امتناع مقدور بين قادرين وإما بأحدهما ويلزم الترجيح بلا مرجح
الثاني إذا أراد أحدهما شيئا فإما أن يمكن من الآخر إرادة ضده أو يمتنع
وكلاهما محال
أما الأول فلأنا نفرض وقوع إرادته له لأن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال فيلزم إما وقوعهما معا فيلزم اجتماع الضدين
وإما لا وقوعهما فيلزم ارتفاعهما فيلزم عجزهما
وأيضا فإذا فرض في ضدين لا يرتفعان كحركة جسم وسكونه لزم المحال
وأما وقوع أحدهما دون الآخر فالذي لا يقع مراده لا يكون قادرا
وأما الثاني فلأن ذلك الشيء لذاته يمكن تعلق قدرة كل من الإلهين وإرادته به
فالذي امتنع تعلق قدرته به فالمانع عنه هو تعلق قدرة الآخر فيكون هذا عاجزا
هذا خلف
واعلم أنه لا مخالف في هذه المسألة إلا الثنوية فإنهم قالوا نجد في العالم خيرا كثيرا وشرا كثيرا
وأن الواحد لا يكون خيرا شريرا بالضرورة
فلكل فاعل
والجواب منع قولهم الواحد لا يكون خيرا شريرا
اللهم إلا أن يراد بالخير من يغلب خيره وبالشرير من يغلب شره كما ينبئ عنه ظاهر اللغة
61

لكنه غير ما لزم فلا يفيد إبطاله
ثم بعد يقال لهم الخير إن قدر على دفع شر الشرير ولم يفعله فهو شرير
وإن لم يقدر عليه فهو عاجز
فتعارض خطابتهم بخطابة أحسن من ذلك مآلا وأكثر إقناعا
الشرح
المرصد الثالث في توحيده تعالى
أفرده عن سائر التنزيهات اهتماما بشأنه وهو مقصد واحد
وهو أنه يمتنع وجود إلهين
أما الحكماء فقالوا يمتنع وجود موجودين كل واحد منهما واجب لذاته وذلك لوجهين
الأول لو وجد واجبان
وقد تقدم أن الوجوب نفس الماهية لتمايزا بتعين لامتناع الإثنينية مع التشارك في تمام الماهية بدون الامتياز بالتعين الداخل في هوية كل من ذينك المتشاركين فيلزم تركبهما أي تركب هوية كل منهما من الماهية المشتركة والتعين المميز
وأنه محال إذ يلزم أن لا يكون شيء منهما واجبا والمقدر خلافه
وهو أي هذا الوجه مبني على أن الوجوب وجودي إذ حينئذ يكون نفس الماهية
فإن صح لهم ذلك تم الدست وهو فارسي معرب بمعنى اليد
يطلق على التمكن في المناصب والصدارة
أي تم استدلالهم على هذا المطلب الجليل وحصل لهم مقصودهم الذي راموه
ولم يمكن منع كون الوجوب على تقدير ثبوته نفس الماهية
ولا منع كون التعين أمرا ثبوتيا كيلا يلزم التركيب حينئذ
وإنما لم يمكن منعهما إذ قد فرغنا عنهما أي عن هاتين المقدمتين وإثباتهما فيما تقدم
الثاني من الوجهين الوجوب الذي هو نفس ماهية الواجب هو المقتضي للتعين الذي ينضم إليه فيمتنع التعدد حينئذ في الواجب
62

أما الأول وهو أن الوجوب هو المقتضي للتعين فإذ لولاه فإما أن يستلزم ويقتضي التعين الوجوب فيلزم تأخره أي تأخر الوجوب عن التعين ضرورة تأخر المعلول عن علته ويلزم الدور لأن الوجوب الذاتي الذي هو عين الذات يجب أن يكون متقدما على ما عداه علة له أو لا يستلزم ولا يقتضي شيء منهما الآخر فيجوز حينئذ الانفكاك بينهما لاستحالة أن يكون هناك أمر ثالث مقتضيا لهما معا حتى يتلازما لأجله فيجوز الوجوب بلا تعين
وأنه محال إذ يستحيل أن يوجد شيء بلا تعين ويجوز التعين بلا وجوب
فلا يكون ذلك التعين الموجود واجبا لذاته لامتناع الواجب بدون الوجوب
وهذا أيضا بناء على كون الوجوب ثبوتيا ليتحقق كونه نفس الماهية
وأما الثاني وهو أن الوجوب إذا كان هو المقتضي للتعين امتنع التعدد فلما علمت أن الماهية المقتضية لتعينها ينحصر نوعها في شخص واحد
ولذلك لم يتعرض له
وأما المتكلمون فقالوا يمتنع وجود إلهين مستجمعين لشرائط الألوهية لوجهين
الأول لو وجد إلهان قادران على الكمال لكان نسبة المقدورات إليهما سواء
إذ المقتضي للقدرة ذاتهما
وللمقدورية الإمكان لأن الوجوب والامتناع يحيلان المقدورية فتستوي النسبة بين كل مقدور وبينهما فإذا يلزم وقوع هذا المقدور المعين إما بهما وأنه باطل لما بينا من امتناع مقدور بين قادرين
وإما بأحدهما
ويلزم الترجيح بلا مرجح
فلو تعددت الآلهة لم يوجد شيء من الممكنات لاستلزامه أحد المحالين إما وقوع مقدور بين قادرين وإما الترجيح بلا مرجح
63

الثاني من الوجهين إذا أراد أحدهما شيئا فإما أن يمكن من الآخر إرادة ضده أو يمتنع وكلاهما محال
أما الأول فلأنا نفرض وقوع إرادته له لأن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال
فيلزم إما وقوعهما معا فيلزم اجتماع الضدين
وإما لا وقوعهما فيلزم ارتفاعهما فيلزم عجزهما لعدم حصول مرادهما
وأيضا يلزم اجتماعهما لأن المانع من وقوع مراد كل منهما هو حصول مراد الآخر لا قادريته عليه
فإذا امتنع مراد كل منهما فقد حصل مرادهما معا
هذا خلف وأيضا فإذا فرض ما ذكرناه في ضدين لا يرتفعان كحركة جسم وسكونه لزم المحال وهو ارتفاعهما معا
وأما وقوع أحدهما دون الآخر فالذي لا يقع مراده لا يكون قادرا كاملا فلا يكون إلها
وأما الثاني وهو أن يمتنع إرادة الآخر ضده فلأن ذلك الشيء الذي امتنع تعلق إرادة الآخر به هو لذاته يمكن تعلق قدرة كل من الإلهين وإرادته به
فالذي امتنع تعلق قدرته وإرادته به فالمانع عنه هو تعلق قدرة الآخر وإرادته فيكون هذا عاجزا
فلا يكون إلها
هذا خلف
لأنه خلاف المقدر
وقد مر أنه يمكن إثبات الوحدانية بالدلائل النقلية لعدم توقف صحتها على التوحيد
واعلم أنه لا مخالف في هذه المسألة إلا الثنوية دون الوثنية
فإنهم لا يقولون بوجود إلهين واجبي الوجود
ولا يصفون الأوثان بصفات الإلهية وإن أطلقوا عليها اسم الآلهة بل اتخذوها على أنها تماثيل الأنبياء أو الزهاد أو الملائكة أو الكواكب
واشتغلوا بتعظيمها على وجه العبادة توصلا بها إلى ما هو إله حقيقة
وأما الثنوية فإنهم قالوا نجد في العالم خيرا كثيرا وشرا كثيرا
وأن الواحد لا يكون خيرا شريرا بالضرورة
فلكل منهما فاعل على
64

حدة
فالمانوية والديصانية من الثنوية قالوا فاعل الخير هو النور
وفاعل الشر هو الظلمة
وفساده ظاهر لأنهما عرضان فيلزم قدم الجسم وكون الإله محتاجا إليه
وكأنهم أرادوا معنى آخر سوى المتعارف فإنهم قالوا النور حي عالم قادر سميع بصير
والمجوس منهم ذهبوا إلى أن فاعل الخير هو يزدان وفاعل الشر هو اهرمن
ويعنون به الشيطان
والجواب منع قولهم الواحد لا يكون خيرا شريرا بمعنى أنه يوجد خير كثير وشر كثير
اللهم إلا أن يراد بالخير من يغلب خيره على شره وبالشرير من يغلب شره على خيره كما ينبئ عنه ظاهر اللغة فلا يجتمعان حينئذ في واحد لكنه غير ما لزم مما ذكر بل اللازم منه هو المعنى الذي أشرنا إليه
فلا يفيد إبطاله أي إبطال ما أوليس
بلازم ثم بعد هذا المنع والتنزل عنه يقال لهم الخير إن قدر على دفع شر الشرير ولم يفعله فهو شرير
وإن لم يقدر عليه فهو عاجز عن بعض الممكنات فلا يصلح إلها
فلا يوجد إلهان كما ذكرتم فنعارض خطابتهم بخطابة أحسن من ذلك مآلا وأكثر إقناعا
65

المرصد الرابع في الصفات الوجودية
وفيه مقاصد
المقصد الأول في إثبات الصفات على وجه عام
المتن ذهب الأشاعرة إلى أن له صفات زائدة
فهو عالم بعلم قادر بقدرة مريد بإرادة
وعلى هذا
وذهب الفلاسفة والشيعة إلى نفيها مع خلاف للشيعة في إطلاق الأسماء الحسنى عليه
والمعتزلة لهم تفصيل يأتي في كل مسألة
66

احتج الأشاعرة بوجوه
الأول ما اعتمد عليه القدماء
وهو قياس الغائب على الشاهد
فإن العلة والحد والشرط لا يختلف غائبا وشاهدا
وقد عرفت ضعفه
كيف والخصم قائل باختلاف مقتضى الصفات شاهدا وغائبا وقد يمتنع ثبوتها في الشاهد بل الثابت فيه العالمية والقادرية والمريدية
الثاني لو كان مفهوم كونه عالما حيا قادرا نفس ذاته لم يفد حملها على ذاته وكان قولنا الله الواجب بمثابة حمل الشيء على نفسه
واللازم باطل
وفيه نظر
فإنه لا يفيد إلا زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات
وأما زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا
نعم لو تصورا بحقيقتهما وأمكن حمل أحدهما دون الآخر حصل المطلوب
ولكن أنى ذلك
الثالث لو كان العلم نفس الذات والقدرة نفس الذات لكان العلم نفس القدرة فكان المفهوم من العلم والقدرة واحدا وأنه ضروري البطلان
وهذا من النمط الأول
والإيراد هو الإيراد
احتج الحكماء بأنه لو كان له صفة زائدة لكان فاعلا لاستناد جميع الممكنات إليه وقابلا لها
وقد تقدم بطلانه
والجواب لا نسلم بطلانه
وقد تقدم الكلام عليه
واحتج المعتزلة بوجوه
الأول ما مر أن إثبات القدماء كفر
وبه كفرت النصارى
والجواب ما مر من أن الكفر إثبات ذوات قديمة لا ذات وصفات
الثاني عالميته وقادريته واجبة فلا تحتاج إلى الغير
والجواب أن العالمية عندنا ليست أمرا وراء قيام العلم به
فيحكم عليها بأنها واجبة
وإن سلم فالمراد لوجوبها إن كان امتناع خلو الذات عنها
67

فذلك لا يمنع استنادها إلى صفة أخرى واجبة
فإنه نفس المتنازع فيه
وإن أردتم أنها واجبة لذاتها فبطلانه ظاهر
الثالث صفته صفة كمال
فيلزم أن يكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره
وهو باطل اتفاقا
والجواب إن أردتم باستكماله بالغير ثبوت صفة الكمال فهو جائز عندنا
وهو المتنازع فيه
وإن أردتم غيره فصوروه ثم بينوا لزومه
الشرح
المرصد الرابع في الصفات الوجودية
وفيه مقاصد ثمانية
المقصد الأول في إثبات الصفات لله تعالى
على وجه عام لا يختص بصفة دون أخرى
ذهبت الأشاعرة ومن تأسى بهم إلى أن له تعالى صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته فهو عالم بعلم قادر بقدرة مريد بإرادة
وعلى هذا القياس فهو سميع يسمع بصير يبصر
حي بحياة وذهبت الفلاسفة والشيعة إلى نفيها أي نفي الصفات الزائدة على الذات فقالوا هو عالم بالذات وقادر بالذات
وكذا سائر الصفات
مع خلاف للشيعة في إطلاق الأسماء الحسنى عليه فمنهم من لم يطلق شيئا منها عليه
ومنهم من لم يجوز خلوه عنها
والمعتزلة لهم في الصفات تفصيل يأتي في كل مسألة مسألة من مباحثها احتجت الأشاعرة على ما ذهبوا إليه بوجوه ثلاثة
68

الأول ما اعتمد عليه القدماء من الأشاعرة وهو قياس الغائب على الشاهد فإن العلة واحدة والشرط لا يختلف غائبا وشاهدا
ولا شك أن علة كون الشيء عالما في الشاهد هو العلم فكذا في الغائب
وحد العالم ههنا من قام به العلم
فكذا حده هناك وشرط صدق المشتق على واحد منا ثبوت أصله له
فكذا شرطه فيمن غاب عنا وقس على ذلك سائر الصفات
وقد عرفت ضعفه في المرصد الأخير من الموقف الأول
كيف والخصم أي القائس كما وقع في كلام الآمدي قائل ومعترف باختلاف مقتضى الصفات شاهدا وغائبا فإن القدرة في الشاهد لا يتصور فيها الإيجاد بخلافها في الغائب
والإرادة فيه لا تخصص بخلاف إرادة الغائب
وكذا الحال في باقي الصفات
فإذا وجد في أحدهما لم يوجد في الآخر فلا يصح القياس أصلا
كيف وقد يمنع ثبوتها أي ثبوت العلم والقدرة والإرادة ونظائرها في الشاهد بل الثابت فيه بيقين هو العالمية والقادرية والمريدية لا ما هي مشتقة منها فيضمحل القياس بالكلية
الوجه الثاني لو كان مفهوم كونه عالما حيا قادرا نفس ذاته لم يفد حملها على ذاته وكان قولنا على طريقة الإخبار الله الواجب أو العالم أو القادر أو الحي إلى سائر الصفات بمثابة حمل الشيء على نفسه
واللازم باطل لأن حمل هذه الصفات يفيد فائدة صحيحة بخلاف قولنا ذاته ذاته
وإذا بطل كونها نفسه
ولا مجال للجزئية قطعا تعينت الزيادة على الذات
وفيه نظر
فإنه لا يفيد إلا زيادة هذا المفهوم أعني مفهوم العالم والقادر ونظائرهما على مفهوم الذات ولا نزاع في ذلك
وأما زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا يفيده هذا الدليل
نعم
69

لو تصورا أي مفهوما الوصف والذات معا بحقيقتهما وأمكن حمل أحدهما أي الوصف على الذات دون حمل الآخر أي الذات عليها حصل المطلوب وهو زيادة الوصف على الذات
ولكن أنى ذلك التصور الواصل إلى كنه حقيقتهما
الوجه الثالث لو كان العلم نفس الذات والقدرة أيضا نفس الذات كما زعموه لكان العلم نفس القدرة فكان المفهوم من العلم والقدرة أمرا واحدا
وأنه ضروري البطلان وكذا الحال في باقي الصفات التي ادعى أنها عين الذات
وهذا الوجه من النمط الأول أي الوجه السابق عليه
والإيراد هو الإيراد يعني أنه يدل على تغاير مفهومي العلم والقدرة ومغايرتهما للذات لا على تغاير حقيقتهما ومغايرتهما لها
والمتنازع فيه هو الثاني دون الأول
فمنشأ هذين الوجهين عدم الفرق بين مفهوم الشيء وحقيقته
فإن قلت كيف يتصور كون صفة الشيء عين حقيقته مع أن كل واحد من الموصوف والصفة يشهد بمغايرته لصاحبه وهل هذا إلا كلام مخيل لا يمكن أن يصدق به كما في سائر القضايا المخيلة التي يمتنع التصديق بها فلا حاجة بنا إلى الاستدلال على بطلانه
قلت أوليس
معنى ما ذكروه أن هناك ذاتا وله صفة
وهما متحدان حقيقة كما تخيلته بل معناه أن ذاته تعالى يترتب عليه ما يترتب على ذات وصفه معا
مثلا ذاتك ليست كافية في انكشاف الأشياء عليك بل تحتاج في ذلك إلى صفة العلم التي تقوم بك بخلاف ذاته تعالى فإنه لا يحتاج في انكشاف الأشياء وظهورها عليه إلى صفة تقوم به بل المفهومات
70

بأسرها منكشفة عليه لأجل ذاته تعالى
فذاته بهذا الاعتبار حقيقة العلم وكذا الحال في القدرة
فإن ذاته تعالى مؤثرة بذاتها لا بصفة زائدة عليها كما في ذواتنا فهي بهذا الاعتبار حقيقة القدرة وعلى هذا تكون الذات والصفات متحدة في الحقيقة متغايرة بالاعتبار والمفهوم ومرجعه إذا حقق إلى نفي الصفات مع حصول نتائجها وثمراتها من الذات وحدها
احتج الحكماء بأنه لو كان له صفة زائدة على ذاته لكان هو فاعلا لتلك الصفة لاستناد جميع الممكنات إليه وقابلا لها أيضا لقيامها بذاته وقد تقدم بطلانه
والجواب لا نسلم بطلانه
وقد تقدم الكلام عليه واحتجت المعتزلة والشيعة بوجوه ثلاثة
الأول ما مر من أن إثبات القدماء كفروا به كفرت النصارى
والجواب ما مر أيضا من أن الكفر إثبات ذوات قديمة لا إثبات ذات واحدة وصفات قدماء
الثاني عالميته وقادريته واجبة فلا تحتاج إلى الغير
والجواب أن العالمية عندنا يعني نفاة الأحوال ليست أمرا وراء قيام العلم به فيحكم بالنصب على جواب النفي عليها بأنها واجبة والحاصل أن العلم صفة قائمة بذاته تعالى وليس هناك صفة أخرى تسمى عالمية حتى يصح الحكم عليها بأنها واجبة فلا تكون محتاجة معللة بالعلم
وإن سلم ثبوت العالمية فالمراد بوجوبها إن كان امتناع خلو الذات عنها فلذلك لا يمنع استنادها إلى صفة أخرى واجبة أيضا بهذا المعنى أعني صفة العلم
فإنه نفس المتنازع فيه بيننا إذ نحن نجوزه
وأنتم لا تجوزونه
وإن
71

أردتم أنها أي العالمية واجبة لذاتها فبطلانه ظاهر فإن الصفة في حد ذاتها محتاجة إلى موصوفها فيمتنع اتصافها بالوجوب الذاتي
الثالث صفته تعالى صفة كمال فيلزم على تقدير قيام صفة زائدة به أن يكون هو ناقصا لذاته مستكملا بغيره الذي هو تلك الصفة
وهو باطل اتفاقا
والجواب إن أردتم استكماله بالغير ثبوت صفة الكمال الزائدة على ذاته لذاته فهو جائز عندنا
وهو المتنازع فيه وإن أردتم به غيره أي غير المعنى الذي ذكرناه فصوروه أولا حتى نفهمه ثم بينوا لزومه لما ادعيناه
وملخصه أن المحال هو استفادته صفة كمال من غيره لا اتصافه لذاته بصفة كمال هي غيره
واللازم من مذهبنا هو الثاني دون الأول
لكن يتجه أن يقال تأثيره تعالى في صفة القدرة مثلا إن كان بقدرة واختيار لزم محذور أن التسلسل في صفاته وحدوثها
وإن كان بإيجاب لزم كونه تعالى موجبا بالذات فلا يكون الإيجاب نقصانا فجاز أن يتصف به بالقياس إلى بعض مصنوعاته
ودعوى أن إيجاب الصفات كمال وإيجاب غيرها نقصان مشكلة
المقصد الثاني في قدرته
المتن وفيه بحثان
البحث الأول في أنه تعالى قادر
وإلا لزم أحد الأمور الأربعة
إما نفي الحادث أو عدم استناده إلى المؤثر أو التسلسل أو تخلف الأثر عن المؤثر
72

وبطلان اللوازم دليل بطلان الملزوم
بيان الملازمة أنه إما أن لا يوجد حادث أو يوجد
فإن لم يوجد فهو الأمر الأول وإن وجد فإما ألا يستند إلى مؤثر أو يستند
فإن لم يستند فهو الثاني وإن استند فإما ألا ينتهي إلى قديم أو ينتهي
فإن لم ينته فهو الثالث
وإن انتهى فلا بد من قديم يوجب حادثا بلا واسطة دفعا للتسلسل فيلزم الرابع
وإن شئت قلت لو كان الباري تعالى موجبا بالذات لزم قدم الحادث والتالي باطل وبيان الملازمة لو حدث لتوقف على شرط حادث وتسلسل واعلم أن هذا الاستدلال إنما يتم بأحد طريقين
الأول أن يبين حدوث ما سوى الله تعالى وأنه لا يجوز قيام حوادث متعاقبة لا نهاية لها بذاته
الثاني أن يبين في الحادث اليومي أنه لا يستند إلى حادث مسبوق بآخر لا إلى نهاية محفوظا بحركة دائمة
وأنت بعد إحاطتك بما تقدم خليق بأن يسهل عليك ذلك
احتج الحكماء بوجوه
الأول تعلق القدرة بأحد الضدين إما لذاتها فيستغني الممكن عن المرجح وأنه يسد باب إثبات الصانع وأيضا يلزم قدم الأثر
وإما لا لذاتها فيحتاج إلى مرجح
ويلزم التسلسل
والجواب أن تعلقها إنما هو بذاتها كما بينا في طريقي الهارب وقدحي العطشان قولكم فيستغني الممكن عن المرجح
قلنا لا يلزم من
73

ترجيح القادر لأحد مقدوريه بلا مرجح ترجح أحد طرفي الممكن في حد ذاته من غير المرجح
وبالجملة فالترجيح بلا مرجح
أي بلا داعية
غير الترجيح بلا مرجح
أي بلا مؤثر أصلا
مغايرة ظاهرة ولا يلزم من صحته صحته
وربما يقال الفعل مع الداعي أولى بالوقوع
ولا ينتهي إلى الوجوب وقد عرفت ضعفه
قولكم يلزم قدم الأثر
قلنا ممنوع
وإنما يلزم في الموجب الذي إذا اقتضى شيئا لذاته اقتضاه دائما إذ نسبته إلى الأزمنة سواء
وأما القادر فيجوز أن تتعلق قدرته بالإيجاد في ذلك الوقت دون غيره
فإن قيل إذا كانت قدرته متعلقة بهذا الطرف في الأزل فأي فرق بين الموجب والمختار
قلت أنه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلق قدرته يستوي إليه الطرفان
ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلق القدرة والإرادة به لا وجوب ذاتي
ولا يمتنع عقلا تعلق قدرته بالفعل بدلا من الترك
وبالعكس فإن قيل القدرة نسبتها إلى الوجود والعدم سواء والعدم غير مقدور لأنه لا يصلح أثرا
قلنا لا نسلم أن العدم غير مقدور وأنه لا يصلح أثرا
وإن سلمناه فالقادر من إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا إن شاء فعل العدم
فروع على إثبات القدرة عندنا
الأول القدرة قديمة
وإلا كانت واقعة بالقدرة لما مر ولزم التسلسل
الثاني إنها صفة واحدة
وإلا لاستندت إلى الذات إما بالقدرة أو بالإيجاب
وكلاهما باطل
أما الأول فلأن القديم لا يستند إلى القدرة
وأما الثاني فلأن نسبة الموجب إلى جميع الأعداء سواء
فليس صدور البعض عنه أولى من صدور البعض
فلو تعددت لزم ثبوت قدر غير متناهية
وهذا مصير إلى أن الواحد الموجب لا يصدر عنه إلا الواحد
74

الثالث قدرته تعالى غير متناهية
أما ذاتا فلأن التناهي من خواص الكم
ولا كم ثمة
وأما تعلقا فمعناه أن تعلقها لا يقف عند حد لا يمكن تعلقها بغيره
وإن كان كل ما تتعلق به بالفعل متناهيا فتعلقاتها متناهية بالفعل غير متناهية بالقوة
وهذه الأحكام مطردة في الصفات كلها فلا نكررها
تنبيه القدرة صفة زائدة لما بينا
وقد يحتج المعتزلة على نفيه بوجهين
الأول القدرة في الشاهد مشتركة في عدم صلاحيتها لخلق الأجسام والحكم المشترك يجب تعليله بالعلة المشتركة
ولا مشترك سوى كونها قدرة
فلو كان لله تعالى قدرة لم تصلح لخلق الأجسام
والجواب أن التعليل بالعلل المختلفة جائز عندكم وهو الحق لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد ثم لم لا يجوز اشتراك القدر الحادثة في صفة غير موجودة في القدرة القديمة وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود
الثاني القدر في الشاهد مختلفة
ففي الغائب إن كانت مثلها لم تصلح لخلق الأجسام
وإلا لم يكن مخالفتها لها أشد من مخالفة بعضها لبعض فلم تصلح لذلك
75

والجواب منع أن مخالفتها للقدرة الحادثة ليست أشد من مخالفة بعضها لبعض
البحث الثاني في أن قدرته تعالى تعم سائر الممكنات
والدليل عليه أن المقتضي للقدرة الذات والمصحح للمقدورية الإمكان
ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء
وهذا بناء على ما ذهب إليه أهل الحق من أن المعدوم أوليس
بشيء وإنما هو نفي محض لا امتياز فيه ولا تخصيص خلافا للمعتزلة ولا مادة له ولا صورة خلافا للحكماء
وإلا لم يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته دون بعض كما يقوله الخصم
واعلم أن المخالفين في هذا الأصل
وهو أعظم الأصول
فرق
الأولى الفلاسفة
قالوا إنه واحد حقيقي فلا يصدر عنه أثران والصادر عنه العقل الأول
والبواقي صادرة عنه بالوسائط كما شرحناه
والجواب منع قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد
الثانية المنجمون
ومنهم الصابئية
قالوا الكواكب هي المدبرات أمرا لدوران الحوادث السفلية مع مواضعها في البروج وأوضاعها بعضها
76

إلى البعض وإلى السفليات
وأظهرها ما نشاهده من اختلاف الفصول وتأثير الطوالع
والجواب أن الدوران لا يفيد العلية سيما إذا تحقق التخلف
وإذا قام البرهان على نقيضه
كيف ونقول لهم قد ادعيتم أن الأفلاك بسيطة فأجزاؤها متساوية فلا يمكن جعل درجة حارة أو نيرة أو نهارية وأخرى باردة أو مظلمة أو ليلية إلا تحكما بحتا ثم نردد ونقول الفلك إن كان بسيطا فقد بطل الإحكام لما ذكرناه وإلا بطل علم الهيئة إذ مبناه أن الفلك بسيط فحركاته بسيطة والحركات المختلفة تقتضي محركات مختلفة كما عرفت
وإذا بطلت الهيئة بطلت الأحكام لأنها مبنية على الهيئات المتخيلة لهم
وإلا فلا أوج ولا حضيض ولا وقوف ولا رجوع
فكيف يثبت لها أحكام لا يقال الأفلاك وإن كانت بسيطة فالبروج مكوكبة والعبرة بقرب كواكبها الثابتة وبعدها ومسامتتها وعدمها لأنا نقول البروج كما علمت تعتبر من الفلك الأطلس الذي لا كوكب فيه على رأيهم ثم اختصاص كل كوكب بجزء يبطل بساطة الأفلاك فيعود الإشكال
الثالثة الثنوية
ومنهم المجوس
قالوا إنه تعالى لا يقدر على الشر وإلا لكان خيرا شريرا معا
والجواب أنا نلتزم التالي
وإنما لا يطلق لفظ الشرير عليه كما لا يطلق عليه لفظ خالق القردة والخنازير لأحد أمرين إما لأنه يوهم أن يكون الشر غالبا في فعله كما يقال فلان شرير أي ذلك مقتضى نحيزته
والغالب على هجيراه
وإما لعدم التوقيف
وأسماء الله تعالى توقيفية
77

الرابعة النظام ومتبعوه قالوا لا يقدر على القبيح لأنه مع العلم بقبحه سفه ودونه جهل
وكلاهما نقص
والجواب أنه لا قبيح بالنسبة إليه
فإن الكل ملكه
وإن سلم فغايته عدم الفعل لوجود الصارف وذلك لا ينفي القدرة
الخامسة البلخي ومتابعوه قالوا لا يقدر على مثل فعل العبد لأنه إما طاعة أو معصية أو سفه
والجواب أنها اعتبارات تعرض للفعل بالنسبة إلينا
وأما فعله تعالى فمنزه عن هذه الاعتبارات
وهو خال عن الغرض كسائر أفعاله
ولا يلزم العبث
السادسة الجبائية قالوا لا يقدر على عين فعل العبد بدليل التمانع
وهو أنه لو أراد الله تعالى فعلا وأراد العبد عدمه لزم إما وقوعهما فيجتمع النقيضان أو لا وقوعهما فيرتفع النقيضان أو وقوع أحدهما فلا قدرة للآخر
لا يقال يقع مقدور الله لأن قدرته أعم لأنا نقول معنى كون قدرته أعم تعلقها بغير هذا المقدور
ولا أثر له في هذا المقدور
فهما في هذا المقدور سواء
والجواب أنه مبني على تأثير القدرة الحادثة
وقد بينا بطلانه
فراجع ما تقدم
الشرح
المقصد الثاني في قدرته
وفيه بحثان
78

الأول في أنه تعالى قادر أي يصح منه إيجاد العالم وتركه
فليس شيء منهما لازما لذاته بحيث يستحيل انفكاكه عنه
وإلى هذا ذهب المليون كلهم
وأما الفلاسفة فإنهم قالوا إيجاده للعالم على النظام الواقع من لوازم ذاته فيمتنع خلوه عنه فأنكروا القدرة بالمعنى المذكور لاعتقادهم أنه نقصان وأثبتوا له الإيجاب زعما منهم أنه الكمال التام
وأما كونه تعالى قادرا بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل فهو متفق عليه بين الفريقين إلا أن الحكماء ذهبوا إلى أن مشيئة الفعل الذي هو الفيض والجود لازمة لذاته كلزوم العلم وسائر الصفات الكمالية له فيستحيل الانفكاك بينهما
فمقدم الشرطية الأولى واجب صدقه
ومقدم الثانية ممتنع الصدق
وكلتا الشرطيتين صادقتان في حق الباري سبحانه وتعالى
وأشار المصنف إلى الاحتجاج على كونه قادرا بقوله وإلا أي وإن لم يكن قادرا بل موجبا بالذات لزم أحد الأمور الأربعة إما نفي الحادث بالكلية أو عدم استناده إلى المؤثر أو التسلسل أو تخلف الأثر عن المؤثر الموجب التام
وبطلان هذه اللوازم كلها دليل بطلان الملزوم
أما بيان الملازمة فهو أنه على تقدير كونه تعالى موجبا إما أن لا يوجد حادث أو يوجد
فإن لم يوجد فهو الأمر الأول
وإن وجد فإما أن لا يستند ذلك الحادث الموجود إلى مؤثر موجد أو يستند فإن لم يستند فهو الثاني من تلك الأمور
وإن استند فإما أن لا ينتهي إلى القديم أو ينتهي
فإن لم ينته فهو الثالث منها لأنه إذا استند إلى مؤثر لا يكون قديما ولا منتهيا إليه فلا بد هناك من مؤثرات حادثة غير متناهية مع كونها مترتبة مجتمعة
وهو تسلسل محال اتفاقا
وإن انتهى فلا بد هناك من قديم يوجد حادثا بلا واسطة من الحوادث دفعا للتسلسل
79

في الحوادث سواء كانت مجتمعة أو متعاقبة
فيلزم الرابع وهو التخلف عن المؤثر الموجب التام ضرورة تخلف ذلك الحادث الصادر بلا واسطة عن القديم الذي يوجبه بذاته
وأما بطلان اللوازم فالأول بالضرورة والثاني بما علمت من أن الممكن الحادث محتاج إلى مؤثر
والثالث بما مر في مباحث التسلسل
والرابع بأن الموجب التام ما يلزمه أثره وتخلف اللازم عن الملزوم محال
وبأنه يلزم الترجيح بلا مرجح من فاعل موجب
فإن وجود ذلك الحادث منه في وقته أوليس
أولى من وجوده فيما قبله
قيل هذا الدليل برهان بديع لا يحتاج إلى إثبات حدوث العالم
وقد تفرد به المصنف رحمه الله تعالى
وإن شئت قلت في إثبات كونه قادرا لو كان الباري تعالى موجبا بالذات لزم قدم الحادث
والتالي باطل بطلانا ظاهرا وأما بيان الملازمة فهو أن أثر الموجب القديم يجب أن يكون قديما إذ لو حدث لتوقف على شرط حادث كيلا يلزم التخلف عن الموجب التام وذلك الشرط الحادث يتوقف أيضا على شرط آخر حادث وحينئذ تسلسل أي لزم التسلسل في الشروط الحادثة متعاقبة أو مجتمعة
وكلاهما محال
واعلم أن هذا الاستدلال الذي أشار إليه بقوله وإن شئت قلت إنما يتم بأحد طريقين
الأول أن يبين حدوث ما سوى ذات الله تعالى وصفاته إذ لولا ذلك لجاز أن يصدر عن الباري على تقدير كونه موجبا قديم مختار أوليس
بجسم ولا جسماني يصدر عنه الحوادث بحسب إرادته المختلفة فلا يلزم من إيجاب الباري قدم الحادث وأن نبين مع ذلك أيضا أنه لا يجوز قيام حوادث متعاقبة لا نهاية لها بذاته إذ لو جاز ذلك لأمكن أن يصدر عنه مع
80

كونه موجبا حادث مشروط بصفة حادثة قائمة بذاته مشروطة بصفة أخرى
وهكذا إلى غير النهاية
وإذا ثبت حدوث ما سوى ذاته وصفاته وثبت أيضا استحالة قيام الصفات المتعاقبة إلى ما لا نهاية له بذاته تم الاستدلال المذكور بهذا الطريق لأن أثر الموجب القديم لا يكون حادثا بلا تسلسل الحوادث
فإن الصادر عنه بلا شرط أو بشرط قديم قديم قطعا لامتناع التخلف عن الموجب التام كما عرفت
الثاني من الطريقين أن نبين في الحادث اليومي أنه لا يستند إلى حادث مسبوق بآخر لا إلى نهاية محفوظا استناده كذلك بحركة دائمة إذ على تقدير هذا الاستناد جاز أن يكون المبدأ الأول موجبا مفيضا لوجود الحادث اليومي على مادة قديمة بواسطة استعدادات متعاقبة مستندة إلى تلك الحركة السرمدية كما ذهبت إليه الفلاسفة حيث جوزوا التسلسل في الأمور المترتبة إذا لم تكن مجتمعة
وزعموا أن الحركة الدائمة هي الواسطة بين عالمي القدم والحدوث
فإنها ذات جهتين استمرار وتجدد
فباعتبار استمرارها جاز استنادها إلى القديم
وباعتبار تجددها صارت واسطة في صدور الحوادث عن المبدأ القديم
وإذا لم يجز هذا الاستناد فلو كان الباري تعالى موجبا لكان الحادث اليومي المستند إليه بواسطة أو بغير واسطة قديما
هذا خلف فقد تم هذا الاستدلال بهذا الطريق أيضا
ولقائل أن يقول ذلك البرهان البديع لا يتم أيضا إلا بالطريق الأول
إذ لو جاز قدم ما سوى ذاته تعالى وصفاته أو جاز تعاقب صفاته التي لا تتناهى لم يلزم الأمر الرابع
أعني التخلف
عن المؤثر التام
أما على الأول فلأنه جاز أن يكون ذلك
81

القديم مختارا كما مر
وأما على الثاني فلجواز استناد الحادث إلى الموجب بتعاقب حوادث لا تتناهى
وليس يلزم على شيء من هذين تخلف الأثر عن مؤثره الموجب التام لأن مؤثره إما مختار مع كون الباري تعالى موجبا
وإما غير تام في المؤثرية لتوقف تأثيره فيه على شرائط حادثة غير متناهية قائمة بذاته تعالى
وأنت بعد إحاطتك بما تقدم من المباحث خليق بأن يسهل عليك ذلك أي بيان الأمور المذكورة
أما بيان حدوث ما سوى الله سبحانه وتعالى فيما مر من المسلك العام في حدوث العالم مطلقا
أعني مسلك الإمكان أو المسلك الخاص بالأجسام مع نفي المجردات
وأما بيان امتناع تعاقب الصفات والحركات إلى غير النهاية فبالبرهان التطبيقي
احتج الحكماء على إيجابه تعالى بوجوه كثيرة أقواها ما صرح به المصنف وعبر عنه بقوله
الأول لأنه الذي عليه يعولون وبه يصولون
وتقريره أن يقال لا يجوز أن يكون قادرا إذ تعلق القدرة منه بأحد الضدين المقدورين له كتخصيص الجسم بشكل معين ولون مخصوص مثلا دون ما عداه من الأشكال والألوان إما لذاتها بلا مرجح وداع فيستغني الممكن عن المرجح لأن نسبة ذات القدرة إلى الضدين على السوية كما اعترف به القائل بقادريته وأنه يسد باب إثبات الصانع إذ يجوز حينئذ أن يترجح وجود الممكن على عدمه من غير مرجح
وأيضا يلزم قدم الأثر لأن المؤثر حينئذ مستجمع لشرائط التأثير لأن الواجب أزلي
وكذا قدرته وتعلقها
فلا يجوز
82

تخلف الأثر عنه
وهو باطل لأن أثر القادر حادث اتفاقا وخصوصا على رأيكم
وإما لا لذاتها فيحتاج تعلقها به إلى مرجح من خارج
ومع ذلك المرجح لا يجب الفعل
وإلا لزم الإيجاب بل كان جائزا هو وضده أيضا فيحتاج إلى مرجح آخر
ويلزم التسلسل في المرجحات
والجواب نختار أن تعلقها بأحد المقدورين إنما هو بذاتها لا بأمر خارجي
وليس يحتاج تعلق إرادة المختار بأحد مقدوريه إلى داع كما بينا في طريقي الهارب وقدحى العطشان
قولكم أولا فيستغني الممكن عن المرجح
قلنا لا يلزم من ترجح القادر لأحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وداع ترجح أحد طرفي الممكن في حد ذاته من غير المرجح المؤثر فيه إذ بينهما بون بعيد كما أشار إليه بقوله وبالجملة فالترجيح الصادر عن مؤثر قادر بلا مرجح
أي بلا داعية غير الترجيح بلا مرجح
أي بلا مؤثر أصلا مغايرة ظاهرة
ولا يلزم من صحته صحته أي من صحة الأول صحة الثاني
ألا يرى أن بديهة العقل شاهدة بامتناع الثاني بلا توقف
ولذلك لم يذهب إلى صحته أحد من العقلاء
ولا يشهد كذلك بامتناع الأول
ومن ثمة ترى جمعا يجوزونه وربما يختار أن تعلقها لا لذاتها ويقال الفعل مع الداعي أولى بالوقوع ولا ينتهي إلى الوجوب فلا يلزم الإيجاب ولا يحتاج أيضا إلى مرجح آخر ليتسلسل وقد عرفت ضعفه بما مر من أن الأولوية التي لم تنته إلى حد الوجوب غير كافية في صدور الممكن عن المؤثر قولكم ثانيا يلزم قدم الأثر
قلنا ممنوع
وإنما يلزم ذلك في الموجب الذي إذا اقتضى شيئا لذاته اقتضاء دائما إذ نسبته إلى
83

الأزمنة سواء
وأما القادر الذي هو مؤثر تام فيجوز أن تتعلق قدرته بالإيجاد في ذلك الوقت الذي أوجد الحادث فيه دون غيره بلا سبب يخص ذلك الوقت
فإن ضرورة العقل تدل على الفرق بين القادر المختار والعلة الموجبة
ألا يرى أن كل أحد يفرق بين كون الإنسان مختارا في قيامه وقعوده
وكون الحجر هابطا بطبيعته
فلو توقف فعل المختار على مرجح لم يبق بينه وبين الموجب فرق
فإن قيل هذا وجه ثان لهم في إثبات الإيجاب وتقريره أن يقال عندكم إرادة الله وقدرته متعلقتان من الأزل إلى الأبد بترجح الحادث المعين وإيجاده في وقت معين
وأن التغير في صفاته محال فوجود ذلك الحادث في ذلك الوقت واجب فهو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار
إلا أن المصنف أورده في صورة السؤال فقال إذ كانت قدرته متعلقة بهذا الطرف في الأزل على هذا الوجه وهو أن يوجد في وقت معين
فإنه يجب وجوده في ذلك الوقت
وحينئذ فأي فرق يكون بين الموجب والمختار قلت الفرق بينهما على تقدير وجوب الفعل من القادر أنه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلق قدرته يستوي إليه الطرفان
ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلق القدرة والإرادة به لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات ولا يمتنع عقلا تعلق قدرته بالفعل بدلا من الترك
وبالعكس
وأما الموجب فإنه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الآخر عقلا
ويقرب من هذا ما قد قيل عند تمام المرجحات من القدرة التامة والإرادة الجازمة والوقت والآلة والمصلحة وزوال الموانع كلها توجب الفعل
وإلا أمكن أن يوجد معها تارة ولا يوجد أخرى
وأنه ترجيح بلا مرجح
وإذا وجب الفعل فلا فرق بين الموجب والقادر في ذلك بل في أن شرائط التأثير في القادر سريعة التغير لكنهم قالوا ذلك التغير إنما يتصور إذا كانت شرائط تأثير المؤثر منفصلة عنه
84

وأما الذي يكون مبدأ لكل ما سواه فإن ذاته تمتنع عليه التغير
فكذا تأثيره في غيره لا يتغير أصلا
وأجيب عنه بمنع امتناع التغير في تعلق قدرته وإرادته وتأثيره المتفرع على ذلك التعلق
فإن قيل هذا وجه ثالث لهم
وهو أن يقال القدرة نسبتها إلى الوجود والعدم سواء فإنها لو تعلقت بأحدهما كانت إيجابا لا قدرة والعدم غير مقدور لأنه لا يصلح أثرا لكونه نفيا صرفا فلا يستند إلى شيء
وحينئذ لا يكون الوجود أيضا مقدورا فلا قدرة أصلا
قلنا لا نسلم أن العدم غير مقدور وأنه لا يصلح أثرا فإن عدم المعلول مستند إلى عدم علته كما أن وجوده مستند إلى وجودها
وإن سلمناه أي كون العدم لا يصلح أثرا فالقادر من إن شاء فعل
وإن لم يشأ لم يفعل
لا إن شاء فعل العدم فإن العدم أوليس
أثرا مفعولا للقادر كالوجود بل معنى استناده إليه أنه لم تتعلق مشيئته بالفعل
فلم يوجد الفعل
وهذا أولى مما قيل هو الذي إن شاء أن يفعل فعل
وإن شاء أن لا يفعل لم يفعل لأن استناد العدم إلى مشيئة القادر يقتضي حدوثه كما في الوجود فيلزم أن لا يكون عدم العالم أزليا
فروع على إثبات القدرة كما هي عندنا أعني أن تكون صفة زائدة على الذات قائمة بها
الأول القدرة القائمة بذاته تعالى قديمة
وإلا كانت حادثة فيلزم قيام الحادث بذاته تعالى
وقد مر بطلانه
وكانت أيضا واقعة أي صادرة عن الذات بالقدرة لما مر في هذا المقصد من أن الحادث لا يستند إلى الموجب القديم إلا بتسلسل الحوادث
وهو باطل وإذا كانت واقعة بالقدرة
85

لزم التسلسل لأن القدرة الأخرى حادثة أيضا إذ المقدر حدوث القدرة القائمة به تعالى
فتستند إلى قدرة أخرى فيلزم تسلسل القدرة إلى ما لا يتناهى
وهو أيضا محال
الثاني أنها صفة واحدة
وإلا لاستندت تلك القدر المتعددة القديمة بناء على الفرع الأول إلى الذات إما بالقدرة أو بالإيجاب
وكلاهما باطل
أما الأول فلأن القديم لا يستند إلى القدرة كما عرفت في مباحث القدم
وأما الثاني فلأن نسبة الموجب إلى جميع الأعداد سواء
فليس صدور البعض عنه أولى من صدور البعض
فلو تعددت القدر الصادرة عن الموجب لزم ثبوت قدرة غير متناهية لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح كما ذهب إليه أبو سهل الصعلوكي
وهو باطل
لأن وجود ما لا يتناهى محال مطلقا
وقد تبين لك ضعف تساوي نسبة الأعداد بما تقدم من أن عدم الأولوية في نفس الأمر ممنوع وعندك لا يفيد ويزداد ضعفه ههنا بأن هذا مصير إلى أن الواحد الموجب لا يصدر عنه إلا الواحد ويلزم منه نفي ما عدا القدرة من سائر الصفات إذ تأثير الذات فيها لا يمكن أن يكون بالقدرة والاختيار كما نبهت عليه بل يجب أن يكون بالإيجاب
فإذا صدرت عنه القدرة الواحدة بالإيجاب لم يصدر عنه صفة أخرى كذلك
وهو خلاف ما ذهب إليه مثبتو الصفات
الثالث قدرته تعالى غير متناهية أي ليست موصوفة بالتناهي لا
86

ذاتا
ولا تعلقا
أما ذاتا فلأن التناهي من خواص الكم ولا كم ثمة إذ القدرة بحسب ذاتها من الكيف فيسلب عنها التناهي
وأما تعلقا فمعناه أي معنى سلب التناهي عنه هو إثبات اللاتناهي له
ومعنى لا تناهيه أن تعلقها لا يقف عند حد لا يمكن تعلقها بغيره أي بما وراء ذلك الحد وإن كان كل ما تتعلق به بالفعل متناهيا فتعلقاتها متناهية بالفعل دائما غير متناهية بالقوة دائما وهذه الأحكام الثلاثة التفريعية مطردة في الصفات كلها فلا نكررها
يعني أن كل واحدة من سائر الصفات قديمة وغير متعددة وغير متناهية
فصفة العلم قديمة وواحدة وغير متناهية ذاتا بمعنى سلب التناهي
وغير متناهية تعلقا بمعنى إثبات اللاتناهي في تعلقها بالفعل والإرادة أيضا كذلك لكن تعلقها غير متناه بالقوة كما في القدرة
وعلى هذا فقس
واعتبر في كل صفة ما يناسبها من الأحكام المتفرعة فلا حاجة إلى التكرار
تنبيه القدرة صفة زائدة على الذات لما بيناه من إثبات زيادة الصفات على وجه عام
وقد تحتج المعتزلة على نفيه بوجهين
الأول القدرة في الشاهد مشتركة في عدم صلاحيتها لخلق الأجسام والحكم المشترك يجب تعليله بالعلة المشتركة
ولا مشترك بينها سوى كونها قدرة فلو كان لله تعالى قدرة لم تصلح لخلق الأجسام لأن علة عدم الصلاحية موجودة فيها أيضا
والجواب أن التعليل بالعلل المختلفة جائز عندكم فإن القبح حكم واحد وقد عللتموه تارة بكون الشيء ظلما وأخرى بكونه جهلا إلى غير ذلك
وكذا صحة الرؤية معللة عندكم بخصوصيات المرئيات وهو الحق لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد ثم نقول لم لا يجوز اشتراك
87

القدرة الحادثة في صفة غير موجودة في القدرة القديمة تكون تلك الصفة علة لعدم صلاحيتها فلا يتعدى الحكم إلى القديمة وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود
أي عدم وجداننا لتلك الصفة لا يدل على عدم وجودها في نفسها
الثاني القدرة في الشاهد مختلفة اختلافا ظاهرا ففي الغائب إن كانت القدرة مثلها أي مثل إحدى القدرة التي في الشاهد لم تصلح قدرة الغائب لخلق الأجسام كنظيرتها
وإلا لم تكن مخالفتها لها أشد من مخالفة بعضها لبعض فلم تصلح لذلك أيضا
والجواب منع أن مخالفتها للقدرة الحادثة ليست أشد من مخالفة بعضها لبعض فلا يلزم عدم صلاحيتها لما ذكر
البحث الثاني في أن قدرته تعالى تعم سائر الممكنات أي جميعها والدليل عليه أن المقتضي للقدرة هو الذات لوجوب استناد صفاته إلى ذاته والمصحح للمقدورية هو الإمكان لأن الوجوب والامتناع الذاتيين يحيلان المقدورية ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السوية وإذا ثبتت قدرته على بعضها تثبت على كلها
وهذا الاستدلال بناء على ما ذهب إليه أهل الحق من أن المعدوم أوليس
بشيء
وإنما هو نفي محض ولا امتياز فيه أصلا ولا تخصيص قطعا
فلا يتصور اختلاف في نسبة الذات إلى المعدومات بوجه من الوجوه خلافا للمعتزلة
ومن أن المعدوم لا مادة له ولا صورة خلافا للحكماء
وإلا لم يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته تعالى دون بعض كما يقوله الخصم فعلى قاعدة الاعتزال جاز أن تكون خصوصية
88

بعض المعدومات الثابتة المتميزة مانعة من تعلق القدرة به
وعلى قانون الحكمة جاز أن تستعد المادة لحدوث ممكن دون آخر
وعلى التقديرين لا تكون نسبة الذات إلى جميع الممكنات على سواء
قيل ولا بد أيضا من تجانس الأجسام لتركبها من الجواهر الفردة المتماثلة الحقيقة ليكون اختصاص بعضها ببعض الأعراض لإرادة الفاعل المختار إذ مع تخالفها جاز أن يكون ذلك الاختصاص لذواتها فلا قدرة على إيجاد بعض آخر منها
واعلم أن المخالفين في هذا الأصل أعني عموم قدرته تعالى الممكنات كلها وهو أعظم الأصول فرق متعددة كما سيتلى عليك
الأولى الفلاسفة الإلهيون فإنهم قالوا إنه تعالى واحد حقيقي فلا يصدر عنه أثران
والصادر عنه ابتداء هو العقل الأول
والبواقي صادرة عنه بالوسائط كما شرحناه من قبل
والجواب منع قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد وما تمسكوا به في إثباته فقد زيفناه
الفرقة الثانية المنجمون
ومنهم الصابئية
قالوا الكواكب المتحركة بحركات الأفلاك هي المدبرات أمرا في عالمنا هذا لدوران الحوادث السفلية والتغيرات الواقعة في جوف فلك القمر وجودا وعدما مع مواضعها أي مواضع الكواكب في البروج وأوضاعها بعضها إلى بعض
وإلى السفليات وأظهرها ما نشاهده من اختلاف الفصول الأربعة
وما يتجدد فيها من الحر والبرد والاعتدال بواسطة قرب الشمس من سمت الرأس وبعدها عنه وتواسطها فيما بينهما وتأثير الطوالع في المواليد بالسعادة والنحوسة
والجواب أن الدوران لا يفيد العلية سيما إذا تحقق التخلف كما في
89

توأمين أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة
ولا يمكن أن يحال بذلك على ما بينهما من التفاوت في وقت الولادة لأن التفاوت بقدر درجة واحدة لا يوجب تغير الأحكام عندهم باتفاق فيما بينهم وسيما إذ قام البرهان على نقيضه فإن البراهين العقلية والنقلية شاهدة بأن لا مؤثر في الوجود إلا الله كيف ونقول لهم ما أثبتموه من الأحكام لا يستتب لكم على قواعدكم لأنكم قد ادعيتم أن الأفلاك بسيطة فأجزاؤها متساوية في الماهية فلا يمكن حينئذ جعل درجة حارة أو نيرة أو نهارية
وجعل درجة أخرى باردة أو مظلمة أو ليلية إلا تحكما بحتا وكذا الحال في جعل بعض البروج بيتا لكواكب وبعضها بيتا لكواكب أخر
وفي جعل بعض الدرج شرفا وبعضها وبالا إلى غير ذلك من الأمور التي تدعونها فإنها كلها على تقدير البساطة تحكمات محضة ثم نردد ونقول إن الفلك إن كان بسيطا فقد بطلت الأحكام التي تزعمونها لما ذكرناه
وإلا بطل علم الهيئة
إذ مبناه أن الفلك بسيط فحركاته بسيطة متشابهة في أنفسها فالحركات المختلفة والمشاهدة والمرصودة منها تقتضي محركات مختلفة على أوضاع متفاوتة تكون حركة كل منها وحدها متشابهة غير مختلفة ويلزم منها حركات متخالفة كما عرفت
وإذا بطلت الهيئة بطلت الأحكام النجومية لأنها مبنية عليها على الهيئات المتخيلة لهم
وإلا فلا أوج ولا حضيض ولا وقوف ولا رجوع
فكيف يثبت لها أحكام مترتبة عليها لا يقال الأفلاك وإن كانت بسيطة متساوية الأجزاء في الماهية فالبروج مكوكبة بالثوابت المتخالفة في الطبائع
والعبرة في تلك الأحكام ليست بنفس البروج المتوافقة الطبيعة بل بقرب كواكبها الثابتة من السيارات وبعدها عنها ومسامتتها وعدمها
فمدار الأحكام المختلفة على اختلاف أوضاع الكواكب السيارة بحركاتها من الثوابت المركوزة في البروج
لأنا نقول البروج
كما علمت
تعتبر من الفلك الأطلس الذي لا كوكب فيه على
90

رأيهم وإن أمكن أن يقال فيه كواكب صغار غير مرئية فتختلف آثار السيارة بحلولها في البروج المختلفة الكواكب لكن لم يقل به أحد منهم
فإن قلت البروج المعتبرة فيه وإن كانت خالية عن الكواكب إلا أنها تسامتها كواكب متخالفة الطبائع وهذا القدر كاف لاختلاف الأحكام والآثار
قلت تلك الكواكب تزول عن المسامتة بالحركة البطيئة فيلزم أن تنتقل الأحوال من برج إلى آخر وهو باطل عندكم ثم أنا نقول اختصاص كل كوكب بجزء معين من أجزاء الفلك يبطل بساطة الأفلاك إذ لو كانت بسيطة لزم الترجيح بلا مرجح
وعلى هذا فيعود الإشكال أعني بطلان الهيئة المتخيلة وما يترتب عليه من بطلان الأحكام
الفرقة الثالثة الثنوية
ومنهم المجوس فإنهم قالوا إنه تعالى لا يقدر على الشر
وإلا لكان خيرا شريرا معا فلذلك أثبتوا إلهين كما مر تفصيله
والجواب أنا نلتزم التالي فإنه تعالى خالق للخيرات والشرور كلها
وإنما لا يطلق لفظ الشرير عليه كما لا يطلق عليه لفظ خالق القردة والخنازير مع كونه خالقا لهما لأحد الأمرين إما لأنه يوهم أن يكون الشر غالبا في فعله كما يقال فلان شرير
أي ذلك مقتضى نحيزته أي طبيعته
والغالب على هجيراه أي دأبه وعادته
وإما لعدم التوقيف من الشرع وأسماء الله تعالى توقيفية
91

الفرقة الرابعة النظام ومتبعوه
قالوا لا يقدر على الفعل القبيح لأنه مع العلم بقبحه سفه ودونه جهل وكلاهما نقص يجب تنزيهه تعالى عنه
والجواب أنه لا قبيح بالنسبة إليه
فإن الكل ملكه فله أن يتصرف فيه على أي وجه أراد
وإن سلم قبح الفعل بالقياس إليه فغايته عدم الفعل لوجود الصارف عنه وهو القبح
وذلك لا ينفي القدرة عليه
الفرقة الخامسة أبو القاسم البلخي ومتابعوه
قالوا لا يقدر على مثل فعل العبد لأنه إما طاعة مشتملة على مصلحة أو معصية مشتملة على مفسدة
أو سفه خال عنهما أو مشتمل على متساويين منهما
والكل محال منه تعالى
والجواب إنها أي ما ذكرتموه من صفات الأفعال اعتبارات تعرض للفعل بالنسبة إلينا وصدوره بحسب قصدنا ودواعينا
وأما فعله تعالى فمنزه عن هذه الاعتبارات فجاز أن يصدر عنه تعالى مثل فعل العبد مجردا عنها
فإن الاختلاف بالعوارض لا ينافي التماثل في الماهية
ولما كان لقائل أن يقول ما صدر عنه من أمثال أفعالنا إما أن يشتمل على مصلحة أو مفسدة أو يخلو عنهما وعلى التقادير يكون متصفا بشيء من الاعتبارات المذكورة أجاب عنه بقوله وهو أي ذلك المثل الصادر عنه خال عن الغرض كسائر أفعاله المنزهة عن الأغراض فلا يتجه أن يقال هناك مصلحة أو مفسدة
ولا يلزم من عدم ثبوت الغرض العبث إنما يلزم ذلك إذا كان الفعل ممن شأنه أن يتبع فعله الغرض لا ممن تعالى عن ذلك
92

الفرقة السادسة الجبائية قالوا لا يقدر على عين فعل العبد بدليل التمانع
وهو أنه لو أراد الله تعالى فعلا من أفعال العبد يوجد فيه وأراد العبد عدمه منه لزم إما وقوعهما فيجتمع النقيضان أو لا وقوعهما فيرتفع النقيضان
أو وقوع أحدهما فلا قدرة للآخر على مراده
والمقدر خلافه
لا يقال يقع مقدور الله لأن قدرته أعم من قدرة العبد فلا يتصور بينهما مقاومة كما يتصور في قدرتي إلهين لأنا نقول معنى كون قدرته أعم تعلقها بغير هذا المقدور ولا أثر له في هذا المقدور
فهما في هذا المقدور سواء فيتقاومان فيه
والجواب إنه مبني على تأثير القدرة الحادثة
وقد بينا بطلانه فراجع ما تقدم
وعلى تقدير تأثيرها فتساويهما في هذا المقدور ممنوع بل الله تعالى أقدر عليه من العبد فتأثير قدرته فيه يمنع من تأثير قدرة العبد فيه
ولا يلزم من ذلك انتفاء قدرته بالكلية
نعم يثبت فيه نوع عجز وذلك ينافي الألوهية دون العبدية
المقصد الثالث
المتن في علمه تعالى وفيه بحثان
البحث الأول في إثباته
وهو متفق عليه بيننا وبين الحكماء
وإنما نفاه شرذمة لا يعبأ بهم وسنذكره
لكن المسلك مختلف
أما المتكلمون فلهم مسلكان
الأول أن فعله تعالى متقن
وكل من فعله متقن فهو عالم
أما الأول فظاهر لمن نظر في الآفاق والأنفس وتأمل ارتباط العلويات بالسفليات سيما في الحيوانات وما هديت إليه من مصالحها وأعطيت من الآلات المناسبة
93

لها
ويعين على ذلك علم التشريح ومنافع خلقة الإنسان وأعضائه التي قد كسرت عليها المجلدات
وأما الثاني فضروري
وينبه عليه أن من رأى خطا حسنا يتضمن ألفاظا عذبة رشيقة تدل على معان دقيقة مؤنقة علم بالضرورة أن كاتبه عالم
وكذلك من سمع خطابا منتظما مناسبا للمقام من شخص يضطر إلى أن يجزم بأنه عالم
فإن قيل المتقن إن أردت به الموافق للمصلحة من جميع الوجوه فممنوع
إذ لا شيء من مفردات العالم ومركباته إلا ويشتمل على مفسدة ما
ويمكن تصوره على وجه أكمل أو الموافق من بعض الوجوه فلا يدل على العلم أو أمرا ثالثا فبينه لنا
وكيف وأنه منقوض بفعل النحل لتلك البيوت المسدسة بلا فرجار ومسطر واختيارها للمسدس لأنه أوسع من المربع
ولا يقع بينها فرج كما بين المدورات وما سواها
وهذا لا يعرفه إلا الحذاق من أهل الهندسة وكذلك العنكبوت تنسج تلك البيوت بلا آلة مع أنه لا علم لهما
والجواب عن الأول أن المراد ما نشاهده من الصنيع الغريب والترتيب العجيب
وتوضيحه ما ذكرنا في مثال الكتابة والخطاب
إذ لا
94

يشترط في الدلالة على العلم خلوه عن كل خلل حتى لو أمكن أن يكتب أحسن منه
أو يتكلم بأفصح منه لم يدل على علم
وعن الثاني أنا لا نسلم عدم علم النحل والعنكبوت بما يفعله لجواز أن يخلق الله تعالى فيهما علما بذلك الفعل الصادر عنهما أو يلهمهما حالا فحالا مما هو مبدأ لذلك
الثاني أنه تعالى قادر لما مر
وكل قادر فهو عالم
لا يقال قد يصدر عن النائم والغافل فعل قليل اتفاقا
وإذا جاز ذلك جاز صدور الكثير عنه لأن حكم الشيء حكم مثله
لأنا نقول لا نسلم الملازمة إذ الضرورة فارقة
وأما الحكماء فلهم أيضا مسلكان
الأول إنه مجرد
وكل مجرد فهو عاقل لجميع الكليات
وقد برهنا على المقدمتين
الثاني إنه تعالى يعقل ذاته
وإذا عقل ذاته عقل ما عداه
أما الأول فلأن التعقل حضور الماهية المجردة للشيء المجرد
وهو حاصل في شأنه
وأما الثاني فلأنه مبدأ لما سواه
والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول
ويرد على الأول منع الكبرى
وبرهانه قد مر ضعفه
وعلى الثاني أنا لا نسلم أن التعقل ما ذكرتم
وتعريفه بذلك لا يوجب الجزم بأن حقيقته ذلك ما لم يقم عليه برهان إذ غايته أنهم يعنون بالتعقل ذلك
ولكن من أين لهم أن الحالة التي نجدها من أنفسنا ونسميه العلم حقيقته ذلك لا بد له من دليل سلمناه
لكن لم لا يجوز أن يشترط فيه التغاير سلمنا لكن لا نسلم ان العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول
وإلا لزم من العلم بالشيء العلم بجميع لوازمه القريبة والبعيدة
نعم يلزم ذلك إذا علم الشيء وعلم أنه علة له وأنه موجود
وأنه يلزم من وجود العلة وجود المعلول
فلم قلتم إن ذلك حاصل له تنبيه مسلكا المتكلمين يفيدان العلم بالجزئيات
لأن الجزئيات
95

صادرة عنه على صفة الاتقان ومقدورة له
وأما مسلكا الحكماء فلا يوجبان إلا علما كليا
لأن ما علم بماهيته أو بعلته يعلم كليا
فإن المعلوم ماهيته كذا إما وحدها أو مع كونها معللة بكذا
والماهية كلية
وكونها معللة بكذا كلي وتقييد الكلي بالكلي لا يفيد الجزئية
البحث الثاني أن علمه تعالى يعم المفهومات كلها الممكنة والواجبة والممتنعة
فهو أعم من القدرة لأنها تختص بالممكنات دون الواجبات والممتنعات لمثل ما مر في القدرة
وهو أن الموجب للعلم ذاته
والمقتضي للمعلومية ذوات المعلومات ومفهوماتها
ونسبة الذات إلى الكل سواء
والمخالف في هذا الأصل فرق
الأولى من قال إنه لا يعلم نفسه لأن العلم نسبة والنسبة لا تكون إلا بين شيئين
ونسبة الشيء إلى نفسه محال
والجواب منع كون العلم نسبة بل هو صفة ذات نسبة
ونسبة الصفة إلى الذات ممكنة
سلمناه لكن لا نسلم أن الشيء لا ينسب إلى ذاته نسبة علمية
وكيف لا وأحدنا يعلم نفسه لا يقال ذلك لتركيب في أنفسنا بوجه من الوجوه
وكلامنا في الواحد الحقيقي لأنا نقول أحدنا لو كان له نسبة إلى كل جزء منه فقد حصل المطلوب
وإلا فلا يعلم إلا أحد جزئيه فيكون العالم غير المعلوم فلا يعلم نفسه
الثانية من قال إنه لا يعلم شيئا أصلا
وإلا علم نفسه إذ يعلم على تقدير كونه عالما بشيء أنه يعلمه وذلك يتضمن علمه بنفسه
وقد بينا امتناعه
لا يقال لا نسلم أن من علم شيئا علم أنه عالم به
وإلا لزم من العلم بشيء واحد العلم بأمور غير متناهية
لأنا نقول المدعي لزوم إمكان علمه به
فإن من علم شيئا أمكنه أن يعلم أنه عالم به بالضرورة
وإلا جاز أن يكون أحدنا عالما بالمجسطي والمخروطات ولكن لا يمكنه أن يعلم أنه عالم به
وإن التفت إلى ذلك وبالغ في الاجتهاد وذلك سفسطة
96

والجواب أنه إن امتنع منه تعالى علمه بنفسه منعنا الملازمة وقلنا الضرورة فيمن يمكنه العلم بنفسه وإن أمكن له منعنا بطلان التالي
وأيضا فقد مر بطلان ما ذكروه في أنه لا يعلم نفسه
الثالثة من قال أنه لا يعلم غيره
لأن العلم بالشيء غير العلم بغيره
وإلا فمن علم شيئا
علم جميع الأشياء
فيكون له تعالى بحسب كل معلوم علم فيكون في ذاته كثرة غير متناهية
والجواب إنه كثرة في الإضافات
والعلم واحد
وذلك لا يمتنع
الرابعة من قال إنه لا يعقل غير المتناهي إذا المعقول متميز عن غيره
وغير المتناهي غير متميز عن غيره
وإلا لكان له حد به يتميز عن الغير
فليس غير متناه
هذا خلف
والجواب من وجهين
الأول إنه معقول من حيث أنه غير متناه
وفيه نظر لأن ذلك أمر واحد عارض لغير المتناهي
وهو غير ما صدق عليه أنه غير متناه
والنزاع إنما وقع فيه
وبالجملة فالنزاع في غير المتناهي تفصيلا لا إجمالا
الثاني المعقول كل واحد واحد
وأنه متميز عن غيره
ولا يضر عدم تميز الكل
والحق أنا نقول لا نسلم أن المتميز له حد ونهاية
وإنما يكون كذلك أن لو كان تعقله بتميزه بالحد والنهاية
وأنه ممنوع
97

الخامسة من قال لا يعلم الجزئيات المتغيرة
وإلا فإذا علم أن زيدا في الدار الآن ثم خرج زيد فإما أن يزول ذلك العلم ويعلم أنه أوليس
في الدار أو يبقى ذلك العلم بحاله
والأول يوجب التغير والثاني الجهل
والجواب منع لزوم التغير فيه بل في الإضافات
وقد أجاب عنه مشايخ المعتزلة بأن العلم بأنه وجد وسيوجد واحد
فإن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم أنه دخل البلد الآن
وإنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر لطريان الغفلة عن الأول
والباري تعالى يمتنع عليه الغفلة فكان علمه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد
وهذا مأخوذ من قول الحكماء علمه تعالى أوليس
زمانيا فلا يكون ثمة حال وماض ومستقبل
إذ الحال معناه زمان حكمي هذا
والماضي زمان قبل زمان حكمي هذا
والمستقبل زمان بعد زمان حكمي هذا
فمن كان علمه أزليا محيطا بالزمان لا يتصور في حقه حال
ولا ماض ولا مستقبل
وقد أنكر أبو الحسين البصري ذلك
واحتج عليه بوجوه
الأول حقيقة أنه سيقع غير حقيقة أنه وقع
فالعلم به غير العلم به
لأن اختلاف المتعلقين يستدعي اختلاف العلم بهما
الثاني أن شرط العلم بأنه وقع الوقوع وشرط العلم بأنه سيقع عدم الوقوع
فلو كانا واحدا لم يختلف شرطهما
وقد يعبر عنه بأن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا وجلس إلى مجيء الغد في بيت مظلم فلم يعلم دخول غد لم يعلم أنه دخل البلد
نعم لو انضم إليه العلم بدخول غد علم ذلك
98

الثالث يمكن العلم بأنه وقع مع الجهل بأنه سيقع وبالعكس
وغير المعلوم غير المعلوم
وقد يعبر عن هذا بأن قبل الوقوع اعتقاد أنه سيقع علم واعتقاد أنه وقع جهل
وبعد الوقوع بالعكس فتغايرا
السادسة من قال لا يعلم الجميع بمعنى سلب الكل لا السلب الكلي إذ لو علم كل شيء فإذا علم شيئا علم علمه به وكذا علم علمه بعلمه ويلزم التسلسل
والجواب إنه تسلسل في الإضافات وأنه غير ممتنع
كيف وأنه قد يكون بعلمه نفس علمه كما ذهب إليه الإمام والقاضي
تنبيه العلم صفة زائدة لما مر
وأنكره المعتزلة لوجوه
الأول لو كان له تعالى علم فإذا تعلق بشيء وتعلق علمنا به فقد تعلقا به من وجه واحد
فيلزم تماثلهما ويلزم قدمهما أو حدوثهما
فإن قيل هذا لازم عليكم في العالمية فما هو جوابكم فهو جوابنا
قلنا عالميته تعالى تعلق الذات وعالميتنا تعلق العلم فليسا من وجه واحد
والجواب أنه لا يلزم من الاشتراك في وجه التعلق التماثل إذ المختلفات تشترك في لازم واحد
فإن قيل فبم يعرف تماثل العلوم قلنا إن كان طريق آخر فذلك
وإلا توقف سلمنا التماثل
لكن لا يجب الاشتراك في القدم والحدوث كما في الوجود
الثاني إنه تعالى عالم بما لا نهاية له فيلزم علوم غير متناهية
والجواب أن التعدد في التعلقات وهي إضافية
الثالث يلزم علمه بعلمه
وتتسلسل
والجواب أنه في الإضافات
99

الرابع لو كان ذا علم لكان فوقه عليم
واللازم باطل اتفاقا
بيان الملازمة قوله تعالى * (وفوق كل ذي علم عليم) *
والجواب المعارضة بقوله * (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) * " ولا يحيطون بشيء من علمه " * (إن الله عنده علم الساعة) * كيف وأنه لفظي يقبل التخصيص
الشرح
المقصد الثالث في علمه تعالى
وفيه بحثان
البحث الأول في إثباته
وهو متفق عليه بيننا وبين الحكماء
وإنما نفاه شرذمة من قدماء الفلاسفة لا يعبأ بهم وسنذكره
لكن المسلك في إثبات كونه تعالى عالما مختلف
أما المتكلمون فلهم مسلكان
الأول أن فعله تعالى متقن أي محكم خال عن وجوه الخلل ومشتمل على حكم ومصالح متكثرة وكل من فعله متقن فهو عالم
أما الأول أعني اتقان فعله فظاهر لمن نظر في الآفاق والأنفس وتأمل ارتباط العلويات بالسفليات سيما إذا تأمل في الحيوانات وما هديت إليه من مصالحها وأعطيت من الآلات المناسبة لها ويعين على ذلك علم التشريح ومنافع خلقة الإنسان وأعضائه التي قد كسرت عليها المجلدات
وأما الثاني وهو أن من كان فعله متقنا كان عالما فضروري
وينبه عليه أن من رأى خطا حسنا يتضمن ألفاظا عذبة رشيقة تدل على معان دقيقة مؤنقة علم بالضرورة أن كاتبه عالم
وكذلك من سمع خطابا منتظما مناسبا للمقام من شخص يضطر إلى أن يجزم بأنه عالم
100

فإن قيل المتقن إن أردت به الموافق للمصلحة من جميع الوجوه فممنوع إن فعله تعالى متقن إذ لا شيء من مفردات العالم ومركباته إلا ويشتمل على مفسدة ما ويتضمن خللا ويمكن تصوره على وجه أكمل مما هو عليه أو الموافق للمصلحة من بعض الوجوه فلا يدل على العلم إذ ما من أثر إلا ويمكن أن ينتفع به منتفع سواء كان مؤثرا عالما أو لا كإحراق النار وتبريد الماء أو أمرا ثالثا فبينه لنا ما هو وكيف يدل على علم الفاعل ونقول أيضا أنه أي دليلك على إثبات علمه منقوض بفعل النحل لتلك البيوت المسدسة المتساوية بلا فرجار ومسطر
واختيارها للمسدس لأنه أوسع من المثلث
والمربع والمخمس ولا يقع بينها أي بين المسدسات فرج كما يقع بين المدورات وما سواها من المضلعات وهذا الذي ذكرناه لا يعرفه إلا الحذاق من أهل الهندسة
وكذلك العنكبوت تنسج تلك البيوت وتجعل لها سدى ولحمة على تناسب هندسي بلا آلة مع أنه لا علم لهما بما يصدر عنهما
وما يتضمنه من الحكم
والجواب عن الأول أن المراد بالمتقن ما نشاهده من الصنيع الغريب والترتيب العجيب الذي تتحير فيه العقول
ولا تهتدي إلى كمال ما فيه من المصالح والمنافع
ولا شك في دلالته على علم الصانع وتوضيحه ما ذكرنا في مثال الكتابة والخطاب
إذ لا يشترط في الدلالة على العلم خلوه عن كل خلل واشتماله على كل كمال حتى لو أمكن أن يكتب أحسن منه أو يتكلم بأفصح منه لم يدل على علم
والجواب عن الثاني أنا لا نسلم عدم علم النحل والعنكبوت بما يفعله لجواز أن يخلق الله تعالى فيهما علما بذلك الفعل الصادر عنهما أو يلهمهما حالا فحالا ما هو مبدأ لذلك الفعل الصادر منهما
المسلك الثاني إنه تعالى قادر لما مر
وكل قادر فهو عالم لأن
101

القادر هو الذي يفعل بالقصد والاختيار
ولا يتصور ذلك إلا مع العلم
لا يقال كون كل قادر عالما ممنوع إذ قد يصدر عن النائم والغافل مع كونهما قادرين عند المعتزلة وكثير من الأشاعرة فعل قليل متقن اتفاقا
وإذا جاز ذلك جاز صدور الكثير عنه لأن حكم الشيء حكم مثله ولا عبرة بالقلة والكثرة لأنا نقول لا نسلم الملازمة
إذا الضرورة فارقة فإنها تجوز صدور قليل من المتقن عن قادر غير عالم
ولا تجوز صدور كثير عنه
وأما من جعل النوم ضدا للقدرة فالسؤال ساقط عنه وأما الحكماء فلهم في إثبات علمه تعالى أيضا مسلكان
المسلك الأول إنه مجرد أي أوليس
جسما ولا جسمانيا كما مر في التنزيهات وكل مجرد فهو عاقل لجميع الكليات
وقد برهنا فيما سلف على المقدمتين
المسلك الثاني إنه تعالى يعقل ذاته وإذا عقل ذاته عقل ما عداه
أما الأول فلأن التعقل حضور الماهية المجردة عن العلائق المادية للشيء المجرد القائم بذاته وهو حاصل في شأنه لأن ذاته مجردة غير غائبة عن ذاته فيكون عالما بذاته
وأما الثاني فلأنه مبدأ لما سواه أي لجميعه إما بواسطة أو بدونها والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فيكون عالما بذاته وبجميع معلولاته
ويرد على المسلك الأول منع الكبرى القائلة بأن كل مجرد عاقل للمفهومات الكلية
وبرهانه الذي تمسكوا به قد مر ضعفه
ويرد على المسلك الثاني أنا لا نسلم أن التعقل ما ذكرتم
وتعريفه بذلك
102

لا يوجب الجزم بأن حقيقته ذلك ما لم يقم عليه برهان
إذ غايته أنهم يعنون بالتعقل ذلك المعنى الذي عرفوه به ولكن من أين لهم أن الحالة التي نجدها من أنفسنا ونسميها العلم حقيقته ذلك الذي ذكروه لا بد له من دليل سلمناه أي سلمنا أن حقيقة العلم ما ذكرتموه لكن لم لا يجوز أن يشترط فيه التغاير بين الحاضر
وما حضر هو عنده فلا يكون الشيء عالما بنفسه كما اشترط ذلك في الحواس فإنها لا تدرك أنفسها مع كونها حاضرة عندها غير غائبة عنها
سلمناه أي عدم اشتراط التغاير لكن لا نسلم أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول
وإلا لزم من العلم بالشيء العلم بجميع لوازمه القريبة والبعيدة لأنه إذا علم الشيء علم لازمه القريب الذي هو معلوله
وإذا علما معا علم البعيد أيضا لأنه معلولهما
نعم يلزم ذلك إذا علم الشيء الذي هو علة وعلم أنه علة له أي للشيء الأخر الذي هو معلول
وعلم أنه موجود
وعلم أنه يلزم من وجود العلة وجود المعلول فحينئذ يعلم وجود المعلول قطعا
لكن ما ذكرتم يدل على أنه عالم بذات العلة التي هي ذاته الحاضرة عنده
ولا يدل على ثبوت العلم الآخر فلم قلتم إن ذلك كله حاصل له حتى يتم مطلوبكم
تنبيه مسلكا المتكلمين يفيدان العلم بالجزئيات كما يفيدان العلم بالكليات
وذلك لأن الجزئيات معلولة بالكليات صادرة عنه على صفة الاتقان ومقدورة له فيكون عالما بهما معا
وأما مسلكا الحكماء فلا يوجبان إلا علما كليا لأن ما علم بماهيته المجردة كما استفيد من الأول أو علم بعلته كما استفيد من الثاني يعلم علما كليا
فإن المعلول ماهيته كذا أما وحدها كما في المسلك الأول أو مع كونها معللة بكذا كما في المسلك الثاني والماهية كلية وكونها معللة بكذا كلي أيضا
103

وتقييد الكلي بالكلي مرات كثيرة لا يفيد الجزئية فضلا عن تقييده به مرة واحدة
وههنا محل تأمل
فإنهم زعموا أن العلم التام بخصوصية العلة يستلزم العلم التام بخصوصيات معلولاتها الصادرة عنها بوسط أو بغير وسط
وادعوا أيضا انتفاء علمه تعالى بالجزئيات من حيث هي جزئية لاستلزامه التغير في صفاته الحقيقية
فاعترض عليهم بعض المحققين وقال إنهم مع ادعائهم الذكاء قد تناقض كلامهم ههنا
فإن الجزئيات معلولة له كالكليات
فيلزم من قاعدتهم المذكورة علمه بها أيضا
لكنهم التجأوا في دفعه إلى تخصيص القاعدة العقلية بسبب مانع هو التغير كما هو دأب أرباب العلوم الظنية فإنهم يخصصون قواعدهم بموانع تمنع إطرادها وذلك مما لا يستقيم في العلوم اليقينية
البحث الثاني إن علمه تعالى يعم المفهومات كلها الممكنة والواجبة والممتنعة
فهو أعم من القدرة لأنها تختص بالممكنات دون الواجبات والممتنعات وإنما قلنا عمومه للمفهومات لمثل ما مر في القدرة
وهو أن الموجب للعلم ذاته والمقتضي للمعلومية ذوات المعلومات ومفهوماتها ونسبة الذات إلى الكل سواء فإذا كان عالما ببعضها كان عالما بكلها
والمخالف في هذا الأصل أيضا فرق ست
الأولى من قال من الدهرية إنه لا يعلم نفسه لأن العلم نسبة
104

والنسبة لا تكون إلا بين شيئين متغايرين هما طرفاها بالضرورة ونسبة الشيء إلى نفسه محال إذ لا تغاير هناك
والجواب منع كون العلم نسبة محضة بل هو صفة حقيقة ذات نسبة إلى المعلوم ونسبة الصفة إلى الذات ممكنة فإن قيل تلك الصفة تقتضي نسبة بين العالم والمعلوم فلا يجوز أن يكونا متحدين
قلنا هي تقتضي نسبة بينها وبين المعلوم ونسبة أخرى بينها وبين العالم
وهما ممكنتان كما عرفت
وأما النسبة بين العالم والمعلوم فهي بعينها النسبة الأولى من هاتين المذكورتين اعتبرت بالعرض فيما بينهما فلا إشكال سلمناه أي كون العلم نسبة محضة بين محله ومتعلقه لكن لا نسلم أن الشيء لا ينسب إلى ذاته نسبة علمية فإن التغاير الاعتباري كاف لتحقق هذه النسبة
وكيف لا يكون كذلك وأحدنا يعلم نفسه مع عدم التغاير بالذات
لا يقال ذلك أي علمنا بذواتنا جائز لتركيب في أنفسنا بوجه من الوجوه أي سواء كان تركيبا خارجيا أو ذهنيا
وكلامنا في الواحد الحقيقي الذي لا تكثر فيه أصلا فلو كان عالما بذاته لزم تحقق النسبة بين الشيء ونفسه قطعا بخلاف المركب إذ فيه كثرة يمكن أن يتصور بينها نسبة فلا يتجه النقض به لأنا نقول أحدنا على تقدير علمه بنفسه لو كان له نسبة إلى كل جزئية فقد حصل المطلوب إذ قد تحقق النسبة بينه وبين جميع أجزائه وهو عينه وإلا فلا يعلم إلا أحد جزئيه
فيكون العالم غير المعلوم لأن الجزء غير الكل فلا يعلم نفسه والمفروض خلافه
فإن قلت من أين ثبت التغاير الاعتباري المصحح للنسبة قلت من حيث أن ذات الشيء باعتبار صلاحيتها للمعلومية في الجملة مغايرة لها باعتبار صلاحيتها للعالمية في الجملة
وهذا القدر من التغاير يكفينا
الثانية من تلك الفرق من قال من قدماء الفلاسفة إنه لا يعلم شيئا أصلا
وإلا علم نفسه
إذ يعلم على تقدير كونه عالما بشيء أنه يعلمه
وذلك يتضمن علمه بنفسه
وقد بينا امتناعه في مذهب الفرقة الأولى
لا يقال لا نسلم أن من علم شيئا علم أنه عالم به
وإلا لزم من العلم بشيء العلم
105

بالعلم بذلك الشيء
وهكذا فيلزم من العلم بشيء واحد العلم بأمور غير متناهية وهو محال لأنا نقول المدعي لزوم إمكان علمه به أي بأنه عالم
وذلك مما لا خفاء فيه فإن من علم شيئا أمكنه أن يعلم أنه عالم به بالضرورة
وإلا جاز أن يكون أحدنا عالما بالمجسطي والمخروطات وسائر العلوم الدقيقة الكثيرة المباحث المثبتة بالدلائل القطعية ولكن لا يمكنه أن يعلم أنه عالم به
وإن التفت إلى ذلك وبالغ في الاجتهاد
وذلك سفسطة ظاهرة وإذا لزم الإمكان
ثبت المدعي لأن إمكان المحال محال
والجواب إنه إن امتنع منه تعالى علمه بنفسه منعنا الملازمة وقلنا الضرورة التي ذكرتموها إنما هي فيمن يمكنه العلم بنفسه
وإن أمكن له علمه بنفسه منعنا بطلان التالي المتضمن لهذا العلم الممكن بالفرض
وأيضا قد مر بطلان ما ذكروه في إثبات أنه لا يعلم نفسه
الثالثة من الفرق المخالفة من قال إنه لا يعلم غيره مع كونه عالما بذاته
وذلك لأن العلم بالشيء غير العلم بغيره أي بغير ذلك الشيء من الأشياء الأخر وإلا فمن علم شيئا علم جميع الأشياء لأن العلم به حينئذ عن العلم بها
وهو باطل
وإذا كان العلم بشيء مغايرا للعلم بشيء آخر فيكون له تعالى بحسب كل معلوم علم على حدة فيكون في ذاته كثرة متحققة غير متناهية هي العلوم بالمعلومات التي لا تتناهى
وذلك محال بالتطبيق
والجواب أنه أي ما ذكرتموه من كثرة العلم كثرة في الإضافات والتعلقات وذلك لأنه لا نسلم تعدد ذات العلم بتعدد المعلومات بل العلم واحد تتعدد تعلقاته بحسب معلوماته
وذلك أي تكثر الإضافات والتعلقات لا تمتنع لأنها أمور اعتبارية لا موجودة
الرابعة من تلك الفرق من قال إنه لا يعقل غير المتناهي
إذ المعقول متميز عن غيره لأن العلم إما نفس التميز أو صفة توجبه
ولأنه لو لم يتميز
106

عن غيره لم يكن هو بالمعقولية أولى منه وغير المتناهي غير متميز عن غيره بوجه من الوجوه
وإلا لكان له حد وطرف به يتميز وينفصل عن الغير وإذا كان له طرف فليس غير متناه
هذا خلف
والجواب من وجهين
الأول إنه معقول من حيث أنه غير متناه يعني أن المجموع من حيث هو مجموع متميز عن غيره بوصف اللاتناهي ومعقول بحسبه
وإن كانت آحاده غير متميزة كما ذكرتم
وفيه نظر لأن ذلك الوصف
أعني اللاتناهي
أمر واحد عارض لغير المتناهي
وهو غير ما صدق عليه أنه غير متناه
والنزاع إنما وقع فيه لأنه الموصوف باللاتناهي لا في ذلك المفهوم العارض لأنه موصوف بالوحدة
ولما اتجه أن يقال المراد أن مجموع ما صدق عليه معقول باعتبار عارضه
لا أن عارضه معقول في نفسه
أشار إلى دفعه فقال وبالجملة فالنزاع في غير المتناهي تفصيلا لا إجمالا
وما ذكرتم علم إجمالي لا منازعة فيه لأحد
كيف ولا بد منه في الحكم بعد تميزه
الثاني المعقول كل واحد واحد ومن غير المتناهي وأنه متميز عن غيره من تلك الآحاد ومن غيرها ولا يضر في تميز كل واحد واحد عدم تميز الكل من حيث هو كل
ولم لزم من هذا الجواب كون غير المتناهي معلوما له تعالى تفصيلا لا إجمالا على عكس الجواب الأول أعرض عنه أيضا فقال والحق أن نقول لا نسلم أن المعقول المتميز يجب أن يكون له حد ونهاية يمتاز به عن غيره
وإنما يكون كذلك أن لو كان تعقله بتميزه وانفصاله عن غيره بالحد والنهاية
وأنه ممنوع لأن وجوه التميز لا تنحصر في الحد
107

الخامسة منها من قال وهم جمهور الفلاسفة لا يعلم الجزئيات المتغيرة
وإلا فإذا علم مثلا أن زيدا في الدار الآن ثم خرج زيد عنها فإما أن يزول ذلك العلم ويعلم أنه أوليس
في الدار ويبقى ذلك العلم بحاله
والأول يوجب التغير في ذاته من صفة إلى أخرى
والثاني يوجب الجهل وكلاهما نقص يجب تنزيهه تعالى
قالوا وكذا لا يعلم الجزئيات المتشكلة وإن لم تكن متغيرة كأجرام الأفلاك الثابتة على أشكالها لأن إدراكها إنما يكون بآلات جسمانية
وكذا الحال في الجزئيات المتشكلة المتغيرة إذ قد اجتمع فيها المانعان بخلاف الجزئيات التي ليست متشكلة ولا متغيرة فإنه يعلمها بلا محذور كذاته تعالى وذوات العقول
والجواب منع لزوم التغير فيه بل التغير إنما هو في الإضافات لأن العلم عندنا إضافة محضة أو صفة حقيقية ذات إضافة
فعلى الأول يتغير نفس العلم
وعلى الثاني يتغير إضافاته فقط
وعلى التقديرين لا يلزم تغير في صفة موجودة بل في مفهوم اعتباري وهو جائز
وإدراك المتشكل إنما يحتاج إلى آلة جسمانية إذا كان العلم حصول الصورة
وأما إذا كان إضافة محضة أو صفة حقيقة ذات إضافة بدون الصورة فلا حاجة إليها
وقد أجاب عنه مشايخ المعتزلة وكثير من الأشاعرة بأن العلم بأنه وجد الشيء و العلم بأنه سيوجد واحد
فإن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم أنه دخل البلد الآن إذا كان علمه هذا مستمرا بلا غفلة مزيلة له
وإنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر متجدد يعلم به أنه دخل الآن لطريان الغفلة عن الأول
والباري تعالى يمتنع عليه الغفلة
فكان علمه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد فلا يلزم من تغير المعلوم من عدم إلى وجود تغير في علمه
وهذا الذي ذكروه مأخوذ من قول الحكماء علمه تعالى ليس
108

علما زمانيا أي واقعا في زمان كعلم أحدنا بالحوادث المختصة بأزمنة متعينة فإنه واقع في زمان مخصوص
فما حدث منها في ذلك الزمان كان حاضرا عنده
وما حدث قبله أو بعده كان ماضيا أو مستقبلا
وأماعلمه تعالى فلا اختصاص له بزمان أصلا فلا يكون ثمة حال وماض ومستقبل فإن هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختص بجزء منه إذ الحال معناه زمان حكمي هذا
الماضي زمان هو قبل زمان حكمي هذا
والمستقبل زمان هو بعد زمان حكمي هذا
فمن كان علمه أزليا محيطا بالزمان وغير محتاج في وجوده إليه وغير مختص بجزء معين من أجزائه لا يتصور في حقه حال ولا ماض ولا مستقبل فالله سبحانه وتعالى عالم عندهم بجميع الحوادث الجزئية وأزمنتها الواقعة هي فيها لا من حيث أن بعضها واقع الآن وبعضها في الماضي وبعضها في المستقبل
فإن العلم بها من هذه الحيثية يتغير بل يعلمها علما متعاليا عن الدخول تحت الأزمنة ثابتا أبد الدهر
وتوضيحه أنه تعالى لما لم يكن مكانيا كانت نسبته إلى جميع الأمكنة على سواء فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط
كذلك لما لم يكن هو وصفاته الحقيقية زمانية لم يتصف الزمان مقيسا إليه بالمضي والاستقبال والحضور بل كان نسبته إلى جميع الأزمنة سواء
فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كل في وقته وليس في علمه كان وكائن وسيكون بل هي حاضرة عنده في أوقاتها فهو عالم بخصوصيات الجزئيات وأحكامها
لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب أوصافها الثلاثة إذ لا تحقق لها بالنسبة إليه
ومثل هذا العلم يكون ثابتا مستمرا لا يتغير أصلا كالعلم بالكليات
قال بعض الفضلاء وهذا معنى قولهم أنه يعلم الجزئيات على وجه كلي لا ما توهمه بعضهم من أن علمه محيط بطبائع الجزئيات وأحكامها دون خصوصياتها
وما يتعلق بها من الأحوال
كيف وما ذهبوا إليه من أن
109

العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول ينافي ما توهموه كما سبقت إليه الإشارة
وقد أنكر أبو الحسين البصري ذلك الذي ذكره هؤلاء المشايخ من أن علمه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد
واحتج عليه بوجوه
الأول حقيقة أنه سيقع غير حقيقة أنه وقع بالضرورة فالعلم به غير العلم به
لأن اختلاف المتعلقين أي المعلومين يستدعي اختلاف العلم بهما
الثاني أن شرط العلم بأنه وقع هو الوقوع
وشرط العلم بأنه سيقع هو عدم الوقوع
فلو كانا واحدا لم يختلف شرطهما أصلا فضلا عن التنافي بين شرطيهما
وقد يعبر عنه أي عن الوجه الثاني بأن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا وجلس إلى مجيء الغد في بيت مظلم مستديما لذلك العلم فلم يعلم لأجل الظلمة دخول غد لم يعلم أنه دخل البلد بذلك العلم المستمر فكيف يكون أحدهما عين الآخر نعم لو انضم إليه أي إلى العلم بأنه سيدخل العلم بدخول غد علم من هذين العلمين ذلك أي أنه دخل فيكون حينئذ هذا العلم متفرعا على العلمين السابقين لا عين أحدهما
وإنما لم يجعله وجها ثالثا كما فعله الإمام الرازي في الأربعين لأن محصوله هو أن العلم بأنه سيدخل البلد غدا أوليس
مشروطا بالعلم بمجيء الغد والعلم بأنه دخل في مثالنا هذا مشروط به فيكون راجعا إلى الوجه الثاني لا وجها على حدة
الثالث يمكن العلم بأنه وقع مع الجهل بأنه سيقع كما إذا علم الحادث حال حدوثه ولم يشعر به قبله أصلا وبالعكس كما إذا علم حاله قبل حدوثه ولم يشعر به في أوانه وغير المعلوم أي ما أوليس
معلوما في زمان غير المعلوم أي مغاير لما هو معلوم في ذلك الزمان
وإذا تغاير المعلومان تغاير العلمان
وعلى هذا فقد رجع الثالث إلى الأول
والصواب كما هو في الأربعين أنه يمكن العلم بأنه سيقع مع الجهل بأنه عالم
110

بأنه وقع وبالعكس
وغير المعلوم غير المعلوم فيثبت حينئذ تغاير العلمين ابتداء
ويشهد لما قلناه قوله وقد يعبر عن هذا الثالث بأن قبل الوقوع اعتقاد أنه سيقع علم واعتقاد أنه وقع جهل
وبعد الوقوع وبالعكس فتغايرا لتنافي وصفيهما
أعني العلمية والجهلية كتنافي وصف المعلومية والمجهولية المعتبرتين في الوجه الثالث
وقد عده الإمام الرازي وجها برأسه ثم إن أبا الحسين بعد إبطاله جواب مشايخه التزم وقوع التغير في علم الباري سبحانه وتعالى بالمتغيرات
وزعم أن ذاته تعالى تقتضي كونه عالما بالمعلومات بشرط وقوعها فيحدث العلم بها عند وجودها ويزول عند زوالها ويحصل علم آخر
ورد عليه بأنه يلزم منه أن لا يكون الباري سبحانه وتعالى في الأزل عالما بأحوال وجودات الحوادث وهو تجهيله له تعالى عنه
السادسة من الفرق المخالفين من قال لا يعلم الجميع بمعنى سلب الكل أي رفع الإيجاب الكلي لا بمعنى السلب الكلي كما زعمته الفرقة الثانية إذ لو علم كل شيء
فإذا علم شيئا علم أيضا علمه به لأن هذا العلم شيء من الأشياء ومفهوم من المفهومات
وكذا علم علمه بعلمه لأنه شيء آخر ويلزم التسلسل في العلوم
والجواب أنه تسلسل في الإضافات لا في أمور موجودة لأن العلم من قبيل الإضافة والتعلق عندنا وأنه أي تسلسل الإضافات غير ممتنع كما مر غير مرة قبل
نقول كيف يلزم التسلسل في الأمور الموجودة على تقدير كون العلم صفة حقيقية والحال أنه قد يكون علمه بعلمه
111

نفس علمه كما ذهب إليه الإمام والقاضي فإنهما قالا كل شيئين لا يجوز انفكاك العلم بهما كالعلم بالشيء والعلم بالعلم به وكالعلم بالتضاد والاختلاف
فقد يتعلق بهما علم واحد كما سلف في مباحث العلم من الموقف الثالث
تنبيه العلم صفة زائدة على ذاته تعالى قائمة به لما مر من بيان زيادة الصفات على الإجمال وأنكره المعتزلة لوجوه
الأول لو كان له تعالى علم فإذا تعلق بشيء وتعلق علمنا به فقد تعلقا به من وجه واحد وهو تعلق العلوم بمعلوماتها إما إجمالا أو تفصيلا فيلزم حينئذ تماثلهما لأن كل علمين تعلقا بمعلوم واحد من جهة واحدة فهما متماثلان ويلزم إما قدمهما معا أو حدوثهما معا لأن التماثلات يجب اشتراكها في اللوازم
فإن قيل في جوابهم هذا لازم عليكم في العالمية فإنه إذا تعلق عالميته تعالى بشيء وتعلق به عالميتنا من وجه واحد لزم تماثلهما واشتراكهما في القدم والحدوث فما هو جوابكم في العالمية فهو جوابنا في العلم
قلنا لهم أن يقولوا في دفع هذا النقض عالميته تعلق الذات بالمعلوم وعالميتنا تعلق العلم بالمعلوم
فليسا أي هذان التعلقان من وجه واحد فلا يكونان متماثلين
والجواب أنه لا يلزم من الاشتراك من وجه التعلق وطريقه التماثل إذ المختلفات بل المتضادات تشترك في لازم واحد
112

فإن قيل إذا لم يدل ما ذكرناه على تماثل العلمين فبم يعرف تماثل العلوم
قلنا إن كان هناك طريق آخر إلى معرفة تماثلها فذلك يتوصل به إليها وإلا توقف كما في سائر الأشياء التي لا سبيل لنا إلى معرفتها سلمنا التماثل
لكن لا يجب الاشتراك في القدم والحدوث لأن المتماثلات قد تختلف فبهما كما في الوجود فإن وجوده تعالى قديم ووجود الممكنات حادث مع تماثلهما
وسره أن المتماثلين لا بد أن يتمايزا بشيء فربما كان ذلك الشيء مبدأ لحكم مختص
الثاني من الوجوه أنه تعالى عالم بما لا نهاية له فإذا فرض أن علمه زائد على ذاته فيلزم أن يكون له علوم موجودة غير متناهية ضرورة أن العلم بشيء غير العلم بشيء آخر
والجواب أن التعدد في التعلقات العلمية وهي إضافية فيجوز لا تناهيها
وأما ذات العلم فواحدة
الثالث منها يلزم على تقدير كونه عالما بعلم أن يكون علمه بعلمه أيضا زائدا على علمه وتتسلسل العلوم الموجودة إلى ما لا نهاية له
والجواب أنه في الإضافات لأن علمه واحد
وله تعلقات بمعلومات لا تتناهى
من جملتها علمه الذي يخالفه بالاعتبار دون الذات
الرابع لو كان تعالى ذا علم لكان فوقه عليم
واللازم باطل اتفاقا
بيان الملازمة قوله تعالى * (وفوق كل ذي علم عليم) *
والجواب المعارضة بقوله * (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) *
113

" ولا يحيطون بشيء من علمه "
وتأويله بالمعلوم خلاف الظاهر * (إن الله عنده علم الساعة) *
كيف وأنه أي قوله * (وفوق كل ذي علم عليم) * دليل لفظي عام يقبل التخصيص فيجب تخصيصه بما عدا الباري سبحانه وتعالى ليوافق ما ذكرناه من الدليل القطعي على ثبوت علمه تعالى
المقصد الرابع في أنه تعالى حي
المتن هذا مما اتفق عليه الكل لأنه عالم قادر
وقد أطبقوا أيضا عليه
وكل عالم قادر فهو حي بالضرورة
لكن اختلفوا في معنى حياته لأنها في حقنا إما اعتدال المزاج النوعي وإما قوة تتبع ذلك الاعتدال ولا تتصور في حقه تعالى فقالوا إنما هي كونه يصح أن يعلم ويقدر
وهو مذهب الحكماء وأبى الحسين البصري من المعتزلة
وقال الجمهور إنها صفة توجب صحة العلم إذ لولا اختصاصه بصفة توجب صحة العلم لكان اختصاصه بصحة العلم ترجيحا بلا مرجح
وأجابوا عنه بأنه منقوض باختصاصه بتلك الصفة
فإنه لو كان بصفة أخرى لزم التسلسل
فلا بد من الانتهاء إلى ما لا يكون بصفة أخرى
والحق أن ذاته تعالى مخالفة بالحقيقة لسائر الذوات فقد يقتضي الاختصاص بأمر
وليس جعل ذلك علة صحة العلم أولى من جعلها نفس صحة العلم
فمن أراد إثبات زيادة فعليه بالدليل
114

الشرح
المقصد الرابع في أنه تعالى حي
هذا ما اتفق عليه الكل من أهل الملل وغيرهم لأنه عالم قادر لما مر من الدلائل وقد أطبقوا أيضا عليه أي على أنه عالم إلا شرذمة لا يعبأ بهم كما عرفته
وكل عالم قادر فهو حي بالضرورة
لكن اختلفوا في معنى حياته لأنها في حقنا إما اعتدال المزاج النوعي كما يشعر به كلام المحصل حيث قالوا المراد من الحياة إن كان اعتدال المزاج أو قوة الحس والحركة فهو معقول
وإن كان أمرا ثالثا فلا بد من تصويره وإقامة الدليل عليه وإما قوة تتبع ذلك الاعتدال سواء كانت نفس قوة الحس والحركة أو مغايرة لها على ما اختاره ابن سينا كما مر ولا تتصور الحياة بشيء من هذه المعاني في حقه تعالى فقالوا إنما هي كونه يصح أن يعلم ويقدر
وهو مذهب الحكماء وأبي الحسين البصري من المعتزلة
وقال الجمهور من أصحابنا ومن المعتزلة إنها صفة توجب صحة العلم والقدرة إذ لولا اختصاصه بصفة توجب صحة العلم الكامل والقدرة الشاملة لكان اختصاصه بصحة العلم والقدرة المذكورين ترجيحا بلا مرجح
وأجابوا عنه بأنه منقوض باختصاصه بتلك الصفة الموجبة للصحة فإنه لو كان بصفة أخرى لزم التسلسل في الصفات الوجودية
هذا خلف
فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون اختصاصه به بصفة أخرى فيكون ترجيحا بلا مرجح
ولما كان استدلالهم هذا مبنيا على تماثل الذوات أشار إلى بطلانه بقوله والحق أن ذاته تعالى مخالفة بالحقيقة لسائر الذوات فقد
115

يقتضي هو لذاته الاختصاص بآخر فلا يلزم ترجيح من غير مرجح
ومن العلوم أن أوليس
جهل ذلك الأمر الذي يقتضيه ذاته لذاته علة صحة العلم أولى من جعلها أي جعل ذلك الأمر أشبه نظر إلى قوله نفس صحة العلم
فمن أراد إثبات زيادة على نفس الصحة فعليه بالدليل
المقصد الخامس
المتن في أنه تعالى مريد
وفيه بحثان
البحث الأول في إثبات الإرادة
ولا بد ههنا من تصويرها أولا ثم تقريرها
فقال الحكماء إرادته نفس علمه بوجه النظام الأكمل ويسمونه عناية
وقال أبو الحسين هو علمه ينفع في الفعل
وذلك كما يجده كل عاقل من نفسه إن ظنه أو اعتقاده بنفع الفعل يوجب الفعل
ويسميه بالداعية
وقال النجار إنه أمر عدمي
وهو عدم كونه مكرها
وقال الكعبي هي في فعله العلم
وفي فعل غيره الأمر به
وقال
116

أصحابنا إنها صفة ثالثة مغايرة للعلم والقدرة توجب تخصيص أحد المقدورين بالوقوع
واحتجوا عليه بأن الضدين نسبتهما إلى القدرة سواء إذ كما يمكن أن يقع بها هذا يمكن أن يقع بها ذاك من غير فرق
وكل واحد منهما فرض
فإن نسبته إلى الأوقات سواء
فكما يمكن أن يقع في وقته الذي وقع فيه يمكن أن يقع قبله وبعده
فلا بد من مخصص
وإلا لزم ترجيح أحد المتساويين لا بمرجح
وليس القدرة لاستواء نسبتها إليهما
ولا العلم لأنه تبع الوقوع
فلا يكون الوقوع تبعا له
وإلا لزم الدور
فإذا هو أمر ثالث
وهو المطلوب
فإن قيل الإرادة من حيث هي إرادة نسبتها إلى الضدين سواء فيعود الكلام فيها ويلزم التسلسل
قلنا لا نسلم ذلك بل تعلقها بأحدهما لذاتها لا يقال فيجب ذلك الجانب ويمتنع الآخر فيلزم سلب الاختيار
قلنا وجوب الشيء بالاختيار لا ينافي الاختيار
وربما قال الحكماء لا نسلم أن كل علم فهو تبع للوقوع
وإنما ذلك في العلم الانفعالي
والأصحاب يدعون الضرورة في استواء نسبة العلم والقدرة إلى الطرفين
البحث الثاني إرادته تعالى قديمة
إذ لو كانت حادثة لاحتاجت إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل
وقالت المعتزلة إنها حادثة قائمة بذاتها
فكأنه مأخوذ من قول الحكماء إنه عند وجود المستعد للفيض يحصل الفيض
وقالت الكرامية إنها حادثة قائمة بذاته تعالى
ويعرف بطلانهما بما ذكرنا
خاتمة قال الإمام الرازي كونه تعالى مريدا إما أن يكون نفس ذاته وهو قول ضرار
وإما أمرا سلبيا وهو أحد قولي النجار
وإما ثبوتيا معللا
117

بذاته وهو القول الآخر له
وإما معللا بمعنى قديم وهو قول أصحابنا
وإما بمعنى حادث إما قائم بذاته تعالى
وهو قول الكرامية
أو موجود لا في محل
وهو قول الجبائية من المعتزلة
أو قائم بذات غير ذات الله تعالى
ولم نر أحدا ذهب إليه
ويبطل الأول أنا نعلمه ونشك في كونه مريدا
والثاني لزوم كون الجماد مريدا
والخامس والسادس لزوم التسلسل
والخامس خاصة أنه لا يقوم الحادث بذاته تعالى
والسادس أنه يلزم عرض لا في محل
وأن نسبة ما لا محل له إلى جميع الذوات سواء
وكونه ذاته تعالى لا في محل لا يوجب اختصاصه به
الشرح
المقصد الخامس في أنه تعالى مريد
وفيه بحثان
البحث الأول في إثبات الإرادة
ولا بد ههنا من تصويرها أولا ثم تقريرها وتحقيقها بالبرهان ثانيا فقال الحكماء إرادته تعالى هي نفس علمه بوجه النظام الأكمل ويسمونه عناية
قال ابن سينا العناية هي إحاطة علم الأول تعالى بالكل وبما يجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام
فعلم الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منبع لفيضان الخير في الكل من غير انبعاث قصد وطلب من الأول الحق
118

وقال أبو الحسين وجماعة من رؤساء المعتزلة كالنظام والجاحظ والعلاف وأبي القاسم البلخي ومحمود الخوارزمي إرادته تعالى هو علمه ينفع في الفعل
وذلك كما يجده كل عاقل من نفسه إن ظنه أو اعتقاده ينفع في الفعل أو علمه به يوجب الفعل ويسميه أبو الحسين بالداعية
ولما استحال الظن والاعتقاد في حقه تعالى انحصر داعيته في العلم بالنفع ونقل عن أبي الحسين وحده أنه قال الإرادة في الشاهد زائدة على الداعي
وقال الحسين النجار أنه أي كونه مريدا أمر عدمي
وهو عدم كونه مكرها ومغلوبا
وقال الكعبي هي في فعله العلم بما فيه من المصلحة وفي فعل غيره الأمر به
وقال أصحابنا ووافقهم جمهور معتزلة البصرة أنها صفة ثالثة مغايرة للعلم والقدرة توجب تلك الصفة تخصيص أحد المقدورين بالوقوع
واحتجوا عليه أي على ثبوت تلك الصفة بأن الضدين نسبتهما إلى القدرة سواء إذ كما يمكن أن يقع بها هذا الضد يمكن أن يقع بها ذاك الضد من غير فرق بينهما في إمكان الوقوع بها وكل واحد منهما فرض وقوعه بها فإن نسبته إلى الأوقات المعينة كلها سواء
فكما يمكن أن يقع في وقته الذي وقع فيه يمكن أن يقع قبله وبعده
فلا بد لتخصيصه بالوقوع دون ضده
ولتخصيص وقوعه بوقته المعين دون سائر الأوقات من ثبوت
119

مخصص يقتضيه وإلا لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر لا بمرجح هذا خلف
وليس ذلك المخصص القدرة لاستواء نسبتها إليهما وإلى الأوقات كلها كما عرفت ولا العلم لأنه تبع الوقوع أي العلم بوقوع شيء في وقت معين تابع لكونه بحيث يقع فيه لأنه ظله وحكاية عنه
فلا يكون الوقوع تبعا له
وإلا لزم الدور
فإذن هو أي المخصص أمر ثالث يكون مغايرا للحياة والسمع والبصر والكلام أيضا
إذ لا يصلح شيء منها للتخصيص قطعا
وهو المطلوب
فإن قيل الإرادة من حيث هي إرادة نسبتها إلى الضدين وإلى الأوقات سواء إذ كما يجوز تعلقها بهذا الضد يجوز تعلقها بالضد الآخر
وكما يجوز إرادة وقوع واحد منهما في وقت يجوز إرادة وقوعه في وقت آخر فيعود الكلام فيها فيقال لا بد للتخصيص من مخصص مغاير للعلم والقدرة والإرادة فنثبت صفة رابعة ويلزم التسلسل
قلنا لا نسلم ذلك أي تساوي نسبة الإرادة إلى الضدين والأوقات حتى يلزم التسلسل بل هي صفة تعلقها بأحدهما ووقوعه في وقت معين لذاتها المخصوصة فلا حاجة إلى صفة أخرى
فإن قيل إذا تعلقت الإرادة لذاتها بأحد جانبي الفعل في وقت معين وعلى وجه مخصوص فيجب ذلك الجانب في ذلك الوقت على ذلك الوجه ويمتنع الجانب الآخر وحينئذ فيلزم الإيجاب وسلب الاختيار
120

قلنا أي لأنا نقول وقد مر مثله وجوب الشيء بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحققه لأنه فرعه
وههنا بحث
وهو أن إرادة أحد الضدين إن كانت مغايرة لإرادة الآخر وكانت كل واحدة منهما لذاتها متعلقة بأحدهما على التعيين
اتجه أن يقال إذا لزم أحد الإرادتين ذات المريد لم يمكن له الإرادة المتعلقة بالجانب الآخر بدلا عن الإرادة الأولى
فلا قدرة بمعنى صحة الفعل والترك
وإذا لم يلزم جاز تجدد الإرادة وحدوثها
وإن لم تكن مغايرة لها بل تتعلق إرادة واحدة تارة بهذا وتارة بذاك
فإذا كان تعلقها بأحدهما لذاتها لم يتصور تعلقها بالآخر ويلزم الإيجاب
وما ذكره من أن الوجوب المترتب الاختيار لا ينافيه
إنما يصحح في القدرة
بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل كما سبق تصويره فتذكر وربما قال الحكماء لا نسلم أن كل علم فهو تبع للوقوع
وإنما ذلك في العلم الانفعالي التابع لوجود المعلوم
وأما العلم الفعلي الذي كلامنا فيه فإنه متبوع وسبب لوقوع المعلوم فيصلح أن يكون مخصصا كما اخترناه في الباري سبحانه وتعالى
والأصحاب في جواب الحكماء يدعون الضرورة في استواء نسبة العلم والقدرة إلى الطرفين فلا يكون شيء منهما مخصصا وإن كان العلم فعليا
البحث الثاني إرادته تعالى قديمة
إذ لو كانت حادثة ولا شك أنها مستندة إلى المختار الذي هو ذاته تعالى لاحتاجت إلى إرادة أخرى مستندة إلى إرادة ثالثة وهكذا ولزم التسلسل في الإرادات الموجودة
وقالت المعتزلة أي الجبائيان وعبد الجبار ومن تابعهم من
121

المعتزلة إنها حادثة قائمة بذاتها لا بذاته تعالى فكأنه مأخوذ من قول الحكماء إنه عند وجود المستعد للفيض يحصل الفيض وتوجيه الأخذ على ما نقل عن المصنف أن قيام الصفة بذاتها يستلزم أن لا تكون صفة وهو ضروري البطلان
فكأنهم أرادوا بالإرادة المعدات المكتشفة بالممكن الذي يحدث في المادة
وذلك لأن المعد يخصص وقوع المقدور على صفة معينة بوقت معين يتم فيه الاستعداد المستفاد منه
ولا معنى للإرادة إلا الأمر المخصص كذلك والمعدات قائمة بذواتها
فالإرادة بهذا المعنى قائمة بذاتها
وفيه بعد لأنه خروج عن قانون الملة إلى القول بوجود المادة القديمة واختصاص الحوادث بأوقاتها على حسب استعداداتها المتعاقبة إلى غير النهاية
والأظهر أن يقال وجه الأخذ أنهم لما سمعوا مقالتهم هذه فهموا أن مخصص الحادث بوقته يجب أن يكون حادثا فيه
إذ لو كان موجودا قبله لزم الترجيح بلا مرجح
ولما اعتقدوا أن مخصص الحوادث إرادته تعالى حكموا بحدوثها
ولما لم يجوزوا قيام الحادث بذاته تعالى التجأوا إلى أنها قائمة بذاتها
وقالت الكرامية إنها حادثة قائمة بذاته تعالى
ويعرف بطلانهما بما ذكرنا من لزوم التسلسل في الإرادات على أن قيام الصفة بذاتها غير معقول وقيام الحادث بذاته تعالى قد مر بطلانه
خاتمة في ضبط مذاهب المتكلمين في كونه تعالى مريدا
قال
122

الإمام الرازي في الأربعين كونه تعالى مريدا إما أن يكون نفس ذاته
وهو قول ضرار وإما أن لا يكون نفس ذاته وحينئذ إما أن يكون أمرا سلبيا
وهو أحد قولي النجار كما مر من كونه غير مغلوب ولا مكره
وإما أمرا ثبوتيا ولا بد له من علة لإمكانه فيكون إما معللا بذاته تعالى وهو القول الآخر له
وإما معللا بغير ذاته
وحينئذ إما أن يعلل بمعنى قديم قائم بذاته تعالى وهو قول أصحابنا
وإما بمعنى حادث إما قائم بذاته تعالى
وهو قول الكرامية أو موجود لا في محل وهو قول الجبائية وعبد الجبار من المعتزلة أو قائم بذات غير ذات الله تعالى
ولم نر أحد ذهب إليه ويبطل الأول أنا نعلمه ونشك في كونه مريدا
ويبطل الثاني لزوم كون الجماد مريدا لأنه غير مغلوب ويبطل الخامس والسادس لزوم التسلسل في الإرادات ويبطل الخامس خاصة أنه لا يقوم الحادث بذاته تعالى والسادس خاصة أنه يلزم عرض لا في محل
وأن نسبة ما لا محل له إلى جميع الذوات سواء فإذا كانت الإرادة قائمة بذاتها فليس كونه تعالى مريدا بها أولى من كون غيره مريدا بها وكون ذاته تعالى لا في محل كتلك الإرادة لا يوجب اختصاصه به
لأن كونه لا في محل أمر سلبي
فلا يكون علة للثبوت
المقصد السادس
المتن في أنه تعالى سميع بصير
السمع دل عليه
وهو مما علم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن والحديث مملوء به لا يمكن إنكاره ولا تأويله
وقد احتج عليه بعض الأصحاب بأنه تعالى حي
وكل حي يصح
123

اتصافه بالسمع والبصر
ومن صح اتصافه بصفة اتصف بها أو بضدها
وضد السمع والبصر هو الصمم والعمى
وأنهما من صفات النقص
فامتنع اتصافه تعالى بهما فوجب بالسمع والبصر
ويتوقف على مقدمات
الأول إنه حي بحياة مثل حياتنا
وأنه ممنوع
إذ حياته مخالفة لحياة غيره
ولهذا لا يصح عليه الجهل والظن والشهوة والنفرة
الثانية إن الصمم والعمى ضدان لهما
وهو ممنوع
بل عدم ملكه لهما واتصافه بعدمهما أوليس
نقصا
وهو أول المسألة
الثالثة إن المحل لا يخلو عن الشيء وضده
وهو دعوى بلا دليل
وقد تقدم ضعفه
الرابعة إنه تعالى منزه عن النقائص
والعمدة في إثباته الإجماع فليعول عليه في هذه المسألة ابتداء ويكفون مؤنة سائر المقدمات
كيف وحجية الإجماع إن أثبتناها بالظواهر فالظواهر الدالة على السمع والبصر أقوى منها
وإن أثبتناها بالعلم الضروري من الدين فذلك العلم ثابت في المسألة سواء بسواء
تنبيه قد تقدم أن طائفة يزعمون أن الإدراك نفس العلم
فهؤلاء زعموا أن السمع والبصر نفس العلم بالمسموع والمبصر عند حدوثهما فيكونان حادثين
احتج بوجهين
الأول إنهما تأثر الحاسة أو مشروطان به
وأنه محال في حقه
والجواب منع ذلك
ولا يلزم من حصولهما مقارنا للتأثر فينا كونهما نفس التأثر أو مشروطين به
وإن سلمنا أنه كذلك في الشاهد فلم قلتم إنه في الغائب كذلك
فإن صفاته تعالى مخالفة بالحقيقة لصفاتنا
فجاز ألا يكون سمعه وبصره نفس التأثر ولا مشروطا به
الثانية إثبات السمع والبصر في الأزل
ولا مسموع ولا مبصر خروج عن المعقول
124

والجواب إن انتفاء التعلق لا يستلزم انتفاء الصفة كما في سمعنا وبصرنا
فإن خلوهما عن الإدراك لا يوجب انتفائهما أصلا
الشرح
المقصد السادس في أنه تعالى سميع بصير
السمع دل عليه وهو مما علم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم فلا حاجة إلى الاستدلال عليه كما هو حق سائر الضروريات الدينية والقرآن
وكذا الحديث مملوء به بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله لأنه معلوم ضروري بلا اشتباه فيه
وقد احتج عليه بعض الأصحاب بأنه تعالى حي
وكل حي يصح اتصافه بالسمع والبصر
ومن صح اتصافه بصفة اتصف بها أو بضدها
وضد السمع والبصر هو الصمم والعمى
وأنهما من صفات النقص فامتنع اتصافه تعالى بهما فوجب اتصافه بالسمع ويتوقف هذا الاحتجاج على مقدمات لا صحة لها
الأول إنه حي بحياة مثل حياتنا المصححة للاتصاف بالسمع والبصر
وأنه ممنوع إذ حياته مخالفة لحياة غيره فلا يجب كونها مصححة لذلك الاتصاف
ولهذا لا يصح عليه بسبب حياته الجهل والظن والشهوة والنفرة مع صحتها علينا بسبب حياتنا
المقدمة الثانية إن الصمم والعمى ضدان لهما
وهو أيضا ممنوع بل هما عدم ملكه لهما فلا يلزم من خلوه عن السمع والبصر اتصافه بهما لجواز انتفاء القابلية رأسا وإما اتصافه بعدمهما مع انتفاء القابلية فإنه أوليس
نقصا عندنا
كيف وهو أول المسألة المتنازع فيها بيننا
المقدمة الثالثة إن المحل لا يخلو عن الشيء وضده
وهو دعوى بلا
125

دليل عليها
وقد تقدم ضعفه بأن الهواء خال عن الألوان والطعوم المتضادة كلها
المقدمة الرابعة إنه تعالى منزه عن النقائص كلها
والعمدة في إثباته الإجماع على أن ساحة عزته مبرأة عن شوائب النقص
وحينئذ فليعول عليه أي على الإجماع في هذه المسألة ابتداء إذ قد أطبقوا على أنه تعالى سميع بصير وإذا اكتفوا بالإجماع يكفون مؤنة سائر المقدمات
كيف وحجية الإجماع الدال على التنزه إن أثبتناها بالظواهر من الآيات والأحاديث التي تدل على حجية الإجماع فالظواهر الدالة على السمع والبصر أقوى منها أي من الظواهر الدالة على حجية الإجماع إذ يتجه على هذه اعتراضات كثيرة يحتاج إلى دفعها
فلا معنى للعدول عما هو أقوى في إثبات المدعي إلى التمسك بشيء يحتاج في إثباته إلى ما هو أضعف لأنه تطويل للمسافة مع التشبث بالأضعف
وإن أثبتناها أي حجية الإجماع بالعلم الضروري من الدين فذلك العلم الضروري ثابت في المسألة التي نحن فيها سواء بسواء فلا حاجة بنا في إثبات السمع والبصر إلى التمسك بالإجماع ثم التمسك في حجيته بالعلم الضروري
فإنه تطويل بلا طائل بل نقول ابتداء هو مما علم من الدين بالضرورة كما ذكرناه
تنبيه قد تقدم في مباحث العلم أن طائفة يزعمون أن الإدراك أعني السمع والبصر وسائر إخوانهما نفس العلم بمتعلقه الذي هو المدرك وقد أبطلناه بأنا إذا علمنا شيئا علما تاما جليا ثم أبصرناه فإنا نجد بالبديهة بين الحالتين فرقا
ونعلم بالضرورة أن الحالة الثانية تشتمل على أمر زائد مع حصول العلم فيهما فذلك الزائد هو الإبصار
وللمصنف في هذا الإبطال
126

مناقشة قد مرت هناك فهؤلاء زعموا أن السمع والبصر نفس العلم بالمسموع والمبصر عند حدوثهما فيكونان حادثين وراجعين إلى العلم لا صفتين زائدتين عليه
وفي المحصل اتفق المسلمون على أنه تعالى سميع بصير لكنهم اختلفوا في معناه فقالت الفلاسفة والكعبي وأبو الحسين البصري ذلك عبارة عن علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات
وقال الجمهور منا ومن المعتزلة والكرامية أنهما صفتان زائدتان على العلم
وقال ناقده أراد فلاسفة الإسلام من وصفه تعالى بالسمع والبصر مستفاد من النقل
وإنما لم يوصف بالذوق والشم واللمس لعدم ورود النقل بها
وإذا نظر في ذلك حيث العقل لم يوجد له وجه سوى ما ذكره هؤلاء
فإن إثبات صفتين شبيهتين بسمع الحيوانات وبصرها مما لا يمكن بالعقل
والأولى أن يقال ألما ورد النقل بهما آمنا بذلك وعرفنا أنهما لا يكونان بالآلتين المعروفتين واعترفنا بعدم الوقوف على حقيقتهما
احتج الباقي على نفيهما عنه تعالى بوجهين
الأول إنهما تأثر الحاسة عن المسموع والمبصر أو مشروطان به كسائر الإحساسات وأنه أي التأثر المذكور محال في حقه تعالى
والجواب منع ذلك إذ المعلوم أنهما لا يحصلان لنا إلا مع التأثر ولا يلزم من حصولهما مقارنا للتأثر فينا كونهما نفس ذلك التأثر أو مشروطين به
وإن سلمنا أنه كذلك في الشاهد فلم قلتم إنه في الغائب كذلك فإن صفاته تعالى مخالفة بالحقيقة لصفاتنا فجاز أن لا يكون سمعه وبصره نفس التأثر ولا مشروطا به
127

الثاني إثبات السمع والبصر في الأزل
ولا مسموع ولا مبصر فيه خروج عن المعقول
والجواب إن انتفاء التعلق في الأزل لا يستلزم انتفاء الصفة فيه كما في سمعنا وبصرنا
فإن خلوهما عن الإدراك بالفعل في وقت لا يوجب انتفائهما أصلا في ذلك الوقت
المقصد السابع في أنه تعالى متكلم
المتن والدليل عليه إجماع الأنبياء عليهم السلام تواتر أنهم كانوا يثبتون له الكلام
فإن قيل صدق الرسول موقوف على تصديق الله إياه وأنه إخباره عن كونه صادقا
وهو كلام خاص له تعالى
فإثبات الكلام به دور
قلنا لا نسلم أن تصديقه له كلام بل هو إظهار المعجزة على وفق دعواه
فإنه يدل على صدقه ثبت الكلام أم لم يثبت
ثم قالت الحنابلة كلامه حرف وصوت يقومان بذاته
وأنه قديم
وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلا الجلد والغلاف قديمان
وهذا باطل
128

بالضرورة
فإن حصول كل حرف مشروط بانقضاء الآخر فيكون له أول فلا يكون قديما
فكذا المجموع المركب منها
وقالت المعتزلة أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي وهو حادث
وهذا لا ننكره لكنا نثبت أمرا وراء ذلك
وهو المعنى القائم بالنفس ونزعم أنه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام بل قد يدل عليه بالإشارة والكتابة كما يدل عليه بالعبارة والطلب واحد لا يتغير وغير المتغير غير المتغير
وأنه غير العلم إذ قد يخبر الرجل عما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه
وغير الإرادة لأنه قد يأمر بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه فإنه قد يأمره وهو يريد ألا يفعل المأمور به
فإذا هو صفة ثالثة قائمة بالنفس ثم نزعم أنه قديم لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى
ولو قالت المعتزلة إنه هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلم بما أخبر به أو إرادته لما أمر به لم يكن بعيدا لكني لم أجده في كلامهم
إذا عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة وهو خلق الأصوات والحروف وكونها حادثة قائمة فنحن نقول به ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك
وما نقوله من كلام النفس فهم ينكرون ثبوته
ولو سلموه لم ينفوا قدمه فصار محل النزاع نفي المعنى وإثباته
فإذا الأدلة الدالة على حدوث الألفاظ إنما تفيدهم بالنسبة إلى الحنابلة
وأما بالنسبة إلينا فيكون نصبا للدليل في غير محل النزاع
وأما ما دل على حدوث القرآن مطلقا فحيث يمكن حمله على حدوث الألفاظ لا يكون لهم فيه حجة علينا ولا يجدي عليهم إلا أن يبرهنوا على عدم المعنى الزائد على العلم والإرادة
لكنا نذكر بعض أدلتهم تكميلا للصناعة
وهو من المعقول والمنقول
129

أما المعقول فوجهان
الأول الأمر والخبر
ولا مأمور ولا سامع سفه
الثاني لو كان قديما لاستوى نسبته إلى المتعلقات كالعلم
والجواب عن الأول أن ذلك في اللفظ
وأما الكلام النفسي فلا سفه فيه كطلب التعلم من ابن سيولد
وعن الثاني إن الشيء القديم الصالح للأمور قد يتعلق ببعض دون بعض كالقدرة القديمة
وأما المنقول فوجوه
الأول القرآن ذكر لقوله تعالى * (وهذا ذكر مبارك) * * (وإنه لذكر لك ولقومك) * مع قوله * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) * * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث) *
الثاني * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * فيكون كن متأخرا عن الإرادة وحاصلا قبيل كون الشيء
وكلاهما يوجب الحدوث
الثالث * (وإذ قال ربك للملائكة) * وإذ ظرف زمان
والمختص بزمان معين محدث
الرابع * (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) * * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) *
الخامس * (حتى يسمع كلام الله) *
130

السادس إنه معجز ويجب مقارنته للدعوى
وإلا فلا اختصاص له به
السابع * (أنه منزل) * و * (تنزيل) *
الثامن يا رب القرآن العظيم ويا رب طه ويس
والمربوب محدث
التاسع إنه تعالى اخبر بلفظ الماضي نحو * (إنا أنزلناه) * * (إنا أرسلنا) *
العاشر النسخ رفع وما ثبت قدمه امتنع عدمه
والجواب أنها تدل على حدوث اللفظ وهو غير المتنازع فيه
تنبيه كلامه واحد عندنا لما مر في القدرة وانقسامه إلى الأمر والنهي والاستفهام والخبر والنداء بحسب التعلق
وقيل خمسة
وقال ابن سعيد وإنما يصير أحدها فيما لا يزال
وأورد عليه أنها أنواعه فلا يوجد دونها
والجواب منع ذلك في أنواع تحصل بحسب التعلق
تفريع على الكلام يمتنع عليه الكذب اتفاقا أما عند المعتزلة فلوجهين
الأول إنه قبيح وهو لا يفعل القبيح
وهو بناء على أصلهم في إثبات حكم العقل
الثاني إنه مناف لمصلحة العالم
والأصلح واجب عليه
والجواب منع وجوب الأصلح
وأما عندنا فلثلاثة أوجه
الأول إنه نقص
والنقص على الله تعالى محال
وأيضا فيلزم أن نكون أكمل منه في بعض الأوقات
واعلم أنه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي
فإن النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه
وإنما تختلف العبارة
131

الثاني إنه لو اتصف بالكذب لكان كذبه قديما إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى فيلزم أن يمتنع عليه الصدق
فإن ما ثبت قدمه امتنع عدمه
واللازم باطل
فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن أن يخبر عنه على ما هو عليه
وهذا إنما يدل على كون الكلام النفسي صدقا
وأما هذه العبارات فلا
الثالث وعليه الاعتماد خبر النبي عليه السلام
وذلك يعلم بالضرورة من الدين
فإن قيل إنما يدل تصديقه على الصدق إذا امتنع عليه الكذب فيلزم الدور
قلنا التصديق بالمعجزة
الشرح
المقصد السابع في أنه تعالى متكلم
والدليل عليه إجماع الأنبياء عليهم السلام فإنه تواتر أنهم كانوا يثبتون له الكلام ويقولون إنه تعالى أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا
وكل ذلك من أقسام الكلام فثبت المدعي
فإن قيل صدق الرسول موقوف على تصديق الله إياه إذ لا طريق إلى معرفته سواه وأنه أي تصديق الله إياه إخباره عن كونه صادقا
وهو أي هذا الأخبار كلام خاص له تعالى فإذا قد توقف صدق الرسول على كلامه تعالى فإثبات الكلام لله سبحانه به أي بصدق الرسول دور
قلنا لا نسلم أن تصديقه له كلام بل هو إظهار المعجزة على وفق دعواه فإنه يدل على صدقه ثبت الكلام بأن تكون المعجزة من جنسه
132

كالقرآن الذي يعلم أولا أنه معجزة خارجة عن قوة البشر ثم يعلم به صدق الدعوى أم لم يثبت كما إذا كانت المعجزة شيئا آخر ثم إن ههنا قياسين متعارضين
أحدهما إن كلام الله تعالى صفة له
وكل ما هو صفة له فهو قديم
فكلامه تعالى قديم
وثانيهما إن كلامه مؤلف من أجزاء مترتبة متعاقبة في الوجود
وكل ما هو كذلك فهو حادث
فكلامه تعالى حادث
فافترق المسلمون إلى فرق أربع ففرقتان منهم ذهبوا إلى صحة القياس الأول
وقدحت واحدة منهما في صغرى القياس الثاني
وقدحت الأخرى في كبراه
وفرقتان أخريان ذهبوا إلى صحة الثاني وقدحوا في إحدى مقدمتي الأول على التفصيل المذكور
وإلى ما ذكرناه أشار المصنف رحمه الله بقوله ثم قال الحنابلة كلامه حرف وصوت يقومان بذاته
وأنه قديم
وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلا الجلد والغلاف قديمان فضلا عن المصحف
فهؤلاء صححوا القياس الأول ومنعوا كبرى القياس الثاني
وهذا باطل بالضرورة
فإن حصول كل حرف من الحروف التي تركب منها كلامه على زعمهم مشروط بانقضاء الآخر منها فيكون له أي للحرف المشروط أول فلا يكون قديما وكذا يكون للحرف الآخر انقضاء فلا يكون هو أيضا قديما بل حادثا فكذا المجموع المركب منها أي من الحروف التي لها أول زمان وجود وآخره أو اجتمعا معا فيها فيكون حادثا لا قديما
والكرامية وافقوا الحنابلة في أن كلامه حروف وأصوات
وسلموا أنها حادثة لكنهم زعموا أنها قائمة بذاته تعالى لتجويزهم قيام الحوادث به فقد قالوا بصحة القياس الثاني وقدحوا في كبرى القياس الأول
وقالت المعتزلة كلامه تعالى أصوات وحروف كما ذهبت إليه الفرقتان المذكورتان
لكنها ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي
وهو حادث كما ذهبت إليه الكرامية خلافا للحنابلة
فهم أيضا صححوا القياس الثاني لكنهم قدحوا في صغرى
133

القياس الأول
وهي أن كلامه تعالى صفة له
وهذا الذي قاله المعتزلة لا ننكره نحن بل نقول به ونسميه كلاما لفظيا ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى لكنا نثبت أمرا وراء ذلك وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ
ونقول هو الكلام حقيقة
وهو قديم قائم بذاته تعالى فنمنع صغرى القياس الثاني ونزعم أنه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام ولا يختلف ذلك المعنى النفسي بل نقول أوليس
تنحصر الدلالة عليه في الألفاظ إذ قد يدل عليه بالإشارة والكتابة كما يدل عليه بالعبارة والطلب الذي هو معنى قائم بالنفس واحد لا يتغير مع تغير العبارات
ولا يختلف باختلاف الدلالات وغير المتغير غير المتغير أي ما أوليس
متغيرا وهو المعنى النفسي مغاير للمتغير الذي هو العبارات ونزعم أنه أي المعنى النفسي الذي هو الخير غير العلم إذ قد يخبر الرجل عما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه
وإن المعنى النفسي الذي هو الأمر غير الإرادة لأنه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا فإن مقصوده مجرد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه
فإنه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه
واعترض عليه بأن الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته إذ لا طلب فيهما أصلا كما لا إرادة قطعا فإذا هو أي المعنى النفسي الذي يعبر عنه بصيغة الخبر والأمر صفة ثالثة مغايرة للعلم والإرادة قائمة بالنفس ثم نزعم أنه قديم بامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى
قال المصنف ولو قالت المعتزلة إنه أي المعنى النفسي الذي يغاير العبارات في الخبر والأمر هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم
203

المتكلم بما أخبر به أو يصير سببا لاعتقاده إرادته أي إرادة المتكلم لما مر به لم يكن بعيدا لأن إرادة الفعل كذلك موجودة في الخبر والأمر ومغايرة لما يدل عليها من الأمور المتغيرة والمختلفة
وليس يتجه عليه أن الرجل قد يخبر بما لا يعلم أو يأمر بما لا يريد
وحينئذ لا يثبت معنى نفسي يدل عليه بالعبارات مغايرة للإرادة كما تدعيه الأشاعرة لكني لم أجده في كلامهم بل الموجود فيه أن مدلول العبارات في الخبر راجع إلى العلم القائم بالمتكلم وفي الأمر راجع إلى إرادة المأمور به وفي النهي إلى كراهة المنهي عنه فلا يثبت كلام نفسي مغاير لباقي الصفات
وقد مر ما فيه
إذا عرفت هذا الذي قررناه لك فاعلم أن ما تقوله المعتزلة في كلام الله تعالى وهو خلق الأصوات والحروف الدالة على المعاني المقصودة وكونها حادثة قائمة بغير ذاته تعالى فنحن نقول به
ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك كما مر آنفا وما نقوله نحن ونثبته من كلام النفس المغاير لسائر الصفات فهم ينكرون ثبوته
ولو سلموه لم ينفوا قدمه الذي ندعيه في كلامه تعالى فصار محل النزاع بيننا وبينهم نفي المعنى النفسي وإثباته فإذن الأدلة الدالة على حدوث الألفاظ
إنما تقيدهم بالنسبة إلى الحنابلة القائلين بقدم الألفاظ وأما بالنسبة إلينا فيكون نصبا للدليل في غير محل النزاع
وأما ما دل على حدوث القرآن مطلقا أي بلا تقييد بالنفسي واللفظي فحيث يمكن حمله على حدوث الألفاظ لا يكون لهم فيه حجة علينا ولا يجدي عليهم أي لا يعطيهم فائدة وجدوى بالقياس إلينا إلا أن يبرهنوا على عدم المعنى الزائد على العلم والإرادة حينئذ تنفعهم
إذ على هذا التقدير ينحصر القرآن في هذه الألفاظ والعبارات
ولا سبيل لهم إلى هذا البرهان
فلا حجة لهم أيضا في تلك الأدلة المطلقة لكنا نذكر بعض أدلتهم التي من هذا القبيل ونجيب عنها تكميلا للصناعة الكلامية وتثبيتا لطلاب الحق في مزالق الأقدام وهو من المعقول والمنقول
135

أما المعقول فوجهان
الأول الأمر والخبر في الأزل ولا مأمور ولا سامع فيه سفه فكيف يتصور ثبوته لله سبحانه وتعالى
الثاني لو كان كلامه تعالى قديما لاستوى نسبته إلى جميع المتعلقات لأنه حينئذ يكون كالعلم في أن تعلقه بمتعلقاته يكون لذاته
فكما أن علمه يتعلق بجميع ما يصح تعلقه به كذلك كلامه يتعلق بكل ما يصح تعلقه به
ولما كان الحسن والقبح بالشرع صح في كل فعل أن يؤمر به وأن ينهى عنه
فيلزم تعلق أمره ونهيه بالأفعال كلها فيكون كل فعل مأمورا به ومنهيا عنه معا
هذا خلف
وقد وقع في بعض النسخ كالعلم والقدرة
وهو سهو من القلم كما صرح به فيما بعد لا يجب تعلقها بكل ما يصح أن يتعلق به بخلاف العلم
والجواب عن الأول أن ذلك السفه الذي ادعيتموه إنما هو في اللفظ
وأما الكلام النفسي فلا سفه فيه كطلب التعلم من ابن سيولد
ويرد عليه أن ما يجده أحدنا في باطنه هو العزم على الطلب وتخيله
وهو ممكن
وليس بسفه
وأما نفس الطلب فلا شك في كونه سفها بل قيل هو غير ممكن لأن وجود الطلب بدون من يطلب منه شيء محال
والجواب عن الثاني أن الشيء القديم الصالح للأمور المتعددة قد يتعلق ببعض من تلك الأمور دون بعض كالقدرة القديمة فإنها تتعلق ببعض المقدورات وهو ما تعلقت الإرادة به منها دون بعض
فإن قيل مخصص القدرة هو الإرادة فلا بد في الكلام أيضا مخصص
ويعود الكلام إليه ويلزم التسلسل
136

قلنا تعلق الكلام ببعض دون آخر كتعلق الإرادة لذاتها ببعض ما يصح تعلقها به دون بعض فلا تسلسل على ما مر
وأما المنقول فوجوه
الأول القرآن ذكر لقوله تعالى * (وهذا ذكر مبارك) * وقوله * (وإنه لذكر لك ولقومك) * مع قوله تعالى * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) * وقوله تعالى * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث) * فإنهما يدلان على أن الذكر محدث فيكون القرآن محدثا
الثاني قوله تعالى * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * إذ معناه إذا أردنا شيئا قلنا له كن فيكون
قوله كن وهو قسم من كلامه متأخرا عن الإرادة الواقعة في الاستقبال لكونه جزاء له ويكون حاصلا قبيل كون الشيء أي وجوده بقرينة الفاء الدالة على الترتيب بلا مهالة
وكلاهما يوجب الحدوث
أما التأخر عن الإرادة الحادثة في المستقبل فلأن التأخر عن الشيء يوجب الحدوث خصوصا إذا كان ذلك الشيء حادثا واقعا في الاستقبال
وأما التقدم على الكائن الحادث بمدة يسيرة فظاهر أيضا دلالته على الحدوث
الثالث قوله تعالى * (وإذ قال ربك للملائكة) * وإذ ظرف زمان ماض فيكون قوله واقع في هذا الظرف مختصا بزمان معين والمختص بزمان معين محدث)
الرابع * (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) * فإنه يدل على أن القرآن مركب من الآيات التي هي أجزاء متعاقبة فيكون حادثا
وكذا قوله تعالى * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) *
137

يدل على أن كلام الله تعالى قد يكون عربيا تارة وعبريا أخرى فيكون متغيرا وذلك دليل حدوثه
الخامس * (حتى يسمع كلام الله) * فإنه يدل على أن كلامه مسموع فيكون حادثا لأن المسموع لا يكون إلا حرفا وصوتا
السادس إنه أي القرآن معجز إجماعا ويجب مقارنته أي مقارنة المعجز للدعوى حتى يكون تصديقا للمدعي في دعواه فيكون حادث مع حدوثها
وإلا أي وإن لم يكن مقارنا لها حادثا معها بل يكون قديما سابقا عليها فلا اختصاص له به أي بذلك المدعي وتصديقه
السابع إنه أعني القرآن موصوف بأنه منزل وتنزيل
وذلك يوجب حدوثه لاستحالة الانتقال بالإنزال والتنزيل على صفاته القديمة القائمة بذاته تعالى
الثامن قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه (يا رب القرآن العظيم ويا رب طه ويس)
فالقرآن مربوب كلا وبعضا
والمربوب محدث اتفاقا
التاسع إنه تعالى أخبر بلفظ الماضي نحو * (إنا أنزلناه) * * (إنا أرسلنا) * ولا شك أنه لا إنزال ولا إرسال في الأزل
فلو كان كلامه قديما لكان كذبا لأنه إخبار بالوقوع في الماضي
ولا يتصور ما هو ماض بالقياس إلى الأزل
العاشر النسخ حق بإجماع الأمة
ووقع في القرآن وهو رفع أو
138

انتهاء ولا شيء منهما يتصور في القديم لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه
والإمام الرازي جعل هذين الوجهين في الأربعين من الأدلة المعقولة والحق ما اختاره المصنف
والجواب عن الوجوه العشرة أنها تدل على حدوث اللفظ كما لا يخفى على المتأمل
وهو غير المتنازع فيه كما تحققته
تنبيه كلامه تعالى واحد عندنا لما مر في القدرة من أنها لو تعددت لاستندت إلى الذات إما بالاختيار أو بالإيجاب
وهما باطلان
أما الأول فلأن القديم لا يستند إلى المختار
وأما الثاني فلأن نسبة الموجب إلى جميع الأعداد سواء فيلزم وجود قدر لا تتناهى وإما انقسامه إلى الأمر والنهي والاستفهام والخبر والنداء فإنما هو بحسب التعلق فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا باعتبار تعلقه بشيء آخر أو على وجه آخر يكون أمرا
وكذا الحال في البواقي
وقيل كلامه خمسة هي الأقسام المذكورة
وقال ابن سعيد من الأشاعرة هو في الأزل واحد وليس متصفا بشيء من تلك الخمسة وإنما يصير أحدها فيما لا يزال
وأورد عليه أنها أنواعه فلا يوجد دونها إذ الجنس لا يوجد إلا في ضمن شيء من أنواعه
والجواب منع ذلك في أنواع تحصل بحسب التعلق يعني أنها ليست أنواعا حقيقية له حتى يلزم ما ذكرتم بل هي أنواع اعتبارية تحصل له بحسب تعلقه بالأشياء فجاز أن يوجد جنسها بدونها ومعها أيضا
فليس كلام ابن سعيد ببعيد جدا كما توهموه
تفريع على ثبوت الكلام لله تعالى وهو أنه يمتنع عليه الكذب اتفاقا
أما عند المعتزلة فلوجهين
139

الأول أنه أي الكذب في الكلام الذي هو عندهم من قبيل الأفعال دون الصفات قبيح
وهو سبحانه لا يفعل القبيح وهو بناء على أصلهم في إثبات حكم العقل بحسن الأفعال وقبحها مقيسة إلى الله تعالى
وستعرف بطلانه
الثاني أنه مناف لمصلحة العالم لأنه إذا جاز وقوع الكذب في كلامه ارتفع الوثوق عن إخباره بالثواب والعقاب وسائر ما أخبر به من أحوال الآخرة والأولى
وفي ذلك فوات مصالح لا تحصى والأصلح واجب عليه تعالى عندهم فلا يجوز إخلاله به
والجواب منع وجوب الأصلح إذ لا يجب عليه شيء أصلا بل هو متعال عن ذلك قطعا
وأما امتناع الكذب عليه عندنا فلثلاثة أوجه
الأول إنه نقص
والنقص على الله تعالى محال إجماعا
وأيضا فيلزم على تقدير أن يقع الكذب في كلامه أن نكون نحن أكمل منه في بعض الأوقات أعني وقت صدقنا في كلامنا
وهذا الوجه إنما يدل على أن الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته يكون صادقا
وإلا لزم النقصان في صفته تعالى مع كمال صفتنا
ولا يدل على صدقه في الحروف والكلمات التي يخلقها في جسم دالة على معان مقصودة
ولما كان لقائل أن يقول خلق الكاذب أيضا نقص في فعله فيعود المحذور بعينه أشار إلى دفعه بقوله واعلم أنه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه فإن النقص في الإفعال هو القبح العقلي بعينه فيها وإنما تختلف العبارة دون المعنى
فأصحابنا المنكرون للقبح العقلي كيف يتمسكون في دفع الكذب عن الكلام اللفظي بلزوم النقص في أفعاله تعالى
الثاني أنه لو اتصف بالكذب لكان كذبه قديما إذ لا يقوم
140

الحادث بذاته تعالى فيلزم أن يمتنع عليه الصدق المقابل لذلك الكذب
وإلا جاز زوال ذلك الكذب
وهو محال فإن ما ثبت قدمه امتنع عدمه واللازم وهو امتناع الصدق عليه
واللازم باطل
فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه على ما هو عليه
وهذا الوجه الثاني أيضا إنما يدل على كون الكلام النفسي صدقا لأنه القديم
وأما هذه العبارات الدالة على الكلام النفسي فلا دلالة على صدقها لأنها حادثة فيجوز زوالها بحدوث الصدق الذي يقابلها مع أن الأهم عندنا هو بيان صدقها
الثالث وعليه الاعتماد لصحته ودلالته على الصدق في الكلام النفسي واللفظي معا خبر النبي صلى الله عليه وسلم بكونه صادقا في كلامه كله وذلك أي خبره صلى الله عليه وسلم بصدقه مما يعلم بالضرورة من الدين فلا حاجة إلى بيان إسناده وصحته
ولا إلى تعيين ذلك الخبر
بل نقول تواتر عن الأنبياء عليهم السلام كونه تعالى صادقا كما تواتر عنهم كونه تعالى متكلما
فإن قيل صدق النبي إنما يعلم بتصديقه تعالى إياه
وإنما يدل تصديقه إياه على الصدق أي صدق النبي إذا امتنع عليه تعالى الكذب ووجب أن يكون كلامه صدقا
فصدق النبي إنما يعرف بصدق الله تعالى فيلزم الدور إذا ثبت صدقه تعالى بصدق النبي كما فعلتم
قلنا التصديق بالمعجزة كما مر فهو تصديق فعلي لا قولي
ودلالتها على التصديق دلالة عادية لا يتطرق إليها شبهة كما ستقف عليه
واعلم أن للمصنف مقالة مفردة في تحقيق كلام الله تعالى على وفق ما أشار إليه في خطبة الكتاب ومحصولها أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير
فالشيخ الأشعري لما قال الكلام هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده
141

وهو القديم عنده
وأما العبارات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالتها على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة
وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله تعالى الحقيقي
وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية
فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني
فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة
وما يقال من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة
فجوابه أن ذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة فالتلفظ حادث
والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة
وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخرو أصحابنا إلا أنه بعد التأمل تعرف حقيقته ثم كلامه
وهذا المحمل لكلام الشيخ مما اختاره الشيخ محمد الشهرستاني في كتابه المسمى بنهاية الإقدام
ولا شبهة في أنه أقرب إلى الأحكام الظاهرية المنسوبة إلى قواعد الملة
142

المقصد الثامن في صفات اختلف فيها
وفيه مقدمة ومسائل
المتن فالمقدمة هل لله تعالى صفة غير ما ذكرناه فمنعه بعض أصحابنا مقتصرا على أنه لا دليل عليه فيجب نفيه
ولا يخفى ضعفه
ومنهم من قال نحن مكلفون بكمال المعرفة
فلو كان له صفة غيرها لعرفناها
والجواب منع التكليف بكمال معرفته إذ هو بقدر وسعنا أو يعرفه بعض دون بعض
ولا يمتنع كثرة الهالكين
وأثبت بعض صفات أخر
الأولى البقاء
أثبته الشيخ صفة زائدة على الوجود إذ الوجود متحقق دونه كما في أول الحدوث
وأجيب عنه بأنه منقوض بالحدوث
فإنه غير الوجود لتحقق الوجود بعد الحدوث
فلو دل ذلك على كونه زائدا لكان الحدوث زائدا ولزم التسلسل ونفاه القاضي أبو بكر والإمامان
إمام الحرمين والإمام الرازي
وقالوا البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني لوجهين
الأول لو كان زائدا لكان له بقاء ويتسلسل
والجواب إن بقاء البقاء نفس البقاء
والثاني لو احتاج إلى الذات لزم الدور
وإلا لكان الذات محتاجا إليه وكان هو مستغنيا عن الذات فكان هو الواجب دون الذات
والجواب منع احتياج الذات إليه وإن اتفق تحققهما معا
تنبيه إثبات البقاء قد يفسر بأن الوجود في الزمان الثاني أمر زائد على الذات وبأنه معنى يعلل به الوجود في الزمان الثاني
وأول الوجهين ينفي الأول والثاني الثاني
الثانية القدم
وأحاله الجمهور متفقين على أنه قديم بنفسه لا بقدم زائد وأثبته ابن سعيد
ودليله ما مر في البقاء بإبطاله
ويخصه أنه إن أراد به أنه لا أول له فسلبي
أو أنه صفة لأجلها لا يختص بحير كما فسره الشيخ
143

أبو إسحاق الإسفرايني فكذلك أو غيرهما فالتصوير ثم التقرير هذا منضم إلى ما سبق من أنه اعتباري
الثالثة الاستواء
لما وصف تعالى بالاستواء في قوله * (الرحمن على العرش استوى) * اختلف الأصحاب فيه فقال الأكثرون هو الاستيلاء ويعود إلى القدرة
قال الشاعر
(قد استوى عمرو على العراق
* من غير سيف ودم مهراق) أي استوى
وقال الآخر
(فلما علونا واستوينا عليهم
* تركناهم صرعى لنسر وطائر) أي استولينا
لا يقال الاستواء يشعر بالاضطراب والمقاومة والمغالبة
وأيضا لا فائدة لتخصيص العرش لأنا نجيب عن الأول بمنع الإشعار وعن الثاني بأن الفائدة الإشعار بالأعلى على الأدنى
إذ مقرر في الأوهام أن العرش أعظم الخلق
وقيل هو القصد نحو * (ثم استوى إلى السماء) *
وهو بعيد
إذ ذلك يعدى ب إلى دون على
وذهب الشيخ
في أحد قوليه
إلى أنه صفة زائدة ولم يقم دليلا عليه
ولا يجوز التعويل على الظواهر مع قيام الاحتمال
الرابعة الوجه
قال تعالى * (ويبقى وجه ربك) * " كل شيء هالك إلا وجهه "
144

أثبته الشيخ
في أحد قوليه
وأبو إسحاق الإسفرايني
والسلف صفة زائدة
وقال في قول آخر ووافقه القاضي إنه الوجود وهو كما قبله في عدم القاطع
تنبيه الوجه وضع للجارجة ولم يوضع لصفة أخرى بل لا يجوز وضعه لما لا يعقله المخاطب فتعين المجاز والتجوز به عما يعقل وثبت بالدليل متعين
الخامسة اليد
قال تعالى * (يد الله فوق أيديهم) * * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) * فأثبت الشيخ صفتين ثبوتيتين زائدتين وعليه السلف وإليه ميل القاضي في بعض كتبه
وقال الأكثر إنها مجاز عن القدرة فإنه شائع وخلقته بيدي أي بقدرة كاملة
وتخصيص خلق آدم بذلك تشريف
كما أضاف الكعبة إلى نفسه
وخصص المؤمنين بالعبودية
وقالت المعتزلة بل عن القادرية بناء على أصلهم وبعضم عن النعمة
وقيل صفة زائدة
وتحقيقه كما في الأول
السادسة العينان
قال تعالى * (تجري بأعيننا) * * (ولتصنع على عيني) *
وقال الشيخ تارة إنه صفة زائدة
وتارة إنه البصر
والكلام فيه ما مر آنفا
السابعة الجنب قال تعالى " يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله "
وقيل صفة زائدة
145

وقيل المراد في أمر الله
كما قال الشاعر
(أما تتقين الله في جنب عاشق
* له كبد حرى وعين ترقرق) أو أراد الجناب
يقال لاذ بجنبه أي بجنابه
الثامنة القدم
قال صلى الله عليه وسلم (فيضع الجبار قدمه في النار)
التاسعة الإصبع
قال صلى الله عليه وسلم (إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن)
العاشرة اليمين
قال تعالى * (والسماوات مطويات بيمينه) *
الحادية عشرة التكوين أثبته الحنفية
قالوا وإنه غير القدرة لأن القدرة أثرها الصحة والصحة لا تستلزم الكون
الجواب إن الصحة هي الإمكان وأنه للمكن ذاتي فلا يصلح أثرا للقدرة بل به تعلل المقدورية فيقال هذا مقدور لأنه للممكن
وذلك غير مقدور لأنه واجب أو ممتنع
فإذا أثر القدرة هو الكون فاستغنى عن صفة ذلك
فإن قيل المراد صحة الفعل لا صحة المفعول في نفسه
فإن القدرة هي الصفة التي باعتبارها يصح من الفاعل طرفا الفعل والترك فلا يحصل بها أحدهما بعينه
قلنا كل منهما يصلح أثر لها
وإنما يحتاج صدور أحدهما إلى مخصص وهو الإرادة
ولا حاجة إلى مبدأ للكون غير القدرة
الشرح
المقصد الثامن في صفات اختلف فيها
وفيه مقدمة ومسائل إحدى
146

عشرة
فالمقدمة هي أنه هل لله تعالى صفة وجودية زائدة على ذاته غير ما ذكرناه من الصفات السبع التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام فمنعه بعض أصحابنا مقتصرا في نفيها على أنه لا دليل عليه أي على ثبوت صفة أخرى فيجب نفيه
ولا يخفى ضعفه لما مر من أن عدم الدليل عندك لا يفيد
وعدمه في نفس الأمر ممنوع
وإن سلم لم يفد أيضا لأن انتفاء الملزوم لا يستلزم انتفاء لازمه ومنهم من زاد على ذلك فاستدل على نفيها بأن قال نحن مكلفون بكمال المعرفة وإنما يحصل بمعرفة جميع صفاته
فلو كان له صفة غيرها لعرفناها لكنا لا نعرفها
بل لا طريق لنا إلى معرفة الصفات سوى الاستدلال بالأفعال والتنزيه عن النقائص
ولا يدل شيء منهما على صفة زائدة على ما ذكر
والجواب منع التكليف بكمال معرفته
إذ هو أي التكليف بقدر وسعنا فنحن مكلفون بأن نعرف من صفاته ما يتوقف تصديق النبي صلى الله عليه وسلم على العلم به لا بمعرفة صفات أخرى أو بأن نقول سلمنا تكليفنا بكمال معرفته
لكن لا يلزم من التكليف به حصوله من جميع المكلفين بل ربما يعرفه معرفة كاملة بعض منهم كالأنبياء والكاملين من أتباعهم دون بعض وهو من عداهم
وهؤلاء وإن كانوا هم الأكثرين ولكن لا يمتنع كثرة الهالكين بسبب ترك ما كلفوا به من كمال معرفته وأثبت بعض من المتكلمين صفات أخر بيانها تلك المسائل الإحدى عشرة
الأولى البقاء اتفقوا على أنه تعالى باق لكن اختلفوا في كونه صفة ثبوتية زائدة كما أشار إليه بقوله أثبته الشيخ أبو الحسن وأتباعه وجمهور معتزلة بغداد صفة وجودية زائدة على الوجود إذ الوجود متحقق دونه أي دون البقاء كما في أول الحدوث بل يتجدد بعده صفة هي البقاء
147

وأجيب عنه بأنه منقوض بالحدوث
فإنه غير الوجود لتحقق الوجود بعد الحدوث يعني أن البقاء حصل بعد ما لم يكن والحدوث زال بعد أن كان لأنه الخروج من العدم إلى الوجود عند الشيخ لا مسبوقية الوجود به فلو دل ذلك الذي ذكرتموه في البقاء على كونه وجوديا زائدا لكان الحدوث أيضا وجوديا زائد لما ذكرناه لأن العدم بعد الحصول كالحصول بعد العدم في الدلالة على الوجود في الجملة إذ حاصلهما الانتقال الواقع بين العدم وما يقابله
أعني الوجود ولزم التسلسل في الحدوثات الوجودية ضرورة أن الحدوث لا بد أن يكون حادثا
مع أن الشيخ معترف بأن الحدوث أوليس
أمرا زائدا وحله بعد نقضه أن تجدد الاتصاف بصفة لا تقتضي كونها وجودية كتجدد معية الباري تعالى مع الحادث وكذا زواله أيضا لا يقتضيه
وذلك كله لجواز اتصافه بالعدميات وزوال ذلك الاتصاف ونفاه أي نفى كون البقاء صفة موجودة زائدة القاضي أبو بكر والإمامان إمام الحرمين والإمام الرازي وجمهور معتزلة البصرة وقالوا البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني لا أمر زائد عليه لوجهين
الأول لو كان البقاء زائدا لكان له بقاء إذ لو لم يكن البقاء باقيا لم يكن الوجود باقيا لأن كونه باقيا إنما هو بواسطة البقاء المفروض زواله وحينئذ تتسلسل البقاءات المترتبة الموجودة معا
والجواب إن بقاء البقاء نفس البقاء كما قيل في وجود الوجود ووجوب الوجوب وإمكان الإمكان فلا تسلسل أصلا
ويرد على هذا الجواب أن ما تكرر نوعه اعتباريا كما مر
الثاني لو احتاج البقاء على تقدير كونه وجوديا إلى الذات لزم الدور لأن الذات محتاج إلى البقاء أيضا
فإن وجوده في الزمان الثاني معلل به
وإلا أي وإن لم يحتج البقاء إلى الذات لكان الذات محتاجا إليه
148

وكان مستغنيا عن الذات مع استغنائه عن غيره أيضا فكان البقاء هو الواجب الوجود لأنه الغني المطلق دون الذات
والجواب منع احتياج الذات إليه وما قيل من أن وجوده في الزمن الثاني معلل به ممنوع
غاية ما في الباب أن وجوده فيه لا يكون إلا مع البقاء
وذلك لا يوجب أن يكون البقاء علة لوجوده فيه إذ يجوز أن يكون تحققهما على سبيل الاتفاق
وإليه الإشارة بقوله وإن اتفق تحققهما معا
تنبيه إثبات البقاء قد يفسر بأن الوجود في الزمان الثاني أمر زائد على الذات يريد أن المثبتين للبقاء يفسرونه تارة باستمرار الوجود ويدعون أن الوجود في الزمان الثاني زائد على الذات وأخرى بأنه معنى يعلل به الوجود في الزمان الثاني
وأول الوجهين للنافين ينفي المعنى الأول من معنى البقاء لأن الاستمرار إذا لم يكن باقيا لم يكن الوجود مستمرا
ولا ينفي الثاني لأن البقاء إذا كان أمرا يعلل به الوجود في الزمان الثاني لا يلزم أن يكون له بقاء آخر والوجه الثاني ينفي المعنى الثاني دون الأول إذ لا يلزم من استمرار الوجود وكونه زائدا على الذات احتياج الذات في وجوده إلى البقاء الذي هو الاستمرار
فلا يلزم الدور
الصفة الثانية القدم
وأحاله الجمهور متفقين على أنه قديم بنفسه لا بقدم وجودي زائد على ذاته وأثبته ابن سعيد من الأشاعرة ودليله على كونه صفة موجودة زائدة ما مر في البقاء وتصويره ههنا أن يقال القديم قد يطلق على المتقدم بالوجود إذا تطاول عليه الأمد
ومنه قوله تعالى * (كالعرجون القديم) *
والجسم لا يوصف بهذا القدم في أول زمان حدوثه بل بعده فقد
149

تجدد له القدم بعد ما لم يكن فيكون موجودا زائدا على الذات
فكذا القدم الذي هو التقدم بلا نهاية لا بمجرد مدة متطاولة بإبطاله أي ما مر مع إبطاله
فلا حاجة إلى إعادة شيء منهما وحمل ما مر على الوجهين السابقين مما لا وجه لصحته والذي يخصصه أي يختص بإبطاله أنه إن أراد به أي بالقدم أنه لا أول له فسلبي فلا يتصور كونه وجوديا أو أنه صفة لأجلها لا يختص الباري سبحانه وتعالى بحيز كما فسره أي كما فسر كلام ابن سعيد بذلك الشيخ أبو إسحاق الإسفرايني فإنه قال معنى كلامه أنه تعالى مختص بمعنى لأجله ثبت وجوده لا في حيز كما أن المتحيز يختص بمعنى لأجله كان متحيزا
ولا يخفى عليك أن هذا التفسير بعيد جدا عن دلالة زيادة القدم عليه فكذلك يكون القدم أمرا سلبيا إذ مرجعه حينئذ إلى وجوده لا في حيز
فإن قلت هذا السلبي معلل بالقدم لا نفسه
قلت إن الصفات السلبية لا تعلل بخلاف الثبوتية أو غيرهما من المعاني فالتصوير أي فعليه تصوير ذلك المعنى المراد أولا ثم التقرير والتحقيق بإقامة الدليل عليه ثانيا
هذا الذي أوردناه ههنا في إبطاله منضم إلى ما سبق في مباحث الأمور العامة من أنه أي القدم أمر اعتباري لا وجود له في الخارج
فإنه يدل على بطلان مذهبه ودليله أيضا
الصفة الثالثة الاستواء
لما وصف تعالى بالاستواء في قوله تعالى * (الرحمن على العرش استوى) * اختلف الأصحاب فيه
فقال الأكثرون هو الاستيلاء
ويعود الاستواء حينئذ إلى صفة القدرة
قال الشاعر
(قد استوى عمرو على العراق
* من غير سيف ودم مهراق) أي استوى
وقال الآخر
150

(فلما علونا واستوينا عليهم
* تركناهم صرعى لنسر وطائر) أي استولينا
لا يقال الاستواء بمعنى الاستيلاء يشعر بالاضطراب والمقاومة والمغالبة أي يشعر بسبق هذه الأمور التي تستحيل في حقه تعالى
وأيضا لا فائدة لتخصيص العرش لأن استيلاءه يعم الكل لأنا نجيب عن الأول بمنع الإشعار ألا ترى أن الغالب لا يشعر به كما في قوله تعالى * (والله غالب على أمره) *
نعم ربما يفهم سبق تلك الأمور من خصوصية من أسند إليه الاستيلاء في أمر مخصوص
وعن الثاني بأن الفائدة هي الإشعار بالأعلى على الأدنى
إذ مقرر في الأوهام أن العرش أعظم الخلق
فإن استولى عليه كان مستوليا على غيره قطعا
وهذا عكس ما هو المشهور من التنبيه بالأدنى على الأعلى
وكلاهما صواب
فإنه كما يفهم من حكم الأدنى حكم الأعلى إذا كان به أولى كذلك يفهم عكسه إذا كان الأدنى بالحكم أولى
وقيل هو أي الاستواء ههنا القصد فيعود إلى صفة الإرادة نحو قوله تعالى * (ثم استوى إلى السماء) *
أي قصد إليها وهو بعيد
إذ ذلك تعدى ب إلى كالقصد دون على كاستيلاء
وذهب الشيخ في أحد قوليه إلى أنه أي الاستواء صفة زائدة ليست عائدة إلى الصفات السابقة وإن لم نعلمها بعينها ولم يقم دليل عليه
ولا يجوز التعويل في إثباته على الظواهر من الآيات والأحاديث مع قيام الاحتمال المذكور
وهو أن يراد به الاستيلاء أو القصد على ضعف
فالحق التوقف مع القطع بأنه أوليس
كاستواء الأجسام
الصفة الرابعة الوجه
قال تعالى * (ويبقى وجه ربك) *
" كل
151

شيء هالك إلا وجهه) أثبته الشيخ في أحد قوليه وأبو إسحاق الإسفرايني والسلف صفة ثبوتية زائدة على ما مر من الصفات
وقال في قول آخر ووافقه القاضي إنه الوجود وهو كما قبله أعني الاستواء في عدم القاطع وعدم جواز التعويل على الظواهر مع قيام الاحتمال
تنبيه الوجه وضع في اللغة للجارحة المخصوصة حقيقة
ولا يجوز إرادتها في حقه تعالى ولم يوضع لصفة أخرى مجهولة لنا بل لا يجوز وضعه لما لا يعقله المخاطب إذ المقصود من الأوضاع تفهيم المعاني فتعين المجاز والتجور به عما يعقل وثبت بالدليل متعين وهو أن يتجوز به عن الذات وجميع الصفات
فإن الباقي هو ذاته تعالى مع مجموع صفاته وما سواه هالك غير باق
الصفة الخامسة اليد قال الله تعالى * (يد الله فوق أيديهم) * * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) * فأثبت الشيخ صفتين ثبوتيتين زائدتين على الذات وسائر الصفات
لكن لا بمعنى الجارحتين وعليه السلف
وإليه ميل القاضي في بعض كتبه
وقال الأكثر إنهما مجاز عن القدرة فإنه شائع وخلقته بيدي أي بقدرة كاملة ولم يرد بقدرتين وتخصيص خلق آدم بذلك مع أن الكل مخلوق بقدرته تعالى تشريف وتكريم له كما أضاف الكعبة إلى نفسه في قوله * (أن طهرا بيتي) * للتشريف مع أنه مالك للمخلوقات كلها
وكما خصص المؤمنين بالعبودية لذلك في قوله * (إن عبادي أوليس
لك عليهم سلطان) *
وقالت المعتزلة بأن اليد مجاز عن القادرية بناء على أصلهم الذي
152

هو نفي الصفات وإثبات الأحوال
وقال بعضهم مجاز عن النعمة وهو في غاية الضعف إذ لا يلائم نسبة الخلق إلى اليد
وقيل صفة زائدة وهذا تكرار لما تقدم من مذهب الشيخ والسلف
وقد يوجد في بعض النسخ يد له
وقيل صلة
أي لفظة بيدي زائدة كما في قوله
(دعوت لما نابني مسورا
* فلبا فلبى يدي مسور) وهو في غاية الركاكة
وتحقيقه كما في الأول أي كالتحقيق الذي ذكرناه في الوجه من أنه موضوع للجارحة
وقد تعذرت فيجب الحمل على التجوز عن معنى معقول هو القدرة
الصفة السادسة العينان
قال تعالى * (تجري بأعيننا) * * (ولتصنع على عيني) * وقال الشيخ تارة إنه صفة زائدة على سائر الصفات وتارة إنه البصر والكلام فيه ما مر آنفا فإن إثبات الجارحة ممتنع
والحمل على التجوز عن صفة لا نعرفها يوجب الإجمال فوجب أن يجعل مجازا عن البصر أو عن الحفظ والكلاءة وصيغة الجمع للتعظيم
الصفة السابعة الجنب
قال تعالى " أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله "
وقيل صفة زائدة
وقيل المراد في أمر الله
كما قال الشاعر
153

(أما تتقين الله في جنب عاشق
* له كبد حرى وعين ترقرق) أي تلمع وتتحرك
ورقراق الشراب ما تلألأ منه
أي جاء وذهب
وكذلك الدمع إذا دار في الحملاق أو أراد الجانب
يقال لاذ بجنبه أي بجنابه وحرمه
الصفة الثامنة القدم
قال صلى الله عليه وسلم في أثناء حديث مطول (فيضع الجبار قدمه في النار) فتقول قط قط
أي حسبي حسبي
وفي رواية أخرى (حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك)
وفي أخرى (يقال لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد حتى يضع الرب قدمه عليها فتقول قط قط)
وتأويل الجبار بمالك خازن النار أو بمن يرفع نفسه عن امتثال التكاليف مما لا يلتفت إليه كيف وقد ورد في رواية أنس في أثناء حديث (وأما النار فلا تمتلى حتى يضع الله رجله فيها)
الصفة التاسعة الإصبع
قال صلى الله عليه وسلم (إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن)
وفي رواية (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء)
ولا يمكن إثبات الجارحة
وأما وجه التأويل فكما في اليدين
154

الصفة العاشرة اليمين
قال تعالى * (والسماوات مطويات بيمينه) *
وتأويلها بالقدرة التامة ظاهرة
الصفة الحادية عشرة التكوين
أثبته الحنفية صفة زائدة على السبع المشهورة أخذا من قوله تعالى * (كن فيكون) * فقد جعل قوله كن متقدما على كون الحادثات
أعني وجودها
والمراد به التكوين والإيجاد والتخليق
قالوا وإنه غير القدرة لأن القدرة أثرها الصحة
والصحة لا تستلزم الكون فلا يكون الكون أثرا للقدرة
وأثر التكوين هو الكون
الجواب إن الصحة هي الإمكان
وإنه للممكن ذاتي فلا يصلح أثرا للقدرة لأن ما بالذات لا يعلل بالغير بل به أي بإمكان الشيء في نفسه تعلل المقدورية فيقال هذا مقدور لأنه ممكن
وذلك غير مقدور لأنه واجب أو ممتنع
فإذن أثر القدرة هو الكون أي كون المقدور وجوده لا صحته وإمكانه
فاستغنى عن إثبات صفة أخرى كذلك أي يكون أثرها الكون
فإن قيل المراد بالصحة التي جعلناها أثرا للقدرة هو صحة الفعل بمعنى التأثير والإيجاد من الفاعل لا صحة المفعول في نفسه وهذه الصحة هي إمكانه الذاتي الذي لا يمكن تعليله بغيره
وأما الصحة الأولى فهي بالقياس إلى الفاعل ومعللة بالقدرة فإن القدرة هي الصفة التي باعتبارها يصح من الفاعل طرفا الفعل والترك على سواء من الشيء المقدور له فلا يحصل بها منه أحدهما بعينه بل لا بد في حصوله من صفة أخرى متعلقة به
أي بذلك الطرف وحده
فتلك الصفة هي التكوين
قلنا كل منهما أي من ذينك الطرفين يصلح أثرا لها أي للقدرة
155

وإنما يحتاج صدور أحدهما بعينه عنها إلى مخصص بعينه وهو الإرادة المتعلقة بذلك الطرف وحينئذ لا حاجة إلى مبدأ للكون غير القدرة المؤثرة فيه بواسطة الإرادة المتعلقة به
وقد ورد في حديث ليلة المعراج (وضع كفه بين كتفي فوجدت بردها في كبدي)
ولا يجوز إثبات الجارحة كما ذهبت إليه المشبهة
فقيل هو موصوف بكف لا كالكفوف
وقيل مؤول بالتدبير
يقال فلان في كف فلان
أي في تدبيره
فالمقصود من الحديث بيان ألطافه في تدبيره له وبيان أنه وجد روح ألطافه
لأن البرد يطلق على كل روح وراحة وطمأنينة
وقد ورد في الأحاديث أنه تعالى ضحك حتى بدت نواجذه
ويمتنع حمله على حقيقته
فقيل هو ضحك لا كضحكنا
وقيل مؤول بظهور تباشير الخير والنجح في كل أمر
ومنه ضحكت الرياض إذا بدت أزهارها
فمعنى ضحك ظهر تباشير الصبح
والنجح منه
وبدو النواجذ عبارة عن ظهور كنه ما كان متوقعا منه
ومن كان له رسوخ قدم في علم البيان حمل أكثر ما ذكر من الآيات والأحاديث المتشابهة على التمثيل والتصوير وبعضها على الكناية
وبعضها على المجاز مراعيا لجزالة المعنى وفخامته ومجانبا عما يوجب ركاكته
فعليك بالتأمل فيها وحملها على ما يليق بها
والله المستعان
وعليه التكلان
156

المرصد الخامس فيما يجوز عليه تعالى
وفيه مقصدان
المقصد الأول
المتن في الرؤية
والكلام في الصحة
وفي الوقوع
وفي شبه المنكرين
فههنا ثلاثة مقامات
المقام الأول في صحة الرؤية
وقد طال نزاع المنتمين إلى الملة فيها
فذهب الأشاعرة إلى أنه تعالى يصح أن يرى
ومنعه الأكثرون
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع فنقول إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ثم غمضنا العين فعند التغميض نعلم الشمس علما جليا
وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة
قالت الفلاسفة هي عائدة إلى تأثر الحدقة لوجوه
الأول إن من نظر إلى الشمس بالاستقصاء ثم غمض فإنه يتخيل أن الشمس حاضرة عنده لا يتأتى له أن يدفعه عن نفسه أصلا
الثاني إن من نظر إلى روضة خضراء زمانا ثم حول عينيه إلى شيء أبيض يرى لونه ممتزجا من البياض والخضرة
الثالث إن الضوء القوي يقهر الباصرة
فلولا تأثرها منه لما كان ذلك
157

قلنا كل ذلك يدل على تأثر الحدقة
وأما عود الإبصار إليه فلا
فلا هي هو
ولا مشروطة به عندنا
وقد سبق ما فيه كفاية
ثم علمت أن الله تعالى أوليس
جسما ولا في جهة ويستحيل عليه مقابلة ومواجهة وتقليب حدقة نحوه
ومع ذلك يصح أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر
ويحصل لهوية العبد بالنسبة إليه هذه الحالة المعبر عنها بالرؤية
وقد استدل عليه بالنقل والعقل
فلنجعله مسلكين
المسلك الأول النقل
والعمدة قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام * (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) * والاحتجاج به من وجهين
الأول أن موسى سأل الرؤية
ولو امتنع لما سأل
لأنه حينئذ إما أن يعلم امتناعه أو يجهله
فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال
فإنه عبث
وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله ويمتنع لا يكون نبيا كليما
الثاني أنه علق الرؤية على استقرار الجبل
واستقرار الجبل أمر ممكن في نفسه
وما علق على الممكن فهو ممكن
الاعتراض أما على الأول فمن وجوه
الأول أن موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية بل تجوز بها عن العلم الضروري لأنه لازمها وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع
وهذا تأويل العلاف
وتبعه الجبائي وأكثر البصريين
158

والجواب أن الرؤية وإن استعملت للعلم لكنها إذا وصلت بإلى فبعيد جدا ومخالفة الظاهر لا تجوز إلا لدليل ثم يمتنع حملها عليه ههنا
أما أولا فلأنه يلزم ألا يكون موسى عالما بربه ضرورة مع أنه يخاطبه
وذلك لا يعقل
وأما ثانيا فلأن الجواب ينبغي أن يطابق السؤال
وقوله * (لن تراني) * نفي للرؤية بإجماع المعتزلة
الثاني إنه سأله أن يريه علما من أعلامه الدالة على الساعة فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه نحو * (واسأل القرية) * وهذا تأويل الكعبي والبغداديين
والجواب إنه خلاف الظاهر
ولا يستقيم
أما أولا فلقوله * (لن تراني) * وأما ثانيا فلأن تدكدك الجبل من أعظم الأعلام
فلا يناسب قوله * (ولكن انظر إلى الجبل) * المنع من رؤية الآية
الثالثة إنما سألها بسبب قومه ليمنع فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى
وهذا تأويل الجاحظ ومتبعيه
والجواب إنه خلاف الظاهر
ولا يستقيم
أما أولا فلأنه لو كان مصدقا بينهم لكفاه أن يقول هذا ممتنع بل كان يجب عليه أن يردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله كما قال * (إنكم قوم تجهلون) * عند
159

قولهم * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * وإلا لم يصدقوه في الجواب
وأما ثانيا فلأنهم لم يروا إلا أن أخذتهم الصاعقة
وليس في ذلك ما يدل على امتناع ما طلبوه
بل ذلك لقصدهم إعجاز موسى تعنتا
فأظهر الله ما يدل على صدقه معجزا
الرابع إنه سألها وإن علم استحالتها ليتأكد دليل العقل بدليل السمع فعل إبراهيم حين قال * (أرني كيف تحيي الموتى) *
قال أولم تؤمن
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي
والجواب إن العلم لا يقبل التفاوت
ولذلك يؤول قول الخليل بما يضعف وبما يقوى مع أنه كان يمكنه ذلك من غير ارتكاب سؤال ما لا يمكن
الخامس إنه قد لا يعلم امتناع الرؤية
ولا يضر مع العلم بالوحدانية أو السؤال صغيره لا يمتنع على الأنبياء
والجواب التزام أن النبي المصطفى بالتكليم في معرفة الله تعالى وما يحوز عليه ويمتنع دون آحاد المعتزلة
ومن حصل طرفا من علم الكلام هي البدعة الشنعاء
واحتجاجنا بلزوم العبث
وهو مما ننزه عنه من له أدنى تمييز فضلا عن الأنبياء
كيف ومثل هذا التجاسر على الله تعالى لا يعد من الصغائر
وفي جوازها من الأنبياء ما سيأتي
وأما على الثاني فمن وجهين
الأول إنه علق الرؤية على استقرار الجبل
إما حال سكونه أو حركته
الأول ممنوع
والثاني مسلم
بيانه أنه لو علقه عليه حال سكونه لزم وجود الرؤية
فإذا قد علقه عليه حال حركته
ولا خفاء أن الاستقرار حال الحركة محال
والجواب إنه علقه على استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد
160

وأنه ممكن قطعا إذ لو فرض لم يلزم منه محال لذاته
وأيضا فاستقرار الجبل عند حركته أوليس
بمحال إذ في ذلك الوقت قد يحصل الاستقرار بدل الحركة
إنما المحال الاستقرار مع الحركة
الثاني أنه لم يقصد بيان إمكان الرؤية أو امتناعها بل بيان عدم وقوعها لعدم المعلق به
والجواب إنه قد لا يقصد الشيء ويلزم
وههنا كذلك
فإنه إذا فرض وقوع الشرط فإما أن يقع المشروط فيكون ممكنا
وإلا فلا معنى للتعليق به
والشرط والمشروط
تذنيب كل ما سنتلوه عليك مما يدل على وقوع الرؤية فهو دليل على جوازها
فلا نطول بذكرها الكتاب
المسلك الثاني هو العقل
والعمدة مسلك الوجود
وهو طريقة الشيخ والقاضي وأكثر أئمتنا
وتحريره أنا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها
وهذا ظاهر
ونرى الجوهر لأنا نرى الطول والعرض
فقد ثبت أن صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض
وهذه الصحة لها علة لتحققها عند الوجود وانتفائها عند العدم
ولولا تحقق أمر حال الوجود غير متحقق حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجح
وهذه العلة لا بد أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض
وإلا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة
وهو غير جائز
161

لما مر
ثم نقول هذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما
لكن الحدوث لا يصلح علة لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق
والعدم لا يصلح أن يكون جزء العلة
وإذا سقط العدم عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود
فإذا هي الوجود
وأنه مشترك بينهما وبين الواجب لما تقدم
فعليه صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى فيتحقق صحة الرؤية
وهو المطلوب
واعلم أن هذا يوجب أن يصح رؤية كل موجود كالأصوات والروائح والملموسات والطعوم
والشيخ يلتزمه ويقول لا يلزم من صحة الرؤية تحقق الرؤية له
وإنما لا نرى لجريان العادة من الله بذلك
ولا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها
والخصم يشدد عليه النكير
وما هو إلا استبعاد
والحقائق لا تؤخذ من العادات
ثم الاعتراض عليه من وجوه
الأول لا نسلم أنا نرى العرض والجوهر
بل المرئي الأعراض فقط
قولك نرى الطول والعرض
قلنا والمرجع بهما إلى المقدار
وأنه عرض قائم بالجسم
والجواب أنا قد أبطلنا ذلك بما فيه كفاية
ونزيد ههنا أنا لو فرضنا تألف الأجزاء من السماء إلى الأرض
فإنا نعلم بالضرورة كونها طويلة
وإن لم يخطر ببالنا شيء من الأعراض
وأيضا فالإمتداد شرط لقيام العرض بها
وإلا لقام بها
وإن كانت متناثرة فلا يكون عرضا
الثاني لا نسلم احتياج الصحة إلى علة لأنها الإمكان
والإمكان عدمي لما تقدم في باب الإمكان
والجواب جدلا المعارضة بما سبق فيه وتحقيقا أن المراد بعلة صحة الرؤية ما يمكن أن يتعلق به الرؤية ونعلم بالضرورة أنه أمر موجود
الثالث لا نسلم أن علة صحة الرؤية يجب أن تكون مشتركة
أما أولا فلأن صحة الرؤية ليست أمرا واحدا بل صحة رؤية الأعراض لا تماثل
162

صحة رؤية الجواهر إذ المتماثلان ما يسد كل مسد الآخر
ورؤية الجسم لا تقوم مقام رؤية العرض ولا بالعكس
وأما ثانيا فلجواز تعليل الواحد بالنوع بالعلل المختلفة لما مر
والجواب قد ذكرنا أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها
والمدعي أن متعلقها أوليس
خصوصية واحد منهما
فإنا نرى الشبح من بعيد ولا ندرك منه إلا أنه هوية ما
وأما خصوصية تلك الهوية وجوهريتها وعرضيتها فلا فضلا عن أنها أي جوهر أو عرض هي وإذا رأينا زيدا فإنا نراه رؤية واحدة متعلقة بهويته ولسنا نرى أعراضه من اللون والضوء كما يقوله الفلاسفة بل نرى هويته ثم ربما نفصله إلى جواهر وأعراض تقوم بها
وربما نغفل عن ذلك حتى لو سئلنا عن كثير منها لم نعلمها ولم نكن قد أبصرناها إذ كنا أبصرنا الهوية
ولو لم يكن متعلق الرؤية هو الهوية التي بها الاشتراك بل الأمر الذي به الافتراق لما كان كذلك
الرابع لا نسلم أن المشترك بينهما أوليس
إلا الوجود أو الحدوث
فإن الإمكان مشترك بينهما
والجواب أنا قد بينا أن متعلق الرؤية هو ما يختص بالموجود
وإلا لصح رؤية المعدوم
والإمكان أوليس
كذلك
وما لا يعلم لا يكون متعلق الرؤية
والذي نعلمه فيهما خصوصية كل
وقد أبطلنا تعلق الرؤية بها ولم يبق إلا المشترك بينهما وهو الوجود إما مع خصوصية بها يمتاز عن القديم
وإنما هو مطلق الحدوث وإما بدون ذلك وهو مطلق الوجود
163

الخامس لا نسلم أن الحدوث لا يصلح سببا لصحة الرؤية
فإن صحة الرؤية عدمية فجاز كون سببها كذلك
والجواب ما سبق من أن المراد متعلق الرؤية
ولا يصلح العدم لذلك
فإن قيل أوليس
الحدوث هو العدم السابق بل مسبوقية الوجود بالعدم
قلنا وذلك أمر اعتباري لا يرى ضرورة
وإلا لم يحتج حدوث الأجسام إلى دليل
السادس لا نسلم أن الوجود مشترك بين الواجب والممكن
كيف وقد جزمتم القول بأن وجود كل شيء نفس حقيقته وكيف تكون حقائق الأشياء مشتركة حتى تكون حقيقة القديم مثل حقيقة الحادث وحقيقة الفرس مثل حقيقة الإنسان والجواب إن لا معنى للوجود إلا كون الشيء له هوية
وذلك أمر مشترك بالضرورة
وما ذكرتم مما به الافتراق وألزمتم الاشتراك فيه فشيات الأشياء
وهي هيئات للهويات
وإن عاقلا لا يقول بالاشتراك فيها
واعلم أن هذا المقام مزلة للأقدام مضلة للأفهام
وهذا غاية ما يمكن فيه من التقرير والتحرير
لم نأل فيه جهدا ولم ندخر نصحا
وعليك بإعادة التفكر وإمعان التدبر والثبات عند البوارق وعدم الركون إلى أول عارض
ولله العون والمنة
السابع لا نسلم أن علة صحة الرؤية إذا كانت موجودة في القديم كانت صحة الرؤية ثابتة فيه لجواز أن تكون خصوصية الأصل شرطا أو خصوصية الفرع مانعا
والجواب تعلمه مما قدمناه إليك
المقام الثاني في وقوع الرؤية
إن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة
164

قال الإمام الرازي الأمة في هذه المسألة على قولين يصح ويرى
ولا يرى ولا يصح
وقد أثبتنا أنه يصح
فلو قلنا لا يرى لكان قولا ثالثا خارقا للإجماع
وهو غير صحيح لأن خرق الإجماع إثبات ما نفاه أو نفي ما أثبته وهذا القول الثالث إنما هو التفصيل
وهو القول بالجواز والقول بعدم الوقوع وشئ منهما لا يخالف الإجماع
بل كل واحد مما قال به طائفة
وذلك كما في مسألة قتل المسلم بالذمي والحر بالعبد
فإن القائل قائلان مثبت لهما
وناف لهما
والتفصيل لا يكون خارقا للإجماع ولا ممنوعا عنه بالإجماع
والمعتمد فيه مسلكان
المسلك الأول قوله تعالى * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) *
وجه الاحتجاج إن النظر في اللغة جاء بمعنى الانتظار
ويستعمل بغير صلة
قال تعالى * (انظرونا نقتبس من نوركم) *
وبمعنى التفكر ويستعمل بفي يقال نظرت في الأمر الفلاني
وبمعنى الرأفة ويستعمل باللام
يقال نظر الأمير لفلان
وبمعنى الرؤية ويستعمل بإلى
قال الشاعر
(نظرت إلى من حسن الله وجهه
* فيا نظرة كادت على وامق تقضي) والنظر في الآية موصول بإلى فوجب حمله على الرؤية
واعترض عليه بوجوه
165

الأول لا نسلم أن إلى صلة بل واحد الآلاء
فمعنى الآية نعمة ربها منتظرة
ومنه قول الشاعر
(أبيض لا يرهب النزال ولا
* يقطع رحما ولا يخون إلى) والجواب أن انتظار النعمة غم
ومن ثمة قيل الانتظار الموت الأحمر
فلا يصح الإخبار به بشارة
الثاني أن النظر الموصول بإلى قد جاء للانتظار
قال الشاعر
(وشعث ينظرون إلى بلال
* كما نظر الظماء حيا الغمام) وقال
(وجوه ناظرات يوم بدر
* إلى الرحمن يأتي بالفلاح) وقال
(كل الخلائق ينظرون سجاله
* نظر الحجيج إلى طلوع هلال) والجواب لا نسلم أن النظر ههنا للانتظار
ففي الأول أي يرون بلالا كما يرى الظماء ماء
ولا يمتنع حمل النظر المطلق على الرؤية
إنما الممتنع حمل الموصول بإلى على غيرها
وفي الثاني أي ناظرات إلى جهة الله وهي العلو في العرف
ولذلك ترفع إليه الأيدي في الدعاء أو إلى آثاره من الضرب والطعن
وفي الثالث أي يرون سجاله ويجوز المجرد للرؤية آنفا
وإن سلم مجيئه مع إلى للانتظار فلا
إذ لا يصلح بشارة لما مر
الثالث إن النظر مع إلى لتقليب الحدقة
يقال نظرت إلى الهلال فما رأيته
ولم أزل أنظر إلى الهلال حتى رأيته
وانظر كيف ينظر فلان إلي
166

والرؤية لا ينظر إليها
وقال تعالى * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) *
ولأنه يوصف بالشدة والشزر والازورار والرضا والتجبر والذل والخشوع وشئ منها لا يصلح صفة للرؤية بل هي أحوال يكون عليها عين الناظر عند تقليب الحدقة
هذا وتقليب الحدقة أوليس
هو الرؤية ولا ملزومها
ثم إنه للرؤية مجاز
ولا يتعين لجواز أن يراد ناظرة إلى نعم الله
ولم يترك هذا الإضمار إلى ذلك المجاز
والجواب إن النظر مع إلى للرؤية بالنقل
وقوله نظرت إلى الهلال فما رأيته لم يصح من العرب بل يقال نظرت إلى مطلع الهلال فلم أر الهلال وربما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه
وهو الجواب عن قولهم لم أزل أنظر إلى الهلال حتى رأيته
والبواقي كلها مجازات مع أن الأشياء التي يمكن إضمارها كثيرة
ولا قرينة معينة
فالتعيين تحكم لا يجوز لغة
ثم تقليب الحدقة طلبا للرؤية بدون الرؤية لا يكون نعمة
ومع الرؤية يكفيه التجوز
فلا يضم إليه الإضمار تقليلا لما هو خلاف الأصل
فإن تقليب الحدقة يكون سببا للرؤية
وإطلاق اسم السبب للمسبب مجاز مشهور
وأنت لا يخفى عليك أن أمثال هذه الظواهر لا تفيد إلا ظنونا ضعيفة لا تصلح للتعويل عليها في المسائل العلمية
المسلك الثاني قوله تعالى في الكفار * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) *
ذكر ذلك تحقيرا لشأنهم فلزم كون المؤمنين مبرأين عنه
والمعتمد فيه إجماع الأمة قبل حدوث المخالفين على وقوع الرؤية وعلى كون هاتين الآيتين محمولتين على الظاهر
167

المقام الثالث في شبه المنكرين وردها
وتنقسم إلى عقلية ونقلية
أما العقلية فثلاث
الأولى شبهة الموانع
لو جازت رؤيته تعالى لرأيناه الآن والتالي باطل
بيان الشرطية لو جازت رؤيته تعالى لجازت في الحالات كلها لأنه حكم ثابت له
إما لذاته أو لصفة لازمة لذاته
فجازت رؤيته الآن
ولو جازت رؤيته لزم أن نراه لأنه إذا اجتمعت شرائط الرؤية وجب حصول الرؤية
وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة
ونحن لا نراها وأنه سفسطة
وشرائط الرؤية سلامة الحاسة وكون الشيء جائز الرؤية مع حضوره للحاسة ومقابلته وعدم غاية الصغر وعدم غاية اللطافة وعدم غاية البعد والقرب وعدم الحجاب الحائل
ثم لا يعقل من هذه الشرائط في حق رؤية الله تعالى إلا سلامة الحاسة وصحة الرؤية لكون البواقي مختصة بالأجسام
وهما حاصلان الآن
والجواب أنا لا نسلم وجوب الرؤية عند اجتماع الشروط الثمانية لأنا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا
وما ذلك إلا لأنا نرى بعض أجزائه دون البعض مع تساوي الكل في حصول الشرائط
لا يقال يتصل بطرفي المرئي من العين خطان شعاعيان كساقي مثلث قاعدته سطح المرئي
ويخرج منها إلى وسطه خط قائم عليه يقسم المثلث إلى مثلثين قائمي الزاوية
فيكون وترا لكل واحدة من الزاويتين الحادتين
وكل من الطرفين وترا لزاوية قائمة
ووتر القائمة أطول من وتر الحادة
فلا تكن أجزاء المرئي متساوية في القرب والبعد
لأنا نقول نفرض هذا التفاوت ذراعا
فلو بعد المرئي بقدر ذلك وجب ألا يرى أصلا
وإذا يرى فهذا البعد لا أثر له في عدم الرؤية
168

قال بعض الفضلاء لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا
فلعل رؤيته صغيرا وكبيرا تختلف بضيق الزاوية الحاصلة في الناظر من الخطين المتصلين منه لطرفي المرئي وسعتها
ولهذا إذا قرب المرئي في الغاية أو بعد صارت لسعتها في الغاية أو لضيقها في الغاية كالمعدومة فانعدمت الرؤية
وضعفه ظاهر بناء على تركب الأجزاء التي لا تتجزأ لأن رؤية كل أصغر مما هو عليه توجب الانقسام
ورؤيته أكبر مما هو عليه بمثل توجب ألا يرى إلا ضعفا ضعفا وبأقل من مثل توجب الانقسام
قوله يلزم تجويز جبال شاهقة لا نراها
قلنا هذا معارض بجملة العاليات
ثم إمكان مأخذ الجزم بعدم الجبل ما ذكرتم لوجب ألا نجزم به إلا بعد العلم بهذا
واللازم باطل لأنه يجزم به من لا يخطر بباله هذه المسألة
ولأنه ينجر إلى أن يكون نظريا
سلمنا الوجوب في الشاهد ولم يجب في الغائب
إذ ماهية الرؤية في الغائب غير ماهية الرؤية في الشاهد فجاز اختلافهما في اللوازم كما يشترط في الشاهد الشروط الستة دون الغائب
الثانية شبهة المقابلة
وهي أن شرط الرؤية المقابلة أو ما في حكمها نحو المرئي في المرآة
وأنها مستحيلة في حق الله تعالى لتنزهه عن المكان والجهة
والجواب منع الاشتراط مطلقا كما مر أو في الغائب
الثالثة شبهة الانطباع
وهي أن الرؤية انطباع صورة المرئي في الحاسة
وهو على الله تعالى محال
والجواب مثل ما مر
وأما السمعية فأربع
الأول قوله تعالى * (لا تدركه الأبصار) *
والإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية أو هما متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر
فالآية نفت أن تراه الأبصار
وذلك يتناول جميع الأبصار في جميع الأوقات
ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى
وما كان عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه
169

والجواب أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه
الأول إن الإدراك هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي إذ حقيقته النيل والوصول
* (إنا لمدركون) * أي ملحقون
ثم نقل إلى المحيطة والرؤية المكيفة أخص من المطلقة
فلا يلزم من نفيها نفيها
قوله لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر
قلنا ممنوع
بل يصح أن يقال رأيته وما أدركه بصري
أي لم يحط به
الثاني إن تدركه الأبصار موجبة كلية
وقد دخل عليها النفي فرفعها
ورفع الموجبة كلية سالبة جزئية
وبالجملة فيحتمل إسناد النفي إلى الكل ونفي الإسناد إلى الكل
ومع احتمال الثاني لم يبق فيه حجة لكم
هذا لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم
وإلا عكسنا القضية
الثالث إنها وإن عمت في الأشخاص فإنها لا تعم في الأزمان
ونحن نقول بموجبه حيث لا يرى في الدنيا
الرابع إن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه لجواز أن يكون ذلك نفيا للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعا
وأما عن الوجه الثاني وهو قوله تمدح بأنه لا يرى فنقول هذا مدعاكم فأين الدليل عليه بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح
إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى حيث لم يكن له ذلك
وإنما المدح فيه للممتنع المتعزز بحجاب الكبرياء كما في الشاهد
170

الثانية أنه تعالى ما ذكر سؤال الرؤية إلا وقد استعظمه وذلك في ثلاث آيات
الأولى * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) *
ولو كانت الرؤية ممكنة لما كان طالبها عاتيا مستكبرا بل كان ذلك نازلا منزلة طلب سائر المعجزات
الثانية * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) *
الثالثة * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) * سمى ذلك ظلما وجازاهم به في الحال
ولو جاز لكان سؤالهم سؤالا لمعجزة زائدة
والجواب إن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا
ولهذا استعظم إنزال الملائكة واستكبر إنزال الكتاب مع إمكانهما
ولو كان لأجل الامتناع لمنعهم موسى عن ذلك فعله حين طلبوا وهو أن يجعل لهم إلها
إذ قال * (إنكم قوم تجهلون) * ولم يقدم على طلب الرؤية الممتنعة بقولهم وقد مر
الثالث قوله تعالى لموسى * (لن تراني) * ولن للتأبيد وإذا لم يره موسى لم يره غيره إجماعا
171

والجواب منع كون لن للتأبيد بل هو للنفي في المستقبل فقط كقوله تعالى * (ولن يتمنوه أبدا) * ويتمنونه في الآخرة
الرابعة قوله تعالى * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) * وإذا لم يره من يكلمه في وقت الكلام لم يره في غيره إجماعا
والجواب إن التكليم وحيا قد يكون حاله الرؤية
وماذا فيه من الدليل على نفي الرؤية
تذنيب الكرامية وافقونا في الرؤية وخالفونا في الكيفية
فعندنا أن الرؤية تكون من غير مواجهة
إذ يمتنع ذلك في الموجود المنزه عن الجهة والمكان
وهم يدعون الضرورة في أن ما لا يكون في جهة قدام الرائي ولا مقابلا له أو في حكم المقابل لا يرى موافقين في ذلك للمعتزلة
والجواب إنا نمنع الضرورة
وما ذلك منهم إلا كدعوى الضرورة في أن كل موجود فإنه في جهة وحيز
وما أوليس
في حيز وجهة فإنه أوليس
بموجود
ولعل هذا فرعه
الشرح
المرصد الخامس فيما يجوز عليه تعالى أي يجوز أن يتعلق به كالرؤية والعلم بالكنه وفيه مقصدان
172

المقصد الأول في الرؤية والكلام في الصحة وفي الوقوع وفي شبه المنكرين
فههنا ثلاثة مقامات
المقام الأول في صحة الرؤية
وقد طال نزاع المنتمين إلى الملة فيها فذهب الأشاعرة إلى أنه تعالى يصح أن يرى
ومنعه الأكثرون
قال الآمدي اجتمعت الأئمة من أصحابنا على أن رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلا
واختلفوا في جوازها سمعا في الدنيا فأثبته بعضهم ونفاه آخرون
وهل يجوز أن يرى في المنام فقيل لا
وقيل نعم
والحق أنه لا مانع من هذه الرؤيا وإن لم تكن رؤيا حقيقة
ولا خلاف بيننا في أنه تعالى يرى ذاته
والمعتزلة حكموا بامتناع رؤيته عقلا لذي الحواس
واختلفوا في رؤيته لذاته
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع فنقول إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ثم غمضنا العين فعند التغميض نعلم الشمس علما جليا
وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة فإن الحالتين وإن اشتركتا في حصول العلم فيها إلا أن الحالة الأولى فيها أمر زائد هو الرؤية
وكذا إذا علمنا شيئا علما تاما جليا ثم رأيناه فإنا نعلم بالبديهة تفرقة بين الحالتين
وإن في الثانية زيادة ليست في الأولى
قالت الفلاسفة هي أي تلك المغايرة والزيادة عائدة إلى تأثر الحدقة لا إلى زيادة في الانكشاف هي الرؤية والإبصار لوجوه
173

الأول إن من نظر إلى الشمس بالاستقصاء ثم غمض فإنه يتخيل أن الشمس حاضرة عنده لا يتأتى له أن يدفعه أي هذا التخيل عن نفسه أصلا وما ذلك إلا لأن الحدقة تأثرت عن صورة الشمس وبقيت صورتها في الحدقة بعد أن زالت الرؤية
الثاني إن من نظر بالاستقصاء إلى روضة خضراء زمانا طويلا ثم حول عينيه إلى شيء أبيض فإنه يرى لونه ممتزجا من البياض والخضرة فقد تحقق أن حدقته تأثرت عن الخضرة وبقي صورتها فيها بعد التحول
الثالث إن الضوء القوي يقهر الباصرة وكذلك البياض الشديد يقهرها بحيث لو نظر الرائي بعد رؤيتهما إلى ضوء ضعيف أو بياض ضعيف لم يرهما
فلولا تأثرها أي تأثر الحاسة منه بل منهما لما كان الأمر كذلك
قلنا كل ذلك الذي ذكرتموه يدل على تأثر الحدقة عند الإبصار
وأما عود تلك الزيادة التي هي الإبصار إليه أي إلى التأثر فلا دلالة عليه فلا هي أي فلا الإبصار بتأويل الرؤية هو أي تأثر الحاسة ولا هي مشروطة به عندنا فجاز أن يرى الله سبحانه وتعالى من غير أن تتأثر عنه الحاسة
وقد سبق ما فيه كفاية وهو أن الرؤية أمر يخلقه الله في الحي
ولا يشترط بضوء ولا مقابلة ولا غيرهما من الشرائط التي اعتبرها الحكماء ثم علمت أن الله تعالى أوليس
جسما ولا في جهة
ويستحيل عليه مقابلة ومواجهة وتقليب حدقة نحوه
ومع ذلك يصح أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر كما ورد في الأحاديث الصحيحة
وأن يحصل لهوية العبد بالنسبة إليه هذه الحالة المعبر عنها بالرؤية هذا ما تفرد به أهل السنة
174

وخالفهم في ذلك سائر الفرق
فإن الكرامية والمجسمة وإن جوزوا رؤيته لكن بناء على اعتقادهم كونه جسما
وفي جهة
وأما الذي لا إمكان له ولا جهة فهو عندهم مما يمتنع وجوده فضلا عن رؤيته
وسيرد عليك زيادة تقرير لمذهبهم
وقد استدل عليه أي على جواز رؤيته تعالى بالنقل والعقل
فلنجعله مسلكين
المسلك الأول النقل وإنما قدمه لأنه الأصل في هذا الباب
والعمدة من المنقولات في ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام
* (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) *
والاحتجاج به من وجهين
الأول إن موسى عليه السلام سأل الرؤية
ولو امتنع كونه تعالى مرئيا لما سأل لأنه حينئذ إما أن يعلم امتناعه أو يجهله
فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال
فإنه عبث
وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله ويمتنع لا يكون نبيا كليما
وقد وصفه الله تعالى بذلك في كتابه بل ينبغي أن لا يصلح للنبوة
إذا المقصود من البعثة هو الدعوة إلى العقائد الحقة والأعمال الصالحة
الثاني إنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل
واستقرار الجبل أمر ممكن في نفسه
وما علق على الممكن فهو ممكن إذ لو كان ممتنعا لأمكن صدق الملزوم بدون صدق اللازم
الاعتراض أما على الوجه الأول فمن وجوه
الأول إن موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية بل تجوز بها عن العلم الضروري لأنه لازمها
وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع سيما استعمال رأى بمعنى علم
وأرى بمعنى أعلم
فكأنه قال اجعلني عالما بك
175

علما ضروريا
وهذا تأويل أبي الهذيل العلاف وتبعه فيه الجبائي
وأكثر البصريين
والجواب إن الرؤية وإن استعملت للعلم لكنها إذا وصلت ب إلى فبعيد جدا
والصواب أن يقال لو كانت الرؤية المطلوبة في أرني بمعنى العلم لكان النظر المترتب عليه بمعناه أيضا
والنظر وإن استعمل بمعنى العلم إلا أن استعماله فيه موصولا بإلى مستبعد مخالف للظاهر قطعا ومخالفة الظاهر لا تجوز إلا لدليل ولا دليل ههنا
فوجب حمله على الرؤية بل على تقليب الحدقة نحو المرئي المؤدي إلى رؤيته فيكون الطلب للرؤية أيضا ثم نقول يمتنع حملها المؤدي إلى رؤيته فيكون الطلب للرؤية أيضا ثم نقول يمتنع حملها أي حمل الرؤية المطلوبة عليه أي على العلم الضروري ههنا
أما أولا فلأنه يلزم أن لا يكون موسى عالما بربه ضرورة
مع أنه يخاطبه
وذلك لا يعقل لأن المخاطب في حكم الحاضر المشاهد
وما هو معلوم بالنظر أوليس
كذلك
وأما ثانيا فلأن الجواب الحاضر المشاهد
وما هو معلوم بالنظر أوليس
كذلك
وأما ثانيا فلأن الجواب ينبغي أن يطابق السؤال
وقوله لن تراني نفي للرؤية لا للعلم الضروري بإجماع المعتزلة
فلو حمل السؤال على طلب العلم لم يطابقا أصلا
الثاني من وجوه الاعتراض على الأول أنه لم يسأله إراءة ذاته بل سأل أن يريه علما وأمارة من أعلامه وأماراته الدالة على الساعة وتقدير الكلام أنظر إلى علمك فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فقال انظر إليك نحو * (واسأل القرية) * أي أهلها
فتكون الرؤية المطلوبة
176

متعلقة بالعلم أيضا
والمعنى أرني علما من أعلامك انظر إلى علمك وهذا تأويل الكعبي والبغداديين
والجواب إنه خلاف الظاهر فلا يرتكب إلا لدليل ومع ذلك لا يستقيم
أما أولا فلقوله * (لن تراني) * فإنه نفي لرؤيته تعالى لا لرؤية علم من أعلام الساعة بإجماعهم
فلا يطابق الجواب السؤال حينئذ
وأما ثانيا فلأن تدكدك الجبل الذي شاهده موسى عليه السلام من أعظم الأعلام الدالة عليها فلا يناسب قوله * (ولكن انظر إلى الجبل) * المنع من رؤية الآية
أي العلامة الدالة على الساعة المستفاد من قوله * (لن تراني) * على هذا التأويل بل يناسب رؤيتها
وأيضا قوله * (فإن استقر مكانه) * لا يلائم رؤيتها لأن الآية في تدكدك الجبل لا في استقراره
الثالث من تلك الوجوه إنما سألها بسبب قومه لا لنفسه لأنه كان عالما بامتناعها
لكن قومه اقترحوا عليه وقالوا * (أرنا الله جهرة) * وإنما نسبها إلى نفسه في قوله * (أرني) * ليمنع عن الرؤية فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى وفيه مبالغة لقطع دابر اقتراحهم
وفي أخذ الصاعقة لهم دلالة على استحالة المسؤول
وهذا تأويل الجاحظ ومتبعيه
والجواب إنه خلاف الظاهر فلا بد له من دليل ومع ذلك لا يستقيم
أما أولا فلأنه لو كان موسى مصدقا بينهم لكفاه في دفعهم أن
177

يقول هذا ممتنع بل كان يجب عليه أن يردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله كما زجرهم
وقال * (إنكم قوم تجهلون) * عند قولهم * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * وإلا أي وإن لم يكن مصدقا بينهم بل كان القوم كافرين منكرين لصدقه لم يصدقوه أيضا في الجواب ب * (لن تراني) * إخبارا عن الله تعالى لأن الكفار لم يحضروا وقت السؤال ولم يسمعوا الجواب
بل الحاضرون هم السبعون المختارون
فكيف يقبلون مجرد إخباره مع إنكارهم لمعجزاته الباهرة
وأما ثانيا فلأنهم لما سألوا وقالوا * (أرنا الله جهرة) * زجرهم الله تعالى وردعهم عن السؤال بأخذ الصاعقة فلم يحتج موسى في زجرهم إلى سؤال الرؤية وإضافتها إلى نفسه
وليس في أخذ الصاعقة دلالة على امتناع المسؤول لأنهم لم يروا إلا أن أخذتهم الصاعقة عقب سؤالهم
وليس في ذلك ما يدل على امتناع ما طلبوه بل جاز أن يكون ذلك الأخذ لقصدهم إعجاز موسى عن الإتيان بما طلبوه تعنتا مع كونه ممكنا فأنكر الله ذلك عليهم وعاقبهم
كما أنكر قولهم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا وقولهم أنزل علينا كتابا من السماء بسبب التعنت
وإن كان المسؤول أمرا ممكنا في نفسه فأظهر الله عليهم ما يدل على صدقه معجزا ورادعا لهم عن تعنتهم
الرابع من وجوه الاعتراض على الأول أنه سألها لنفسه وإن علم استحالتها بالعقل ليتأكد دليل العقل بدليل السمع فيتقوى علمه بتلك الاستحالة
فإن تعدد الأدلة وإن كانت من جنس واحد تفيد زيادة قوة في العلم بالمدلول
فكيف إذا كانت من جنسين
وإنما سأل هذا السؤال وفعله فعل إبراهيم وسؤاله حين قال " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو
178

لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) فقد طلب الطمأنينة فيما يعتقده ويعلمه بانضمام المشاهدة إلى الدليل
والجواب أن العلم لا يقبل التفاوت فإنه كما مر صفة توجب تمييزا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه من الوجوه
ولذلك يؤول قول الخليل تارة بما يضعف وهو أنه مخاطبة منه لجبريل عند نزوله إليه بالوحي ليعلم أنه منه عند الله وضعفه أنه خاطب الرب وجبرائيل أوليس
برب
وأيضا إحياء الموتى أوليس
مقدورا لجبرائيل فكيف يطلب منه وتارة بما يقوى وهو ما روي من أنه أوحى الله تعالى إليه أني اتخذت إنسانا خليلا وعلامته أني أحيي الموتى بدعائه
فظن إبراهيم أنه ذلك الإنسان فطلب الإحياء ليطمئن به قلبه مع أنه كان يمكنه أي يمكن موسى ذلك أي طلب التأكد من غير ارتكاب سؤال ما لا يمكن
من الرؤية بأن يطلب إظهار الدليل السمعي على استحالتها بلا طلب
فيكون حينئذ طلبها خارجا عما يليق بالعقلاء خصوصا الأنبياء
الخامس من تلك الوجوه أنه قد لا يعلم امتناع الرؤية ولا يضر ذلك في نبوته مع العلم بالوحدانية لأن المقصود من وجوب معرفته عندنا هو التوصل إلى العلم بحكمته
وأنه لا يفعل قبيحا والغرض من البعثة هو الدعوة إلى أنه تعالى واحدا
وأنه كلف عباده بأوامر ونواه تعريضا لهم إلى النعيم المقيم
وذلك لا يتوقف على العلم باستحالة رؤيته
وأما من جعل الوجوب شرعيا فعنده يجوز أن لا تكون شريعة موسى آمرة بمعرفة أنه تعالى يستحيل رؤيته أو يعلم موسى امتناع الرؤية
والسؤال بطلبها صغيرة لا تمتنع على الأنبياء
179

والجواب التزام أن النبي المصطفى المختار بالتكليم في معرفة الله تعالى وما يجوز عليه ويمتنع دون آحاد المعتزلة ودون من حصل طرفا من علم الكلام هي البدعة الشنعاء والطريقة العوجاء التي لا يسلكها واحد من العقلاء
واحتجاجنا بلزوم العبث على تقدير العلم بالاستحالة وهو ما تنزه عنه من له أدنى تمييز فضلا عن الأنبياء
كيف ومثل هذا التجاسر على الله تعالى بطلب ما لا يجوز عليه ويشعر بالتجسم على رأيكم لا يعد من الصغائر بل من الكبائر التي يمتنع صدورها عنهم وعلى تقدير كون السؤال من الصغائر نقول في جوازها من الأنبياء ما سيأتي من المنع والتفصيل
وأما على الوجه الثاني أي الاعتراض عليه فمن وجهين
الأول إنه علق الرؤية على استقرار الجبل
إما حال سكونه أو حال حركته
الأول ممنوع
والثاني مسلم
بيانه أنه لو علقه أي وجود الرؤية عليه حال سكونه لزم وجود الرؤية لحصول الشرط الذي هو الاستقرار
وهو باطل فإذن قد تعين أنه علقه عليه حال حركته
ولا خفاء في أن الاستقرار حال الحركة محال فيكون تعليق الرؤية عليها تعليقا بالمحال
فلا يدل على إمكان المعلق بل على استحالته
والجواب إنه علقه على استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد بحال السكون أو الحركة
وإلا لزم الإضمار في الكلام وأنه أي استقرار الجبل من حيث هو ممكن قطعا
إذ لو فرض وقوعه لم يلزم منه محال لذاته
وأيضا فاستقرار الجبل عند حركته أي في زمانها أوليس
بمحال
إذ في ذلك الوقت قد يحصل الاستقرار بدل الحركة ولا محذور فيه إنما المحال هو الاستقرار مع الحركة أي كونهما مجتمعين لا وقوع شيء منهما في وقت آخر بدل صاحبه
الثاني من الوجهين أنه لم يقصد من التعليق المذكور بيان إمكان
180

الرؤية أو امتناعها بل بيان عدم وقوعها لعدم المعلق به وهو الاستقرار سواء كان ممكنا أو ممتنعا
فلا يلزم إمكان المعلق
والجواب إنه قد لا يقصد الشيء في الكلام قصدا بالذات ويلزم منه لزوما قطعيا والحال ههنا كذلك
فإنه إذا فرض وقوع الشرط الذي هو ممكن في نفسه فإما أن يقع المشروط فيكون هو أيضا ممكنا
وإلا فلا معنى للتعليق به
وإيراد الشرط والمشروط لأنه حينئذ منتف على تقديري وجود الشرط وعدمه
لا يقال فائدة التعليق ربط العدم بالعدم مع السكوت عن ربط الوجود بالوجود لأنا نقول إن المتبادر في اللغة من مثل قولنا إن ضربتني ضربتك
هو الربط في جانبي الوجود والعدم معا لا في جانب العدم فقط كما هو المعتبر في الشرط المصطلح
تذنيب كل ما سنتلوه عليك في المقام الثاني مما يدل على وقوع الرؤية فهو دليل على جوازها وصحتها بلا شبهة فلا نطول بذكرها في هذا الكتاب كما فعله جمع من الأصحاب
والله الموفق للصواب
المسلك الثاني من مسلكي صحة الرؤية هو العقل
والعمدة في المسلك العقلي مسلك الوجود
وهو طريقة الشيخ أبي الحسن والقاضي أبي بكر وأكثر أئمتنا
وتحريره أنا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرهما من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق
وهذا ظاهر
ونرى الجوهر أيضا
وذلك لأنا نرى الطول والعرض في الجسم
ولهذا نميز
181

الطويل من العريض
ونميز الطويل من الأطول
وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم لما تقرر من أنه مركب من الجواهر الفردة
فالطول مثلا إن قام بجزء واحد منها فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر فيقبل القسمة
هذا خلف
وإن قام بأكثر من جزء واحد لزم قيام العرض الواحد بمحلين
وهو محال
فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركب منها الجسم فقد ثبت أن صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض
وهذه الصحة لها علة مختصة بحال وجودهما
وذلك لتحققها عند الوجود كما عرفت وانتفائها عند العدم فإن الأجسام والأعراض لو كانت معدومة لاستحال كونها مرتبة بالضرورة والاتفاق ولولا تحقق أمر مصحح حال الوجود غير متحقق حال العدم لكان ذلك أي اختصاص الصحة بحال الوجود ترجيحا بلا مرجح لأن نسبة الصحة على تقدير استغنائها عن العلة إلى طرفي الوجود والعدم على سواء وهذه العلة المصححة للرؤية لا بد من أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض
وإلا لزم تعليل الأمر الواحد وهو صحة كون الشيء مرئيا بالعلل المختلفة وهي الأمور المختصة إما بالجواهر وإما بالأعراض
وهو غير جائز لما مر في مباحث العلل ثم نقول هذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث
إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما
فإن الأجسام لا توافق الألوان في صفة عامة بتوهم كونها مصححة سوى هذين لكن الحدوث لا يصلح أن يكون علة للصحة لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق
والعدم لا يصلح أن يكون جزءا للعلة لأن التأثير صفة إثبات فلا يتصف به العدم
ولا ما هو مركب منه
وإذا أسقط
182

العدم عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود
فإذن هي أي العلة المشتركة الوجود
وأنه مشترك بينهما وبين الواجب لما تقدم من اشتراك الوجود بين الموجودات كلها
فعلة صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى فيتحقق صحة الرؤية
وهو المطلوب
واعلم أن هذا الدليل يوجب أن يصح رؤية كل موجود كالأصوات والروائح والملموسات والطعوم
والشيخ الأشعري يلتزمه
ويقول لا يلزم من صحة الرؤية لشيء تحقق الرؤية له
وإنما لا نرى هذه الأشياء التي ذكرتموها لجريان العادة من الله بذلك أي بعدم رؤيتها
فإنه تعالى أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا
ولا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها
والخصم يشدد عليه النكير أي الإنكار
ويقول هذه مكابرة محضة وخروج عن حيز العقل بالكلية ونحن نقول ما هو أي إنكاره إلا استبعاد ناشىء عما هو معتاد في الرؤية
والحقائق أي الأحكام الثابتة المطابقة للواقع لا تؤخذ من العادات بل مما تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات
ولا شبهة في أن الرؤية بالمعنى الذي حققناه فيما سلف ليست ممتنعة في سائر المحسوسات
ثم الاعتراض عليه بعد النقض المذكور من وجوه
الأول لا نسلم أنا نرى العرض والجوهر معا بل المرئي هو الأعراض فقط
قولك نرى الطول والعرض وهما جوهران
قلنا الحكم برؤيتهما صحيح ولكن المرجع بهما إلى المقدار
فإنه عرض قائم بالجسم
والجواب إنا قد أبطلنا ذلك أي كونهما مقدارا قائما بالجسم بما فيه كفاية فإن وجود المقدار الذي هو عرض مبني على نفي الجزء وتركب الجسم من الهيولى والصورة
وقد مر بطلانه بما لا حاجة إلى إعادته
ونزيد ههنا لإبطال وجود المقدار العرضي أنا لو فرضنا تألف الأجزاء من السماء
183

إلى الأرض فإنا نعلم بالضرورة كونها طويلة جدا وإن لم يخطر ببالنا شيء من الأعراض فعلم أنه لا حاجة في الطول إلى شيء سوى الأجزاء
فالمرئي هو تلك الأجزاء لا عرض قائم بها
وأيضا فالامتداد الحاصل فيما بين الأجزاء شرط لقيام العرض الواحد الذي هو المقدار بها
وإلا لقام المقدار الواحد بها أي بتلك الأجزاء وإن كانت متناثرة متفاصلة
وهو ضروري البطلان
وإذا كان الامتداد شرطا لقيام المقدار العرضي بالأجزاء فلا يكون الامتداد عرضا قائما بها
وإلا لزم اشتراط الشيء بنفسه
فمرجع الطول إلى الأجزاء المتألفة في سمت مخصوص فرأيته رؤية تلك الأجزاء المتحيزة
وهو المطلوب
الثاني من وجوه الاعتراض لا نسلم احتياج الصحة إلى علة لأنها الإمكان
والإمكان عدمي لما تقدم في باب الإمكان والعدمي لا حاجة به إلى علة
والجواب جدلا المعارضة بما سبق فيه
أي في باب الإمكان من الأدلة الدالة على كونه وجوديا والجواب تحقيقا أن المراد بعلة صحة الرؤية كما صرح به الآمدي ما يمكن أن يتعلق به الرؤية لا ما يؤثر في الصحة
واحتياج الصحة سواء كانت وجودية أو عدمية إلى العلة بمعنى متعلق الرؤية ضروري
ونعلم أيضا بالضرورة أنه أي متعلق الرؤية أمر موجود لأن المعدوم لا تصح رؤيته قطعا
الثالث من تلك الوجوه لا نسلم أن علة صحة الرؤية يجب أن تكون مشتركة
أما أولا فلأن صحة الرؤية ليست أمرا واحدا بالشخص
وهو ظاهر
بل نقول صحة رؤية الأعراض لا تماثل صحة رؤية الجواهر إذ المتماثلان ما يسد كل منهما مسد الآخر
ورؤية الجسم لا تقوم مقام رؤية العرض ولا بالعكس إذ يستحيل أن يرى الجسم عرضا أو العرض
184

جسما
وأما ثانيا فلجواز تعليل الواحد بالنوع بالعلل المختلفة لما مر في مباحث العلل والمعلولات
فعلى تقدير تماثل الصحتين جاز تعليلهما بعلتين مختلفتين
والجواب قد ذكرنا أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها
والمدعي أن متعلقها أوليس
خصوصية واحد منهما أي من الجوهر والعرض فإنا نرى الشبح من بعيد ولا ندرك منه إلا أنه هوية ما من الهويات
وأما خصوصية تلك الهوية وجوهريتها وعرضيتها فلا ندركها فضلا عن إدراك أنها أي جوهر أو عرض هي
وإذا رأينا زيدا فإنا نراه رؤية واحدة متعلقة بهويته
ولسنا نرى أعراضه من اللون والضوء كما تقوله الفلاسفة حيث يزعمون أن المرئي بالذات هو الألوان والأضواء
وأما الأجسام فهي مرئية بالعرض والتبعية بل نرى هويته ثم ربما نفصله إلى جواهر هي أعضاؤه وإلى أعراض تقوم بها أي بتلك الجواهر
وربما نغفل عن ذلك التفصيل حتى لو سئلنا عن كثير منها أي من تلك الجواهر والأعراض لم نعلمها ولم نكن قد أبصرناها
إذ كنا أي زمان كنا أبصرنا الهوية
ولو لم يكن متعلق الرؤية هو الهوية التي بها الاشتراك بين خصوصيات الهويات بل كان متعلق الرؤية الأمر الذي به الافتراق بينها
أعني خصوصية هوية زيد مثلا لما كان الحال كذلك لأن رؤية الهوية المخصوصة الممتازة تستلزم الاطلاع على خصوصيات جواهرها وأعراضها
فلا تكون مجهولة لنا
فقد تحقق أن متعلق الرؤية هو الهوية العامة المشتركة بين الجواهر والأعراض وبين الباري سبحانه وتعالى
فتصح رؤيته
الرابع من وجوه الاعتراض لا نسلم أن المشترك بينهما أي الجوهر والعرض أوليس
إلا الوجود والحدوث
فإن الإمكان أيضا مشترك بينهما وكذا المذكورية والمعلومية وسائر المفهومات العامة
والجواب أنا قد بينا أن متعلق الرؤية الذي فسرنا به علة الصحة هو
185

ما يختص بالموجود
وإلا لصح رؤية المعدوم والإمكان أوليس
كذلك لشموله الموجود والمعدوم
وكذا سائر المفهومات الشاملة لهما
فلا يصح شيء منهما متعلقا للرؤية وما لا يعلم لا يكون متعلق الرؤية لأن متعلقها يجب أن يكون معلوما لكونه مدركا بالبصر والذي نعلمه فيهما
أي في الجوهر والعرض الموجودين خصوصية كل منهما
وقد أبطلنا تعلق الرؤية بها ولم يبق لتعلقها إلا المشترك بينهما
وهو الوجود إما مع خصوصية بها يمتاز كل منهما عن القديم
وإنما هو مطلق الحدوث وقد أبطلناه أيضا
وإما بدون ذلك وهو مطلق الوجود وبذلك يتم المطلوب
الخامس لا نسلم أن الحدوث لا يصلح سببا لصحة الرؤية
فإن صحة الرؤية عدمية فجاز كون سببها كذلك أي عدميا
والجواب ما سبق من أن المراد بسبب الصحة متعلق الرؤية لا ما يؤثر فيها ولا شك في أنه لا يصلح العدم لذلك أي لكونه متعلق الرؤية
فإن قيل أوليس
الحدوث هو العدم السابق كما ذكرتم بل مسبوقية الوجود بالعدم فلا يكون عدميا
قلنا وذلك أي كون الوجود مسبوقا بالعدم أمر اعتباري لا يرى ضرورة
وإلا لم يحتج حدوث الأجسام إلى دليل لكونه مدركا محسوسا
السادس لا نسلم أن الوجود مشترك بين الواجب والممكن
كيف وقد جزمتم القول بأن وجود كل شيء نفس حقيقته
وكيف تكون حقائق الأشياء مشتركة حتى تكون حقيقة القديم مثل حقيقة الحادث
وحقيقة
186

الفرس مثل حقيقة الإنسان بل تكون جميع الموجودات مشتركة في حقيقة واحدة هي تمام ماهية كل واحد منها
وذلك مما لا يقول به عاقل
فوجب أن يكون الاشتراك في الوجود عندكم لفظيا لا معنويا كما علم في صدر الكتاب
وقد أجاب الآمدي عن هذا السؤال بأن المتمسك بهذا الدليل إن كان ممن يعتقد كون الوجود مشتركا كالقاضي وجمهور الأصحاب لم يرد عليه ما ذكرتموه
وإن كان ممن لا يعتقده كالشيخ فهو بطريق الإلزام
ولا يجب كون الملزوم معتقدا لما تمسك به
ولما لم يكن هذا مرضيا عند المصنف قال والجواب أنه لا معنى للوجود إلا كون الشيء له هوية لما عرفت من أن الوجود الخارجي أوليس
إلا كون الماهية ممتازة بحسب الهوية الشخصية وذلك أي كون الشيء ذا هوية يمتاز بها أمر مشترك بين الموجودات بأسرها بالضرورة
وما ذكرتم مما به الافتراق كالإنسانية والفرسية وغيرهما وألزمتم الاشتراك فيه على تقدير اشتراك الموجود على مذهبنا فشيات الأشياء أي خصوصياتها التي يمتاز بها بعضها عن بعض وهي هيئات وخصوصيات للهويات المتمايزة بذواتها
وإن عاقلا لا يقول بالاشتراك فيها ولا بما يستلزم هذا الاشتراك استلزاما مكشوفا لا سترة به
فما ذكره الشيخ من أن وجود كل شيء عين حقيقته لم يرد به أن مفهوم كون الشيء ذا هوية هو بعينه مفهوم ذلك الشيء حتى يلزم من الاشتراك في الأول الاشتراك في الثاني بل أراد أن الوجود ومعروضه أوليس
لهما هويتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى كالسواد بالجسم
وقد عرفت أن هذا هو الحق الصريح
فالاتحاد الذي ادعاه الشيخ على ما مر في الأمور العامة إنما هو باعتبار ما صدقا عليه
وذلك لا ينافي اشتراك مفهوم الوجود
فلا منافاة بين كون الوجود عين الماهية بالمعنى الذي صورناه وبين اشتراكه بين الخصوصيات المتمايزة بذواتها
والأكثرون توهموا أن ما نقل عنه من أن الوجود عين الماهية ينافي دعوى اشتراكه بين الموجودات
إذ يلزم منهما معا
187

كون الأشياء كلها متماثلة متفقة الحقيقة
وهو باطل
فلذلك قال واعلم أن هذا المقام مزلة للأقدام مضلة للأفهام
وهذا الذي حققناه لك هو غاية ما يمكن فيه من التقرير والتحرير لم نأل فيه جهدا ولم ندخر نصحا
وعليك بإعادة التفكر وإمعان التدبر والثبات عند البوارق اللامعة من الأفكار وعدم الركون إلى أول عارض يظهر ببادىء الرأي كما ركن إليه من حكم بأن كلام الشيخ في مباحث الرؤية حيث ادعى اشتراك الوجود ينافي ما تقدم حيث قال وجود كل شيء عينه ولله العون والمنة في إدراك الحقائق والاهتداء إلى الدقائق
السابع من الاعتراضات لا نسلم أن علة صحة الرؤية إذا كانت موجودة في القديم كانت صحة الرؤية ثابتة فيه كما في الحوادث لجواز أن تكون خصوصية الأصل شرطا أو خصوصية الفرع مانعا
والجواب تعلمه مما قدمناه إليك وهو بيان أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها
وأن متعلقها هو الوجود مطلقا
أعني كون الشيء ذا هوية ما لا خصوصيات الهويات والوجودات كما في الشبح المرئي من بعيد بلا إدراك لخصوصيته
وإذا كان متعلقها مطلق الهوية المشتركة لم يتصور هناك اشتراط بشرط معين ولا تقييد بارتفاع مانع
ولقد بالغ المصنف في ترويج المسلك العقلي لإثبات صحة رؤيته تعالى
لكن لا يلتبس على الفطن المنصف أن مفهوم الهوية المطلقة المشتركة بين خصوصيات الهويات أمر اعتباري كمفهوم الماهية والحقيقية فلا تتعلق بها الرؤية أصلا
وأن المدرك من الشبح البعيد هو خصوصيته الموجودة
إلا أن إدراكها إجمالي لا يتمكن
188

به على تفصيلها
فإن مراتب الإجمالي متفاوتة قوة وضعفا كما لا يخفى على ذي بصيرة
فليس يجب أن يكون كل إجمال وسيلة إلى تفصيل أجزاء المدرك وما يتعلق به من الأحوال
ألا ترى إلى قولك كل شيء فهو كذا
وفي هذا الترويج تكلفات اخر يطلعك عليها أدنى تأمل
فإذن الأولى ما قد قيل من أن التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذر فلنذهب إلى ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي من التمسك بالظواهر النقلية وقد مر عمدتها
المقام الثاني في وقوع الرؤية
أن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة أي في الدار الآخرة
قال الإمام الرازي مستدلا على وقوع الرؤية
الأمة في هذه المسألة على قولين فقط
الأول يصح ويرى
والثاني لا يرى ولا يصح
وقد أثبتنا أنه يصح
فلو قلنا مع القول بالصحة أنه لا يرى
لكان قولا ثالثا خارقا للإجماع على عدم الافتراق بين الصحة والوقوع في النفي والإثبات
بل كلاهما مثبتان معا أو منفيان معا
وهو أي هذا الاستدلال غير صحيح كما ذكره الآمدي لأن خرق الإجماع إثبات ما نفاه كما إذا ذهب بعض المجمعين إلى السالبة الكلية وآخرون إلى السالبة الجزئية
189

فأحدث القول بالموجبة الكلية أو نفى ما أثبته كما إذا ذهب بعضهم إلى الموجبة الكلية وبعضهم إلى الجزئية
فأحدث القول بالسالبة الكلية
وأما إذا ذهب بعضهم إلى الموجبة الكلية وآخرون إلى السالبة الكلية
فإحداث القول بالموجبة الجزئية والسالبة الجزئية معا أوليس
خارقا للإجماع
إذ أوليس
بين القولين قدر مشترك
بل هو تفصيل وموافقة لطائفة في إحدى المسألتين
والأخرى في أخرى كما فيما نحن بصدده
وإليه أشار بقوله وهذا القول الثالث إنما هو التفصيل
وهو القول بالجواز والقول بعدم الوقوع
وشئ منهما لا يخالف الإجماع ولا يخرقه بل كل واحد من قولي التفصيل مما قال به طائفة من طائفتي المجمعين وإن كان خارقا لما قال به الطائفة الأخرى وذلك الذي ذكرناه في مسألتنا هذه كما في مسألة قتل المسلم بالذمي والحر بالعبد
فإن القائل قائلان مثبت لهما معا كالحنفية وناف لهما معا كالشافعية والتفصيل بينهما مما لم يقل به أحد من الأمة
ولكن لو قيل به لا يكون خارقا للإجماع بل موافقة للمثبت في مسألة
وللنافي في مسألة أخرى ولا يكون هذا التفصيل ممنوعا عنه بل يكون جائزا بالإجماع فهذا المسلك في إثبات الوقوع مردود
والمعتمد فيه مسلكان
المسلك الأول قوله تعالى * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) *
وجه الاحتجاج بالآية الكريمة إن النظر في اللغة جاء بمعنى الانتظار ويستعمل بغير صلة بل يتعدى بنفسه قال تعالى * (انظرونا نقتبس من نوركم) * أي انتظرونا
وقال * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) *
190

أي ما ينتظرون
ومنه قوله تعالى * (فناظرة بم يرجع المرسلون) *
أي منتظرة
وقول الشاعر
(وإن يك صدر هذا اليوم ولى
* فإن غدا لناظره قريب) أي لمنتظره
وجاء بمعنى التفكر والاعتبار ويستعمل حينئذ بفي
يقال نظرت في الأمر الفلاني أي تفكرت واعتبرت وجاء بمعنى الرأفة والتعطف ويستعمل حينئذ باللام
يقال نظر الأمير لفلان أي رأف به وتعطف وجاء بمعنى الرؤية ويستعمل بإلى
قال الشاعر
(نظرت إلى من أحسن الله وجهه
* فيا نظرة كادت على وامق يقضي) والنظر في الآية موصول بإلى فوجب حمله على الرؤية فتكون واقعة في ذلك اليوم
وهو المطلوب
واعترض عليه بوجوه
الأول لا نسلم أن لفظ إلى صلة للنظر بل هو واحد الآلاء ومفعول به للنظر بمعنى الانتظار
فمعنى الآية نعمة ربها منتظرة
ومنه قول الشاعر
(أبيض لا يرهب النزال ولا
* يقطع رحما ولا يخون إلى) أي نعمة
ويقرب منه ما قد قيل إن إلى بمعنى عند كما في قوله
(فهل لكم فيما إلي فإنني
* طبيب بما أعيى النطاسي حذيما)
191

أي فيما عندي ومعنى الآية حينئذ عند ربها منتظرة نعمته
والجواب أن انتظار النعمة غم
ومن ثمة قيل الانتظار الموت الأحمر
فلا يصح الإخبار به بشارة مع أن الآية وردت مبشرة للمؤمنين بالإنعام والإكرام وحسن الحال وفراغ البال
وذلك في رؤيته تعالى فإنها أجل النعم والكرامات المستتبعة لنضارة الوجه لا في الانتظار المؤدي إلى عبوسه
الثاني إن النظر الموصول بإلى قد جاء للانتظار
قال الشاعر
(وشعث ينظرون إلى بلال
* كما نظر الظماء حيا الغمام) ومن المعلوم أن العطاش ينتظرون مطر الغمام
فوجب حمل النظر المشبه على الانتظار ليصح التشبيه
وقال
(وجوه ناظرات يوم بدر
* إلى الرحمن يأتي بالفلاح) أي منتظرات إتيانه بالنصر والفلاح
وقال
(كل الخلائق ينظرون سجاله
* نظر الحجيج إلى طلوع هلال) أي ينتظرون عطاياه انتظار الحجاج ظهور الهلال
والجواب لا نسلم أن النظر ههنا أي فيما ذكر من الأمثلة للانتظار
ففي الأول أي يرون بلالا كما يرى الظماء ماء يطلبونه ويشتاقون إليه ولا يمتنع حمل النظر المطلق عن الصلة كالمذكور في المشبه به على الرؤية بطريق الحذف والإيصال
إنما الممتنع حمل الموصول ب إلى علي غيرها أي غير الرؤية كالانتظار
192

وفي الثاني أي ناظرات إلى آثاره أي آثار الله من الضرب والطعن الصادرين من الملائكة التي أرسلها الله تعالى لنصرة المؤمنين يوم بدر
وذكر بعض الرواة أن الرواية هكذا وجوه ناظرات يوم بكر
وأن قائله شاعر من أتباع مسيلمة الكذاب
والمراد بيوم بكر يوم القتال مع بني حنيفة لأنهم بطن من بكر بن وائل
وأراد بالرحمن مسيلمة
وعلى هذا فالجواب ظاهر
وفي الثالث أي يرون سجاله
ويجوز النظر المجرد عن الصلة للرؤية كما مر آنفا
وإن سلم مجيئه مع إلى للانتظار فلا يصح حمله عليه في الآية إذ لا يصح بشارة لما مر من أن انتظار النعمة غم ووصولها سرور
الثالث من وجوه الاعتراض أن النظر مع إلى حقيقة لتقليب الحدقة لا للرؤية
يقال نظرت إلى الهلال فما رأيته ولو كان بمعنى الرؤية لكان متناقضا
ولم أزل انظر إلى الهلال حتى رأيته ولو حمل على الرؤية لكان الشيء غاية لنفسه
وانظر كيف ينظر فلان إلي
والرؤية لا ينظر إليها وإنما ينظر إلى تقليب الحدقة
وقال تعالى * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * فالنظر الموصول ب إلى محمول على تقليب الحدقة لما ذكرنا ولأنه يوصف بالشدة والشزر والازورار والرضى والتجبر والذل والخشوع
وشئ منها لا يصلح صفة للرؤية بل هي أحوال يكون عليها عين الناظر عند تقليب الحدقة نحو المرئي هذا كما ذكرناه
193

وتقليب الحدقة أوليس
هو الرؤية وهو ظاهر
فلا يكون النظر الموصول ب إلى حقيقة فيها
وإلا لزم الاشتراك ولا ملزومها لزوما عقليا حتى يجب من تحققه تحققها بل لزوما عاديا مصححا للتجوز ثم نقول إنه للرؤية مجاز
ولكنه مجاز لا يتعين كونه مرادا في الآية لجواز أن يراد ناظرة إلى نعم الله
ولم أي ولأي شيء يترك هذا الإضمار إلى ذلك المجاز
والجواب أن النظر مع إلى حقيقة للرؤية بالنقل الذي مر ذكره فلا يكون حقيقة وما استشهدتم به على كونه حقيقة لتقليب الحدقة لا يجدي نفعا إذ قوله نظرت إلى الهلال فما رأيته لم يصح نقله من العرب
بل يقال نظرت إلى مطلع الهلال فلم أر الهلال
وإن سلمناه قلنا ربما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه وهو الجواب عن قولهم لم أزل أنظر إلى الهلال حتى رأيته أي إلى مطلع الهلال والبواقي من الأمثلة كلها مجازات أي النظر فيها وقع مجازا عن تقليب الحدقة من باب إطلاق اسم المسبب الذي هو الرؤية على سببها الذي هو التقليب وعلى تقدير كون النظر حقيقة في التقليب الذي أوليس
بمراد يجب حمله في الآية على الرؤية مجازا لرجحانه على الإضمار الذي يحتمل وجوها كثيرة وإليه الإشارة بقوله مع أن الأشياء التي يمكن إضمارها كثيرة كنعمة الله وجهة الله وآثار الله ولا قرينة ههنا معينة لبعضها فالتعيين تحكم لا يجوز لغة فوجب المصير إلى المجاز المتعين ثم نقول أيضا تقليب الحدقة طلبا للرؤية بدون الرؤية لا يكون نعمة بل فيه نوع عقوبة فلا يكون مرادا في الآية وتقليب الحدقة مع الرؤية يكفيه التجوز وحده فلا يضم إليه الإضمار تقليلا لما هو خلاف الأصل
فإن تقليب الحدقة يكون سببا عاديا للرؤية وإطلاق اسم السبب للمسبب مجاز مشهور فلنحمل الآية على التجوز عن الرؤية بلا إضمار شيء
وهو المطلوب
وأنت لا يخفى عليك أن أمثال هذه
194

الظواهر لا تفيد إلا ظنونا ضعيفة جدا
وحينئذ لا تصلح هذه الظواهر للتعويل عليها في المسائل العلمية التي يطلب فيها اليقين
المسلك الثاني في إثبات الوقوع قوله تعالى في الكفار * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) * ذكر ذلك تحقيرا لشأنهم
فلزم منه كون المؤمنين مبرأين عنه فوجب أن لا يكونوا محجوبين عنه بل رائين له
وهذا المسلك أيضا من الظواهر المفيدة للظن
والمعتمد فيه أي في إثبات الوقوع
بل وفي صحته أيضا إجماع الأمة قبل حدوث المخالفين على وقوع الرؤية المستلزم لصحتها وعلى كون هاتين الآيتين محمولتين على الظاهر المتبادر منهما
ومثل هذا الإجمال مفيد لليقين
المقام الثالث في شبه المنكرين وردها
وتنقسم تلك الشبه إلى عقلية ونقلية
أما العقلية فثلاث
الأولى شبهة الموانع وهي أن يقال لو جازت رؤيته تعالى لرأيناه الآن
والتالي باطل بطلانا ظاهرا
وأما بيان الشرطية فهو أنه لو جازت رؤيته تعالى لجازت في الحالات كلها لأنه أي جواز الرؤية حكم ثابت له
إما لذاته أو لصفة لازمة لذاته فلا يتصور انفكاكه عنه في شيء من الأزمنة فجازت رؤيته الآن قطعا
ولو جازت رؤيته الآن لزم أن نراه الآن لأنه إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية في ذلك الزمان وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة ونحن لا نراها
وأنه سفسطة رافعة للثقة عن القطعيات وشرائط الرؤية ثمانية أمور
الأول سلامة الحاسة ولذلك تختلف مراتب الإبصار بحسب اختلاف سلامة الإبصار
وتنتفي بانتفائها
195

والثاني كون الشيء جائز الرؤية مع حضوره للحاسة بأن تكون الحاسة متلفتة إليه
ولم يعرض هناك ما يضاد الإدراك كالنوم والغفلة والتوجه إلى شيء آخر
والثالث مقابلته للباصرة في جهة من الجهات أو كونه في حكم المقابلة كما في المرئي بالمرآة
والرابع عدم غاية الصغر فإن الصغير جدا لا يدركه البصر قطعا
والخامس عدم غاية اللطافة بأن يكون كثيفا
أي ذا لون في الجملة وإن كان ضعيفا
والسادس عدم غاية البعد وهو مختلف بحسب قوة الباصرة وضعفها
والسابع عدم غاية القرب
فإن المبصر إذا التصق بسطح البصر
بطل إدراكه بالكلية
والثامن عدم الحجاب الحائل وهو الجسم الملون المتوسط بينهما
وهناك شرط تاسع هو أن يكون مضيئا بذاته أو بغيره
ولم يذكره ههنا لكونه مذكورا في بحث الكيفيات المبصرة مع أنه يمكن إدراجه في حضوره للحاسة المعتبرة في الشرط الثاني
ثم لا نعقل من هذه الشرائط في حق رؤية الله تعالى إلا سلامة الحاسة وصحة الرؤية لكون الست البواقي منها مختصة بالأجسام
وهما أي الشرطان المعقولان في رؤيته حاصلان الآن فوجب حصول رؤيته
والجواب عن هذه الشبهة
أما أولا فهو أنا لا نسلم وجوب الرؤية عند اجتماع الشروط الثمانية وذلك لأن دليلكم وإن دل عليه لكن عندنا ما ينفيه لأنا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا
وما ذلك إلا لأنا نرى بعض
196

أجزائه دون البعض مع تساوي الكل في حصول الشرائط فظهر أنه لا تجب الرؤية عند اجتماعها
لا يقال يتصل بطرفي المرئي من العين خطان شعاعيان كساقي مثلث قاعدته سطح المرئي ويخرج منها أي من العين إلى وسطه خط قائم عليه أي على سطحه يقسم ذلك الخط المثلث المذكور إلى مثلثين قائمي الزاوية الواقعة على جنبتي الخط القائم فيكون الخط الوسط وترا لكل واحدة من الزاويتين الحادتين
وكل من الطرفين وترا لزاوية قائمة
ووتر القائمة في المثلث أطول من وتر الحادة
فلم تكن أجزاء المرئي متساوية في القرب والبعد بالنسبة إلى الرائي بل يكون وسط المرئي أقرب إليه من طرفيه
فجاز أن يرى الوسط وحده بدون الطرفين لأنا نقول نفرض هذا التفاوت الذي ذكرتموه في هذه الخطوط ذراعا
فلو كان عدم رؤية الطرفين لأجل البعد
فإذا فرض أنه بعد المرئي يقدر ذلك البعد الذي لطرفيه وجب أن لا يرى أصلا
وإذا يرى
فهذا البعد لا أثر له في عدم الرؤية فتكون الأجزاء كلها مع ذلك التفاوت متساوية في حصول شرائط الرؤية وبعضها غير مرئي فلا تجب الرؤية مع حصولها
قال بعض الفضلاء أي صاحب اللباب معترضا على هذه المعارضة لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا
وإنما يلزم ذلك أن لو كانت رؤيته صغيرا وكبيرا بحسب رؤية الأجزاء وعدمها
وهو ممنوع
فلعل رؤيته صغيرا وكبيرا تختلف بضيق الزاوية الحاصلة في الناظر من الخطين المتصلين منه بطرفي المرئي وسعتها فإن القائلين بالانطباع ذهبوا إلى أن صورة المرئي
197

إنما ترتسم من الرطوبة الجليدية في زاوية رأس مخروط متوهم قاعدته عند المرئي
وأن اختلافه بالصغر والكبر في الرؤية إنما هو بحسب ضيق تلك الزاوية وسعتها
ولهذا إذا قرب المرئي في الغاية أو بعد في الغاية صارت الزاوية لسعتها في الغاية حال القرب أو لضيقها في الغاية حال البعد كالمعدوم فانعدمت الرؤية حينئذ لعدم انطباع الصورة
قال المصنف وضعفه ظاهر بناء على تركب الأجزاء التي لا تتجزأ إذ على هذا التقدير إن رأى الأجزاء كلها وجب أن يرى الجسم كما هو في الواقع سواء كان قريبا أو بعيدا
وذلك لأن الرؤية كل منها أو بعضها أصغر مما هو عليه توجب الانقسام فيما لا يتجزأ لثبوت ما هو أصغر منه ورؤيته أي رؤية كل من الأجزاء أكبر مما هو عليه بمثل أو بأزيد منه توجب أن لا يرى إلا ضعفا أو أكبر من ذلك
وهو باطل قطعا ورؤيته أكبر بأقل من مثل توجب الانقسام ورؤية بعضها على ما هو عليه بعضها أكبر بمثل توجب ترجيحا بلا مرجح
فوجب أن يرى الكل على حاله فلا تفاوت حينئذ بالصغر والكبر
فتعين أن يكون التفاوت بحسب رؤية بعض دون بعض
فتمت معارضتنا لدليلهم على وجوب الرؤية عند اجتماع شرائطها ثم نقول قوله إن لم يجد حصول الرؤية عند اجتماعها يلزم تجويز جبال شاهقة بحضرتنا لا نراها وهو سفسطة
قلنا هذا معارض أي منقوض بجملة العاديات فإن الأمور العادية تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها
ولا سفسطة ههنا
فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها
فإنا نجوز وجودها ونجزم بعدمها
وذلك لأن الجواز لا يستلزم الوقوع ولا ينافي الجزم بعدمه فمجرد تجويزها لا يكون سفسطة
ثم نقول إن كان مأخذ الجزم بعدم الجبل المذكور ما ذكرتم من وجوب الرؤية عند اجتماع شرائطها لوجب أن لا نجزم به إلا بعد العلم بهذا
واللازم باطل لأنه يجزم به من
198

لا يخطر بباله هذه المسألة
ولأنه ينجر إلى أن يكون ذلك الجزم نظريا مع اتفاق الكل على كونه ضروريا
وأما ثانيا فهو أنا سلمنا الوجوب أي وجوب الرؤية في الشاهد عند حصول تلك الشرائط ولكنا نقول لم يجب أي لماذا يجب وجوب الرؤية في الغائب عند حصولها إذ ماهية الرؤية في الغائب غير ماهية الرؤية في الشاهد فجاز اختلافهما في اللوازم والشرائط كما يشترط في الشاهد الشروط الستة دون الغائب
وحينئذ جاز أن تجب رؤية الشاهد عند اجتماعها دون رؤية الغائب
الثانية من تلك الشبه شبهة المقابلة
وهي أن شرط الرؤية كما علم بالضرورة من التجربة المقابلة أو ما في حكمها نحو المرئي في المرآة
وأنها أي المقابلة مستحيلة في حق الله تعالى لتنزهه عن المكان والجهة
والجواب منع الاشتراط إما مطلقا كما مر من أن الأشاعرة جوزوا رؤية ما لا يكون مقابلا ولا في حكمه بل جوزوا رؤية أعمى الصين بقة أندلس
أو في الغائب لاختلاف الرؤيتين في الحقيقة فجاز أن لا يشترط في رؤيته المقابلة المشروطة في رؤية الشاهد
وتحقيقه على ما في اللباب أن المراد من الرؤية انكشاف نسبته إلى ذاته المخصوصة كنسبة الانكشاف المسمى بالإبصار إلى سائر المبصرات
والانكشاف على وفق المكشوف في الاختصاص بجهة وحيز وفي عدمه
الثالثة منها شبهة الانطباع
وهي أن الرؤية انطباع صورة المرئي في الحاسة
وهو على الله تعالى محال إذ لا يتصور له صورة تنطبع في حاسة
والجواب مثل ما مر وهو أن نمنع كون الرؤية بالانطباع إما مطلقا أو في الغائب لاختلاف الرؤيتين
وأما الشبه السمعية فأربع لا ست كما وقع في بعض النسخ
الأولى قوله تعالى * (لا تدركه الأبصار) * والإدراك المضاف إلى
199

الأبصار إنما هو الرؤية
فمعنى قولك أدركته ببصري معنى رأيته لا فرق إلا في اللفظ أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر فلا يجوز رؤيته وما أدركته ببصري ولا عكسه
فالآية نفت أن تراه الأبصار
وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة في جميع الأوقات لأن قولك فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لما ذكرنا
ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى فإنه ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته
وإنما قلنا من الصفات احترازا عن الأفعال كالعفو والانتقام
فإن الأول فضل والثاني عدل
وكلاهما كمال
والجواب أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه
الأول أن الإدراك هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي إذ حقيقته النيل والوصول
و * (إنا لمدركون) * أي ملحقون
وأدركت الثمرة
أي وصلت إلى حد النضج
وأدرك الغلام
أي بلغ ثم نقل إلى الرؤية المحيطة لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة
والرؤية المتكيفة بكيفية الإحاطة أخص مطلقا من الرؤية المطلقة
فلا يلزم من نفيها أي نفي المحيطة عن الباري سبحانه وتعالى لامتناع الإحاطة نفيها أي نفي المطلقة عنه
قوله لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر
قلنا ممنوع بل يصح أن يقال رأيته وما أدركه بصري
أي لم يحط به من جوانبه
وإن لم يصح عكسه
الثاني من وجوه الجواب أن تدركه الأبصار موجبة كلية لأن موضوعها جمع محلي باللام الاستغراقية وقد دخل عليها النفي فرفعها ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية
وبالجملة فيحتمل قوله " لا تدركه
200

الأبصار) إسناد النفي إلى الكل بأن يلاحظ أولا دخول النفي ثم ورود العموم عليه فيكون سالبة كلية
ونفي الإسناد إلى الكل بأن يعتبر العموم أولا ثم ورود النفي عليه فيكون سالبة جزئية
ومع احتمال المعنى الثاني لم يبق فيه حجة لكم علينا لأن أبصار الكفار لا تدركه إجماعا
هذا ما نقوله لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق وإلا عكسنا القضية وقلنا لا تدركه الأبصار سالبة مهملة في قوة الجزئية
فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار
وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض
فالآية حجة لنا لا علينا
الثالث من تلك الوجوه أنها أي الآية وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام فإنها لا تعم في الأزمان فإنها سالبة مطلقة لا دائمة ونحن نقول بموجبة حيث لا يرى في الدنيا
الرابع منها أن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه لجواز أن يكون ذلك النفي المذكور في الآية نفيا للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعا كما هو العادة فلا يلزم نفي الرؤية بالجارحة مطلقا
وأما عن الوجه الثاني أي وأما الجواب عن الوجه الثاني من وجهي الاستدلال بالآية وهو قوله تمدح الباري بأنه لا يرى فنقول هذا مدعاكم فأين الدليل عليه
وإذا ثبت أن سياق الكلام يقتضي أنه تمدح لم يكن لكم فيه دليل على امتناع رؤيته بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح بنفيها عنه إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى
201

حيث لم يكن له ذلك
وإنما المدح فيه أي في عدم الرؤية للممتنع المتعزز بحجاب الكبرياء كما في الشاهد
الثانية من الشبه السمعية أنه تعالى ما ذكر سؤال الرؤية في موضع من كتابه إلا وقد استعظمه
وذلك في ثلاث آيات
الأولى * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) *
ولو كانت الرؤية ممكنة لما كان طالبها عاتيا أي مجاوزا للحد مستكبرا رافعا نفسه إلى مرتبة لا يليق بها بل كان ذلك نازلا منزلة طلب سائر المعجزات
الآية الثانية * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * أي عيانا * (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) *
ولو أمكنت الرؤية لما عاقبهم بسؤالها في الحال
الآية الثالثة * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) * سمى الله ذلك السؤال ظلما وجازاهم به في الحال بأخذ الصاعقة ولو جاز كونه مرئيا لكان سؤالهم هذا سؤالا لمعجزة زائدة ولم يكن ظلما ولا سببا للعقاب
والجواب أن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا
ولهذا استعظم إنزال الملائكة في الآية الأولى واستكبروا إنزال الكتاب في الآية الثالثة مع إمكانهما بلا خلاف
ولو كان لأجل الامتناع لمنعهم موسى عن ذلك فعله أي منعه حين طلبوا أمرا ممتنعا وهو أن يجعل لهم إلها إذ قال
202

* (إنكم قوم تجهلون) * ولم يقدم موسى على طلب الرؤية الممتنعة بقولهم وطلبهم وقد مر هذا في المسلك النقلي من مسلكي صحة الرؤية
الثالثة من تلك الشبه قوله تعالى لموسى * (لن تراني) *
ولن للتأبيد
وإذا لم يره موسى أبدا لم يره غيره إجماعا
والجواب منع كون لن للتأبيد
بل هو للنفي المؤكد في المستقبل فقط كقوله تعالى * (ولن يتمنوه) * أي الموت أبدا
ولا شك أنهم يتمنوه في الآخرة للتخلص من العقوبة
الرابعة منها قوله تعالى * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) * حصر تكليمه للبشر في الوحي إلى الرسل وتكليمه لهم من وراء حجاب وإرساله إياهم إلى الأمم ليكلمهم على ألسنتهم
وإذ لم يره من يكلمه في وقت الكلام لم يره في غيره إجماعا وإذا لم يره هو أصلا لم يره غيره أيضا
إذ لا قائل بالفرق
والجواب إن التكليم وحيا قد يكون حال الرؤية فإن الوحي كلام يسمع بسرعة
وماذا فيه من الدليل على نفي الرؤية
تذنيب الكرامية والمجسمة وافقونا في الرؤية وخالفونا في الكيفية
فعندنا أن الرؤية تكون من غير مواجهة ولا مقابلة ولا ما في حكمها إذ يمتنع ذلك في الموجود المنزه عن الجهة والمكان
وهم يدعون الضرورة في أن ما لا يكون في جهة قدام الرائي ولا مقابلا له أو في حكم المقابل لا يرى موافقين في ذلك للمعتزلة ومخالفين لهم في أصل الرؤية
والجواب أنا نمنع الضرورة
وما ذلك أي ادعاء الضرورة منهم
203

ههنا إلا كدعوى الضرورة في أن كل موجود فإنه في جهة وحيز
وما أوليس
في حيز وجهة فإنه أوليس
بموجود
ولعل هذا الادعاء فرعه
أي فرع ذلك الادعاء
وقد وافقنا الحكماء والمعتزلة على أن حصر الموجود فيما ذكر حكم وهمي مما أوليس
بمحسوس فيكون باطلا
فكذا الضرورة التي ادعاها الكرامية والمجسمة في الرؤية
المقصد الثاني
المتن في العلم بحقيقة الله
والكلام في الوقوع والجواز
وفيه مقامان
المقام الأول إن حقيقة الله تعالى غير معلومة للبشر
وعليه جمهور المحققين
وقد خالف فيه كثير من المتكلمين
لنا وجهان
الأول المعلوم منه أعراض عامة كالوجود
أو سلوب ككونه واجبا أزليا أبديا أوليس
بجوهر
ولا في مكان أو إضافات ككونه خالقا قادرا عالما
ولا شك أن العلم بهذه الصفات لا يوجب العلم بالحقيقة المخصوصة
بل على أن ثمة حقيقة مخصوصة متميزة في نفسها عن سائر الحقائق
وأما عين تلك الحقيقة فلا
كما لا يلزم من علمنا بصدور الأثر الخاص عن المغناطيس العلم بحقيقته المعينة
بل بأن حقيقته مغايرة لسائر الحقائق
الثاني أن كل ما يعلم منه لا يمنع تصوره الشركة فيه
ولذلك يحتاج في نفيه عن الغير
وهو التوحيد
إلى الدليل
وذاته المخصوصة يمنع تصوره من الشركة
فليس المعلوم ذاته المخصوصة
وعكسه هو المطلوب
204

احتج الخصم بأنه لو لم يكن متصورا لامتنع الحكم عليها بأنها غير متصورة
وبالصفات
والجواب ظاهر
المقام الثاني الجواز
وفي جواز العلم بحقيقة الله تعالى خلاف منعه الفلاسفة لأن المعقول إما بالبديهة وإما بالنظر
والنظر إما في الرسم ولا يفيد الحقيقة وإما في الحد
ولا يمكن تحديدها لعدم التركب فيها لما مر
فلا يمكن العلم بها
والجواب منع حصر المدرك في البديهة والحد لجواز خلق الله تعالى علما متعلقا بما أوليس
ضروريا في شخص بلا سابقة نظر كما سبق أن النظري قد ينقلب ضروريا
وأيضا فالرسم وإن لم يجب أن يفيد الحقيقة فلا يمتنع أن يفيدها
الشرح
المقصد الثاني في العلم بحقيقة الله
والكلام في الوقوع والجواز
وفيه مقامان
المقام الأول الوقوع
إن حقيقة الله تعالى غير معلومة للبشر وعليه جمهور المحققين من الفرق الإسلامية وغيرهم
وقد خالف فيه كثير من المتكلمين من أصحابنا والمعتزلة لنا وجهان
الأول إن المعلوم منه أعراض عامة كالوجود أو سلوب ككونه واجبا لا يقبل العدم أزليا لا يسبقه عدم أبديا لا يلحقه عدم ليس
205

بجوهر
ولا في مكان أو إضافات ككونه خالقا قادرا عالما فإن هذه الصفات كلها إضافات لأن الإضافة تطلق على النسبة المتكررة وعلى معروضها
قال الآمدي كل ما ندركه منه صفات خارجة عن ذاته كصفات النفس من العلم والقدرة وغيرهما
والصفات الإضافية ككونه خالقا ومبدأ والصفات السلبية
ولا شك أن العلم بهذه الصفات لا يوجب العلم بالحقيقة المخصوصة ما هي في حد ذاتها بل تدل هذه الصفات على أن ثمة حقيقة مخصوصة متميزة في نفسها عن سائر الحقائق
وأما عين تلك الحقيقة الموصوفة المتميزة فلا تدل هي عليها ولا يوجب العلم بخصوصيتها كما لا يلزم من علمنا بصدور الأثر الخاص أعني جذب الحديد عن المغناطيس العلم بحقيقته المعينة بل بأن حقيقته حقيقة مخصوصة مغايرة لسائر الحقائق ممتازة عنها في حد نفسها
الثاني أن كل ما يعلم منه من كونه موجودا وعالما وقادرا ومريدا وخالقا إلى غير ذلك لا يمنع تصوره الشركة فيه
ولذلك يحتاج في نفيه أي نفي ما يعلم منه من صفات الألوهية عن الغير وهو التوحيد إلى الدليل وذاته المخصوصة بمنع تصوره من الشركة لأن الموجودات الشخصية كذلك فليس المعلوم ذاته المخصوصة
وعكسه أعني قولنا أوليس
ذاته المخصوصة بالمعلوم هو المطلوب
احتج الخصم بأنه لو لم يكن ذاته متصور معلوما لامتنع الحكم عليها بأنها غير متصورة
وامتنع الحكم عليها بالصفات الأخر
والجواب ظاهر وهو أن التصديق لا يتوقف على التصور بالكنه بل بوجه ما
المقام الثاني الجواز
وفي جواز العلم بحقيقة الله تعالى خلاف منعه الفلاسفة وبعض أصحابنا كالغزالي وإمام الحرمين
ومنهم من توقف كالقاضي أبي بكر وضرار بن عمرو
وكلام الصوفية في الأكثر مشعر
206

بالامتناع
وإنما منعه الفلاسفة لأن المعقول إما بالبديهة
وحقيقته ليست بديهية
وإما بالنظر
والنظر إما في الرسم
وهو لا يفيد الحقيقة
وإما في الحد فإذن لا نعلم الحقيقة إلا بالبديهة أو بالحد
وحقيقته تعالى ليست بديهية ولا يمكن تحديدها لعدم التركيب فيها لما مر فلا يمكن العلم بها
والجواب منع حصر المدرك بالكنه في البديهية والحد والرسم لجواز خلق الله تعالى علما متعلقا بما أوليس
ضروريا بالقياس إلى عموم الناس في شخص بلا سابقة نظر كما سبق من أن النظري قد ينقلب ضروريا لبعض الأشخاص
وأيضا فالرسم وإن لم يجب أن يفيد الحقيقة فلا يمتنع أن يفيدها
207

المرصد السادس في أفعاله تعالى
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن في أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها
وقالت المعتزلة بقدرة العبد وحدها
وقالت طائفة بالقدرتين فقال الأستاذ بمجموع القدرتين على أن يتعلقا جميعا بالفعل
وقال القاضي على أن تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بكونه طاعة ومعصية كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء
وقالت الحكماء وإمام الحرمين بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد
208

والضابط أن المؤثر إما قدرة الله أو قدرة العبد أو هما مع اتحاد المتعلقين أو دونه
وحينئذ فإما مع كون إحداهما متعلقة للأخرى
وليس قدرة الله متعلقة لقدرة العبد وإما بدون ذلك
لنا وجوه
الأول إن فعل العبد ممكن
وكل ممكن مقدور الله تعالى لما مر من شمول قدرته
ولا شيء مما هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد لما مر
الثاني لو كان العبد موجدا لأفعاله لوجب أن يعلم تفاصيلها
واللازم باطل
أما الشرطية فلأن الأزيد والأنقص مما أتى به ممكن
فوقوع المعين منه دونهما لأجل القصد والاختيار مشروط بالعلم به
وأما الاستثنائية فلأن النائم قد يفعل ولا يشعر بكمية ذلك الفعل وكيفيته
ولأن أكثر المتكلمين يثبتون الجوهر الفرد
فيكون البطء لتخلل السكنات
والمتحرك منا لا يشعر بالسكنات المتخللة بين حركاته البطيئة بالضرورة
ولأن الواقع بقدرة العبد عند الجبائي الحركة
وهي صفة توجب المتحركية مع أن أكثر العقلاء لا يتصورون تلك الصفة
وهذان لا يلزمان أبا الحسين حيث يتوقف في الجوهر الفرد وينفي تلك الصفة
ولأن المحرك منا لإصبعه محرك لأجزائها
ولا شعور له بها فكيف يعرف حركتها
الثالث إن العبد لو كان موجدا لفعله فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه
ويتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح
وذلك المرجح لا يكون منه
وإلا لزم التسلسل ويكون الفعل عنده واجبا وإلا لم يكن الموجود تمام المرجح فيكون اضطراريا
وأورد عليه أن هذا ينفي كون الله تعالى مختارا لإمكان إقامة الدلالة بعينها فيه
وأجيب بالفرق بأن إرادة العبد محدثة فافتقرت إلى إرادة يخلقها الله فيه دفعا للتسلسل وإرادة الله تعالى قديمة فلا
209

تفتقر إلى إرادة أخرى
ورد هذا الجواب بأنه لا يدفع التقسيم المذكور والفرق في المدلول مع الاشتراك في الدليل على بطلان الدليل
وفيه نظر فإن مآله إلى تخصيص المرجح في قولنا ترجيح فعله يحتاج إلى مرجح بالمرجح الحادث
ويتم الجواب
وأما استلزام ذلك لوجوب الفعل منه فقد عرفت جوابه
واعلم أن هذا الاستدلال إنما يصلح إلزاما للمعتزلة القائلين بوجوب المرجح في الفعل الاختياري
وإلا فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرد تعلق الاختيار بأحد طرفي المقدور
فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجح كونه اتفاقيا
وحديث الترجيح بلا مرجح قد تكرر مرارا بما أغنانا عن إعادته
والمعتزلة صاروا فريقين
فأبو الحسين ومن تبعه يدعي في إيجاد العبد لفعله الضرورة
وذلك أن كل أحد يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش والصاعد إلى المنارة والهاوي منها
ويجعل إنكاره سفسطة
والجواب إن الفرق عائد إلى وجود القدرة وعدمها لا إلى تأثيرها وعدمه
وذلك أنه لا يلزم من دوران الشيء مع غيره وجوب الدوران
ولا يلزم من وجوب الدوران العلية ولا من العلية الاستقلال بالعلية ثم يبطل ما قاله أمران
الأول إن من كان قبله بين منكرين لإيجاد العبد فعله ومعترفين به مثبتين له بالدليل
فالموافق والمخالف له اتفقوا على نفي الضرورة
فكيف يسمع منه نسبة كل العقلاء إلى إنكار الضرورة
الثاني إن كل سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه علم أن إرادته للشيء لا تتوقف على إرادته لتلك الإرادة
وأنه مع الإرادة الجازمة يحصل المراد
210

وبدونها لا يحصل
ويلزم منها أنه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عقيبها منه فكيف يدعي الضرورة في خلافه
قال الإمام في نهاية العقول والعجب من أبي الحسين أنه خالف أصحابه في قولهم القادر على الضدين لا يتوقف فعله لأحدهما دون الآخر على مرجح
وزعم أن العلم بتوقف ذلك على الداعي ضروري وزعم أن حصول الفعل عقيب الداعي واجب
ولزمه للاعتراف بهاتين المقدمتين عدم كون العبد موجدا لفعله
ثم بالغ في كون العبد موجدا وزاد على كل من تقدمه حتى ادعى العلم الضروري بذلك
قال وعندي أن أبا الحسين ما كان ممن لا يعلم أن القول بتينك المقدمتين يبطل مذهب الاعتزال لكنه لما أبطل الأصول التي عليه مدار الاعتزال خاف من تنبه أصحابه لرجوعه عن مذهبهم
فليس الأمر عليهم في ادعاء العلم الضروري بذلك
وإلا فهذا التناقض أظهر من أي يخفى على المبتدي فضلا عمن بلغ درجة أبي الحسين في التحقيق والتدقيق
لا يقال الاعتراف بتوقف صدور الفعل عن القادر الداعي ووجوب حصوله عند حصوله لا ينافي القول بأن القدرة الحادثة مؤثرة في حدوث الفعل وإنما ينافي استقلاله بالفاعلية
وهو إنما ادعى العلم الضروري في الأول لا في الثاني لأنا نقول غرضنا سلب الاستقلال كما هو مذهب الأستاذ وإمام الحرمين
فإن كان أبو الحسين ساعدنا عليه فمرحبا بالوفاق
ولكن يلزم بطلان مذهب الاعتزال بالكلية
إذ لا فرق في العقل بين أن يأمر الله بأن يفعله وبما يجب عند فعله ويمتنع عند عدمه
فإن المأمور على كلا التقديرين غير متمكن من الفعل
211

وأما غيره فيستدل عليه بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد وهو أنه لولا استقلال العبد بالفعل لبطل التكليف والتأديب وارتفع المدح والذم والثواب والعقاب ولم يبق للبعثة فائدة
والجواب إن المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية كما يمدح الشيء ويذم بحسنه وقبحه وسلامته وعاهته
وأما الثواب والعقاب فكسائر العاديات
وكما لا يصح عندنا أن يقال لم خلق الله الاحتراق عقيب مسيس النار ولم لم يحصل ابتداء فكذا ههنا
وأما التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فإنها قد تكون دواعي إلى الفعل فيخلق الله الفعل عقيبها عادة
وباعتبار ذلك يصير الفعل طاعة ومعصية
وعلامة للثواب والعقاب
ثم إن هذا إن لزم فهو لازم لهم أيضا لوجوه
الأول إن ما علم الله عدمه فهو ممتنع الصدور عن العبد
وما علم الله وجوده فهو واجب الصدور عن العبد ولا مخرج عنهما
وأنه يبطل الاختيار
الثاني ما أراد الله وجوده وقع قطعا
وما أراد عدمه لم يقع قطعا
الثالث الفعل عند استواء الداعي إلى الفعل والترك يمتنع
وعند رجحان أحدهما يجب الراجح ويمتنع الآخر
الرابع إيمان أبي لهب مأمور به وهو ممتنع لأنه تعالى أخبرنا بأنه لا يؤمن
والإيمان تصديق الرسول فيما علم مجيئه به فيكون مأمورا بأن
212

يؤمن بأنه لا يؤمن
ويصدق بأنه لا يصدق
وهو تصديق بما علم من نفسه خلافه ضرورة
وأنه محال
الخامس التكليف واقع بمعرفة الله
فإن كان ذلك في حال حصول المعرفة فهو تكليف بتحصيل الحاصل وأنه محال
وإن كان في حال عدمها فغير العارف بالمكلف وصفاته المحتاج إليها في صحة التكليف منه غافل عن التكليف
وتكليف الغافل تكليف بالمحال
وربما احتج الخصم بظواهر آيات تشعر بمقصوده
وهي أنواع
الأول ما فيه إضافة الفعل إلى العبد نحو * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) * * (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) *
الثاني ما فيه مدح وذم ووعد ووعيد وهو أكثر من أن يحصى
الثالث الآيات الدالة على أن أفعال الله تعالى منزهة عما يتصف به فعل العبد من تفاوت واختلاف وقبح وظلم
الرابع تعليق أفعال العباد بمشيئتهم نحو * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) *
الخامس الأمر بالاستعانة نحو * (وإياك نستعين) * * (استعينوا) *
السادس اعتراف الأنبياء بذنبهم
السابع ما يوجد من الكفار والفسقة من التحسر وطلب الرجعة نحو
213

" أرجعوني لعلي أعمل صالحا " * (لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) *
الجواب أن هذه الآيات معارضة بالآيات الدالة على أن جميع الأفعال بقضاء الله وقدره نحو * (والله خلقكم وما تعملون) * " خالق كل شيء " " فعال لما يريد " وهو يريد الإيمان فكون فعالا له
وكذا الكفر إذ لا قائل بالفصل
وبالآيات المصرحة بالهداية والإضلال والختم
وأنت تعلم أن الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها ووجب الرجوع إلى غيرها
الشرح
المرصد السادس في أفعاله تعالى
وفيه مقاصد
المقصد الأول في أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا
فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد
والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له
وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري
وقالت المعتزلة أي أكثرهم هي واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار
214

وقالت طائفة هو واقعة بالقدرتين معا
ثم اختلفوا فقال الأستاذ بمجموع القدرتين على أن يتعلقا جميعا بالفعل نفسه
وجوز اجتماع المؤثرين على أثر واحد
وقال القاضي على أن تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته
أعني بكونه طاعة ومعصية إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا توصف بها أفعاله تعالى كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله وتأثيره وكونه طاعة على الأول ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره
وقالت الحكماء وإمام الحرمين هي واقعة على سبيل الوجوب وامتناع التخلف بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد إذا قارنت حصول الشرائط وارتفاع الموانع
والضابط في هذا المقام أن المؤثر إما قدرة الله أو قدرة العبد على الانفراد كمذهبي الشيخ وجمهور المعتزلة
أو هما معا
ذلك إما مع اتحاد المتعلقين كمذهب الأستاذ منا والنجار من المعتزلة أو دونه أي دون الاتحاد
وحينئذ فإما مع كون إحديهما أي إحدى القدرتين متعلقة للأخرى
ولا شبهة في أنه أوليس
قدرة الله متعلقة لقدرة العبد إذ يستحيل تأثير الحادث في القديم فتعين العكس وهو أن تكون قدرة العبد صادرة عن قدرة الله تعالى وموجبة للفعل
وهو قول الإمام والفلاسفة
وإما بدون ذلك أي بدون أن تكون إحداهما متعلقة للأخرى
وهو مذهب القاضي لأن المفروض عدم اتحاد المتعلقتين
فإن قيل جاز أن يكون عكس مذهبه وهو أن أصل الفعل بقدرة العبد وصفته بقدرة الله
قلنا لم يقل به أحد
والمقصود ضبط المذاهب دون الاحتمالات العقلية
لنا على أن الفعل الاختياري للعبد واقع بقدرة الله تعالى لا بقدرته وجوه
215

الأول إن فعل العبد ممكن في نفسه
وكل ممكن مقدور لله تعالى لما مر من شمول قدرته للممكنات بأسرها
وقد مر مخالفة الناس من المعتزلة والفرق الخارجة عن الإسلام في أن كل ممكن مقدور لله تعالى على تفاصيل مذاهبهم وإبطالها في بحث قادرية الله تعالى
ولا شيء مما هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد لما مر
الوجه الثاني لو كان العبد موجدا لأفعاله بالاختيار والاستقلال لوجب أن يعلم تفاصيلها
واللازم باطل
أما الشرطية أي الملازمة فلأن الأزيد والأنقص مما أتى به ممكن منه إذ كل فعل من أفعاله يمكن وقوعه منه على وجوه متفاوتة بالزيادة والنقصان فوقوع ذلك المعين منه دونهما لأجل القصد إليه بخصوصه
والاختيار المتعلق به وحده مشروط بالعلم به كما تشهد به البديهة
فتفاصيل الأفعال الصادرة عنه باختياره لا بد أن تكون مقصودة معلومة له
وأما الاستثنائية أي بطلان اللازم فلأن النائم وكذا الساهي قد يفعل باختياره كانقلابه من جنب إلى جنب ولا يشعر بكمية ذلك الفعل وكيفيته
واعترض عليه بأنه يجوز أن يشعر بالتفاصيل ولا يشعر بذلك الشعور أو لا يدوم له الشعور الثاني
ولأن أكثر المتكلمين يثبتون الجوهر الفرد وتركب الجسم منه فيكون البطء في الحركات لتخلل السكنات والمتحرك منا باختياره لا يشعر بالسكنات المتخللة بين حركاته البطيئة بالضرورة
ولأن الواقع بقدرة العبد عند الجبائي وابنه
216

الحركة
وهي صفة توجب المتحركية مع أن أكثر العقلاء لا يتصورون تلك الصفة
وهذان الوجهان أي الثاني والثالث المذكوران في إبطال اللازم لا يلزمان أبا الحسين حيث يتوقف في الجوهر الفرد وينفي تلك الصفة
ولأن المحرك منا لإصبعه محرك لأجزائها لا محالة ولا شعور له بها
فكيف يتوهم أنه يعرف حركتها ويقصدها
الوجه الثالث إن العبد لو كان موجدا لفعله بقدرته واختياره استقلالا فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه
وإلا لم يكن قادرا عليه مستقلا فيه
وأن يتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح إذ لو لم يتوقف عليه كان صدور الفعل عنه مع جواز طرفيه وتساويهما اتفاقيا لا اختياريا
ويلزم أيضا أن لا يحتاج وقوع أحد الجائزين إلى سبب فينسد باب إثبات الصانع وذلك المرجح لا يكون منه أي من العبد باختياره وإلا لزم التسلسل لأنا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجح عنه
ويكون الفعل عنده أي عند ذلك المرجح واجبا أي واجب الصدور عنه بحيث يمتنع تخلفه عنه
وإلا لم يكن الموجود أي ذلك المرجح المفروض تمام المرجح لأنه إذا لم يجب منه الفعل حينئذ جاز أن يوجد معه الفعل تارة ويعدم أخرى مع وجود ذلك المرجح فيهما فتخصيص أحد الوقتين بوجوده يحتاج إلى مرجح لما عرفت
فلا يكون ما فرضناه مرجحا مرجحا تاما
هذا خلف
وإذا كان الفعل مع المرجح الذي أوليس
منه واجب الصدور عنه فيكون ذلك الفعل اضطراريا لازما لا اختياريا بطريق الاستقلال كما زعموه
وأورد عليه أن هذا ينفي كون الله تعالى قادرا مختارا لإمكان إقامة الدلالة بعينها فيه
ويقال لو كان موجدا لفعله بالقدرة استقلالا فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه وأن يتوقف فعله على مرجح إلى آخر ما مر تقريره
فالدليل منقوض بالواجب تعالى
217

وأجيب عن ذلك بالفرق بأن إرادة العبد محدثة أي الفعل يتوقف على مرجح هي الإرادة الجازمة
لكن إرادة العبد محدثة فافتقرت أن تنتهي إلى إرادة يخلقها الله فيه بلا إرادة واختيار منه دفعا للتسلسل في الإرادة التي تفرض صدورها عنه
وإرادة الله تعالى قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى
ورد في اللباب هذا الجواب الذي ذكر في الأربعين بأنه لا يدفع التقسيم المذكور إذ يقال إن لم يمكن الترك مع الإرادة القديمة كان موجبا لا قادرا مختارا
وإن أمكن فإن لم يتوقف فعله على مرجح كان اتفاقيا واقعا بلا سبب واستغنى أيضا الجائز عن المرجح
وإن توقف عليه
كان الفعل معه واجبا فيكون اضطراريا
والفرق الذي ذكرتموه في المدلول مع الاشتراك في الدليل دليل على بطلان الدليل وإنما يندفع النقض إذا بين عدم جريان الدليل في صورة التخلف وفيه أي في هذا الرد نظر
فإن مآله أي مآل ما ذكر من الفرق بين إرادة العبد وإرادة الباري إلى تخصيص المرجح في قولنا ترجح فعله يحتاج إلى مرجح بالمرجح الحادث فإن المرجح القديم المتعلق بالفعل الحادث في وقت لا يحتاج إلى مرجح آخر فيصير الاستدلال هكذا إن تمكن العبد من الفعل والترك وتوقف الترجيح على مرجح وجب أن لا يكون ذلك المرجح منه
وإلا كان حادثا محتاجا إلى مرجح آخر
ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مرجح قديم لا يكون من العبد ويجب الفعل معه فلا يكون العبد مستقلا فيه
وأما فعل الباري فهو محتاج إلى مرجح قديم يتعلق في الأزل بالفعل الحادث في وقت معين
وذلك المرجح القديم لا يحتاج إلى مرجح آخر فيكون تعالى مستقلا في الفعل
وحينئذ لا يتجه النقض
ويتم الجواب
ولما كان لقائل أن يقول إذ وجب الفعل مع ذلك المرجح القديم كان موجبا لا مختارا أشار إلى دفعه بقوله وأما استلزام ذلك لوجوب الفعل منه فقد عرفت جوابه وهو أن الوجوب المترتب على
218

الاختيار لا ينافيه بل يحققه
فإن قلت نحن نقول اختيار العبد أيضا يوجب فعله
وهذا الوجوب لا ينافي كونه قادرا مختارا
قلت لا شك أن اختياره حادث
ولس صادرا عنه باختياره وإلا نقلنا الكلام إلى ذلك الاختيار وتسلسل بل عن غيره فلا يكون هو مستقلا في فعله باختياره بخلاف إرادة الباري تعالى فإنها مستندة إلى ذاته
فوجوب الفعل بها لا ينافي استقلاله في القدرة عليه لكن يتجه أن يقال استناد إرادته القديمة إلى ذاته بطريق الإيجاب دون القدرة
فإذ وجب الفعل بما أوليس
اختياريا له تطرق إليه شائبة الإيجاب
واعلم أن هذا الاستدلال أي الوجه الثالث إنما يصلح إلزاما للمعتزلة القائلين بوجوب المرجح في الفعل الاختياري وكون الفعل معه واجبا كأبي الحسين وأتباعه
وإلا فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرد تعلق الاختيار بأحد طرفي المقدور من غير داع إلى ذلك الطرف كما مر
فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجح وداع كونه اتفاقيا واقعا بلا مؤثر
وحديث الترجيح بلا مرجح قد تكرر مرارا بما أغنانا عن إعادته
والمعتزلة القائلون بأن العبد موجد لأفعاله الاختيارية صاروا فريقين
فأبو الحسين ومن تبعه يدعي في إيجاد العبد لفعله الضرورة أي يزعم أن العلم بذلك ضروري لا حاجة به إلى استدلال
وبيان ذلك أن كل أحد يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش والصاعد باختياره إلى المنارة
والهاوي أي الساقط منها
ويعلم أن الأولين من هذين القسمين يستندان إلى دواعيه واختياره
وأنه لولا تلك الدواعي والاختيار لم يصدر عنه شيء منهما بخلاف الأخيرين إذ لا مدخل في شيء منهما لإرادته ودواعيه
ويجعل أبو الحسين إنكاره أي إنكار كون العبد موجدا لأفعاله الاختيارية سفسطة مصادمة للضرورة
والجواب أن الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيار ضروري
219

لكنه عائد إلى وجود القدرة منضمة إلى الاختيار في الأولى
وعدمها في الثانية لا إلى تأثيرها في الاختيارية وعدمه أي عدم تأثيرها في غيرها
وذلك أنه لا يلزم من دوران الشيء كالفعل الاختياري مع غيره كالقدرة والدواعي وجودا وعدما وجوب الدوران لجواز أن يكون الدوران اتفاقيا ولا يلزم أيضا من وجوب الدوران على تقدير ثبوته العلية أي كون المدار علة للدائر ولا من العلية إن سلم ثبوتها الاستقلال بالعلية لجواز أن يكون المدار جزءا أخيرا من العلة المستقلة ثم يبطل ما قاله أبو الحسين أمران
الأول إن من كان قبله من الأمة كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ومعترفين به مثبتين له بالدليل
فالموافق والمخالف له اتفقوا على نفي الضرورة عن هذا المتنازع فيه
أما نفي المخالف فظاهر
وأما نفي الموافق فلاستدلاله عليه فكيف يسمع منه نسبة كل العقلاء إلى إنكار الضرورة فيه
الأمر الثاني إن كل سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه علم أن إرادته للشيء لا تتوقف على إرادته تلك الإرادة بل تحصل له تلك الإرادة سواء أرادها أو لم يردها
وعلم أيضا أنه مع الإرادة الجازمة الجامعة للشرائط وارتفاع الموانع يحصل المراد وبدونها لا يحصل
ويلزم منها أي من المقدمات التي علمها بوجدانه أنه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عقيبها منها
فكيف يدعى الضرورة في خلافه
قال الإمام في نهاية العقول والعجب من أبي الحسين أنه خالف أصحابه في قولهم القادر على الضدين لا يتوقف فعله لأحدهما دون الآخر على مرجح
وزعم أن العلم بتوقف ذلك أي فعله لأحدهما دون الآخر على الداعي إلى أحدهما ضروري
وزعم أن حصول الفعل عقيب الداعي
220

واجب
ولزمه للاعتراف بهاتين المقدمتين عدم كون العبد موجدا لفعله كما هو مذهبنا ثم بالغ في كون العبد موجدا
وزاد على كل من تقدمه حتى ادعى العلم الضروري بذلك
قال الإمام وعندي أن أبا الحسين ما كان ممن لا يعلم أن القول بتينك المقدمتين يبطل مذهب الاعتزال يعني في مسألة خلق الأعمال وما يبتنى عليها
لكنه لما أبطل الأصول التي عليها مدار الاعتزال خاف من تنبه أصحابه لرجوعه عن مذهبهم فليس الأمر عليهم بمبالغته في ادعاء العلم الضروري بذلك
وإلا فهذا التناقض أظهر من أن يخفى على المبتدىء فضلا عمن بلغ درجة أبي الحسين في التحقيق والتدقيق فظهر أنه في هذه المسألة جرى على مذهبنا
لا يقال الاعتراف بتوقف صدور الفعل عن القادر على الداعي ووجوب حصوله عند حصوله لا ينافي القول بأن القدرة الحادثة مؤثرة في وجود الفعل
وإنما ينافي استقلاله بالفاعلية على سبيل التفويض إليه بالكلية
وهو إنما ادعى العلم الضروري في الأول أي التأثير لا في الثاني أي الاستقلال حتى يتجه ما وردتموه عليه لأنا نقول غرضنا في هذا المقام سلب الاستقلال الذي يدعيه أهل الاعتزال كما هو مذهب الأستاذ وإمام الحرمين فإن كان أبو الحسين ساعدنا عليه فمرحبا بالوفاق
ولكن يلزم بطلان مذهب الاعتزال بالكلية إذ لا فرق في العقل بين أن يأمر الله عبده بما يفعله هو بنفسه وبين أن يأمره بما يجب عند فعله ويمتنع عند عدمه
فإن المأمور على كلا التقديرين غير متمكن من الفعل والترك
وأيضا لا فرق بين أن يعذب الله العبد على ما أوجده فيه وبين أن يعذبه على فعل يجب حصوله عندما وجده فيه لأنه لا فرق في العقول بين فاعل القبيح والظلم وبين فاعل ما يوجب القبيح والظلم
فمن اعترف بوجوب حصول الفعل عند حصوله الإرادة الجازمة انسد عليه
221

باب القول بالاعتزال فظهر أن أبا الحسين أنكر الاعتزال في هذه المسألة
وأن تلك المبالغة منه تمويه وتلبيس
انتهى كلامه
وأما غيره أي غير أبي الحسين فيستدل عليه أي على أن العبد موجد لأفعاله بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد وهو أنه لولا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف بالأوامر والنواهي لأن العبد إذا لم يكن موجدا لفعله مستقلا في إيجاده لم يصح عقلا أن يقال له إفعل كذا ولا تفعل كذا
وبطل التأديب الذي ورد به الشرع إذ لا معنى لتأديب من لا يستقل بإيجاد فعله
وارتفع المدح والذم إذ أوليس
الفعل مستند إليه مطلقا حتى يمدح به أو يذم وارتفع الثواب والعقاب الوارد بهما الوعد والوعيد
ولم يبق للبعثة فائدة لأن العباد ليسوا موجودين لأفعالهم فمن أين لهم استحقاق الثواب والعقاب عليها بل هي مخلوقة لله تعالى فيجوز حينئذ أن يعكس فيعاقب الأنبياء وأتباعهم ويثبت الفراعنة وأشياعهم
فلا يتصور منفعة للبعثة أصلا
والجواب منع الملازمات المذكورة
وهو المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية حتى يشترط فيهما الاستقلال بالفعل وذلك كما يمدح الشيء ويذم بحسنه وقبحه وسلامته من الآفة وعاهته فإن ذلك باعتبار أنه محل لها لا مؤثر فيها
وأما الثواب والعقاب المترتبان على الأفعال الاختيارية فكسائر العاديات المترتبة على أسبابها بطريق العادة من غير لزوم عقلي واتجاه سؤال
وكما لا يصح عندنا أن يقال لم خلق الله الاحتراق عقيب مسيس النار ولم لم يحصل ابتداء أو عقيب مماسة الماء فكذا ههنا لا يصح أن يقال لم أثاب عقيب أفعال مخصوصة وعاقب عقيب أفعال أخرى ولم لم يفعلها ابتداء أو لم يعكس فيهما
وأما التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فإنها قد تكون دواعي للعبد إلى الفعل واختياره فيخلق الله الفعل عقيبها عادة
وباعتبار ذلك الاختيار المترتب على الدواعي
222

يصير الفعل طاعة وذلك إذا وافق ما دعاه الشرع إليه ومعصية إذا خالفه
ويصير علامة للثواب والعقاب لا سببا موجبا لاستحقاقهما ثم إن هذا الذي ذكروه إن لزم القائل بعدم استقلاله العبد في أفعاله فهو لازم لهم أيضا لوجوه
الأول إن ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد وإلا جاز انقلاب العلم جهلا
وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد وإلا جاز ذلك الانقلاب
ولا مخرج عنهما لفعل العبد وأنه يبطل الاختيار إذ لا قدرة على الواجب والممتنع فيبطل حينئذ التكليف وأخواته لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم
فما لزمنا في مسألة خلق الأفعال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء
قال الإمام الرازي ولو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا إلا بالتزام مذهب هشام وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها
واعترض عليه بأن العلم تابع للمعلوم على معنى أنهما يتطابقان والأصل في هذه المطابقة هو العلوم ألا يرى أن صورة الفرس مثلا على الجدار إنما كانت على هذه الهيئة المخصوصة لأن الفرس في حد نفسه هكذا
ولا يتصور أن ينعكس الحال بينهما
فالعلم بأن زيدا سيقوم غدا مثلا إنما يتحقق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه دون العكس
فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه وسلب القدرة والاختيار
وإلا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما
الوجه الثاني ما أراد الله وجوده من أفعال العبد وقع قطعا
وما
223

أراد الله عدمه منها لم يقع قطعا فلا قدرة له على شيء منهما أصلا
ويرد عليه أيضا النقض بالباري سبحانه وتعالى
على أن المعتزلة ذاهبون على أن ما أراده الله أو لم يرده من أفعال نفسه كان كذلك بخلاف أفعال غيره
الثالث إن الفعل عند استواء الداعي إلى الفعل والترك يمتنع لأن الرجحان يناقض الاستواء
وعند رجحان أحدهما يجب الراجح ويمتنع الآخر المرجوح
فلا قدرة للعبد على فعله فبطل تكليفه به
ويرد عليه ذلك النقض
وحله أن وجوب الفعل بمجموع القدرة والداعية لا يخرجه عن المقدورية بل يحققها
وكذا امتناعه لعدم الداعي
فإن معنى كونه قادرا أنه إذا حصل له الإرادة الجازمة بواسطة الداعية مع ارتفاع المانع أثر فيه
الرابع إيمان أبي لهب مأمور به أي أمر بأن يؤمن دائما وهو ممتنع لأنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن
والإيمان تصديق الرسول فيما علم مجيئه به ومما جاء به أنه لا يؤمن فيكون هو في حال إيمانه على الاستقرار مأمورا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ويصدق بأنه لا يصدق
وهو أي تصديقه بعد تصديقه مع كونه مصدقا مستمرا تصديق بما علم من نفسه خلافه ضرورة أي إذا كان مصدقا كان عالما بتصديقه علما ضروريا وجدانيا
فلا يمكنه حينئذ التصديق بعدم التصديق لأنه يجد في باطنه خلافه وهو التصديق بل يكون علمه بتصديقه موجبا لتكذيبه في الإخبار بأنه لا يصدق
وأنه أي إيمانه المشتمل على ما ذكر محال لاستلزامه الجمع بل التصديق والتكذيب في حالة واحدة
وإذا كان المكلف به محالا لم يكن للتكليف بإتيانه فائدة
واعترض عليه بأن الإيمان واجب بما علم مجيئه به لا بما جاء به مطلقا سواء علمه المكلف أو لم يعلمه
ولا نسلم أن هذا الخبر مما علم أبو لهب مجيئه به حتى يلزم تصديقه فيه وتلخيصه أن الإيمان هو التصديق
224

الإجمالي
أي كل ما جاء به فهو حق
وليس في هذا التصديق الإجمالي من أبي لهب استحالة
وأما التصديق التفصيلي منه فهو مشروط بعلمه بوجود هذا الخبر ومستلزم للجمع بين النقيضين فهو المحال دون الأول فليتأمل
الخامس التكليف واقع بمعرفة الله تعالى إجماعا فإن كان ذلك التكليف في حال حصول المعرفة فهو تكليف بتحصيل الحاصل وأنه أي تحصيل الحاصل محال فيكون التكليف به ضائعا لا طائل تحته وإن كان في حال عدمها فغير العارف بالمكلف وصفاته المحتاج إليها في صحة التكليف منه وصدوره عنه كالعدم والقدرة والإرادة وغيرها غافل عن التكليف
وتكليف الغافل تكليف بالمحال وعار عن الفائدة
ورد عليه بما مر من أن الغافل من لا يتصور لا من لا يصدق
وبأن التكليف إنما هو للعارف به وبصفاته المذكورة ليعرفه من جهات أخرى كالواحدانية وغيرها من الصفات التي لا تتوقف معرفة التكليف على معرفتها
وربما احتج الخصم على كون العبد موجدا لأفعاله بالظواهر آيات تشعر بمقصوده
وهي أنواع
الأول فيه إضافة الفعل إلى العبد نحو * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) * * (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) *
الثاني ما فيه مدح وذم نحو * (وإبراهيم الذي وفى) * * (كيف تكفرون بالله) * وما فيه وعد ووعيد كقوله * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) * وهو أكثر من أن يحصى
الثالث الآيات الدالة على أن أفعال الله تعالى منزهة عما يتصف به
225

فعل العبد من تفاوت واختلاف وقبح وظلم كقوله تعالى * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * " الذي أحسن كل شيء خلقه " * (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *
الرابع تعليق أفعال العباد بمشيئتهم أي الآيات الدالة عليه نحو * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) *
الخامس الأمر بالاستعانة نحو * (وإياك نستعين) * * (استعينوا بالله) * ولا معنى للاستعانة فيما يوجده الله في العبد فيما يوجده العبد بإعانة من ربه
السادس اعتراف الأنبياء بذنوبهم كقول آدم عليه السلام * (ربنا ظلمنا أنفسنا) *
وقول يونس عليه السلام * (سبحانك إني كنت من الظالمين) *
السابع ما يوجد في الآخرة من الكفار والفسقة من التحسر وطلب الرجعة نحو * (ارجعون لعلي أعمل صالحا) * * (لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) *
الجواب أن هذه الآيات معارضة بالآيات الدالة على أن جميع الأفعال بقضاء الله وقدره وإيجاده وخلقه نحو * (والله خلقكم وما تعملون) * أي عملكم " خالق كل شيء " وعمل العبد شيء " فعال لما يريد "
226

وهو يريد الإيمان إجماعا فيكون فعالا له
وكذا الكفر إذ لا قائل بالفصل
ومعارضة بالآيات المصرحة بالهداية والإضلال والختم نحو * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) * و * (ختم الله على قلوبهم) * وهي محمولة على حقائقها كما هو الظاهر منها
وأنت تعلم أن الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها خصوصا في المسائل اليقينية ووجب الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقلية القطعية
وقد مر منها ما فيه كفاية لإثبات مذهبنا
المقصد الثاني
المتن في التوليد وفروعه
اعلم أن المعتزلة لما أسندوا أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتبا قالوا بالتوليد
وهو أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر نحو حركة اليد والمفتاح
والمعتمد في إبطاله ما بينا من استناد جميع الممكنات إلى الله تعالى ابتداء
وقد يحتج عليه بأنه إذا التصق جسم بكف قادرين وجذبه أحدهما ودفعه الآخر إلى جهته فإن قلنا حركته تولدت من حركة اليد فإما بهما فيلزم مقدورين قادرين
وإما بأحدهما وهو تحكم محض معلوم بطلانه
وهذا لا يلزم ضرارا وحفصا القائلين بعدم التوليد فيما قام بغير محل القدرة
227

والمعتزلة ادعوا الضرورة تارة وجنحوا إلى الاستدلال أخرى
أما الضرورة فقالوا من رام دفع حجر في جهة اندفع إليها بحسب قصده وإرادته
وليس الاندفاع مباشرا بالاتفاق
فهو بواسطة ما باشره من الدفع ويؤيده اختلاف الأفعال باختلاف القدر
فالأيد يقوى على حمل ما لا يقوى على حمله الضعيف
ولو كان واقعا بقدرة الله لجاز تحرك الجبل باعتماد الضعيف النحيف وعدم تحرك الخردلة باعتماد الأيد القوي
وأنه مكابرة
وأما الاحتجاج فلهم فيه وجوه
الأول ورود الأمر والنهي بها كما بالأفعال المباشرة
وذلك كحمل الأثقال في الحروب والمعارف والإيلام
الثاني المدح والذم
الثالث نسبة الفعل إلى العبد دون الله
والجواب بعد ما تقدم في الأفعال المباشرة أنه لم لا يكفي إجراء العادة بخلق هذه الأفعال المتولدة بعد الفعل المباشر في ذلك
ولما أبطلنا أصل التوليد بطل ما هو متفرع عليه لكنا نذكرها تنبيها على ما وقع في آرائهم من الاضطراب
الأول إن المتولد من السبب المقدور بالقدرة الحادثة يمتنع أن يقع مباشرا بالقدرة الحادثة من غير توسط السبب
وإلا لجاز اجتماع مباشر ومتولد في محل واحد وهما مثلان
واجتماع المثلين محال مع أنه يفضي إلى جواز حمل الذرة للجبل العظيم بأن يحصل فيه أعداد من الحمل موازية لأعداد أجزائه فيرتفع بها
وذلك محال ضرورة
والجواب إنه يناقض أصلكم في جواز اجتماع المثلين
ثم إذ قد يكون تأثيره في عين ما وقع بالتوليد بشرط عدم السبب فلا يلزم اجتماع المثلين
الثاني قد منع بعض المعتزلة من ثبوت الفعل المتولد لله تعالى بل
228

جميع أفعاله بالمباشرة
ووافقهم عليه أبو هاشم في أحد قوليه
وإلا احتاج في فعله إلى سبب
والجواب إن ذلك بناء على امتناع وقوع الفعل بدون السبب مع أنه لا يزيد على امتناع وجود الأعراض بدون محالها
وجوزه بعضهم
ووافقهم أبو هاشم في القول الآخر لما يحكم به الحس من حركة الأغصان والأوراق على الأشجار بحركة الرياح العاصفة
ولا شك أن حركة الرياح من فعل الله تعالى بالمباشرة
والجواب ما سبق في فعل العبد
الثالث قالوا العلم النظري يتولد من النظر ابتداء ولا يتولد من تذكر النظر بل هو ضروري من فعل الله
فلو وقعت المعرفة بالله به متذكرا لكانت ضرورية فامتنع التكليف بها
ولأنه حينئذ يولد العلم
ولو عارضه الشبهة
وجواب الأول ما مر
والثاني لا نسلم إمكان عروض الشبهة مع تذكر النظر الصحيح
ولا يمتنع التوليد عند عدمها كما في ابتداء النظر
فإن قيل الشبهة من فعل العبد
والتذكر من فعل الله
فيلزم دفع فعل العبد لفعل الله
قلنا يلزمكم مثله في إمساك الأيد القوي الشيء من أن تحركه الرياح سواء كان مباشرا للرب أو متولدا من فعله
الرابع الأصوات والآلام الحاصلة بفعل الآدميين لا تحصل إلا بالتوليد
وزاد أبو هاشم التأليفات
ومنعه أبو علي في التأليف القائم بجسمين هما أو
229

أحدهما محل القدرة كمن ضم أصبعه إلى أصبعه أو إلى جسم آخر بخلاف التأليف القائم بمحلين غير محل القدرة
الخامس قسموا المولد إلى ما توليده في ابتداء حدوثه دون حال دوامه
وإلى ما توليده حال حدوثه ودوامه
فالأول كالمجاورة المولدة للتأليف والوهي المولد للألم
والثاني كالاعتماد اللازم السفلي
السادس اختلفوا في الموت المتولد من الجرح
والنافي له مراغم لأصله
والمثبت له مراغم للإجماع وللكتاب
قال تعالى * (هو يحيي ويميت) * * (ربي الذي يحيي ويميت) *
السابع قد اختلفوا في الطعوم والألوان التي تحصل بالضرب كلون الدبس وطعمه الحاصلين بضربه بالمسواط فأثبته قوم لحصوله بفعله ومنعه آخرون
وإلا لحصل ذلك بالضرب في كل جسم لأن الأجسام متماثلة فيقال لهم لم لا يستند إلى اختلاف أعراض فيها هي شرط لحدوث ذلك اللون والطعم فيه
الثامن قد اختلفوا في الألم الحاصل من الاعتماد على الغير بضرب أو قطع
فقيل إنه يتولد من الاعتماد
وقال أبو هاشم في المعتمد من قوليه إنه يتولد من الوهي
والوهي من الاعتماد لأن الألم بقدر الوهي قلة وكثرة لا بقدر الاعتماد
ولذلك يؤلم الاعتماد الواحد العضو الرقيق الرخو أضعاف ما يؤلم القوي المكتنز
وما هو إلا لاختلاف ما يوجب فيهما من الوهي
والجواب إن اختلاف الألم المتفاوت من الاعتماد الواحد كاختلاف الوهي المتفاوت من الاعتماد الواحد فلم لا يستند هو إلى اختلاف القابل كما استند إليه اختلاف الوهي
وأيضا فيبطله تفاوت الألم تفاوتا لا يوجد في
230

الوهي كما يحصل برأس الإبرة وما يحصل بذنابة العقرب
بل ربما كان ما يحصل بذنابة العقرب أقل مما يحصل برأس الإبرة بكثير
التاسع هل يمكن إحداث الألم بلا وهي من الله تعالى أم لا هذا مبني على ما تقدم في الفرع الثاني
الشرح
المقصد الثاني في التوليد وفروعه
إعلم أن المعتزلة لما أسندوا أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتبا ورأوا فيها أيضا أن الفعل المترتب على آخر يصدر عنهم وإن لم يقصدوا إليه أصلا فلم يمكنهم لهذا إسناد الفعل المترتب إلى تأثير قدرتهم فيه ابتداء لتوقفه على القصد
قالوا بالتوليد
وهو أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر نحو حركة اليد
وحركة المفتاح فإن الأولى منهما أوجبت لفاعلها الثانية سواء قصدها أو لم يقصدها
والمعتمد في إبطاله أي إبطال التوليد ما بينا من إسناد جميع الممكنات إلى الله تعالى ابتداء
وقد يحتج عليه أي على إبطاله بأنه يلزم من التوليد إما اجتماع قادرين مستقلين على مقدور واحد
وإما الترجيح بلا مرجح وذلك لأنه إذا التصق جسم بكف قادرين وجذبه أحدهما ودفعه الآخر في زمان جذبه إلى جهته فإن قلنا حركته أي حركة ذلك الجسم وهي واحدة بالشخص تولدت من حركة اليد
فإما بها أي بالجذب والدفع معا فيلزم مقدور بين قادرين مستقلين بالتأثير
وقد مر استحالته
وإما بأحدهما فقط وهو تحكم محض معلوم بطلانه
وهذا الاحتجاج الدال على لزوم المحال للتوليد في
231

المثال المذكور لا يلزم ضرارا وحفصا القائلين بعدم التوليد فيما قام بغير محل القدرة
وبيانه على ما في الأبكار أن المتولدات منها ما هي قائمة بمحل القدرة كالعلم النظري المتولد من النظر ومنها ما هي قائمة بغير محل القدرة
فاختلفت المعتزلة فذهب بعضهم إلى أنها بأسرها فعل لفاعل السبب وإن كان معدوما حال وجود المتولد كمن رمى سهما ومات قبل بلوغ السهم الرمية فإن الإصابة والآلام الحادثة منها من فعل الميت
وذهب ثمامة بن أشرس إلى أنها كلها حوادث لا محدث لها
والنظام إلى أن المتولدات برمتها من فعل الله تعالى لا من فعل العبد الفاعل للسبب
وذهب ضرار بن عمرو وحفص الفرد إلى أن ما كان منها في محل قدرة الفاعل فهو من فعله وما كان في محل مباين لمحلها فما وقع منه على وفق اختياره فهو أيضا من فعله كالقطع والذبح وما لا يقع على وفقه
فليس من فعله كالآلام في المضروب والاندفاع والثقيل المدفوع وحركة الجسم المفروض من القسم الأخير
فالإلزام بها لا يقوم بها حجة عليهما
والمعتزلة القائلون بإسناد المتولدات إلى العباد ادعوا الضرورة تارة كأبي الحسين وأتباعه وجنحوا إلى الاستدلال أخرى كالجمهور منهم
أما الضرورة فقالوا من رام دفع حجر في جهة اندفع إليها بحسب قصده وإرادته فيكون اندفاعه صادرا عن الدافع وفعلا له
وليس هذا الاندفاع فعلا له مباشرا بالاتفاق
232

منا ومنكم فهو بواسطة ما باشره من الدفع ومتولد منه
وكذا الكلام في حصول العلم النظري من النظر وحصول أمثاله من أسبابها
واعلم أن الآمدي جعل اندفاع الحجر على حسب قصده وإرادته وجها أول من وجوه استدلالاتهم وليس في كلامه ما يدل على أن أبا الحسين ادعى الضرورة ههنا
ويؤيده اختلاف الأفعال التي سميت متولدة باختلاف القدر الثابتة للعباد فالأيد القوي يقوى على حمل ما لا يقوى على حمله الضعيف
ولو كان الفعل المتولد واقعا بقدرة الله لجاز تحرك الجبل باعتماد الضعيف النحيف وعدم تحرك الخردلة باعتماد الأيد القوي بأن يخلق الله الحركة في الجبل دون الخردلة
وأنه مكابرة صرفة
فاتضح أن المتولدات مستندة إلى القدرة الحادثة لا مباشرة بل يتوسط أفعال أخر
والآمدي جعل هذا التأييد وجها ثانيا من دلائلهم
وأما الاحتجاج فلهم فيه وجوه
الأول ورود الأمر والنهي بها أي بالأفعال المتولدة كما ورد بالأفعال المباشرة
وذلك كحمل الأثقال في الحروب والحدود وبناء المساجد والقناطر والمعارف النظرية كمعرفة الله تعالى وصفاته ومعرفة أحكام الشرع والإيلام بالضرب والطعن والقتل في الجهاد مع الكفار فإنها كلها مأمور بها وجوبا أو ندبا وإيلام ما لا ينبغي إيلامه منهي عنه
فلولا أن هذه الأفعال متعلقة بالقدرة الحادثة لما حسن التكليف بها والحث عليها كما لا يحسن التكليف بإيجاد الجواهر والألوان
ولا شبهة في أنها ليست مباشرة بالقدرة
فهي بواسطة
الثاني المدح والذم فإن العقلاء يستحسنون المدح والذم في أمثال هذه الأفعال ويحكمون باستحقاق الثواب والعقاب
وذلك يدل على أنها من فعل العبد
233

الثالث نسبة الفعل إلى العبد دون الله كما في قولهم حمل فلان الثقيل وآلم زيدا بالضرب
وليس هذا من قبيل المجاز عندهم بل من الإسناد الحقيقي
فدل على أن الفعل منه
والجواب بعدما تقدم في الأفعال المباشرة من أن الأمر والنهي والتكليف بالأفعال باعتبار أنها دواع فيخلق الله الفعل عقيبها
وإن استحقاق المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية وترتب الثواب والعقاب كترتب سائر العاديات
وأما حديث النسبة فمبني على الظاهر بحسب العرف
وكلامنا في الواقع بحسب الحقيقة أنه أي الجواب بعدما تقدم أنه لم لا يكفي إجراء العادة بخلق هذه الأفعال المتولدة بعد الفعل المباشر في ذلك هذا الجار متعلق بقوله لا يكفي
أي لم لا يكفي الأجزاء في جميع ما ذكر
فإنه تعالى لما أجرى عادته بإيجاد هذه الأفعال التي يحكم عليها بالتوليد عقيب الفعل المباشر المقدور للعبد كفى ذلك في حسن الأمر والنهي والمدح والذم في النسبة
وإن لم تكن هذه الأفعال مقدورة لهم متولدة من أفعالهم
وأجاب الآمدي عما جعله وجها أول بما أسلفه في الأفعال المباشرة من أن كل عاقل يجد في نفسه أن فعله الاختياري مقارن لقدرته وقصده لا أن قدرته مؤثرة في فعله
وكذا الحال في المتولدات
قال والذي نخصه ههنا أنا وإن سلمنا وقوع الأفعال المباشرة بالقدرة على حسب القصد والداعية فهو غير متصور في المتولدات إذ المتولد عندهم قد يقع بعد عجز فاعل السبب وبعد موته بدهر طويل فكيف يكون على حسب قصده وداعيته
وإن سلم كونها على حسبهما لم يلزم منه أن يكون من أفعاله لأن المباشر إنما كان فعلا له لا لمجرد ذلك بل ومع استقلال قدرته بالإيجاد بلا احتياج إلى سبب
والمتولد محتاج إلى السبب قطعا
وأجاب عما جعل وجها ثانيا بما سبق في خلق الأعمال
وهو أن
234

الاختلاف أي التفاوت إنما هو في كثرة المقدورات لكثرة القدر وليس في ذلك ما يدل على وقوع الغفل بالقدرة
وأجاب عن الوجوه الثلاثة المذكورة في الكتاب بكفاية إجراء العادة
ولك أن تقول جاز أن يكون وجود الاندفاع على حسب القصد والإرادة بطريق الخلق على سبيل العادة
وكذا الحال في تفاوت الحمل بحسب اختلاف القدر
فلا يصح دعوى الضرورة وتأييدها
ولما أبطلنا أصل التوليد بطل ما هو متفرع عليه فلا حاجة إلى ذكر فروعه والجواب عنها لكنا نذكرها تنبيها على ما وقع في آرائهم من الاضطراب والتنافي
الفرع الأول من تلك الفروع أن المتولد من السبب المقدور بالقدرة الحادثة يمتنع باتفاق المعتزلة أن يقع مباشرا بالقدرة الحادثة من غير توسط السبب
وإلا لجاز اجتماع مباشر ومتولد في محل واحد
وذلك لأن وجوده فيه لوجود سببه ممكن بلا ريبة
والمفروض أنه يمكن وقوعه فيه مباشرا فقد جاز وجودهما فيه مع اتحاد القدرة المؤثرة فيهما
وهما مثلان
وإجماع المثلين محال مع أنه يفضي إلى جوز حمل الذرة للجبل العظيم بأن يحصل فيه أي في الجبل من قدرة الذرة أعدادا من الحمل موازية لأعداد أجزائه فيرتفع الجبل بها أي بتلك الأعداد من الحمل
وذلك محال ضرورة
والجواب أنه أي القول بامتناع اجتماعهما يناقض أصلكم في جواز اجتماع المثلين في محل واحد
فإن المعتزلة جوزوا اجتماعهما مطلقا إلا شرذمة منهم فإنهم فصلوا
وقالوا لا يجوز الاجتماع بين حركتين متماثلتين ويجوز في غيرهما كما مر في المرصد الرابع من الموقف الثاني
ثم نقول أوليس
يلزم من تجويز المباشرة فيما يقع توليدا اجتماع المثلين إذ قد يكون
235

تأثيره بالمباشرة في غير ما وقع بالتوليد مشروطا بشرط عدم السبب كما أن وقوعه تولدا مشروط بوجوده
فلا يلزم اجتماع المثلين لامتناع اجتماع شرطهما بل يكون وقوع كل من المباشرة والتوليد بدلا عن الآخر ويحتمل الكلام وجها آخر وهو أن تأثيره بالمباشرة في عين ما وقع بالتولد لا في غيره
وذلك التأثير على سبيل البدل لما ذكر لئلا يلزم اجتماع تأثيرين على شيء واحد بعينه
وهذا الوجه هو المفهوم من أبكار الأفكار والموافق لذكر لفظة العين
الثاني من الفروع قد منع بعض المعتزلة من ثبوت الفعل المتولد لله تعالى بل جميع أفعاله عندهم بالمباشرة ومقدور بالقادرية من غير توسط سبب
ووافقهم عليه أبو هاشم في أحد قوليه وإلا احتاج في فعله إلى سبب وهو المولد لذلك الفعل كاحتياج العباد إلى أسباب المتولدات وهو على الله محال
والجواب إن ذلك أي لزوم احتياج الباري بناء على امتناع وقوع الفعل المتولد بدون سبب وقد عرفت بطلانه بما أوردناه على الفرع الأول من جواز وقوع المتولد من فعل العبد مباشرا له
وقد قال به أبو هاشم أيضا في الغائب في أحد قوليه وإن منعه في الشاهد مطلقا مع أنه أي الاحتياج إلى السبب المولد لا يزيد على امتناع وجود الأعراض بدون محالها إذ ههنا أيضا يلزم احتياجه في إيجاد الأعراض إلى إيجاد الجواهر
فما هو العذر هناك هو العذر ههنا
والتحقيق أنه لا محذور لأن الاحتياج في الحقيقة راجع إلى الفعل
236

المتولد والعرض
وجوزه بعضهم ووافقهم أبو هاشم في القول الآخر لما يحكم ويشهد به الحس من حركة الأغصان والأوراق على الأشجار بحركة الرياح العاصفة واعتمادها عليها
ولا شك أن حركة الرياح واعتمادها من فعل الله تعالى بالمباشرة فتكون حركة الأغصان والأوراق من فعله توليدا
والجواب ما سبق في فعل العبد من أن ترتب فعل على آخر لا يستلزم أن يكون مسببا له لجواز أن يكون الجميع بقدرة الله تعالى ابتداء ويكون الترتب بمجرد إجراء العادة
الثالث من الفروع قالوا العلم النظري يتولد من النظر ابتداء ولا يتولد من تذكر النظر يعني أنه إذا أغفل عن النظر والعلم بالمنظور فيه ثم تذكر النظر فالعلم الحاصل عند التذكر لا يكون متولدا منه بل مقدورا مباشرا بالقدرة
وذلك لوجهين أشار إلى أولهما بقوله لأنه أي تذكر النظر ضروري من فعل الله تعالى وليس مقدور للبشر
فلو وقعت المعرفة بالله به أي بالنظر حال كونه متذكرا لكانت المعرفة ضرورية من فعل الله أيضا فامتنع التكليف بها وخرجت عن أن تكون مأمورا بها وهو باطل إجماعا وأشار إلى ثانيهما بقوله ولأن أي تذكر النظر حينئذ أي حين كونه مولدا يولد العلم ولو عارضته الشبهة أي لو كان التذكر مولدا للعلم لولده وإن عارضته شبهة لأنه قبل معارضتها كهو بعدها
وجواب الأول ما مر من أنه مبني على أن التكليف لا يكون إلا بما هو مقدور للعبد ومخلوق له
وقد بينا بطلانه في مسألة خلق الأعمال
وجواب الثاني لا نسلم إمكان عروض الشبهة مع تذكر النظر الصحيح وكلامنا فيه
ولا يمتنع التوليد عند عدمها كما في ابتداء النظر
أي وإن سلمنا إمكان عروض الشبهة عند تذكر النظر الصحيح فذلك يمنع توليد
237

التذكر عند عروض الشبهة ولا يمنع توليده عند عدمها كما في ابتداء النظر فإن عروض الشبهة يمنع توليده ولا يمنع ذلك توليده حال عدمها
فإن قيل الشبهة من فعل العبد والتذكر من فعل الله فيلزم من منع الشبهة توليده دفع فعل العبد لفعل الله وذلك باطل بخلاف دفع الشبهة توليد ابتداء النظر الذي هو فعل العبد أيضا
قلنا يلزمكم مثله في إمساك الأيد القوي الشيء الذي يتحرك عند اعتماد الرياح العاصفة عليه من أن تحركه تلك الرياح سواء كانت تحرك ذلك الشيء فعلا مباشرا للرب أو متولدا من فعله الذي هو حركة الرياح فما هو جوابكم فهو جوابنا
الرابع من تلك الفروع الأصوات والآلام الحاصلة بفعل الآدميين لا تحصل إلا بالتوليد إذ لا يعقل وجود صوت إلا باعتمادات لبعض الأجرام على بعض واصطكاك بينها وكذا الحال في الألم الحاصل من الآدمي
فلو كانت هذه الأمور واقعة بطريق المباشرة لما توقفت على هذه الأسباب
والجواب لا نسلم أنها أسباب بل جاز أن تكون شروطا لوقوعها من القدرة مباشرة
وزاد أبو هاشم التأليفات على الإطلاق بتوقفها على المجاورة فتكون متولدة منها
وجوابه ما عرفت آنفا ومنعه أبو علي في التأليف القائم بجسمين هما أو أحدهما محل القدرة كمن ضم أصبعه إلى أصبعه أو ضم إصبعه إلى جسم آخر
وقال هذا التأليف يقع بغير توليد بخلاف التأليف القائم بمحلين غير محل القدرة كجسمين مباينين لمحلها فإنه لا يقع بغير التوليد لأن الفعل الصادر عن العباد في محل خارج بتمامه عن محل قدرتهم لا يكون مباشرا بالاتفاق بين القائلين بالتوليد
238

الخامس منها القائلون بالتوليد قسموا السبب المولد إلى ما توليده في ابتداء حدوثه دون حال دوامه وإلى ما توليده حال حدوثه ودوامه إذا لم يمنعه مانع فالأول كالمجاورة المولدة للتأليف
والوهي أي تفرق الأجزاء المبنية بنية الصحة المولد للألم فإنهما يولدانهما حال الحدوث لا حال البقاء
والثاني كالاعتماد اللازم للسفلي فإنه عند انتفاء الموانع يولد الحركة الهابطة حال حدوثه ودوامه
قال الآمدي ذهبوا إلى ذلك ولم يعلموا أن كلا من المجاورة والوهي في ابتدائه كهو في دوامه
فإذا لم يكن هناك مانع من التوليد لزم من عدم توليدهما في الدوام عدم توليدهما في الحدوث ومن توليدهما في الحدوث توليدهما في البقاء
ولو أخذوا خصوص الابتداء أو ملازمه شرطا في التوليد لزمهم ذلك في جميع الأسباب المولدة ولم يقولوا به
السادس اختلفوا في الموت المتولد من الجرح أي الحاصل عقيبه هل هو متولد من الآلام المتولدة من الجرح فنفاه قوم وأثبته آخرون
والنافي له مراغم لأصله في التوليد لأن ترتب الموت على الآلام يقتضي تولده منها كما في سائر المتولدات
والمثبت له مراغم للإجماع فإن الأمة أجمعوا على أن المستقبل بالإماتة والإحياء هو الله سبحانه وتعالى
وللكتاب
فإن نصوصه دالة عليه
قال تعالى * (هو يحيي ويميت) * * (ربي الذي يحيي ويميت) *
السابع قد اختلفوا في الطعوم والألوان التي تحصل بالضرب وغيره في أفعال العبد هل هي متولدة من فعله أو لا وذلك كلون الدبس وطعمه الحاصلين بضربه بالمسواط عند طبخه
فأثبته قوم وقالوا مثل هذا الطعم
239

واللون متولد من فعله لحصوله بفعله وعلى حسبه ومنعه آخرون وقالوا لا يقع شيء من الألوان والطعوم من العباد لا مباشرة بقدرتهم وهو ظاهر ولا متولدا من أفعالهم
وإلا لحصل ذلك الطعم أو اللون بالضرب أو نحوه من أفعال العبد في كل جسم لأن الأجسام متماثلة لتركبها من الجواهر الأفراد المتجانسة
فيقال لهم بعد تسليم تماثل الجواهر لم لا يستند حدوث الطعم واللون المتولد من فعل العبد في بعض الأجسام دون بعض إلى اختلاف أعراض فيها هي شرط لحدوث ذلك اللون والطعم فيه فلا يحدث شيء منهما في جسم آخر لم يوجد فيه شرطه وإن تعلق به ذلك الفعل
الثامن قد اختلفوا في الألم الحاصل من الاعتماد على الغير بضرب أو قطع فقيل إنه يتولد من الاعتماد
وهو مذهب جمهور المعتزلة
وقال أبو هاشم في المعتمد من قوليه إنه يتولد من الوهي وكأنه أخذه من قول الحكماء سبب الألم تفرق الاتصال والوهي يتولد من الاعتماد وذلك لأن الألم بقدر الوهي قلة وكثرة لا بقدر الاعتماد
ولذلك يؤلم الاعتماد الواحد العضو الرقيق الرخو أضعاف ما يؤلم العضو القوي المكتنز وما هو إلا لاختلاف ما يوجب ذلك الاعتماد فيهما من الوهي
فإن التفرق الحاصل منه في الرخو أكثر وأقوى من الحاصل في المكتنز فلا يكون الألم متولدا من الاعتماد بل من الوهي لأن خاصة التوليد اختلاف المتولدات بحسب اختلاف أسبابها
والجواب إن اختلاف الوهي المتفاوت في القلة والكثرة والقوة والضعف من الاعتماد الواحد كاختلاف الألم المتفاوت من الوهي الواحد
والصحيح كما في الأبكار من الاعتماد الواحد
أي في أن كلا منهما اختلاف في أمر متولد من شيء واحد بلا اختلاف فيه فلم يستند هو أي اختلاف الألم على تقدير تولده من الاعتماد إلى اختلاف القابل كما
240

استند إليه اختلاف الوهي على ما اعترفتم به
والحاصل أنكم جوزتم استناد الوهي المختلف إلى الاعتماد الواحد وعللتم ذلك باختلاف العضوين في قبول الوهي
فإن الرقيق الضعيف بذلك أولى فلم لا يجوزون استناد الألم المختلف إلى الاعتماد الواحد بواسطة اختلاف القابل فلا حاجة إلى توسط الوهي بين الألم والاعتماد كما لا يخفى وأيضا فيبطله أي يبطل تولد الألم من الوهي تفاوت الألم تفاوتا لا يوجد في الوهي كما لا يحصل برأس الإبرة
وما يحصل بذنابة العقرب فإن هذين الألمين يتفاوتان جدا
وليس يوجد هذا التفاوت في الوهي الحاصل في الموضعين
بل ربما كان يحصل من الوهي بذنابة العقرب أقل مما يحصل برأس الإبرة بكثير مع أن حال الألم على عكس ذلك
فلا يكون متولدا منه
التاسع وهو آخر الفروع المذكورة في الكتاب هل يمكن إحداث الألم بلا وهي من الله تعالى أم لا هذا مبني على ما تقدم في الفرع الثاني
فمن لم يجوز أن يكون فعله تعالى متولدا حكم بأن الألم الصادر عنه تعالى لا يكون بسبب الوهي وتوليده إياه
ومن جوز التوليد في أفعاله جوز كون الألم الصادر عنه متولدا من الوهي
ويعلم من كونه مبنيا على الفرع الثاني أن العبارة الظاهرة ههنا أن يقال هل يمكن من الله تعالى إحداث الألم بالوهي أو لا وحينئذ يكون جزئيا من جزئيات الفرع الثاني
فلا حاجة إلى أفراده ولذلك لم يذكره الآمدي
المقصد الثالث
المتن في البحث عن أمور صرح بها القرآن وانعقد عليها الإجماع
وهم يؤولونها
241

الأول الطبع والختم
والأكنة ونحوها
أولوها بوجوه
الأول * (ختم الله على قلوبهم) * أي سماهما مختوما عليها كما قال * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) *
الثاني وسمها بسمات تعرفها الملائكة فتميز بها الكافر من المؤمن
الثالث منع الله منهم اللطف المقرب إلى الطاعة لعلمه أنه لا ينفعهم
فلما لم يوفقوا لذلك فكأنهم ختم على قلوبهم
الرابع منعهم الله الإخلاص الموجب لقبول العمل فكانوا كمن يمنع دخول الإيمان قلبه بالختم عليه
لأن الفعل بلا إخلاص كلا فعل
وهو مع الابتناء على أصلهم الفاسد يبطله ذكر الله تعالى هذه الأشياء في معرض امتناع الإيمان منهم لأجل ذلك وشئ مما ذكرتم لا يصلح لذلك
الثاني التوفيق والهداية
أولوهما بالدعوة إلى الإيمان والطاعة
والذي يبطله أمور
الأول إجماع الأمة على اختلاف الناس فيهما
والدعوة عامة لا اختلاف فيها
الثاني الدعاء بهما نحو اللهم إهدنا الصراط المستقيم
والدعوة حاصلة
واختلاف الناس في الانتفاع بها وعدمه
الثالث كونه مهديا وموفقا من صفات المدح دون كونه مدعوا
الثالث الأجل وهو الزمان الذي علم أنه يموت فيه
فالمقتول عند أهل الحق ميت بأجله
وموته بفعله تعالى
والمعتزلة قالوا بل تولد موته من
242

فعل القاتل
وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله
وادعوا فيه الضرورة
واستشهدوا عليه بذم القاتل
ولو كان ميتا بأجله لمات وإن لم يقتله
فهو لم يجلب بفعله أمرا لا مباشرة ولا توليدا
فكان لا يستحق الذم
وبأنه ربما قتل في الملحمة الواحدة ألوف
ونحن نعلم بالضرورة أن موت الجم الغفير في الزمان القليل بلا قتل مما تحكم العادة بامتناعه
ولذلك ذهب جماعة منهم إلى أن ما لا يخالف العادة واقع بالأجل منسوب إلى القاتل
والفرق غير بين في العقل
ولولا روم الهرب من الإلزام الشنيع لما قالوا به
الرابع الرزق
وهو عندنا كل ما ساقه الله إلى العبد فأكله فهو رزق له من الله حلالا كان أو حراما
إذ لا يقبح من الله شيء
وأما هم ففسروه بالحلال تارة فأورد عليهم * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) *
وبما لا يمنع من الانتفاع به فيلزمهم أن من أكل الحرام طول عمره فالله لم يرزقه
وهو خلاف الإجماع
كل ذلك ناع عليهم فساد أصلهم في الحكم على الله بيجوز ولا يجوز
الخامس في الأسعار
المسعر هو الله على أصلنا كما ورد في الحديث
وأما عندهم فمختلف فيه
فقال بعضهم هو فعل مباشر من العبد إذ أوليس
ذلك إلا مواضعة منهم على البيع والشراء بثمن مخصوص
وقال آخرون هو متولد من فعل الله وهو تقليل الأجناس وتكثير الرغبات بأسباب هي من فعله تعالى
الشرح
المقصد الثالث في البحث عن أمور صرح بها القرآن وانعقد عليها الإجماع
وهم يؤولونها
243

الأول الطبع قال الله تعالى * (بل طبع الله عليها بكفرهم) * والختم * (ختم الله على قلوبهم) * والأكنة * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * ونحوها كالإقفال في قوله تعالى * (أم على قلوب أقفالها) *
فذهب أهل الحق إلى أنها عبارة عن خلق الضلال في القلوب
وذلك لأن هذه الأمور في اللغة موانع في الحقيقة
وإنما سميت بذلك لكونها مانعة
وخلق الضلال في القلوب مانع من الهدى فصح تسميته بهذه الأسماء لأن الأصل هو الإطراد إلا أن يمنع مانع
والأصل عدمه
فمن ادعاه يحتاج إلى البيان
والمعتزلة أولوها بوجوه
الأول وهو لأوائل المعتزلة * (ختم الله على قلوبهم) * إلى آخر الآيات
أي سماها مختوما عليها ومطبوعا عليها ومجعولا عليها أكنة وأقفالا ووصفها بذلك كما قال * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) *
أي سموهم بذلك ووصفوهم بالأنوثة إذ لا قدرة لهم على الجعل الحقيقي
الثاني وهو للجبائي وابنه ومن تابعهما وسمها أي وسم الله على قلوب الكافر بسمات وعلامات تعرفها الملائكة فيتميز بها الكافر عن المؤمن
وذلك لأن الختم والطبع في اللغة هو الوسم
ولا يمتنع أن يخلق الله في قلوب الفجار سمة تتميز بها عن قلوب الأبرار وتتبين تلك
244

السمة للملائكة فيذمون من اتسم بها وذلك في مصلحة دينية لأنه إذا علم العبد أنه إذا كفر وسم بسمة يتحقق بها ذمه ولعنه من الملائكة كان ذلك سببا لانزجاره عنه
الثالث وهو للكعبي
منع الله منهم اللطف المقرب إلى الطاعة المبعد عن المعصية لعلمه انه لا ينفعهم ولا يؤثر فيهم
فلما لم يوفقوا لذلك اللطف فكأنهم ختم على قلوبهم
لأن قطع اللطف مانع من دخول الإيمان كما أن الختم والطبع والأكنة والأقفال موانع من الدخول
الرابع وهو لبعض أصحاب عبد الواحد من المعتزلة منعهم الله الإخلاص الموجب لقبول العمل فكانوا لذلك كمن يمنع دخول الإيمان قلبه بالختم عليه لأن الفعل بلا إخلاص كلا فعل
وهو أي ما ذكروه من التأويل مع الابتناء على أصلهم الفاسد وهو أن منع الإيمان وخلق الضلال قبيح فلا يجوز إسناده إلى الله سبحانه وتعالى
وسيأتيك بيان فساده يبطله ذكر الله تعالى هذه الأشياء في معرض امتناع الإيمان منهم لأجل ذلك حيث قال * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم) *
أي لا يؤمنون لأجل الختم
وذلك لأن قوله * (ختم) * استئناف لبيان السبب
وشئ مما ذكرتم لا يصلح لذلك أي لكونه سببا لامتناع الإيمان
فإن مجرد الوصف بالختم والطبع وجعل الأكنة والأقفال على
245

قلوبهم لا يمنع من الإيمان
وكذا الوسم بعلامة مميزة ومنع اللطف والإخلاص لا يقتضي امتناع الإيمان فلا يصح الحمل عليها
الثاني من تلك الأمور التي يؤولونها التوفيق والهداية فإن الشارح الأشعري وأكثر الأئمة من أصحابه حملوا التوفيق على خلق القدرة على الطاعة وهو مناسب للوضع اللغوي لأن الموافقة إنما هي بالطاعة وبخلق القدرة الحادثة على الطاعة يحصل تهيؤ الموافقة
وقال إمام الحرمين التوفيق خلق الطاعة لا خلق القدرة إذ لا تأثير لها
وحملوا الهداية على معناها الحقيقي
أعني خلق الاهتداء وهو الإيمان
والمعتزلة أولوهما بالدعوة إلى الإيمان والطاعة وإيضاح سبل المراشد وتيسير مقاصدها والزجر عن طريق الغواية كما في قوله تعالى * (وأما ثمود فهديناهم) * إذ لا شبهة في امتناع حمله على خلق الهدى فيهم والذي يبطله أي هذا التأويل أمور
الأول إجماع الأمة على اختلاف الناس فيهما أي في التوفيق والهداية فبعضهم موفق مهدي وبعضهم أوليس
كذلك
والدعوة عامة لجميع الأمة لا اختلاف فيها فلا يصح تأوليهما بها
الثاني الدعاء بهما نحو اللهم اهدنا الصراط المستقيم اللهم وفقنا لما تحب وترضى
والطلب إنما يكون لما أوليس
بحاصل
والدعوة المذكورة حاصلة فلا يتصور طلبها
واختلاف الناس أوليس
في الدعوة نفسها بل في وجود الانتفاع بها وعدمه
الثالث كونه مهديا وموفقا من صفات المدح يمدح بهما في المتعارف دون كونه مدعوا
إذ لا يمدح به أصلا فلا يصح حملهما على الدعوة
الثالث من تلك الأمور الأجل
وهو في الحيوان الزمان الذي
246

علم الله أنه يموت فيه
فالمقتول عند أهل الحق ميت بأجله الذي قدره الله له وعلم أنه يموت فيه
وموته بفعله تعالى ولا يتصور تغير هذا المقدر بتقديم ولا تأخير
قال تعالى * (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) * * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *
والمعتزلة قالوا بل تولد موته من فعل القاتل فهو من أفعاله لا من فعل الله تعالى
وقالوا إنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي قدره الله تعالى له
فالقاتل عندهم غير بالتقديم الأجل الذي قدره الله تعالى له
وادعوا فيه أي في تولده من فعل القاتل وبقائه لولا القتل الضرورة كما ادعوها في تولد سائر المتولدات وانتفائها عند انتفاء أسبابها
واستشهدوا عليه بذم القاتل والحكم بكونه جانيا
ولو كان المقتول ميتا بأجله الذي قدره الله له لمات وإن لم يقتله فهو أي القاتل لم يجلب حينئذ بفعله أمرا لا مباشرة ولا توليدا فكان لا يستحق الذم عقلا ولا شرعا لكنه مذموم فيهما قطعا إذا كان القتل بغير حق
واستشهدوا أيضا بأنه ربما قتل في الملحمة الواحدة ألوف
ونحن نعلم بالضرورة أن موت الجم الغفير في الزمان القليل بلا قتل مما تحكم العادة بامتناعه
ولذلك أي ولحكم العادة بالامتناع في الخلق الكثير دون غيره ذهبت جماعة منهم إلى أن ما لا يخالف العادة كما في قتل واحد وما يقرب منه واقع بالأجل منسوب إلى القاتل
والفرق غير بين في العقل لأن الموت في كلتا الصورتين متولد من فعل القاتل عندهم
فلما إذا كان أحدهم بأجله دون الآخر
ولولا روم الهرب من الإلزام الشنيع وهو القدح في المعجزات لما قالوا به
وبيان ذلك أنه لما حكمت العادة بامتناع موت خلق كثير دفعة امتنع أن ينسب موتهم بقتلهم في ساعة إلى الله تعالى
وإلا كان فعلا منه خارقا للعادة لا لإظهار المعجزة
وذلك قدح فيها
وأما نسبة موت جماعة قليلة في لحظة واحدة إليه تعالى فلا
247

امتناع فيها
فحكم العادة بالامتناع في الكثير دون القليل هو الذي حملهم على الفرق كيلا يلزمهم إبطال المعجزات إذا نسبوا الجميع إليه
والجواب أن دعوى الضرورة غير مسموعة
والذم لا يستلزم كونه فاعلا
وحكم العادة ممنوع لأن مثله يقع في الوباء
الرابع الرزق
وهو عندنا كل ما ساقه الله إلى العبد فأكله فهو رزق له من الله حلالا كان أو حراما
إذ لا يقبح من الله شيء أوليس
ما ذكره تحديدا للرزق بل هو نفي لما ادعى عن تخصيصه بالحلال
وذلك لأن مذهب الأشاعرة هو أن الرزق كل ما انتفع به حي سواء كان بالتغذي أو بغيره مباحا كان أو حراما
وربما قال بعضهم هو كل ما يتربى به الحيوانات من الأغذية والأشربة لا غير
قال الآمدي والتعويل على الأول
فإن قيل كيف يتصور الإنفاق من الرزق بالمعنى الثاني الذي ذهب إليه بعضهم
وقد قال تعالى * (ومما رزقناهم ينفقون) * أجيب بأن إطلاق الرزق على المنفق مجاز عندهم لأنه بصدده
وأما هم أي المعتزلة ففسروه بالحلال تارة فأورد عليهم * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * فللبهائم رزق
ولا يتصور في حقها حل ولا حرمة
وفسروه أخرى بما لا يمنع من الانتفاع به أخرى فيلزمهم أن من أكل الحرام طول عمره فالله لم يرزقه
وهو خلاف الإجماع من الأمة قبل ظهور المعتزلة كل ذلك الذي يرد عليهم ويلزمهم ناع عليهم فساد أصلهم في الحكم على الله بيجوز ولا يجوز
وذلك الأصل هو قاعدة الحسن والقبح العقليين فإنهما منشأ لأباطيل كثيرة متفرعة عليها
وبطلان الفروع اللازمة شاهد صدق على بطلان أصلها
الخامس في الأسعار وهو الرخص والغلاء
المسعر هو الله على
248

أصلنا كما ورد في الحديث حين وقع غلاء في المدينة فاجتمع أهلها إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا سعر لنا يا رسول الله
فقال المسعر هو الله
وأما عندهم فمختلف فيه فقال بعضهم هو أي السعر فعل مباشر من العبد إذا أوليس
ذلك إلا مواضعة منهم على البيع والشراء بثمن مخصوص
وقال آخرون هو متولد من فعل الله تعالى وهو تقليل الأجناس وتكثير الرغبات بأسباب هي فعله تعالى
المقصد الرابع
المتن إنه تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون
هذا مذهب أهل الحق لكن منهم من لا يجوز إسناد الكائنات إليه مفصلا لايهامه الكفر
وعند الإلباس يجب التوقف إلى التوقيف
ولا توقيف ثمة
وذلك كما يصح أن يقال الله خالق كل شيء
ولا يصح أن يقال إنه خالق القاذورات وخالق القردة والخنازير
وكما يقال له كل ما في السماوات والأرض
ولا يقال له الزوجات والأولاد لا يهامه إضافة غير الملك إليه
وقالت المعتزلة هو مريد للمأمور به كاره للمعاصي والكفر
لنا إما أنه مريد للكائنات فلأنه خالق الأشياء كلها لما مر
وخالق الشيء بلا إكراه مريد له
وأيضا فالصفة المرجحة لأحد المقدورين هو الإرادة
ولا بد منها
وإما أنه غير مريد لما لا يكون
فلأنه تعالى علم من الكافر أنه لا
249

يؤمن فكان الإيمان منه محالا
والله تعالى عالم باستحالته
والعالم باستحالة الشيء لا يريده
ولأنه لا يتصور منه صفة مرجحة لأحد طرفيه
ويعضد هذا إجماع السلف والخلف في جميع الأعصار والأمصار على إطلاق قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
والأول دليل الثاني
والثاني دليل الأول
احتجوا بوجوه
الأول لو كان تعالى مريدا لكفر الكافر وقد أمره بالإيمان فالآمر بخلاف ما يريده يعد سفيها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
قلنا لا نسلم أن الآمر بخلاف ما يريده يعد سفيها
وإنما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به
يوضحه أمور ثلاثة
الأول إن الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا قد يأمره ولا يريد منه الفعل ويحصل مقصوده أطاع أو عصى
الثاني إنه إذا عاتب الملك ضارب عبده فاعتذر بعصيانه والملك يتوعده بالقتل إن لم يظهر عصيانه فإنه يأمره بفعل ويريد عصيانه فيه
فإن أحدا لا يريد ما يفضي إلى قتله
الثالث إن الملجأ إلى الأمر قد يأمر ولا يريد فعل المأمور به
الثاني لو كان الكفر مرادا لله لكان فعله موافقة لمراد الله تعالى فيكون طاعة مثابا به
وأنه باطل ضرورة
قلنا الطاعة موافقة الأمر
والأمر غير الإرادة وغير مستلزم لها
وقد
250

ضايق بعض أصحابنا في العبارة فقال الكفر مراد بالكافر غير مراد من الكافر
وهو لفظي
الثالث لو كان الكفر مرادا لله تعالى لكان واقعا بقضائه
والرضاء بالقضاء واجب فكان الرضاء بالكفر واجبا
واللازم باطل لأن الرضاء بالكفر كفر
قلنا الواجب هو الرضاء بالقضاء لا بالمقضي
والكفر مقضي لا قضاء
والحاصل أن الإنكار بالنظر إلى المحلية لا إلى الفاعلية
والرضاء بالعكس
والفرق بينهما ظاهر
إذ لو صح ذلك لوجب الرضاء بموت الأنبياء
الرابع لو أراد الله الكفر وخلاف مراد الله ممتنع كان الأمر بالإيمان تكليفا بما لا يطاق
قلنا الذي يمتنع التكليف به ما لا يكون متعلقا للقدرة عادة لا ما يكون مقدورا للمكلف به
والإيمان في نفسه مقدور وإن لم يكن مقدورا للكافر
لأن القدرة عندنا مع الفعل
فهذه دلائل العقل
وربما احتجوا بآيات
الأولى " سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم "
قلنا قالوا ذلك سخرية
ولذلك ذمهم الله بالتكذيب دون الكذب
وقال آخر * (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) *
الثانية * (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) *
قلنا مكروها
251

للعقلاء منكرا لهم في مجاري عاداتهم لمخالفته المصلحة أو منهيا عنه مجازا توفيقا للأدلة
الثالثة * (وما الله يريد ظلما للعباد) * مع أن الظلم كائن
قلنا أي ظلمه وتصرفه تعالى فيما هو ملكه كيف كان لا يكون ظلما
الرابعة * (والله لا يحب الفساد) * والفساد كائن
والمحبة الإرادة
قلنا بل إرادة خاصة
وهي ما لا يتبعها تبعة
ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام
الخامسة * (ولا يرضى لعباده الكفر) *
قلنا الرضاء ترك الاعتراض
والله يريد الكفر للكافر ويعترض عليه
ويؤيده أن العبد لا يريد الآلام والأمراض
وهو مأمور بترك الاعتراض
ثم هذه الآيات معارضة بآيات هي أدل على المقصود منها
الأولى * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) *
الثانية " أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا "
الثالثة * (فلو شاء لهداكم أجمعين) *
الرابعة * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) *
الخامسة * (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) *
السادسة * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) *
252

السابعة " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " وذلك في القرآن كثير
خاتمة في نقل رأي الفلاسفة في القضاء والقدر
قالوا الموجود إما خير محض كالعقول والأفلاك
وإما الخير غالب عليه كما في هذا العالم
فإن المرض مثلا وإن كان كثيرا فالصحة أكثر منه
ثم لا يمكن تنزيه هذا العالم من الشرور بالكلية فكان الخير واقعا بالقصد الأول والشر واقعا بالضرورة والعرض
والتزم فعله لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير
فليس من الحكمة ترك المطر الذي به حياة العالم لئلا ينهدم به دور معدودة أو لا يتألم سابح في البر أو البحر
الشرح
المقصد الرابع إنه تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون فكل كائن مراد له
وما أوليس
بكائن أوليس
بمراد له
هذا مذهب أهل الحق
واتفقوا على جواز إسناد الكل إليه جملة
فيقال جميع الكائنات مرادة لله تعالى
لكن اختلفوا في التفصيل
منهم من لا يجوز إسناد الكائنات إليه مفصلا فلا يقال الكفر أو الفسق مراد لله تعالى لايهامه الكفر وهو أن الكفر أو الفسق مأمور به لما ذهب إليه بعض العلماء من أن الأمر هو نفس الإرادة
وعند الإلباس يجب التوقف عن الإطلاق إلى التوقيف والإعلام من الشارع ولا توقيف ثمة أي في الإسناد تفصيلا
وذلك الذي ذكرناه من صحة الإطلاق إجمالا لا تفصيلا كما يصح بالإجماع والنص أن يقال الله خالق كل شيء
ولا يصح أن يقال إنه خالق القاذورات وخالق القردة والخنازير مع كونها مخلوقة له اتفاقا
وكما يقال له كل ما في السماوات والأرض
أي هو مالكها ولا يقال له الزوجات والأولاد لايهامه إضافة غير الملك إليه
ومنهم من جوز أن يقال الله مريد للكفر والفسق والمعصية معاقبا عليها
253

وقالت المعتزلة هو مريد لجميع أفعاله غير إرادته الحادثة عند من أثبتها
وأما أفعال العباد فهو مريد
للمأمور به منها كاره للمعاصي والكفر
وتفصيله أن فعل العبد إن كان واجبا يريد الله وقوعه ويكره تركه
وإن كان حراما فبعكسه
والمندوب يريد وقوعه ولا يكره تركه
والمكروه عكسه
وأما المباح وأفعال غير المكلف فلا يتعلق بها إرادة ولا كراهة
لنا إما أنه مريد للكائنات بأسرها فلأنه خالق الأشياء كلها لما مر من استناد جميع الحوادث إلى قدرته تعالى ابتداء وخالق الشيء بلا إكراه مريدا له بالضرورة وأيضا قد ثبت أن جميع الممكنات مقدورة لله تعالى
فلا بد في اختصاص بعضها بالوقوع وبأوقاتها المخصوصة من مخصص وهو الإرادة
وهذا معنى قوله فالصفة المرجحة لأحد المقدورين هو الإرادة كما مر
ولا بد منها أي من الصفة المرجحة في إيجاد بعض المقدورات دون بعض
وفي تخصيص الموجودات بأوقاتها
وإما أنه غير مريد لما لا يكون فلأنه تعالى علم من الكافر مثلا أنه لا يؤمن فكان الإيمان منه محالا لامتناع أن ينقلب العلم جهلا والله تعالى عالم باستحالته
والعالم باستحالة الشيء لا يراه بالضرورة
وأيضا لو أراده فإما أن يقع فيلزم الانقلاب أو لا فيلزم عجزه وقصوره عن تحقيق مراده
ولأنه لا يتصور منه أي من العالم باستحالة الشيء صفة مرجحة لأحد طرفيه لأن أحدهما مستحيل والآخر واجب
فلا معنى لترجيح الصفة
وفيه بحث لأن عدم إيمان الكافر مراد الله مع كونه واجبا
وأيضا هو منقوض بما علم الله وجوده كإيمان المؤمن
فإن أحد طرفيه واجب والآخر ممتنع
فلا وجه لترجيح الصفة
ويعضد هذا الذي هو مذهبنا إجماع السلف والخلف في جميع الأعصار والأمصار على إطلاق قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإن هذا مروي عن
254

النبي صلى الله عليه وسلم
وقد تلقته الأمة بالقبول فيصح أن يكون مؤيدا بل ربما يحتج به أيضا
وإنما صرح بالإطلاق دفعا لتوهم التقييد بأفعاله تعالى أو بما أوليس
من أفعال العباد الاختيارية كما تأوله به المعتزلة
ويدفع هذا التوهم أنهم كانوا يوردون كلامهم في معرض تعظيم الله وإعلاء شأنه
والأول وهو ما شاء الله كان دليل الثاني
وهو أنه تعالى غير مريد لما لا يكون
وذلك لأنه ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كل ما لم يكن لم يشأ الله
والثاني أعني ما يشأ لم يكن دليل الأول لانعكاسه بذلك الطريق إلى قولنا كل ما كان فقد شاء الله
احتجوا أي المعتزلة على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي بوجوه عقلية
الأول لو كان تعالى مريدا لكفر الكافر
وقد أمره بالإيمان فالآمر بخلاف ما يريده يعد عند العقلاء سفيها فيلزم السفه في أحكام الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا
قلنا لا نسلم أن الآمر بخلاف ما يريده يعد سفيها
وإنما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به
يوضحه وجوه ثلاثة
الأول أن الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا قد يأمره ولا يريد منه الفعل
أما الأول
وهو أن الصادر منه أمر حقيقة فلأنه إذا أتى العبد بالفعل يقال امتثل أمر سيده
وأما الثاني
وهو أنه لا يريه الفعل منه يحصل مقصوده وهو الامتحان أطاع أو عصى فلا سفه في الأمر بما لا يريده الآمر
الثاني إذا عاتب الملك ضارب عبده فاعتذر بعصيانه والملك
255

يتوعده بالقتل إن لم يظهر عصيانه فإنه يأمره بفعل تمهيدا لعذره ويريد عصيانه فيه
فإن أحدا لا يريد ما يفضي إلى قتله بل ما يخلصه عنه فقد أمر بخلاف ما يريده ولا سفه
فإن قيل الموجود ههنا صورة الأمر لا حقيقته فإن العاقل لا يأمر بما يؤدي حصوله إلى هلاكه
أجيب بأنه قد يأمر به إذا علم أنه لا يحصل وكان في الأمر به فائدة بخلاف الإرادة
فإنها لا تتعلق به أصلا
الثالث إن الملجأ إلى الأمر قد يأمر ولا يريد فعل المأمور به بل يريد خلافه ولا يعد سفيها
الثاني من وجوه استدلالاتهم لو كان الكفر مراد الله تعالى لكان فعله والإتيان به موافقة لمراد الله تعالى فيكون طاعة مثابا به وأنه باطل ضرورة من الدين
قلنا الطاعة موافقة الأمر
والأمر غير الإرادة وغير مستلزم لها لإنفكاكها عنه في الصور المذكورة
قال الآمدي ويدل على أن موافقة الإرادة ليست طاعة أنه لو أراد شخص شيئا من آخر فوقع المراد من الآخر على وفق إرادة المريد ولا شعور للفاعل بإرادته فإنه لا يعد منه طاعة له
كيف والإرادة كامنة والأمر ظاهر ولهذا يقال في العرف فلان مطاع الأمر
ولا يقال مطاع الإرادة
وقد ضايق بعض أصحابنا في العبارة فقال الكفر مراد بالكافر غير مراد من الكافر لأن القول الثاني ينبئ عن الرضاء بالكفر دون الأول
وهو لفظي لا طائل تحته
الثالث لو كان الكفر مراد الله تعالى لكان واقعا بقضائه
والرضاء بالقضاء واجب إجماعا فكان الرضاء بالكفر واجبا
واللازم باطل لأن الرضاء بالكفر كفر اتفاقا
قلنا الواجب هو الرضاء بالقضاء لا بالمقضي
والكفر
256

مقضي لا قضاء
والحاصل أن الإنكار المتوجه نحو الكفر إنما هو بالنظر إلى المحلية لا إلى الفاعلية
يعني أن للكفر نسبة إلى الله سبحانه باعتبار فاعليته له وإيجاده إياه ونسبة أخرى إلى العبد باعتبار محليته له واتصافه به وإنكاره باعتبار النسبة الثانية دون الأول
والرضاء بالعكس
أي الرضاء به إنما هو باعتبار النسبة الأولى دون الثانية والفرق بينهما ظاهر
وذلك لأنه أوليس
يلزم من وجوب الرضاء بشيء باعتبار صدوره عن فاعله وجوب الرضاء به باعتبار وقوعه صفة لشيء آخر إذ لو صح ذلك لوجب الرضاء بموت الأنبياء وهو باطل إجماعا
الرابع لو أراد الله الكفر وخلاف مراد الله ممتنع عندكم كان الأمر بالإيمان تكليفا بما لا يطاق لأن الإيمان ممتنع الصدور عنه حينئذ
قلنا الذي يمتنع التكليف به عندنا ما لا يكون متعلقا للقدرة الكاسبة عادة إما لاستحالته في نفسه كالجمع بين النقيضين وإما لاستحالة صدوره عن الإنسان في مجاري العادة كالطيران في الجو لا ما يكون مقدورا بالفعل للمكلف به والإيمان في نفسه أمر مقدور يصح أن تتعلق به القدرة الكاسبة عادة وإن لم يكن مقدورا بالفعل للكافر لأن القدرة عندنا مع الفعل لا قبله
وعدم المقدورية بهذا المعنى لا يمنع التكليف فإن المحدث مكلف بالصلاة إجماعا
فهذه دلائل العقل لهم
وربما احتجوا بآيات تدل على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي
الأولى " سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء "
حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا أشركنا بإرادة الله
257

تعالى
ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا ولما صدر عنا تحريم المحللات
فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم
ثم أنه تعالى رد عليهم مقالتهم وبين بطلانها وذمهم عليها بقوله * (كذلك كذب الذين من قبلهم) * قلنا قالوا ذلك الكلام سخرية من النبي ودفعا لدعوته وتعللا لعدم إجابته وانقياده لا تفويضا للكائنات إلى مشيئة الله تعالى
فما صدر عنهم كلمة حق وأريد بها باطل
ولذلك ذمهم الله بالتكذيب لأنهم قصدوا به تكذيب النبي في وجوب اتباعه
والمتابعة دون الكذب لأن ذلك الكلام في نفسه صدق وحق
وقال آخر * (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) * فأشار إلى صدق مقالتهم وفساد غرضهم
الثانية * (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) * فإنها تدل على أن ما كان سيئه أي معصية فإنه مكروه عند الله
والمكروه لا يكون مرادا
قلنا أراد كونه مكروها للعقلاء منكرا لهم في مجاري عاداتهم لمخالفته المصلحة فليس قوله * (عند ربك) * ظرفا لقوله * (مكروها) * أو أراد بقوله مكروها كونه منهيا عنه مجازا
وإنما يرتكب هذا التجوز توفيقا للأدلة أي جمعا بين هذه الآية وبين ما ذكرناه من الدلائل
الثالثة * (وما الله يريد ظلما للعباد) * مع أن الظلم من العباد كائن بلا شبهة
فبعض الكائنات أوليس
مراد الله
قلنا أي لا يريد ظلمه لعباده لا ظلم بعضهم على بعض فإنه كائن ومراد بخلاف ظلمه عليهم فإنه أوليس
بمراد
ولا كائنا بل تصرفه تعالى فيما هو ملكه كيف كان ذلك التصرف لا يكون ظلما بل عدلا وحقا
258

الرابعة * (والله لا يحب الفساد) * والفساد كائن
والمحبة هي الإرادة
فالفساد أوليس
بمراد
قلنا بل المحبة إرادة خاصة
وهي ما لا يتبعها تبعة
ومؤاخذة ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام
الخامسة * (ولا يرضى لعباده الكفر) * والرضاء هو الإرادة
قلنا الرضاء ترك الاعتراض
والله يريد الكفر للكافر ويعترض عليه ويؤاخذه به
ويؤيده أن العبد لا يريد الآلام والأمراض
وليس مأمورا بإرادتها وهو مأمور بترك الاعتراض عليها فالرضاء
أعني ترك الاعتراض
يغاير الإرادة
ثم هذه الآيات معارضة بآيات أخرى هي أدل على المقصود منها
الأولى * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) *
الثانية " أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا "
الثالثة * (فلو شاء لهداكم أجمعين) *
والمعتزلة حملوا المشيئة في هذه الآيات ونظائرها على مشيئة القسر والإلجاء
وليس بشيء لأنه خلاف الظاهر وتقييد للمطلق من غير دلالة عليه
الرابعة * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * وتطهير القلوب بالإيمان فلم يرد الله إيمانهم
259

الخامسة * (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) * فموتهم على الكفر مراد الله
السادسة * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * والمخلوق لها لا يراد إيمانه ولا طاعته بل كفره ومعصيته
السابعة " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون "
والاستدلال بهذه الآية بعيد جدا إذ ليست عامة للكائنات ولا دالة على إرادة المعاصي بل على أنه إذا أراد الله شيئا كونه على أيسر وجه
ويمكن أن يستدل بها على أن إيمان الكافر أوليس
بمراد الله تعالى
إذ لو كان مرادا له لكان مكونا واقعا لكنه مدفوع بأن المعنى إذا أردنا تكوينه فيختص بأفعاله ولا يتناول المعاصي على رأيهم
وذلك أي ما يدل على صحة مذهبنا وفساد مذهبهم في القرآن كثير
خاتمة للمقصد الرابع في نقل رأي الفلاسفة في القضاء والقدر
قالوا الموجود إما خير محض لا شر فيه أصلا كالعقول والأفلاك
وإما الخير غالب عليه كما في هذا العالم الواقع تحت كرة القمر
فإن المرض مثلا وإن كان كثيرا فالصحة أكثر منه وكذلك الألم كثير واللذة أكثر منه
فالموجود عندهم منحصر في هذين القسمين
وأما ما يكون شرا محضا أو كان الشر فيه غالبا أو مساويا فليس شيء منها موجودا
ولما كان لقائل أن يقول لماذا لم يجرد هذا العالم عن الشرور أشار إلى جوابه بقوله ثم لا يمكن تنزيه هذا العالم من الشرور بالكلية لأن ما يمكن براءته عن الشرور كلها فهو القسم الأول
وكلامنا في خيرات كثيرة تلزمها شرور قليلة بالقياس إليها
وقطع الشيء عما هو لازم له محال
وحينئذ فكان الخير واقعا بالقصد
260

الأول داخلا في القضاء دخولا أصليا ذاتيا
وكان الشر واقعا بالضرورة وداخلا في القضاء دخولا بالتبع والعرض
وإنما التزم فعله أي فعل ما غلب خيره لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير
فليس من الحكمة ترك المطر الذي به حياة العالم لئلا ينهدم به دور معدودة أو لا يتألم به سابح في البر أو البحر يرشدك إلى ذلك أنه إذا لدغ أصبع إنسان وعلم أنها إذا قطعت سلم باقي البدن وإلا سرى الفساد إليه فإنه يأمر بقطعها ويريده تبعا لإرادة سلامته من الهلاك
فسلامة البدن خير كثير يستلزم شرا قليلا
فلا بد للعاقل أن يختاره وإن احترز عنه حتى هلك لم يعد عاقلا فضلا عن أن يعد حكيما فاعلا لما يفعله على ما ينبغي
واعلم أن قضاء الله عند الأشاعرة هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال وقدره إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها
وأما عند الفلاسفة فالقضاء عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام
وهو المسمى عندهم بالعناية التي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها
والقدر عبارة عن خروجها إلى الوجود العيني بأسبابها على الوجه الذي تقرر في القضاء
والمعتزلة ينكرون القضاء والقدر في الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد ويثبتون علمه تعالى بهذه الأفعال ولا يسندون وجودها إلى ذلك العلم بل إلى اختيار العباد وقدرتهم
المقصد الخامس
المتن في الحسن والقبح
القبيح ما نهي عنه شرعا
والحسن بخلافه
ولا
261

حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها
وليس ذلك عائدا إلى أمر حقيقي في الفعل يكشف عنه الشرع
بل الشرع هو المثبت له والمبين
ولو عكس القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر
وقالت المعتزلة بل الحاكم بهما العقل والفعل حسن أو قبيح في نفسه
والشرع كاشف ومبين
وليس له أن يعكس القضية
ولا بد أولا من تحرير محل النزاع فنقول الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة
الأول صفة الكمال والنقص
يقال العلم حسن والجهل قبيح
ولا نزاع أن مدركه العقل
الثاني ملاءمة الغرض ومنافرته
وقد يعبر عنهما بالمصلحة والمفسدة
وذلك أيضا عقلي ويختلف بالاعتبار
فإن قتل زيد مصلحة لأعدائه ومفسدة لأوليائه
الثالث تعلق المدح والثواب أو الذم والعقاب
وهذا هو محل النزاع فهو عندنا شرعي
وعند المعتزلة عقلي
قالوا للفعل جهة محسنة أو مقبحة
ثم أنها قد تدرك بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار
وقد تدرك بالنظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع مثلا
وقد لا تدرك بالعقل
ولكن إذا ورد به الشرع علم أن ثمة جهة محسنة كما في صوم آخر يوم من رمضان أو مقبحة كصوم
262

أول يوم من شوال
ثم أنهم اختلفوا فذهب الأوائل منهم إلى إثبات صفة توجب ذلك مطلقا وأبو الحسين من متأخريهم إلى إثبات صفة في القبيح دون الحسن
والجبائي إلى نفيه فيهما مطلقا
وأحسن ما نقل عنهم في العبارات الحدية قول أبي الحسين القبيح ما أوليس
للمتمكن منه ومن العلم بحاله أن يفعله
ويتبعه أنه يستحق الذم فاعله
وأنه على صفة تؤثر في استحقاق الذم
والذم قول أو فعل أو ترك قول أو فعل ينبئ على اتضاع حال الغير
لنا وجهان
الأول أن العبد مجبور في أفعاله
وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح اتفاقا
بيانه أن العبد إن لم يتمكن من الترك فذاك هو الجبر
وإن تمكن ولم يتوقف على مرجح بل صدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى من غير سبب كان ذلك اتفاقيا
وإن توقف على مرجح لم يكن ذلك من العبد وإلا تسلسل ووجب الفعل عنده وإلا جاز معه الفعل والترك فاحتاج إلى مرجح آخر وتسلسل فيكون اضطراريا
وعلى التقادير فلا اختيار للعبد فيكون مجبورا
فإن قيل هذا نصب للدليل في مقابلة الضرورة فلا يسمع
وأيضا فإنه ينفي قدرة الله تعالى لاطراد الدليل في أفعاله
والمقدمات المقدمات والتقرير التقرير
وأيضا فإنه ينفي الحسن والقبح الشرعيين لأنه تكليف ما لا يطاق
وأنتم وإن جوزتموه فلا تقولون بوقوعه
ولا يكون كل التكاليف كذلك
وأيضا فالمرجح داع له يقتضي اختياره للفعل
وذلك لا ينفي الاختيار
قلنا أما الأول فإن الضروري وجود القدرة لا وقوع الفعل بقدرته
وأما الثاني فالمقدمة القائلة بأن الفعل الواقع لا لمرجح اتفاقي إنما هي مقدمة إلزامية بالنسبة إلى المعتزلة
ونحن لا نقول بها فإن الترجيح بمجرد
263

الاختيار عندنا جائز
ولا يخرج ذلك الفعل عن كونه اختياريا كما تقدم في مسألة الهارب من السبع والعطشان الواجد للقدحين المتساويين
وأيضا فمرجح فاعليته تعالى قديم
ولا يحتاج إلى مرجح
إذ المحوج إلى المؤثر عندنا الحدوث دون الإمكان
وأما الثالث فلا يجب عندنا في الواجب الشرعي تأثير قدرة الفاعل فيه بل يجب أن يكون الفعل مما هو مقدور عادة
وأما الرابع فمقصودنا أن العبد غير مستقل بإيجاد فعله من غير داع يحصل له بخلق الله تعالى إياه وقد بيناه
وذلك كاف في عدم الحكم عقلا إذ لا فرق بين أن يوجد الله الفعل كما قاله الشيخ وبين أن يوجد ما يجب الفعل عنده كما قاله بعض أصحابه
وفي كونه مانعا من حكم العقل عند الخصم
الثاني لو كان قبح الكذب ذاتيا لما تخلف عنه
لأن ما بالذات لا يزول
واللازم باطل
فإنه قد يحسن إذا كان فيه عصمة دم نبي بل يجب ويذم تاركه قطعا
وكذا إذا كان فيه إنجاء متوعد بالقتل
وللأصحاب مسالك ضعيفة نذكرها ونشير إلى وجه ضعفها
أحدها من قال لأكذبن غدا
فإذا جاز الغد فكذبه إما حسن فليس الكذب قبيحا لذاته
وإما قبيح فتركه حسن مع أنه يستلزم كذبه فيما قاله أمس ومستلزم القبيح قبيح
قلنا لا نسلم أن مستلزم القبيح قبيح لأن الحسن لذاته قد يستلزم القبيح فتتعدد جهة الحسن والقبح فيه وأنه غير ممتنع أو نلتزم قبحه مطلقا لأنه قبيح إما لذاته وإما لاستلزامه القبيح
ونقول الحسن إنما يحسن إذا لم يستلزم القبيح
الثاني من قال زيد في الدار
ولم يكن فقبح هذا القول إما لذاته أو مع عدم كون زيد في الدار
والقسمان باطلان
فالأول لاستلزامه قبحه وإن كان زيد في الدار
والثاني لأنه يستلزم كون العدم جزء علة الوجود
264

قلنا قد يكون قبحه مشروطا بعدم كون زيد في الدار والشرط لا يمتنع أن يكون عدميا
الثالث قبحه لكونه كذبا إن قام بكل حرف فكل حرف كذب فهو خبر
وبطلانه ظاهر
وإن قام بالمجموع فلا وجود له لترتبها وتقضي المتقدم عند حصول المتأخر
قلنا هو من صفاته النفسية فلا يستدعي صفة كما هو مذهب بعضهم أو يقوم بكل حرف بشرط انضمام الآخر إليه
فقبحه لكونه جزء خبر كاذب أو بالمجموع لكونه كاذبا فما هو جوابكم فيه فهو جوابنا
الرابع كونه قبيحا أوليس
نفس ذاته لتعلقها دونه بل زائد وأنه موجود لأنه نقيض اللاقبيح القائم بالمعدوم فيلزم قيام المعنى بالمعنى
قلنا قد سبق الكلام على مقدماته مع انتقاضه بالإمكان والحدوث
الخامس علة القبح حاصلة قبل الفعل
ولذلك أوليس
له أن يفعله ويلزم قيام الصفة الحقيقية بالمعدوم
قلنا يحكم العقل باتصافه بالقبح إذا حصل
وهذا هو المانع من فعله
ثم للمعتزلة في المسألة طريقان حقيقيان وطريقان إلزاميان
أما الحقيقيان فأحدهما أن الناس طرا يجزمون بقبح الظلم والكذب الضار والتثليث وقتل الأنبياء بغير حق
وليس ذلك بالشرع إذ يقول به غير المتشرع
ومن لا يتدين بدين أصلا ولا العرف إذ العرف يختلف بالأمم
وهذا لا يختلف
265

والجواب أن ذلك بمعنى الملاءمة والمنافرة أو صفة الكمال والنقص مسلم وبالمعنى المتنازع فيه ممنوع
وثانيهما أن من عن له تحصيل غرض من الأغراض واستوى فيه الصدق والكذب فإنه يؤثر الصدق قطعا وكذا من رأى شخصا قد أشرف على الهلاك وهو قادر على إنقاذه مال إلى إنقاذه قطعا
وإن لم يرج منه ثوابا ولا شكورا
كما إن كان المنقذ طفلا أو مجنونا
وليس ثمة من يراه ولا يتصور فيه غرضا من جذب نفع أو دفع ضر
والجواب أما حديث اختيار الصدق فلأنه قد تقرر في النفوس كونه ملائما لمصلحة العالم
والكذب منافرا
ولا يلزم من فرض الاستواء تحققه
وأما حديث الإنقاذ فذلك لرقة الجنسية
وذلك مجبول في الطبيعة وسببه أنه يتصور مثله في حق نفسه فيستحسن فعل المنقذ له إذا قدره فيجره ذلك إلى استحسانه من نفسه في حق الغير
وأما الإلزاميان فأحدهما لو حسن من الله كل شيء لحسن منه الكذب
وفي ذلك إبطال للشرائع وبعثة الرسل بالكلية لأنه قد يكون في تصديقه للنبي كاذبا فلا يمكن تمييز النبي عن المتنبىء
وأنه باطل إجماعا
ولحسن منه خلق المعجزة على يد الكاذب وعاد المحذور
الجواب أن مدرك امتناع الكذب عندنا أوليس
هو قبحه إذ يجوز أن يكون له مدرك آخر
وقد تقدم هذا
ودلالة المعجزة عادية وسيأتي
وثانيهما الإجماع على تعليل الأحكام بالمصالح والمفاسد
وفي منعه سد باب القياس وتعطل أكثر الوقائع من الأحكام
وأنتم لا تقولون به
266

قلنا اهتداء العقل إلى المصالح والمفاسد أوليس
من المقصود في شيء كما مر
وقد يحتج بلزوم إفحام الأنبياء وقد مر في باب النظر
تفريع إذا ثبت أن الحاكم بالحسن والقبح هو الشرع ثبت أن لا حكم للأفعال قبل الشرع
وأما المعتزلة فقالوا ما يدرك جهة حسنه أو قبحه بالعقل ينقسم إلى الأقسام الخمسة لأنه إن اشتمل تركه على مفسدة فواجب أو فعله فحرام
وإلا فإن اشتمل فعله على مصلحة فمندوب أو تركه فمكروه
وإلا فمباح
وأما ما لا يدرك جهته بالعقل فلا يحكم فيه بحكم خاص تفصيلي في فعل فعل وأما على سبيل الإجمال فقيل بالحذر والإباحة والتوقف
دليل الحذر أنه تصرف في ملك الغير بلا إذنه فيحرم كما في الشاهد
الجواب الفرق بتضرر الشاهد
دليل الإباحة وجهان
أحدهما أنه تصرف لا يضر المالك فيباح كالاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره والنظر في مرآته
الجواب أن الأصل ثبت بالشرع وحكم العقل فيه بالمعنى المتنازع فيه ممنوع
ثانيهما أنه تعالى خلق العبد وخلق الشهوة فيه وخلق المنتفع به
فالحكمة تقتضي إباحته
وكيف يدرك تحريمه بالعقل
وما هو إلا كمن يغترف غرفة من بحر لا ينزف ليدفع به عطشه المهلك
أترى العقل يحكم بمنع أكرم الأكرمين منه وتكليفه التعرض للهلاك كلا
والجواب ربما خلقه ليصبر عنه فيثاب أو لغرض آخر لا نعلمه
وأما التوقف فيفسر تارة بعدم الحكم ومرجعه الإباحة
إذ ما لا منع منه فمباح إلا أن يشترط الإذن فيرجع إلى كونه شرعيا
وتارة بعدم العلم
وهذا أمثل لا لتعارض الأدلة بل لعدم الدليل
267

الشرح
المقصد الخامس في الحسن والقبح
القبيح عندنا ما نهي عنه شرعا نهي تحريم أو تنزيه
والحسن بخلافه أي ما لم ينه عنه شرعا كالواجب والمندوب والمباح
فإن المباح عند أكثر أصحابنا من قبيل الحسن وكفعل الله سبحانه وتعالى فإنه حسن أبدا بالاتفاق
وأما فعل البهائم فقد قيل إنه لا يوصف بحسن ولا قبح باتفاق الخصوم
وفعل الصبي مختلف فيه
ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها
وليس ذلك أي حسن الأشياء وقبحها عائد إلى أمر حقيقي حاصل في الفعل قبل الشرع يكشف عنه الشرع كما تزعمه المعتزلة
بل الشرع هو المثبت له والمبين فلا حسن ولا قبح للأفعال قبل ورود الشرع
ولو عكس الشارع القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر فصار القبيح حسنا والحسن قبيحا كما في النسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة
وقالت المعتزلة بل الحاكم بهما هو العقل والفعل حسن أو قبيح في نفسه إما لذاته وإما لصفة لازمة له
وإما لوجوه واعتبارات على اختلاف مذاهبهم
والشرع كاشف ومبين للحسن والقبح الثابتين له على أحد الأنحاء الثلاثة
وليس له أن يعكس القضية من عند نفسه
نعم إذا اختلف حال الفعل في الحسن والقبح بالقياس إلى الأزمان أو الأشخاص والأحوال كان له أن يكشف عما تغير الفعل إليه من حسنه أو قبحه في نفسه
ولا بد أولا أي قبل الشروع في الاحتجاج من تحرير محل النزاع ليتضح المتنازع فيه
268

ويرد النفي والإثبات على شيء واحد فنقول وبالله التوفيق الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة
الأول صفة الكمال والنقص فالحسن كون الصفة صفة كمال
والقبح كون الصفة صفة نقصان
يقال العلم حسن أي لمن اتصف به كمال وارتفاع شأن
والجهل قبيح أي لمن اتصف به نقصان واتضاع حال ولا نزاع في أن هذا المعنى أمر ثابت للصفات في أنفسها
وأن مدركه العقل
ولا تعلق له بالشرع
الثاني ملاءمة الغرض ومنافرته فما وافق الغرض كان حسنا وما خالفه كان قبيحا
وما أوليس
كذلك لم يكن حسنا ولا قبيحا
وقد يعبر عنهما أي عن الحسن والقبح بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة فيقال الحسن ما فيه مصلحة والقبيح ما فيه مفسدة
وما خلا عنهما لا يكون شيء منهما
وذلك أيضا عقلي أي مدركه العقل كالمعنى الأول
ويختلف بالاعتبار
فإن قتل زيد مصلحة لأعدائه وموافق لغرضهم ومفسدة لأوليائه ومخالف لغرضهم
فدل هذا الاختلاف على أنه أمر إضافي لا صفة حقيقة
وإلا لم يختلف كما لا يتصور كون الجسم الواحد أسود وأبيض بالقياس إلى شخصيتين
الثالث تعلق المدح والثواب بالفعل عاجلا وآجلا أو الذم والعقاب كذلك فما تعلق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمى حسنا
وما تعلق به الذم في العاجل والعقاب في الآجل يسمى قبيحا
وما لا يتعلق به شيء منهما فهو خارج عنهما
هذا في أفعال العباد
وإن أريد به ما يشمل أفعال الله تعالى اكتفى بتعلق المدح والذم وترك الثواب والعقاب
269

وهذا المعنى الثالث هو محل النزاع فهو عندنا شرعي
وذلك لأن الأفعال كلها سواسية أوليس
شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ولا ذم فاعله وعقابه
وإنما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها
وعند المعتزلة عقلي فإنهم قالوا للفعل في نفسه مع قطع النظر عن الشرع جهة محسنة مقتضية لاستحقاق فاعله مدحا وثوابا أو مقبحة مقتضية لاستحقاق فاعله ذما وعقابا
ثم إنها أي تلك الجهة المحسنة أو المقبحة قد تدرك بالضرورة من غير تأمل وفكر كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار فإن كل عاقل يحكم بهما بلا توقف
وقد تدرك بالنظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع مثلا
وقد لا تدرك بالعقل لا بالضرورة ولا بالنظر
ولكن إذا ورد به الشرع علم أنه ثمة جهة محسنة كما في صوم آخر يوم من رمضان حيث أوجبه الشارع أو جهة مقبحة كصوم أول يوم من شوال حيث حرمه الشارع
فإدراك الحسن والقبح في هذا القسم موقوف على كشف الشرع عنهما بأمره ونهيه
وأما كشفه عنهما في القسمين الأولين
فهو مؤيد لحكم العقل بهما إما بضرورته أو بنظره
ثم أنهم اختلفوا فذهب الأوائل منهم إلى أن حسن الأفعال وقبحها لذواتها لا لصفات فيها تقتضيهما
وذهب بعض من يعدم من المتقدمين إلى إثبات صفة حقيقة توجب ذلك مطلقا أي في الحسن والقبح جميعا فقالوا أوليس
حسن الفعل أو قبحه لذاته كما ذهب إليه من تقدمنا من أصحابنا
بل لما فيه من صفة موجبة لأحدهما
وذهب أبو الحسين من متأخريهم إلى إثبات صفة في القبيح مقتضية لقبحه دون الحسن إذ لا حاجة به إلى صفة محسنة له بل يكفيه لحسنه انتفاء الصفة المقبحة
وذهب الجبائي إلى نفيه أي نفي الوصف الحقيقي فيهما مطلقا فقال أوليس
حسن الأفعال وقبحها لصفات حقيقية فيها بل لوجوه اعتبارية وأوصاف إضافية تختلف بحسب الاعتبار كما في لطمة اليتيم تأديبا وظلما
وأحسن ما نقل عنهم في العبارات الحدية قول أبي الحسين القبيح ما أوليس
للمتمكن منه ومن العلم بحاله أن يفعله
اعتبر
270

قيد التمكن احترازا عن فعل العاجز والملجأ فإنه لا يوصف بقبح ولا حسن
وقيد العلم ليخرج عنه المحرمات الصادرة عمن لم تبلغه دعوة نبي أو عمن هو قريب العهد بالإسلام
واكتفى بالتمكن من العلم ليدخل فيه الكفر ممن في شاهق الجبل فإنه متمكن من العلم بالله تعالى بالدلائل العقلية
وأراد بقوله أوليس
له أن يفعله أن الإقدام عليه لا يلائم عقل العقلاء
ويتبعه أو يتبع هذا التعريف المذكور للقبيح تعريفان آخران له
أحدهما أنه فعل يستحق الذم فاعله المتمكن منه ومن العلم بحاله
وذلك أنه لم يكن له أن يفعله
وثانيهما أنه فعل هو على صفة تؤثر في استحقاق الذم إذ لو لم يكن كذلك لكان للقادر العالم به أن يفعله
والذم قول أو فعل أو ترك قول أو فعل ينبئ عن اتضاع حال الغير وانحطاط شأنه
وإذا تصورت هذا التحرير تقول لنا على أن الحسن والقبح ليسا عقليين وجهان
الأول أن العبد مجبور في أفعاله
وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح لأن ما أوليس
فعلا اختياريا لا يتصف بهذه الصفات اتفاقا منا ومن الخصوم
بيانه أي بيان كونه مجبورا أن العبد إن لم يتمكن من الترك فذاك هو الجبر لأن الفعل حينئذ واجب والترك ممتنع
وإن تمكن من الترك ولم يتوقف وجود الفعل منه على مرجح بل صدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى من غير سبب يرجح وجوده على عدمه كان ذلك الفعل حينئذ اتفاقيا صادرا بلا سبب يقتضيه
فلا لا يكون اختياريا لأن الفعل الاختياري لا بد له من إرادة جازمة ترجحه
وإن توقف وجود الفعل منه على مرجح لم يكن ذلك المرجح من العبد
وإلا نقلنا الكلام إلى صدور ذلك المرجح عنه
وتسلسل
وهو محال
ووجب الفعل عنده أي عند المرجح الذي يتوقف عليه
وإلا جاز معه الفعل والترك واحتاج حينئذ إلى مرجح آخر
إذ لو لم يحتج إليه وصدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى كان اتفاقيا كما
271

مر
وإذا احتاج إلى مرجح آخر نقلنا الكلام إليه وتسلسل فيكون الفعل على تقدير وجوبه مع ذلك المرجح اضطراريا
وعلى التقادير أعني امتناع الترك وكون الفعل اتفاقيا أو اضطراريا فلا اختيار للعبد في أفعاله فيكون مجبورا فيها فلا يتصف شيء منها بالحسن والقبح العقليين بالإجماع المركب
أما عندنا فلأنه لا مدخل للعقل فيهما
وأما عندهم فلأنهما من صفات الأفعال الاختيارية
فإن قيل هذا أي استدلالكم على كون العبد مجبورا نصب للدليل في مقابلة الضرورة إذ كل واحد من العقلاء يعلم أن له اختيارا في أفعاله يفرق بين الاختياري والاضطراري منها فلا يسمع لأنه سفسطة باطلة ومكابرة ظاهرة
وأيضا فإنه أي دليلكم ينفي قدرة الله تعالى لاطراد الدليل في أفعاله والمقدمات المقدمات والتقرير التقرير
فيقال إن لم يتمكن من الترك فذاك
وإن تمكن منه لم يتوقف الفعل على مرجح إلى آخر ما مر
فقد انتقض الدليل المذكور بأفعاله تعالى
وأيضا فإنه أي هذا الدليل كما ينفي الحسن والقبح العقليين ينفي أيضا الحسن والقبح الشرعيين المتفرعين على ثبوت التكليف
وإذا كان العبد مجبورا لم يثبت عليه تكليف لأنه تكليف ما لا يطاق
ونحن لا نجوزه وأنتم وإن جوزتموه فلا تقولون بوقوعه
ولا يكون كل التكاليف كذلك أي تكليفا بما لا يطاق كما لزم من دليلكم
والحاصل أن كون العبد مجبورا ينافي كونه مكلفا فلا يوصف فعله بحسن ولا قبح شرعي مع أنهما ثابتان عندكم فانتقض دليلكم بهما فما هو جوابكم فهو جوابنا
والأظهر أن يقال أنه ينفي الشرعيين أيضا لأنهما من صفات الأفعال الاختيارية
فإن حركة المرتعش والنائم والمغمى عليه لا
272

توصف في الشرع بحسن ولا قبح
ويستلزم أيضا كون التكاليف بأسرها تكليفا بما لا يطاق
ولا قائل به
وأيضا فالمرجح الذي يتوقف عليه فعل العبد داع له يقتضي اختياره الموجب للفعل
وذلك لا ينفي الاختيار بل يثبته
وهذا السؤال هو الحل وما قبله إما نقض أو في حكمه
قلنا أما الأول فلأن الضروري وجود القدرة والاختيار لا وقوع الفعل بقدرته واختياره
واستدلالنا إنما هو على نفي الثاني دون الأول فلا يكون مصادما للضرورة
وأما الثاني وهو النقض بأفعال الباري فالمقدمة القائلة بأن الفعل الواقع لا لمرجح اتفاقي لا اختياري إنما هي مقدمة إلزامية بالنسبة إلى المعتزلة القائلين بأن قدرة العبد لا تؤثر في فعل إلا إذا انضم إليها مرجح يسمونه الداعي
ونحن لا نقول بها
فإن الترجيح بمجرد الاختيار المتعلق بأحد طرفي الفعل لا لداع عندنا جائز
ولا يخرج ذلك الفعل عن كونه اختياريا كما تقدم في مسألة الهارب من السبع والعطشان الواجد للقدحين المتساويين
وإذا لم نقل بهذه المقدمة لم يرد علينا النقض بفعل الله تعالى
وأيضا على تقدير صحة هذه المقدمة عندنا أوليس
هذا الدليل بعينه جاريا في فعله تعالى لأنا نختار أنه متمكن من الترك
وأن فعله يتوقف على مرجح لكن ذلك المرجح قديم فلا يحتاج إلى مرجح آخر حتى يلزم التسلسل في المرجحات كما في فعل العبد إذا كان مرجحه صادرا عنه إذ لا بد أن يكون ذلك الصادر عنه حادثا محتاجا إلى آخر
فالمقدمة القائلة بأن مرجح الفعل إذا كان صادرا عن فاعله لزم التسلسل غير صادقة في حقه تعالى بل في حق العبد
وإلى ما قررناه أشار بقوله فمرجح فاعليته تعالى قديم هو إرادته وقدرته المستندتان إلى ذاته إيجابا والمتعلقتان بالفعل في وقت مخصوص
273

فإن قلت مع ذلك المرجح القديم إن وجب الفعل انتفى الاختيار وإلا جاز أن يصدر معه الفعل تارة ولا يصدر أخرى فيكون اتفاقيا كما مر في العبد
قلت لنا أن نختار الوجوب ولا محذور
لأن المرجح الموجب إرادته المستند إلى ذاته بخلاف إرادة العبد فإنها مستندة إلى غير ذلك
فإذا كانت موجبة لزم الجبر فيه قطعا
وقد مر هذا مرة مع الإشارة إلى ما فيه من شائبة الإيجاب فلا يحتاج ذلك المرجح القديم إلى مرجح آخر حتى يتسلسل إذ المحوج إلى المؤثر عندنا الحدوث دون الإمكان بخلاف مرجح فاعلية العبد فإنه حادث محتاج إلى مؤثر
فإن كان مؤثره العبد تسلسل وإن كان غيره كان هو مجبورا في فعله
وأما الثالث وهو النقض بالحسن والقبح الشرعيين فلا يجب عندنا في الواجب الشرعي تأثير قدرة الفاعل فيه بل يجب أن يكون الفعل مما هو مقدور عادة أي يكون مما يقارنه القدرة والاختيار في الجملة
ولا يكفي ذلك في الواجب العقلي عندكم إذ لا بد فيه من تأثير القدرة فلا يتجه علينا النقض الشرعي
وأما الرابع وهو الحل فمقصودنا من دليلنا على كون العبد مجبورا ومضطرا أن العبد غير مستقل بإيجاد فعله من غير داع واختيار يترتب على ذلك الداعي ويوجب الفعل يحصل أي ذلك الداعي مع ما يترتب عليه له بخلق الله تعالى إياه
وقد بيناه أي عدم استقلاله بهذا المعنى وذلك كاف في عدم الحكم بالحسن والقبح عقلا
إذ لا فرق بين أن يوجد الله الفعل في العبد كما قاله الشيخ وبين أن يوجد ما يجب الفعل
274

عنده كما قال بعض أصحابه كإمام الحرمين
وفي كونه مانعا من حكم العقل الحسن والقبح عند الخصم فإذا كان داعية إلى الاختيار الموجب للفعل من فعل الله فقد تم مطلوبنا
الثاني من الوجهين وإنما ينتهض حجة على غير الجبائي لو كان قبح الكذب ذاتيا أي لذاته أو لصفة لازمة لذاته لما تخلف القبح عنه لأن ما بالذات وكذا ما هو بواسطة لازم الذات لا يزول عن الذات وهو ظاهر
واللازم باطل فإنه أي الكذب قد يحسن إذا كان فيه عصمة دم نبي من ظالم بل يجب الكذب حينئذ لأنه دفع للظالم على المظلوم ويذم تاركه فيه قطعا فقد اتصف الكذب بغاية الحسن
وكذا يحسن بل يجب إذا كان فيه إنجاء متوعد بالقتل ظلما
لا يقال الحسن والواجب هو العصمة والإنجاء وقد يحصلان بدون الكذب إذ يمكن أن يأتي بصورة الخبر بلا قصد إلى الإخبار أو يقصد بكلامه معنى آخر بطريق التعريض والتورية فلا يكون كاذبا في نفس الأمر
ومن ثمة قيل إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب
وإذا لم يتعين الكذب للدفع كان الإتيان به قبيحا لا حسنا لأنا نقول قد يضيق السائل عليه في السؤال بحيث لا يمكنه عدم القصد والتعريض
ولو جوز حمل كلامه في مثل هذا المقام على عدم القصد بالكلية أو على قصد أي معنى كان لم يحصل الجزم بالقصد في شيء من الإخبار ولا يكون شيء منها كذبا إذ لا كلام إلا ويمكن أن يقدر فيه من الحذف والزيادة ما يصير معه
وإذا حسن الكذب ههنا قبح الصدق لأنه إعانة للظالم على ظلمه فلا يكون حسن الصدق أيضا ذاتيا
وكذا الحال في سائر الأفعال
وللأصحاب في إبطال التحسين والتقبيح العقليين مسالك ضعيفة نذكرها ونشير إلى وجه ضعفها
أحدها من قال لأكذبن غدا
فإذا جاء الغد فكذبه إما حسن فليس
275

الكذب قبيحا لذاته
وإما قبيح فتركه حسن
مع أنه أي تركه يستلزم كذبه فيما قاله أمس ومستلزم القبيح قبيح فيلزم أن يكون هذا الترك حسنا وقبيحا معا
وهو باطل فتعين الأول وهو أن لا يكون قبح الكذب ذاتيا لانقلابه حسنا
وهو المطلوب
قلنا لا نسلم أن مستلزم القبيح قبيح لأن الحسن لذاته قد يستلزم القبيح فتتعدد جهة الحسن والقبح فيه وأنه غير ممتنع فيكون مثلا الكلام الواحد من حيث تعلقه بالمخبر عنه على ما هو به حسنا
ومن حيث استلزامه للقبيح الذي هو الكذب فيما قاله أمس قبيحا
ومثل ذلك جائز عند الجبائية القائلين بالوجوه والاعتبارات فلا ينتهض هذا المسلك حجة عليهم كما أن الوجه الثاني كذلك إذ يتجه هناك أن يقال لم يتخلف القبح عن الكذب بل هو قبيح باعتبار تعلقه بالمخبر عنه لا على ما هو به وحسن باعتبار استلزامه للعصمة والإنجاء
وقد نبهناك على ذلك أو نلتزم قبحه أي قبح كلامه في الغد مطلقا لأنه قبيح إما لذاته إن كان كاذبا وإما لاستلزامه القبيح إن كان صادقا
ونقول الحسن كالكلام الصادق فيما نحن فيه إنما يحسن إذا لم يستلزم القبيح
وأنت خبير بأن انقلاب الحسن إلى القبيح إنما يتأتى على القول بالوجوه الاعتبارية فضعف هذا المسلك إنما يظهر إذا جعل دليلا على بطلان مذاهب المعتزلة كلها
الثاني من المسالك الضعيفة من قال زيد في الدار ولم يكن زيد فيها فقبح هذا القول إما لذاته وحده أو مع عدم كون زيد في الدار إذ لا قائل بقسم ثالث
والقسمان باطلان
فالأول لاستلزامه قبحه وإن كان زيدا في الدار
والثاني لأنه يستلزم كون العدم جزء علة الوجود
276

قلنا قد يكون قبحه مشروطا بعدم كون زيد في الدار والشرط لا يمنع أن يكون عدميا
الثالث قبحه أي قبح الكلام الكاذب لكونه كذبا إن قام بكل حرف منه فكل حرف كذب
إذ المفروض أنه متصف بالقبح المعلل بالكذب فهو خبر لأن الكذب من صفات الخبر
وبطلانه ظاهر
وإن قام بالمجموع فلا وجود له لترتبها أي ترتب الحروف وتقضي المتقدم منها عند حصول المتأخر
وإذ لم يكن للمجموع وجود فكيف يتصور اتصافه بالقبح الذي هو صفة ثبوتية
فالمصنف ردد في نفس القبح هل هو قائم بكل حرف أو بمجموعها
وأما الآمدي فإنه قال لو كان الخبر الكاذب قبيحا عقلا
فالمقتضي لقبحه إما أن يكون صفة لمجموع حروفه أو لآحادها
والأول باطل لأن ما لا وجود له لا يتصف بصفة مقتضية لأمر ثبوتي لأن المقتضي له لا بد أن يكون ثبوتيا فلا يكون صفة للعدم
والثاني باطل أيضا لأن مقتضى القبح في الخبر الكاذب إنما هو الكذب
ولا يمكن قيامه بكل حرف
وإلا كان كل حرف خبرا وهو محال
قلنا هو أي القبح من صفاته النفسية لا من صفاته المعنوية فلا يستدعي صفة يكون هو معللا بها كما هو مذهب بعضهم القائلين بأن حسن الأفعال وقبحها لذواتها لا لصفات حقيقة قائمة بها
وهذا الجواب إنما يتجه على تقرير الآمدي
وأما على تقرير الكتاب فينبغي أن يقال أوليس
يلزم من كون القبح ذاتيا أي مستندا إلى ذات الشيء أن يكون موجودا خارجيا حتى يمتنع وقوعه صفة لأمر عدمي لجواز أن يقتضي ذات الشيء اتصافه بصفة اعتبارية ويستحيل انفكاكها عنه أو يقوم القبيح بكل حرف بشرط
277

انضمام الآخر إليه فقبحه لكونه جزء خبر كاذب أو يقوم القبيح بالمجموع لكونه كاذبا
وما هو جوابكم فيه فهو جوابنا في قيام القبح به
الرابع كونه أي كون الفعل قبيحا أوليس
نفس ذاته ولا جزء منها لتعلقها دونه بل زائد عليها وأنه موجود لأنه نقيض اللاقبيح القائم بالمعدوم فيلزم حينئذ قيام المعنى الذي هو القبح بالمعنى الذي هو الفعل
قلنا قد سبق الكلام على مقدماته
فإن نقيض العدمي لا يجب أن يكون موجودا
وارتفاع النقيضين إنما يستحيل في الصدق دون الوجود
وأيضا لا نسلم امتناع قيام العرض بالعرض إذ لم يقم عليه دليل كما عرفت مع انتقاضه بالإمكان والحدوث فإن هذا الدليل الذي أوردتموه على كون القبح أمرا موجودا جاز فيهما مع كونهما اعتباريين
الخامس علة القبح حاصلة قبل الفعل
ولذلك أوليس
له أن يفعله فلولا أن ما يقتضي قبحه حاصل قبل وجوده لم يكن كذلك
ويلزم حينئذ قيام الصفة الحقيقية بالمعدوم لأن مقتضى القبح صفة وجودية
وقد يقال لو كان القبح ذاتيا لزم تقدم المعلول على علته لأن قبيح الفعل حاصل قبله لما عرفت وعلته إما ذات الفعل وصفته وليس شيء منهما حاصلا قبله
قلنا لا نسلم أن القبح أو علته حاصل قبل الفعل بل يحكم العقل باتصافه بالقبح وبما يقتضيه إذا حصل
وهذا الحكم هو المانع من فعله والإقدام عليه لاتصافه بالقبح أو بما يقتضيه
على أن القدماء منهم زعموا أن الذوات ثابتة متقررة في الأزل فيصح عندهم اتصافها بالصفات الثبوتية
ثم للمعتزلة في المسألة طريقان حقيقيان وطريقان إلزاميان
أما الحقيقيان فأحدهما أن الناس طرا يجزمون بقبح الظلم والكذب الضار والتثليث وقتل
278

الأنبياء بغير حق
وكذا يجزمون بحسن العدل والصدق النافع والإيمان وعصمة الأنبياء من أنواع الإيذاء
وليس ذلك الجزم منهم بالقبح أو الحسن بالشرع
إذ يقول به غير المتشرع ومن لا يتدين بدين أصلا كالبراهمة ولا بالعرف إذ العرف يختلف بالأمم على حسب اختلافهم
وهذا الذي ذكرناه لا يختلف بل الأمم قاطبة مطبقون عليه
والجواب أن ذلك أي جزم العقلاء كلهم بالحسن والقبح في الأمور المذكورة بمعنى الملاءمة والمنافرة أو صفة الكمال والنقص مسلم إذ لا نزاع لنا في أنهما بهذين المعنيين عقليان
وبالمعنى المتنازع فيه ممنوع على أنه قد يقال جاز أن يكون هناك عرف عام هو مبدأ لذلك الجزم المشترك
وثانيهما أن من عن له تحصيل غرض من الأغراض واستوفى فيه الصدق والكذب فإنه يؤثر الصدق قطعا بلا تردد وتوقف
فلولا أن حسنه مركوز في عقله لما اختاره كذلك
وكذا من رأى شخصا قد أشرف على الهلاك وهو قادر على إنقاذه مال إلى إنقاذه قطعا واستغرق في ذلك طوقه
وإن لم يرج منه ثوابا ولا شكورا كما إن كان المنقذ طفلا أو مجنونا
وليس ثمة من يراه ولا يتصور فيه غرضا من جذب نفع أو دفع ضر
بل ربما يتضرر فيه بتعب شاق فلم يبق هناك حامل سوى كون الإنقاذ حسنا في نفسه
والجواب أما حديث اختيار الصدق فلأنه قد تقرر في النفوس كونه
279

ملائما لمصلحة العالم
وكون الكذب منافرا لها ولا يلزم من فرض الاستواء تحققه
فاختياره الصدق لملائمة تلك المصلحة لا لكونه حسنا في نفسه
وأما حديث الإنقاذ فذلك لرقة الجنسية وذلك مجبول في الطبيعة
وسببه أنه يتصور مثله في حق نفسه أي يتصور إشرافه على الهلاك فيستحسن فعل المنقذ له إذا قدره فيجره ذلك إلى استحسانه من نفسه حق الغير
وأما الطريقان الإلزاميان
فأحدهما لو حسن من الله كل شيء كما اقتضاه مذهبكم من القبح إنما هو لأجل النهي الذي لا يتصور في أفعاله تعالى الحسن أي لا يمتنع منه الكذب
وفي ذلك إبطال للشرائع وبعثة الرسل بالكلية
لأنه قد يكون في تصديقه للنبي بالمعجزة كاذبا
ولا يمكن حينئذ تمييز النبي عن المتنبىء فلا تثبت الأحكام الشرعية وتنتفي فائدة البعثة وأنه باطل إجماعا ولحسن منه أيضا خلق المعجزة على يد الكاذب وعاد المحذور الذي هو سد باب النبوة
والجواب أن مدرك امتناع الكذب منه تعالى عندنا أوليس
هو قبحه العقلي حتى يلزم من انتفاء قبحه أن لا يعلم امتناعه منه إذ يجوز أن يكون له مدرك آخر
وقد تقدم هذا في مباحث كونه تعالى متكلما
ودلالة المعجزة على صدق المدعي عادية فلا تتوقف على امتناع الكذب كما في سائر العلوم العادية التي ليست نقائضها ممتنعة
فنحن نجزم بصدق من ظهرت المعجزة على يده مع أن كذبه ممكن في نفسه فلا يلزم التباس وسيأتي
وثانيهما الإجماع على تعليل الأحكام الشرعية بالمصالح والمفاسد
ولو توقف الحسن والقبح على ورود الشرع كما زعمتم لامتنع
280

تعليل الأحكام بها
وفي منعه سد باب القياس وتعطل أكثر الوقائع من الأحكام
وأنتم لا تقولون به
قلنا اهتداء العقل إلى المصالح والمفاسد أوليس
من المقصود في شيء كما مر من أن المصلحة والمفسدة راجعة إلى ملاءمة الغرض ومنافرته
ولا نزاع في أنه عقلي
نعم رعايته تعالى في أحكامه مصالح العباد ودفع مفاسدهم تفضل منه عندنا وواجب عليه عندكم بناء على أصلنا وأصلكم
وقد يحتج بلزوم إفحام الأنبياء وعجزهم عن إثبات نبوءتهم على تقدير كون الحسن والقبح شرعيين
وقد مر في باب النظر من الموقف الأول
تفريع إذا ثبت أن الحاكم بالحسن والقبح هو الشرع دون العقل ثبت أن لا حكم من الأحكام الخمسة وما ينتمي إليها للأفعال قبل الشرع
وأما المعتزلة فقالوا ما يدرك جهة حسنه أو قبحه بالعقل من الأفعال التي ليست اضطرارية ينقسم إلى الأقسام الخمسة لأنه إن اشتمل تركه على مفسدة فواجب
أو فعله فحرام
وإلا فإن اشتمل فعله على مصلحة فمندوب
أو تركه فمكروه
وإلا أي وإن لم يشتمل شيء من طرفيه على مفسدة ولا مصلحة فمباح
وأما ما لا يدرك جهته بالعقل لا في حسنه ولا في قبحه فلا يحكم فيه قبل الشرع بحكم خاص تفصيلي في فعل فعل إذ لم يعرف فيه جهة تقتضيه
وأما على سبيل الإجمال في جميع تلك الأفعال فقيل بالحظر والإباحة والتوقف
دليل الحظر أنه تصرف في ملك الغير بلا إذنه لأن الكلام فيما قبل الشرع فيحرم كما في الشاهد
281

والجواب الفرق بتضرر الشاهد دون الغائب
وأيضا حرمة التصرف في ملك الشاهد مستفادة من الشرع
دليل الإباحة وجهان
أحدهما أنه تصرف لا يضر المالك فيباح كالاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره والنظر في مرآته
والجواب أن الأصل ثبت بالشرع وحكم العقل فيه أي في الأصل بالمعنى المتنازع فيه ممنوع بل إنما يحكم فيه بمعنى الملاءمة وموافقة الغرض والمصلحة
وثانيهما أنه تعالى خلق العبد وخلق الشهوة فيه وخلق المنتفع به من الثمار المطعومة وغيرها
فالحكمة تقتضي إباحته أي إباحة الانتفاع وإلا كان حقه عبثا
وكيف يدرك تحريمه بالعقل وما هو إلا كمن يغترف غرفة من بحر لا ينزف ليدفع به عطشه المهلك
أترى العقل يحكم بمنع أكرم الأكرمين منه وتكليفه التعرض للهلاك كلا
والجواب ربما خلقه ليصبر عنه ويمنع هواه وشهوته فيثاب على ذلك
وهذه منفعة جليلة أو خلقه لغرض آخر لا نعلمه
وأما التوقف فيفسر تارة بعدم الحكم ومرجعه الإباحة إذ ما لا منع فمباح إلا أن يشترط في الإباحة الإذن
فيرجع إلى كونه حكما شرعيا لا عقليا
وكلامنا فيه
وإنما يتجه هذا اشترط إذن الشارع لا إذن العقل
وربما يقال هذا التفسير جزم بعدم الحكم لا توقف إلا أن يراد توقف العقل عن الحكم ويفسر تارة بعدم العلم أي هناك حظر أو إباحة لكنا لا نعلمه
وهذا أمثل من التفسير الأول المشتمل على نوع تكلف في معنى التوقف كما عرفت لكن عدم العلم لا لتعارض الأدلة إذ قد تبين بطلانها بل لعدم الدليل على أحد هذين الحكمين بعينه
282

المقصد السادس
المتن إعلم أن الأمة قد أجمعت على أن الله لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب
فالأشاعرة من جهة أنه لا قبيح منه ولا واجب عليه
وأما المعتزلة
فمن جهة أن ما هو قبيح منه يتركه وما يجب عليه يفعله
وهذا فرع المسألة المتقدمة إذ لا حاكم بقبح القبيح منه ووجوب الواجب عليه إلا العقل وقد أبطلنا حكمه وبينا أنه تعالى الحاكم فيحكم ما يريد
والمعتزلة أوجبوا عليه على أصلهم أمورا
الأول اللطف
وفسروه بأنه الذي يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية كبعثة الأنبياء
فإنا نعلم أن الناس معها أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية
فيقال لهم هذا ينتقض بأمور لا تحصى
فإنا نعلم أنه لو كان في كل عصر نبي وفي كل بلد معصوم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان حكام الأطراف مجتهدين متقين لكان لطفا
وأنتم لا توجبونه بل نجزم بعدمه
الثاني الثواب على الطاعة لأنه مستحق للعبد
ولأن التكليف إما لا لغرض وهو عبث وأنه لجد قبيح
وإما لغرض إما عائد إلى الله تعالى وهو منزه عنه أو إلى العبد إما في الدنيا وأنه مشقة بلا حظ وإما في الآخرة وهو إما إضراره
وهو باطل إجماعا وإما نفعه وهو المطلوب
فيقال لهم الطاعة لا تكافىء النعم السابقة لكثرتها وعظمها وحقارة أفعال العبد
283

وقلتها بالنسبة إليها
وما ذلك إلا كمن يقابل نعمة الملك عليه مما لا يحصره بتحريك أنملته فكيف يحكم العقل بإيجابه الثواب عليه
وأما التكليف فنختار أنه لا لغرض أو لضر قوم ونفع آخرين كما هو الواقع أو أوليس
ذلك على سبيل الوجوب
الثالث العقاب على المعصية زجرا عنها
فإن في تركه التسوية بين المطيع والعاصي وفيه إذن للعصاة في المعصية وإغراء لهم بها
فيقال لهم العقاب حقه والإسقاط فضل
فكيف يدرك امتناعه بالعقل
وحديث الإذن والإغراء مع رجحان ظن العقاب بمجرد تجويز مرجوح ضعيف جدا
الرابع الأصلح للعبد في الدنيا
فيقال الأصلح للكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة ألا يخلق
حكاية تنحى بالقلع على هذه القاعدة قال الأشعري لأستاذه أبي علي الجبائي ما تقول في ثلاثة أخوة عاش أحدهم في الطاعة وأحدهم في المعصية ومات أحدهم صغيرا فقال يثاب الأول بالجنة ويعاقب الثاني بالنار والثالث لا يثاب ولا يعاقب
قال فإن قال الثالث يا رب لو عمرتني فأصلح فأدخل الجنة قال يقول الرب كنت أعلم أنك لو عمرت لفسقت وأفسدت فدخلت النار
قال فيقول الثاني يا رب لم لم تمتني صغيرا لئلا أذنب فلا أدخل النار كما أمت أخي فبهت
فترك الأشعري مذهبه إلى المذهب الحق
وكان أول ما خالف فيه المعتزلة
الخامس العوض على الآلام
قالوا الألم إن وقع جزاء لما صدر عن العبد من سيئة لم يجب على الله عوضه
وإلا فإن كان الإيلام من الله وجب العوض
وإن كان من مكلف آخر فإن كان له حسنات أخذ من حسناته
284

وأعطي المجني عليه عوضا لإيلامه له
وإن لم يكن له حسنات وجب على الله إما صرف المؤلم عن إيلامه أو تعويضه من عنده بما يوازي إيلامه
ولهم بناء على هذا الأصل اختلافات شاهدة بفساده
الأول قال طائفة جاز أن يكون العوض في الدنيا
وقال آخرون بل يجب أن يكون في الآخرة كالثواب
الثاني هل تدوم اللذة المبذولة عوضا كما يدوم الثواب أو تنقطع
الثالث هل يحبط العوض بالذنوب كما يحبط الثواب
الرابع هل يجوز إيصال ما يوصل عوضا للآلام ابتداء بلا سبق ألم أم لا
الخامس على الجواز هل يؤلم ليعوض أو يكون ذلك مع إمكان الابتداء به مخالفا للحكمة
السادس على المنع هل يؤلم ليعوض عوضا زائدا ليكون لطفا له ولغيره إذ يصير ذلك عبرة له تزجره عن القبيح
السابع البهائم هل تعوض بما يلحقها من الآلام والمشاق مدة حياتها وتمتاز بها عن أمثالها التي لا تقاسي مثلها أو لا تعوض وإن عوضت فهل ذلك في الجنة وإن كان في الجنة فهل يخلق فيها عقل تعقل به أنه جزاء على أن منهم من أنكر لحوق الألم البهائم والصبيان مكابرة وهربا من إلزام دخولها الجنة وخلق العقل فيها
الشرح
المقصد السادس اعلم أن الأمة قد اجتمعت إجماعا مركبا على أن الله لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب
فالأشاعرة من جهة أنه لا قبيح
285

منه ولا واجب عليه فلا يتصور منه فعل قبيح ولا ترك واجب
وأما المعتزلة فمن جهة أن ما هو قبيح منه يتركه وما يجب عليه يفعله
وهذا الخلاف في مبنى الحكم المتفق عليه فرع المسألة المتقدمة أعني قاعدة التحسين والتقبيح
إذ لا حاكم بقبح القبيح منه ووجوب الواجب عليه إلا العقل فمن جعله حاكما بالحسن والقبح قال بقبح بعض الأفعال منه ووجوب بعضها عليه
ونحن قد أبطلنا حكمه وبينا فيما تقدم أنه تعالى الحاكم فيحكم ما يريد ويفعل ما يشاء لا وجوب عليه كما لا وجوب عنه ولا استقباح منه
وأما المعتزلة فإنهم أوجبوا عليه تعالى بناء على أصلهم أمورا فنذكرها هنا ونبطلها بوجوه مخصوصة بها
وإن كان إبطال أصلها كافيا في إبطالها
الأول اللطف
وفسروه بأنه الفعل الذي يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية ولا ينتهي إلى حد الإلجاء كبعثة الأنبياء فإنا نعلم بالضرورة أن الناس معها أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية فيقال لهم هذا الدليل الذي تمسكتم به في وجوب اللطف ينتقض بأمور لا تحصى
فإنا نعلم أنه لو كان في كل عصر نبي وفي كل بلد معصوم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان حكام الأطراف مجتهدين متفقين لكان لطفا وأنتم لا توجبونه على الله تعالى بل نجزم بعدمه فلا يكون واجبا عليه
الثاني من الأمور التي أوجبوها الثواب على الطاعة لأنه مستحق للعبد على الله بالطاعة
فالإخلال به قبيح
وهو ممتنع عليه تعالى
وإذا كان تركه ممتنعا كان الإتيان به واجبا
ولأن التكليف إما لا لغرض وهو عبث وإنه لجد قبيح خصوصا بالنسبة إلى الحكيم تعالى
وإما لغرض إما عائد إلى الله تعالى وهو منزه عنه أو إلى العبد إما في الدنيا وأنه مشقة بلا حظ وإما في الآخرة وهو إما إضراره وهو باطل إجماعا وقبيح من
286

الجواد الكريم
وأما نفعه وهو المطلوب لأن إيصال ذلك النفع واجب لئلا يلزم نقض الغرض فيقال لهم الطاعة التي كلف بها لا تكافىء النعم السابقة لكثرتها وعظمها وحقارة أفعال العبد وقلتها بالنسبة إليها
وما ذلك إلا كمن يقابل نعمة الملك عليه مما لا يحصره بتحريك أنملته فكيف يحكم العقل بإيجابه الثواب عليه واستحقاقه إياه وأما التكليف فنختار أنه لا لغرض ولا استحالة فيه كما سيجيء عن قريب
أو هو لضر قوم كالكافرين ونفع آخرين كالمؤمنين كما هو الواقع
أو أوليس
ذلك على سبيل الوجوب بل هو تفضل على الأبرار وعدل بالنسبة إلى الفجار
الثالث من تلك الأمور العقاب على المعصية زجرا عنها
فإن في تركه التسوية بين المطيع والعاصي وهو قبيح كما في الشاهد إذا كان له عبدان مطيع وعاص
وفيه أي في تركه أيضا إذن للعصاة في المعصية وإغراء لهم بها
وذلك لأنه تعالى ركب فيهم شهوة القبائح فلو لم يجزم المكلف بأنه يستحق على ارتكاب القبيح عقابا لا يجوز الإخلال به بل جوز ترك العقاب لكان ذلك إذنا من الله سبحانه وتعالى للعصاة في ارتكاب الشهوات بل إغراء بها
وهو قبيح يستحيل صدوره من الله تعالى
فيقال لهم العقاب حقه والإسقاط فضل فكيف يدرك امتناعه بالعقل
وترك العقاب لا يستلزم التسوية
فإن المطيع مثاب دون العاصي
وحديث الإذن والإغراء مع رجحان ظن العقاب بمجرد تجويز مرجوح ضعيف جدا يعني أنه أوليس
يلزم من جواز ترك العقاب على المعصية إذن وإغراء
وإنما يلزم ذلك إذا لم يكن ظن العقاب رجحان على تركه إذ مع رجحانه لا يلزم من مجرد تجويز تركه تجويزا مرجوحا الإذن والإغراء كما أن جواز تركه بل وجوبه على تقدير إثابته التي يمكن صدورها عنه لا يستلزمهما
الرابع من الأمور الواجبة عندهم الأصلح للعبد في الدنيا فيقال لهم الأصلح للكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة أن لا يخلق مع أنه مخلوق فلم يراع في حقه ما كان أصلح له فلا يكون الأصلح واجبا عليه تعالى
287

حكاية شريفة تنحي بالقلع على هذه القاعدة لقائله بوجوب الأصلح على الله سبحانه وتعالى
قال الأشعري لأستاذه أبي علي الجبائي
ما تقول في ثلاثة إخوة عاش أحدهم في الطاعة وأحدهم في المعصية ومات أحدهم صغيرا فقال يثاب الأول بالجنة ويعاقب الثاني بالنار والثالث لا يثاب ولا يعاقب
قال الأشعري
فإن قال الثالث يا رب لو عمرتني فأصلح فأدخل الجنة كما دخلها أخي المؤمن
قال الجبائي يقول الرب كنت أعلم أنك لو عمرت لفسقت وأفسدت فدخلت النار
قال فيقول الثاني يا رب لم لم تمتني صغيرا لئلا أذنب فلا أدخل النار كما أمت أخي
فبهت الجبائي فترك الأشعري مذهبه إلى مذهب الحق الذي كان عليه السلف الصالح
وكان هذا أول ما خالف فيه الأشعري المعتزلة ثم اشتعل بهدم قواعدهم وتشييد مباني الحق بعون الله وحسن توفيقه
الخامس من تلك الأمور العوض عن الآلام فإنهم قالوا الألم إن وقع جزاء لما صدر عن العبد من سيئة كألم الحد لم يجب على الله عوضه
وإلا أي وإن لم يقع جزاء فإن كان الإيلام من الله وجب العوض عليه فإن كان من مكلف آخر فإن كان له حسنات أخذ من حسناته وأعطي المجنى عليه عوضا لإيلامه له
وإن لم يكن له حسنات وجب على الله إما صرف المؤلم عن إيلامه أو تعويضه من عنده بما يوازي إيلامه أي لا ينقص عن إيلامه فهو احتراز عما دونه لا عما فوقه
ولهم بناء على هذا الأصل الذي هو وجوب العوض المعرف عندهم أنه نفع مستحق خال عن التعظيم والإجلال اختلافات ركيكة شاهدة بفساده أي بفساد الأصل
الأول قال طائفة كأبي هاشم وأتباعه جاز أن يكون العوض في
288

الدنيا إذ لا يجب دوامه
وقال آخرون كالعلاف والجبائي وكثير من متقدميهم بل يجب أن يكون في الآخرة الوجوب دوامه كالثواب
وذلك لأن انقطاعه يوجب ألما فيستحق بهذا الألم عوضا آخر ويتسلسل
ورد بجواز عدم شعوره بالانقطاع
الثاني هل تدوم اللذة المبذولة عوضا كما يدوم الثواب أو تنقطع أي هل يجب دوامه أو يجوز انقطاعه وهو أصل الاختلاف الأول
وقد عرفت توجيهه هناك
الثالث هل يحبط العوض بالذنوب كما يحبط الثواب أو لا فمن قال بالإحباط تمسك بأنه لولاه لكان الفاسق والكافر في كل وقت من أوقات الآخرة في نعيم العوض وعقاب الفسق أو الكفر والجمع بينهما محال
ومن لم يقل به ذهب إلى أن عوض أهل النار بإسقاط جزء من عقابهم بحيث لا يظهر لهم التخفيف
وذلك بتفريق الجزء الساقط على الأوقات كيلا يتألم بانقطاع التخفيف
الرابع هل يجوز إيصال ما يوصل عوضا للآلام ابتداء بلا سبق ألم أم لا يجوز
الخامس على الجواز هل يؤلم ليعوض أو يكون ذلك مع إمكان الابتداء به على طريق التفضل مخالفا للحكمة
السادس على المنع هل يؤلم ليعوض عوضا زائدا ليكون لطفا له ولغيره إذ يصير ذلك الإيلام عبرة له تزجره عن القبيح يعني أن المانعين من جواز التفضل بمثل ما يوصل عوضا اختلفوا فجوز بعضهم الإيلام المجرد عن التعويض واعتبر آخرون أن يكون مع التعويض شيء آخر وهو أن يكون لطفا زاجرا له ولغيره
وقيد العوض بالزائد لأنهم صرحوا بأن العوض من الله
289

يجب أن يكون زائدا بحيث يرضي كل عاقل يتحمل ذلك الألم لأجل ذلك العوض
هذا والمذكور في كلام الآمدي هو أن المانعين من جواز التفضل جوزوا الآلام لمجرد التعويض كالجبائي وأبي الهذيل وقدماء المعتزلة والمجوزين له لم يجوزوا الآلام إلا بشرط التعويض واعتبار الغير بتلك الآلام وكونها ألطافا في زجر غاو عن غوايته
وذهب عباد الضميري إلى جواز الآلام لمحض الاعتبار من غير تعويض
وذهب أبو هاشم إلى أن الآلام لا تحسن لمجرد التعويض مع القدرة على التفضل بمثل العوض إلا إذا علم الله أنه لا ينفعه إلا بجهة التعويض
فعليك بالتأمل في مطابقته لما في الكتاب
السابع البهائم هل تعوض بما يلحقها من الآلام والمشاق مدة حياتها وتمتاز بها عن أمثالها التي لا تقاسي مثلها أو لا تعوض وإن عوضت فهل ذلك التعويض في الدنيا أو في الآخرة وإذا كان في الآخرة فهل هو في الجنة أو في غيرها وإن كان في الجنة فهل يخلق فيها عقل تعقل به أنه جزاء وأنه دائم غير منقطع
هذه اختلافاتهم على أن منهم من أنكر لحوق الألم البهائم والصبيان مكابرة وهربا من إلزام دخولها الجنة وخلق العقل فيها
المقصد السابع
المتن تكليف ما لا يطاق جائز عندنا لما قدمنا آنفا من أنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء إذ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب
290

لحكمه
ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا
فإن من كلف الأعمى نقط المصاحف والزمن المشي إلى أقاصي البلاد وعبده الطيران إلى السماء عد سفيها وقبح ذلك في بداية العقول وكان كأمر الجماد
واعلم أن ما لا يطاق على مراتب
أدناها أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه أو إرادته أو إخباره
فإن مثله لا تتعلق به القدرة الحادثة لأن القدرة مع الفعل ولا تتعلق بالضدين
والتكليف بهذا جائز بل واقع إجماعا
وإلا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلفا
وأقصاها أن يمتنع لنفس مفهومه كجمع الضدين وقلب الحقائق وجواز التكليف به فرع تصوره
فمنا من قال لو لم يتصور لامتنع الحكم بامتناع تصوره وطلبه
ومنهم من قال طلبه يتوقف على تصوره واقعا
وهو منتف ههنا
فإنه إنما يتصور إما منفيا بمعنى أنه أوليس
لنا شيء موهوم أو محقق هو اجتماع الضدين أو بالتشبيه بمعنى أن يتصور اجتماع المتخالفين كالسواد والحلاوة ثم يحكم بأن مثله لا يكون بين الضدين
وذلك غير تصور وقوعه ولا مستلزم له
صرح ابن سينا به
ولعله معنى قول أبي هاشم العلم بالمستحيل علم لا معلوم له ومراد من قال المستحيل لا يعلم
المرتبة الوسطى أن لا يتعلق به القدرة الحادثة عادة سواء امتنع تعلقها به لا لنفس مفهومه كخلق الأجسام أم لا كحمل الجبل والطيران إلى السماء
فهذا نجوزه
وإن لم يقع بالاستقراء
ولقوله تعالى * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * وتمنعه المعتزلة وبه يعلم أن كثيرا من أدلة أصحابنا مثل ما قالوه في إيمان أبي لهب نصب للدليل في غير محل النزاع
291

الشرح
المقصد السابع تكليف ما لا يطاق جائز عندنا لما قدمنا آنفا في المقصد السادس من أنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء إذ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه
ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا كما في الشاهد
فإن من كلف الأعمى نقط المصاحف والزمن المشي إلى أقاصي البلاد وكلف عبده الطيران إلى السماء عد سفيها وقبح ذلك في بداية العقول
وكان كأمر الجماد الذي لا شكل في كونه سفها
واعلم أن ما لا يطاق على مراتب
أدناها أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه
أو تعلق إرادته أو إخباره بعدمه فإن مثله لا تتعلق به القدرة الحادثة لأن القدرة الحادثة مع الفعل لا قبله ولا تتعلق بالضدين بل لكل واحد منهما قدرة على حدة تتعلق به حال وجوده عندنا
والتكليف بهذا جائز بل واقع إجماعا
وإلا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلفا بالإيمان وترك الكبائر بل لا يكون تارك المأمور به عاصيا أصلا
وذلك معلوم بطلانه من الدين ضرورة
وأقصاها أن يمتنع لنفس مفهومه كجمع الضدين وقلب الحقائق وإعدام القديم
وجواز التكليف به فرع تصوره وهو مختلف فيه
فمنا من قال لو لم يتصور الممتنع لذاته لامتنع الحكم عليه بامتناع تصوره
و
292

امتناع طلبه إلى غير ذلك من الأحكام الجارية عليه
ومنهم من قال طلبه يتوقف على تصوره واقعا أي ثابتا لأن الطالب لثبوت شيء لا بد أن يتصور أولا مطلوبه على الوجه الذي يتعلق به طلبه ثم يطلبه
وهو أي التصور على وجه الوقوع والثبوت منتف ههنا أي في الممتنع لنفس مفهومه فإنه يستحيل تصوره ثابتا
وذلك لأن ماهيته من حيث هي هي تقتضي انتفاءه وتصور الشيء على خلاف ما تقتضيه ذاته لذاته لا يكون تصورا له بل لشيء آخر كمن يتصور أربعة ليست بزوج فإنه لا يكون متصورا للأربعة قطعا بل الممتنع لذاته إنما يتصور على أحد وجهين
إما منفيا بمعنى أنه أوليس
لنا شيء موهوم أو محقق هو اجتماع الضدين أو بالتشبيه بمعنى أن يتصور اجتماع المتخالفين كالسواد والحلاوة ثم يحكم بأن مثله لا يكون بين الضدين وذلك أي تصوره على أحد هذين الوجهين كاف في الحكم عليه دون طلبه لأنه غير تصور وقوعه وثبوته ولا مستلزم له
صرح ابن سينا به أي بأن تصوره كذلك كما نقلناه عنه في باب العلم
ولعله معنى قول أبي هاشم العلم بالمستحيل علم لا معلوم له
كما أشرنا إليه هناك أيضا
ولعله مراد من قال المستحيل لا يعلم أي لا يعلم من حيث ذاته وماهيته
المرتبة الوسطى من مراتب ما لا يطاق أن لا يتعلق به القدرة الحادثة عادة سواء امتنع تعلقها به لا لنفس مفهومه بأن لا يكون من جنس ما تتعلق به كخلق الأجسام فإن القدرة الحادثة لا تتعلق بإيجاد الجوهر أصلا
أم لا بأن يكون من جنس ما تتعلق به لكن يكون من نوع أو صنف لا تتعلق به كحمل الجبل والطيران إلى السماء
فهذا أي التكليف بما لا يطاق عادة نجوزه نحن وإن لم يقع بالاستقراء
ولقوله تعالى * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * وتمنعه المعتزلة لكونه قبيحا عندهم
وبه
293

أي بما ذكرناه من التفصيل وتحرير المتنازع فيه يعلم أن كثيرا من أدلة أصحابنا مثل ما قالوه في إيمان أبي لهب وكونه مأمورا بالجمع بين المتناقضين نصب للدليل في غير النزاع إذ لم يجوزه أحد
ولقائل أن يقول ما ذكره من أن جواز التكليف بالممتنع لذاته فرع تصورة وإن بعضا منا قالوا تصوره يشعر بأن هؤلاء يجوزونه
المقصد الثامن
المتن في أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض إليه
ذهب الأشاعرة وخالفهم فيه المعتزلة
لنا بعدما بينا من أنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء وجهان
أحدهما لو كان فعله تعالى لغرض لكان ناقصا لذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض لأنه يصلح غرضا للفاعل إلا ما هو أصلح له من عدمه
وهو معنى الكمال
فإن قيل لا نسلم الملازمة لأن الغرض لا يكون عائدا إلى غيره فليس كل من يفعل لغرض يفعل لغرض نفسه
قلنا نفع غيره إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه جاء الإلزام
وإلا لم يصلح أن يكون غرضا له كيف وأنا نعلم أن خلود أهل النار في النار من فعل الله ولا نفع فيه لهم ولا لغيرهم ضرورة
وثانيهما أن غرض الفعل خارج عنه يحصل تبعا للفعل وبتوسطه إذ هو تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداء كما بيناه فلا يكون شيء من
294

الكائنات إلا فعلا له لا غرضا لفعل آخر لا يحصل إلا به ليصلح غرضا لذلك الفعل وليس جعل البعض غرضا أولى من البعض
وأيضا فلا بد من الانتهاء إلى ما هو الغرض
ولا يكون ذلك لغرض آخر
وإذا جاز ذلك بطل القول بوجوب الغرض
احتجوا بأن الفعل الخالي عن الغرض عبث وأنه قبيح يجب تنزيه الله عنه
قلنا إن أردتم بالعبث ما لا غرض فيه فهو أول المسألة
وإن أردتم أمرا آخر فلا بد من تصويره ثم من تقريره ثم من الدلالة على امتناعه على الله سبحانه وتعالى
تذنيب إذا قيل لهم فما الغرض من هذه التكاليف الشاقة التي لا نفع فيها لله لتعاليه عنه ولا للعبد لأنها مشقة بلا حظ قالوا الغرض فيها تعريض العبد للثواب
فإن الثواب تعظيم وهو بدون استحقاق سابق قبيح فيقال لهم لا نسلم أن التفضل بالثواب قبيح كما تفضل بما لا يحصى من النعم في الدنيا
وإن سلم قبحه فيمكن التعريض له بدون هذه المشاق إذ أوليس
الثواب على قدر المشقة وعوضا
ألا يرى أن في التلفظ بكلمة الشهادة من الثواب ما أوليس
في كثير من العبادات الشاقة وكذا الكلمة المتضمنة لإنجاء نبي أو تمهيد قاعدة خير أو دفع شر عام
وما يروى أن أفضل العبادات أحمزها
فذلك عند التساوي في المصالح
ثم أنه معارض بما فيه من تعريض الكافر والفاسق للعذاب
ومن أين لكم أن ذلك أكثر من هذا
الشرح
المقصد الثامن في أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض إليه
ذهبت الأشاعرة وقالوا لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من
295

الأغراض والعلل الغائية ووافقهم على ذلك جهابذة الحكماء وطوائف الإلهيين
وخالفهم فيه المعتزلة وذهبوا إلى وجوب تعليلها
وقالت الفقهاء لا يجب ذلك
لكن أفعاله تابعة لمصالح العباد تفضلا وإحسانا
لنا في إثبات مذهبنا بعدما بينا من أنه لا يجب عليه تعالى شيء فلا يجب حينئذ أن يكون فعله معلالا بغرض
ولا يقبح منه شيء فلا يقبح أن تخلو أفعاله عن الأغراض بالكلية وذلك يبطل مذهب المعتزلة وجهان يبطلان المذهبين معا
أعني وجوب التعليل ووقوعه تفضلا
أحدهما لو كان فعله تعالى لغرض من تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة لكان هو ناقصا لذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض لأنه لا يصلح غرضا للفاعل إلا ما هو أصلح له من عدمه وذلك لأن ما استوى وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه لا يكون باعثا له على الفعل وسببا لإقدامه عليه بالضرورة
فكل ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به من عدمه وهو معنى الكمال فإذن يكون الفاعل مستكملا بوجوده وناقصا بدونه
فإن قيل لا نسلم الملازمة لأن الغرض قد يكون عائدا إلى الفاعل فيلزم ما ذكرتم من النقصان والاستكمال
وقد يكون عائدا إلى غيره فلا يلزم فليس يلزم من كونه تعالى فاعلا لغرض أن يكون من قبيل الأول
إذ أوليس
كل من يفعل لغرض يفعل لغرض نفسه بل ذلك في حقه تعالى محال لتعاليه عن التضرر والانتفاع فتعين أن يكون غرضه راجعا إلى عباده وهو الإحسان إليهم بتحصيل مصالحهم ودفع مفاسدهم
ولا محذور في ذلك
قلنا نفع غيره والإحسان إليه إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه جاء الإلزام لأنه تعالى يستفيد حينئذ بذلك النفع والإحسان ما هو أولى به وأصلح له
وإلا أي وإن لم يكن أولى بل كان مساويا أو مرجوحا لم يصلح أن يكون غرضا له لما مر من العلم الضروري بذلك بل نقول كيف ندعي وجوب تعليل أفعاله
296

تعالى بمنافع العباد
وإنا نعلم أن خلود أهل النار في النار من فعل الله ولا نفع فيه لهم ولا لغيرهم ضرورة
وثانيهما أي ثاني الوجهين أن غرض الفعل أمر خارج عنه يحصل تبعا للفعل وبتوسطه أي يكون للفعل مدخل في وجوده
وهذا مما لا يتصور في أفعاله إذ هو تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداء كما بيناه فيما سلف
فلا يكون شيء من الكائنات والحوادث وإلا فعلا له صادرا عنه بتأثير قدرته ابتداء بلا واسطة لا غرضا لفعل آخر له مدخل في وجوده بحيث لا يحصل ذلك الشيء إلا به ليصلح أن يكون غرضا لذلك الفعل حاصلا بتوسطه
وليس جعل البعض من أفعاله وآثاره غرضا أولى من البعض الآخر إذ لا مدخل لشيء منها في وجود الآخر على تقدير استنادها بأسرها إليه على سواء فجعل بعضها غرضا من بعض آخر دون عكسه تحكم بحت
فلا يتصور تعليل في أفعاله أصلا
وأيضا إذا عللت أفعاله بالأغراض فلا بد من الانتهاء إلى ما هو الغرض والمقصود في نفسه
وإلا تسلسلت الأغراض إلى ما لا نهاية لها
ولا يكون ذلك الذي هو غرض ومقصود في نفسه لغرض آخر لأنه خلاف ما فرض
وإذا جاز ذلك بطل القول بوجوب الغرض إذ قد انتهى أفعاله إلى فعل لا غرض له وهو الذي كان مقصودا في نفسه
وقد يقال لا يجب في الغرض كونه مغايرا بالذات بل يكفيه التغاير الاعتباري
احتجوا أي المعتزلة على وجوب الغرض في أفعاله تعالى بأن الفعل الخالي عن الغرض عبث وأنه قبيح بالضرورة يجب تنزيه الله عنه لكونه عالما
297

بقبحه واستغنائه عنه فلا بد إذن في فعله من غرض يعود إلى غيره نفيا للعبث والنقض
قلنا في جوابهم إن أردتم بالعبث ما لا غرض فيه من الأفعال فهو أول المسألة المتنازع فيها إذ نحن نجوز أن يصدر عنه تعالى فعل لا غرض فيه أصلا
وأنتم تمنعونه وتعبرون عنه بالعبث
فلا يجديكم نفعا
وإن أردتم بالعبث أمرا آخر فلا بد لكم أولا من تصويره أي تصوير ذلك الأمر الآخر حتى نفهمه ونتصوره
ثم لا بد ثانيا من تقريره أي بيانه ثبوت ذلك المفهوم للفعل على تقدير خلوه من الغرض ثم لا بد ثالثا من الدلالة على امتناعه أي استحالة الفعل المتصف بذلك المفهوم الآخر على الله سبحانه وتعالى حتى يتم لكم مطلوبكم
وقد يقال في الجواب إن العبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع وأفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى راجعة إلى مخلوقاته تعالى
لكنها ليست أسبابا باعثة على إقدامه وعللا مقتضية لفاعليته فلا تكون أغراضا له ولا عللا غائية لأفعاله حتى يلزم استكماله بها بل تكون غايات ومنافع لأفعاله وآثارا مترتبة عليها
فلا يلزم أن يكون شيء من أفعاله عبثا خاليا عن الفوائد
وما ورد من الظواهر الدالة على تعليل أفعاله تعالى فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلة الغائية
تذنيب إذ قيل لهم أنتم قد أوجبتم الغرض في أفعاله تعالى فما الغرض من هذه التكاليف الشاقة التي لا نفع فيها لله لتعاليه عنه ولا للعبد لأنها مشقة بلا حظ
قالوا الغرض فيها عائد إلى العباد وهو تعريض العبد للثواب في الدار الآخرة وتمكينه منه
فإن الثواب تعظيم أي منفعة دائمة مقرونة بتعظيم وإكرام
وهو أي التعظيم المذكور بدون استحقاق سابق قبيح عقلا
ألا يرى أن السلطان إذا أمر بزبال وأعطاه من المال ما لا
298

يدخل تحت الحصر لم يستقبح منه أصلا بل عد جودا وفضلا وإغناء للفقير وتبعيدا له عن ساحة الهوان بالكلية
لكنه مع ذلك إذا نزل له وقام بين يديه معظما له ومكرما إياه وأمر خدمه بتقبيل أنامله استقبح منه ذلك وذمه العقلاء ونسبوه إلى ركاكة العقل وقلة الدراية
فالله سبحانه لما أراد أن يعطي عباده منافع دائمة مقرونة بإجلال وإكرام منه ومن ملائكته المقربين ولم يحسن أن يتفضل بذلك عليهم ابتداء بلا استحقاق كلفهم ما يستحقونه به
فيقال لهم لا نسلم أن التفضل بالثواب قبيح بل لا قبح هناك أصلا
ولو سلم قبحه فإنما يقبح ممن يجوز عليه الانتفاع والتضرر لا من الله تعالى
فإنه يجوز أن يتفضل به كما تفضل على عباده بما لا يحصى من النعم في الدنيا
وأنت خبير بأن المستقبح عندهم هو التفضل بالتعظيم الموعود دون النعم كما صورناه لكنه سند للمنع فلا يجدي دفعه
وإن سلم قبحه من الله تعالى أيضا فيمكن التعريض له أي للثواب بدون هذه المشاق العظيمة
إذ أوليس
الثواب على قدر المشقة وعوضا مساويا لها
ألا ترى أن في التلفظ بكلمة الشهادة من الثواب ما أوليس
في كثير من العبادات الشاقة كالصلاة والصيام وكذا الكلمة المتضمنة لإنجاء نبي من ظالم يريد إهلاكه أو تمهيد قاعدة خير أو دفع شر عام إذ يستحق بهذه الكلمة من الثواب ما يزيد على ثواب كثير من العبادات
وإن كانت أشق منها
وما يروى من أن فضل العبادات أحمزها أي أشقها فذلك عند التساوي في المصالح فلا ينافي أن يكون الأخف الأسهل أكثر ثوابا إذا كان أكثر مصلحة وأعظم فائدة
وإذا أمكن التعريض المذكور بدون تلك المشاق كان التكليف بها عاريا عن الغرض ثم إنهم أي ما ذكرتم من أن التكليف تعريض للثواب
299

معارض بما فيه من تعريض الكافر والفاسق للعذاب إذ لولا التكليف لم يستحقا عقابا
ومن أين لكم أن ذلك التعريض للثواب أكثر من هذا أي التعريض للعذاب بل نقول إن الثاني أكثر من الأول لأن الغلبة للكفرة والفسقة
وإذا لم تكن المنفعة أكثر من المضرة لم تصلح تلك المنفعة لأن تكون غرضا للحكيم العالم بأحوال الأشياء كلها الآتي بالأفعال على وجهها
فبطل ما ذكرتموه من غرض التكليف
300

المرصد السابع في أسماء الله تعالى
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن الاسم غير التسمية
لأنها تخصيص الاسم ووضعه للشيء
ولا شك أنه مغاير له والتسمية فعل الواضع
وأنه منقض
وليس الاسم كذلك
وقد اشتهر الخلاف في أن الاسم هل هو نفس المسمى أو غيره ولا يشك عاقل في أنه أوليس
النزاع في لفظة ف ر س أنه هل هو نفس الحيوان المخصوص أو غيره بل في مدلول الاسم أهو الذات من حيث هي هي أم باعتبار أمر صادق عليه عارض له ينبئ عنه فلذلك قال الشيخ قد يكون الاسم عين المسمى نحو الله
فإنه اسم علم للذات من غير اعتبار معنى فيه
وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق
مما يدل على نسبته إلى غيره
ولا شك أنه غيره
وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية
ومن مذهبه أنها لا هو ولا غيره كما مر
301

الشرح
المرصد السابع في أسماء الله تعالى وبه تنتهي مباحث الإلهيات
وفيه مقاصد
المقصد الأول الاسم غير التسمية لأنها تخصيص الاسم ووضعه للشيء
ولا شك أنه أي تخصيص الاسم بشيء مغاير له
أي للاسم كما تشهد به البديهة
وأيضا التسمية فعل الوضع وأنه منقض فيما مضى من الزمان
وليس الاسم كذلك
وذهب بعضهم إلى أن التسمية هي عين الأقوال الدالة التي هي الأسماء كما سيرد عليك
ولم يلتفت إليه المصنف
وقد اشتهر الخلاف في أن الاسم هل هو نفس المسمى أو غيره ولا يشك عاقل في أنه أوليس
النزاع في لفظة ف ر س أنه هل هو نفس الحيوان المخصوص أو غيره فإن هذا مما لا يشتبه على أحد بل النزاع في مدلول الاسم هو الذات من حيث هي هي أم هو الذات باعتبار أمر صادق عليه عارض له ينبئ عنه
فلذلك قال الشيخ أبو الحسن الأشعري قد يكون الاسم أي مدلوله عين المسمى أي ذاته من حيث هي نحو الله
فإنه اسم علم للذات من غير اعتبار معنى فيه
وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق
مما يدل على نسبته إلى غيره
ولا شك أنها أي تلك النسبة غيره
وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية قائمة بذاته ومن مذهبه أنها أي الصفة الحقيقية القائمة بذاته لا هو ولا غيره كما مر
فكذا الحال في الذات المأخوذة مع تلك الصفة
قال الآمدي اتفق العقلاء على المغايرة بين التسمية والمسمى
وذهب أكثر أصحابنا إلى أن التسمية هي نفس الأقوال الدالة وإن الاسم هو نفس المدلول ثم اختلف هؤلاء فذهب ابن فورك وغيره إلى أن كل اسم هو
302

المسمى بعينه
فقولك الله قول دال على اسم هو المسمى وكذا قولك عالم وخالق فإنه يدل على الرب الموصوف بكونه عالما وخالقا
وقال بعضهم من الأسماء ما هو عين كالموجود والذات
ومنها ما هو غير كالخالق
فإن المسمى ذاته والاسم هو نفس الخالق وخلقه غير ذاته
ومنها ما أوليس
عينا ولا غيرا كالعالم
فإن المسمى ذاته والاسم علمه الذي أوليس
عين ذاته ولا غيرها
وذهبت المعتزلة إلى أن الاسم هو التسمية
ووافقهم على ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا
وذهب الأستاذ أبو نصر بن أيوب إلى أن لفظ الاسم مشترك بين التسمية والمسمى
فيطلق على كل منهما ويفهم المقصود بحسب القرائن
ولا يخفى عليك أن النزاع على قول أبي نصر إنما هو في لفظة أ س م وأنها تطلق على الألفاظ فيكون الاسم عين التسمية بالمعنى المذكور لا بمعنى فعل الواضع أو تطلق على مدلولاتها فيكون عين المسمى
وكلا الاستعمالين ثابت كما في قولك الأسماء والأفعال والحروف
وقوله تعالى * (سبح اسم ربك) * و * (تبارك اسم ربك) * أي مسماه
وقول لبيد ثم اسم السلام عليكما
لكن هذا بحث لغوي لا فائدة فيه ههنا
303

وقال الإمام الرازي المشهور عن أصحابنا أن الاسم هو اسم المسمى وعن المعتزلة أنه التسمية
وعن الغزالي أنه مغاير لهما لأن النسبة وطرفيها متغايرة قطعا
والناس قد طولوا في هذه المسألة
وهو عندي فضول لأن الاسم هو اللفظ المخصوص والمسمى ما وضع ذلك اللفظ بإزائه فنقول الاسم قد يكون غير المسمى
فإن لفظة الجدار مغايرة لحقيقة الجدار
وقد يكون عينه
فإن لفظ الاسم اسم للفظ الدال على المعنى المجرد عن الزمان
ومن جملة الألفاظ لفظ الاسم فيكون لفظ الاسم اسما لنفسه فاتحد ههنا الاسم والمسمى
قال فهذا ما عندي في هذه المسألة
المقصد الثاني في أقسام الاسم
المتن اعلم أن الاسم إما أن يؤخذ من الذات أو من جزئها أو من وصفها الخارجي أو من الفعل ثم ننظر أيها يمكن في حق الله تعالى
أما المأخوذ من الذات ففرع تعلقها
وقد تكلمنا فيه
وأما المأخوذ من الجزء فمحال عليه لما بينا أن الوجوب الذاتي ينافي التركيب
وأما المأخوذ من الوصف الخارجي فجائز
ثم هذا الوصف قد يكون حقيقيا
وقد يكون إضافيا وقد يكون سلبيا
وأما المأخوذ من الفعل فجائز
فهذه أقسامه البسيطة
وقد تتركب ثنائيا وأكثر وستعلم أمثلتها فيما يتبعه من المقصد
الشرح
المقصد الثاني في أقسام الاسم
إعلم أن الاسم الذي يطلق على
304

الشيء إما أن يؤخذ من الذات بأن يكون المسى به ذات الشيء من حيث هو أو من جزئها أو من وصفها الخارجي أو من الفعل الصادر عنه
فهذه هي أقسام الاسم على الإطلاق
ثم ننظر أيها يمكن في حق الله تعالى
أما المأخوذ من الذات ففرع تعقلها
وقد تكلمنا فيه
فمن ذهب إلى جواز تعقل ذاته جوز أن يكون له اسم بإزاء حقيقته المخصوصة
ومن ذهب إلى امتناع تعقلها لم يجوز له اسما مأخوذا من ذاته لأن وضع الاسم لمعنى فرع تعقله ووسيلة إلى تفهيمه
فإذا لم يمكن أن يعقل ويفهم فلا يتصور بإزائه
وفيه بحث
لأن الخلاف في تعقل كنه ذاته ووضع الاسم لا يتوقف عليه إذ يجوز أن يعقل ذات ما بوجه من وجوهه ويوضع الاسم لخصوصيته ويقصد تفهيمها باعتبار ما لا بكنهها ويكون ذلك الوجه مصححا للوضع وخارجا عن مفهوم الاسم على ما مر من أن لفظ الله اسم علم له موضوع لذاته من غير اعتبار معنى فيه
وأما المأخوذ من الجزء كالجسم للإنسان مثلا فمحال عليه تعالى لما بينا من أن الوجوب الذاتي ينافي التركيب فلا يتصور لذاته تعالى جزء حتى يطلق اسمه عليه
وأما المأخوذ من الوصف الخارجي الداخل في مفهوم الاسم فجائز في حقه تعالى ثم هذا الوصف قد يكون حقيقيا كالعليم
وقد يكون إضافيا كالماجد بمعنى المعالي وقد يكون سلبيا كالقدوس
وأما المأخوذ من الفعل فجائز في حقه تعالى أيضا
فهذه الأقسام المذكورة للاسم هي أقسامه البسيطة وقد تتركب ثنائيا وأكثر
وستعلم أمثلتها فيما يتبعه من المقصد
305

المقصد الثالث
المتن تسميته تعالى بالأسماء توقيفية
أي يتوقف إطلاقها على الإذن فيه
وذلك للاحتياط احترازا عما يوهم باطلا لعظم الخطر في ذلك
والذي ورد به التوقيف في المشهور تسعة وتسعون اسما فلنحصها إحصاء
الله اسم خاص بذاته لا يوصف به غيره
فقيل علم جامد
وقيل مشتق وأصله الإله
حذفت الهمزة لثقلها وأدغم اللام
وهو من إله إذا تعبد
وقيل من الوله وهو الحيرة
ومرجعهما صفة إضافية
وقيل هو القادر على الخلق
وقيل من لا يصح التكليف إلا منه
فمرجعه صفة سلبية
الرحمن
الرحيم أي مريد الإنعام على الخلق
فمرجعهما صفة الإرادة
الملك أي يعز ويذل
ولا يذل
فمرجعه صفة فعلية وسلبية
وقيل التام القدرة
فصفة القدرة
القدوس المبرأ على المعايب
وقيل الذي لا يدركه الأوهام والأبصار
فصفة سلبية
السلام ذو السلامة عن النقائص
فصفة سلبية
وقيل منه وبه السلامة
306

ففعلية
وقيل يسلم على خلقه
قال تعالى * (سلام قولا من رب رحيم) *
فصفة كلامية
المؤمن المصدق لنفسه ورسله
إما بالقول فصفة كلامية أو بخلق المعجز ففعلية
وقيل المؤمن لعباده من الفزع الأكبر إما بفعله الأمن أو بأخباره
المهيمن الشاهد
وفسر بالعلم وبالتصديق بالقول
وقيل الأمين أي الصادق في قوله
العزيز قيل لا أب له ولا أم
وقيل لا يحط عن منزلته
وقيل لا مثل له
وقيل يعذب من أراد
وقيل عليه ثواب العاملين
وقيل القادر والعزة القدرة
ومنه المثل من عزيز
الجبار قيل من الجبر بمعنى الإصلاح
ومنه جبر العظم
وقيل بمعنى الإكراه
أي يجبر خلقه على ما يريده
وقيل منيع لا ينال
ومنه نخلة جبارة
وقيل لا يبالي بما كان وبما لم يكن
وقيل العظيم
أي انتفت عنه صفات النقص
وقيل وحصل له جميع الكمال
المتكبر قيل في معناه ما قيل في العظيم
الخالق البارىء معناهما واحد
المختص باختراع الأشياء
المصور المختص بإحداث الصور والتراكيب
الغفار المريد لإزالة العقوبة عن مستحقها
307

القهار غالب لا يغلب
الوهاب كثير العطاء
الرزاق يرزق من يشاء
الفتاح ميسر العسير
وقيل خالق الفتح
أي النصر
وقيل الحاكم
وهو إما بالإخبار أو بالقضاء
ومنه قوله تعالى * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * أي احكم
وقيل الحاكم المانع
ومنه حكمة اللجام
العليم العالم بجميع المعلومات
القابض المختص بالسلب
الباسط المختص بالتوسعة
الخافض من الخفض
وهو الحط والوضع
الرافع المعطي للنازل
المعز معطي العزة
المذل الموجب لحط المنزلة
السميع
البصير ظاهر
الحكم الحاكم وقيل هو الصحيح علمه وقوله وفعله
العدل لا يقبح منه ما يفعل
اللطيف خالق اللطف
وقيل العالم بالخفيات
308

الخبير العليم
وقيل المخبر
الحليم لا يعجل العقاب
العظيم قد مر
الغفور كالغفار
الشكور المجازي على الشكر
وقيل يثيب على القليل الكثير
وقيل المثني على من أطاعه
العلي
الكبير كالمتكبر
الحفيظ العليم
وقيل لا يشغله شيء عن شيء
وقيل يبقي صور الأشياء
المقيت خالق الأقوات
وقيل المقدر
وقيل الشهيد وهو العالم بالغائب والحاضر
الحسيب الكافي يخلق ما يكفي العباد
وقيل المحاسب بإخباره المكلفين بما فعلوا
الجليل كالمتكبر
الكريم ذو الجود
وقيل المقتدر على الجود
وقيل العلي الرتبة
ومنه كرائم المواشي
وقيل يغفر الذنوب
الرقيب كالحفيظ
المجيب يجيب الأدعية
309

الواسع
الحكيم
الودود المودود كالحلوب والركوب
وقيل الواد
أي يود ثناءه على المطيع وثوابه له
المجيد الجميل أفعاله
وقيل الكثير أفضاله
وقيل لا يشارك فيما له من أوصاف المدح
الباعث المعيد للخلائق
الشهيد العالم بالغائب والحاضر
الحق العدل
وقيل الواجب لذاته
وقيل المحق أي الصادق
وقيل مظهر الحق
الوكيل المتكفل بأمور الخلق
وقيل الموكول إليه ذلك
القوي القادر على كل أمر
المتين هي النهاية في القدرة
الولي الحافظ للولاية
الحميد المحمود
المحصي العالم
وقيل المنبىء عن عدد كل معدود
وقيل القادر
ومنه * (علم أن لن تحصوه) * أي لن تطيقوه
المبدىء المتفضل بابتداء النعم
المعيد يعيد الخلق
المحيي خالق الحياة
310

المميت خالق الموت
الحي ظاهر
القيوم الباقي الدائم
وقيل المدبر
الواجد الغني
وقيل العالم
الماجد العالي
وقيل من له من الولاية والتولية
الأحد قد مر تفسيره
الصمد السيد
وقيل الحليم
وقيل العالي الدرجة
وقيل المدعو المسؤول
وقيل الصمد ما لا جوف له
القادر المقتدر ظاهر
المقدم
المؤخر يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء
الأول
الآخر لم يزل ولا يزال
الظاهر المعلوم بالأدلة القاطعة
وقيل الغالب
الباطن المحتجب عن الحواس
وقيل العالم بالخفيات
الوالي المالك
المتعالي كالعلي
البر فاعل البر
التواب يرجع لفضله على عباده إذا تابوا إليه
المنتقم المعاقب لمن عصاه
311

العفو الماحي
الرؤوف المريد للتخفيف
مالك الملك يتصرف فيه
ذو الجلال والإكرام كالجليل
المقسط العادل
الجامع أي للخصوم يوم القضاء
الغني لا يفتقر إلى شيء
المغني المحسن لأحوال الخلق
المانع لما يشاء من المنافع
الضار
النافع منه الضرر والنفع
النور
الهادي يخلق الهدى
البديع أي المبدع
الباقي لا آخر له
الوارث الباقي بعد فناء الخلق
الرشيد العدل
وقيل المرشد
الصبور الحليم
وقد مر
فهذه هي الأسماء الحسنى نسأل الله ببركتها أن يفتح علينا أبواب الخير ويغفر لنا ويرحمنا إنه هو الغفور الرحيم
الشرح
المقصد الثالث تسميته تعالى بالأسماء توقيفية
أي يتوقف إطلاقها
312

على الإذن فيه
وليس الكلام في أسمائه الأعلام الموضوعة في اللغات إنما النزاع في الأسماء المأخوذة من الصفات والأفعال
فذهبت المعتزلة والكرامية إلى أنه إذا دل العقل على اتصافه تعالى بصفة وجودية أو سلبية جاز أن يطلق عليه اسم يدل على اتصافه بها سواء ورد بذلك الإطلاق إذن شرعي أو لم يرد
وكذا الحال في الأفعال
وقال القاضي أبو بكر من أصحابنا كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه بلا توقيف إذ لم يكن إطلاقه موهما لما لا يليق بكبريائه
فمن ثمة لم يجز أن يطلق عليه لفظ العارف لأن المعرفة قد يراد بها علم يسبقه غفلة ولا لفظ الفقيه لأن الفقه فهم غرض التكلم من كلامه
وذلك مشعر بسابقة الجهل ولا لفظ العاقل لأن العقل علم مانع عن الإقدام على ما لا ينبغي مأخوذ من العقال
وإنما يتصور هذا المعنى فيمن يدعوه الداعي إلى ما لا ينبغي ولا لفظ الفطن لأن الفطانة سرعة إدراك ما يراد تعريضه على السامع فتكون مسبوقة بالجهل ولا لفظ الطبيب لأن الطب يراد به علم مأخوذ من التجارب إلى غير ذلك من الأسماء التي فيها نوع إيهام بما لا يصح في حقه تعالى
وقد يقال لا بد من نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقيف
وذهب الشيخ ومتابعوه إلى أنه لا بد من التوقيف
وهو المختار وذلك للاحتياط احترازا عما يوهم باطلا لعظم الخطر في ذلك فلا يجوز الاكتفاء في عدم إيهام الباطل بمبلغ إدراكنا بل لا بد من الاستناد إلى إذن الشرع
والذي ورد به التوقيف في المشهور تسعة وتسعون اسما
فقد ورد في الصحيحين أن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة أوليس
فيهما تعيين تلك الأسماء
لكن الترمذي والبيهقي عيناها كما في الكتاب
وإنما قال في المشهور إذ قد ورد التوقيف بغيرها
أما في القرآن فكالمولى والنصير
313

والغالب والقاهر والقريب والرب والناصر والأعلى والأكرم وأحسن الخالقين وأرحم الراحمين وذي الطول وذي القوة وذي المعراج إلى غير ذلك
وأما في الحديث فكالحنان والمنان
وقد ورد في رواية ابن ماجة أسماء ليست في الرواية المشهورة كالتام والقديم والوتر والشديد والكافي وغيرها
وإحصاؤها إما حفظها لأنه إنما يحصل بتكرار مجموعنا وتعدادها مرارا
وإما ضبطها حصرا وتعدادا وعلما وإيمانا وقياما بحقوقها
وبالجملة فلنحصها إحصاء طمعا في دخول الجنة فنقول
الله وهو اسم خاص بذاته لا يوصف به غيره أي لا يطلق على غيره أصلا
فقيل هو علم جامد لا اشتقاق له
وهو أحد قولي الخليل وسيبويه
والمروي عن أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان الخطابي والغزالي رحمهم الله تعالى وقيل مشتق وأصله الإله
حذفت الهمزة لثقلها وأدغم اللام
وهو من أله بفتح اللام
أي عبد
وهو المراد بقوله إذا تعبد
وقيل الإله مأخوذ من الوله
وهو الحيرة
ومرجعهما صفة إضافية هي كونه معبودا للخلائق ومختارا للعقول
وقيل معنى الإله هو القادر على الخلق فيرجع إلى صفة القدرة
وقيل هو الذي لا يكون إلا ما يريد
وقيل من لا يصح التكليف إلا منه
فمرجعه على هذين الوجهين
314

صفة سلبية فعلية
والصحيح أن لفظة الله على تقدير كونها في الأصل صفة فقد انقلبت علما مشعرا بصفات الكمال للاشتهار
الرحمن
الرحيم هما بمنزلة الندمان والنديم أي مريد الإنعام على الخلق
فمرجعهما صفة الإرادة
وقيل معطي جلائل النعم ودقائقها
فالمرجع حينئذ صفة فعلية
الملك أي يعز من يشاء ويذل من يشاء
ولا يذل أي يمتنع إذلاله
فمرجعه صفة فعلية وسلبية
وقيل معناه التام القدرة
فصفة القدرة مرجعه
القدوس أي المبرأ عن المعايب
وقيل هو الذي لا يدركه الأوهام والأبصار فصفة سلبية على الوجهين
السلام أي ذو السلامة عن النقائص مطلقا في ذاته وصفاته وأفعاله فصفة سلبية
وقيل معناه منه وبه السلامة أي هو المعطي للسلامة في المبدأ والمعاد ففعلية
وقيل يسلم على خلقه
قال تعالى * (سلام قولا من رب رحيم) *
فصفة كلامية
المؤمن هو المصدق لنفسه فيما أخبر به كالوحدانية مثلا في قوله * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * ورسوله فيما أخبروا به في تبليغهم عنه إما بالقول نحو قوله تعالى * (محمد رسول الله) * فصفة كلامية أو بخلق المعجز الدال على صدق الرسل وخلق العالم على النظام المشاهد الدال على الوحدانية ففعلية
وقيل معناه المؤمن لعباده المؤمنين من
315

الفزع الأكبر إما بفعله وإيجاده الأمن والطمأنينة فيهم فيرجع إلى صفة فعليه
أو إخباره إياهم بالأمن من ذلك فيكون صفة كلامية
المهيمن أي الشاهد
وفسر كونه شاهدا تارة بالعلم فيرجع إلى صفة العلم وأخرى بالتصديق بالقول فيرجع إلى صفة كلامية
وقيل معنى المهيمن الأمين
أي الصادق في قوله فيكون صفة كلامية
وقيل هو بمعنى الحفيظ
وسيأتي معناه
العزيز قيل معناه لا أب له ولا أم
وقيل لا يحط عن منزلته ويقرب من هذا تفسيره بالذي لا يرام أو الذي لا يخالف أو الذي لا يخوف بالتهديد
وقيل لا مثل له وهو بهذا المعنى وبالمعنى الأول مشتق عن عز الشيء
يعز بالكسر في المستقبل إذا لم يكن له نظير
ومنه عز الطعام في البلد إذا تعذر
وحاصل الكل يرجع إلى صفة سلبية
وقيل يعذب من أراد
وقيل عليه ثواب العاملين فيرجع إلى صفة فعلية هي التعذيب أو الإثابة
وقيل القادر
والعزة والقدرة والغلبة ومنه المثل من عزيز أي من قدر وغلب سلب
الجبار قيل من الجبر بمعنى الإصلاح أي المصلح لأمور الخلائق فإنه جابر كل كسير
ومنه جبر العظم أي أصلحه
وقيل من الجبر بمعنى الإكراه
يقال جبره السلطان على كذا
وأجبره إذا أكرهه أي يجبر خلقه ويحملهم على ما يريده فمرجعه على المعنيين صفة فعليه
وقيل معناه منيع لا ينال فإن سبحانه وتعالى متعال عن أن تناله يد الأفكار أو يحيط به إدراك الأبصار
ومنه نخلة جبارة إذا طالت وقصرت الأيدي عن أن تنال أعلاها
فمرجعه إلى صفة إضافية مع سلبية
وقيل لا يبالي بما كان وبما لم يكن وقد يعبر عن هذا المعنى بأنه إذ لا يتمنى ما لا يكون ولا يلتهف على ما لم يكن
فمرجعه إلى الصفات السلبية
وقيل هو العظيم هكذا
316

نقل عن ابن عباس ثم فسر المصنف العظيم بقوله أي انتفت عنه صفات النقص فمرجعه صفة سلبية
وقيل أي انتفى عنه تلك الصفات وحصل له جميع صفات الكمال فيرجع إلى الصفات السلبية والثبوتية معا
المتكبر قيل في معناه ما قيل في معنى العظيم وقال الغزالي رحمه الله المتكبر المطلق هو الذي الكل يرى حقيرا بالإضافة إلى ذاته
فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقا وصاحبه محقا
ولا يتصور ذلك على الإطلاق إلا الله
وإن كانت كاذبة كان التكبر باطلا والمتكبر مبطلا
الخالق
البارىء معناهما واحد أي المختص باختراع الأشياء
المصور المختص بإحداث الصور المختلفة والتراكيب المتفاوتة
فهذه الأسماء الثلاثة من صفات الفعل
قال الغزالي رحمه الله قد يظن أن هذه الثلاثة مترادفة وأنها راجعة إلى الخلق والاختراع
والأولى أن يقال ما يخرج من العدم إلى الوجود يحتاج أولا إلى التقدير وثانيا إلى الإيجاد على وفق ذلك التقدير وثالثا التصوير والتزيين كالبناء بقدرة المهندس ثم يبنيه الباني ثم يزينه النقاش
فالله سبحانه خالق من حيث أنه مقدر وبارىء من حيث أنه موجد ومصور من حيث أنه يرتب صور المخترعات أحسن ترتيب ويزينها أكمل تزيين
الغفار أي المريد لإزالة العقوبة عن مستحقها فهو راجع إلى صفة الإرادة
واشتقاقه من الغفر بمعنى الستر
القهار غالب لا يغلب فهو صفة فعلية سلبية
317

الوهاب كثير العطاء بلا عوض
فيكون صفة فعلية
الرزاق يرزق من يشاء من الحيوان ما ينتفع به من مأكول ومشروب وملبوس
فهو من صفات الفعل
الفتاح ميسر العسير
وقيل خالق الفتح أي النصر وهو على التقديرين راجع إلى الصفات الفعلية
وقيل الحاكم
وهو أي الحكم إما بالإخبار والقول فيكون صفة كلامية أو بالقضاء والقدر فيرجع إلى صفة القدرة والإرادة
والفتاح بمعنى الحاكم مشتق من الفتاحة
وهي الحكم
ومنه قوله تعالى * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * أي أحكم
وقيل الحاكم معناه المانع
ومنه حكمه اللجام وهي الحديدة المانعة من جماح الدابة
فهو صفة فعلية
العليم العالم بجميع المعلومات فهو صفة حقيقية
القابض المختص بالسلب
الباسط المختص بالتوسعة في العطية
الخافض دافع البلية من الخفض
وهو الحط والوضع
الرافع المعطي للمنازل
المعز معطي العزة وفي أكثر نسخ الكتاب معطي القوة
وكلاهما ظاهر
المذل الموجب لحط المنزلة
فهذه كلها صفة فعلية
318

السميع البصير ظاهر معناهما مما سبق
الحكم الحاكم وقد عرفت معناه ومرجعه وقيل الحكم هو الصحيح علمه وقوله وفعله فيرجع إلى هذه الصفات
العدل لا يقبح منه ما يفعل فهو صفة سلبية
اللطيف خالق اللطف يلطف بعباده من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون
وقيل العالم بالخفيات فعلى الأول يرجع إلى الفعل وعلى الثاني إلى العلم
الخبير معناه العليم فصفة علمية
وقيل المخبر فصفة كلامية
الحليم لا يعجل العقاب للعصاة قبل وقته المقدر
فيرجع إلى السلب
العظيم قد مر معناه في تفسير الجبار
الغفور كالغفار بلا فرق على قياس الرحمن الرحيم
الشكور المجازي على الشكر فإن جزاء الشيء يسمى باسمه
وقيل معناه أنه يثيب على القليل من الطاعة الكثير من النعمة
وعلى التقديرين هو صفة فعلية
وقيل معناه المثني على من أطاعه فيكون صفة كلامية
العلي
الكبير هما كالمتكبر في المعنى
الحفيظ معناه العليم من الحفظ الذي هو ضد السهو النسيان
319

ومرجعه العلم
وقيل من لا يشغله شيء عن شيء فمرجعه صفة سلبية
وقيل يبقي صور الأشياء فصفة فعلية من الحفظ الذي يضاد التضييع
المقيت خالق الأقوات
وقيل المقدر فيرجع على التقديرين إلى الفعل
وقيل معناه الشهيد هو العالم بالغائب والحاضر كما سيأتي في تفسيره فيرجع إلى العلم
وقيل المقتدر فيرجع إلى القدرة
الحسيب الكافي
يخلق ما يكفي العباد في مصالحهم ومهماتهم فهو صفة فعلية من قولهم أكرمني فلان وأحسبني
أي أعطاني حتى قلت حسبي
وقيل المحاسب بإخباره المكلفين بما فعلوا من خير وشر فيرجع إلى صفة كلامية
الجليل كالمتكبر
وقيل هو المتصف بصفة الجلال والجمال
الكريم ذو الجود
وقيل المقتدر على الجود ومرجعهما الفعل والقدرة
وقيل معناه العلي الرتبة
ومنه كرائم المواشي لنفائسها فيرجع إلى صفة إضافية
وقيل يغفر الذنوب
الرقيب كالحفيظ
وقال الغزالي هو أخص من الحفيظ
لأن الرقيب هو الذي يراعي الشيء بحيث لا يغفل عنه أصلا ويلاحظه ملاحظة دائمة لازمة لزوما لو عرفه الممنوع عن ذلك الشيء لما أقدم عليه
فكأنه يرجع إلى العلم والحفظ ولكن باعتبار اللزوم وبالإضافة إلى ممنوع عنه محروس عن التناول
320

المجيب يجيب الأدعية
الواسع هو الذي وسع جوده جميع الكائنات وعلمه جميع المعلومات وقدرته جميع المقدورات فلا يشغله شأن عن شأن
الحكيم العليم ذو الحكمة
وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي
وقيل الحكيم بمعنى المحكم من الإحكام وهو إتقان التدبير وإحسان التقدير
الودود المودود من الود
وهو المحبة كالحلوب والركوب بمعنى المحلوب والمركوب
وقيل معناه الواد كالصبور بمعنى الصابر أي يود ثناءه على المطيع وثوابه له
المجيد الجميل أفعاله
وقيل الكثير أفضاله
وقيل لا يشارك فيما له من أوصاف المدح
الباعث المعيد للخلائق يوم القيامة
الشهيد العالم بالغائب والحاضر
الحق معناه العدل
وقيل الواجب لذاته أي لا يفتقر في وجوده إلى غيره
وقيل معناه المحق
أي الصادق في القول
وقيل مظهر الحق
321

الوكيل المتكفل بأمور الخلق وحاجاتهم
وقيل الموكول إليه ذلك فإن عباده وكلوا إليه مصالحهم اعتمادا على إحسانه
القوي القادر على كل أمر
المتين قال الآمدي معناه نفي النهاية في القدرة
يعني أن قدرته لا تتناهى
وفي عبارة الكتاب هي النهاية في القدرة
ولا يبعد أن يكون تصحيفا
والأظهر أن يراد أن المتانة هي بلوغ القدرة إلى النهاية والغاية
وذلك إذا كانت غير متناهية
الولي الحافظ للولاية أي النصر
فمعناه الناصر
وقيل هو بمعنى المتولي للأمر والقائم به
الحميد المحمود فهو صفة إضافية
المحصي العالم
وقيل المنبىء عن عدد كل معدود فيرجع إلى صفة الكلام
وقيل القادر
ومنه * (علم أن لن تحصوه) *
أي لن تطيقوه
المبدىء المتفضل بابتداء النعم
المعيد يعيد الخلق بعد هلاكه
المحيي خالق الحياة
المميت خالق الموت
الحي ظاهر مما مر
القيوم الباقي الدائم فهو صفة نفسية
وقيل المدبر للمخلوقات بأسرها
فهو صفة فعلية
322

الواجد الغني أي الذي لا يفتقر فهو صفة سلبية
وقيل معناه العالم
الماجد العالي المرتفع فهو صفة إضافية
وقيل من له الولاية والتولية فيكون صفة فعلية
الأحد قد مر تفسيره أي علم ذلك مما سبق في وحدانيته من أنه يمتنع أن يشاركه شيء في ماهيته وصفات كماله
وقد يروى الواحد بدل الأحد
ويفرق بينهما فيقال هو أحدي الذات
أي لا تركيب فيه
وأوحد في الصفات لا مشارك له فيها
الصمد معناه السيد وهو المالك فيكون صفة إضافية
وقيل معناه الحليم أي الذي لا يستفزه ولا تقلقه أفعال العصاة فتكون صفة سلبية
وقيل العالي الدرجة
وقيل المدعو المسؤول الذي يصمد لقضاء الحوائج
وعلى التقديرين هو صفة إضافية
وقيل الصمد ما لا جوف له أي المصمت
فداله مبدلة من التاء
وحاصله نفي التركيب وقبول الانقسام
القادر
المقتدر كلاهما ظاهر والثاني أبلغ من الأول
المقدم
المؤخر يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء
الأول
الآخر لم يزل ولا يزال أي أنه قبل كل شيء وليس قبله شيء وبعد كل شيء
وليس بعده شيء
فهما صفتان سلبيتان
الظاهر المعلوم بالأدلة القاطعة فهو صفة إضافية
وقيل الغالب فصفة فعلية من ظهر فلان على فلان
أي قهره
323

الباطن المحتجب عن الحواس بحيث لا تدركه أصلا فيكون صفة سلبية
وقيل العالم بالخفيات
الوالي المالك
المتعالي كالعالي مع نوع من المبالغة
البر فاعل البر والإحسان
التواب يرجع بفضله على عباده إذا تابوا إليه من المعاصي
المنتقم المعاقب لمن عصاه
العفو الماحي للسيئات والمزيل لآثارها من صحائف الأعمال
الرؤوف المريد للتخفيف على العبيد
مالك الملك يتصرف فيه وفي مخلوقاته كما يشاء
ذو الجلال والإكرام كالجليل
قال الآمدي هو قريب من معنى الجليل
المقسط العادل من أقسط أي عدل
وقسط أي جار
الجامع أي للخصوم يوم القضاء
الغني لا يفتقر إلى شيء
المانع لما يشاء من المنافع
المغني المحسن لأحوال الخلق
324

الضار
النافع منه الضرر والنفع
النور الظاهر بنفسه المظهر لغيره بالوجود من العدم
الهادي يخلق الهدى في قلوب المؤمنين
البديع أي المبدع فإنه الذي فطر الخلائق بلا احتذاء مثال
وقيل بديع في نفسه لا مثل له
الباقي لا آخر له
الوارث الباقي بعد فناء الخلق
الرشيد العدل
وقيل المرشد إلى سبيل الخيرات
الصبور الحليم
وقد مر
فهذه هي الأسماء الحسنى الواردة في الرواية المشهورة
نسأل الله ببركتها أن يفتح علينا أبواب الخير ويغفر لنا ذنوبنا ويرحمنا بمنه وكرمه إنه هو الغفور الرحيم الجواد الكريم
ثم إن المصنف تابع الآمدي في تفسير هذه الأسماء على وجه الاختصار تقريبا لفهمها على طلابها فتبعناهما فيه
ومن أراد الاستقصاء في ذلك فعليه بالرسائل المؤلفة في تفسيراتها واشتقاقاتها وما ذكر فيها من المعاني المختلفة والأقوال المتفاوتة
325

الموقف السادس في السمعيات
وفيه مراصد
327

المرصد الأول في النبوات
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن في معنى النبي
وهو لفظ منقول في العرف عن مسماه اللغوي
فقيل هو المنبىء من النبأ لإنبائه عن الله تعالى
وقيل من النبوة وهو الارتفاع لعلو شأنه
وقيل من النبي وهو الطريق لأنه وسيلة إلى الله تعالى
وأما في العرف فهو عند أهل الحق من قال له الله أرسلتك
أو بلغهم عني ونحوه من الألفاظ
ولا يشترط فيه شرط ولا استعداد بل الله يختص برحمته من يشاء من عباده
وهو أعلم حيث يجعل رسالاته
وهذا بناء على القول بالقادر المختار
وأما الفلاسفة فقالوا هو من اجتمع فيه خواص ثلاث
أحدها أن يكون له اطلاع على المغيبات ولا يستنكر
لأن النفوس الإنسانية مجردة ولها نسبة إلى المجردات المنتقشة بصور ما يحدث في هذا العالم لكونها مبادئ له فقد تتصل بها وتشاهد ما فيها فتحكيها
ويؤيده ما ترى النفوس وما عليها من التفاوت في طرفي الزيادة والنقصان متصاعدا إلى النفوس القدسية ومتنازلا إلى البلد الذي لا يكاد يفقه قولا
وكيف وقد يوجد فيمن قلت شواغله لرياضة أو مرض أو نوم قلنا مردود
إذ الاطلاع على
329

جميع المغيبات لا يجب للنبي اتفاقا
والبعض لا يختص به كما أقررتم به
ثم إحالة ذلك على اختلاف النفوس وضعفها مع اتحادها بالنوع مشكل
وباقي المقدمات خطابية
وثانيها أن يظهر منه الأفعال الخارقة للعادة لكون هيولى عالم العناصر مطيعة له منقادة لتصرفاته انقياد بدنه لنفسه
ولا يستنكر
فإن النفوس الإنسانية وهي بتصوراتها مؤثرة في المواد كما نشاهد من الاحمرار والاصفرار والتسخن عند الخجل والوجل والغضب
ومن السقوط من المواضع العالية القليلة العرض بتصور السقوط وإن كان ممشاه في غيرها أقل عرضا
فلا يبعد أن تقوى نفس النبي حتى تحدث بإرادته في الأرض رياح وزلازل وحرق
وغرق وهلاك أشخاص ظالمة وخراب مدن فاسدة
وكيف ونشاهد مثلها من أهل الرياضة والإخلاص
قلنا هذا بناء على تأثير النفوس في الأجسام
والمقارنة لا تعطيه مع أنه لا يختص بالنبي
وثالثها أن يرى الملائكة مصورة ويسمع كلامهم وحيا ولا يستنكر أن يحصل له في يقظته مثل ما يحصل للنائم في نومه لتجرد نفسه عن الشواغل البدنية وسهولة انجذابه إلى عالم القدس
وربما صار ملكه ويحصل بأدنى توجه
قلنا هذا تلبيس وتستر بعبارة لا يقولون بمعناها لأنهم لا يقولون بملائكة يرون بل الملائكة عندهم نفوس مجردة
ولا كلام لهم يسمع لأنه من خواص الأجسام
ومآله إلى تخيل ما لا وجود له في الحقيقة كما
330

للمرضى والمجانين على ما صرحوا به
ولو كان أحدنا آمرا وناهيا من قبل نفسه بما يوافق المصلحة ويلائم العقل لم يكن نبيا باتفاق
فكيف من قبل ما يرجع إلى تخيلات لا أصل لها
وربما خالف المعقول هذا ثم أنهم قالوا من اجتمعت فيه هذه الخواص انقادت له النفوس المختلفة مع ما جبلت عليه من الإباء وذلت لهم الهمم المتفاوتة على ما هي عليه من اختلاف الآراء فيصير سببا لقرار الشريعة التي بها يتم التعاون الضروري لنوع الإنسان من حيث أنه لا يستقل بما يحتاج إليه في معاشه دون مشاركة من أبناء جنسه في المعاملات والمعاوضات ولولا شريعة ينقاد لها الخاص والعام لاشرأبت كل نفس إلى ما يريده غيره وطمح عين كل إلى ما عند الآخر فحصل التنازع وأدى إلى التواثب والتشاجر والتقاتل والتناحر وشمل الهرج والمرج واختل أمور المعاش والمعاد فوجب في الطبيعة لما علم من شمول العناية فيما أعطي كل حيوان من الآلات وهدي إلى ما فيه بقاؤه
وبه قوامه
سيما الإنسان وهو أشرف الأنواع سخر له ما عداه وهذا من أعظم مصالحه
افترى الطبيعة تهمل ذلك كلا
الموقف السادس في السمعيات
الشرح أي في الأمور التي يتوقف عليها السمع كالنبوة أو تتوقف هي على السمع كالمعاد
وأسباب السعادة والشقاوة من الإيمان والطاعة والكفر والمعصية
وفيه مراصد أربعة
ثلاثة منها في الأمور التي ذكرناها وواحد منها في الإمامة
وليست من العقائد الأصلية كما مر
وسيأتي أيضا
المرصد الأول في النبوات
وفيه مقاصد تسعة المقصد الأول في معنى النبي
وهو لفظ
331

منقول في العرف عن مسماه اللغوي إلى معنى عرفي
أما المعنى اللغوي فقيل هو المنبىء واشتقاقه من النبأ فهو حينئذ مهموز لكنه يخفف ويدغم
وهذا المعنى حاصل لمن اشتهر بهذا الاسم
لإنبائه عن الله تعالى
وقيل النبي مشتق من النبوة
وهو الارتفاع يقال تنبى فلان إذ ارتفع وعلا
والرسول عن الله موصوف بذلك لعلو شأنه وسطوع برهانه
وقيل من النبي
وهو الطريق
لأنه وسيلة إلى الله تعالى
وأما مسماه في العرف فهو عند أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم من المليين من قال له الله تعالى
من اصطفاه من عباده أرسلتك إلى قوم كذا وإلى الناس جميعا أو بلغهم عني
ونحوه من الألفاظ المفيدة لهذا المعنى كبعثتك ونبئهم
ولا يشترط فيه أي في الإرسال شرط من الأعراض والأحوال المكتسبة بالرياضات والمجاهدات في الخلوات والانقطاعات والاستعداد ذاتي من صفاء الجوهر وذكاء الفطرة كما يزعمه الحكماء بل الله سبحانه وتعالى يختص برحمته من يشاء من عباده
فالنبوة رحمة وموهبة متعلقة بمشيئة فقط
وهو أعلم حيث يجعل رسالاته
وفي دلالة هذه الآية على المطلوب نوع خفاء كما لا يخفى
وهذا الذي ذهب إليه أهل الحق بناء على القول بالقادر المختار الذي يفعل ما يشاء ويختار ما يريد
وأما الفلاسفة فقالوا هو أي النبي من اجتمع فيه خواص ثلاث يمتاز بها عن غيره
332

إحداها أي إحدى الأمور المختصة به أن يكون له اطلاع على المغيبات الكائنة والماضية والآتية
ولا يستنكر هذا الاطلاع لأن النفوس الإنسانية مجردة في ذاتها عن المادة غير حالة فيها بل هي لا مكانية ولها نسبة في التجرد إلى المجردات العالية والنفوس السماوية المنتقشة بصور ما يحدث في هذا العالم العنصري الكائن الفاسد لكونها مبادي له
فقد تتصل النفس الناطقة بها أي بتلك المجردات اتصالا معنويا وتنجذب إليها بواسطة الجنسية
وتشاهد ما فيها من صور الحوادث فتحكيها أي يرتسم فيها من تلك الصور ما لا تستعد هي لارتسامه فيها كمرآة يحاذى بها مرآة أخرى فيها نقوش فينعكس منها إلى الأول ما يقابلها
ويؤيده أي يدل على جواز ما قلنا من أن تكون للنبي نفس قوية بهذه المرتبة ما ترى النفوس أي رؤية النفوس البشرية وما هي عليها من التفاوت في إدراك المعاني العقلية في طرفي الزيادة والنقصان تفاوتا متصاعدا إلى النفوس القدسية التي تدرك النظريات الكثيرة بالحدس في أقرب زمان غير أن يعرض لها غلط
ومتنازلا إلى البليد الذي لا يكاد يفقه قولا
وكيف يستنكر ذلك الاطلاع في حق النبي وقد يوجد ذلك فيمن قلت شواغله لرياضة بأنواع المجاهدات أو مرض صارف للنفس عن الاشتغال بالبدن واستعمال الآلة
أو نوم ينقطع به إحساساته الظاهرة
فإن هؤلاء قد يطلعون على مغيبات ويخبرون عنها كما يشهد به التسامع والتجارب بحيث لا يبقى فيه شبهة للمنصفين
قلنا ما ذكرتم مردود بوجوه إذ الاطلاع على جميع المغيبات لا يجب للنبي اتفاقا منا ومنكم
ولهذا قال سيد الأنبياء (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء)
والبعض أي الاطلاع على البعض لا يختص به أي بالنبي كما أقررتم به حيث جوزتموه للمرتاضين والمرضى والنائمين
فلا يتميز به النبي
333

عن غيره
ثم نقول إحالة ذلك أي الاطلاع المختص بالنبي على اختلاف النفوس في صفاء جوهرها وكدره وشدة قوتها على قطع التعلق والتوجه إلى جانب القدس والملأ الأعلى
وتجردها مع اتحادها بالنوع كما هو مذهبهم مشكل لأن المساواة في الماهية توجب الاشتراك في الأحكام والصفات وإسناد الاختلاف إلى أحوال البدن مبني على القول بالموجب بالذات ونقول أيضا باقي المقدمات من الاتصال بالمبادي العالية بعلة الجنسية وانتقاشها بما فيها من صور الحوادث كما في المرايا المتقابلة خطابية لا تفيد إلا ظنا ضعيفا
وثانيها أي ثاني الأمور المختصة بالنبي أن يظهر منه الأفعال الخارقة للعادة لكون هيولى عالم العناصر مطيعة له منقادة لتصرفاته انقياد بدنه لنفسه في حركاته وسكناته على وجوه شتى وأنحاء مختلفة بحسب إرادته
ولا يستنكر ذلك الانقياد لأن النفوس الإنسانية ليست منطبعة في الأبدان
وهي بتصوراتها مؤثرة في المواد البدنية كما تشاهد من الاحمرار والاصفرار والتسخن عند الخجل والوجل والغضب هذا نشر على ترتيب اللف وكما نشاهد من السقوط من المواضع العالية القليلة العرض يتصور السقوط وإن كان ممشاه في غيرها أي في المواضع السافلة أقل عرضا
وإذا كانت إرادات النفس وتصوراتها مؤثرة في البدن مع عدم الانطباع فيه فلا يبعد أن تقوى نفس النبي بحيث تنقاد له الهيولى العنصرية فتؤثر فيها إرادته وتصوراته حتى تحدث بإرادته في الأرض رياح وزلازل وحرق وغرق وهلاك أشخاص ظالمة وخراب مدن فاسدة
وبالجملة تتصرف نفسه
334

في العنصريات خصوصا في العنصر الذي تكون مناسبته لمزاجه أشد وأقوى بمجرد الإرادة والتصور من غير أن يستعمل آلة
وكيف يستنكر حدوث هذه الأمور الخارقة العجيبة من النبي ونشاهد مثلها من أهل الرياضة والإخلاص على ما هو مشهور في كل عصر من الصلحاء
قلنا هذا الذي ذكرتم من كون تصورات النفس وإرادتها مؤثرة في الأبدان بناء على تأثير النفوس في الأجسام وأحوالها
وقد بينا بطلانه بما سلف من أن لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى
والمقارنة بين التغيرات البدنية وبين التصورات والإرادات النفسية لا تعطيه أي لا تدل على كونها مؤثرة فيه لجواز أن يكون الدوران بطريق العادة مع أنه أي ظهور الأمور العجيبة الخارقة للعادة لا يختص بالنبي كما اعترفتم به فكيف تميزه عن غيره
وثالثها أن يرى الملائكة مصورة بصور محسوسة ويسمع كلامهم وحيا من الله إليه
ولا يستنكر أن يحصل له في يقظته مثل ما يحصل للنائم في نومه من مشاهدة أشخاص يكلمونه بكلام منظوم دال على معان مطابقة للواقع
وذلك لتجرد نفسه عن الشواغل البدنية وسهولة انجذابه إلى عالم القدس فإذا انجذبت إليه واتصلت به في يقظته شاهد المعقولات كمشاهدة المحسوسات
فإن القوة المتخيلة تكسو المعقول المرتسم في النفس لباس المحسوس وتنقشه في الحس المشترك على نحو انتقاش المحسوسات فيه من خارج
وربما صار الانجذاب والاتصال بعالم القدس ملكه أي صفة راسخة للنبي وحينئذ يحصل له ذلك الانجذاب وما يترتب عليه من
335

المشاهدة بأدنى توجه منه
قلنا هذا الذي ذكروه لا يوافق مذهبهم واعتقادهم بل هو تلبيس على الناس في معتقدهم وتستر عن شناعته بعبارة لا يقولون بمعناها
وذلك لأنهم لا يقولون بملائكة يرون بل الملائكة عندهم إما نفوس مجردة في ذواتها متعلقة بأجرام الأفلاك وتسمى ملائكة سماوية أو عقول مجردة ذاتا وفعلا وتسمى بالملأ الأعلى
ولا كلام لهم يسمع لأنه من خواص الأجسام إذ الحرف والصوت عندهم من الأمور العارضة للهواء المتموج كما سلف
فلا يتصور كلام حقيقي للمجردات ومآله أي مآل ما ذكروه في الخاصة الثالثة إلى تخيل ما لا وجود له في الحقيقة كما للمرضى والمجانين فإنهم يشاهدون ما لا وجود له في الخارج على ما صرحوا به وقرروا ما هو السبب فيه
ولا شك أن ذلك إنما يكون على سبيل التخيل دون المشاهدة الحقيقية ولو كان أحدنا آمرا وناهيا من قبل نفسه بما يوافق المصلحة ويلائم العقل لم يكن نبيا باتفاق من العقلاء فكيف يكون نبيا من كان أمره ونهيه من قبيل ما يرجع إلى تخيلات لا أصل لها قطعا أو ربما خالف ما دعا إليه المعقول أيضا هذا كما مضى ثم أنهم قالوا من اجتمعت فيه هذه الخواص الثلاث انقادت له النفوس البشرية المختلفة بطوعها مع ما جبلت عليه من الإباء عن الانقياد لبني نوعها وذلت له الهمم المتفاوتة على ما هي عليه من اختلاف الآراء فيصير ذلك الانقياد التام ظاهرا وباطنا سببا لقرار أي ثبات الشريعة التي بها يتم التعاون الضروري لنوع الإنسان
وإنما كان التعاون ضروريا لهذا النوع من حيث أنه لا يستقل واحد منهم بما يحتاج إليه في معاشه من مأكله ومشربه وملبسه دون مشاركة من أبناء جنسه في المعاملات
وهو أن يعمل كل واحد لآخر مثل ما يعمله الآخر له
336

والمعاوضات
وهي أن يعطي كل واحد صاحبه من عمله بإزاء ما يؤخذ منه من عمله
ألا ترى أنه لو انفرد إنسان وحده لم يتيسر أو لم تحسن معيشته بل لا بد له من أن يكون معه آخرون من بني نوعه حتى يخبز هذا لذلك ويطحن ذاك لهذا ويزرع لهما ثالث... وهكذا
فإذا اجتمعوا على هذا الوجه صار أمرهم مكفيا
ولذلك قيل الإنسان مدني بالطبع
فإن التمدن هو هذا الاجتماع
ولا بد لهم في التعاون من معاملة ومعاوضة يجريان بينهم ولا بد فيهما من قانون عدل يحافظ عليه دفعا للظلم
وإليه أشار بقوله ولولا شريعة ينقاد لها الخاص والعام لاشرأبت كل نفس أي مدت عنقها إلى ما يريده غيره وطمح أي ارتفع عين كل إلى ما عند الآخر فحصل بينهم التنازع وأدى ذلك التنازع إلى التواثب والتشاجر أي الاختلاف والتقاتل والتناحر وشمل الناس الهرج أي القتل والمرج أي الاختلاط واختل أمور المعاش والمعاد
فوجب في الطبيعة وجود الموصوف بتلك الخواص لما علم من شمول العناية فيما أعطي كل حيوان من الآلات اللائقة به وهدي أي كل واحد منه إلى ما فيه بقاؤه وبه قوامه سيما نوع الإنسان
فإن العناية به في الإعطاء والهداية أكثر
وهو أشرف الأنواع الحيوانية سخر له ما عداه من تلك الأنواع
وهذا أي وجود من اجتمعت فيه الخواص المذكورة من أعظم مصالحه لما ظهر فيه من جلب المنافع الجليلة والدفع لمضاره الشديدة
افترى الطبيعة تهمل ذلك كلا والحاصل أن وجود النبي سبب للنظام في المعاش والمعاد فيجب ذلك في العناية الإلهية المقتضية لأبلغ وجوه الانتظام في مخلوقاته
فهذه طريقة إثبات النبوة على مذهب الحكماء
337

المقصد الثاني في حقيقة المعجزة
المتن وهي عندنا ما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله
والبحث عن شرائطها
وكيفية حصولها
ووجه دلالتها
البحث الأول في شرائطها
وهي سبع
الأول أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه
لأن التصديق منه لا يحصل بما أوليس
من قبله
وقولنا أو ما يقوم مقامه ليتناول مثل ما إذا قال معجزتي أن أضع يدي على رأسي
وأنتم لا تقدرون عليه
ففعل وعجزوا فإنه معجز ولا فعل لله ثمة
فإن عدم خلق القدرة أوليس
فعلا
ومن جعل الترك وجوديا حذفه
الثاني أن يكون خارقا للعادة إذ لا إعجاز دونه
وشرط قوم ألا يكون مقدورا للنبي وليس بشيء لأن قدرته مع عدم قدرة غيره عادة معجز
الثالث أن يتعذر معارضته
فإن ذلك حقيقة الإعجاز
الرابع أن يكون ظاهرا على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له
وهل يشترط التصريح بالتحدي الحق أنه لا
بل يكفي قرائن الأحوال مثل أن يقال له إن كنت نبيا فأظهر معجزا ففعل
الخامس أن يكون موافقا للدعوى
فلو قال معجزتي أن أحيي ميتا ففعل خارقا آخر لم يدل على صدقه
السادس ألا يكون ما ادعاه وأظهره مكذبا له
فلو قال معجزتي أن ينطق هذا الضب
فقال إنه كاذب لم يعلم به صدقه بل ازداد اعتقاد
338

كذبه
نعم لو قال معجزتي أن أحيي هذا الميت فأحياه فكذبه ففيه احتمال
والصحيح أنه لا يخرج بذلك عن كونه معجزا لأن المعجز إحياؤه
وهو بعد ذلك مختار في تصديقه وتكذيبه
ولم يتعلق به دعوى
وقيل هذا إذا عاش مدة زمانا
ولو خر ميتا في الحال بطل الإعجاز
لأنه كان أحيى للتكذيب
والحق أنه لا فرق لوجود الاختيار في الصورتين
والظاهر أنه لا يجب تعيين المعجز
السابع أن لا يكون متقدما على الدعوى بل مقارنا لها لأن التصديق قبل الدعوى لا يعقل
فلو قال معجزتي ما قد ظهر على يدي قبل لم يدل على صدقه ويطالب به بعد
فلو عجز كان كاذبا قطعا
فإن قال هذا الصندوق فيه كذا وكذا وقد علمنا خلوه واستمر بين أيدينا من غلقه إلى فتحه
فإن ظهر كما قال كان معجزا
وإن جاز خلقه فيه قبل التحدي
لأن المعجز إخباره عن الغيب
واحتمال أن العلم بالغيب خلق فيه قبل التحدي بناء على جواز إظهار المعجز على يد الكاذب
وسنبطله
فإن قيل فما تقولون في كلام عيسى في المهد وتساقط الرطب الجني عليه من النخلة اليابسة وفي معجزات رسولكم من شق بطنه وغسل قلبه وإظلال الغمامة وتسليم الحجر والمدر عليه
قلنا إنما هي كرامات
وظهورها على الأولياء جائز
والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء
وقد قال القاضي إن عيسى كان نبيا في صباه لقوله * (وجعلني نبيا) * ولا يمتنع من القادر المختار أن يخلق في الطفل ما هو شرط النبوة من كمال العقل وغيره
ولا يخفى بعده مع أنه لم يتكلم بعد هذه الكلمة ببنت شفة إلى أوانه ولم يظهر الدعوة بعد أن
339

تكلم بها إلى أن تكامل فيه شرائطها
وقوله * (وجعلني نبيا) * كقول النبي صلى الله عليه وسلم (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)
فهذا في المتقدم
وأما المتأخر
فإما بزمان يسير يعتاد مثله فظاهر
وإما بزمان متطاول مثل أن يقول معجزتي أن يحصل كذا بعد شهر فحصل
فاتفقوا على أنه معجز
فقيل إخباره عن الغيب فيكون مقارنا
وإنما انتفى التكليف بمتابعته حينئذ لأن شرطه العلم بكونه معجزا وقبل حصوله فيكون متأخرا
وقيل يصير قوله معجزا عند حصوله فيكون متأخرا
والحق أن المتأخر علمنا بكونه معجزا
البحث الثاني في كيفية حصولها
عندنا أنه فعل الفاعل المختار يظهرها على يد من يريد تصديقه بمشيئته لما تعلق به مشيئته
وقال الفلاسفة تنقسم إلى ترك وقول وفعل
أما الترك فمثل أن يمسك عن القوت المعتاد برهة من الزمان بخلاف العادة
وسببه انجذاب النفس إلى عالم القدس واشتغالها عن تحليل مادة البدن فلا تحتاج إلى البدن كما نشاهده في المرضى أن النفس لاشتغالها بمقاومتها لمرض تنكف عن التحليل فتمسك عن القوت ما لو أمسك في صحته شطره هلك
وأما القول فكالإخبار بالغيب
وسببه ما مر
وأما الفعل فبأن يفعل فعلا لا تفي به منة غيره من نتق جبل أو شق بحر
وقد تقدم
البحث الثالث في كيفية دلالتها
وهي عندنا إجراء الله عادته بخلق
340

العلم بالصدق عقيبه
فإن إظهار المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكنا عقلا فمعلوم انتفاؤه عادة كسائر العاديات
لأن من قال أنا نبي ثم نتق الجبل وأوقفه على رؤوسهم وقال إن كذبتموني وقع عليكم وإن صدقتموني انصرف عنكم
فكلما هموا بتصديقه بعد عنهم
وإذا هموا بتكذيبه قرب منهم علم بالضرورة أنه صادق في دعواه
والعادة قاضية بامتناع ذلك من الكاذب
وقد ضربوا لهذا مثلا
قالوا إذا ادعى الرجل بمشهد الجم الغفير أني رسول هذا الملك إليكم ثم قال للملك إن كنت صادقا فخالف عادتك وقم من الموضع المعتاد لك من السرير واقعد بمكان لا تعتاده ففعل كان ذلك نازلا منزلة التصديق بصريح مقاله ولم يشك أحد في صدقه بقرينة الحال
وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد
بل ندعي في إفادته العلم الضرورة العادية
ونذكر هذا للتفهيم وزيادة التقرير
وقالت المعتزلة خلق المعجز على يد الكاذب ممتنع لأن فيه إيهام صدقه وهو إضلال قبيح من الله
قال الشيخ وبعض أصحابنا إنه غير مقدور لأن لها دلالة على الصدق قطعا
فلا بد لها من وجه دلالة وإن لم نعلمه بعينه
فإن دل على الصدق كان الكاذب صادقا
وإلا انفك عما يلزمه
وقال القاضي اقتران ظهور المعجزة بالصدق هو أحد العاديات
فإذا جوزنا انخراقها عن مجراها جاز إخلاء المعجز عن اعتقاد الصدق
وحينئذ يجوز إظهاره على يد الكاذب
وأما بدون ذلك فلا
لأن العلم بصدق الكاذب محال
341

تذنيب من الناس من أنكر إمكان المعجزة
ومنهم من أنكر دلالتها
ومنهم من أنكر العلم بها
وستأتيك شبههم بأجوبتها
الشرح
المقصد الثاني في حقيقة المعجزة
وهي بحسب الاصطلاح عندنا عبارة عن ما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله والبحث فيها عن أمور ثلاثة عن شرائطها
وكيفية حصولها
ووجه دلالتها على صدق مدعي الرسالة
البحث الأول في شرائطها
وهي سبع
الشرط الأول أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه من التروك
وإنما اشترط ذلك لأن التصديق منه أي من الله تعالى لا يحصل بما أوليس
من قبله
وقولنا أو ما يقوم مقامه ليتناول التعريف مثل ما إذا قال معجزتي أن أضع يدي على رأسي وأنتم لا تقدرون عليه أي على وضع أيديكم عل رؤوسكم ففعل وعجزوا فإنه معجز دال على صدقه ولا فعل لله ثمة
فإن عدم خلق القدرة فيهم على ذلك الوضع أوليس
فعلا صادرا عنه تعالى بل هو عدم صرف
ومن جعل الترك وجوديا بناء على أنه الكف حذفه لعدم الحاجة إليه
فالشرط عنده كون المعجزة من فعل الله
وفي كلام الآمدي أن المعجز إن كان عدميا كما هو أصل شيخنا فالمعجز ههنا عدم خلق القدرة فلا يكون فعلا
وإن كان وجوديا كما ذهب إليه بعض أصحابنا فالمعجز هو خلق العجز فيهم فيكون فعلا فلا حاجة إلى قولنا أو ما يقوم مقامه
الشرط الثاني أن يكون المعجز خارقا للعادة
إذ لا إعجاز دونه فإن المعجز ينزل من الله منزلة التصديق بالقول كما سيأتي
وما لا يكون خارقا للعادة بل معتادا كطلوع الشمس في كل يوم وبدو الأزهار في كل ربيع
342

فإنه لا يدل على الصدق لمساواة غيره إياه في ذلك حتى الكذاب في دعوى النبوة
وشرط قوم في المعجز أن لا يكون مقدورا للنبي إذ لو كان مقدورا له كصعوده إلى الهواء ومشيه على الماء لم يكن نازلا منزلة التصديق من الله تعالى
وليس بشيء لأن قدرته مع عدم قدرة غيره عادة معجز
قال الآمدي هل يتصور كون المعجزة مقدورة للرسول أم لا اختلفت الأئمة فيه فذهب بعضهم إلى أن المعجز فيما ذكر من المثال أوليس
هو الحركة بالصعود أو المشي لكونها مقدورة له بخلق الله فيه القدرة عليها
إنما المعجز هناك هو نفس القدرة عليها
وهذه القدرة ليست مقدورة له
وذهب آخرون إلى أن نفس هذه الحركة معجزة من جهة كونها خارقة للعادة ومخلوقة لله تعالى
وإن كانت مقدورة للنبي وهو الأصح
وإذا عرفت هذا فلا يخفى عليك ما في عبارة الكتاب من الاختلال
الثالث أن يتعذر معارضته
فإن ذلك حقيقة الإعجاز
الرابع أن يكون ظاهرا على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له
وهل يشترط التصريح بالتحدي وطلب المعارضة كما ذهب إليه بعضهم الحق أنه لا يشترط بل يكفي قرائن الأحوال مثل أن يقال له أي لمدعي النبوة إن كنت نبيا فأظهر معجزا ففعل بأن دعا الله فأظهره
فيكون ظهوره دليلا على صدقه ونازلا منزلة التصريح بالتحدي
الخامس أن يكون موافقا للدعوى
فلو قال معجزتي أن أحيي ميتا ففعل خارقا آخر كنتق الجبل مثلا لم يدل على صدقه لعدم تنزله منزلة تصديق الله إياه
السادس أن لا يكون ما ادعاه وأظهره من المعجزة مكذبا له
فلو
343

قال معجزتي أن ينطق هذا الضب
فقال إنه كاذب لم يعلم به صدقه بل ازداد اعتقاد كذبه لأن المكذب هو نفس الخارق
نعم لو قال معجزتي أن أحيي هذا الميت فأحياه فكذبه ففيه احتمال
والصحيح أنه لا يخرج بذلك عن كونه معجزا لأن المعجز إحياؤه وهو غير مكذب له
إنما المكذب هو ذلك الشخص بكلامه وهو بعد ذلك الإحياء مختار في تصديقه وتكذيبه
ولم يتعلق به دعوى فلا يقدح تكذيبه في دلالة الإحياء على صدقه
وقيل هذا الذي ذكرنا من عدم خروجه عن كونه معجزا إنما هو إذا عاش بعده أي بعد الإحياء زمانا واستمر على التكذيب
قال الآمدي لا أعرف في هذه الصورة خلافا بين الأصحاب
ولو خر ميتا في الحال
قال القاضي بطل الإعجاز لأنه كأنه أحيى للتكذيب فصار مثل تكذيب الضب
والحق أنه لا فرق بين استمرار الحياة مع التكذيب وبين عدمه لوجود الاختيار في الصورتين بخلاف الضب
والظاهر أنه لا يجب تعيين المعجز بل يكفي أن يقول أنا آتي بخارق من الخوارق ولا يقدر أحد على أن يأتي بواحد منها
وفي كلام الآمدي أن هذا متفق عليه
قال فإذا كان المعجز معينا فلا بد في معارضته من المماثلة
وإذا لم يكن معينا فأكثر الأصحاب على أنه لا بد فيها من المماثلة
وقال القاضي لا حاجة إليها
وهو الحق لظهور المخالفة فيما ادعاه
السابع أن لا يكون المعجز متقدما على الدعوى بل مقارنا لها بلا اختلاف أو متأخرا عنها على تفصيل سيأتي
وذلك لأنه التصديق قبل الدعوى لا يعقل
فلو قال معجزتي ما قد ظهر على يدي قيل لم يدل
344

على صدقه ويطالب به أي بالإتيان بذلك الخارق أو بغيره أي بعد الدعوى
فلو عجز كان كاذبا قطعا
فإن قال في إظهار المعجزة هذا الصندوق فيه كذا وكذا
وقد علمنا خلوه واستمر بين أيدينا من غلقه إلى فتحه
فإن ظهر كما قال كان معجزا وإن جاز خلقه فيه قبل التحدي لأن المعجز إخباره عن الغيب وهو واقع مع التحدي موافق للدعوى لا خلق ذلك الشيء في الصندوق
و إما احتمال أن العلم بالغيب خلق فيه قبل التحدي فيكون متقدما على الدعوى مع كونه معجزا فإنه بناء أي مبني على جواز إظهار المعجز على يد الكاذب وسنبطله
وإنما كان مبنيا على ذلك لأن العلم بالغيب لو كان مخلوقا قبل التحدي لم يكن إخباره به منزلا منزلة التصديق له فيكون هو كاذبا في دعواه أنه آية صدقه ودليل عليه وسيأتيك أنه لا يتصور عندنا ظهور الخارق على يد الكاذب
فإن قيل ما ذكرتموه من امتناع تقدم المعجز على الدعوى يفضي إلى إبطال كثير من المعجزات المنقولة عن الأنبياء
وإليه الإشارة بقوله فما تقولون في كلام عيسى في المهد وتساقط الرطب الجني عليه من النخلة اليابسة فإنهما معجزتان له مع تقدمهما على الدعوى
وما تقولون أيضا في معجزات رسولكم من شق بطنه وغسل قلبه وإظلال الغمامة وتسليم الحجر والمدر عليه فإنها كلها متقدمة على دعوى الرسالة قلنا تلك الخوارق المتقدمة على الدعوى ليست معجزات إنما هي كرامات وظهورها على الأولياء جائز والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء فيجوز ظهورها عليهم أيضا
وحينئذ تسمى إرهاصا
أي تأسيسا للنبوة
من أرهصت للحائط أسسته
والمنكرون للكرامات جعلوها معجزات لنبي آخر في ذلك العصر
وهو مردود لوجودها في عصر لا نبي فيه
هذا وقد قال القاضي إن
345

عيسى كان نبيا في صباه لقوله * (وجعلني نبيا) * ولا يمتنع من القادر المختار أن يخلق في الطفل ما هو شرط النبوة من كمال العقل وغيره فلا تكون معجزاته في حال صغره متقدمة على نبوته ودعواه إياها
ولا يخفى بعده مع أنه لم يتكلم بعد هذه الكلمة المنقولة عنه ببنت شفة إلى أوانه ولم يظهر الدعوة بعد أن تكلم بها إلى أن تكامل فيه شرائطها وبلغ أربعين سنة
ومن البين أن ثبوت النبوة في مدة طويلة بلا دعوة وكلام مما لا يقول به عاقل
وأما قوله * (وجعلني نبيا) * فهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) في أنه تعبير عن المتحقق فيما يستقبل بلفظ الماضي
فهذا الذي قررناه إنما هو في المعجز المتقدم على الدعوى
وأما المتأخر عنها فإما أن يكون تأخره بزمان يسير يعتاد مثله فظاهر أنه دل على الصدق بخلاف المتقدم بزمان يسير
فإنه لا يدل عليه أصلا
وأما أن يكون تأخره بزمان متطاول مثل أن يقول معجزتي أن يحصل كذا بعد شهر فحصل فاتفقوا على أنه معجز دال على ثبوت النبوة لكن اختلفوا في وجه دلالته فقيل إخباره عن الغيب
فيكون المعجز على هذا القول مقارنا للدعوى
لكن تخلف عنها علمنا بكونه معجزا
وإنما انتفى التكليف بمتابعته حينئذ أي لم يجب على الناس التصديق بنبوته ومتابعته في الزمان الواقع بين الإخبار وحصول الموعود به
لأن شرطه أي شرط التكليف بالتصديق والمتابعة العلم بكونه معجزا
وذلك إنما يحصل بعد وجود ما وعد به
وقيل حصوله أي حصول الموعود به فيكون المعجز على هذا القول متأخرا عن الدعوى
وقيل يصير قوله أي إخباره معجزا عند حصوله أي حصول الموعود به
فيكون المعجز على هذا القول متأخرا باعتبار صفته أعني كونه معجزا
والحق أن المتأخر هو علمنا بكونه معجزا يعني أن المختار هو القول الأول لأن إخباره كان إخبارا بالغيب في نفس الأمر فيكون معجزا
346

مقارنا للدعوى
والمتخلف عنها هو علمنا بكونه معجزا لا كونه معجزا
فبطل بذلك القول الثالث
وأما القول الثاني فلا طائل تحته لأن ذلك الحصول لا يمكن جعله معجزا إلا إذا كان خارقا للعادة
وربما لم يكن كذلك وإن جعل شرطا لاتصاف الإخبار بالإعجاز فقد رجع إلى الثالث وبطل ببطلانه
ولهذا لم يوجد هذا القول في أبكار الأفكار
البحث الثاني في كيفية حصولها المذهب عندنا أنه فعل الفاعل المختار يظهرها على يد من يريد تصديقه بمشيئته لما تعلق به مشيئته من دعوى النبوة ممن أرسله إلى الناس ليدعوهم إلى ما ينجيهم ويسعدهم في الدارين
ولا يشترط لإظهارها استعدادا كما لا يشترط في النبوة على ما مر خلافا للحكماء
وقال الفلاسفة إنها تنقسم إلى ترك وقول وفعل
أما الترك فمثل أن يمسك عن القوت المعتاد برهة من الزمان بخلاف العادة
وسببه انجذاب النفس الزكية عن الكدورات البشرية إما لصفاء جوهرها في أصل فطرتها وإما لتصفيته بضرب من المجاهدة وقطع العلائق إلى عالم القدس واشتغالها بذلك عن تحليل مادة البدن فلا تحتاج إلى البدل كما نشاهده في المرضى من أن النفس لاشتغالها بمقاومتها لمرض من الأمراض الحادة وتحليلها للمواد الردية تنكف وتمتنع عن التحليل للمواد المحمودة فتمسك عن القوت الذي يحتاج إليه بدلا عما تحلل من هذه المواد ما لو أمسك أي زمانا لو أمسك عنه في أيام صحته شطره أي نصفه بل عشرة هلك بلا شبهة وإذا جاز ذلك في المريض كان جوازه في المتوجه المنخرط في سلك الملأ الأعلى أولى وكيف لا والمرض مضاد للطبيعة
347

ومضعف للقوى فتكون الحاجة إلى الرطوبات المطلوبة لحفظها المبني على تعادل الأركان أشد وأقوى
وأما المتوجه فيوجد فيه من اللذات الروحانية بالأنوار القدسية ما يقوم مقام الغذاء كما أشير إليه بقوله صلى الله عليه وسلم (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)
وأما القول فكالإخبار بالغيب
وسببه ما مر في المقصد الأول من انجذاب نفسه النقية عن الشواغل البدنية إلى الملائكة السماوية وانتقاشها بما فيها من الصور وانتقال الصورة إلى المتخيلة والحس المشترك
وأما الفعل فبأن يفعل فعلا لا تفي به منة غيره من نتق جبل أو شق بحر وقد تقدم بيانه بأن نفسه لقوتها تتصرف في مادة العناصر كما تتصرف في أجزاء بدنه
البحث الثالث في كيفية دلالته على صدق مدعي النبوة
وهذه الدلالة ليست دلالة عقلية محضة كدلالة الفعل على وجود الفاعل ودلالة أحكامه واتقانه على كونه عالما بما صدر عنه
فإن الأدلة العقلية ترتبط لنفسها بمدلولاتها
ولا يجوز تقديرها غير دالة عليها
وليست المعجزة كذلك
فإن خوارق العادات كانقطاع السماوات وانتثار الكواكب وتدكدك الجبال يقع عند تصرم الدنيا وقيام الساعة
ولا إرسال في ذلك الوقت
وكذلك تظهر الكرامات على أيدي الأولياء من غير دلالة على صدق مدعي النبوة ولا دلالة سمعية لتوقفها على صدق النبي فيدور بل هي دلالة عادية كما أشار إليه بقوله وهي عندنا أي الأشاعرة إجراء الله عادته بخلق العلم بالصدق عقيبه أي عقيب ظهور المعجزة
فإن إظهار المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكنا عقلا فمعلوم انتفاؤه عادة
فلا تكون دلالته عقلية
348

لتخلف الصدق عنه في الكاذب بل عادية كسائر العاديات لأن من قال أنا نبي ثم نتق الجبل وأوقفه على رؤوسهم وقال إن كذبتموني وقع عليكم
وإن صدقتموني انصرف عنكم
فكلما هموا بتصديقه بعد عنهم
وإذا هموا بتكذيبه قرب منهم علم بالضرورة أنه صادق في دعواه والعادة قاضية بامتناع ذلك من الكاذب مع كونه ممكنا عنه إمكانا عقليا لشمول قدرته تعالى للممسكات بأسرها
وقد ضربوا لهذا مثلا قالوا إذا ادعى الرجل بمشهد الجم الغفير أني رسول هذا الملك إليكم
ثم قال للملك إن كنت صادقا فخالف عادتك وقم من الموضع المعتاد لك من السرير واقعد بمكان لا تعتاده ففعل كان ذلك نازلا منزلة التصديق بصريح مقاله
ولم يشك أحد في صدقه بقرينة الحال
وليس هذا الذي ذكرناه من باب قياس الغائب على الشاهد حتى يتجه عليه أن الشاهد تعلل أفعاله بالأغراض لأنه يراعي المصالح ويدرأ المفاسد بخلاف الغائب إذ لا يبالي بالمصلحة والمفسدة
فلا يصح القياس بل ندعي في إفادته العلم بالضرورة العادية أي ندعي أن ظهور المعجز يفيد علما بالصدق
وإن كونه مفيدا له معلوم لنا بالضرورة العادية
ونذكر هذا المثال للتفهيم وزيادة التقرير
وقالت المعتزلة خلق المعجز على يد الكاذب مقدور لله تعالى لعموم قدرته لكنه ممتنع وقوعه في حكمته لأن فيه إيهام صدقه
وهو إضلال قبيح من الله فيمتنع صدوره عنه كسائر القبائح
قال الشيخ وبعض أصحابنا إنه أي خلق المعجزة على يد الكاذب غير مقدور في نفسه لأن لها أي للمعجزة دلالة على الصدق قطعا أي
349

دلالة قطعية يمتنع التخلف فيها
فلا بد لها من وجه دلالة إذ به يتميز الدليل الصحيح عن غيره وإن لم نعلمه أي ذلك الوجه بعينه
فإن دل المعجز المخلوق على يد الكاذب على الصدق كان الكاذب صادقا وهو محال وإلا انفك المعجز عما يلزمه من دلالته القطعية على مدلوله
وهو أيضا محال
وقال القاضي اقتران ظهور المعجزة بالصدق أوليس
أمرا لازما لزوما عقليا كاقتران وجود الفعل بوجود فاعله بل هو أحد العاديات كما عرفت
فإذا جوزنا انخراقها أي انخراق العاديات عن مجراها العادي جاز إخلاء المعجز عن اعتقاد الصدق
وحينئذ يجوز إظهاره على يد الكاذب إذ لا محذور فيه سوى خرق العادة في المعجزة
والمفروض أنه جائز
وأما بدون ذلك التجويز فلا يجوز إظهاره على يده لأن العلم بصدق الكاذب محال
تذنيب من الناس من أنكر إمكان المعجزة في نفسها
ومنهم من أنكر دلالتها على صدق مدعي النبوة
ومنهم من أنكر العلم بها وستأتيك في المقصد التالي لهذا المقصد شبههم بأجوبتها
المقصد الثالث في إمكان البعثة
المتن وحجتنا فيه إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
فإن الدال على الوقوع دال على الإمكان
350

وقالت الفلاسفة إنها واجبة عقلا لما مر
وقال بعض المعتزلة يجب على الله
وبعضهم إذا علم الله من أمة أنهم يؤمنون
وإلا حسن
وقال أبو هاشم يمتنع خلوه عن تعريف شرعيات لا يستقل العقل بها وجوزه الجبائي لتقرير الواجبات العقلية ولتقرير الشريعة المتقدمة
وقيل إذا اندرست
وهو بناء على أصلهم
ولا يضرنا
فإن ادعينا الإمكان العام
وغرضنا هنا رد شبه المنكرين
وهم طوائف
الأولى من أحالها
الثانية من قال لا تخلو عن التكليف
وأنه ممتنع
الثالثة من قال في العقل كفاية
الرابعة من قال بامتناع المعجزة
ولا تتصور دونها
الخامسة من منع دلالتها
السادسة من سلم ومنع إمكان العلم بها بالتواتر
السابعة من منع وقوعها
الأولى من قال باستحالة البعثة احتج بوجوه
الأول المبعوث لا بد أن يعلم أن القائل له أرسلتك هو الله
ولا طريق إلى العلم به إذ لعله من إلقاء الجن فإنكم أجمعتم على وجوده
الثاني أن من يلقى إليه الوحي إن كان جسمانيا وجب أن يكون مرئيا
وإلا كان ذلك منه مستحيلا
الثالث التصديق بها يتوقف على العلم بوجود المرسل
وما يجوز عليه وما لا يجوز
وأنه لا يحصل إلا بغامض النظر
وهو غير مقدر بزمان
فللمكلف الاستمهال ودعوى عدم العلم ويلزم إفحام النبي وتبقى البعثة عبثا
وإلا لزم التكليف بما لا يطاق
وأنه قبيح عقلا
351

وجواب الأول والثاني أن المرسل ينصب دليلا أو يخلق علما ضروريا فيه
والثالث أما على أصلنا فلا يجب الإمهال مع العلم العادي الحاصل عن المعجز
وأما عند المعتزلة فاللائق بأصلهم
وإن صرحوا بخلافه
منع الإمهال لأن فيه تفويت مصلحتهم
وما هو إلا كمن يقول لولده بين يديك سبع ضار أو مهلك آخر
فلا تسلك هذا الطريق
فقال دعني أسلكه إلى أن أشاهد السبع أو المهلك
أليس ذلك مستقبحا في نظر العقلاء ولو هلك ألم يكن ملوما مذموما ومن منعه ذلك أليس منسوبا إلى فعل ما توجبه الشفقة والحنو
الثانية من قال البعثة لا تخلو عن التكليف لأنه فائدتها باتفاق
ثم أن التكليف ممتنع لوجوه
الأول ثبت الجبر وأن فعل العبد واقع بقدرة الله
وأن الفعل إما معلوم الوقوع أو معلوم اللاوقوع والتكليف حينئذ قبيح
الثاني التكليف إضرار لما يلزمه من التعب بالفعل أو العقاب بالترك وهو قبيح
الثالث التكليف إما لا لغرض وهو عبث أو لغرض يعود إلى الله وهو منزه أو إلى العبد وهو إما إضرار وهو منتف بالإجماع أو نفع وتكليف جلب النفع والتعذيب بعدمه بخلاف المعقول
ثم إنه معارض بما فيه من المضرة العظيمة بالكفار والعصاة
الرابع التكليف إما مع الفعل
ولا فائدة فيه لوجوبه وإما قبل الفعل وأنه تكليف بما لا يطاق لأن الفعل قبل الفعل محال
ومن جوزه لا يقول بوقوعه ولا أن كل تكليف كذلك
352

الخامس وهو لبعض الصوفية أن التكليف بالأفعال الشاقة يشغل عن التفكر في معرفة الله تعالى
وما يجب له ويجوز ويمتنع عليه
ولا شك أن المصلحة المتوقعة من هذا الفائت تربي على ما يتوقع مما كلف به فكان ممتنعا عقلا
وجواب الأول ما مر في مسألة خلق الأعمال
والثاني ما في التكليف من المصالح الدنيوية والأخروية يربي كثيرا على المضرة فيها
والثالث أنه فرع حكم العقل ووجوب الغرض في أفعاله تعالى مع ما أجبنا به الثاني
والرابع عندنا أن القدرة مع الفعل
وعند المعتزلة أن التكليف قبل الفعل في الحال بالإيقاع في ثاني الحال
وذلك كالإحداث
وهو مما لا شك فيه
فما هو جوابكم فهو جوابنا
والخامس أن ذلك أحد أغراض التكليف وسائر التكاليف معينة عليه ووسيلة إلى صلاح المعاش المعين على صفاء الأوقات عن المشوشات التي يربي شغلها على شغل التكاليف
الثالثة من قال في العقل مندوحة عن البعثة
وهم البراهمة والصابئة والتناسخية غير أن من البراهمة من قال بنبوة آدم فقط
ومنهم من قال بنبوة إبراهيم فقط
ومن الصابئة من قال بنبوة شيت وإدريس فقط
واحتجوا بأن ما حكم العقل بحسنه يفعل
وما حكم بقبحه يترك
وما لم يحكم فيه بحسن ولا قبح يفعل عند الحاجة لأن الحاجة ناجزة
ولا يعارضها مجرد الاحتمال
ويترك عند عدمها للاحتياط
353

والجواب بعد تسليم حكم العقل أن الشرع فائدته تفصيل ما أعطاه العقل إجمالا وبيان ما يقصر عنه العقل
فإن القائلين بحكم العقل لا ينكرون أن من الأفعال ما لا يحكم فيه كوظائف العبادات وتعيين الحدود وتعليم ما ينفع وما يضر من الأفعال
وذلك كالطبيب يعرف الأدوية وطبائعها وخواصها مما لو أمكن معرفتها للعامة بالتجربة ففي دهر طويل يحرمون فيه من فوائدها ويقعون في المهالك قبل استكمالها
مع أن اشتغالهم بذلك يوجب إتعاب النفس وتعطل الصناعات والشغل عن مصالح المعاش
فإذا تسلموه من الطبيب خفت المؤنة وانتفعوا به وسلموا من تلك المضار
ولا يقال في إمكان معرفته غنى عن الطبيب
كيف والنبي لا يعلم ما يعلم إلا من جهة الله
وفيما تقدم من تقرير مذهب الحكماء تتمة لهذا الكلام
الرابعة من قال بامتناع المعجزة لأن تجويز خرق العادة سفسطة ولو جوزناه لجاز انقلاب الجبل ذهبا وماء البحر دما ودهنا
وأواني البيت رجالا
وتولد هذا الشيخ دفعة بلا أب وأم
وكون من ظهرت المعجزة على يده غير من ادعى النبوة بأن يعدم المدعي ويوجد مثله
ولا يخفى ما فيه من الخبط والإخلال بالقواعد
والجواب إن خرق العادات أوليس
أعجب من أول خلق السماوات والأرض وما بينهما ومن انعدامها الذي نقول به والجزم بعدم وقوع بعضها لا ينافي إمكانها
وذلك كما في المحسوسات
فإنا نجزم بأن حصول الجسم المعين في الحيز المعين لا يمتنع فرض عدمه بدله مع الجزم به للحس
والعادة أحد طرق العلم كالحس
ثم إن خرق العادة إعجازا وكرامة عادة مستمرة
الخامسة من قال ظهور المعجزة لا يدل على الصدق لاحتمالات
الأول كونه من فعله لا من فعل الله إما لمخالفة نفسه لسائر النفوس أو لمزاج خاص في بدنه أو لكونه ساحرا
وقد أجمعتم على
354

حقيته
أو لطلسم اختص بمعرفته أو لخاصية بعض المركبات كالمغناطيس والكهرباء
الثاني استناده إلى بعض الملائكة أو الشياطين أو إلى الاتصالات الكوكبية
وهو قد أحاط من صناعة النجامة بما لم يحط به غيره فاتخذ ما علم وقوعه من الغرائب معجزا لنفسه
الثالث أن يكون كرامة لا معجزة
الرابع أن لا يقصد به التصديق إذ لا غرض واجبا ولا يتعين إذ لعله غير التصديق كإيهامه ليحترز عنه بالاجتهاد فيثاب كإنزال المتشابهات أو لتصديق نبي آخر
الخامس أنه لا يلزم من تصديق الله صدقه إلا إذا علم استحالة الكذب على الله ولم يعلم إذ لا يقبح عندكم منه شيء
السادس لعل التحدي لم يبلغ من هو قادر على المعارضة أو لعله تركها مواضعة في إعلاء كلمته لينال من دولته حظا
السابع لعلهم استهانوا به أولا وخافوا آخرا لشدة شوكته أو شغلهم ما يحتاجون إليه في تقويم معيشتهم عنه
الثامن لعله عورض ولم يظهر لمانع أو ظهر ثم أخفاه أصحابه عند استيلائهم وطمسوا آثاره
ومع قيام هذه الاحتمالات لا يبقى لها دلالة على الصدق
355

الجواب الإجمالي ما قررناه غير مرة من أن التجويزات العقلية لا تنافي العلم العادي والتفصيلي عن الأول أنا بينا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله والسحر ونحوه إلا إن لم يبلغ حد الإعجاز كفلق البحر وإحياء الموتى كما هو مذهب جميع العقلاء فظاهر
وإن بلغ فإما دون دعوى النبوة والتحدي فظاهر أيضا أو معه فلا بد من ألا يخلقه الله على يده أو أن يقدر غيره على معارضته
وإلا كان تصديقا للكاذب وأنه محال
وعن الثاني أن لا خالق إلا الله
وعن الثالث أن من جوزها فقال بعضهم
منهم الأستاذ أبو إسحق لا تبلغ درجة المعجزة
وقيل لا تقع على القصد
وقال القاضي تجوز إذا لم تقع على طريق التعظيم والخيلاء لأن ذلك أوليس
من شعار الصالحين
ومع ذلك تمتاز بأنها مع دعوى الولاية دون النبوة
وعلى التقادير فالفرق بينها وبين المعجزة ظاهر
وعن الرابع أنا لا نقول بالغرض بل نقول إن خلقها يدل على تصديق له قائم بذاته
وعن الخامس قد مر امتناع الكذب عليه
وعن السادس إذا أتى بما يعلم بالضرورة أنه خارق للعادة وعجز من في قطره عن المعارضة علم ضرورة صدقه
وعن السابع يعلم عادة المبادرة إلى معارضة من يدعي الانفراد بأمر جليل فيه التفوق على أهل زمانه واستتباعهم والحكم عليهم في أنفسهم ومالهم وعدم الإعراض عنها بحيث لا ينتدب له أحد والقدح فيه سفسطة
وحينئذ فدلالته من جهة الصرفة واضحة
وعن الثامن كما علم بالعادة وجوه معارضته علم وجوب إظهارها إذ به يتم المقصود
واحتمال المانع للبعض في بعض الأوقات والأماكن لا يوجب احتماله في الجميع
فلو وقعت معارضة لاستحال عادة إخفاؤها مطلقا
356

السادسة من قال العلم بحصول المعجز لا يمكن لمن لم يشاهده إلا بالتواتر
ولكنه لا يفيد العلم لوجوه
الأول أهل التواتر يجوز الكذب على كل واحد منهم
فكذا الكل إذ أوليس
كذب الكل إلا كذب كل واحد
الثاني أن حكم كل طبقة حكم ما قبلها بواحد
فإن من جوز إفادة المائة للعلم أجاز إفادة التسعة والتسعين له قطعا ولم يحصره في عدد وادعاء الفرق تحكم
فلنفرض طبقة لا تفيده ثم نزيد عليه واحدا واحدا فلا يفيده بالغا ما بلغ
الثالث لو أوجب التواتر العلم لأوجبه خبر الواحد
واللازم منتف
بيان الملازمة أن التواتر لا يشترط فيه اجتماع أهل اتفاقا بل يحصل بخبر واحد بعد واحد
فالموجب له هو الخبر الأخير
الرابع شرطه استواء الطرفين والواسطة ولا سبيل إلى العلم به
الخامس أن التواتر غير مضبوط بعدد بل ضابطه عندكم حصول العلم به
فإثبات العلم به مصادرة
وجواب الأول منع مساواة حكم الكل لحكم كل واحد لما يرى من قوة العشرة على تحريك ما لا يقوى عليه كل واحد
والثاني أن حصول العلم عنده عندنا بخلق الله تعالى إياه
وقد يخلقه بعدد دون عدد
كيف وأنه يختلف بالوقائع والمخبرين والسامعين
والثالث أما عندنا فلأنه بخلق الله
وأما عند الحكماء والمعتزلة فلأن الإخبار أسباب معدة وهي قد لا تجامع المسبب كالحركة للحصول في المنتهى ثم إنا نجد من أنفسنا أن الخبر الأول يفيد ظنا ويقوى بالثاني والثالث إلى ما لا أقوى منه
فيلزم أن الموجب
357

له هو الخبر الأخير بشرط سبق أمثاله وعن الرابع والخامس أنا ندعي العلم الضروري الحاصل من التواتر الواقع على شرطه لا أنا نستدل بالتواتر على ما ادعيناه
والفرق بين الأمرين ظاهر
السابعة من اعترف بإمكان البعثة ومنع وقوعها قالوا تتبعنا الشرائع فوجدناها مشتملة على ما لا يوافق العقل والحكمة فعلمنا أنها ليست من عند الله
وذلك كإباحة ذبح الحيوان وإيلامه وتحمل الجوع والعطش في أيام معينة
والمنع من الملاذ التي بها صلاح البدن وتكليف الأفعال الشاقة كطي الفيافي وكزيارة بعض المواضع والوقوف ببعض والسعي في بعض والطواف ببعض مع تماثلها ومضاهاة المجانين والصبيان في التعري وكشف الرأس والرمي لا إلى مرمى
وتقبيل حجر لا مزية له على سائر الأحجار وكتحريم النظر إلى الحرة الشوهاء دون الأمة الحسناء وكحرمة أخذ الفضل في صفقة وجواز في صفقتين مع استوائهما في المصالح والمفاسد
الجواب بعد تسليم حكم العقل فغايته عدم الوقوف على الحكمة ولا يلزم منه عدمها
ولعل مصلحة استأثر الله بالعلم بها على أن في التعبد بما لا تعلم حكمته تطويعا للنفس الأبية وملكة قهرها فيما فيه الحكمة وزيادة ابتلاء في التعرض للثواب أو العقاب
الشرح
المقصد الثالث في إمكان البعثة وحجتنا فيه إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الدال على الوقوع دال على الإمكان بلا اشتباه
358

وقالت الفلاسفة إنها واجبة عقلا لما مر من أن النظام الأكمل الذي تقتضيه العناية الأزلية لا يتم بدون وجود النبي الواضع لقوانين العدل
وقال بعض المعتزلة يجب على الله وفصل بعضهم فقال إذا علم الله من أمة أنهم يؤمنون وجب عليه إرسال النبي إليهم لما فيه من استصلاحهم
وإلا أي وإن لم يعلم ذلك بل علم أنهم لا يؤمنون لم يجب الإرسال بل حسن قطعا لأعذارهم
وقال أبو هاشم يمتنع خلوه أي خلو البعث عن تعريف شرعيات لا يستقل العقل بها لأن البعثة الخالية عنه لا فائدة فيها
وجوزه الجبائي لتقرير الواجبات العقلية فإنه فائدة جليلة
وجوزه أيضا لتقرير الشريعة المتقدمة سواء كانت مندرسة أو لا
وقيل إنما يجوز البعث لتقريرها إذا اندرست وهو أي هذا الذي نقلناه من المعتزلة على الوجوه المختلفة بناء أي مبني على أصلهم الفاسد
أعني قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وما يتفرع عليها من اعتبار الغرض ووجوب الألطاف ورعاية الأصلح فيكون فاسدا أيضا وعلى تقدير صحته لا يضرنا في مدعانا فإنا إنما ادعينا الإمكان العام الذي يجامع الوجوب لا الإمكان الخاص الذي ينافيه
وغرضنا هنا رد شبه المنكرين للبعثة وهم طوائف
الأولى من أحالها أي حكم باستحالتها لذاتها
الثانية من جوزها ولكن قال لا تخلو البعثة عن التكليف بأوامر ونواه وأنه أي التكليف ممتنع فتنتفي البعثة لانتفاء لازمها
359

الثالثة من جوز التكليف وقال في العقل كفاية في معرفة التكاليف فلا حاجة إلى البعثة بل لا فائدة فيها
الرابعة من قال بامتناع المعجزة لأن خرق العادة محال عقلا
ولا تتصور النبوة دونها أي دون المعجزة
الخامسة من جوز وجود المعجزة لكن منع دلالتها على صدق مدعي النبوة
السادسة من سلم دلالتها على صدقه بالنسبة إلى من شاهدها فتفيده العلم بصدقه ومنع إمكان العالم بها للغائبين عنها
فإن العلم بحصول المعجزة لمن غاب عنها إنما يكون بالتواتر
وهو لا يفيد العلم أصلا بل الظن وأنه لا يجدي في المسائل اليقينية
السابعة من اعترف بإمكان البعثة وانتفاء الموانع السابقة لكن منع وقوعها فهذه هي الطوائف المنكرة لها
الأولى منها
وهو من قال باستحالة البعثة في نفسها احتج على استحالتها بوجوه
الأول المبعوث لا بد أن يعلم أن القائل له أرسلتك فبلغ عني هو الله ولا طريق إلى العلم به إذ لعله من إلقاء الجن
فإنكم أجمعتم على وجوده وعلى جواز إلقائه الكلام إلى النبي
360

الثاني أن من يلقى إليه أي إلى النبي الوحي إن كان جسمانيا وجب أن يكون مرئيا لكل من حضر حال الإلقاء
وليس الأمر كذلك كما اعترفتم به
وإلا أي وإن لم يكن جسمانيا بل روحانيا كان كذلك أي إلقاء الوحي بطريق التكليم منه مستحيلا إذ لا يتصور للروحانيات كلام
الثالث التصديق بها أي بالرسالة يتوقف على العلم بوجود المرسل وما يجوز عليه وما لا يجوز
وأنه أي العلم بما ذكر لا يحصل إلا بغامض النظر لأن هذا العلم أوليس
ضروريا ولا من النظريات السهلة الحصول كما لا يخفى
وهو أي ذلك النظر الموصل إلى هذا العلم غير مقدر بزمان معين كيوم أو سنة بل هو مختلف بحسب الأشخاص وأحوالهم في قوة الفهم وضعفه على مراتب غير منحصرة
فللمكلف الاستمهال أي يجوز له أن يستمهل لتحصيل النظر وله دعوى عدم العلم في أي زمان كان وحينئذ يلزم إفحام النبي وتبقى البعثة عبثا
وإلا أي وإن لم يجز له الاستمهال بل وجب عليه التصديق بلا مهملة لزم التكليف بما لا يطاق لأن التصديق بالرسالة بدون العلم المذكور مما لا يتصور وجوده وأنه قبيح عقلا فيمتنع صدوره عن الحكيم سبحانه وتعالى
وجواب الوجه الأول والثاني أن المرسل ينصب دليلا يعلم به الرسول أن القائل له أرسلتك هو الله تعالى دون الجن بأن يظهر له آيات ومعجزات يتقاصر عنها جميع المخلوقات وتكون مفيده له ذلك العلم
أو يخلق علما ضروريا فيه بأنه المرسل والقائل
وبهذا يعلم الجواب عن الثاني وهو أن يقال جاز أن يكون الملقي جسمانيا
ولا يخلق الله رؤيته في الحاضرين
فإن قدرته لا تقصر عن شيء وجواب الثالث أما على أصلنا في التعديل والتجوير فلا يجب الإمهال لأنا بينا فيما سبق أنه إذا
361

ادعى النبي الرسالة واقترنت بدعواه المعجزة الخارقة للعادة وكان المبعوث إليه عاقلا متمكنا من النظر فقد ثبت الشرع واستقر وجوب المتابعة سواء نظر أو لم ينظر فلا يجوز للمكلف الاستمهال
ولو استمهل لم يجب الإمهال لجريان العادة بإيجاد العلم عقيب النظر الذي هو متمكن منه
وإليه الإشارة بقوله مع العلم العادي الحاصل عن المعجز
وأما عند المعتزلة فاللائق بأصلهم في التحسين والتقبيح وإن صرحوا بخلافه منع الإمهال يعني أن المعتزلة اعترفوا بوجوب الإمهال عند الاستمهال فلا محيص لهم عن ذلك الإلزام إلا أن اللائق بقاعدتهم المذكورة منع وجوب الإمهال لأن فيه تفويت مصلحتهم وذلك لأنه يرشدهم إلى المصالح ويحذرهم عن المهالك ويقربهم من السعادة ويبعدهم عن الشقاوة
وما هو إلا كمن يقول لولده بين يديك سبع ضار أو مهلك آخر
فلا تسلك هذا الطريق
فقال الولد دعني أسلكه إلى أن أشاهد السبع أو المهلك
أليس ذلك القول من الولد مستقبحا في نظر العقلاء
ولو هلك
ألم يكن ملوما مذموما
ومن منعه ذلك أليس منسوبا إلى فعل ما توجبه الشفقة والحنو وبما قررناه يندفع الإلزام عن أصلهم أيضا
الطائفة الثانية من قال البعثة لا تخلو عن التكليف لأنه فائدتها التي لا تخلو هي عنها
وأيضا هي لا تخلو عن التكليف باتفاق وإجماع من القائلين بها
ثم إن التكليف الذي هو لازمها ممتنع لوجوه
الأول ثبت الجبر وعدم الاختيار في الأفعال وذلك لما تبين
362

من أن فعل العبد واقع بقدرة الله إذ لا تأثير لقدرة العبد عندكم أصلا
والتكليف بفعل الغير تكليف بما لا يطاق
ومن أن الفعل إما معلوم الوقوع من العبد أو معلوم اللاوقوع منه
فعلى الأول يكون ضروريا وعلى الثاني ممتنعا
ولا قدرة على شيء منهما والتكليف حينئذ أي حين إذ ثبت الجبر قبيح فيكون ممتنعا
الثاني التكليف إضرار بالعبد لما يلزمه من التعب بالفعل إذا أقدم عليه أو العقاب بالترك إذا أحجم عنه
وهو أي الإضرار قبيح والله تعالى منزه عنه
الثالث التكليف إما لا لغرض وهو عبث قبيح أو لغرض يعود إلى الله
وهو محال لأنه تعالى منزه عن الأغراض كلها من جلب المنافع ودفع المضار أو إلى العبد وهو إما اضرار وهو منتف بالإجماع أو نفع
وتكليف جلب النفع والتعذيب بعدمه بخلاف المعقول فإنه منزلة أن يقال له حصل المنفعة لنفسك
وإلا عذبتك أبد الآباد
ولا شك أن أهم مصالحه ترك التعذيب ثم إنه أي النفع الذي يتضمنه التكليف للمؤمنين المطيعين معارض بما فيه من المضرة العظيمة بالكفار والعصاة
ولا شك أن إضرار جماعة لمنفعة آخرين ظلم قبيح
الرابع التكليف بإيقاع الفعل إما مع وجود الفعل ولا فائدة فيه أصلا لوجوبه وتعين صدوره حينئذ فيكون عبثا قبيحا
وكذا الحال إذا كان التكليف بعد الفعل مع أنه تكليف بتحصيل الحاصل
وإما قبل وجود الفعل وأنه تكليف بما لا يطاق لأن الفعل قبل الفعل محال إذ لا يمكن وجود الشيء حال عدمه
والتكليف بما لا يطاق باطل عند من لا يجوزه
وهو ظاهر
وأما من جوزه فإنه لا يقول بوقوعه ولا أن أي ولا يقول بأن كل تكليف كذلك أي تكليف بما لا يطاق
والتكليف بالفعل قبله يستلزم وقوع التكليف بما لا يطاق
ويستلزم أن كل تكليف من هذا القبيل
فيكون هذا القسم باطلا عنده أيضا
وإذا بطلت الأقسام الحاضرة امتنع التكليف مطلقا
363

الخامس وهو لبعض الصوفية من أهل الإباحة أن التكليف بالأفعال الشاقة البدنية يشغل الباطن عن التفكر في معرفة الله تعالى وما يجب له من الصفات ويجوز ويمتنع عليه من الأفعال
ولا شك أن المصلحة المتوقعة من هذا الفائت وهو النظر فيما ذكر تربى أي تزيد وتفضل على ما يتوقع مما كلف به فكان ممتنعا عقلا
وجواب الأول ما مر في مسألة خلق الأعمال من أن قدرة العبد وإن كانت غير مؤثرة إلا أن لها تعلقا بالفعل يسمى كسبا وباعتباره جاز التكليف به فلا يكون تكليفا بما لا يطاق بالكلية
وجواب الثاني أن يقال ما في التكاليف من المصالح الدنيوية والأخروية يربى كثيرا على المضرة التي هي فيها وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل مما لا يجوز
وجواب الثالث أنه فرع حكم العقل بالحسن والقبح ووجوب الغرض في أفعاله تعالى مع ما أجبنا به الثاني وهو أن نقول إن التكليف لغرض يعود إلى العبد وهو المنافع الدنيوية والأخروية التي تربى على مضرة التعب بمشاق الأفعال
وأما عقابه أبدا فليس لأنه لم يحصل منفعته بل لأنه يمثل أمر مولاه وسيده
وفي ذلك إهانة له وإن لم يستجلب بذلك الأمر فائدة لنفسه
والمعارضة بمضرة الكفار والعصاة مدفوعة بأن تلك المضرة مستندة إلى سوء اختيارهم
وجواب الرابع عندنا أن القدرة مع الفعل كما مر
والتكليف به في هذه الحالة أوليس
تكليفا بالمحال الذي هو تحصيل الحاصل
وإنما يكون كذلك أن لو كان الفعل حاصلا بتحصيل سابق على التحصيل الذي هو ملتبس به وما ذكر من أنه لا فائدة فيه حينئذ لوجوبه فإنما يتم إذا وجب الغرض في أفعاله تعالى
وهو باطل
وجواب الرابع عند المعتزلة أن التكليف قبل الفعل
وليس ذلك تكليفا بما لا يطاق لأن التكليف في الحال إنما هو بالإيقاع في ثاني الحال لا بالإيقاع في
364

الحال ليكون جمعا بين الوجود والعدم
وذلك أي التكليف كالإحداث يعني أن ما أوردتموه علينا في التكليف يلزمكم في إحداث الفعل فيقال إحداثه إما حال وجوده فيكون تحصيلا للحاصل وإما حال عدمه فيكون جمعا بين النقيضين
وهو أي الإحداث مما لا شك فيه
فما هو جوابكم في الإحداث فهو جوابنا في التكليف
وجواب الخامس أن ذلك أي التفكر في معرفة الله وصفاته وأفعاله أحد أغراض التكليف بل هو العمدة الكبرى منها وسائر التكاليف معينة عليه داعية إليه ووسيلة إلى صلاح المعاش المعين على صفاء الأوقات عن المشوشات التي يربى شغلها على شغل التكاليف
الطائفة الثالثة من قال في العقل مندوحة عن البعثة إذ هو كاف في معرفة التكاليف فلا فائدة فيها وهم البراهمة والصابئة والتناسخية
غير أن من البراهمة من قال بنبوة آدم فقط
ومنهم من قال بنبوة إبراهيم فقط
ومن الصابئة من قال بنبوة شيث وإدريس فقط
وهؤلاء كلهم احتجوا بأن ما حكم العقل بحسنه من الأفعال يفعل
وما حكم بقبحه يترك
وما لم يحكم فيه بحسن ولا قبح يفعل عند الحاجة إليه لأن الحاجة ناجزة حاضرة فيجب اعتبارها دفعا لمضرة فواتها
ولا يعارضها مجرد الاحتمال أي احتمال المضرة بتقدير قبحه
ويترك عند عدمها للاحتياط في دفع المضرة المتوهمة
والجواب بعد تسليم حكم العقل بالحسن والقبح أن الشرع المستفاد من البعثة فائدته تفصيل ما أعطاه العقل إجمالا من مراتب الحسن والقبح والمنفعة والمضرة
وبيان ما يقصر عنه العقل ابتداء فإن القائلين بحكم العقل لا ينكرون أن من الأفعال ما لا يحكم العقل فيه بشيء
وذلك
365

كوظائف العبادات وتعيين الحدود ومقاديرها
وتعليم ما ينفع وما يضر من الأفعال
وذلك أي النبي الشارع كالطبيب الحاذق يعرق الأدوية وطبائعها وخواصها مما لو أمكن معرفتها للعامة بالتجربة ففي دهر طويل يجربون فيه أي في ذلك الدهر الطويل من فوائدها لعدم حصول العلم بها بعد ويقعون في المهالك قبل استكمالها أي قبل استكمال مدة التجربة إذ ربما يستعملون من الأدوية في تلك المدة ما يكون مهلكا ولا يعلمون ذلك فيهلكهم مع أن اشتغالهم بذلك أي بتحصيل العلم بأحوال الأدوية بطريق التجربة يوجب اتعاب النفس وتعطل الصناعات الضرورية والشغل عن المصالح والمعاش
فإذا تسلموه من الطبيب خفت المؤنة وانتفعوا به وسلموا من تلك المضار
ولا يقال في إمكان معرفته أي معرفة ما ذكر غنى عن الطبيب فكذا لا يقال في إمكان معرفة التكاليف وأحوال الأفعال بتأمل العطل فيها غنى عن المبعوث
كيف والنبي لا يعلم ما لا يعلم إلا من جهة الله بخلاف الطبيب إذ يمكن التوصل إلى جميع ما يعلمه بمجرد الفكر والتجربة
فإذا لم يكن هو مستغنيا عنه كان النبي بذلك أولى
وفيما تقدم من تقرير مذهب الحكماء وهو أن الإنسان مدني بالطبع فلا بد له من قانون عدل محتاج إلى واضع يمتاز عن بني نوعه بما يدل على أن ما أتى به من عند ربه تتمة لهذا الكلام فإنه يدل على وجوب وجود النبي في العناية الأزلية المقتضية للنظام الأبلغ
الطائفة الرابعة من قال بامتناع المعجزة فلا يثبت النبوة أصلا لأن تجويز خرق العادة سفسطة
ولو جوزناه لجاز انقلاب الجبل ذهبا وماء
366

البحر دما ودهنا وأواني البيت رجالا كملا وتولد هذا الشيخ دفعة بلا أب وأم
وكون من ظهرت المعجزة على يد غير من ادعى النبوة بأن يعدم المدعي عقيب دعواه بلا مهلة ويوجد مثله في آن إعدامه فيكون ظهور المعجزة على يد المثل
ولا يخفى ما فيه أي في تجويز خرق العادة من الخبط والإخلال بالقواعد المتعلقة بالنبوة وغيرها
إذ يجوز حينئذ أن يكون الآتي بالأحكام الشرعية في الأوقات المتفرقة أشخاصا مماثلة للذي ثبتت نبوته بالمعجزة وأن يكون الشخص الذي تتقاضاه غير الذي كان عليه دينك إلى غير ذلك من المفاسد التي تنافي نظام المعاش والمعاد
والجواب أن خرق العادات أوليس
أعجب من أول خلق السماوات والأرض وما بينهما
ومن انعدامها الذي نقول نحن به والجزم بعدم وقوع بعضها كما في الأمثلة المذكورة لا ينافي إمكانها في أنفسها وذلك كما في المحسوسات فإنا نجزم بأن حصول الجسم المعين في الحيز المعين لا يمتنع فرض عدمه بدله مع الجزم به جزما مطابقا للواقع ثابتا لا تتطرق إليه شبهة للحس الشاهد به شهادة موثوقا بها
والعادة أحد طرق العلم كالحس فجاز أن نجزم ذلك الجزم بشيء من جهة العادة مع إمكان نقيضه في نفسه
ثم إن خرق العادة إعجازا لنبي وكرامة لولي عادة مستمرة توجد في كل عصر وأوان
فلا يمكن للعاقل المنصف إنكاره أو فلا يكون حينئذ خرقا للعادة بل أمرا عاديا
والمعجزة عندنا ما يقصد به تصديق مدعي الرسالة وإن لم يكن خارقا للعادة
الطائفة الخامسة من قال ظهور المعجز لا يدل على الصدق في دعوى النبوة لاحتمالات
367

الأول كونه من فعله لا من فعل الله فلا يكون نازلا منزلة التصديق له من الله
وإنما جاز كون المعجز فعلا له مع كون غيره عاجزا عنه
إما لمخالفة نفسه لسائر النفوس البشرية في الماهية كما ذهب إليه جماعة فيجوز حينئذ أن يصدر عن بعضها ما لا يقدر عليه بعض آخر منها أو لمزاج خاص في بدنه هو أقوى من أمزجة أقرانه فيقوى به على فعل يعجز عنه غيره
وإن توافقا في الماهية أو لكونه ساحرا ماهرا في السحر وقد أجمعتم على حقيقته أي على كون السحر مؤثرا في أمور غريبة كما دل عليه الكتاب كقوله تعالى * (
فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) * والسنة كقصة لبيد بن الأعصم مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن أنكره من القدرية فقد خالف كتاب الله وسنة نبيه وإجماع الأمة أيضا إذ ما من عصر من عهد الصحابة إلى ظهور المخالفين إلا وكان الناس يتفاوضون فيه في أمر السحر وتأثيراته حتى اختلفت الفقهاء في حكم الساحر فقال بعضهم يجب قتله
وقال آخرون هو كافر
وقال الشافعي إذا اعترف الساحر بأن قتله شخصا بسحره وبأن سحره مما يقتل غالبا وجب عليه القود ولم ينكره أحد فكان إجماعا
هكذا ذكره الآمدي أو لطلسم اختص هو بمعرفته يعني أن سلم امتناع السحر في نفسه فلا مجال لإنكار الطلسمات الغريبة التي تؤثر تأثيرات عجيبة فجاز أن يمتاز ذلك الشخص بمعرفة نوع منها لا يعرفه غيره
فإذا أتى به ترتب عليه أمر غريب يعجز عن مثله من هو في عصره
وقالوا الطلسم عبارة عن تمزيج القوى السماوية الفعالة بالقوى الأرضية المنفعلة
وذلك أن القوى السماوية أسباب لحدوث الكائنات العنصرية
368

ولحدوثها شرائط مخصوصة بها يتم استعداد القابل
فمن عرف أحوال الفاعل والقابل وقدر على الجمع بينهما عرف ظهور آثار مخصوصة غريبة
أو لخاصية بعض المركبات إذ لا شك أن المركبات العنصرية لها خواص تستتبع آثارا عجيبة كالمغناطيس الجاذب للحديد والكهرباء التي تجذب التبن وكالحجر الباغض للخل فإنه إذا أرسل على إناء فيه خل لم ينزل بل ينحرف عنه حتى يسقط خارجا عن الإناء
وكالحجر الجالب للمطر وهو مشهور فيما بين الأتراك فجاز أن يكون ذلك الخارق الذي ظهر على يد المدعي تابعا لخاصية بعض المركبات ويكون هو عالما بذلك النوع من التركيب دون غيره
الثاني من تلك الاحتمالات استناده أي استناد المعجز إلى بعض الملائكة فإنها قادرة على أفعال غريبة فلعل ملكا أظهر ما يعجز عنه البشر على يد المتنبىء ليغوي الناس
وأما عصمة الملائكة فإنما تعلم بقول النبي فلا يمكن أن يتمسك بها ههنا
أو الشياطين فإنها موجودة عندكم قادرة على أفعال خارقة أو استناده إلى الاتصالات الكوكبية وأنظارها الحادثة من الحركات الفلكية وهو أي مدعي النبوة قد أحاط من صناعة النجامة بما لم يحط به غيره فاطلع على اتصال نادر لا يقع مثله إلا في ألوف من السنين ويستتبع أمرا غريبا فاتخذ ما علم وقوعه من الغرائب معجزا لنفسه فلا يكون حينئذ دالا على صدقه
الثالث منها أن يكون الخارق الظاهر كرامة لا معجزة فلا يكون له دلالة على الصدق
369

الرابع إن لا يقصد به التصديق أي سلمنا أن المعجز من فعله تعالى لكنه أوليس
تصديقا منه للمدعي
إذ لا غرض واجبا في أفعاله تعالى
وعلى تقدير وجوبه لا يتعين التصديق له لكونه غرضا من ذلك الخارق إذ لعله أي الغرض منه غير التصديق له كإيهامه أي إيهام تصديقه ليحترز عنه بالاجتهاد فيثاب بذلك كإنزال المتشابهات
فإنها بظواهرها توهم الخطأ
ولا يمكن للمكلف الاحتراز عن ذلك الخطأ إلا بتحمل المشقة من التأمل الدقيق فيها فيستحق به الثواب
أو يكون ذلك الخارق لتصديق نبي آخر موجود في جانب آخر أو يكون إرهاصا لنبي سيأتي فيما بعد كالأحوال الظاهرة على النبي قبل مبعثه وكالنور الذي كان في جبين آبائه
الخامس إنه لا يلزم من تصديق الله إياه صدقه إلا إذا علم استحالة الكذب على الله ولم يعلم ذلك عقلا إذ لا يقبح عندكم منه شيء ولا سمعا للزوم الدور
السادس لعل التحدي الصادر عن المدعي لم يبلغ من هو قادر على المعارضة من الذين هم في بعض الأقطار أو لعله أي القادر على المعارضة تركها مواضعة مع المدعي ومواطأة معه في إعلاء كلمته لينال من دولته حظا وافرا
السابع لعلهم استهانوا به أولا وظنوا أن دعوته مما لا يتم ولا يلتفت إليه فلم يشتغلوا بمعارضته في ابتداء أمره وخافوه آخرا لشدة شوكته وكثرة أتباعه
أو شغلهم ما يحتاجون إليه في تقويم معيشتهم عنه أي عن المدعي ومعارضته
الثامن لعله عورض ولم يظهر لمانع منع المعارض عن إظهار ما عارض به أو أظهر ثم أخفاه أصحابه أي أتباع المدعي عند استيلائهم وغلبتهم على الناس المخالفين لهم وطمسوا آثاره حتى انمحى بالكلية
ومع قيام هذه الاحتمالات الثمانية لا يبقى لها أي للخارق الذي سمى معجزة دلالة على الصدق
370

الجواب الإجمالي ما قررناه غير مرة أي قررناه مرارا
ومن جملتها جواب الطائفة الرابعة من أن التجويزات العقلية لا تنافي العلم العادي كما في المحسوسات
والجواب التفصيلي عن الأول أنا بينا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله
فالمعجز لا يكون إلا فعلا له لا للمدعي
والسحر ونحوه إن لم يبلغ حد الإعجاز الذي هو كفلق البحر وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص كما هو مذهب جميع العقلاء فظاهر أنه لا يلتبس السحرة بالمعجزة فلا إشكال
وإن بلغ السحر حد الإعجاز فأما أن يكون دون دعوى النبوة والتحدي فظاهر أيضا أنه لا التباس أو يكون معه أي مع ادعاء النبوة والتحدي
وحينئذ فلا بد من أحد أمرين إما أن لا يخلقه الله على يده أو أن يقدر غيره على معارضته
وإلا كان تصديقا للكاذب
وأنه محال على الله سبحانه لكونه كاذبا والجواب عن الثاني أن لا خالق إلا الله فلا يكون المعجز مستندا إلى غير
وعن الثالث أن لم يجوز الكرامة فلا إشكال عليه
ومن جوزها فقال بعضهم منهم الأستاذ أبو إسحق لا تبلغ الكرامة الظاهرة على يد الأولياء درجة المعجز
وقيل لا تقع الكرامة على القصد والاختيار حتى إذا أراد الولي إيقاعها
لم تقع بل وقوعها اتفاقي فقط
وقال القاضي تجوز الكرامة إذا لم تقع على طريق التعظيم والجلال لأن ذلك أوليس
من شعار الصالحين
ومع ذلك تمتاز الكرامة عن المعجز بأنها مع دعوى الولاية دون النبوة وعلى التقادير كلها فالفرق بينها وبين المعجزة ظاهر فلا تشتبه إحداهما بالأخرى
وعن الرابع أنا لا نقول بالغرض أي لا نقول بأن خلق المعجزة لغرض التصديق لأن أفعاله تعالى عندنا غير معللة بالأغراض
بل نقول إن خلقها على يد المدعي يدل على تصديق له قائم بذاته تعالى كما أن حمرة الخجل تفيد العلم الضروري
371

بحصول الخجلة
مع جواز حصولها بدونها
أما على القول باستناد الحوادث إلى القادر المختار فظاهر
وأما على القول بالموجب فلأنه يجوز أن يحدث شكل غريب سماوي يقتضي تلك الحمرة في ذلك الشخص من غير أن يحصل فيه الخجالة
وعن الخامس فقد مر في مسألة الكلام من موقف الإلهيات امتناع الكذب عليه سبحانه وتعالى
وعن السادس إذا أتى مدعي النبوة بما يعلم بالضرورة أنه خارق للعادة
وعجز من في قطره عن المعارضة علم ضرورة صدقه في دعواه
وعن السابع يعلم عادة أي يعلم بالضرورة العادية الوجدانية المبادرة بلا توان إلى معارضة من يدعي الانفراد بأمر جليل فيه التقوى على أهل زمانه واستتباعهم والحكم عليهم في أنفسهم ومالهم
ويعلم بالضرورة أيضا عدم الإعراض عنها أي عن المعارضة في مثل هذا الأمر بحيث لا ينتدب له أحد ولا يتوجه نحو الإتيان بالمعارض أصلا
والقدح فيه سفسطة ظاهرة
وحينئذ أي وحين إذ كان الأمر كما ذكرنا فدلالته من جهة الصرفة واضحة
فإن النفوس إذا كانت مجبولة على ذلك كان صرفها عنه أمرا خارقا للعادة دالا على صدق المدعي وإن كان ما أتى به مقدورا لغيره
وعن الثامن كما علم بالعادة وجوب معارضته على تقدير القدرة علم بالعادة أيضا وجوب إظهارها إذ به يتم المقصود
واحتمال المانع للبعض في بعض الأوقات والأماكن لا يوجب احتماله في الجميع أي في جميع الأوقات والأماكن بل هذا معلوم الانتفاء بالضرورة العادية
فلو وقعت معارضة لاستحال عادة إخفاؤها مطلقا من أصحاب المدعي عند استيلائهم
ومن غيرهم أيضا فاندفعت الاحتمالات كلها وثبتت الدلالة القطعية
الطائفة السادسة من منكري البعثة من قال العلم بحصول المعجز لا يمكن لمن لم يشاهده إلا بالتواتر
ولكنه لا يفيد العلم فلا يحصل العلم بنبوة أحد لمن لم يشاهد معجزة
وإنما قلنا إن التواتر لا يفيد العلم لوجوه
372

الأول أهل التواتر يجوز الكذب على كل واحد منهم فكذا الكل يجوز عليه الكذب إذ أوليس
كذب الكل إلا كذب كل واحد
الثاني إن حكم كل طبقة من طبقات أعداد الرواة حكم ما قبلها بواحد
فإن من جوز إفادة المائة للعلم جواز إفادة التسعة والتسعين له قطعا
ولم يحصره أي العلم في عدد معين وأيضا ادعاء الفرق بين العددين المذكورين في إفادة العلم تحكم محض
وإذا كان كذلك فلنفرض طبقة لا تفيده أي لا تفيد العلم قطعا كاثنين مثلا ثم نزيد عليه واحدا واحدا فلا يفيده شيء من هذه المراتب بالغا ما بلغ لمساواة كل منها لما قيل في عدم الإفادة
الثالث لو أوجب التواتر العلم لأوجبه خبر الواحد واللازم منتف اتفاقا بيان الملازمة أن التواتر لا يشترط فيه إجماع أهله اتفاقا منا ومنكم بل يحصل التواتر بخبر واحد بعد واحد فالموجب له أي للعلم على تقدير حصوله إنما هو الخبر الأخير وحده لا هو مع ما سبق لأنه قد انقضى فقد أفاد خبر الواحد العلم حينئذ
الرابع شرطه استواء الطرفين والواسطة بالغة ما بلغت ولا سبيل إلى العلم به أي بالشرط المذكور
وإذا لم يعلم شرط إفادته للعلم لم يحصل العلم منه
الخامس إن التواتر غير مضبوط بعدد معين بل ضابطه عندكم
373

حصول العلم به حتى إذا حصل العلم به علم أنه متواتر
فلا يعلم كونه متواترا إلا بعد حصول العلم به
فإثبات العلم به أي بالتواتر مصادرة على المطلوب ودور صريح
وجواب الأول منع مساواة حكم الكل من حيث هو كل لحكم كل واحد لما نرى من قوة العشرة على تحريك ما لا يقوى عليه كل واحد
وجواب الثاني أن حصول العلم عنده أي عند التواتر عندنا معاشر الأشاعرة إنما هو بخلق الله تعالى إياه
وقد يخلقه بعدد دون عدد فلا نسلم تساوي طبقات الأعداد في احتمال الكذب وعدم إفادة العلم
كيف وأنه أي حصول العلم بطريق تواتر الأخبار يختلف بالوقائع والمخبرين والسامعين فقد يحصل العلم في واقعة بعدد مخصوص ولا يحصل به في واقعة أخرى
وقد يحصل بإخبار جماعة مخصوصين ولا يحصل بإخبار جماعة أخرى تساويهم في العدد
وكذا يحصل العلم لسامع من عدد ولا يحصل لسامع آخر من ذلك العدد والجواب عن الثالث أما عندنا فلأنه أي العلم عقيب التواتر بخلق الله فقد يخلقه بعد إخبار عدد دون خبر واحد منفرد فلا يكون الخبر الأخير موجبا له
وأما عند الحكماء والمعتزلة فلأن الأخبار الصادرة عن أهل التواتر أسباب معدة لحصول العلم لا موجبه له
وهي أي الأسباب قد لا تجامع المسبب بل تكون متقدمة عليه كالحركة للحصول في المنتهى فللأخبار السابقة مدخل في حصول العلم كالخبر الأخير وفاعله شيء آخر وهذا الوجه يناسب أصول الحكماء
والمناسب لأصول المعتزلة ما ذكره بقوله
ثم أنا نجد في أنفسنا أن الخبر الأول يفيد ظنا ويقوي ذلك الظن بالثاني والثالث
وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما لا أقوى منه فيلزم أن الموجب له هو الخبر الأخير بشرط سبق أمثاله وهو المراد بكون التواتر مفيدا للعلم فلا يلزم أن يكون خبر الواحد المنفرد موجبا له
والجواب عن الرابع والخامس أنا ندعي العلم الضروري الحاصل من التواتر الواقع في نفس الأمر على شرطه وضابطه لأنا نستدل بالتواتر والعلم بحصول شرطه وضابطه على ما ادعيناه
والفرق بين الأمرين ظاهر فإن
374

حصول التواتر في نفس الأمر مشتملا على ما يعتبر فيه من الشرائط وإفادته للعلم الضروري بما تواتر الأخبار عنه أمر لا شبهة فيه إذ لا سبيل إلى العلم الضروري بالبلاد النائية والأشخاص الماضية سوى التواتر وليس يعتبر في ذلك العلم بالشرط الذي هو الاستواء حتى يقال إنه غير معلوم ولا العلم بضابطه حتى يلزم منه الدور
نعم إذ استدل على شيء يكون أخباره متواترة مشتملة على شرائط مجتمعة مع ضابطه توجه ما ذكرتم من عدم العلم بحصول الشرط ومن لزوم الدور لكن العلم المستفاد من التواتر ضروري عندنا لا نظري فتدبر
الطائفة السابعة من اعترف بإمكان البعثة ومنع وقوعها
قالوا تتبعنا الشرائع التي أتى بها مدعو الرسالة فوجدناها مشتملة على ما لا يوافق العقل والحكمة
فعلمنا أنها ليست من عند الله فلا يكون هناك بعثة
وذلك الذي لا يوافق العقل والحكمة كإباحة ذبح الحيوان وإيلامه لمنفعة الأكل وغيره
وإيجاب تحمل الجوع والعطش في صوم أيام معينة والمنع من الملاذ التي بها صلاح البدن مع أنه لا منفعة في هذا المنع لله سبحانه وفيه مضار لعباده فيكون مخالفا للحكمة وتكليف الأفعال الشاقة كطي الفيافي وكزيارة بعض المواضع والوقوف ببعض والسعي في بعض والطواف ببعض مع تماثلها ومضاهاة المجانين والصبيان في التعري وكشف الرأس والرمي لا إلى مرمى وتقبيل حجر لا مزية له على سائر الأحجار وكتحريم النظر إلى الحرة الشوهاء دون الأمة الحسناء وكحرمة أخذ الفضل في صفقة وجوازه في صفقتين كأن يبيع مد عجوة جيدة بمدين من عجوة رديئة فإنه
375

ربا حرام وإن باعها بدرهم ثم اشترى به مدين من الرديئة كان حلالا بلا شبهة مع استوائهما أي الصفقة والصفقتين في المصالح والمفاسد من جميع الوجوه والجواب بعد تسليم حكم العقل فيه بالحسن والقبح ووجوب الغرض في أفعاله تعالى فغايته أي غاية ما ذكرتموه عدم الوقوف على الحكمة في تلك الصور المذكورة ولا يلزم منه عدمها في نفس الأمر
ولعل هناك مصلحة استأثر الله بالعلم بها على أن في التعبد بما لا تعلم حكمته تطويعا للنفس الأبية وملكة قهرها أي تصرف غلبتها الثابتة فيما فيه الحكمة وزيادة ابتلاء في التعرض للثواب والعقاب يعني أن النفس إذا علمت الحكمة والمصلحة في حكم انقادت له لأجل تلك المصلحة لا لمجرد امتثال حكم مولاها سيدها وكان عندها أنها ذات قوة ورسوخ في العلم
فربما صارت بسبب ذلك معجبة بنفسها
فإذا تعبدت بما لا تعلم حكمته كان انقيادها امتثالا مجردا وانكسرت سورتها وإعجابها الثابت لها فيما علمت حكمته
وأيضا في التعبد زيادة ابتلاء في التكليف فإن النفس تأبى عما لا تعلم مصلحته وكل ذلك حكمة ومصلحة حاصلة في الأحكام التعبدية ومعلومة لنا فلا يلزم خلو تلك الصور عن الحكمة والمصلحة المعتد بها المعلومة
المقصد الرابع في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وفيه مسالك
المسلك الأول وهو العمدة
أنه ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده
أما الأولى فمتواترة تواترا ألحقه بالعيان
وأما الثانية فمعجزة القرآن وغيره
الكلام في القرآن إما أنه تحدى به فقد تواتر وآيات التحدي
376

كثيرة
وإما أنه لم يعارض فلأنه لو عورض لتواتر سيما والخصوم أكثر من حصى البطحاء وأحرص الناس على إشاعة ما يبطل دعواه
وأما أنه حينئذ يكون معجزا فقد مر
والكلام على هذه الطريقة سؤالا وجوابا يعلم من الفصل المتقدم
ولنتكلم الآن في وجه إعجازه وفي شبه القادحين فيه في فصلين
الفصل الأول في وجه إعجازه وقد اختلف فيه فقيل هو ما اشتمل عليه من النظم الغريب المخالف لنظم العرب ونثرهم في مطالعه ومقاطعه وفواصله
وعليه بعض المعتزلة
وقيل كونه في الدرجة العالية من البلاغة التي لم يعهد مثلها وعليه الجاحظ
قالوا البلاغة التعبير باللفظ الرائع عن المعنى الصحيح بلا زيادة ولا نقصان في البيان
وهل رتب البلاغة متناهية والحق أن الموجود منها متناه دون الممكن ثم أصل البلاغة في القرآن متفق عليه لا ينكره من له أدنى تمييز ومعرفة بصياغة الكلام
وأما كونه في الدرجة العالية غير المعتادة وبهذا يحصل الإعجاز ولا حاجة بنا إلى بيان أنه الغاية فيها فلأن من تتبع القرآن وجد فيه فنونها من إفادة المعاني الكثيرة باللفظ القليل وضروب التأكيد وأنواع التشبيه والتمثيل والاستعارة وحسن المطالع والمقاطع والفواصل والتقديم والتأخير والفصل والوصل اللائق بالمقام وتعريه عن اللفظ الغث والشاذ والشارد إلى غير ذلك بحيث لا يرى المتصفح له المميز نوعا منها إلا وجده فيه أحسن ما يكون
ولا يقدر أحد من البلغاء وإن استفرغ وسعه إلا على نوع أو نوعين منه
وربما لو رام غيره لم يواته
ومن كان أعرف بالعربية وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن
377

وقال القاضي هو مجموع الأمرين
وقيل هو إخباره عن الغيب نحو * (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) * وذلك كثير
وقيل عدم اختلافه وتناقضه مع ما فيه من الطول * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *
وقيل بالصرفة فقال الأستاذ والنظام صرفهم الله مع قدرتهم
وقال المرتضي بل سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة
الفصل الثاني في شبه القادحين في إعجازه والتقصي عنها
قالوا وجه الإعجاز يجب أن يكون بينا لمن يستدل به عليه واختلافكم فيه دلائل خفائه
ثم ما ذكرتم من الوجوه لا يصلح للإعجاز
أما النظم الغريب فلأنه أمر سهل
سيما بعد سماعه
وأيضا فحماقات مسيلمة على وزنه
وأما البلاغة فلوجوه
الأول إذا نظرنا إلى أبلغ خطبة للخطباء وقصيدة للشعراء ثم قسناه إلى أقصر سورة من القرآن وتزعمون التحدي بها ويتناولها قوله تعالى * (فأتوا بسورة من مثله) * لم نجد الفرق بينا بل ربما زعم أن الأفصح معارضها
ولا بد في المعجز من ظهور التفاوت إلى حد تنتفي معه الريبة
378

الثاني إن الصحابة اختلفوا في بعض القرآن حتى قال ابن مسعود بأن الفاتحة والمعوذتين ليست من القرآن مع أنها أشهر سورة
ولو كانت بلاغتها بلغت حد الإعجاز لتميزت به فلم يختلفوا
الثالث إنهم عند جمع القرآن إذا أتى الواحد بالآية والآيتين لم يضعوها في المصحف إلا ببينة أو يمين
والتقرير ما مر
الرابع لكل صناعة مراتب وليس لها حد معين ولا بد في كل زمان من فاق أبناءها فلعل محمدا كان أفصح أهل عصره
ولو كان ذلك معجزا لكان كل من فاق أقرانه في صناعة معجزا
وهو ضروري البطلان
وأما مذهب القاضي فلأن ضم غير المعجز إلى مثله لا يصيره معجزا
وأما الإخبار بالغيب فلوجوه
الأول إنه جائز كرامة إلا أن يتكرر إلى أن يصير معجزا
ومراتبه غير مضبوطة
فكيف يعلم بلوغ القرآن مرتبة الإعجاز
الثاني إنه يقع من المنجمين والكهنة وليس بمعجز اتفاقا
الثالث إنه يلزم حينئذ ألا يكون ما خلا عنه من القرآن معجزا
وأما عدم الاختلاف والتناقض فيه مع طوله فلوجوه
الأول قال * (وما علمناه الشعر) * وفي القرآن ما هو شعر نحو قوله * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) *
وقوله * (ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) * سيما إذا تصرف فيه بأدنى تغيير فإنه يوجد فيه شيء كثير
الثاني أن فيه كذبا إذ قال " وما فرطنا في الكتاب من شيء "
* (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) *
ولا شك أنه لا يشتمل على أكثر العلوم
379

الثالث إن فيه اختلافا إذ فيه اللحن نحو * (إن هذان لساحران) * قال عثمان إن فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتهم
الرابع فيه تكرار بلا فائدة كما في سورة الرحمن
وكقصة موسى وعيسى كذلك
وفيه إيضاح الواضح نحو * (تلك عشرة كاملة) * وأي خلل أعظم من الكلام الغير المفيد
الخامس إنه نفى عنه الاختلاف حيث قال * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * في معرض الاحتجاج بعدم الاختلاف فيه على كونه من عند الله ثم نجد فيه اختلافا كثيرا لأنه إما في اللفظ أو المعنى
والأول إما بتبديل اللفظ أو التركيب أو الزيادة أو النقصان
والكل موجود فيه
أما تبديل اللفظ فمثل كالصوف المنفوش بدل * (كالعهن) *
وفامضوا إلى ذكر الله بدل * (فاسعوا) * وفكانت كالحجارة بدل * (فهي كالحجارة) * والسارقون والسارقات بدل * (والسارق والسارقة) *
وأما تبديل التركيب فنحو ضربت عليهم المسكنة والذلة بدل * (الذلة والمسكنة) * ونحو جاءت سكرة الحق بالموت بدل * (الموت بالحق) *
وأما الزيادة والنقصان فنحو النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وله تسع وتسعون نعجة أنثى
وأما في المعنى فنحو ربنا باعد بين أسفارنا وربنا باعد بين أسفارنا والأول دعاء والثاني خبر
و * (هل يستطيع ربك) * بالغيبة وضم الباء
وهل تستطيع ربك بالخطاب وفتح الباء
السادس إنه يوجد في كثير من الخطب والقصائد الطوال
بحيث لو
380

تتبعها أبلغ البلغاء لم يعثر فيها على سقطة فضلا عن التناقض والاختلاف
ويظهر ذلك كل الظهور في مقدار أقصر سورة تحدى بها
وأما بالقول بالصرفة فلوجوه
الأول الإجماع قبل هؤلاء على أن القرآن معجز
ولو قال أنا أقوم وأنتم لا تقدرون عليه
وكان كذلك لم يكن قيامه معجزا بل عجزهم عن القيام
الثاني لو سلبوا القدرة لتناطقوا به عادة ولتواتر ذلك
فإن قيل إنما لم يتذاكروه لئلا يصير حجة عليهم
قلنا إن كان ذلك موجبا لتصديقه امتنع عادة تواطؤ الخلق الكثير على مكابرته
وإن لم يكن موجبا بل احتمل السحر وغيره مثلا لتناطقوا به وحملوه عليه
الثالث كانوا يعارضونه بما اعتيد منهم قبل التحدي به فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به
والجواب قولهم اختلافكم في وجه إعجازه دليل الخفاء
قلنا الاختلاف والخفاء وإن وقع في آحاد الوجوه فلا اختلاف بيننا ولا خفاء في أنه بما فيه من البلاغة والنظم الغريب والإخبار عن الغيب واشتماله على الحكمة البالغة علما وعملا معجز
وإنما وقع الخلاف في وجهه لاختلاف الأنظار ومبلغ أصحابها من العلم وليس إذا لم يكن معجزا بالنظر إلى أحد ما بيناه يلزم أن لا يكون معجزا بجملتها ولا بجملة منها
وكأي من بليغ يقدر على النظم أو النثر ولا يقدر على الآخر
ولا يلزم من القدرة على أحدهما القدرة على الجميع
وليس كل ما ثبت لكل واحد يثبت للكل
هذا وإنا نختار أنه معجز ببلاغته
وأما الشبه فالجواب عن الأولى أن الفرق كان بينا لمن تحدى به
ولذلك لم يعارض
وغيرهم عمي عن ذلك لقصوره في صناعة البلاغة والتمييز بين مراتبها
ثم قياس أقصر سورة إلى أطول خطبة أو قصيدة جور على سواء السبيل
وأيضا فيكفينا كون القرآن بجملته أو بسوره الطوال معجزا
381

قال الوليد بن المغيرة بعد طول محاولته للمعارضة وتوقع الناس ذلك منه عرضت هذا الكلام على خطب الخطباء وشعر الشعراء فلم أجده منها
وعن الثانية إن الآحاد لا تعارض القاطع
ثم إنهم لم يختلفوا في نزوله على محمد وبلوغه في البلاغة حد الإعجاز
وأما البسملة فالخلاف في كونها آية من كل سورة لا في كونها من القرآن
وعن الثالثة إن اختلافهم في موضعه وفي التقديم والتأخير فإن النبي كان يواظب على قراءته في صلاته
هذاوإن الخبر المحفوف بالقرائن قد يفيد العلم وهو المدعي
ولا علينا أن نثبت بالتواتر أو بالقرائن
ثم لا يضر عدم إعجاز الآية والآيتين
وعن الرابعة إن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب على أهله ويبلغون فيه الغاية القصوى فيقفون فيه على الحد المعتاد حتى إذا شاهدوا ما هو خارج عن حد الصناعة علموا أنه من عند الله
وذلك كالسحر في زمن موسى
ولما علم السحرة أن حد السحر تخييل وتوهيم ثم رأوا عصاه انقلبت ثعبانا يتلقف سحرهم الذي كانوا يأفكونه علموا أنه خارج عن السحر فآمنوا به
وفرعون لقصوره يظن أنه كبيرهم الذي يعلمهم السحر
وكذا الطب في زمن عيسى وبعلمهم علموا أن إحياء الموتى وإبراء الأكمه أوليس
حد الصناعة بل من عند الله
هذا والبلاغة قد بلغت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدرجة العليا وكان بها فخارهم حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها وكتب السير تشهد بذلك
فلما أتى بما عجز عن
382

مثله جميع البلغاء مع ما ظهر عنهم من كثرة المنازعة والتشاجر وإنكار نبوته حتى أن منهم من مات على كفره ومنهم من أسلم لوضوح نبوة النبي عنده ومنهم من أسلم على نفرة منه للصغار ومنهم من اشتغل بالمعارضة الركيكة التي هي ضحكة للعقلاء ومنهم
وهم الأكثرون
من عدل إلى المحاربة وتعريض النفس والمال للدمار فعلم أن ذلك من عند الله قطعا
سلمنا لكن لم لا يكون معجزا بالإخبار عن الغيب وحد المعجز منه تقضي به العادة
وقد بلغ في القرآن ذلك المبلغ ولسنا الآن لتفصيله
وبه خرج جواب الشبهتين
سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المعجز ما انتفى عنه الاختلاف
وأما الشبه فالجواب عن الأول أن ما في القرآن أوليس
بوزن الشعر إنما يصير إليه بتغير ما من إشباع أو زيادة أو نقصان ثم إن الشعر ما قصد وزنه وتناسب مصاريعه واتحاد رويه
وما يقع من ذلك في نثر البلغاء اتفاقا على الشذوذ لا يعد شعرا ولا قائله شاعرا
ومن قال لغلامه ادخل السوق واشتر اللحم واطبخ لم يعد بهذا القدر شاعرا ضرورة
وعن الثانية إن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ فلا إشكال أو بالعموم المخصوص بما يحتاج إليه في أمر الدين
وعن الثالثة أن للتكرار فوائد
منها زيادة التقرير
ومنها إظهار القدرة على إيراد المعنى الواحد بعبارات مختلفة في الإيجاز والإطناب
وهو إحدى شعب البلاغة
وأما قوله * (إن هذان لساحران) * فقيل غلط من الكاتب ولم يقرأ به
وقيل لغة
نحو
383

(إن أباها وأبا أباها
* قد بلغا في المجد غايتاها) وقيل مخصوص بهذا زيد فيه النون فقط كما فعل في الذين
وقيل ضمير الشأن مقدر ههنا
واللام تدخل خبر المبتدأ إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب العربية
وقول عثمان إن فيه لحنا
أي في الكتابة
وأما قوله * (تلك عشرة كاملة) * فدفع لتوهم غير المقصود ولو بوجه بعيد مثل أن يظن أن المراد بالسبعة تمامها
وعن الرابعة إن ما نقل منه آحادا فمردود
وما نقل متواترا فهو مما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف)
وعن الخامسة أن المراد الاختلاف في البلاغة
فإن الكلام الطويل ولو من أبلغ شخص لا يخلو عن غث وسمين وركيك ومتين عادة
أو المراد اختلاف أهل الكتاب فيما أخبر عن القصص لعدم ثبوتها عندهم
وأما الصرفة فنقول بأن الإعجاز أوليس
بها ولكن ندعيها أو كون القرآن معجزا وأيا ما كان يحصل المطلوب
الكلام في سائر المعجزات
وهي أنواع
الأول انشقاق القمر على ما دل عليه قوله تعالى * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *
384

الثاني كلام الجمادات
قال أنس كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ كفا من حصى فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح
وقال جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أنه مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل عليه السلام بطبق فيه رمان وعنب فسبح ذلك العنب والرمان
ولما دعا للعباس وأهل أمن له أسكفة الباب وحيطان البيت
ولما طلب الأعرابي منه الشاهد على نبوته دعا الشجرة وهي على شط الوادي فأقبلت تخد الأرض خدا حتى قامت بين يديه وشهدت له بالنبوة ورجعت إلى منبتها
وكلام الذراع المسمومة مشهور
الثالث كلام الحيوانات العجم
شهد له الذئب بالنبوة والظبية التي ربطها الأعرابي سألته الإطلاق لترضع خشفيها وضمنت الرجوع فرجعت
ثم سأل الأعرابي أن يطلقها فأطلقها فانطلقت وهي تشهد أن لا إله إلا الله
385

وأن محمدا رسول الله
وشهدت الناقة ببراءة صاحبها من السرقة
ولكل قصة في كتب السير
الرابع حركة الجمادات
منها قصة الشجرة وما روى ابن عباس أنه قال لأعرابي أرأيت لو دعوت هذا العذق فدعاه فجاءه ثم قال ارجع فرجع
وحنين الجذع إليه مشهور
الخامس إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل
السادس نبوع الماء من بين أصابعه
رواه أنس
السابع إخباره بالغيب
فمنه ما ورد به القرآن
ومنه ما نطق به الأحاديث الصحيحة
ومن بحث عن هذا الجنس وجده كثيرا
ثم نقول كل واحدة من هذه وإن لم تتواتر فالقدر المشترك بينها متواتر كشجاعة علي وسخاوة حاتم وهو كاف
المسلك الثاني وارتضاه الجاحظ والغزالي الاستدلال بأحواله قبل النبوة وحال الدعوة وبعد تمامها
وأخلاقه العظيمة وأحكامه الحكيمة وإقدامه حيث يحجم الأبطال
ولولا ثقته بعصمة الله إياه من الناس لامتنع ذلك عادة
وأنه لم يتلون حاله وقد تلونت به الأحوال من أمور من تتبعها علم أن كل واحد منها وإن كان لا يدل على نبوته لكن مجموعها مما لا يحصل إلا
386

للأنبياء
فلا يرد ما يحكى عن أفاضل الحكماء من الأخلاق العجيبة التي جعلها الناس قدوة لأحوالهم في الدنيا والآخرة
المسلك الثالث إخبار الأنبياء المتقدمين عليه من نبوته صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل
فإن قيل إن زعمتم مجيء صفته مفصلا أنه يجيء في السنة الفلانية في البلدة الفلانية وصفته كيت وكيت فاعلموا أنه نبي فباطل
لأنا نجد التوراة والإنجيل خاليين عن ذلك
وأما ذكره مجملا فإن سلم فلا يدل على النبوة بل على ظهور إنسان كامل أو لعله شخص آخر لم يظهر بعد
قلنا المعتمد ظهور المعجزة على يده
وهذه الوجوه الأخر للتكملة وزيادة التقرير
المسلك الرابع وارتضاه الإمام الرازي أنه صلى الله عليه وسلم ادعى بين قوم لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم أني بعثت بالكتاب والحكمة لأتمم مكارم الأخلاق وأكمل الناس في قوتهم العلمية والعملية وأنور العالم بالإيمان والعمل الصالح
ففعل ذلك وأظهر دينه على الدين كله كما وعده الله
ولا معنى للنبوة إلا ذلك
وهذا قريب من مسلك الحكماء
واعلم أن المنكرين لبعثته صلى الله عليه وسلم خاصة قومان
أحدهما القادحون في معجزته كالنصارى
وقد مر ما فيه كفاية
وثانيهما اليهود إلا العيسوية فإنهم سلموا بعثته لكن إلى العرب خاصة لا إلى الخلق كافة
واحتجوا بوجهين
387

الأول إن نبوته تقتضي نسخ من قبله باتفاق منكم لكن النسخ محال لأنه يدل على الجهل أو البداء
وكلاهما محال على الله تعالى
بيانه أنه لو كان فيه مصلحة لا يعلمها فالجهل
وإن كان يعلمها فرأى رعايتها أولا ثم أهملها بلا سبب ثانيا فالبداء
والجواب إنه لا يجب رعاية المصلحة عندنا
وإن وجب فربما حدثت مصلحة لم تكن حاصلة قبل
فإن المصالح تختلف بحسب الأوقات كشرب الدواء الخاص في وقت دون وقت
فربما كانت المصلحة في وقت ثبوت الحكم وفي آخر ارتفاعه وكيف والمحكوم عليه هنا أوليس
بمتحد
الثاني إن موسى نفى نسخ دينه
ولا بد من الاعتراف بصدقه لكونه نبيا
بيانه أنه تواتر عنه (تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض)
وأيضا إما أن يكون قد صرح بدوام دينه أو بعدم دوامه أو سكت عنهما
والأخيران باطلان
أما الثاني فإنه لو قال ذلك لتواتر لكونه من الأمور العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها سيما من الأعداء
ومن يدعي نسخ دينه
وذلك أقوى حجة له فيه
وأما الثالث فلأنه يقتضي ثبوت دينه مرة واحدة وعدم تكرره وأنه معلوم الانتفاء لتقرره إلى أوان النسخ
والجواب منع تواتر ذلك عن موسى
ولو كان كذلك لاحتج به على محمد
ولو احتج به لنقل متواترا
وأما الترديد فنختار أنه صرح بدوامه إلى ظهور الناسخ
وإنما لم ينقل تواترا إما لقلة الدواعي إلى نقله لما فيه من الحجة عليهم وإما لقلة الناقلين في بعض الطبقات لأن اليهود جرت لهم وقائع ردتهم إلى أقل القليل ممن لا يحصل التواتر بنقله
388

الشرح
المقصد الرابع في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه مسالك
المسلك الأول وهو العمدة أنه ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده
أما الأولى فتواتره تواترا ألحقه بالعيان والمشاهدة فلا مجال للإنكار فيها
وأما الثانية فمعجزة القرآن وغيره
الكلام في القرآن وكونه معجزا أن نقول تحدى به ولم يعارض فكان معجزا
أما أنه تحدى به فقد تواتر بحيث لم يبق فيه شبهة
وآيات التحدي كثيرة كقوله تعالى * (فليأتوا بحديث مثله) * وقوله * (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) * وقوله * (فأتوا بسورة من مثله) * وأما أنه لم يعارض فلأنه لو عورض لتواتر لأنه مما توفرت الدواعي إلى نقله سيما والخصوم أكثر عددا من حصى البطحاء وأحرص الناس على إشاعة ما يبطل دعواه وأما أنه حينئذ أي حين إذ تحدى به ولم يعارض يكون معجزا فقد مر فيما سبق من بيان حقيقة المعجزة وشرائطها
والكلام على هذه الطريقة سؤالا وجوابا يعلم من الفصل المتقدم فإن الشبه التي أوردها منكرو البعثة يمكن إيرادها ههنا
وأجوبتها تعلم من هناك أيضا فلا حاجة بنا إلى إعادتها
ولنتكلم الآن في وجه إعجازه وفي شبه القادحين فيه في فصلين
الفصل الأول في وجه إعجازه
وقد اختلف فيه على مذاهب فقيل هو ما اشتمل عليه من النظم أي التأليف الغريب والأسلوب العجيب المخالف لنظم العرب ونثرهم في مطالعه أي أوائل السور والقصص وغيرها ومقاطعه أي أواخرها وفواصله أي آخر الآي التي هي بزنة الإسجاع في كلامهم
فإن هذه الأمور المذكورة وقعت في القرآن على وجه لم يعهد في كلامهم وكانوا عاجزين عنه وعليه بعض المعتزلة
389

وقيل وجه إعجازه كونه في الدرجة العالية من البلاغة التي لم يعهد مثلها في تراكيبهم وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم
وعليه الجاحظ وأهل العربية
ثم أنهم قالوا في تفسير البلاغة عبارات مختلفة أحسنها قولهم البلاغة التعبير باللفظ الرائع أي المعجب بخلوصه عن معايب المفردات وتأليفاتها واشتماله على منافيها عن المعنى الصحيح أي المناسب للمقام الذي أورد فيه الكلام
بلا زيادة ولا نقصان في البيان والدلالة عليه
وعلى هذا فكلما ازداد شرف الألفاظ ورونق المعاني ومطابقة الدلالة كان الكلام أبلغ وهل رتب البلاغة متناهية اختلفوا فيه
والحق أن الموجود منها متناه لأنها واقعة في تلك الألفاظ الشريفة الدالة على المعاني الصحيحة
ولا شك أن الموجود من تلك الألفاظ في اللغات متناه دون الممكن من مراتبها
فإنه غير متناه إذ لا يتعذر وجود ألفاظ هي أفصح من الألفاظ الواقعة وأشد مطابقة لمعانيها فتكون أعلى رتبة في البلاغة إلى ما لا يتناهى
ثم أصل البلاغة في القرآن متفق عليه لا ينكره من له أدنى تمييز ومعرفة بصياغة الكلام
وأما كونه في الدرجة العالية غير المعتادة
وبهذا القدر يحصل الإعجاز الذي هو مطلوبنا
ولا حاجة بنا في إثبات إعجازه إلى بيان أنه الغاية القصوى فيها أي في المراتب الممكنة من البلاغة فلأن أي وأما كونه في الدرجة العالية الخارجة عن العادة فثابت لأن
من تتبع القرآن من العارفين بالبلاغة وجد فيه فنونها بأسرها من إفادة المعاني الكثيرة باللفظ القليل ومن ضروب التأكيد وأنواع التشبيه والتمثيل أي ضرب المثل وأصناف الاستعارة وحسن المطالع والمقاطع من الكلام وحسن الفواصل
390

والتقديم والتأخير والفصل والوصل اللائق بالمقام وتعريه أي خلوه عن اللفظ الغث أي الركيك والشاذ الخارج عن القياس والشارد النافر عن الاستعمال إلى غير ذلك من أنواع البلاغات بحيث أي وجده مشتمرا على فنون البلاغة بحيث لا يرى المتصفح له أي للقرآن وتراكيبه المميز بين فنون البلاغة نوعا منها أي من تلك الفنون إلا وجده أحسن ما يكون فالقرآن مشتمل على جملتها لم يغادر شيئا منها ولا يقدر أحد من البلغاء الواصلين إلى ذروة البلاغة من العرب العرباء وإن استفرغ وسعه وطاقته في تزيين كلامه إلا على نوع أو نوعين منه أي من المذكور الذي هو فنون البلاغة
وربما لو رام غيره أي غير ذلك النوع لم يواته أي لم يوافقه ولم يتأت له
قال الآمدي إن أفصح فصيح من العرب وأبلغ بليغ من أهل الأدب من أرباب النظم والنثر والخطب غايته الاستيثار بنوع واحد من أنواع البلاغة على وجه لو رام غيره في كلامه لما واتاه وكان فيه مقصرا والقرآن محتو عليها كلها
ومن كان أعرف بالعربية أي لغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن المتفرع على بلاغته
وقال القاضي الباقلاني هو أي وجه إعجازه مجموع لأمرين أي النظم الغريب وكونه في الدرجة العالية من البلاغة
وقيل هو إخباره عن الغيب نحو * (وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) *
أخبر عن غلبة الروم على الفرس فيما بين ثلاث إلى التسع وقد وقع كما أخبر به وذلك كثيرا يعرف بتتبع القرآن وإخباراته عن الأمور المستقبلة الكائنة على وفقها
وقيل وجه إعجازه عدم اختلافه وتناقضه مع ما فيه من الطول
391

والامتداد وتمسكوا في ذلك بقوله تعالى * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *
وقيل إعجازه بالصرفة على معنى أن العرب كانت قادرة على كلام مثل القرآن قبل البعثة لكن الله صرفهم عن معارضته واختلف في كيفية الصرف فقال الأستاذ أبو إسحق منا والنظام من المعتزلة صرفهم الله عنها مع قدرتهم عليها
وذلك بأن صرف دواعيهم إليها مع كونهم مجبولين عليها خصوصا عند توفر الأسباب الداعية في حقهم كالتفريع بالعجز والاستنزال عن الرياسات والتكليف بالانقياد
فهذا الصرف خارق للعادة فيكون معجزا
وقال المرتضى من الشيعة بل صرفهم بأن سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة يعني أن المعارضة والإتيان بمثل القرآن يحتاج إلى علوم يقتدر بها عليها وكانت تلك العلوم حاصلة لهم لكنه تعالى سلبها عنهم فلم يبق لهم قدرة عليها
الفصل الثاني في شبه القادحين في إعجازه والتقصي عنها قالوا أولا وجه الإعجاز يحب أن يكون بينا لمن يستدل به عليه بحيث لا يلحقه ريبة واختلافكم فيه أي في وجه الإعجاز أنه ماذا دليل خفائه فكيف يستدل به على إعجازه ثم قالوا ثانيا ما ذكرتم من الوجوه لا يصلح
392

للإعجاز
أما النظم الغريب فلأنه أمر سهل سيما بعد سماعه فلا يكون موجبا للإعجاز
وأيضا فحماقات مسيلمة على وزنه وأسلوبه ومن حماقته قوله الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل
وأما البلاغة فلوجوه
الأول إذا نظرنا إلى أبلغ خطبة للخطباء
وأبلغ قصيدة للشعراء وقطعنا النظر عن الوزن والنظم المخصوص ثم قسناه إلى أقصر سورة من القرآن
وأنتم تزعمون التحدي بها ويتناولها قوله تعالى * (فأتوا بسورة من مثله) * لم نجد الفرق بينهما في البلاغة بينا بل ربما زعم أن الأفصح معارضتها الذي قيس إليها
ولا بد في المعجز الذي يستدل به على صدق المدعي من ظهور التفاوت بينه وبين ما يقاس إليه إلى حد تنتفي معه الريبة حتى يجزم بصدقه جزما يقينا
الوجه الثاني إن الصحابة اختلفوا في بعض القرآن حتى قال ابن مسعود بأن الفاتحة والمعوذتين ليست من القرآن مع أنها أشهر سوره
ولو كانت بلاغتها بلغت حد الإعجاز لتميزت به عن غير القرآن
فلم يختلفوا في كونها منه
الوجه الثالث إنهم كانوا عند جمع القرآن إذا أتى الواحد إليهم ولم يكن مشهورا عندهم بالعدالة بالآية والآيتين لم يضعوها في المصحف
393

إلا ببينة أو يمين
والتقرير ما مر
وهو أنه لو كانت بلاغتها واصلة إلى حد الإعجاز لعرفوها بذلك ولم يحتاجوا في وضعها في المصحف إلى عدالة ولا إلى بينة أو يمين
الوجه الرابع لكل صناعة مراتب في الكمال بعضها فوق بعض وليس لها حد معين تقف عنده ولا تتجاوزه
ولا بد في كل زمان من فائق قد فاق أبناءها بأن وصل إلى مرتبة من تلك المراتب لم يصل إليها غيره في عصره
وإن أمكن أن يفوقه شخص آخر في عصر آخر فلعل محمدا كان أفصح أهل عصره فأتى بكلام عجز عن مثله أهل زمانه
ولو كان ذلك معجزا لكان ما أتى به كل من فاق أقرانه في صناعة من الصناعات في عصر من الأعصار معجزا
وهو ضروري البطلان
وأما مذهب القاضي فلأن ضم غير المعجز إلى مثله لا يصيره معجزا
وأما الإخبار بالغيب فلوجوه
الأول إنه جائز كرامة للولي
وعلى سبيل الاتفاق أيضا بلا خرق عادة كما في المرة والمرتين إلا أن يتكرر ذلك الإخبار إلى أن يصير خارقا للعادة فيصير حينئذ معجزا ومراتبه أي مراتب التكرر إلى حد الإعجاز غير مضبوطة بعدد معين فكيف يعلم بلوغ القرآن في الإخبار بالغيب مرتبة الإعجاز
الثاني إنه يقع ذلك الإخبار مكررا من المنجمين والكهنة كما دل عليه التسامع والتجربة وليس بمعجز اتفاقا
الثالث إنه يلزم حينئذ أن لا يكون ما خلا عنه أي عن الإخبار بالغيب من القرآن معجزا فيخرج أكثر القرآن عن صفة الإعجاز وهو باطل
وأما عدم الاختلاف والتناقض فيه مع طوله فلوجوه
الأول إن فيه تناقضا لأنه قال * (وما علمناه الشعر) * وفي القرآن ما هو شعر نحو قوله تعالى " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه
394

من حيث لا يحتسب)
فإنه بدون لفظ مخرجا من بحر المتقارب على وزن فعولن فعولن فعولن فعل
ومنه قوله * (وأملي لهم إن كيدي متين) * ونحو قوله * (ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) * فإنه إذا أشبع كسرة الميم في ويخزهم وفتحة النون في مؤمنين كان موزونا بلا شبهة
سيما أي وفي القرآن ما هو شعر لا سيما إذا تصرف فيه بأدنى تغيير فإنه يوجد فيه شيء كثير على أوزان بحور الأشعار
الثاني إن فيه كذبا إذ قال " ما فرطنا في الكتاب من شيء " وقال * (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) * ولا شك أنه لا يشتمل القرآن على أكثر العلوم من المسائل الأصولية والطبيعية والرياضية والطبية
ولا على الحوادث اليومية فلا يكون كلامه هذا مطابقا للواقع
الثالث إن فيه اختلافا بالصحة وعدمها إذ فيه اللحن نحو * (إن هذان لساحران) *
قال عثمان حين عرض عليه المصحف إن فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتهم
الرابع فيه تكرار لفظي بلا فائدة كما في سورة الرحمن
وفيه تكرار معنوي كقصة موسى وعيسى كذلك
وفيه إيضاح الواضح نحو * (تلك عشرة كاملة) * وأي خلل أعظم من الكلام الغير المفيد
الخامس إنه نفى عنه الاختلاف حيث قال * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * في معرض الاحتجاج بعدم الاختلاف فيه على كونه من عند الله ثم أنا نجد فيه اختلافا كثيرا فلا يكون هذا
395

الاحتجاج صحيحا
وإنما قلنا بكثرة الاختلاف فيه لأنه أي الاختلاف إما في اللفظ أو المعنى
والأول إما بتبديل اللفظ أو التركيب أو الزيادة أو النقصان
والكل موجود فيه
أما بتبديل اللفظ فمثل كالصوف المنفوش بدل * (كالعهن) *
ومثل فامضوا إلى ذكر الله بدل * (فاسعوا) *
ومثل فكانت كالحجارة بدل * (فهي كالحجارة) *
ومثل السارقون والسارقات بدل * (والسارق والسارقة) *
وأما تبديل التركيب فنحو " وضربت عليهم المسكنة والذلة " بدل * (الذلة والمسكنة) * ونحو جاءت سكرة الحق بالموت بدل * (الموت بالحق) *
وأما الزيادة والنقصان فنحو * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) * وهو أب لهم
ففي هذه القراءة زيادة
وفي المشهورة نقصان
وكذا الحال في قوله * (له تسع وتسعون) * نعجة أنثى
وأما الاختلاف في المعنى فنحو * (ربنا باعد بين أسفارنا) * بصيغة الأمر ونداء الرب " وربنا باعد بين أسفارنا " بصيغة الماضي ورفع الرب والأول دعاء والثاني خبر
ونحو هل يستطيع ربك بالغيبة وضم الباء
وهل تستطيع ربك بالخطاب وفتح الباء
والأول استخبار عن حال الرب والثاني عن حال عيسى
السادس إنه يوجد عدم الاختلاف في كثير من الخطب والقصائد الطوال بحيث لو تتبعها أبلغ البلغاء لم يعثر فيها على سقطة فضلا عن
396

التناقض والاختلاف
ويظهر ذلك كل الظهور في مقدار قصر سورة تحدى بها كما هو الظاهر من قوله * (فأتوا بسورة من مثله) * فإن هذا المقدار من نظمهم ونثرهم خال عن الاختلاف بلا شبهة فلا يكون عدم الاختلاف موجبا للإعجاز
وأما القول بالصرفة فلوجوه
الأول الإجماع قبل هؤلاء القائلين بها على أن القرآن معجز
وعلى هذا القول يكون المعجز هو الصرف لا القرآن
ألا ترى أنه لو قال أنا أقوم وأنتم لا تقدرون عليه وكان كذلك لم يكن قيامه معجزا بل عجزهم عن القيام فهذه المقالة خارقة لإجماع المسلمين السابقين على أن القرآن معجزة لرسول الله دالة على صدقه
الثاني إنهم لو سلبوا القدرة كما قال به الشريف الرضي لعلموا ذلك من أنفسهم
ولتناطقوا به عادة ولتواتر عنهم
ذلك التناطق لجريان العادة بالتحدث بخوارق العادات لكنه لم يتواتر قطعا
فإن قيل إنما لم يتذاكروه ولم يظهروه لئلا يصير حجة عليهم ملجئة لهم إلى الانقياد مع أنهم كانوا حراصا على إبطال حجته وانتكاس دعوته
فلا يتصور منهم حينئذ إظهار ما علموه من أنفسهم
قلنا إن كان ذلك أي سلب القدرة عنهم موجبا لتصديقه إيجابا قطعيا امتنع عادة تواطؤ الخلق الكثير على مكابرته والإعراض بالكلية عن مقتضاه
وإن لم يكن موجبا لتصديقه بل احتمل السحر وغيره كفعل
397

الجن مثلا لتناطقوا به وحملوه عليه وقالوا قد سلب عنا قدرتنا إما بالسحر وإما بغيره
فلا يلزمهم بإظهاره صيرورته حجة عليهم
الثالث إنه لا يتصور الإعجاز بالصرفة
وذلك لأنهم كانوا حينئذ يعارضونه بما اعتيد منهم من مثل القرآن الصادر عنهم قبل التحدي به بل قبل نزوله
فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به فلهم بعد الصرفة الواقعة بعد التحدي أن يعارضوا القرآن بكلام مثله صادر عنهم قبل الصرفة
والجواب عن الشبهة القادحة في كون القرآن معجزا بسبب الاختلاف في وجه إعجاز أن نقول قولهم اختلافكم في وجه إعجازه دليل الخفاء
قلنا الاختلاف والخفاء وإن وقع في آحاد الوجوه فلا اختلاف بيننا ولا خفاء في أنه أي مجموع القرآن بما فيه من البلاغة والنظم الغريب والإخبار عن الغيب واشتماله على الحكمة البالغة علما وعملا وعلى غيرها مما ذكر في وجه الإعجاز معجز بالنظر
وإنما وقع الخلاف في وجهه لاختلاف الأنظار ومبلغ أصحابها من العلم
وليس إذا لم يكن معجزا بالنظر إلى أحد من وجوه الإعجاز ما بيناه بعينه يلزم أن لا يكون معجزا بجملتها ولا بجملة منها بل ولا بواحد منها لا بعينه لجواز اختلاف الأحكام في هذه الأمور الأربعة
وكأي من بليغ يقدر على النظم أو النثر ولا يقدر على الآخر
ولا يلزم من القدرة على أحدهما القدرة على الجميع
وليس كل ما ثبت لكل واحد يثبت للكل من حيث هو كل ولا لجملة من الأفراد المتعددة كعشرة مثلا
وكذلك قد يختلف حكم الواحد مطلقا ومعينا
فإن الأول قد يكون متعين الثبوت دون الثاني خذ هذا الذي ذكرناه وإنا نختار أنه معجز ببلاغته وأما الشبه القادحة في ذلك فالجواب عن الأولى أن الفرق كان
398

بينا لمن تحدى به من بلغاء عصره
ولذلك لم يعارض
وغيرهم عمي عن ذلك لقصوره في صناعة البلاغة والتميز بين مراتبها فلا اعتداد به ولا مضرة في ذلك لثبوت الإعجاز بمجرد عجز أولئك الأعلام
ثم قياس أقصر سورة إلى أطول خطبة أو قصيدة جور وعدول عن سواء السبيل لأن التحدي بها إنما يكون بما هو على مقدارها المشتمل على مثل بلاغتها لا بما هو أضعافها المشتملة على مثلها كما لا يخفى على ذي مسكة من الإنصاف
وأيضا فيكفينا في إثبات النبوة كون القرآن بجملته أو بسوره الطوال معجزا
وهذا مما لا سترة به
ولذلك قال الوليد بن المغيرة بعد طول محاولته للمعارضة وتوقع الناس ذلك منه عرضت هذا الكلام على خطب الخطباء وشعر الشعراء فلم أجده منها
والجواب عن الثانية أن الآحاد لا تعارض القاطع يريد أن اختلاف الصحابة في بعض سور القرآن مروي بالآحاد المفيدة للظن ومجموع القرآن منقول بالتواتر المفيد لليقين الذي يضمحل الظن في مقابلته
فتلك الآحاد مما لا يلتفت إليه ثم إن سلمنا اختلافهم فيما ذكر قلنا إنهم لم يختلفوا في نزوله على محمد صلى الله عليه وسلم ولا في بلوغه في البلاغة حد الإعجاز بل في مجرد كونه من القرآن وذلك لا يضرنا فيما نحن بصدده
وأما البسملة فالخلاف فيها متحقق بلا شبهة إلا أنه في كونها آية من كل سورة كما هو القول الجديد للشافعي أو من الفاتحة فقط
وفي البواقي كتبت للتيمن كما هو قوله القديم أو كونها آية
399

فردة أنزلت مرة واحدة للفصل بين السور كما اختاره الحنفية لا في كونها من القرآن في أوائل السور إذ لا خلاف فيه
ومن قال به فقد توهم
والجواب عن الثالث أن اختلافهم عند جمع القرآن فيما يأتي به الواحد من آية أو آيتين إنما هو في موضعه من القرآن وفي التقديم والتأخير فيما بينه وبين الآيات الأخر لا في كونه من القرآن وذلك لأن القرآن كله منقول بالتواتر عنه عليه السلام
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب على قراءته في صلاته بالجماعات
فما أتى به الواحد كان متيقنا كونه من القرآن
وطلب البينة أو التحليف إنما كان لأجل الترتيب فلا إشكال
هذا كما مضى ونقول أيضا إن الخبر المحفوف بالقرائن قد يفيد العلم وهو أي العلم بكونه من القرآن هو المدعي
ولا علينا أن نثبت ذلك العلم بالتواتر أو بالقرائن
قلنا أن نختار أن ما أتى به الواحد إنما ثبت كونه من القرآن بالآحاد المنضمة إلى القرائن
ثم نقول لا يضر فيما نحن بصدده عدم إعجاز الآية والآيتين فإن المعجز هو المجموع أو مقدار سورة طويلة أو قصيرة بتمامها وأقلها ثلاث آيات
والجواب عن الرابعة أن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب على أهله ويبلغون فيه الغاية القصوى والدرجة العليا فيقفون فيه أي في ذلك الجنس على الحد المعتاد الذي يمكن للبشر أن يصل إليه حتى إذا شاهدوا ما هو خارج عن حد هذه الصناعة علموا أنه من عند الله ولو لم يكن الحال كذلك لم يتحقق عند القوم معجزة النبي ولظنوا أنهم لو كانوا من أهل تلك الصنعة التي كانت المعجزة من جنسها أو كانوا متناهين فيها لأمكنهم أن يأتوا بمثلها
وذلك كالسحر
400

في زمن موسى عليه السلام
فإنه كان غالبا على أهله وكانوا قد ملكوا ذروة سنامه ولما علم السحرة الكاملون فيه أن حد السحر تخييل وتوهيم لما لا ثبوت له حقيقة ثم رأوا عصاه انقلبت ثعبانا يتلقف سحرهم الذي كانوا يأفكونه أي يقلبونه من الحق الثابت إلى الباطل المتخيل من غير أن يزداد حجمها علموا أنه خارج عن السحر وطوق البشر بل هو معجزة من عند الله فآمنوا به
وأما فرعون فإنه لقصوره في هذه الصناعة يظن أنه كبيرهم الذي علمهم السحر
وكذا الطب في زمن عيسى عليه السلام فإنه كان غالبا في أهله وكانوا قد تناهوا فيه وبعلمهم الكامل في بابه علموا أن إحياء الموتى وإبراء الأكمه أوليس
حد الصناعة الطبية بل هو من عند الله خذ هذا والبلاغة قد بلغت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدرجة العليا وكان بها فخارهم فيما بينهم حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها وكتب السير تشهد بذلك لمن تتبعها فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما تناهوا فيه بما عجز عن مثله جميع البلغاء الكاملين في عصره مع ما ظهر عنهم من كثرة المنازعة والتشاجر وإنكار نبوته حتى أن منهم من مات على كفره ومنهم من أسلم لوضوح نبوة النبي صلى الله عليه وسلم عنده
ومنهم من أسلم على نفرة منه للإسلام ملتزما للصغار أي الذل والهوان كالمنافقين
ومنهم من اشتغل بالمعارضة الركيكة التي هي ضحكة للعقلاء كمعارضة مسيلمة بما مر وبقوله والزارعات زرعا فالحاصدات حصدا والطابخات طبخا فالآكلات أكلا
ومنهم
وهم الأكثرون
من عدل إلى المحاربة والقتال وتعريض النفس والمال والأهل للدمار والهلاك فعلم جواب لما مع الفاء
أي لما أتى بما عجز عنه البلغاء قاطبة وافترقوا من أجله فرقا مختلفة علم أن ذلك من عند الله قطعا
سلمنا أن القرآن أوليس
معجزا ببلاغته لكن لم لا يكون معجزا بالإخبار عن الغيب
وجواب الشبهة الأولى أن يقال حد المعجز منه أي من هذا الإخبار أوليس
مجهولا كما ذكرتم بل هو معلوم تقضي به العادة
وهو أن يكثر كثرة خارجة عن المعتاد المتعارف فيما بين أهل العرف ولا شك أنه قد بلغ الإخبار بالغيب في القرآن ذلك المبلغ الخارق للعادة ولسنا الآن لتفصيله إذ
401

يكفينا العلم به إجماعا
وبه أي بما ذكرناه في جواب هذه الشبهة خرج جواب الشبهتين الأخيرتين
أما عن الثانية فبأن يقال إخبار المنجمين والكهنة لم يبلغ ذلك المبلغ وإخبارهم عن الكسوف والخسوف من باب الحساب الذي قلما يقع الغلط فيه لا من قبيل الإخبار بالغيب
وأما عن الثالثة فبأن يقال يكفينا في إثبات النبوة اشتمال القرآن على ما هو خارق للعادة ولا يضرنا عدم اشتمال بعضه عليه
فإن ذلك البعض أوليس
بمعجز عند هذا القائل
سلمنا أنه لا إعجاز في الإخبار بالغيب لكن لم يجوز أن يكون المعجز ما انتفى عنه الاختلاف
وأما الشبه الموردة عليه فالجواب عن الأولى أن ما في القرآن أوليس
بوزن الشعر إنما يصير إليه بتغير ما من إشباع أو زيادة أو نقصان وإذا غير بشيء من ذلك خرج عن أسلوب القرآن
ثم أن الشعر ما قصد وزنه وتناسب مصاريعه واتحاد رويه
وما ذكروه من القرآن وإن فرض كونه موزونا بلا تغيير أوليس
كذلك فلا يكون شعرا
ألا ترى أن ما يقع من ذلك الموزون في نثر البلغاء اتفاقا أي بلا قصد على الشذوذ لا يعد شعرا ولا قائله شاعرا
ومن قال لغلامه ادخل السوق واشتر اللحم واطبخ لم يعد بهذا القدر الموزون الصادر عنه شاعرا ولا كلامه شعرا
402

ضرورة
والجواب عن الثانية أن المراد بالكتاب المذكور في الآيتين هو اللوح المحفوظ فلا إشكال
أو المراد القرآن
لكن أريد بالعموم الخصوص بما يحتاج إليه في أمر الدين إذ القرآن مشتمل على جميع أصوله
وعن الثالثة إن للتكرار فوائد منها زيادة التقرير والمبالغة في تحقيق المعنى وتصويره
ومنها إظهار القدرة على إيراد المعنى الواحد بعبارات مختلفة في الإيجاز والإطناب
وهو إحدى شعب البلاغة
ومنها أن القصة الواحدة قد تشتمل على أمور كثيرة فتذكر تارة ويقصد بها بعض تلك الأمور قصدا وبعضها تبعا وتعكس أخرى
وأما قوله * (إن هذان لساحران) * فقيل غلط من الكاتب ولم يقرأ به فإن أبا عمرو قرأ إن هذين وزعم أن كاتب المصحف قد غلط في كتابته بالألف
وقيل إبقاء الألف في التثنية والأسماء السنة في الأحوال كلها لغة لقبائل من العرب نحو قوله
(إن أباها وأبا أباها
* قد بلغا في المجد غايتاها) وعلى هذه اللغة قراءة أهل المدينة والعراق في هذا الموضع
وقيل أوليس
إبقاء الألف عاما لما ذكر بل هو مخصوص بهذا أي بلفظ هذا فإنه زيد فيه النون فقط ولم تغير الألف عن حالها كما فعل مثل ذلك في الذين حيث زيد فيه النون على لفظ الذي وأبقى الياء على حالها في الأحوال الثلاث
وذلك لأنه خولف بين تثنية المعرب والمبني في كلمة هذا وبين جمع المعرب والمبني في كلمة الذي
وقيل ضمير الشأن مقدر ههنا أي أنه واللام حينئذ تكون داخلة في الخبر
ولا بأس إذ هي تدخل على خبر المبتدأ وإن كان قليلا إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب العربية مثل ما قيل من أن كلمة أن بمعنى نعم وحال اللام كما مر
وقول عثمان رضي الله عنه إن فيه لحنا
أي في الكتابة وخط المصحف كما يدل عليه نقل القصة
403

وأما قوله * (تلك عشرة كاملة) * فدفع لتوهم غير المقصود ولو بوجه بعيد جدا مثل أن يظن على تقدير تركه أن المراد بالسبعة تمامها أي تمام السبعة
وذلك بأن يضم أربعة أخرى إلى الثلاثة المذكورة فيكون المجموع سبعة
والجواب عن الرابعة أن ما نقل منه آحادا فمردود لأنه مما تتوفر الدواعي إلى نقله فلا بد أن ينقل تواترا
وما نقل منه متواترا فهو مما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف)
فلا يكون الاختلاف اللفظي أو المعنوي الواقع في المنقول المتواتر قادحا في إعجازه بل هو أيضا من صفات كماله
وعن الخامسة إن المراد بالاختلاف المنفي عن القرآن هو الاختلاف في البلاغة بحيث يكون بعضه واصلا حد البلاغة وبعضه قاصرا عنه
فإن الكلام الطويل ولو من أبلغ شخص لا يخلو عن غث وسمين وركيك ومتين عادة والقرآن مع طوله خال عن أمثال ذلك إذ هو بجميع أجزائه متصف بالبلاغة الكاملة وإن تفاوتت أجزاؤه في مراتبها
أو المراد اختلاف أهل الكتاب فيما أخبر عن القصص لعدم ثبوتها عندهم على الوجه الذي يذكر في القرآن إذا كان من عند غير الله
واعلم أن الشبهة الثالثة هي اشتمال القرآن على اللحن
والرابعة اشتماله على تكرار لا فائدة فيه وعلى إيضاح الواضح
والخامسة أنه نفى الاختلاف عنه مع وجوده فيه لفظا ومعنى على ما مر في تقرير الشبه فتأمل
وأما الصرفة فنقول بأن الإعجاز أوليس
بها على التعيين ولكن ندعيها أو كون القرآن معجزا وأيا ما كان يحصل المطلوب أعني إثبات الرسالة بالمعجزة إذ كل منهما معجز خارق للعادة
404

الكلام في سائر المعجزات
أي ما سوى القرآن وهي أنواع
الأول انشقاق القمر على ما دل عليه قوله تعالى * (اقتربت الساعة وانشق القمر) * وهذا متواتر قد رواه جمع كثير من الصحابة كابن مسعود وغيره
قالوا قد انشق القمر شقين متباعدين بحيث كان الجبل بينهما وكان ذلك في مقام التحدي فيكون معجزة
النوع الثاني كلام الجمادات
قال أنس كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ كفا من حصى فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في يد أبي بكر ثم في يد عمر ثم في يد عثمان ثم في أيدينا واحدا بعد واحد فلم تسبح
وقال جعفر بن محمد الصادق عن أبيه الباقر الذي أدرك جمعا من الصحابة منهم جابر أنه مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل عليه السلام بطبق فيه رمان وعنب فسبح ذلك العنب والرمان على ذلك الطبق حين ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم منه
ولما دعا للعباس وأهله أمن له أسكفة الباب وحيطان البيت
وذلك أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للعباس (يا أبا الفضل الزم منزلك غدا أنت وبنوك إن لي فيكم حاجة)
فصبحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (تقاربوا فزحف بعضهم إلى بعض فاشتمل عليهم بملاءة وقال اللهم هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء من أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم)
فقالت عتبة الباب وجدران البيت آمين آمين
405

ولما طلب الأعرابي منه الشاهد على نبوته دعا الشجرة قال ابن عمر كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا قال له النبي صلى الله عليه وسلم أين تريد قال إلى أهلي
ثم قال له هل لك من خير قال وما هو قال تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله
فقال له الأعرابي هل لك من شاهد قال أجل هذه الشجرة
فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على شط الوادي فأقبلت تخد الأرض أي تشقها خدا حتى قامت بين يديه وشهدت له بالنبوة ورجعت إلى منبتها وآمن الأعرابي
وكلام الذراع المسمومة مشهور
والنبي صلى الله عليه وسلم قد عفا عن اليهودية التي سمت تلك الشاة المصلية حتى اعترفت وقالت سممتها وقلت إن كان نبيا لم تضره
وإن كان غيره استرحنا منه
وقيل لما مات بعض أصحابه بذلك السم أمر بقلتها
النوع الثالث كلام الحيوانات العجم
شهد له الذئب بالنبوة
فإن أبا سعيد الخدري رضي الله روى أن راعيا كان يرعى غنما له بالحرة فوثب ذئب إلى شاة فاختطفها فحال الراعي بين الذئب والشاة واسترجعها فأقعى الذئب على ذنبه وقال للراعي أما تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي فقال الراعي العجب من ذئب يكلمني بكلام الناس فقال الذئب ألا أحدثك بأعجب من ذلك هذا رسول الله يحدث الناس بأنباء ما قد سبق
فأخذ الراعي الشاة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال صدق
406

إن من اقتراب الساعة كلام السباع
وقد روى أبو هريرة هذا المعنى بعبارة أخرى
والظبية التي ربطها الأعرابي سألته الإطلاق لترضع خشفيها وضمنت الرجوع فرجعت ثم سأل الأعرابي أن يطلقها
فإن أم سلمة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الصحراء فناداه مناد مرتين يا رسول الله فالتفت فإذا ظبية موثقة عند أعرابي نائم فقالت إدن مني يا رسول الله
فقال ما حاجتك فقالت إن هذا الأعرابي صادني ولي خشفان في هذا الجبل فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع
فقال أتفعلين ذلك قالت إن لم أفعل ذلك يعذبني الله عذاب العشار
فأطلقها فذهبت وأرضعت ورجعت فأوثقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتبه الأعرابي من نومه وقال يا رسول الله ألك حاجة قال نعم تطلق هذه الظبية فأطلقها فانطلقت وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وشهدت الناقة ببراءة صاحبها من السرقة فإنه روي أن أعرابيا جاء على ناقة حمراء فأناخها على باب المسجد ودخل وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وقعد فقال جماعة يا رسول الله الناقة التي تحت الأعرابي سرقة
فقال ألكم بينة قالوا نعم
فقال صلى الله عليه وسلم يا علي خذ حق الله من الأعرابي إن قامت عليه البينة وإن لم تقم فردوه إلي
فأطرق الأعرابي فقال له النبي قم لأمر الله وإلا فادل بحجتك
فقالت الناقة من خلف الباب والذي بعثك بالكرامة يا رسول الله إن هذا ما سرقني وما ملكني أحد سواه
407

ولكل من هذه المذكورات قصة في كتب السير كما أومأنا إليها
النوع الرابع حركة الجمادات إليه منها قصة الشجرة التي كانت على شط الوادي على ما مرت
فإنها تشتمل على كلام الجمادات وعلى حركتها أيضا
ففيها معجزتان
ومنها ما روى ابن عباس رضي الله عنهما من أنه صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي جاءه وقال بم أعرف أنك رسول الله أرأيت لو دعوت هذا العزق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله فقال نعم فدعاه فجاءه ثم قال ارجع فرجع
وحنين الجذع إليه لما فارقه وصعد المنبر مشهور وكان الجذع مال إليه حال حنينه ليدخل تحت حركات الجمادات آبى إليه
النوع الخامس إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل وذلك في صور متعددة منها ما روى أنس من أن أمه أرسلت حيسا في تور إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا جماعة زهاء ثلاثمائة وقرأ على التور ما شاء الله أن يقرأ وكانوا يتناوبون عليه حتى شبعوا والتور على حاله
النوع السادس نبوع الماء من بين أصابعه
رواه أنس رضي الله فإنه قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح زجاج وفيه ماء قليل وهو بقباء فوضع يده فيه فلم تدخل فأدخل أصابعه الأربعة ولم يستطع إدخال الإبهام وقال للناس هلموا إلى الشراب
قال أنس فلقد رأيت الماء وهو ينبع من بين أصابعه ولم يزل الناس يردون حتى رووا
وروى أن عدد الواردين كان من بين السبعين إلى الثمانين
النوع السابع إخباره بالغيب فمنه ما ورد به القرآن ومنه ما نطق به
408

الأحاديث الصحيحة
فمن ذلك إخباره بأن زينب أول من يموت بعده من أزواجه وكان كما أخبر
ومنه إخباره عن خلافة الخلفاء الراشدين بقوله الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا
وإخباره عن مقتل الحسن والحسين وهدم الكعبة ورجوع الأمر إلى بني العباس وعلى الاستيلاء عن مملكة الأكاسرة إلى غير ذلك من إخباراته التي ظهر صدقها
ومن بحث عن هذا الجنس وجده كثيرا لا يحصى
ثم نقول كل واحدة من هذه المعجزات المغايرة للقرآن وإن لم تتواتر فالقدر المشترك بينها وهو ثبوت المعجزة متواترا بلا شبهة كشجاعة علي وسخاوة حاتم وهو كاف لنا في إثبات النبوة
المسلك الثاني من مسالك إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم وقد ارتضاه الجاحظ من المعتزلة وارتضاه أيضا الغزالي قدس سره في كتابه المسمى بالمنقذ من الضلال الاستدلال بأحواله قبل النبوة وحال الدعوة وبعد تمامها
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يكذب قط لا في مهمات الدين ولا في مهمات الدنيا
ولو كذب مرة لاجتهد أعداؤه في تشهيره ولم يقدم على فعل قبيح لا قبل النبوة ولا بعدها
وكان في غاية الفصاحة كما قال (أوتيت جوامع الكلم)
وقد تحمل في تبليغ الرسالة أنواع المشقات وصبر عليها بلا فتور في عزيمته
ولما استولى على الأعداء وبلغ الرتبة الرفيعة في نفاذ أمره في الأموال والأنفس لم يتغير عما كان عليه بل بقي من أول عمره إلى آخره على طريقة واحدة مرضية
وأخلاقه العظيمة
فإنه صلى الله عليه وسلم كان في غاية الشفقة على أمته حتى خوطب بقوله تعالى * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) *
409

وقوله تعالى * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) * وفي غاية السخاوة حتى عوتب بقوله * (ولا تبسطها كل البسط) * وكان عديم الالتفات إلى زخارف الدنيا حتى أن قريشا عرضوا عليه المال والزوجة والرياسة حتى يترك دعواه فلم يلتفت إليهم وكان مع الفقراء والمساكين في غاية التواضع ومع الأغنياء وأرباب الثروة في غاية الترفع
وأحكامه الحكيمة التي فصلت في الكتب الفقهية وإقدامه حيث يحجم الأبطال فإنه صلى الله عليه وسلم لم يفر قط من أعدائه وإن عظم الخوف مثل يوم أحد ويوم الأحزاب وذلك يدل على قوة قلبه وشهامة جنانه ولولا ثقته بعصمة الله إياه من الناس كما وعدها بقوله * (والله يعصمك من الناس) * لامتنع ذلك عادة
وأنه عطف على أقدامه المندرج في المحذورات الداخلية في حيز الاستدلال
أي وبأنه لم يتلون حاله وقد تلونت به الأحوال ثم بين قوله بأحواله وما عطف عليه بقوله من أمور من تتبعها علم أن كل واحد منها وإن كان لا يدل على نبوته لأن امتياز شخص بمزيد فضيلة عن سائر الأشخاص لا يدل على كونه نبيا
لكن مجموعها مما لا يحصل إلا للأنبياء قطعا
فاجتماع هذه الصفات في ذاته صلى الله عليه وسلم من أعظم الدلائل على نبوته وعلى ما قررناه فلا يرد ما يحكى من أفاضل الحكماء من الأخلاق العجيبة التي جعلها الناس قدوة لأحوالهم في الدنيا والآخرة
المسلك الثالث من تلك المسالك إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل
فإن قيل إن زعمتم مجيء صفته مفصلا أنه يجيء في السنة الفلانية في البلدة الفلانية وصفته كيت وكيت فاعلموا أنه نبي فباطل
لأنا نجد
410

التوراة والإنجيل خاليين عن ذلك
وأما ذكره مجملا فإن سلم فلا يدل على النبوة بل على ظهور إنسان كامل فلا يجديكم نفعا
أو نقول على تقدير تسليم دلالته على النبوة لعله شخص آخر لم يظهر بعد
فلا يثبت مدعاكم
قلنا المعتمد في إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم كما مر ظهور المعجزة على يده
وهذه الوجوه الأخر للتكملة وزيادة التقرير
المسلك الرابع وارتضاه الإمام الرازي أنه صلى الله عليه وسلم ادعى بين قوم لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم بل كانوا معرضين عن الحق معتكفين إما على عبادة الأوثان كمشركي العرب وإما على دين التشبيه وصنعة التزوير وترويج الأكاذيب المفتريات كاليهود
وأما على عبادة الألهين ونكاح المحارم كالمجوس وإما على القول بالأب والابن والتثليث كالنصارى
إني بعثت من عند الله بالكتاب المنير والحكمة الباهرة لأتمم مكارم الأخلاق وأكمل الناس في قوتهم العلمية بالعقائد الحقة والعملية بالأعمال الصالحة وأنور العالم بالإيمان والعمل الصالح ففعل ذلك وأظهر دينه على الدين كله كما وعده الله فاضمحلت تلك الأديان الزائفة وزالت المقالات الفاسدة وأشرقت شموس التوحيد وأقمار التنزيه في أقطار الآفاق
ولا معنى للنبوة إلا ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يكمل النفوس البشرية ويعالج الأمراض القلبية التي هي غالبة على أكثر النفوس فلا بد لهم من طبيب يعالجهم
ولما كان تأثير دعوة محمد صلى الله عليه وسلم في علاج القلوب المريضة وإزالة ظلماتها أكمل وأتم وجب القطع بكونه نبيا هو أفضل الأنبياء والرسل
قال الإمام الرازي في المطالب العالية وهذا برهان ظاهر من باب
411

برهان اللم
فإنا بحثنا عن حقيقة النبوة وبينا أن تلك الماهية لم تحصل لأحد كما حصلت له صلى الله عليه وسلم فيكون أفضل ممن عداه
وأما إثباتها بالمعجزة فمن باب برهان الآن
قال المصنف وهذا المسلك قريب من مسلك الحكماء إذ حاصله أن الناس في معاشهم ومعادهم محتاجون إلى مؤيد من عند الله يضع لهم قانونا يسعدهم في الدارين
واعلم أن المنكرين لبعثته صلى الله عليه وسلم خاصة قومان
أحدهما القادحون في معجزته كالنصارى
وقد مر ما فيه كفاية لدفع مقالتهم
وثانيهما اليهود إلا العيسوية منهم فإنهم سلموا بعثته لكن إلى العرب خاصة لا إلى الخلق كافة
واحتجوا أي اليهود المنكرون بوجهين
الأول أن نبوته تقتضي نسخ دين من قبله إذ قد خالفهم في كثير من الأحكام الشرعية العملية باتفاق منكم
لكن النسخ أمر محال
لأنه يدل إما على الجهل أو البداء
وكلاهما محال على الله تعالى
بيانه أنه لا بد أن يكون الحكم الصادر عنه تعالى مشتملا على مصلحة لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح
وحينئذ لو كان فيه أي في الحكم المنسوخ مصلحة لا يعلمها أي لا يعلم فواتها بنسخه فلذلك نسخه
فالجهل وإن كان يعلمها فرأى رعايتها أولا ثم أهملها بلا سبب ثانيا فالبداء أي الندم عما كان يفعل
412

والجواب إنه لا يجب رعاية المصلحة في الأحكام عندنا فلا يلزم اشتمال الحكم المنسوخ على مصلحة
وإن وجب أن تراعى المصالح في الأحكام فربما حدثت مصلحة لم تكن حاصلة قبل
فإن المصالح تختلف بحسب الأوقات كشرب الدواء الخاص في وقت دون وقت فربما كانت المصلحة في وقت ثبوت الحكم لاشتماله فيه على ما يجب رعايته وفي وقت آخر ارتفاعه لاشتماله فيه على مصلحة أخرى حادثة بعد زوال الأولى أو مرجوحيتها مقيسة إلى الثانية فلا يلزم ما ذكرتم من الجهل أو البداء
وكيف لا يجوز ما ذكرناه والمحكوم عليه هنا أي في نسخ شرائع من قبلنا بشريعتنا أوليس
بمتحد إذ تلك لأقوام آخرين وهذه لنا
ولك أن تحمل المحكوم عليه ههنا على الفعل
فإن ما يتعلق به الحكم الناسخ من الأفعال مغاير لما تعلق به الحكم المنسوخ
وحينئذ يجوز النسخ في الأحكام المتعلقة بأفعال شخص واحد
الثاني من الوجهين أن موسى عليه السلام نفى نسخ دينه
ولا بد من الاعتراف بصدقه لكونه نبيا بالاتفاق
وحينئذ لا يصح نبوة من يدعي نسخه وهو المطلوب
بيانه أي بيان أنه نفى نسخ دينه أنه تواتر عنه قوله تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض
وإذا ثبت دوام السبت وامتناع نسخه ثبت امتناعه في سائر أحكامه
بل نقول المراد بدوامه دوام اليهودية كما يتبادر إليه الفهم
وأيضا فإنه إما أن يكون موسى قد صرح بدوام دينه أو بعدم دوامه أو سكت عنهما
والأخيران باطلان
أما الثاني وهو تصريحه بعدم دوامه فلأنه لو قال ذلك وصرح به لتواتر عنه قطعا لكونه من الأمور
413

العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وإشاعتها سيما من الأعداء ومن يدعي نسخ دينه
وذلك لأنه أقوى حجة له أي لمن يدعيه فيه أي في جواز نسخه
فلا بد أن تتوفر دواعيه على نقله لكنه لم يتواتر إجماعا
وأما الثالث وهو سكوته عنهما فلأنه يقتضي ثبوت دينه مرة واحدة وعدم تكرره لأن مقتضى الإطلاق يتحقق بالمرة الواحدة
وأنه معلوم الانتفاء لتقرره إلى أوان النسخ إما بشريعة عيسى أو بشريعة محمد باتفاق بيننا وبينكم
والجواب منع تواتر ذلك أي دوام السبت من موسى عليه السلام
ولو كان كذلك أي متواترا كما زعمتم لاحتج به على محمد
ولو احتج به عليه لنقل ذلك الاحتجاج متواترا لتوفر الدواعي على نقله
ولا تواتر أصلا
كيف وقد اشتهر أنه اختلقه ابن الراوندي لليهود
وأما الترديد فنختار منه أنه صرح بدوامه إلى ظهور الناسخ على لسان نبي يأتي من بعده
وإنما لم ينقل ذلك تواترا إما لقلة الدواعي منهم إلى نقله لما فيه من الحجة عليهم لا لهم
وإما لقلة الناقلين في بعض الطبقات المعتبرة كثرتها في التواتر
لأن اليهود جرت لهم وقائع ردتهم إلى أقل القليل ممن لا يحصل التواتر بنقله
كما في زمن بختنصر فإنه قتلهم وأفناهم إلا من شذ منهم
وأما العيسوية من اليهود فطريق الرد عليهم أنه لما سلموا صحة نبوته بالأدلة القاطعة والمعجزات الباهرة وجب عليهم أن يعترفوا بما تواتر عنه من دعواه البعثة إلى الأمم كافة لا إلى العرب خاصة
فإنه قد علم ذلك منه كما علم وجوده ودعواه الرسالة
414

المقصد الخامس في عصمة الأنبياء
أجمع أهل الملل والشرائع على عصمتهم عن تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله
وفي جواز صدوره عنهم على سبيل السهو والنسيان خلاف
فمنعه الأستاذ وكثير من الأئمة لدلالة المعجزة على صدقهم
وجوزه القاضي مصيرا منه إلى عدم دخوله في التصديق المقصود بالمعجزة
وأما سائر الذنوب فهي إما كفر أو غيره
أما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم منه غير أن الأزارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب وكل ذنب عندهم كفر
وجوز الشيعة إظهاره تقية
وذلك يفضي إلى إخفاء الدعوة إذ أولى الأوقات بالتقية وقت الدعوة للضعف وكثرة المخالفين
وأما غير الكفر فإما كبائر أو صغائر
كل منهما إما عمدا وإما سهوا
أما الكبائر عمدا فمنعه الجمهور
والأكثر على امتناعه سمعا
وقالت المعتزلة بناء على أصولهم يمتنع ذلك عقلا
وأما سهوا فجوزه الأكثرون
وأما الصغائر عمدا فجوزه الجمهور إلا الجبائي
وأما سهوا فهو جائز اتفاقا إلا الصغائر الخسية كسرقة حبة أو لقمة
وقال الجاحظ بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه وقد تبعه فيه كثير
415

من المتأخرين
وبه نقول هذا كله بعد الوحي
وأما قبله فقال الجمهور لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة إذ لا دلالة للمعجزة عليه ولا حكم للعقل
وقال أكثر المعتزلة تمتنع الكبيرة وإن تاب منها لأنه يوجب النفرة وهي تمنع عن أتباعه فتفوت مصلحة البعثة
ومنهم من منع عما ينفر مطلقا كعهر الأمهات والفجور في الآباء والصغائر الخسية دون غيرها
وقالت الروافض لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة فكيف بعد الوحي لنا وجوه
الأول لو صدر منهم الذنب لحرم اتباعهم
وأنه واجب للإجماع ولقوله تعالى * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) *
الثاني لو أذنبوا لردت شهادتهم
إذ لا شهادة لفاسق بالإجماع ولقوله تعالى * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) * واللازم باطل بالإجماع
ولأن من لا تقبل شهادته في القليل من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيم إلى يوم القيامة
الثالث إن صدر عنهم وجب زجرهم لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وإيذاؤهم حرام إجماعا ولقوله * (إن الذين يؤذون الله ورسوله) * الآية
ولدخلوا تحت * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) *
وقوله * (ألا لعنة الله على الظالمين) * وقوله لوما ومذمة
416

* (لم تقولون ما لا تفعلون) * و * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) *
الرابع ولكانوا أسوأ حالا من عصاة الأمة إذ يضاعف لهم العذاب إذ الأعلى رتبة يستحق أشد العذاب لمقابلته أعظم النعم بالمعصية
ولذلك ضوعف حد الحر
وقيل لنساء النبي * (لستن كأحد من النساء) * * (من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب) *
الخامس ولم ينالوا عهده تعالى لقوله * (لا ينال عهدي الظالمين) * وأي عهد أعظم من النبوة
السادس ولكانوا غير مخلصين لأن الذنب بإغواء الشيطان وهو لا يغوي المخلصين لقوله تعالى * (ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) *
واللازم باطل لقوله تعالى في حق إبراهيم وإسحق ويعقوب * (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) *
وفي يوسف * (إنه من عبادنا المخلصين) *
السابع قوله تعالى * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) * فالذين لم يتبعوه إن كانوا هم الأنبياء فذاك
وإلا فالأنبياء بالطريق الأولى
أو نقول لو كان ذلك الفريق غير الأنبياء لكانوا أفضل من الأنبياء لقوله تعالى * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) *
417

الثامن أنه تعالى قسم المكلفين إلى حزب الله وحزب الشيطان
فلو أذنبوا لكانوا من حزب الشيطان فيكونون خاسرين لقوله تعالى * (ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) *
التاسع قوله تعالى في حق إبراهيم وإسحق ويعقوب * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) *
والجمع المحلى بالألف واللام للعموم
وقوله * (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) * وهما يتناولان جميع الأفعال والتروك لصحة الاستثناء
فهذه حجج العصمة
وأنت تعلم أن دلالتها في محل النزاع وهي عصمتهم عن الكبيرة سهوا وعن الصغيرة عمدا ليست بالقوية
واحتج المخالف بقصص الأنبياء توهم صدور الذنب عنهم
والجواب إجمالا إن ما كان منها منقولا بالآحاد وجب ردها
لأن نسبة الخطأ إلى الرواة أهون من نسبة المعاصي إلى الأنبياء
وما ثبت منها تواترا فما دام له محمل آخر حملناه عليه ونصرفه عن ظاهره لدلائل العصمة وما لم نجد له محيصا حملناه على أنه كان قبل البعثة أو من قبيل ترك الأولى أو صغائر صدرت عنهم سهوا ولا ينفيه تسميته ذنبا ولا الاستغفار منه ولا الاعتراف بكونه ظلما منهم
إذ لعل ذلك لعظمه عندهم
أو إن قصدوا به هضما من أنفسهم
ومن جوز الصغائر عمدا فله زيادة فسحة
ولنفضل ما أجملناه تفصيلا
فمنه قصة آدم عليه السلام وتفيهقوا في التمسك بها من ستة أوجه
الأول قوله تعالى * (وعصى آدم ربه) * مؤكدا بقوله * (فغوى) *
الثاني قوله تعالى * (فتاب عليه) * ولن تكون التوبة إلا عن الذنب
الثالث مخالفته النهي عن أكل الشجرة
418

الرابع قوله تعالى * (فتكونا من الظالمين) *
الخامس قوله تعالى * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) *
السادس قوله * (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) *
قلنا كيف يدعي أنه في الجنة ولا أمة له كان نبيا وهل كان الاجتباء بالنبوة إلا بعد تلك القصة وهل الوقيعة في الأنبياء بمثل هذا الظاهر دفعه إلا للعمه والجهل المفرط
وقد يتمسك في ذنبه بقوله تعالى * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا) * الآية
والجواب أن أكثر المفسرين على أن الخطاب لقريش
والنفس الواحدة قصي وجعل منها زوجها أي جعلها عربية من جنسه وإشراكهما تسميتهما أبناءهما بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي
فليس الضمير في جعلا لآدم وحواء
وإن صح أنه لآدم فأين الدليل على الشرك في الألوهية ولعله هو الميل إلى طاعة الشيطان وقبول وسوسته مع الرجوع عنه إلى الله تعالى
وذلك غير داخل تحت الاختيار أو لعله قبل النبوة
ومنه قصة إبراهيم عليه السلام وأظهر ما يوهم الذنب أمران
الأول قوله * (هذا ربي) * ولا يخفى أنه صدر عنه قبل تمام النظر في معرفة الله
وكم بينه وبين النبوة
الثاني قوله * (رب أرني كيف تحيي الموتى) *
والشك في
419

قدرة الله كفر
وفي الآية تصريح بأنه طلبه لأن في عين اليقين من الطمأنينة ما أوليس
في علم اليقين
فإن للوهم بإحداث الوساوس والدغادغ سلطانا على القلب عند علم اليقين دون عين اليقين
هذا وقد قال ابن عباس كان الله وعد أن يبعث نبيا يحيي بدعائه الموتى فأراد أن يعلم أهو هو كيف والشك في قدرة الله تعالى كفر وأنتم لا تقولون به
ومنه قصة موسى عليه السلام والتمسك بها من وجوه
الأول قوله * (فوكزه موسى فقضى عليه) * ولم يكن قتله بحق لقوله * (هذا من عمل الشيطان) * وقوله * (رب إني ظلمت نفسي) * وقوله * (فعلتها إذا وأنا من الضالين) *
الجواب إنه كان قبل النبوة
الثاني أنه أذن لهم في إظهار السحر لقوله * (ألقوا ما أنتم ملقون) *
الجواب أنه لم يكن حراما حينئذ أو علم أنهم يلقون أذن لهم أم لا بدليل * (ما أنتم ملقون) *
أو أراد إظهار معجزته
ولا يتم إلا بذلك فكان واجبا
أو أراد إن كنتم محقين نحو * (فأتوا بسورة من مثله) * إلى قوله * (إن كنتم صادقين) *
الثالث * (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه) *
وهارون كان نبيا فإن كان له ذنب فذاك هو المطلوب
وإلا فإيذاؤه ذنب
الجواب لم يكن ذلك على سبيل الإيذاء بل كان يدنيه إلى نفسه
420

ليتفحص منه حقيقة الحال فخاف هارون أن يعتقد بنو إسرائيل خلافه لسوء ظنهم بموسى
الرابع قوله للخضر * (لقد جئت شيئا إمرا) * و * (شيئا نكرا) * قلنا من حيث الظاهر
أو أراد عجبا وفعل الخضر لم يكن منكرا
ومنه قصة داوود
مختلفة مختلقة للحشوية
إذ لا يليق إدخال الذم الشنيع في أثناء المدائح العظام
بل تسور قوم قصره للإيقاع به
فلما رأوه مستيقظا اخترع أحدهم الخصومة
ونسبة الكذب إلى اللصوص أولى من نسبته إلى الملائكة
ومنه قصة سليمان من وجهين
الأول * (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد) * الآية
الجواب لا دلالة فيه على فوت الصلاة
مع أنه إذا كان فوتها بالنسيان لم يكن ذنبا
وقوله * (أحببت حب الخير) * مبالغة في الحب
و * (عن ذكر ربي) * أي بسببه لا بالهوى لأن رباط الخيل بأمره
و * (فطفق مسحا) * معناه يمسح رؤوسها وأعناقها إكراما لها وحمله على قطعها ضعيف إذ لا دلالة للفظ عليه
ورجوع ضمير توارت إلى الشمس أبعد المحتملين
الثاني * (ولقد فتنا سليمان) *
421

الجواب النبي صلى الله عليه وسلم قال سليمان أطوف الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة ولدا يقاتل في سبيل الله فلم تحمل إلا واحدة فولدت نصف غلام فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه بين يديه
ولو أنه قال إن شاء الله كان كما قال
فالإبتلاء إنما كان لترك الاستثناء
وقيل مرض حتى صار كجسد بلا روح
وقيل ولد له ولد فخاف الشياطين أن تهلكه فأمر السحاب أن يحمله وأمر الريح أن تحمل إليه غذاءه فمات فألقي على كرسيه
الثالث قوله * (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * حسد
الجواب معجز كل نبي من جنس ما يفتخر به أهل زمانه وكان هو الملك
أو أراد أن ملك الدنيا موروث فطلب ملك الدين
أو أراد الملك العظيم مع القناعة
ومنه قصة يونس
والجواب لعل غضبه كان على قوم كفرة * (فظن أن لن نقدر عليه) * أي لن نضيق عليه
و * (إني كنت من الظالمين) * أي لنفسي بترك الأولى
و * (ولا تكن كصاحب الحوت) * أي في قلة الصبر
ومنه قصة نبينا صلى الله عليه وسلم
والاحتجاج بها من وجوه
الأول * (ووجدك ضالا فهدى) *
الجواب إنه قبل النبوة
أو ضالا في أمور الدنيا لقوله * (ما ضل صاحبكم وما غوى) *
الثاني ما روي أنه قرأ بعد قوله * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) * تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى
فأتاه جبريل
422

وقال تلوت على الناس ما لم أتله عليك
فنزل * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * الخ
الجواب إنه من إلقاء الشيطان
وإلا كان ذلك كفرا
وأيضا ربما كان قرآنا وتكون الإشارة إلى الملائكة فنسخ تلاوته للإيهام
أو المراد ما يتمناه بوسوسة الشيطان
أو هو استفهام إنكار
الثالث قصة زيد وزينب
الجواب إنه بأمر الله تعالى لنسخ ما كان في الجاهلية من تحريم أزواج الأدعياء
وإنما أخفى في نفسه ذلك خوفا من طعن المنافقين
فقيل له * (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) * وقيل كانت ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم وطمعت أن يتزوجها النبي فنشزت على زيد فطلقها
وما يقال إنه أحبها فمما يجب صيانة النبي عن مثله
وإن صح فميل القلب غير مقدور
وفيه ابتلاء الزوج بتطليقها والنبي بالمبالغة في حفظ النظر حذرا عن الخيانة في الوحي أو التعرض للطعن
الرابع * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) * إلى قوله * (عذاب عظيم) *
الجواب إنه عتاب على ترك الأولى فإن التحريم مستفاد من هذه الآية
الخامس * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * والعفو إنما يكون عن الذنب
الجواب إنه تلطف في الخطاب
وإلا فلا عتاب بعد العفو
وقلنا ذلك بترك الأولى فيما يتعلق بالمصالح الدنيوية
السادس * (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك) *
423

الجواب قبل النبوة أو ترك الأولى أو للثقل الذي كان عليه من الغم لإصرار قومه
السابع قوله * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *
* (واستغفر لذنبك) * و * (لقد تاب الله على النبي) *
الجواب إنه قبل النبوة
وحمله على ما تقدم النبوة وما تأخر عنها لا دلالة للفظ عليه
أو ترك الأولى
أو نسب إليه ذنب قومه
وأما ما يقال إن المصدر مضاف إلى المفعول
فالمعنى ذنب قومك إليك
فلا يخفى ضعفه
فإن ذلك في المصادر المتعدية
الثامن قوله * (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) *
الجواب إنه ترك الأولى مما يليق بخلقه العظيم
التاسع * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) *
الجواب النهي لا يدل على الوقوع
العاشر * (يا أيها النبي اتق الله) * * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) *
الجواب ما مر مع أن الأمر والنهي من أقوى أسباب العصمة
الحادي عشر * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * الجواب الشرطية لا تقتضي تحقق الطرفين
أو المراد الشرك الخفي وهو الالتفات إلى الناس
أو المراد بالخطاب غيره
424

قال ابن عباس رضي الله عنهما نزل القرآن على إياك أعني فاسمعي يا جارة
الثاني عشر " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك
لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين "
الجواب شرطية
والفائدة في الرجوع إلى أهل الكتاب زيادة قوته وطمأنينته أو لمعرفة كيفية نبوة سائر الأنبياء
واعلم أنا إنما طولنا في مثل هذا ليعلم أن مسألة نسيان الأنبياء وتعمدهم الصغائر لا قاطع فيه نفيا
أو إثباتا مع قيام الاحتمال العقلي
إذ لو فرض نقيضه لم يلزم منه محال لذاته
وظهور المعجزة على يده لا دليل فيه على ذلك
الشرح
المقصد الخامس في عصمة الأنبياء
أجمع أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمتهم عن تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله إلى الخلائق
إذ لو جاز عليهم التقول والافتراء في ذلك عقلا لأدى إلى إبطال دلالة المعجزة
وهو محال
وفي جواز صدوره أي صدور الكذب عنهم فيما ذكر على سبيل السهو والنسيان خلاف
فمنعه الأستاذ أبو إسحق وكثير من الأئمة الأعلام لدلالة المعجزة على صدقهم في تبليغ الأحكام
فلو جاز الخلف في ذلك لكان نقضا لدلالة المعجزة وهو ممتنع
وجوزه القاضي أبو بكر مصيرا منه إلى عدم دخوله في التصديق المقصود بالمعجزة
فإن المعجزة إنما دلت على صدقه فيما هو متذكر له عامد إليه
وأما ما كان من النسيان وفلتات اللسان فلا دلالة لها على الصدق فيه
فلا يلزم من الكذب هناك
425

نقض لدلالتها
وأما سائر الذنوب يعني به ما سوى الكذب في التبليغ فهي إما كفر أو غيره من المعاصي
وأما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها
ولا خلاف لأحد منهم في ذلك غير أن الأزارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب
وكل ذنب عندهم كفر فلزمهم تجويز الكفر بل يحكى عنهم أنهم قالوا بجواز بعثة نبي علم الله تعالى أنه يكفر بعد نبوته
وجوز الشيعة إظهاره أي إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك
لأن إظهار الإسلام حينئذ إلقاء للنفس في التهلكة
وذلك باطل قطعا لأنه يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلية وترك تبليغ الرسالة إذ أولى الأوقات بالتقية وقت الدعوة للضعف بسبب قلة الموافق أو عدمه وكثرة المخالفين
وأيضا ما ذكروه منقوض بدعوة إبراهيم وموسى عليهما السلام في زمن نمرود وفرعون مع شدة خوف الهلاك
وأما غير الكفر فإما كبائر أو صغائر
وكل منهما إما أن يصدر عمدا وإما أن يصدر سهوا
فالأقسام أربعة وكل واحد منها إما قبل البعثة أو بعدها
أما الكبائر أي صدورها عنهم عمدا فمنعه الجمهور من المحققين والأئمة
ولم يخالف فيه إلا الحشوية
والأكثر من المانعين على امتناعه سمعا
قال القاضي والمحققون من الأشاعرة أن العصمة فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلا إذ لا دلالة للمعجزة عليه فامتناع الكبائر عنهم عمدا مستفاد من السمع وإجماع الأمة قبل ظهور المخالفين في ذلك
وقالت المعتزلة بناء على أصولهم الفاسدة في التحسين والتقبيح العقليين ووجوب رعاية الصلاح والأصلح يمتنع ذلك عقلا لأن صدور الكبائر عنهم عمدا يوجب سقوط هيبتهم عن القلوب وانحطاط رتبتهم
426

في أعين الناس فيؤدي إلى النفرة عنهم وعدم الانقياد لهم
ويلزم منه إفساد الخلائق وترك استصلاحهم
وهو خلاف مقتضى العقل والحكمة
وأما صدورها عنهم سهوا أو على سبيل الخطأ في التأويل فجوزه الأكثرون والمختار خلافه
وأما الصغائر عمدا فجوزه الجمهور إلا الجبائي فإنه ذهب إلى أنه لا يجوز صدور الصغيرة إلا بطريق السهو أو الخطأ في التأويل
وهذا التجويز منهم إنما هو فيما أوليس
من صغائر الخسة كما ستعرفه
وأما صدور الصغائر سهو فهو جائز اتفاقا بين أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة إلا الصغائر الخسية وهي ما تلحق فاعلها بالأراذل والسفل والحكم عليه بالخسة ودناءة الهمة كسرقة حبة أو لقمة فإنها لا تجوز أصلا لا عمدا ولا سهوا
والاتفاق المذكور إنما هو فيما أوليس
منها كنظرة وكلمة سفه نادرة في خصام
وقال الجاحظ يجوز أن يصدر عنهم غير صغار الخسة سهوا بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه وقد تبعه فيه كثير من المتأخرين من المعتزلة كالنظام والأصم وجعفر بن بشر
وبه نقول نحن معاشر الأشاعرة
هذا كله بعد الوحي والاتصاف بالنبوة
وأما قبله فقال الجمهور أي أكثر أصحابنا وجمع من المعتزلة لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة إذ لا دلالة للمعجزة عليه أي على امتناع الكبيرة قبل البعثة
ولا حكم للعقل بامتناعها ولا دلالة سمعية عليه أيضا
وقال أكثر المعتزلة تمتنع الكبيرة وإن تاب منها لأنه أي صدور الكبيرة يوجب النفرة عمن ارتكبها
وهي تمنع عن اتباعه فتفوت مصلحة البعثة
ومنهم من منع عما ينفر الطباع عن متابعتهم مطلقا أي سواء لم يكن ذنبا لهم أو كان كعهر الأمهات أي كونها زانيات والفجور في الآباء ودناءتهم واسترذالهم والصغائر الخسيسة دون غيرها من الصغائر
427

وقالت الروافض لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة لا عمدا ولا سهوا ولا خطأ في التأويل بل هم مبرءون عنها قبل الوحي
فكيف بعد الوحي لنا على ما هو المختار عندنا وهو أن الأنبياء في زمان نبوتهم معصومون عن الكبائر مطلقا وعن الصغائر عمدا
وجوه
الأول لو صدر منهم الذنب لحرم اتباعهم فيما صدر عنهم ضرورة أنه يحرم ارتكاب الذنب
وأنه أي اتباعهم في أقوالهم وأفعالهم واجب للإجماع عليه ولقوله تعالى * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) *
الثاني لو أذنبوا لردت شهادتهم إذ لا شهادة لفاسق بالإجماع ولقوله تعالى * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) *
واللازم باطل بالإجماع
ولأن من لا تقبل شهادته في القليل الزائل بسرعة من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيم أي القائم إلى يوم القيامة
الثالث إن صدر عنهم ذنب وجب زجرهم وتعنيفهم لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولا شك أن زجرهم إيذاء لهم وإيذاؤهم حرام إجماعا ولقوله تعالى " والذين يؤذون الله ورسوله... " الآية
وأيضا لو أذنبوا لدخلوا تحت قوله * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) * و تحت قوله * (ألا لعنة الله على الظالمين) * و تحت قوله لوما ومذمة * (لم تقولون ما لا تفعلون) * و قوله " أتأمرون
428

الناس بالبر وتنسون أنفسكم) فيلزم كونهم موعودين بعذاب جهنم وملعونين ومذمومين
وكل ذلك باطل إجماعا
الرابع ولكانوا على تقدير صدور الذنب عنهم أسوأ حالا من عصاة الأمة إذ يضاعف لهم أي للأنبياء العذاب على الذنب إذ الأعلى رتبة في الكرامة يستحق عقلا ونقلا أشد العذاب لمقابلته أعظم النعم المفاضة عليه بالمعصية
ولذلك ضوعف حد الحر وقيل لنساء النبي * (لستن كأحد من النساء) * * (من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب) * ومن المعلوم أن النبوة أجل من كل نعمة فمن قابلها بالمعصية استحق العذاب أضعافا مضاعفة
الخامس ولم ينالوا أيضا عهده تعالى لقوله * (لا ينال عهدي الظالمين) * والمذنب ظالم لنفسه
وأي عهد أعظم من النبوة
فإن حمل ما في الآية على عهد النبوة فذاك
وإن حمل على عهد الإمامة فبطريق الأولى
لأن من لا يستحق الأدنى لا يستحق الأعلى
السادس ولكانوا أيضا غير مخلصين لأن الذنب بإغواء الشيطان وهو لا يغوي المخلصين لقوله تعالى حكاية عنه على سبيل التصديق * (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) *
واللازم باطل لقوله تعالى في حق إبراهيم وإسحق ويعقوب * (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) * وفي حق يوسف * (إنه من عبادنا المخلصين) * وقد رد على هذا بأنه لا يدل على أن غير هؤلاء لم يصل إليهم إغواء إبليس ولم يذنبوا
السابع قوله تعالى * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) * فالذين لم يتبعوه إن كانوا هم الأنبياء فذاك
429

مطلوبنا وإلا أي وإن لم يكونوا إياهم بل كانوا غيرهم فالأنبياء أيضا لم يتبعوه بالطريق الأولى فإنهم بذلك أحرى من سائر المؤمنين
أو تقول لو كان ذلك الفريق غير الأنبياء لكانوا أفضل من الأنبياء لقوله تعالى * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) *
وتفضيل غير الأنبياء عليهم باطل بالإجماع فوجب القطع بأن الأنبياء لم يتبعوه ولم يذنبوه
الثامن أنه تعالى قسم المكلفين إلى حزب الله وحزب الشيطان
فلو أذنبوا لكانوا من حزب الشيطان
وذلك لأن المطيع من حزب الله اتفاقا
فلو كان المذنب منه أيضا لبطل التقسيم فيكونون أي الأنبياء المذنبون خاسرين لقوله تعالى * (ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) *
مع أن الزهاد من آحاد الأمة داخلون في المفلحين فيكون واحد من آحاد الأمة أفضل بكثير من الأنبياء وذلك مما لا شك في بطلانه
التاسع قوله تعالى في حق إبراهيم وإسحق ويعقوب والأنبياء الذين استجيبت دعوتهم * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) *
والجمع المحلى بالألف واللام للعموم فيتناول جميع الخيرات من الأفعال والتروك
وقوله * (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) *
وهما يعني قوله * (المصطفين) * وقوله * (الأخيار) * يتناولان جميع الأفعال والتروك لصحة الاستثناء
إذ يجوز أن يقال فلان من المصطفين إلا في كذا
ومن الأخيار إلا في كذا
فدل على أنهم كانوا من المصطفين الأخيار في كل الأمور
فلا يجوز صدور ذنب عنهم
لا يقال الاصطفاء لا ينافي صدور الذنب بدليل قوله تعالى * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه) * الآية
430

فقسم المصطفين إلى الظالم والمقتصد والسابق
لأنا نقول الضمير في قوله * (فمنهم) * راجع إلى العباد لا إلى المصطفين لأن عوده إلى أقرب المذكورين أولى
فهذه حجج العصمة أوردها الإمام الرازي في الأربعين وغيره من تصانيفه
قال المصنف وأنت تعلم أن دلالتها في محل النزاع وهي عصمتهم عن الكبيرة سهوا وعن الصغيرة عمدا ليست بالقوية
فإن الاتباع إنما يجب فيما يصدر عنهم قصدا لا سهوا
ويشترط في القصد أن لا ينهانا عنه
ورد الشهادة مبني على الفسق الذي لا ثبوت له في الصغيرة عمدا ومع الكبيرة سهوا
وأما الزجر فإنما يجب في حق المعتمد للكبائر دون الساهي والصغيرة النادرة عمدا معفوة عن مجتنب الكبائر وعليك بالتأمل في سائر الدلائل
واحتج المخالف الذاهب إلى جواز صدور الكبائر عنهم بعد البعثة سهوا وجواز الصغائر عمدا أيضا بقصص الأنبياء التي نقلت في القرآن أو الأحاديث أو الآثار
وتلك القصص توهم صدور الذنب عنهم في زمان النبوة
والجواب عن تلك القصص إجمالا أن ما كان منها منقولا بالآحاد وجب ردها لأن نسبة الخطأ إلى الرواة أهون من نسبة المعاصي إلى الأنبياء وما ثبت منها تواترا فما دام له محمل آخر حملناه عليه ونصرفه عن ظاهره لدلائل العصمة
وما لم نجد له محيصا حملناه على أنه كان قبل البعثة
أو كان من قبيل ترك الأولى
أو من صغائر صدرت عنهم سهوا ولا ينفيه أي لا ينفي كونه من قبيل ترك الأولى أو الصغائر الصادرة سهوا تسميته ذنبا في مثل قوله تعالى * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *
ولا
431

الاستغفار منه ولا الاعتراف بكونه ظلما منهم كما في قصة آدم عليه السلام
يعني أن هذه الأمور الثلاثة لا تنافي المحملين الآخرين
إذ لعل ذلك المذكور من التسمية والاستغفار والاعتراف لعظمه عنهم أو عندهم
ألا ترى أن حسنات الأبرار سيئات المقربين
فلذلك يسمى ترك الأولى منهم
وكذا ارتكاب الصغيرة سهوا ذنبا ويستغفرون منه ويعترفون بكونه ظلما أو أن أي أو لأن قصدوا به هضما من أنفسهم وكسرا لها بأنها ارتكبت ذنبا يحتاج فيه إلى الاستغفار والاعتراف به على سبيل الابتهال والتضرع كي يعفو عنها ربها
ومن جوز الصغائر عمدا فله زيادة فسحة في الجواب إذ يزداد له وجه آخر وهو أن يقول جاز أن يكون الصادر عنهم صغيرة عمدا لا كبيرة
ولنفصل ما أجملناه من استدلال المخالف بالقصص المنقولة
وجوابنا عنه تفصيلا فمنه أي من ذلك المحمل
قصة آدم عليه السلام وتفيقهوا أي تكلموا بملء أفواههم في التمسك بها من ستة أوجه
الأول قوله تعالى * (وعصى آدم ربه) * مؤكدا بقوله * (فغوى) *
فإن العصيان من الكبائر بدليل قوله تعالى * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) *
والغواية تؤكد ذلك لأنها اتباع الشيطان لقوله تعالى * (إلا من اتبعك من الغاوين) *
الثاني قوله تعالى * (فتاب عليه) * ولن تكون التوبة إلا عن الذنب لأنها الندم على المعصية والعزيمة على ترك العود إليها
الثالث مخالفته النهي عن أكل الشجرة وارتكاب المنهي عنه ذنب
الرابع قوله تعالى * (فتكونا من الظالمين) * جعلهما الله من الظالمين على تقدير الأكل منها
والظلم ذنب
432

الخامس قوله تعالى حكاية عنهما * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * والظلم ذنب كما مر آنفا والخسران لولا المغفرة دليل كونه كبيرة
السادس قوله تعالى * (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) *
واستحقاق الإخراج بسبب إزلال الشيطان يدل على كون الصادر عنهما كبيرة
قلنا في الجواب كيف يدعي أنه في الجنة ولا أمة له هناك كان نبيا مبعوثا لتبليغ الأحكام وهل كان الاجتباء بالنبوة إلا بعد تلك القصة كما يدل عليه قوله تعالى * (فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه) *
فإن كلمة (ثم) للتراخي والمهملة
فهذه القصة كانت قبل النبوة
وهل الوقيعة أي الطعن في الأنبياء بمثل هذا المتمسك الظاهر دفعه إلا للعمه والحيرة في الضلالة والجهل المفرط في الغواية
وقد يتمسك في ذنبه أي ذنب آدم بقوله تعالى * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) * هي آدم
* (وجعل منها زوجها) * يعني حواء
* (ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا) * الآية
فإن الضمير في قوله جعلا له شركاء راجع إليها إذ لم يتقدم ما يصلح لذلك سواهما
والضمير في له لله سبحانه وتعالى
فقد صدر عنه الإشراك وقصته أن حواء لما أثقلت أي حان وقت ثقل حملها جاءها إبليس في غير صورته وقال لها لعل في بطنك بهيمة فقالت ما
433

أدري
فما ازداد ثقلها رجع إليها وقال كيف تجدينك فقالت أخاف مما خوفتني به
فإني لا أستطيع القيام
فقال أرأيت لو دعوت الله أن يجعله إنسانا مثلي ومثل آدم أتسمينه باسمي فقالت نعم
ثم أنها حكت ما جرى بينهما آدم
فجعلا يدعوان الله * (لئن آتيتنا صالحا) * أي ولدا سويا * (لنكونن من الشاكرين) *
فلما ولدت سويا جاءها إبليس فقال سميه باسمي
قالت ما اسمك
قال عبد الحارث وكان اسمه الحارث فسمته بعبد الحارث
رضي آدم بذلك
والجواب أن أكثر المفسرين على أن الخطاب في خلقكم لقريش وحدهم لا لبني آدم كلهم
والنفس الواحدة قصي
و * (جعل منها زوجها) * أي يجعلها عربية قرشية من جنسه لا أنه خلقها منه
وإشراكهما بالله تسميتهما أبناءها بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي
والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما
وعلى هذا فليس الضمير في جعلا لآدم وحواء
وإن صح أنه لآدم وزوجه فأين الدليل على الشرك في الألوهية وفعله أي لعل الشرك المذكور في الآية هو الميل إلى طاعة الشيطان وقبول وسوسته مع الرجوع عنه إلى الله تعالى بلا مطاوعة للشيطان في الفعل
وذلك الميل المتفرع على الوسوسة غير داخل تحت الاختيار فلا يكون معصية وذنبا
أو لعله كان قبل النبوة
فإن قلت قد مر امتناع الكفر على الأنبياء مطلقا
قلت معنى إشراكهما بالله أنهما أطاعا إبليس في تسمية ولدهما بعبد الحارث كما مر في القصة
وليس ذلك كفرا بل ذنبا يجوز صدوره قبل النبوة
وقد يقال معنى جعلا أنه جعل أولادهما على حذف المضاف كما يدل عليه جمع الضمير في يشركون
ومنه أي ومن ذلك المجمل قصة إبراهيم عليه السلام
وأظهر ما يوهم الذنب في قصته أمران
434

الأول قوله في حق الكواكب * (هذا ربي) * فإن كان ذلك عن اعتقاد كان شركا وإلا كان كذبا
والجواب أن يقال لا يخفى أنه أي هذا الكلام صدر عنه قبل تمام النظر في معرفة الله
وكم بينه وبين النبوة إذ لا يتصور النبوة إلا بعد تمام ذلك النظر فلا إشكال
إذ يختار أنه لم يعتقده فيكون كذبا صادرا قبل البعثة
ولك أن تقول إنما قال ذلك على سبيل الفرض كما في برهان الخلف إرشادا للصابئة إذ حاصل ما ذكره أن الكواكب لو كانت أربابا كما تزعمون لزم أن يكون الرب متغيرا آفلا
وهو باطل
الثاني من الأمرين قوله * (رب أرني كيف تحيي الموتى) * والشك في قدرة الله على إحياء الموتى كفر والجواب إن ذلك السؤال لم يكن عن شك في الإحياء أو القدرة عليه بل في الآية تصريح بأنه طلبه لأن في عين اليقين من الطمأنينة ما أوليس
في علم اليقين
فإن للوهم بإحداث الوساوس والدغادغ سلطانا على القلب عند علم اليقين دون عين اليقين
وقد يقال إنما سأل عن كيفية الإحياء لا عنه لأن الإحاطة بالكيفية المفصلة أقوى وأرسخ من المعرفة الإجمالية المفضية إلى التردد بين الكيفيات المتعددة مع الطمأنينة في أصل الإحياء والقدرة عليه
هذا وقد قال ابن عباس كان الله وعد أن يبعث نبيا يحيي بدعائه الموتى
وذلك علامة أن الله تعالى قد اتخذه خليلا
فأراد إبراهيم أن يعلم أهو هو وكيف لا تحمل الآية على ما مر
والشك في قدرة الله تعالى كفر
وأنتم لا تقولون به فما هو جوابكم فهو جوابنا
ومما يتمسك به من قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام قوله * (بل فعله كبيرهم) * فإن كذب
قلنا هو من قبيل الإسناد إلى
435

السبب فإن حامله على الكسر زيادة تعظيمهم لذلك الكبير
ومنه * (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) * والنظر في علم النجوم حرام
وحكمه بأنه سقيم كذب
قلنا إن النظر في النجوم ليستدل بها على توحيد الله وكمال قدرته من أعظم الطاعات
وأما ترتيب الحكم بالسقم على النظر فلعل الله تعالى أخبره بأنه إذا طلع النجم الفلاني فإنه يمرض
ومنه قصة موسى عليه السلام
والتمسك بها من وجوه
الأول قوله * (فوكزه موسى فقضى عليه) * ولم يكن قتله لذلك القبطي بحق أي لم يكن مباحا ولا على سبيل الخطأ بل كان قتل عمد عدوان
لقوله * (هذا من عمل الشيطان) * وقوله * (رب إني ظلمت نفسي) * وقوله * (فعلتها إذا وأنا من الضالين) *
الجواب إنه كان قبل النبوة
وأيضا جاز أن يكون قتله خطأ وما صدر عنه من أقواله محمولا على التواضع وهضم النفس
الثاني إنه أذن لهم في إظهار السحر لقوله * (ألقوا ما أنتم ملقون) * وإظهاره حرام فيكون إذنه أيضا حراما
الجواب انه أي إظهار السحر لم يكن حراما حينئذ فإن مما تختلف فيه الشرائع بحسب الأوقات أو علم موسى أنهم يلقون سواء أذن لهم أم لا بدليل * (ما أنتم ملقون) * فلا يكون ذلك الإذن حراما بل فيه قلة مبالاة بسحرهم
أو أراد إظهار معجزته في عصاه وتلقفها لما أفكوه
ولا يتم ذلك الإظهار في ذلك المقام إلا بذلك الإذن فكان واجبا لكونه مقدمة للواجب
أو أراد ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين نحو * (فأتوا بسورة من مثله) * إلى قوله * (إن كنتم صادقين) *
436

الثالث قوله * (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه) * وهارون كان نبيا فإن كان له ذنب استحق به التأديب من موسى فذاك هو المطلوب
وإلا فإيذاؤه بلا استحقاق ذنب صدر عن موسى
والجواب أنه لم يكن ذلك الجر على سبيل الإيذاء بل كان يدنيه إلى نفسه لتفحص منه حقيقة الحال في تلك الواقعة
فخاف هارون أن يعتقد بنو إسرائيل خلافه أي يعتقدون أنه يؤذيه وذلك لسوء ظنهم بموسى حتى أنه لما مات هارون في غيبتهم قالوا إن موسى قتله
وقد أجيب أيضا بأن موسى لما رأى جزع هارون واضطرابه لما جرى من قومه أخذه ليسكنه من قلقه كما يفعل الواحد منا إذا أراد إصلاح غضبان أو تسكين مصاب وبأن
موسى لما غالب عليه الهم واستيلاء الفكر أخذ برأس أخيه لا على طريقة الإيذاء بل كما يفعل الإنسان بنفسه عن عض يده وشفته وقبضه على لحيته إلا أنه نزل أخاه منزلة نفسه لأنه كان شريكه فيما يناله من خير أو شر
قال الآمدي لا يخفى بعد هذه التأويلات وخروجها عن مذاق العقل
الرابع قوله أي قول موسى للخضر * (لقد جئت شيئا إمرا) * و * (شيئا نكرا) *
وذلك الفعل لم يكن منكرا فكان كلام موسى خطأ
وقد يقال إن كان فعل الخضر منكرا فذاك
وإلا كان موسى كاذبا
قلنا أراد منكرا
من حيث الظاهر على معنى أن من نظر إلى ظاهر هذه الواقعة ولم يعرف حقيقتها حكم عليها بأنها شيء منكر
أو أراد عجبا فإن من رأى شيئا عجيبا جدا فإنه قد يقول هذا شيء منكر
وفعل الخضر لما كان
437

بأمر الله لم يكن منكرا في الحقيقة ومنه قصة داود عليه السلام
وهي أنه طمع في امرأة أوريا
فقصد قتله بإرساله إلى الحرب مرة بعد أخرى
وهذه القصة على الوجه الذي اشتهرت به مختلقة أي مفتراة للحشوية إذ لا يليق إدخال الذم الشنيع في أثناء المدائح العظام يعني أن الله تعالى مدح داود قبل قصة النعجة بأوصاف كمالية منها أنه " ذا الأيدي " أي القوة
وأراد القوة في الدين
لأن القوة في الدنيا كانت حاصلة لملوك الكفار ولم يستحقوا بها مدحا والقوة في الدين هي العزم الشديد على أداء الواجبات
وترك المنكرات فكيف يوصف بها من لم يملك منع نفسه عن الميل إلى الفجور والقتل
ومنها إنه أواب
أي رجاع إلى ذكر الله
فكيف يتصور منه أن يكون مواظبا على القصد إلى أعظم الكبائر
ومنها إنه سخر له الجبال * (يسبحن بالعشي والإشراق) * وسخر له الطير محشورة كل له أواب
افترى أنه سخر له هذه الأشياء ليتخذها وسائل إلى القتل والزنا
ومنها أنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب
والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علما وعملا فكيف يعقل أنه اتصف بالحكمة مع إصراره على ما يستنكف عنه أخبث الشياطين من مزاحمة أتباعه في الزوج والمنكوحة
ومدحه أيضا بعد قصة النعجة بأنه جعله خليفة في الأرض وهذا من أجل المدائح
وإذا كان الأمر كذلك لم يصح أن تحمل هذه القصة على أنها إشارة إلى القصة المشهورة في حق داود عليه السلام
بل تصور قوم قصره للإيقاع به
فلما رأوه مستيقظا اخترع أحدهم الخصومة المذكورة في القرآن وزعموا أنهم إنما قصدوه لأجلها لا لسوء به من قتل النفس أو سرقة المال ونسبة الكذب إلى اللصوص أولى من نسبته إلى الملائكة
438

وعلى هذا فمعنى قوله تعالى * (أنما فتناه) *
اختبرناه في أنه حين أساء الظن باللصوص مع قدرته عليهم فهل يعالجهم بالعقوبة أو لا فلما لم يعاقبهم كان غاية في الحلم
والاستغفار لا يجب أن يكون لذنب منه بل جاز أن يكون طلبا لعفو الله عنهم وأن يغفر لهم مبالغة في الحلم والشفقة
وقوله * (فغفرنا له) * أي غفرنا لأجل حرمته وبركة شفاعته ذلك الفعل المنكر الذي أتى به أولئك المتسورون
وحينئد لا يحتاج إلى نسبة الكذب إلى الملائكة وحمل النعاج على النسوان وخلط الذمة البليغة بأوصاف الكمال
قال الإمام الرازي من أنصف علم أن الحق الصريح ما ذكرناه وأن تلك القصة كاذبة باطلة على الوجه الذي يرويها عليه أهل الحشوية
ومنه قصة سليمان عليه السلام والتمسك بها من وجهين بل من وجوه
الأول التمسك بقوله تعالى * (إذ عرض عليه بالعشي) * أي بعد الزوال * (الصافنات الجياد) * الآية
فإن ظاهره يدل على أن اشتغاله بتلك الصافنات ألهاه عن ذكر الله حتى روي أنه فاتت عليه صلاة العصر
والجواب أنه لا دلالة فيه على فوت الصلاة مع أنه إذا كان فوتها بالنسيان لم يكن ذنبا وقوله * (أحببت حب الخير) * مبالغة في الحب فإن الإنسان قد يحب شيئا ولكن لا يحب أن يحبه فإذا أحبه وأحب أن يحبه فذلك هو الكمال في المحبة
وقوله * (عن ذكر ربي) * أي بسببه كما يقال سقاه عن العيمة أي لأجلها
فالمعنى أن ذلك الحب الشديد إنما حصل بسبب ذكره
أي أمره
لا بالهوى وطلب الدنيا
وذلك لأن رباط
439

الخيل في دينهم كان بأمره كما في ديننا إذ هو مندوب إليه وقوله * (فطفق مسحا) * معناه يمسح رؤوسها وأعناقها إكراما لها
وإظهارا لشدة شفقته عليها لكونها من أعظم الأعوان في دفع أعداء الدين
وحمله على قطعها كما ذهب إليه طائفة حيث قالوا المعنى أنه عليه الصلاة والسلام جعل يمسح السيف بسوقها وأعناقها
أي يقطعها إما غضبا عليها بسبب ما جرى عليه من أجلها
وإما للتصدق بها ضعيف جدا إذ لا دلالة للفظ عليه كما في قوله * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) *
نعم لو قيل مسح السيف برأسه لربما فهم منه ضرب العنق
وإما إذا لم يذكر السيف لم يفهم القطع البتة
ورجوع ضمير توارت إلى الشمس أبعد المحتملين يريد أن ذلك الضمير يحتمل أن يعود إلى الشمس إذ قد جرى ما له تعلق بها وهو العشي وأن يعود إلى الصافنات وهذا أولى لأنها مذكورة صريحا دون الشمس
وأيضا هي أقرب في الذكر مع لفظ العشي
فالمعنى حينئذ أنه أمر بإعدامها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر بردها فما وصلت إليه أخذ يمسحها لما مر
الثاني التمسك بقوله تعالى * (ولقد فتنا سليمان) * وقصته أنه بلغ سليمان خبر ملك تحصن في جزيرة فخرج إليه بالريح وقتله وأخذ بنته وكانت في غاية الجمال فأحبها وكانت لا يرقأ لها دمع حزنا على أبيها فأمر سليمان الجن بأن يعملوا لها تمثالا على صورة أبيها فكسته كسوة نفيسة وكانت تغدو وتروح إليها مع ولائدها يسجدن له على عادتهن في ملكه فسقط الخاتم من يد سليمان عليه السلام لعصيانه باتخاذ الصنم الذي
440

يسجد له في بيته فقال له آصف إنك مفتون بذنبك فتب إلى الله فخرج إلى الفلاة وقعد على الرماد تائبا إلى الله سبحانه وتعالى
الجواب أن هذه الحكاية الخبيثة التي يرويها الحشوية كتاب الله مبرأ عنها فإنه قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذا الكلام قال سليمان أطوف الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن ولدا يقاتل في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فلم تحمل من تلك المائة إلا واحدة فولدت نصف غلام فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه بين يديه ولو أنه قال إن شاء الله كان كما قال فالابتلاء المذكور في الآية إنما كان لترك الاستثناء لا لمعصية وقيل ابتلاؤه كان بالمرض
فإنه مرض حتى صار مشرفا على الموت لا يقدر على حركة كجسد بلا روح
وقيل ولد له ولد
فقالت الشياطين إن عاش ولده لم ينفك عن السحرة فعزمت على قتله فعلم سليمان ذلك فخاف الشياطين أن تهلكه فأمر السحاب أن يحمله وأمر الريح أن تحمل إليه غداءه فمات ذلك الولد في السحاب فألقي على كرسيه فتنبه سليمان على خطئه حيث لم يتوكل على ربه
الثالث التمسك بما حكي عنه في القرآن
وهو قوله * (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * فإنه حسد فيكون ذنبا
الجواب إنه أوليس
حسدا بل معجز كل نبي إنما كان من جنس ما يفتخر به أهل زمانه وكان ما افتخر به أهل زمان سليمان هو الملك أي المال والجاه
فلا جرم طلب مملكة فائقة على جميع الممالك لتكون مملكته معجزة له
وأراد أن ملك الدنيا موروث أي ينتقل من واحد إلى آخر
فطلب من ربه بعدما شفي من مرضه الشديد ملك الدين الذي لا يمكن فيه الانتقال فقوله * (ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * أي ملكا لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري
وأراد الملك العظيم من القناعة وذلك أن الاحتراز عن لذات الدنيا مع القدرة عليها مما لا يمكن عادة فطلب الملك
441

العظيم في الدنيا مع اشتغاله بطاعة ربه وعدم التفاته إلى ذلك الملك العظيم ليعلم الناس أن زخارف الدنيا لا تمنع من خدمة المولى
ومنه قصة يونس عليه السلام فإنه ذهب مغاضبا وظن أن لن يقدر الله عليه واعترف بكونه ظالما والغضب ذنب
والشك في قدرة الله تعالى كفر
والظلم أيضا ذنب
والجواب لعل غضبه كان على قوم كفرة بالغوا في العناد والمكابرة حتى عيل صبره ولم يطق المصابرة معهم
فهذا غضب لله على أعدائه
فلا يكون ذنبا
* (فظن أن لن نقدر عليه) * أن لن نضيق عليه فإنه مشتق من القدر كما في قوله " يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " لا من القدرة
و * (إني كنت من الظالمين) * أي لنفسي بترك الأولى فاعترافه بالظلم هضم للنفس واستغظام لما صدر عنها مبالغة في التضرع * (ولا تكن كصاحب الحوت) * أي في قلة الصبر على الشدائد والمحن لتنال أفضل الرتب
وليس معناه لا تكن مثله في ارتكاب الذنب
ومنه قصة نبينا صلى الله عليه وسلم والاحتجاج بها من وجوه
الأول * (ووجدك ضالا فهدى) * ولا شك أن الضال عاص
والجواب أنه قبل النبوة
أو أراد ضالا في أمور الدنيا ويجب حمله على هذا لقوله تعالى * (ما ضل صاحبكم وما غوى) * إذ المراد به نفي الضلالة والغواية في أمور الدين بلا شبهة فوجه التوفيق بينهما ما ذكرنا
442

الثاني ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما اشتد عليه إعراض قومه عن دينه تمنى أن يأتيه من الله ما يتقرب به إليهم ويستميل قلوبهم فأنزل الله عليهم سورة النجم فلما اشتغل بقراءتها قرأ بعد قوله تعالى * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) * تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فلما سمعه قريش فرحوا به وقالوا قد ذكر آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبريل عليه السلام بعدما أمسى وقال له تلوت على الناس ما لم أتله عليك فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك حزنا شديدا وخاف من الله خوفا عظيما
فنزل لتسليته * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * الخ
والجواب على تقدير حمل التمني على القراءة هو أنه من إلقاء الشيطان
يعني أن الشيطان قرأ هذه العبارة المنقولة وخلط صوته بصوت النبي حتى ظن أنه صلى الله عليه وسلم قرأها
وإلا أي وإن لم يكن من إلقائه بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قارئا لها كان ذلك كفرا صادرا عنه وليس بجائز إجماعا
وأيضا ربما كان ما ذكر من العبارة قرآنا وتكون الإشارة بتلك الغرانيق إلى الملائكة فنسخ تلاوته للإيهام أي لإيهامه المشركين أن المراد به آلهتهم
أو المراد على تقدير حمل أتمنى على تمني القلب وتفكره ما يتمناه بوسوسة الشيطان ويكون المعنى حينئذ أن النبي إذا تمنى شيئا وسوس إليه الشيطان ودعاه إلى مالا ينبغي ثم أن الله تعالى ينسخ ذلك ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته وعلى هذا تكون الرواية المذكورة من مفتريات الملاحدة
أو نقول عن التقدير الأول أيضا هو أي قوله تلك الغرانيق الخ
كان من القرآن وأريد بالغرانيق الأصنام لكنه استفهام إنكار حذف منه أداته فالمعنى أن هذه المستحقرات ليست كما تدعونها وترجون الشفاعة منها
443

الثالث قصة زيد وزينب
والجواب أنه أي نكاح زينب كان بأمر الله تعالى لنسخ ما كان في الجاهلية من تحريم أزواج الأدعياء
وإنما أخفى في نفسه ذلك خوفا من طعن المنافقين وتوضيحه أن الله تعالى لما أراد أن ينسخ ذلك التحريم أوحى إليه أن زيدا إذا طلق زوجته فتزوج بها
فلما حضر زيد ليطلقها خاف أنه إن طلقها لزمه التزوج بها ويصير سببا لطعنهم فيه فقال لزيد (أمسك عليه زوجك) وأخفى في نفسه ما أوحى إليه وعزمه على نكاحها فلذلك عوتب فقيل له * (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) * وقيل كانت زينب ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم وطامعة في تزوجه إياها فلما خطبها النبي لزيد شق عليها وعلى والديها فنزل قوله * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله) * الآية فانقادوا كرها
وطمعت زينب مع ذلك أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خلاصها من قيد ذلك النكاح فنشزت على زيد حتى أعيته فطلقها فتزوجها النبي بأمر من الله بيانا لذلك النسخ
وعلى هذين القولين لا ذنب للنبي في هذه القصة
وما يقال إنه أحبها حين رآها فمما يجب صيانة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثله
وإن صح فميل القلب غير مقدور ثم القائلون بمحبته إياها منهم من قال لما أحبها حرمت على زوجها وهذا باطل
وإلا كان أمره بإمساكها أمرا بالزنا وكان وصفها بكونها زوجا له كذبا ومنهم من قال لم تحرم لكن وجب على الزوج تطليقها قالوا وفيه أي في ميل قلبه إليها وما تفرع عليه ابتلاء الزوج بتطليقها لأن النزول عن الزوجة طلبا لمرضاة الله أمر صعب لا ينقاد له إلا موفق
وابتلاء النبي بالمبالغة في حفظ النظر حذرا عن الخيانة في الوحي بالإخفاء أو التعرض للطعن من الأعداء
444

الرابع * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) * إلى قوله * (عذاب عظيم) *
والجواب إنه عتاب على ترك الأولى الذي هو الإثخان فإن التحريم أي تحريم الفداء مستفاد من هذه الآية فقبل نزولها لا تحريم
ومعنى قوله تعالى * (لولا كتاب) * إلى آخر الآية أنه لولا سبق تحليل الغنائم لعذبتكم بسبب أخذكم هذا الفداء
الخامس * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * والعفو إنما يكون عن الذنب
الجواب إنه تلطف في الخطاب على طريقة قولك أرأيت رحمك الله وغفر لك ولا يمكن إجراؤه على ظاهره الذي هو أنه تعالى عفا عنه ثم عاتبه إذ هو باطل قطعا وإليه أشار بقوله (وإلا فلا عتاب بعد العفو) وعلى هذا فلا دلالة للعفو على الذنب وإن سلم أن هناك عتابا قلنا ذلك العتاب إنما كان بترك الأولى فيما يتعلق بالمصالح الدنيوية مع تدبير الحروب فإنه صلى الله عليه وسلم أذن جماعة تعللوا بأعذار بالتخلف عن غزوة تبوك وتارك الأفضل في أمور الحرب قد يعاتب
السادس * (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك) * والوزر هو الذنب وإنقاضه الظهر يدل على كبره
الجواب بأن الوزر المذكور محمول على ما كان قد اقترفها قبل النبوة أو هو ترك الأولى
والإنقاض حينئذ محمول على استعظامه إياه أو نقول إنه قد جاء بمعنى الثقل
كقوله تعالى " حتى تضع الحرب
445

أوزارها)
فجاز أن يكون ههنا مستعملا للثقل الذي كان عليه من الغم الشديد لإصرار قومه على إنكاره والشرك بالله ولعدم استطاعته على تنفيذ أمر الدين
فلما أعلى الله شأنه وشد أزره فقد وضع عنه وزره وثقله
ويقوي هذا التأويل قوله تعالى * (ورفعنا لك ذكرك) *
وقوله * (فإن مع العسر يسرا) *
السابع قوله * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * وقوله * (واستغفر لذنبك) *
وقوله * (لقد تاب الله على النبي) * إذ لا وجود للتوبة إلا مع الذنب
والجواب إنه قبل النبوة وحمله على ما تقدم النبوة وما تأخر عنها لا دلالة للفظ عليه إذ يجوز أن يصدر عنه قبل النبوة صغيرتان إحداهما متقدمة على الأخرى
أو أنه ترك الأولى وتسميته بالذنب استعظام لصدوره عنه أو نقول نسب إليه ذنب قومه فإن رئيس القوم قد ينسب إليه ما فعله بعض أتباعه
فالمعنى ليغفر لأجلك ما تقدم من ذنب أمتك وما تأخر منه واستغفر لذنب أمتك وتاب الله على أمة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه
وأما ما يقال إن المصدر مضاف إلى المفعول فالمعنى ذنب قومك إليك أي ما ارتكبوه من الذنوب بالنسبة إليك كأنواع إيذائهم إياك فلا يخفى ضعفه
فإن ذلك إنما يتأتى في المصادر المتعدية والذنب أوليس
منها
والاكتفاء بأدنى تعلق في إضافة الذنب إليه مما لا يقبله ذوق سليم
الثامن قوله تعالى * (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) *
الجواب إنه ترك الأولى مما يليق بخلقه العظيم ومثله يعاتب على مثله
446

التاسع قوله * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) *
الجواب النهي لا يدل على الوقوع لاحتمال أن يراد به التثبيت والاستمرار في الزمان الآتي على ما كان عليه في الماضي
العاشر * (يا أيها النبي اتق الله) * * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) *
الجواب ما مر من قصد التثبيت والاستمرار مع أن الأمر والنهي من أقوى أسباب العصمة كما ستعرفه
فلا يدلان على صدور الذنب
الحادي عشر * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *
الجواب الشرطية لا تقتضي تحقق الطرفين كما في قولك إن كان زيد حجرا كان جمادا أو المراد الشرك الخفي
وهو الالتفات إلى الناس بل إلى ما سوى الله فيكون من قبيل ترك الأولى
أو المراد بالخطاب غيره على سبيل التعريض ويؤيده أنه قال ابن عباس رضي الله عنهما نزل القرآن على إياك
أعني فاسمعي يا جارة
الثاني عشر " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق فلا تكونن من الممترين "
الجواب شرطية فلم يوصف صلى الله عليه وسلم بالشك بل فرض شكه كما يفرض المحال وأمر بالرجوع إلى أهل الكتاب على ذلك التقدير
والفائدة في الرجوع إلى أهل الكتاب زيادة قوته وطمأنينته أو لمعرفة كيفية
447

نبوة سائر الأنبياء فيعرف أنه أوتي مثل ما أوتي الأنبياء السالفة
وأنت خبير بأن هاتين الفائدتين إنما تترتبان على الرجوع ابتداء
والمذكور في الآية هو الرجوع على تقدير الشك
قال المصنف واعلم أنما طولنا في مثل هذا ليعلم أن مسألة نسيان الأنبياء وسهوهم في صدور الكبائر عنهم وتعمدهم الصغائر لا قاطع فيه نفيا كما نبه عليه بقوله سابقا
وأنت تعلم أن دلالتها في محل النزاع وهي عصمتهم عن الكبيرة سهوا والصغيرة عمدا ليست بالقوية
أو إثباتا إذ قد أجاب عن أدلة المثبتين ههنا مع قيام الاحتمال العقلي إذ لو فرض نقيضه وهو الصدور عنهم لم يلزم منه محال لذاته بلا شبهة
وظهور المعجزة على يده لا دليل فيه على ذلك
يعني عدم الصدور
وعلى هذا يجب أن يسرح ذلك إلى بقعة الإمكان ولا يجترأ على الأنبياء بإطلاق اللسان
المقصد السادس
المتن في حقيقة العصمة
وهي عندنا أن لا يخلق الله فيهم ذنبا
وعند الحكماء ملكة تمنع عن الفجور وتحصل بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات وتتأكد بتتابع الوحي بالأوامر والنواهي والاعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر وترك الأولى
فإن الصفات النفسانية تكون أحوالا ثم تصير ملكات بالتدريج
وقال قوم تكون خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها
448

صدور الذنب عنه
ويكذبه أنه لو كان كذلك لما استحق المدح بذلك
وأيضا فالإجماع على أنهم مكلفون بترك الذنوب مثابون به
ولو كان الذنب ممتنعا عنهم لما كان كذلك
وأيضا فقوله * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) * يدل على مماثلتهم لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي لا غير
الشرح
المقصد السادس في حقيقة العصمة آخر بيانها عن التصديق بوجودها لأن الماهية الحقيقة تتوقف على آلهلية وهي عندنا على ما يقتضيه أصلنا من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء أن لا يخلق الله فيهم ذنبا
وهي عند الحكماء بناء على ما ذهبوا إليه من القول بالإيجاب والاعتبار استعداد للقوابل ملكة تمنع عن الفجور وتحصل هذه الصفة النفسانية ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات فإنه الزاجر عن المعصية والداعي إلى الطاعة وتتأكد وتترسخ هذه الصفة فيهم بتتابع الوحي إليهم بالأوامر الداعية إلى ما ينبغي والنواهي الزاجرة عما لا ينبغي ولا اعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر سهوا أو عمدا عند من يجوز تعمدها
ومن ترك الأولى والأفضل فإن الصفات النفسانية تكون في ابتداء حصولها أحوالا أي غير راسخة ثم تصير ملكات
أي راسخة في محلها
بالتدريج
وقال قوم هي العصمة تكون خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه ويكذبه أي هذا القول أنه لو كان صدور الذنب كذلك أي ممتنعا لما استحق المدح بذلك أي بترك الذنب إذ لا مدح ولا ثواب بترك ما هو ممتنع لأنه أوليس
مقدورا داخلا تحت الاختيار
وأيضا فالإجماع منعقد على أنهم أي الأنبياء مكلفون بترك الذنوب مثابون به
ولو كان الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر
449

كذلك إذ لا تكليف بترك الممتنع ولا ثواب عليه لما عرفت آنفا وأيضا فقوله تعالى * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) * يدل على مماثلتهم لسائر الناس فيما رجع إلى البشرية
والامتياز بالوحي لا غير
فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما عن سائر البشر
المقصد السابع في عصمة الملائكة
المتن وقد اختلف فيها
فللنافي وجهان
الأول ما حكى الله عنهم من قولهم * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) *
ولا يخفى ما فيه من وجوه المعصية
إذ فيه غيبة لمن يجعله الله خليفة بذكر مثالبة
وفيه العجب وتزكية النفس
وفيه أنهم قالوا ما قالوه رجما بالظن
واتباع الظن في مثله غير جائز
وفيه إنكار على الله فيما يفعله
وهو من أعظم المعاصي
الثاني إبليس عاص
وهو من الملائكة بدليل استثنائه منهم من قوله * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس) *
وبدليل أن قوله تعالى * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا) * وقد تناوله
وإلا لما استحق الذم
ولما قيل له * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) *
والجواب عن الأول أنه استفسار عن الحكمة
والغيبة إظهار مثالب المغتاب
وذلك إنما يتصور لمن لا يعلمه
وكذلك التزكية ولا رجم بالظن
450

وقد علموا ذلك بتعليم الله أو بغيره
وعن الثاني أن إبليس كان من الجن وصح الاستثناء
وتناوله الأمر للغلبة
وكون طائفة من الملائكة مسمين بالجن خلاف الظاهر مع أن ذكره في معرض التعليل لاستكباره وعصيانه يأباه
وللمثبت الآيات الدالة على عصمتهم نحو قوله تعالى * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) *
و * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) *
و * (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) *
والجواب إنما يتم ذلك إذا ثبت عمومها أعيانا وأزمانا ومعاصي ولا قاطع فيه
وإن الظن لا يغني في مثله عن الحق شيئا
الشرح
المقصد السابع في عصمة الملائكة
وقد اختلف فيها
فللنافي وجهان
الأول ما حكى الله عنهم من قولهم * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) *
ولا يخفى ما فيه من وجوه المعصية وهي أربعة إذ فيه غيبة لمن يجعله الله خليفة بذكر مثالبه
وفيه أيضا العجب وتزكية النفس بذكر مناقبها
وفيه أيضا أنهم قالوا ما قالوه من نسبة الإفساد والسفك رجما بالظن إذ لا يليق بحكمة الله مع إرادته إعزاز بني آدم أن يطلع أعداءهم على عيوبهم
واتباع الظن في مثله غير جائز لقوله تعالى * (ولا تقف ما أوليس
لك به علم) *
وفيه أيضا إنكار على الله تعالى فيما يفعله
وهو من أعظم المعاصي
الوجه الثاني إبليس عاص بترك السجود حتى صار مطرودا ملعونا
451

وهو من الملائكة بدليل استثنائه منهم في قوله تعالى * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس) *
وبدليل أن قوله تعالى * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا) * قد تناوله
وإلا لما استحق الذم
ولما قيل له * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) *
والجواب عن الوجه الأول أنه أي قولهم * (أتجعل) * استفسار عن الحكمة الداعية إلى خلقهم لا إنكار على الله في خلقهم
والغيبة إظهار مثالب المغتاب وذلك لا يتصور لمن لا يعلمه
والله سبحانه وتعالى عالم بجميع الأشياء ما ظهر منها وما بطن فلا غيبة هناك
وكذلك التزكية إظهار مناقب النفس فلا تتصور بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى
ولا رجم بالظن وقد علموا ذلك بتعليم الله إذ قد يكون فيه حكمة لا نعرفها
أو بغيره كقراءتهم ذلك من اللوح
والجواب عن الوجه الثاني أن إبليس كان من الجن لقوله تعالى * (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) *
وصح الاستثناء
وتناوله الأمر للغلبة أي لتغليب الكثير على القليل في إطلاق الاسم كما عرف في موضعه
وكون طائفة من الملائكة مسمين بالجن على ما قيل فلا يكون حينئذ كونه من الجن منافيا لكونه من الملائكة خلاف الظاهر
لأن المتبادر من لفظ الجن ما لا يدخل تحت الملك مع أن ذكره أي ذكر كونه من الجن في معرض التعليل لاستكباره وعصيانه كما يتبادر من نظم الآية يأباه أي يأبى كونه من الملائكة لأن طبيعة الملك لا تقتضي المعصية أو يأبى كون الجن اسما لطائفة من الملائكة
452

وللمثبت الآيات الدالة على عصمتهم نحو قوله تعالى * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * وقوله * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) *
إذ يعلم منه أنهم لا يعصون
وإلا حصل الفتور في التسبيح
وقوله * (يخافون ربهم من فوقهم) * أي فلا يعصونه
* (ويفعلون ما يؤمرون) *
والجواب إنما يتم ذلك الاستدلال بتلك الآيات إذا ثبت عمومها أعيانا وأزمانا ومعاصي حتى يثبت بها أن جميعهم مبرأون عن جميع المعاصي في جميع الأزمنة
ولا قاطع أي في هذا المبحث لا نفيا ولا إثباتا بل أدلة طرفيه ظنية
وإن الظن لا يغني في مثله من المسائل التي يطلب فيها العلم واليقين عن الحق شيئا
المقصد الثامن في تفضيل الأنبياء على الملائكة
المتن لا نزاع في أنهم أفضل من الملائكة السفلية
إنما النزاع في الملائكة العلوية
فقال أكثر أصحابنا الأنبياء أفضل
وعليه الشيعة
وقالت المعتزلة والحليمي منا الملائكة أفضل
وعليه الفلاسفة
احتج أصحابنا بوجوه أربعة
الأول قوله تعالى * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * وأمر الأدنى بالسجود للأفضل هو السابق إلى الفهم
وعكسه على خلاف الحكمة
لا
453

يقال السجود يقع على أنحاء فلعله لم يكن سجود تعظيم لأنا نقول * (أرأيتك هذا الذي كرمت علي) * و * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * يدل على أنه إسجاد تكرمة وينفي سائر الاحتمالات
الثاني قوله تعالى * (وعلم آدم الأسماء كلها) * والعالم أفضل من غيره لأن الآية سيقت لذلك
ولقوله * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) *
الثالث أن للبشر عوائق عن العبادة من شهوته وغضبه وحاجاته الشاغلة لأوقاته
وليس للملائكة شيء من ذلك
ولا شك أن العباد مع هذه العوائق أدخل في الإخلاص وأشق فتكون أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم (أفضل الأعمال أحمزها) أي أشقها
الرابع الإنسان ركب تركيبا بين الملك والبهيمة
فبعقله له حظ من الملائكة وبطبيعته له حظ من البهيمة
ثم أن من غلب طبيعته عقله فهو شر من البهائم لقوله تعالى * (أولئك كالأنعام بل هم أضل) * وقوله * (إن شر الدواب عند الله) * الآية
وذلك يقتضي أن يكون من غلب عقله طبيعته خيرا من الملائكة
احتج الخصم بوجوه عقلية ونقلية
أما العقلية فستة
454

الأول الملائكة أرواح مجردة كمالاتها بالفعل بخلاف السفليات
والتام أكمل من غيره
الثاني الروحانيات متعلقة بالهياكل العلوية والنفوس الإنسانية متعلقة بالأجسام السفلية الكائنة الفاسدة
ونسبة النفوس كنسبة الأجساد
الثالث الروحانيات مبرأة عن الشهوة والغضب وهما المبدأ للشرور كلها
الرابع الروحانيات نورانية لطيفة والجسمانيات مركبة من المادة والصورة
والمادة ظلمانية مانعة
الخامس الروحانيات قوية على أفعال شاقة كالزلازل والسحب لا يلحقها بذلك فتور بخلاف الجسمانيات
السادس الروحانيات أعلم لإحاطتها بما كان في الأعصر الأول وبما سيكون في الأزمنة الآتية وبالأمور الغائبة
وعلومهم كلية فعلية فطرية آمنة من الغلط
والجسمانيات بخلافه
والجواب إن ذلك كله مبني على القواعد الفلسفية التي لا نسلمها ولا نقول بها
وأما النقلية فسبعة
455

الأول قوله تعالى * (ولا أقول لكم إني ملك) * فإنه في معرض التواضع
والجواب لا نسلم أنه في معرض التواضع بل لما نزل * (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) * والمراد قريش
استعجلوه بالعذاب تهكما به فنزلت * (لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك) * بيانا لأنه أوليس
له إنزال العذاب من خزائن الله
ولا يعلم متى ينزل بهم العذاب ولا هو ملك فيقدر على إنزال العذاب كما يحكى أن جبريل قلب بأحد جناحية المؤتفكات فقد دلت الآية على أن الملك أقدر وأقوى
فأين حديث الأفضلية
الثاني قوله تعالى * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين) * إذ يفهم منه أنه حرضهما على الأكل من الشجرة لما منعا عنه بأن المقصود قصوركما عن درجة الملائكة
فكلا منها ليحصل لكما ذلك الشرف
والجواب إنهما رأيا الملائكة أحسن صورة وأعظم خلقا وأكمل قوة فمناهما مثل ذلك
وخيل إليهما أنه الكمال والفضيلة
الثالث قوله تعالى * (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) * وهو صريح في تفضيل الملائكة على المسيح كما يقال لا أنا أقدر على هذا ولا من هو فوقي في القوة
ولا يقال من هو دوني
الجواب إن النصارى استعظموا المسيح لما رأوه قادرا على إحياء الموتى ولكونه بلا أب والملائكة فوقه فيهما فإنهم قادرون على ما لا يقدر عليه
ولكونهم بلا أب ولا أم
فإذا لم يستنكفوا من العبودية ولم يصر ذلك
456

سببا لادعائهم الألوهية
فالمسيح أولى بذلك
وليس ذلك من الأفضلية في شيء
الرابع قوله تعالى * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) *
والمراد بكونهم عنده أوليس
القرب المكاني بل قرب الشرف والرتبة
وأيضا فجعله دليلا على أنهم إذا لم يستكبروا فغيرهم أولى أن لا يستكبروا فذلك دليل أفضليتهم
الجواب المعارضة بقوله * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) * وبقول الرسول حكاية عن الله (أنا عند المنكسرة قلوبهم) وكم بين من يكون عند الله ومن يكون الله عنده
وأما الاستدلال بعدم الاستكبار فبكونهم أقوى لا أفضل
الخامس أن الملائكة معلمو الأنبياء
قال تعالى * (علمه شديد القوى) *
وقال * (نزل به الروح الأمين على قلبك) *
والمعلم أفضل
والجواب أنهم المبلغون
والمعلم هو الله
السادس الملائكة رسل الله إلى الأنبياء
والرسول أقرب إلى المرسل من المرسل إليه كالنبي بالنسبة إلى أمته فكون أفضل
الجواب فيجب أن يكون واحد من آحاد الناس إذا أرسله ملك إلى ملك أفضل من الملك المرسل إليه
457

السابع إطراد تقديم ذكر الملائكة على ذكر الأنبياء
والمفضول لا يقدم على سبيل الاطراد
الجواب إن ذلك بحسب ترتيب الوجود أو الإيمان
فإن وجود الملائكة أخفى
فالإيمان به أقوى
الشرح
المقصد الثامن في تفضيل الأنبياء على الملائكة
لا نزاع في أنها أفضل من الملائكة السفلية الأرضية
إنما النزاع في الملائكة العلوية السماوية
فقال أكثر أصحابنا الأنبياء أفضل
وعليه الشيعة وأكثر أهل الملل
وقالت المعتزلة
وأبو عبد الله الحليمي والقاضي أبو بكر منا الملائكة أفضل
وعليه الفلاسفة
احتج أصحابنا بوجوه أربعة
الأول قوله تعالى * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * فقد أمروا بالسجود له وأمر الأدنى بالسجود للأفضل هو السابق إلى الفهم
وعكسه على خلاف الحكمة لأن السجود أعظم أنواع الخدمة
وإخدام الأفضل للمفضول مما لا تقبله العقول
وإذا كان آدم أفضل منهم كان غيره من الأنبياء كذلك إذ لا قائل بالفضل
لا يقال السجود يقع على أنحاء
فلعله لم يكن سجود تعظيم له إذ يجوز أن يكون سجودهم لله وآدم كان كالقبلة لهم
وعلى تقدير كونه لآدم جاز أن يكون عرفهم في السجود كونه قائما مقام السلام في عرفنا فلا يكون غاية في التواضع والخدمة لأن هذه قضية عرفية يجوز اختلافها باختلاف الأزمنة
وأيضا جاز أن يكون أمرهم بالسجود ابتلاء لهم ليتميز المطيع منهم عن العاصي
فلا يدل على تفضيله عليهم في شيء من هذه الاحتمالات
458

لأنا نقول قوله * (أرأيتك هذا الذي كرمت علي) * و * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * يدل على أنه إسجاد تكرمة وتفضيل وينفي سائر الاحتمالات إذ لم يتقدم هناك ما يصرف إليه التكريم سوى الأمر بالسجود
الثاني قوله تعالى * (وعلم آدم الأسماء كلها) * إلى قوله * (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) * فإنه يدل على أن آدم علم الأسماء كلها ولم يعلموها
والعالم أفضل من غيره
لأن الآية سيقت لذلك
ولقوله تعالى * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) *
الثالث أن للبشر عوائق عن العبادة من شهوته وغضبه وحاجاته الشاغلة لأوقاته
وليس للملائكة شيء من ذلك
ولا شك أن العبادة مع هذه العوائق أدخل في الإخلاص وأشق فتكون أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم (أفضل الأعمال أحمزها) أي أشقها
فيكون صاحبها أكثر ثوابا عليها
الرابع إن الإنسان ركب تركيبا بين الملك الذي له عقل بلا شهوة والبهيمة التي لها شهوة بلا عقل
فبعقله له حظ من الملائكة وبطبيعته له حظ من البهيمة ثم أن من غلب طبيعته عقله فهو شر من البهائم لقوله تعالى * (أولئك كالأنعام بل هم أضل) * وقوله * (إن شر الدواب عند الله) * الآية
وذلك يقتضي بطريق قياس أحد الجانبين على الآخر
459

أن يكون من غلب عقله طبيعته خيرا من الملائكة
احتج الخصم على تفضيل الملائكة بوجوه عقلية ونقلية
أما العقلية فستة
الأول الملائكة أرواح مجردة عن علائق المادة وتوابعها فليس شيء من أوصافها بالقوة بل كمالاتها كلها بالفعل في مبدأ الفطرة بخلاف السفليات أي النفوس الناطقة الإنسانية
فإنها في ابتداء فطرتها خالية عن كمالاتها
وإنما يحصل لها منها ما يحصل على سبيل التدريج والانتقال من القوة إلى الفعل
والتام أكمل من غيره
الثاني الروحانيات متعلقة بالهياكل العلوية الشريفة المبرأة عن الفساد
وهي الأفلاك والكواكب المدبرة لما في عالمنا هذا باتصالاتها وأوضاعها
والنفوس الإنسانية متعلقة بالأجسام السفلية الكائنة الفاسدة
ونسبة النفوس كنسبة الأجساد
الثالث الروحانيات مبرأة عن الشهوة والغضب
وهما المبدأ للشرور والأخلاق الذميمة كلها
الرابع الروحانيات نورانية لطيفة لا حجاب فيها عن تجلي الأنوار القدسية فهي أبدا مستغرقة في مشاهدة الأنوار الربانية
والجسمانيات مركبة من المادة والصورة
والمادة ظلمانية مانعة عن تلك المشاهدة المستمرة
الخامس الروحانيات قوية على أفعال شاقة كالزلازل والسحب
فإن الزلازل توجد بتحريكاتها والسحاب يعرض ويزول بتصريفاتها
والآثار العلوية تحدث بمعوناتها
وقد نطق به الكتاب الكريم حيث قال * (فالمقسمات أمرا) *
وقال * (فالمدبرات أمرا) * لا يلحقها بذلك فتور لأن قدرتهم
460

على تغيير الأجسام وتقليب الأجرام وتحريكاتها ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب بخلاف الجسمانيات
السادس الروحانيات أعلم لإحاطتها بما كان في الأعصر الأول وبما سيكون في الأزمنة الآتية وبالأمور الغائبة عنا في الحال وعلومهم كلية إذ لا حواس لها ترتسم فيها المثل الجزئية فعلية لأنها مبادئ للحوادث في عالم الكون والفساد فطرية أي حاصلة في ابتداء فطرتهم لكونها مجردة بريئة عن القوة آمنة من الغلط
والجسمانيات بخلافه
والجواب إن ذلك كله مبني على القواعد الفلسفية التي لا نسلمها ولا نقول بها على أن النزاع من المتكلمين في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب فتدبر
وأما الوجوه النقلية فسبعة
الأول قوله تعالى * (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك) * فإنه كلام في معرض التواضع ونفي التعظيم والترفع والنزول عن هذه الدرجات فكأنه قال لا أثبت لنفسي مرتبة فوق البشرية كالإلهية والملكية بل أدعي لها ما ثبت لكثير من البشر وهو النبوة
والجواب لا نسلم أنه في معرض التواضع بل لما نزل ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى * (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) *
والمراد قريش
استعجلوه بالعذاب تهكما به وتكذيبا له
فنزلت * (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك) * بيانا لأنه أوليس
له إنزال العذاب من خزائن الله بفتحها
ولا يعلم أيضا متى ينزل بهم العذاب منها ولا هو ملك فيقدر على إنزال
461

العذاب عليهم
كما يحكى أن جبريل عليه السلام قلب بأحد جناحيه المؤتفكات وهي بلاد قوم لوط فقد دلت الآية على أن الملك أقدر وأقوى فأين حديث الأفضلية التي هي أكثر الثواب
الثاني قوله تعالى * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين) * إذ يفهم منه أنه حرضهما على الأكل من الشجرة لما منعا عنه بأن المقصود بالمنع قصوركما عن درجة الملائكة فكلا منها ليحصل لكما ذلك الشرف
فقبلا منه وأقدما عليه
والجواب إنهما رأيا الملائكة أحسن صورة وأعظم خلقا وأكمل قوة منهما فمناهما مثل ذلك وخيل إليهما أنه الكمال الحقيقي والفضيلة المطلوبة
الثالث قوله تعالى * (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) * وهو صريح في تفضيل الملائكة على المسيح كما يقال لا أنا أقدر على هذا ولا من هو فوقي في القوة
ولا يقال من هو دوني
وكما يقال لا يستنكف الوزير عن خدمة فلان ولا السلطان ولا يجوز أن يعكس
الجواب إن النصارى استعظموا المسيح لما رأوه قادرا على إحياء الموتى ولكونه بلا أب فأخرجوه عن كونه عبد الله وادعوا له الألوهية
والملائكة فوقه فيهما
فإنهم قادرون على ما لا يقدر عليه ولكونهم بلا أب ولا أم
فإذا لم يستنكفوا من العبودية ولم يصر ذلك سببا لادعائهم الألوهية
فالمسيح أولى بذلك
وليس ذلك من الأفضلية التي نحن بصددها في شيء
الرابع قوله تعالى * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) * والمراد
462

بكونهم عنده أوليس
القرب المكاني إذ لامكان له تعالى
بل قرب الشرف والرتبة
أيضا فجعله أي جعل عدم استكبارهم عن عبادته دليلا على هذا الوجه وهو أنهم إذا لم يستكبروا فغيرهم أولى أن لا يستكبروا فذلك دليل أفضليتهم إذ مع التساوي أو المفضولية لا يحسن ذلك الاستدلال
والجواب المعارضة بقوله تعالى في حق البشر * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) * فيظهر حينئذ أن العندية تدل على الفضيلة دون الأفضلية والمعارضة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله سبحانه وتعالى (أنا عند المنكسرة قلوبهم) وكم بين أن يكون عند الله ومن يكون الله عنده كما يشهد به الذوق السليم
وأما الاستدلال بعدم الاستكبار فبكونهم أقوى وأقدر على الأفعال لا بكونهم أفضل
الخامس إن الملائكة معلمو الأنبياء
قال تعالى * (علمه شديد القوى) *
وقال * (نزل به الروح الأمين على قلبك) * والمعلم أفضل من المتعلم
الجواب إنهم المبلغون
والمعلم هو الله
وإسناد التعليم إليهم من باب المجاز العقلي
السادس الملائكة رسل الله إلى الأنبياء والرسول أقرب إلى المرسل من المرسل إليه كالنبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى أمته
فتكون الملائكة أفضل
الجواب إن كان ما ذكرتم قاعدة كلية فيجب أن يكون واحد من آحاد الناس إذا أرسله ملك إلى ملك أفضل من الملك المرسل إليه
وهو باطل قطعا
السابع إطراد تقديم ذكر الملائكة على ذكر الأنبياء
والمفضول لا يقدم على سبيل الاطراد
463

الجواب إن ذلك التقديم المطرد إنما هو بحسب ترتيب الوجود فإن الملائكة مقدمون في الوجود فجعل الوجود اللفظي مطابقا للوجود الحقيقي
أو بحسب ترتيب الإيمان
فإن وجود الملائكة أخفى
فالإيمان به أقوى فيكون تقديم ذكرهم أولى
المقصد التاسع في كرامات الأولياء
المتن وأنها جائزة عندنا واقعة خلافا للأستاذ أبي إسحق والحليمي منا
وغير أبي الحسين من المعتزلة
لنا أما جوازها فظاهر على أصولنا
وأما وقوعها فلقصة مريم وقصة آصف وقصة أصحاب الكهف
وشئ منها لم يكن معجزة لفقد شرطه
وهو مقارنة الدعوى والتحدي
احتج من لم يجوز الخوارق بما مر بجوابه
ومن جوزها وأنكر احتج بأنها لا تتميز عن المعجزة فلا تكون المعجزة دالة على النبوة وينسد باب إثباتها
والجواب إنها تتميز بالتحدي مع ادعاء النبوة وعدمه
الشرح
المقصد التاسع في كرامات الأولياء
وأنها جائزة عندنا خلافا لمن منع جواز الخوارق
واقعة خلافا للأستاذ أبي إسحاق والحليمي منا وغير أبي الحسين من المعتزلة
464

قال الإمام الرازي في الأربعين المعتزلة ينكرون كرامات الأولياء
ووافقهم الأستاذ أبو إسحاق منا
وأكثر أصحابنا يثبتونها
وبه قال أبو الحسين البصري من المعتزلة
لنا أما جوازها فظاهر على أصولنا
وهي أن وجود الممكنات مستند إلى قدرته الشاملة لجميعها فلا يمتنع شيء منها على قدرته ولا يجب غرض في أفعاله
ولا شك أن الكرامة أمر ممكن إذ أوليس
يلزم من فرض وقوعها محال لذاته
وأما وقوعها فلقصة مريم رضي الله عنها حيث حملت بلا ذكر ووجد الرزق عندها بلا سبب وتساقط عليها الرطب من النخلة اليابسة
وجعل هذه الأمور معجزات لزكريا أو إرهاصا لعيسى مما لا يقدم عليه منصف
وقصة آصف وهي إحضاره عرش بلقيس من مسافة بعيدة في طرفة عين
ولم يكن ذلك معجزة لسليمان عليه السلام إذ لم يظهر على يده مقارنا لدعواه النبوة
وقصة أصحاب الكهف وهي أن الله سبحانه وتعالى أبقاهم ثلاثمائة سنة وأزيد نياما أحياء بلا آفة ولم يكونوا أنبياء إجماعا وشئ منها أي من هذه الأمور الخارقة الواقعة في تلك القصص لم يكن معجزة لفقد شرطه كما أشرنا إليه وهو مقارنة الدعوى والتحدي
احتج من لم يجوز الخوارق أصلا بما مر بجوابه ومن جوزها وأنكر الكرامة احتج بأنها لا تتميز عن المعجزة فلا تكون المعجزة حينئذ دالة على النبوة وينسد باب إثباتها
والجواب إنها تتميز بالتحدي مع ادعاء النبوة في المعجزة وعدمه أي عدم التحدي مع ذلك الادعاء في الكرامة
465

المرصد الثاني في المعاد
وفيه مقاصد
المقصد الأول في إعادة المعدوم
المتن وهي جائزة عندنا خلافا للفلاسفة والتناسخية وبعض الكرامية وأبي الحسين البصري
لنا أنه لا يمتنع وجوده الثاني لذاته ولا للوازمه وإلا لم يوجد ابتداء
فإن قيل العود أخص من الوجود
ولا يلزم من إمكان الأعم إمكان الأخص ولا من امتناع الأخص امتناع الأعم
قلنا الوجود أمر واحد لا يختلف ابتداء وإعادة
وكذلك الإيجاد
فإذا يتلازمان إمكانا ووجوبا وامتناعا
ولو جوزنا كون الشيء ممكنا في زمان ممتنعا في زمان آخر معللا بأن الوجود في الزمان الثاني أخص من الوجود مطلقا ومغاير للوجود في الزمان الأول بحسب الإضافة لجاز الانقلاب من
466

الامتناع إلى الوجود
وفيه مخالفة لبديهية العقل وإغناء للحوادث عن المحدث وسد لباب إثبات الصانع
ويمكن أن يقال الإعادة أهون من الابتداء
* (وله المثل الأعلى) *
لأنه استفاد بالوجود الأول ملكة الاتصاف بالوجود
والخصم يدعي الضرورة تارة ويلتجىء إلى الاستدلال أخرى
أما الضرورة فقالوا تخلل العدم بين الشيء ونفسه محال بالضرورة فيكون الوجود بعد العدم غير الوجود قبله فلا يكون المعاد هو المبتدأ بعينه
وأما الاستدلال فهو من وجوه
الأول إنما يكون المعاد معادا بعينه إذا أعيد بجميع عوارضه
ومنها الوقت فيلزم أن يعاد في وقته الأول
وكل ما وقع في وقته الأول فهو مبتدأ فيكون حينئذ مبتدأ من حيث أنه معاد
هذا خلف
الجواب إنما اللازم إعادة عوارضه المشخصة والوقت أوليس
منها ضرورة أن زيدا الموجود في هذه الساعة هو الموجود قبلها بحسب الأمر الخارجي
وما يقال إنا نعلم بالضرورة أن الموجود مع قيد كونه في هذا الزمان غير الموجود مع قيد كونه قبل هذا الزمان فأمر وهمي
والتغاير إنما هو بحسب الذهن دون الخارج
ويحكى أنه وقع هذا البحث لابن سينا مع أحد تلامذته وكان مصرا على التغاير فقال له إن كان الأمر على ما تزعم فلا يلزمني الجواب لأني غير من كان يباحثك
فبهت وعاد إلى الحق واعترف بعدم التغاير في الواقع
ولئن سلمنا أن الوقت داخل في العوارض وأنه معاد بوقته الأول فلم قلتم إن الواقع في وقته الأول يكون مبتدأ وإنما يكون كذلك أن لو لم يكن وقته معادا معه
467

الثاني لو فرضنا إعادته بعينه والله قادر على إيجاد مثله مستأنفا فلنفرضه موجودا
وحينئذ لا يتميز المعاد عن المستأنف ويلزم الإثنينية بدون الامتياز
وهو ضروري البطلان
الجواب منع عدم التمايز بل يتمايزان بالهوية كما يتمايز مبتدأ عن مبتدأ مع التماثل
وكل اثنين متمايزان بالهوية سواء كانا مبتدأين أو معادين أو أحدهما مبتدأ والآخر معادا
وأي اختصاص لهذا بالمبتدأ والمعاد
الثالث الحكم بأن هذا عين الأول يستدعي تميزه حال العدم وأنه محال
الجواب على أصل المعتزلة وهو كون المعدوم شيئا ظاهرا
وعلى أصلنا لأنا نمنع استدعاءه للتميز بل التميز إنما يحصل حال الإعادة وهو أمر وهمي لا حقيقة له
الشرح
المرصد الثاني في المعاد
وفيه مقاصد
المقصد الأول في إعادة المعدوم فإن المعاد الجسماني يتوقف عليها عند من يقول بإعدام الأجسام دون من يقول بأن فناءها عبارة عن تفرق أجزائها واختلاط بعضها ببعض كما يدل عليه قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في إحياء الطير
وهي جائزة عندنا وعند مشايخ المعتزلة
لكن عندهم المعدوم شيء
فإذا عدم الموجود بقي ذاته المخصوصة فأمكن لذلك أن يعادوا
وعندنا ينتفي بالكلية مع إمكان الإعادة خلافا للفلاسفة والتناسخية المنكرين للمعاد الجسماني وبعض
468

الكرامية وأبي الحسين البصري ومحمود الخوارزمي من المعتزلة
فإن هؤلاء وإن كانوا مسلمين معترفين بالمعاد الجسماني ينكرون إعادة المعدوم ويقولون إعادة الأجسام هي جمع أجزائها المتفرقة كما نبهنا عليه
لنا في جواز الإعادة أنه لا يمتنع وجوده الثاني لذاته ولا للوازمه
وإلا لم يوجد ابتداء بل كان من قبيل الممتنعات لأن مقتضى ذات الشيء أو لوازمه لا يختلف بحسب الأزمنة وإذا لم يمتنع كذلك كان ممكنا بالنظر إلى ذاته وهو المطلوب
فإن قيل العود لكونه وجودا حاصلا بعد طريان العدم أخص من الوجود المطلق
ولا يلزم من إمكان الأعم إمكان الأخص
ولا من امتناع الأخص امتناع الأعم فجاز أن يمتنع وجوده بعد عدمه إما لذاته أو لازمه
ولا يمتنع وجوده مطلقا
قلنا الوجود أمر واحد في حد ذاته لا يختلف ذلك الواحد ابتداء وإعادة بحسب حقيقته وذاته بل بحسب الإضافة إلى أمر خارج عن ماهيته وهو الزمان
وكذلك الإيجاد أمر واحد لا يختلف ابتداء وإعادة إلا بحسب تلك الإضافة فإذا يتلازمان أي الوجودان المبدأ والمعاد
وكذا الإيجادان إمكانا ووجوبا وامتناعا لأن الأشياء المتوافقة في المعية يجب اشتراكها في هذه الأمور المستندة إلى ذواتها
ولو جوزنا كون الشيء الواحد ممكنا في زمان كزمان الابتداء ممتنعا في زمان آخر كزمان الإعادة معللا أي ذلك الكون بأن الوجود في الزمان الثاني أخص من الوجود مطلقا ومغاير للوجود في الزمان الأول بحسب الإضافة
فلا يلزم من امتناع
469

الوجود الثاني امتناع ما هو أعم منه أو امتناع ذلك المغاير لجاز الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي معللا بأن الوجود في زمان أخص من الوجود المطلق ومغاير للوجود في زمان آخر فجاز أن يكون ذلك الأخص ممتنعا والمطلق أو المغاير واجبا
وفيه أي في التجويز الثاني اللازم للتجويز الأول مخالفة لبديهة العقل الحاكمة بأن الشيء الواحد يستحيل أن يقتضي لذاته عدمه في زمان ويقتضي وجوده لذاته في زمان آخر لأن اقتضاء الذات من حيث هي هي لا يتصور انفكاكه عنها
وفيه غناء للحوادث عن المحدث لجواز أن تكون ممتنعة لذواتها في زمان كونها معدومة وواجبة لذواتها حال كونها موجودة
فلا حاجة بها إلى صانع يحدثها بل ذواتها كافية في حدوثها
وفيه سد لباب إثبات الصانع تعالى بالاستدلال عليه من مصنوعاته لما عرفت من استغناء الحوادث
ويمكن في إثبات جواز الإعادة أن يقال الإعادة أهون من الابتداء كما ورد في الكلام المجيد
* (وله المثل الأعلى) * لأنه أي ذلك المعدوم استفاد بالوجود الأول الذي كان قد اتصف به ملكه الاتصاف بالوجود فيقبل الوجود أسرع
وأشار باقتباس قوله تعالى * (وله المثل الأعلى) * إلى أن تلك الأهونية إنما هي بالقياس إلى القدرة الحادثة التي تتفاوت مقدوراتها مقيسة إليها
وأما القدرة القديمة فجميع مقدوراتها عندها على السوية لا يتصور هناك تفاوت بالأهونية
والخصم يدعي الضرورة تارة ويلتجىء إلى الاستدلال أخرى
أما الضرورة فقالوا تخلل العدم بين الشيء ونفسه محال بالضرورة إذ لا بد للتخلل من طرفين متغايرين فيكون حينئذ الوجود بعد العدم غير الوجود قبله حتى يتصور تخلل العدم بينهما
وعلى هذا فلا يكون
470

المعاد هو المبتدأ بعينه لأن كلا منهما موجودا بوجود مغاير لوجود صاحبه فهما موجودان متغايران فلا يكون الموجود الأول بعينه معادا بعد عدمه
والجواب أنه لا معنى لتخلل العدم ههنا سوى أنه كان موجودا زمانا ثم زال عنه ذلك الوجود في زمان آخر ثم اتصف به في زمان ثالث
ومن هذا تبين أن التخلل بحسب الحقيقة إنما هو لزمان العدم بين زماني الوجود الواحد
وإذا اعتبر نسبة هذا التخلل إلى العدم مجازا كفاه اعتبار التغاير في الوجود الواحد بحسب زمانيه على أن دعوى الضرورة في حكم خالفه جمهور من العقلاء غير مسموعة وأما الاستدلال فهو من وجوه
الأول إنما يكون المعاد معادا بعينه إذا أعيد بجميع عوارضه
ومنها الوقت الذي كان فيه مبتدأ
فيلزم أن يعاد في وقته الأول
وكل ما وقع في وقته الأول فهو مبتدأ فيكون حينئذ مبتدأ من حيث أنه معاد
هذا خلف
الجواب إنما اللازم في إعادة الشيء بعينه إعادة عوارضه المشخصة والوقت أوليس
منها ضرورة أن زيدا الموجود في هذه الساعة هو بعينه الموجود قبلها بحسب الأمر الخارجي أي بحسب الأمر المعتبر وجوده في الخارج لا تفاوت ولا تغاير في ذلك
فلو كان الوقت من المشخصات المعتبرة في وجوده خارجا لكان هو في كل وقت شخصا آخر
وهو باطل قطعا
وما يقال أنا نعلم بالضرورة أن الموجود مع قيد كونه في هذا الزمان غير الموجود مع قيد كونه قبل هذا الزمان فأمر وهمي والتغاير الذي يحكم به في هذه الصورة إنما هو بحسب الذهن والاعتبار دون الخارج
471

ويحكى أنه وقع هذا البحث لابن سينا مع أحد تلامذته وكان ذلك التلميذ مصرا على التغاير بحسب الخارج بناء على أن الوقت من العوارض المشخصة
فقال ابن سينا له إن كان الأمر على ما تزعم فلا يلزمني الجواب لأني غير من كان يباحثك وأنت أيضا غير من كان يباحثني فبهت التلميذ وعاد إلى الحق واعترف بعدم التغاير في الواقع وبأن الوقت أوليس
من المشخصات
ولئن سلمنا أن هذا الوقت داخل في العوارض المشخصة وأنه أي المعدوم معاد بوقته الأول فلم قلتم إن الواقع في وقته الأول يكون مطلقا مبتدأ حتى يلزم كونه مبتدأ ومعادا معا
وإنما يكون كذلك أن لو لم يكن وقته أيضا معادا معه وبعبارة أخرى الواقع في وقته الأول إنما يكون مبتدأ إذا لم يكن مسبوقا بحدوث آخر
أما إذا كان مسبوقا به فيكون معادا لا مبتدأ
الثاني لو أمكن الإعادة وفرضنا إعادته بعينه والله قادر على إيجاد مثله مستأنفا بلا شبهة فلنفرضه أيضا موجودا مع ذلك المعاد وحينئذ لا يتميز المعاد عن المستأنف ويلزم الإثنينية بدون الامتياز بين ذينك الاثنين وهو ضروري البطلان
الجواب منع عدم التمايز حينئذ بين المعاد والمستأنف المذكورين بل يتمايزان بالهوية أي بالعوارض المشخصة مع الاتحاد في الماهية كما يتمايز مبتدأ عن مبتدأ مع التماثل في الحقيقة
وكل اثنين متماثلين متمايزان بالهوية سواء كانا مبتدأين أو معادين أو أحدهما مبتدأ والآخر معادا
وأي اختصاص لهذا الذي ذكروه من المحال بالمبتدأ والمعاد بل هو جار في المبتدأين أيضا
فلو صح لزم امتناع وجود المبتدأ بعين ذلك الدليل
472

فإن قيل المراد بالمثل المستأنف ما لا يتميز عن المعاد بوجه من الوجوه
قلنا إمكان وجوده بهذا المعنى ممنوع
إذ لا تعدد بلا تمايز
على أن النقض بالمبتدأ إذا فرض له مثل كذلك وارد
الثالث الحكم الصحيح بأن هذا الذي وجد الآن عين الأول يستدعي تميزه حال العدم
وأنه أي التميز حال العدم محال لأن النفي الصرف لا يتصور له تميز
وأما الشرطية فلأن صحة ذلك الحكم تستدعي اتصاف ذلك المعدوم حال عدمه بصحة العود إذ لو لم يتصف بصحة العود لما أمكن عوده
فلا يصح ذلك الحكم عليه
واتصافه بصحة العود يقتضي امتيازه
وإلا لم يكن ذلك الاتصاف أولى به من غيره
الجواب على أصل المعتزلة
وهو كون المعدوم شيئا أي أمرا ثابتا متقررا حال العدم ظاهر
لأن إبطال التالي حينئذ ممنوع
وما ذكر في بيانه مردود
والجواب على أصلنا منع الشرطية لأنا نمنع استدعاءه أي استدعاء ذلك الحكم وصحته للتميز في الخارج
فإن صحة العود صفة اعتبارية هي إمكان الوجود بعد زواله فلا يكون الاتصاف بها مقتضيا للامتياز الخارجي
بل التميز في الخارج إنما يحصل حال الإعادة
أعني زمان الوجود الثاني
وهو أي التميز الحاصل للمعدوم حال عدمه واتصافه بصحة العود أمر وهمي لا حقيقة له بحسب الخارج كالتميز الحاصل في الممكنات التي لم توجد بعد
473

فإن قيل نحن ندعي لزوم هذا التميز
قلنا فبطلانه ممنوع حينئذ
لأن مثل هذا التميز حاصل للمعدومات الصرفة كالممتنعات
المقصد الثاني في حشر الأجساد
المتن أجمع أهل الملل عن آخرهم على جوازه ووقوعه
وأنكرهما الفلاسفة
أما الجواز فلأن جمع الأجزاء على ما كانت عليه وإعادة التأليف المخصوص فيها أمر ممكن كما مر
والله عالم بتلك الأجزاء قادر على جمعها وتأليفها لما بينا من عموم علمه وقدرته وصحة القبول والفعل توجب الصحة قطعا
وأما الوقوع فلأن الصادق أخبر عنه في مواضع لا تحصى بعبارات لا تقبل التأويل حتى صار معلوما بالضرورة كونه من الدين
وكل ما أخبر به الصادق فهو حق
احتج المنكر بوجهين
الأول لو أكل إنسان إنسانا بحيث صار المأكول جزءا منه فتلك الأجزاء إما أن تعاد فيهما وهو محال أو في أحدهما فلا يكون الآخر معادا بعينه
الجواب إن المعاد إنما هو الأجزاء الأصلية
وهي الباقية من أول العمر إلى آخره لا جميع الأجزاء
وهذه هي الآكل فضل
فإنا نعلم أن الإنسان باق مدة عمره وأجزاء الغذاء تتوارد عليه وتزول عنه
الثاني لو حشر
فإما لا لغرض وهو عبث
وإما لغرض إما عائد إلى
474

الله وهو منزه عنه أو إلى العبد وهو إما الإيلام وأنه منتف إجماعا وببديهة العقل لقبحه وعدم ملاءمته للحكمة والعناية
وإما الإلذاذ وهو أيضا باطل لأن اللذة إنما هو دفع الألم بالاستقراء
وأنه لو ترك لم يكن له ألم
والإيلام ليدفع فيلتذ لا يصلح غرضا إذ لا معنى له
الجواب نختار أنه لا لغرض
وحكاية العبث والقبح العقلي قد مر جوابه
ولا نسلم أن الغرض هو إما الإيلام أو الإلذاذ
ولعل فيه غرضا آخر لا نعلمه
سلمنا
لكن لا نسلم أن اللذة دفع الألم
غايته أن في دفع الألم لذة
وأما أنها ليست إلا هو فلا
ولم لا يجوز أن تكون أمرا آخر يحصل معه تارة ودونه أخرى سلمنا ذلك في اللذات الدنيوية فلم قلتم إن اللذات الأخروية كذلك ولم لا يجوز أن تكون اللذات الأخروية مشابهة للدنيوية صورة ومخالفة لها حقيقة
فتكون حقيقة هذه دفع الألم
وحقيقة تلك أمرا آخر
ولا مجال للوجدان والاستقراء فيها
تذنيب هل يعدم الله الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف الحق أنه لم يثبت ذلك ولا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل
وما يحتج به من قوله تعالى " كل شيء هالك إلا وجهه "
475

ضعيف فإن التفريق هلاك
فإن هلاك كل شيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه وزوال التأليف الذي به تصلح الأجزاء لأفعالها وتتم منافعها والتفريق كذلك
الشرح
المقصد الثاني في حشر الأجساد
أجمع أهل الملل والشرائع عن آخرهم على جوازه ووقوعه
وأنكرهما الفلاسفة
أما الجواز فلأن جمع الأجزاء على ما كانت عليه وإعادة التأليف المخصوص فيهما أمر ممكن لذاته كما مر وذلك أن الأجزاء المتفرقة المختلطة بغيرها قابلة للجمع بلا ريبة
وإن فرض أنها عدمت جاز إعادتها ثم جمعها وإعادة ذلك التأليف فيها لما عرفت من جواز إعادة المعدوم
والله سبحانه وتعالى عالم بتلك الأجزاء وأنها لأي بدن من الأبدان قادر على جمعها وتأليفها لما بينا من عموم علمه تعالى لجميع المعلومات وقدرته على جميع الممكنات وصحة القبول من القابل والفعل من الفاعل توجب الصحة أي صحة الوقوع وجوازه قطعا وذلك هو المطلوب
وأما الوقوع فلأن الصادق الذي علم صدقه بأدلة قاطعة أخبر عنه في مواضع لا تحصى بعبارات لا تقبل التأويل حتى صار معلوما بالضرورة كونه من الدين القويم والصراط المستقيم
فمن أراد تأويلها بالأمور الراجعة إلى النفوس الناطقة فقط فقد كابر بإنكار ما هو من ضرورات ذلك الدين وكل ما أخبر به الصادق فهو حق
احتج المنكر بوجهين
الأول لو أكل إنسان إنسانا بحيث صار المأكول أي بعضه جزءا منه أي من الآكل
فلو أعاد الله ذينك الإنسانين بعينهما فتلك الأجزاء التي كانت للمأكول ثم صارت للآكل إما أن تعاد فيهما أي في كل واحد
476

منهما وهو محال لاستحالة أن يكون جزء واحد بعينه في آن واحد في شخصين متباينين
أو يعاد في أحدهما وحده فلا يكون الآخر معادا بعينه
والمقدر خلافه
فثبت أنه لا يمكن إعادة جميع الأبدان بأعيانها كما زعمتم
الجواب إن المعاد إنما هو الأجزاء الأصلية وهي الباقية من أول العمر إلى آخره لا جميع الأجزاء على الإطلاق
وهذه أي الأجزاء الأصلية التي كانت للإنسان المأكول في الآكل فضل
فإنا نعلم أن الإنسان باق مدة عمره وأجزاء الغذاء تتوارد عليه وتزول عنه
وإذا كانت فضلا فيه لم يجب إعادتها في الآكل بل في المأكول
الثاني لو حشر فإما لا لغرض وهو عبث لا يتصور في أفعاله تعالى
وإما لغرض إما عائد إلى الله تعالى وهو منزه عنه أو إلى العبد وهو إما الإيلام وأنه منتف إجماعا من العقلاء وببديهة العقل أيضا
وذلك لقبحه وعدم ملاءمته للحكمة الإلهية والعناية الأزلية وإما الإلذاذ
وهو أيضا باطل
لأن اللذة الجسمانية لا حقيقة لها إنما هو دفع الألم بالاستقراء
وأنه لو ترك في حاله ولم يعد لم يكن له ألم
فهذا الغرض حاصل بدون الإعادة فلا فائدة فيها وأما الإيلام أولا ليدفع ذلك الألم ثانيا فيلتذ بعدمه
فهو لا يصلح غرضا إذ لا معنى له كأن يمرض عبده ليدفعه عنه فيلتذ به
أي يعود إلى عدم المرض
الجواب نختار أنه لا غرض
وحكاية العبث والقبح العقلي قد مر جوابه
ولا نسلم أن الغرض هو إما الإيلام أو الإلذاذ ولعل فيه غرضا آخر لا نعلمه
سلمنا أن الغرض منحصر فيهما لكن لا نسلم أن اللذة الجسمانية
477

لا حقيقة لها
وأنها دفع الألم
غايته أن في دفع الألم لذة
وأما أنها ليست إلا هو أي دفع الألم فلا دليل عليه
ولم لا يجوز أن تكون تلك اللذة أمرا آخرا يحصل معه أي مع دفع الألم تارة ودونه أخرى والدوران وجودا وعدما في بعض الصور لا ينافي ما ذكرناه
سلمنا ذلك في اللذات الدنيوية
فلم قلتم إن اللذات الجسمانية الأخروية كذلك أي دفع الألم
ولم لا يجوز أن تكون اللذات الأخروية مشابهة للدنيوية صورة ومخالفة لها حقيقة فتكون حقيقة هذه الدنيوية دفع الألم كما ادعيتم وحقيقة تلك الأخروية أمرا آخر وجوديا
ولا مجال للوجدان والاستقراء فيها أي في اللذات الأخروية حتى يدرك بهما حقيقتها كما أدركت حقيقة الدنيوية بهما على زعمكم
تذنيب هل يعدم الله الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف الحق أنه لم يثبت ذلك ولا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل على شيء من الطرفين
وما يحتج به على الإعدام من قوله تعالى " كل شيء هالك إلا وجهه " ضعيف في الدلالة عليه لأن التفريق هلاك كالإعدام فإن هلاك كل شيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه وزوال التأليف الذي به تصلح الأجزاء لأفعالها وتتم منافعها
والتفريق بالرفع عطفا على زوال يجري منه مجرى التفسير
وقوله كذلك خبر لهما أي زوال التأليف والتفريق خروج للشيء عن صفاته المطلوبة منه فيكون هلاكا
ومثله يسمى فناء عرفا
فلا يتم الاستدلال بقوله تعالى * (كل من عليها فان) * على الإعدام أيضا
واعلم أن الأقوال الممكنة في مسألة المعاد لا تزيد على خمسة
الأول ثبوت المعاد الجسماني فقط
وهو قول أكثر المتكلمين النافين للنفس الناطقة
478

والثاني ثبوت المعاد الروحاني فقط
وهو قول الفلاسفة الإلهيين
والثالث ثبوتهما معا
وهو قول كثير من المحققين كالحليمي والغزالي والراغب وأبي زيد الدبوسي ومعمر من قدماء المعتزلة وجمهور من متأخري الإمامية وكثير من الصوفية فإنهم قالوا الإنسان بالحقيقة هو النفس الناطقة
وهي المكلف والمطيع والعاصي والمثاب والمعاقب
والبدن يجري منها مجرى الآلة
والنفس باقية بعد فساد البدن فإذا أراد الله تعالى حشر الخلائق خلق لكل واحد من الأرواح بدنا يتعلق به ويتصرف فيه كما كان في الدنيا
والرابع عدم ثبوت شيء منهما
وهذا قول القدماء من الفلاسفة الطبيعيين
والخامس التوقف في هذه الأقسام
وهو المنقول عن جالينوس فإنه قال لم يتبين لي أن النفس هل هي المزاج فينعدم عند الموت فيستحيل إعادتها أو هي جوهر باق بعد فساد البنية فيمكن المعاد حينئذ
479

والمصنف قرر أولا مذهب القائلين بالمعاد الجسماني فقط ثم شرع في بيان مذهب القائلين بالمعاد الروحاني فقط بقوله
المقصد الثالث
المتن في حكاية مذهب الحكماء المنكرين لحشر الأجساد في أمر المعاد
قالوا النفس الناطقة لا تقبل الفناء لأنها بسيطة
وهي موجودة بالفعل
فلو قبلت الفناء لكان للبسيط فعل وقوة
وأنه محال لأن حصول أمرين متنافيين لا يكون إلا في محلين متغايرين
وهو ينافي البساطة
ثم إنها إما جاهلة وإما عالمة
أما الجاهلة فتتألم بعد المفارقة أبدا
وذلك لشعورها بنقصانها نفصانا لا مطمع لها في زواله
وأما العالمة فإما لها هيئات رديئة اكتسبتها بملابسة البدن ومباشرة الرذائل المقتضاة للطبيعة وميلها إلى الشهوات أولا
فإن كانت تألمت بها ما دامت باقية فيها لكنها تزول عاقبة الأمر بحسب شدة رسوخها فيها وضعفه لأنها إنما حصلت لها للركون إلى البدن وجرتها محبتها له
وذلك مما ينسى بطول العهد به ويزول بالتدريج وإن لم تكن بل كانت كاملة بريئة عن الهيئات الرديئة التذت بها أبدا مبتهجة بإدراك كمالها
هذا ما عليه جمهورهم
وقال قوم منهم وهم أهل التناسخ إنما تبقى مجردة النفوس الكاملة التي أخرجت قوتها إلى الفعل
وأما الناقصة فإنها تتردد في الأبدان الإنسانية ويسمى نسخا
وقيل ربما تنازلت إلى الحيوانية ويسمى مسخا
وقيل إلى النباتية ويسمى رسخا
وقيل إلى الجمادية ويسمى فسخا
هذا في
480

المتنازلة
وأما المتصاعدة فقد تتخلص من الأبدان لصيرورتها كاملة كما مر
وقد تتعلق ببعض الأجرام السماوية لبقاء حاجتها إلى الاستكمال ولا يخفى أن ذلك كله رجم بالظن بناء على قدم النفوس وتجردها
الشرح
المقصد الثالث في حكاية مذهب الحكماء المنكرين لحشر الأجساد في أمر المعاد الروحاني الذي هو عندهم عبارة عن مفارقة النفس عن بدنها واتصالها بالعالم العقلي الذي هو عالم المجردات وسعادتها وشقاوتها هناك بفضائلها النفسانية ورذائلها
قالوا النفس الناطقة لا تقبل الفناء أي العدم بعد وجودها
وذلك لأنها بسيطة لما مر في مباحث النفس
وهي موجودة بالفعل فلو قبلت الفناء لكان للبسيط الذي هو النفس حال كونها موجودة فعل بالنسبة إلى وجودها
وقوة أي قابلة بالنسبة إلى فنائها وفسادها
وأنه محال
لأن حصول أمرين متنافيين لا يكون إلا في محلين متغايرين
وهو ينافي البساطة
وتلخيصه أن الموجود بالفعل لا يكون هو بعينه متصفا بقابلية فنائه وفساده لأن القابل يجب بقاؤه مع حصول المقبول
ولا بقاء لذلك الموجود مع الفناء والفساد
فبين وجود شيء بالفعل وقابلية فنائه منافاة
فلا يجتمعان في بسيط
فلو اجتمعا في النفس الناطقة لكانت مركبة من جزئين يكون أحدهما قابلا لفسادهما بمنزلة المادة في الأجسام
481

فإن قيل هي قبل حدوثها معدومة بالفعل وقابلة للوجود ولا يمكن اجتماعهما بمثل ما ذكرتموه ولم يلزم من ذلك تركبها
قلنا لأن المصنف بقابلية وجودها هو المادة البدنية الحاصلة عند حدوثها
فلا حاجة إلى إثبات مادة لجوهر النفس بخلاف ما نحن فيه
وإذا لم تقبل الناطقة الفناء كانت باقية بعد المفارقة
ثم إنها إما جاهلة جهلا مركبا وإما عالمة
أما الجاهلة فتتألم بعد المفارقة أبدا كالكافر عندنا
وذلك لشعورها بنقصانها نقصانا لا مطمع لها في زواله
وإنما لم تتألم قبل المفارقة لأنها لما كانت مشتغلة بالمحسوسات منغمسة في العلائق البدنية ولم تكن تعلقاتها صافية عن الشوائب العادية والظنون والأوهام الكاذبة لم تتنبه لنقصانها وفوت كمالاتها بل ربما تخيلت أضداد الكمال كمالا وفرحت بعقائدها الباطلة واشتاقت الوصول إلى معتقداتها
وإذا فارقت صفت تعلقاتها وشعرت بفوت كمالاتها وامتناع نيلها وحصول نفصاناتها شعورا لا يخفى فيه التباس
وأما العالمة فإما أن تكون لها هيئات رديئة اكتسبتها بملابسة البدن ومباشرة الرذائل المقتضاة للطبيعة وميلها إلى الشهوات أو لا
فإن كانت تلك الهيئات حاصلة لها تألمت بها تألما عظيما واشتاقت إلى مشتهياتها التي ألفت بها اشتياق العاشق المهجور الذي لم يبق له رجاء الوصول ما دامت تلك الهيئات باقية فيها لكنها تزول عاقبة الأمر بحسب شدة رسوخها فيها وضعفها لأنها إنما حصلت لها للركون إلى البدن وجرتها أي جرت وكسبت تلك الهيئات للنفس محبتها له أي
للبدن وذلك مما ينسى بطول العهد به وتزول بالتدريج وتقطع عقوبتها بها كالمؤمن الفاسق على رأينا
وإن لم تكن تلك الهيئات للنفس بل كانت كاملة بريئة
482

عن الهيئات الرديئة التذت بها أي بوجدان لذاتها كذلك أبدا مبتهجة بإدراك كمالها باقيا سرمدا كالمؤمن المتقي عندنا
وأما النفوس الساذجة التي غلبت عليها سلامة الصدور وقلة الاهتمام بأمور الدنيا فلا عقوبة لها لعدم شعورها بالكمالات وانتفاء اشتياقها إليها كغير المكلفين عندنا
فهذا ما عليه جمهورهم
وقال قوم منهم أي من الفلاسفة وهم أهل التناسخ إنما تبقى مجردة عن الأبدان النفوس الكاملة التي أخرجت قوتها إلى الفعل ولم يبق شيء من الكمالات الممكنة لها بالقوة فصارت طاهرة عن جميع العلائق الجسمانية وتخلصت إلى عالم القدس
وأما النفوس الناقصة التي بقي شيء من كمالاتها بالقوة فإنها تتردد في الأبدان الإنسانية وتنتقل من بدن إلى بدن آخر حتى تبلغ النهاية فيما هو كمالها من علومها وأخلاقها فحينئذ تبقى مجردة مطهرة عن التعلق بالأبدان
ويسمى هذا الانتقال نسخا وقيل ربما تنازلت إلى الأبدان الحيوانية فتنتقل من البدن الإنساني إلى بدن حيواني يناسبه في الأوصاف كبدن الأسد للشجاع والأرنب للجبان ويسمى مسخا
وقيل ربما تنازلت إلى الأجسام النباتية
ويسمى رسخا
وقيل إلى الجمادية كالمعادن والبسائط أيضا ويسمى فسخا
قالوا وهذه التنازلات المذكورة هي مراتب العقوبات
وإليها الإشارة بما ورد من الدركات الضيقة في جهنم
هذا في المتنازلة
وأما المتصاعدة من مرتبة إلى ما هو أكمل منها فقد تتخلص من الأبدان كلها لصيرورتها كاملة في جميع صفاتها كما مر
وقد تتعلق ببعض الأجرام السماوية لبقاء حاجتها إلى الاستكمال
ولا يخفى أن ذلك كله رجم بالظن بناء على قدم النفوس وتجردها
وقد أبطلناهما
قال الإمام الرازي وأما القائلون بالمعاد الروحاني والجسماني معا فقد أرادوا أن يجمعوا بين الحكمة والشريعة
فقالوا دل العقل على أن سعادة الأرواح بمعرفة الله تعالى ومحبته وأن سعادة الأجسام في إدراك المحسوسات
والجمع بين هاتين السعادتين في هذه الحياة غير ممكن لأن
483

الإنسان مع استغراقه في تجلي أنوار عالم الغيب لا يمكنه الالتفات إلى شيء من اللذات الجسمانية
ومع استقرائه في استيفاء هذه اللذات لا يمكنه أن يلتفت إلى اللذات الروحانية
وإنما تعذر هذا الجمع لكون الأرواح البشرية ضعيفة في هذا العالم
فإذا فارقت بالموت واستمدت من عالم القدس والطهارة قويت وكملت
فإذا أعيدت إلى الأبدان مرة ثانية كانت قوية قادرة على الجمع بين الأمرين
ولا شبهة في أن هذه الحالة هي الغاية القصوى من مراتب السعادات
وأما المنكرون للمعاد مطلقا فهم الذين قالوا النفس هي المزاج
فإذا مات الإنسان فقد عدمت النفس
وإعادة المعدوم عندهم محال
وقالوا أيضا مسألة المعاد مبنية على أركان أربعة وذلك أن الإنسان هو العالم الصغير
وهذا العالم هو العالم الكبير والبحث عن كل واحد منهما إما عن تخريبه أو تعميره بعد تخريبه
فهذه مطالب أربعة
الأول كيفية تخريب العالم الصغير وهو بالموت
والثاني أنه تعالى كيف يعمره بعدما خربه وهو أنه يعيده كما كان حيا عاقلا ويوصل إليه الثواب والعقاب
والثالث أنه كيف يخرب هذا العالم الكبير أيخربه بتفريق الأجزاء أو بالإعدام والفناء
والرابع أنه كيف يعمره بعد تخريبه وهذا هو القول في شرح أحوال القيامة وبيان أحوال الجنة والنار
فهذا ضبط مباحث هذا الباب
والله أعلم بالصواب
484

المقصد الرابع الجنة والنار هل هما مخلوقتان
المتن ذهب أصحابنا وأبو علي الجبائي وأبو الحسين البصري إلى أنهما مخلوقتان وأنكره أكثر المعتزلة وقالوا إنهما يخلقان يوم الجزاء
لنا وجهان
الأول قصة آدم وحواء وإسكانهما الجنة وإخراجهما عنها بالزلة على ما نطق به الكتاب
وإذا كانت الجنة مخلوقة فكذا النار إذ لا قائل بالفصل
الثاني قوله تعالى في صفتهما * (أعدت للمتقين) * * (أعدت للكافرين) *
بلفظ الماضي
وهو صريح في وجودهما
وأما المنكرون فتمسك عباد بدليل العقل وأبو هاشم بدليل السمع
قال عباد لو وجدتا فإما في عالم الأفلاك أو العناصر أو في عالم آخر
والثلاثة باطلة
أما الأول فلأن الأفلاك لا تقبل الخرق والالتئام
فلا يخالطها شيء من الكائنات الفاسدات
وأما الثاني فلأنه قول بالتناسخ
ولا تقولون به
وقد أبطل بدليله
وأما الثالث فلأن الفلك بسيط وشكله الكرة
ولو وجد عالم آخر لكان كرويا أيضا فينفرض بينهما خلاء
وأنه محال
485

الجواب لا نسلم امتناع الخرق على الأفلاك
وقد تكلمنا على مأخذه
ولا نسلم أنه في عالم العناصر قول بالتناسخ
وإنما يكون كذلك لو قلنا بإعادتها في أبدان أخر
ولا نسلم أن وجود عالم آخر محال
وقد تكلمنا على ذلك فلا نعيده
احتج أبو هاشم بوجهين
الأول قوله تعالى " أكلها دائم " مع قوله " كل شيء هالك إلا وجهه "
فلو كانت مخلوقة وجب هلاك أكلها فلم يكن دائما
الجواب أكلها دائم بدلا
أي كلما فني منه شيء جيء ببدله
فإن دوام أكل بعينه غير متصور
وذلك لا ينافي هلاكه
أو نقول المراد أنه هالك في حد ذاته لضعف الوجود الإمكاني فالتحق بالهالك المعدوم
أو نقول إنهما تعدمان آنا ثم تعادان
وذلك كاف في هلاكهما
الثاني قوله تعالى * (عرضها السماوات والأرض) * ولا يتصور ذلك إلا بعد فناء السماوات والأرض لامتناع تداخل الأجسام
الجواب المراد أنها كعرض السماوات والأرض لامتناع أن يكون عرضها عرضهما بعينه لا حال البقاء ولا بعد الفناء وللتصريح في آية أخرى بأن " عرضها كعرض السماوات والأرض "
فيحمل هذا على تلك كما يقال أبو يوسف أبو حنيفة
486

الشرح
المقصد الرابع الجنة والنار هل هما مخلوقتان الآن أو لا
ذهب أصحابنا وأبو علي الجبائي وبشر بن المعتمر وأبو الحسين البصري إلى أنهما مخلوقتان وأنكره أكثر المعتزلة كعباد الضيمري وضرار ابن عمرو وأبي هاشم وعبد الجبار
وقالوا إنهما يخلقان يوم الجزاء
لنا وجهان
الأول قصة آدم وحواء وإسكانهما الجنة وإخراجهما عنها بالزلة على ما نطق به الكتاب
وإذا كانت الجنة مخلوقة فكذا النار إذ لا قائل بالفصل
الثاني قوله تعالى في صفتهما * (أعدت للمتقين) * * (أعدت للكافرين) * بلفظ الماضي
وهو صريح في وجودهما ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها شيئا كثيرا مما يدل على وجودهما دلالة ظاهرة
وأما المنكرون فتمسك عباد في استحالة كونهما مخلوقتين في وقتنا هذا بدليل العقل وأبوها هاشم بدليل السمع إذ أوليس
عنده للعقل دلالة على ذلك
قال عباد لو وجدتا فإما في عالم الأفلاك أو العناصر أو في عالم آخر
والأقسام الثلاثة باطلة
487

أما الأول فلأن الأفلاك لا تقبل الخرق والالتئام فلا يخالطها شيء من الكائنات الفاسدات وهما على الوجه الذي يثبتونه من قبيل ما يتكون ويفسد
وأما الثاني فلأنه قول بالتناسخ لأن النفوس تعقلت حينئذ بأبدان موجودة في العناصر بعد أن فارقت أبدانا فيها وأنتم لا تقولون به
وقد أبطل أيضا بدليله
وأما الثالث فلأن الفلك بسيط وشكله الكرة
ولو وجد عالم آخر لكان كرويا أيضا فينفرض بينهما خلاء سواء تباينا أو تماسا وأنه محال
وأنت خبير بأن هذا دليل لمن ينكر وجودهما مطلقا لا لمن ينكر وجودهما في الحال فقط
الجواب لا نسلم امتناع الخرق على الأفلاك
وقد تكلمنا على مأخذه
ولا نسلم أنه في عالم العناصر قول بالتناسخ
وإنما يكون كذلك لو قلنا بإعادتها في أبدان أخر
ولا نسلم أن وجود عالم آخر محال
وقد تكلمنا على ذلك فلا نعيده
احتج أبو هاشم بوجهين
الأول قوله تعالى في وصف الجنة أكلها أي مأكولها دائم
ثم قوله كل شيء أي موجود هالك إلا وجهه
فلو كانت الجنة مخلوقة وجب هلاك أكلها لاندراجه حينئذ فيما حكم عليه بالهلاك فلم يكن دائما وهو باطل بالآية الأولى فتعين أنها ليست مخلوقة الآن فكذا النار
الجواب " أكلها دائم " بدلا
أي كلما فني منه شيء جيء ببدله
فإن دوام أكل بعينه غير متصور لأنه إذا أكل فقد فني وذلك أي دوام أكله على سبيل البدل لا ينافي هلاكه
أو نقول المراد بهلاك كل شيء أنه هالك في حد ذاته لضعف الوجود الإمكاني فالتحق بالهالك
488

المعدوم
أو نقول إنهما أي الجنة والنار تعدمان آنا بتفريق الأجزاء دون إعدامها ثم تعودان بجمعها وذلك كاف في هلاكهما فتكونان دائمتين ذاتا هالكتين صورة في آن
الثاني قوله تعالى في وصف الجنة أيضا * (عرضها السماوات والأرض) * ولا يتصور ذلك إلا بعد فناء السماوات والأرض لامتناع تداخل الأجسام
الجواب المراد أنها أي عرضها كعرض السماوات والأرض لامتناع أن يكون عرضها عرضهما بعينه لا حال البقاء ولا بعد الفناء إذ يمتنع قيام عرض واحد شخصي بمحلين موجودين معا أو أحدهما موجود والآخر معدوم
وللتصريح في آية أخرى بأن عرضها كعرض السماوات والأرض فيحمل هذا على تلك كما يقال أبو يوسف أبو حنيفة
أي مثله
المقصد الخامس
المتن في فروع للمعتزلة على أصلهم في حكم العقل والإيجاب على الله والنظر ههنا في الثواب والعقاب
أما الثواب فأوجبه معتزلة البصرة لأن التكاليف الشاقة ليست إلا لنفعنا وهو بالثواب عليها
بيانه إنها إما لا لغرض
وهو عبث قبيح وإما لغرض عائد إلى الله
وهو منزه
أو إلى العبد إما في الدنيا وأنه مشقة بلا حظ وإما في الآخرة وذلك إما تعذيبه وهو قبيح أو نفعه وهو المطلوب
الجواب منع وجوب الغرض
وقد مر مرارا
وأما العقاب ففيه بحثان
489

البحث الأول أوجب جميع المعتزلة والخوارج عقاب صاحب الكبيرة لوجهين
الأول أنه أوعد بالعقاب أو أخبر به
فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره
وأنه محال
الجواب غايته وقوع العقاب
فأين وجوبه
الثاني أنه إذا علم المذنب أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له على ذنبه وإغراء للغير عليه
وأنه قبيح مناف لمقصود الدعوة
الجواب منع تضمنه للتقرير والإغراء إذ شمول الوعيد وتعريض الكل للعقاب وظن الوفاء بالوعيد فيه من الزجر والردع ما لا يخفى
واحتمال العفو عن البعض احتمالا مرجوحا لا ينافي ذلك
البحث الثاني قالت المعتزلة والخوارج صاحب الكبيرة مخلد في النار ولا يخرج عنها أبدا
وعمدتهم أن الفاسق يستحق العقاب واستحقاق العقاب مضرة خالصة دائمة واستحقاق الثواب منفعة خالصة دائمة
والجمع بينهما محال
الجواب نمنع الاستحقاق ومنع قيد الدوام
ثم أنه قد يتساقطان ويدخل الجنة تفضلا كما قال تعالى * (الذي أحلنا دار المقامة من فضله) * أو يترجح جانب الثواب لأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها
والحسنة
490

تجزى بعشر أمثالها إلى سبعمائة ويضاعف الله لمن يشاء
واستعانوا من النقل بوجهين
الأول بآيات تشعر بالخلود كقوله تعالى * (من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * وقوله * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) *
وقوله * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) *
قالوا والخلود حقيقة في الدوام لقوله تعالى * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) * مع أنه تعالى قد جعل لكثير منهم المكث الطويل
والجواب لا نسلم أن من له حسنات من الإيمان والطاعات فقد أحاطت به خطيئته
وأن من اكتسب كبيرة فقد تعدى حدوده بل بعض حدوده
والمراد من قتل مؤمنا لأنه مؤمن
ولا يكون ذلك القاتل إلا كافرا
سلمنا لكن الخلود هو المكث الطويل
وما ذكرتم معارض بما يقال حبس مخلد ووقف مخلد وخلد الله ملكه
والآية حملناها على الدوام لقرينة الحال
الثاني قوله * (وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين) *
ولو خرجوا عنها لكانوا غائبين عنها
الجواب عنها وعما قبلها في الوجه الأول المعارضة بالآيات الدالة على الوعد بالثواب نحو * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * * (ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) *
و * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) *
وهو عندهم ينافي استحقاق العقاب
وإن سلمنا فيجب تخصيصها بالآيات الدالة
491

على اختصاص العذاب بالكفار نحو قوله تعالى * (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) *
وقوله * (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) *
وقوله * (كلما ألقي فيها فوج) * إلى قوله " فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء "
واعلم أن اختصاص العذاب بالكفار مذهب مقاتل بن سليمان والمرجئة عملا بظاهر هذه الآيات لكنا نخصصها بالعذاب المؤبد جمعا بينها وبين الأدلة الدالة على وعيد الفساق
الشرح
المقصد الخامس في فروع للمعتزلة على أصلهم في حكم العقل بحسن الأفعال وقبحها
والإيجاب على الله والنظر ههنا في الثواب والعقاب لا في أمور أخر أوجبوها عليه
أما الثواب فأوجبه معتزلة البصرة لأن التكاليف الشاقة ليست إلا لنفعنا وهو بالثواب عليها
بيانه أنها أي تلك التكاليف إما لا لغرض
وهو عبث قبيح فيستحيل صدوره عنه تعالى
وإما لغرض عائد إلى الله تعالى
وهو منزه عن ذلك لتعاليه عن الانتفاع والتضرر
أو إلى العبد
أما في الدنيا
وأنه أي الإتيان بها مشقة بلا حظ دنيوي
فإن العبادة عناء وتعب وقطع للنفس عن شهواتها
وأما في الآخرة وذلك إما تعذيبه عليها وهو قبيح جدا أو نفعه
وهو المطلوب
الجواب منع وجوب الغرض
وقد مر مرارا كثيرة
وأما العقاب ففيه بحثان
492

الأول أوجب جميع المعتزلة والخوارج عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة
ولم يجوزوا أن يعفو الله عنه لوجهين
الأول أنه تعالى أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به أي بالعقاب عليها
فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره
وأنه محال
الجواب غايته وقوع العقاب فأين وجوبه الذي كلامنا فيه إذ لا شبهة في أن عدم الوجوب مع الوقوع لا يستلزم خلفا ولا كذبا
لا يقال إنه يستلزم جوازهما
وهو أيضا محال لأنا نقول استحالته ممنوعة كيف وهما من الممكنات التي تشملها قدرته تعالى
الثاني أنه إذا علم المذنب أي المرتكب للكبيرة أنه لا يعاقب على ذنبه بل يعفى عنه لم ينزجر عن الذنب بل كان ذلك تقريرا له على ذنبه وعدم التوبة عنه
وكان إغراء للغير عليه
وأنه قبيح مناف لمقصود الدعوة إلى الطاعات وترك المنهيات
الجواب منع تضمنه أي تضمن عدم وجود العقاب للتقرير والإغراء إذ شمول الوعيد وتعريض الكل للعقاب
وظن الوفاء بالوعيد فيه من الزجر والردع ما لا يخفى واحتمال العفو عن البعض احتمالا مرجوحا لا ينافي ذلك يعني أن الوعيد عام يتناول كل واحد من المذنبين بظاهره الذي يقتضي ظن الوفاء به في حقه فيحصل لكل منهم الظن بكونه معاقبا بذنبه
وذلك كاف في زجر العاقل عن استقراره على ذنبه بعدم التوبة عنه وفي ردع غيره عن اقترافه
وأما توهم العفو الناشئ من عدم وجود العقاب فاحتمال
493

مرجوح لا يعارض ظن العقاب المقتضي للانزجار فقد ظهر أن المذنب لا علم له بأنه لا يعاقب بل ولا يظن ذلك ظنا فلا تقرير ولا إغراء
البحث الثاني قالت المعتزلة والخوارج صاحب الكبيرة إذا لم يتب عنها مخلد في النار
ولا يخرج عنها أبدا
وعمدتهم في إثبات ما ادعوه دليل عقلي هو أن الفاسق يستحق العقاب بفسقه واستحقاق العقاب بل العقاب مضرة خالصة لا يشوبها ما يخالفها دائمة لا تنقطع أبدا واستحقاق الثواب بل الثواب منفعة خالصة عن الشوائب دائمة
والجمع بينهما أي بين استحقاقهما محال كما أن الجمع بينهما محال
فإذا ثبت للفاسق استحقاق العقاب وجب أن يزول عنه استحقاق الثواب فيكون عذابه مخلدا
الجواب منع الاستحقاق فإن المطيع لا يستحق بطاعته ثوابا والعاصي لا يستحق بمعصيته عقابا إذ قد ثبت أنه لا يجب لأحد على الله حق
وقد أجبنا عن دليل وجوب العقاب آنفا
ومنع قيد الدوام
لا يقال إذا كانت المضرة أو المنفعة منقطعة لم تكن خالصة لأنا نقول ذلك مممنوع لجواز أن يخلق الله تعالى في المثاب والمعاقب العلم بذلك الانقطاع
فلا يحصل للأول حزن ولا للثاني فرح على أن قيد الخلوص مما يتطرق إليه المنع أيضا وما يتمسك به من أنه لا بد من انفصالها عن مضار الدنيا ومنافعها ولا تنفصل إلا بالخلوص ضعيف
ثم أنا بعد تسليمنا لما ذكرتم من صفات الثواب والعقاب نقول إنه قد يتساقطان فإن كلامكم مبني على المحابطة
وحينئذ جاز أن يتساقط الاستحقاقان معا
ويدخل صاحب
494

الكبيرة الجنة تفضلا كما قال تعالى حكاية عن أهل الجنة * (الذي أحلنا دار المقامة من فضله) * وما يقال من أنه يلزم حينئذ التسوية بين الجزاء والتفضل ممنوع لجواز أن يختلفا من وجه آخر
أو نقول بترجح جانب الثواب على جانب العقاب لأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها
والحسنة تجزى بعشر أمثالها إلى سبعمائة من الأمثال ويضاعف الله لمن يشاء أضعافا مضاعفة بغير حساب
واستعانوا بعد إقامة ذلك الدليل العقلي من النقل بوجهين
الأول بآيات تشعر بالخلود كقوله تعالى * (من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *
وقوله * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) *
وقوله * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) *
قالوا والخلود حقيقة في الدوام لقوله تعالى * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) *
مع أنه تعالى قد جعل لكثير منهم المكث الطويل فلو حمل الخلود على المكث الطويل لم تصدق هذه الآيات
والجواب لا نسلم أن من له حسنات من الإيمان والطاعات فقد أحاطت به خطيئته بل من أحاطت به خطيئته لا يكون له حسنة أصلا
ومن كانت له حسنات كانت خطيئته من بعض جوانبه لا محيطة به
ولا نسلم أن من اكتسب كبيرة فقد تعدى حدوده بل تعدى بعض حدوده
والمراد بالآية الثالثة من قتل مؤمنا لأنه مؤمن
ولا يكون ذلك القاتل إلا كافرا فالآيات المذكورة لا تتناول صاحب الكبيرة
سلمنا تناولها إياه لكن الخلود المذكور فيها هو المكث الطويل
وما ذكرتم من الاستدلال على أنه حقيقة في الدوام معارض بما يقال في الاستعمال الشائع حبس مخلده
495

ووقف مخلد وخلد الله ملكه
والمراد طول المدة بلا شبهة
فالأولى حينئذ أن يجعل حقيقة في المكث الطويل سواء كان معه دوام أو لا احتراز عن لزوم المجاز أو الاشتراك
والآية المذكورة حملناها على الدوام الذي هو أحد قسمي المكث الطويل لقرينة الحال فلا يلزم مجاز لأن خصوصية ذلك القسم مستفادة من خارج لا مقصودة بنفس اللفظ
الثاني من الوجهين قوله تعالى * (وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين) *
ولو خرجوا عنها لكانوا غائبين عنها
الجواب عن هذه الآية وحدها أن لفظ الفجار لا يتناول إلا من هو كامل في فجوره
وهو الكافر كما يدل عليه قوله * (أولئك هم الكفرة الفجرة) *
وأيضا ظاهرها يقتضي كون الفجار في الجحيم في الحال
ومعلوم أنه أوليس
الأمر كذلك
فوجب التأويل باستحقاق النار وعدم غيبتهم عن استحقاقها لكن الله أخرهم عنها برحمته مع اتصافهم بذلك الاستحقاق
والجواب عنها وعما قبلها من الآيات المذكورة في الوجه الأول المعارضة بالآيات الدالة على الوعد بالثواب نحو قوله تعالى * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * وقوله * (ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) *
وقوله * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) * فقد ثبت لصاحب الكبيرة بإيمانه وسائر ما يكون له من الحسنات استحقاق الثواب
وهو عندهم ينافي استحقاق العقاب فضلا عن كونه مخلدا في العقوبة فلا تكون تلك الآية عامة متناولة له
وإن سلمنا عمومها إياه فيجب تخصيصها بالآيات الدالة على اختصاص العذاب بالكفار نحو قوله تعالى * (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) *
وقوله " إن الخزي اليوم
496

والسوء على الكافرين)
وقوله * (كلما ألقي فيها فوج) * إلى قوله " فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء "
واعلم أن اختصاص العذاب مطلقا بالكفار مذهب مقاتل بن سليمان من المفسرين ومذهب المرجئة عملا بظاهر هذه الآيات
لكنا نخصصها بالعذاب المؤبد جمعا بينها وبين الأدلة الدالة على وعيد الفساق
المقصد السادس
المتن في تقرير مذهب أصحابنا
وفيه مباحث
الأول قالوا الثواب فضل وعد به فيفي به من غير وجوب
لأن الخلف في الوعد نقص تعالى الله عنه والعقاب عدل
فله أن يتصرف فيه وله العفو عنه لأنه فضل
ولا يعد الخلف في الوعيد نقصا عند العقلاء
الثاني أجمع المسلمون على أن الكفار مخلدون في النار أبدا لا ينقطع عذابهم
وأنكره طائفة لوجوه
الأول أن القوة الجسمانية كما تقدم متناهية
فلا بد من فنائها
الجواب منع تناهيها
وقد مر
الثاني دوام الإحراق مع بقاء الحياة خروج عن قضية العقل
الجواب هذا بناء على شرط البنية واعتدال المزاج
ولا نقول به
بل هي بخلق الله تعالى
وقد يخلقها دائما أبدا أو يخلق في الحي قوة لا يخرب معها بنيته بالنار كما خلقها في السمندر وهو حيوان مأواه النار
497

الثالث النار يجب إفناؤها الرطوبة بالتجربة قليلا قليلا فتنتهي بالآخرة إلى عدمها وتتفتت الأجزاء فلا تبقى الحياة
الجواب فناء الرطوبة بالنار غير واجب عندنا بل هو بإفناء الله تعالى أو يفنيها ويخلق بدلها مثلها
قال الجاحظ والعنبري هذا في الكافر المعاند
وأما المبالغ في اجتهاده إذ لم يهتد للإسلام ولم تلح له دلائل الحق فمعذور وكيف يكلف بما أوليس
في وسعه ويعذب بما لم يقع فيه تقصير من قبله
واعلم أن الكتاب والسنة والإجماع يبطل ذلك إذ يعلم قطعا أن كفار عهد الرسول الذين قتلوا وحكم بخلودهم في النار لم يكونوا عن آخرهم معاندين بل منهم من يعتقد الكفر بعد بذل المجهود
ومنهم من بقي على الشك بعد إفراغ الوسع
لكن ختم الله على قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام
ولم ينقل عن أحد قبل المخالفين هذا الفرق
الثالث غير الكفار من العصاة ومرتكبي الكبائر لا يخلد في النار لقوله * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * فإما أن يكون ذلك قبل دخول النار وهو باطل بالإجماع أو بعد خروجه عنها
وفيه المطلوب
الشرح
المقصد السادس في تقرير مذهب أصحابنا في الثواب والعقاب وما يتعلق بهما وفيه مباحث
498

الأول قالوا الثواب فضل من الله تعالى وعد به فيفي به من غير وجوب
لأن الخلف في الوعد نقص تعالى الله عنه
وأما عدم الوجوب فلما مر مرارا
وقالوا العقاب عدل من الله لأن الكل ملكه فله أن يتصرف فيه كما يشاء وله العفو عنه لأنه فضل
ولا يعد الخلف في الوعيد نقصا بل يمدح به عند العقلاء
المبحث الثاني أجمع المسلمون على أن الكفار مخلدون في النار أبدا لا ينقطع عذابهم سواء بالغوا في الاجتهاد والنظر في معجزة الأنبياء ولم يهتدوا أو علموا نبوتهم وعاندوا أو تكاسلوا
وأنكره أي تخليدهم في النار طائفة خارجة عن الملة الإسلامية لوجوه
الأول أن القوة الجسمانية كما تقدم متناهية في العدة والمدة فلا بد من فنائها
وإذا فنيت قوة الحياة وما يتبعها من الحس والحركة ولم يبق إحساس فلا يتصور عذاب
وهذه الشبهة بعينها جارية في انقطاع نعيم أهل الجنة
الجواب منع تناهيها
وقد مر فساد ما يتمسك به في إثبات ذلك التناهي
الثاني من تلك الوجوه دوام الإحراق مع بقاء الحياة خروج عن قضية العقل
الجواب هذا بناء على اعتبار شرط البنية واعتدال المزاج في الحياة
ونحن لا نقول به
بل هي أي الحياة بخلق الله تعالى
وقد يخلقها دائما أبدا
أو يخلق في الحي قوة لا يخرب معها بنيته بالنار مع
499

كونه متأذيا بها كما خلقها في السمندر مع عدم التأذي بها وهو حيوان مأواه النار
الثالث منها النار يجب إفناؤها الرطوبة بالتجربة قليلا قليلا فتنتهي الحال بالآخرة إلى عدمها لكونها متناهية وحينئذ تتفتت الأجزاء التي كانت متماسكة بتلك الرطوبة فلا تبقى الحياة
فلا يدوم العقاب
الجواب فناء الرطوبة بالنار غير واجب عندنا بل هو بإفناء الله تعالى إياها بقدرته
وقد لا يفنيها
أو يفنيها ويخلق بدلها مثلها فلا تتفتت الأجزاء بل تدوم الحياة
قال الجاحظ وعبد الله بن الحسن العنبري هذا الذي ذكرناه من دوام العذاب إنما هو في حق الكافر المعاند والمقصر وأما المبالغ في اجتهاده إذا لم يهتد للإسلام ولم تلح له دلائل الحق فمعذور وعذابه منقطع
وكيف يكلف مثل هذا الشخص بما أوليس
في وسعه من تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وكيف يعذب بما لم يقع فيه تقصير من قبله
واعلم أن الكتاب والسنة والإجماع المنعقد قبل ظهور المخالفين يبطل ذلك بل نقول هو مخالف لما علم من الدين ضرورة إذ يعلم قطعا أن كفار عهد الرسول الذين قتلوا وحكم بخلودهم في النار لم يكونوا عن آخرهم معاندين بل منهم من يعتقد الكفر بعد بذل المجهود
ومنهم من بقي على الشك بعد إفراغ الوسع لكن ختم الله على قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام فلم يهتدوا إلى حقيقته
ولم ينقل عن أحد قبل المخالفين هذا الفرق الذي ذكره الجاحظ والعنبري
500

المبحث الثالث غير الكفار من العصاة ومرتكبي الكبائر لا يخلد في النار لقوله تعالى * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * ولا شك أن مرتكب الكبيرة قد عمل خيرا هو إيمانه
فإما أن يكون ذلك أي رؤيته للخير قبل دخول النار ثم يدخل النار وهو باطل بالإجماع أو بعد خروجه عنها وفيه المطلوب وهو خروجه عن النار وعدم خلوده فيها
المقصد السابع
المتن في الإحباط
بنى المعتزلة على استحاق العقاب ومنافاته للثواب إحباط الطاعات بالمعاصي
ثم اختلفوا فقال جمهور المعتزلة بمعصية واحدة تحبط جميع الطاعات حتى أن من عبد الله طول عمره ثم شرب جرعة خمر فهو كمن لم يعبده أبدا
ولا يخفى فساده
وقال الجبائي يحبط من الطاعات بقدر المعاصي
فإن بقي له زائد أثيب به
وإلا فلا
ولا يخفى أنه تحكم
وليس إبطال الطاعات بالمعاصي أولى من العكس بل العكس أولى لما مر
وقال أبو هاشم بل يوازن بين طاعاته ومعاصيه فأيهما رجح أحبط الآخر
ولما أبطلنا الأصل بطل الفرع
ثم نقول لهم كل واحد من الاستحقاقين لو أبطل الآخر فإما معا فيكون الشيء موجودا حال كونه معدوما أو لا
بل ينعدم أحدهما فيبطل الآخر ثم يكر عليه فيغلبه وأنه باطل لأنه كان قاصرا عن الغلبة قبل حتى صار مغلوبا فكيف إذا صار مغلوبا
501

تذنيب قد اتفق المعتزلة على أنه لا يتساوى الثواب والعقاب
وإلا تساقطا
فلا يكون ثمة ثواب ولا عقاب
وأنه محال
فعند الجبائي عقلا وعند أبي هاشم للإجماع على أن لا خروج عنهما
والجواب لم لا يجوز أن يثاب لما مر من أن جانب الثواب أرجح
ولجواز التفضل
ويجوز أن لا يثاب ولا يعاقب ويكون من أهل الأعراف كما ورد به الحديث الصحيح
ويجوز أن يجمع له بين الثواب والعقاب كما يرى أحدنا يدوم له غمه وفرحه وألمه ولذته كذلك لا يخلص له أحدهما
الشرح
المقصد السابع في الإحباط
بنى المعتزلة على استحقاق العقاب ومنافاته للثواب واستحقاقه إحباط الطاعات بالمعاصي
ثم اختلفوا فقال جمهور المعتزلة والخوارج أيضا بمعصية أي بكبيرة واحدة تحبط جميع الطاعات حتى أن من عبد الله طول عمره ثم شرب جرعة خمر فهو كمن
502

لم يعبده أبدا
ولا يخفى فساده لأنه إلغاء للطاعات بالكلية ومناف للعمومات الدالة على ثواب الإيمان والعمل الصالح
قال الآمدي إذا اجتمع في المؤمن طاعات وزلات فإجماع أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم أنه لا يجب على الله ثوابه ولا عقابه
فإن أثابه فبفضله
وإن عاقبه فبعدله
بل له إثابة العاصي وعقاب المطيع أيضا
وذهبت المرجئة إلى أن الإيمان يحبط الزلات فلا عقاب على زلة مع الإيمان كما لا ثواب لطاعة مع الكفر
وقالت المعتزلة إن كبيرة واحدة تحبط ثواب جميع الطاعات وإن زادت على زلاته
وذهب الجبائي وابنه إلى رعاية الكثرة في المحبط
وزعما أن من زادت طاعاته على زلاته أحبطت عقاب زلاته وكفرتها
ومن زادت زلاته على طاعاته أحبطت ثواب طاعاته ثم اختلفا فقال الجبائي إذا زادت الطاعات أحبطت الزلات بأسرها من غير أن ينقص من ثواب الطاعات شيء
وإذا زادت أحبطت الطاعات برمتها من غير أن ينقص من عقاب الزلات شيء
وقال الإمام الرازي مذهب الجبائي أن الطارىء من الطاعات أو المعصية يبقى بحاله ويسقط من السابق بقدره
ومذهب ابنه أنه يقابل أجزاء الثواب بأجزاء العقاب فيسقط المتساويان ويبقى الزائد
وعلى هذا يحمل قوله وقال الجبائي يحبط من الطاعات أي السابقة بقدر المعاصي الطارئة من غير أن ينقص من المعاصي شيء أصلا
فإن بقي له من تلك الطاعات زائد على قدر المعاصي أثيب به
وإلا فلا
ولا يخفى أنه تحكم
وليس إبطال الطاعات بالمعاصي أي إبطال قدر من الطاعات السابقة بمساويه من المعاصي الطارئة أولى من العكس لأنه إبطال أحد المتساويين بالآخر
بل العكس ههنا أولى لما مر من أن الحسنة تجزى بعشر أمثالها والسيئة لا تجزى إلا بمثلها
503

وقال أبو هاشم بل يوازن بين طاعاته ومعاصيه فإيهما رجح أحبط الآخر وينحبط من الراجح أيضا ما يساوي مقدار المرجوح ويبقى الزائد فيكون الراجح حينئذ قد أحبط المرجوح على هذا الوجه الذي لا يستلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر
ولما أبطلنا الأصل الذي هو استحقاق العقاب والثواب بالمعصية والطاعة بطل الفرع المبني عليه وهو الإحباط مطلقا سواء كان بطريق الموازنة أو غيرها
ثم نقول لهم أي للبهشمية كل واحد من الاستحقاقين المتساويين لو أبطل الآخر فإما معا فيكون الشيء موجودا حال كونه معدوما لأن وجود كل منهما يقارن عدم الآخر فيلزم عدمهما معا حال وجودهما معا أو لا معا بل ينعدم أحدهما فيبطل الآخر ثم يكر الآخر عليه فيغلبه
وأنه باطل لأنه لما كان قاصرا عن الغلبة قبل حتى صار مغلوبا فكيف لا يكون قاصرا عنها إذا صار مغلوبا وقد يجاب بأن كل واحد من العلمين يؤثر في الاستحقاق الناشئ من الآخر حتى يبقى من أحد الاستحقاقين بقية بحسب رجحانه
فليس الكاسر والمنكسر واحدا كما لم يتحدا في المزاج أيضا
تذنيب قد اتفق المعتزلة أي الجبائيان وأتباعهما على أنه لا يتساوى الثواب والعقاب أي لا يتساوى الطاعات والزلات
وإلا تساقطا إذ لا يجوز بقاؤهما معا لما مر من التنافي بين الثواب والعقاب وبين استحقاقيهما أيضا
ولا يجوز إسقاط أحدهما بالآخر لتساويهما فرضا
وإذا تساقطا معا فلا يكون
504

ثمة ثواب ولا عقاب
وأنه محال
فعند الجبائي عقلا لأن إبطال كل منهما للآخر إما معا أو على التعاقب
وكلاهما محال لما عرفت
وعند أبي هاشم أن العقل لا يدل على امتناع التساوي إذ ما من مرتبة من مراتب الطاعات إلا ويجوز العقل بلوغ المعاصي إليها
وبالعكس
ولا استحالة من جهة العقل في تساقطهما أيضا لأن كل واحد من العملين يؤثر في استحقاق الآخر كما مر
إنما استحالته للإجماع على أن لا خروج للمكلف عنهما بل كل مكلف إما من أهل الجنة أو النار
ولا بد له من الخلود في إحديهما
ولا يتصور وقوع أحد الخلودين مع التساوي في الموجب
وإنما فسرنا المعتزلة بالجبائيين وأتباعهما لما سلف من أن جمهورهم ذهبوا إلى إحباط جميع الطاعات بمعصية واحدة
وحينئذ فإحباط المعصية للطاعة المساوية لها يكون عندهم أولى
والجواب لم لا يجوز على تقدير تساوي الطاعات والمعاصي أن يثاب لما مر من أن جانب الثواب أرجح فإن الحسنة تجزى بعشر أمثالها والسيئة لا تجزى إلا بمثلها
وأيضا على تقدير التساوي والتساقط معا لا يلزم خلو المكلف عن الثواب والعقاب لجواز التفضل بالثواب عندنا
ويجوز أيضا أن لا يثاب ولا يعاقب
ولا يكون من أهل الجنة ولا النار بل يكون أي من استوت طاعاته ومعاصيه من أهل الأعراف كما ورد به الحديث الصحيح
ويجوز أيضا أن يجمع له بين الثواب والعقاب كما يرى أحدنا يدوم له غمه من جهة وفرحه من جهة أخرى ويدوم له ألمه ولذته
كذلك لا يخلص له أحدهما في حياته الدنيا
ولا نسلم أن الخلوص معتبر في حقيقة الثواب والعقاب
505

المقصد الثامن
المتن في أن الله يعفو عن الكبائر
الإجماع على أنه عفو
فقالت المعتزلة عفو عن الصغائر قبل التوبة وعن الكبائر بعدها
لنا وجهان
الأول أن العفو من لا يعذب على الذنب مع استحقاقه
ولا يقولون به في غير صورة النزاع
الثاني الآيات الدالة عليه نحو قوله تعالى * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *
و * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) *
* (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) *
الشرح
المقصد الثامن في أن الله تعالى يعفو عن الكبائر
الإجماع منعقد على أنه تعالى عفو
وأن عفوه أوليس
في حق الكافر بل في حق المؤمن
فقالت المعتزلة هو عفو عن الصغائر قبل التوبة
وعن الكبائر بعدها
وقالت المرجئة عفو عن الصغائر والكبائر مطلقا لما عرفت من مذهبهم
وذهب جمهور أصحابنا إلى أنه يعفو عن بعض الكبائر مطلقا ويعذب ببعضها
إلا أنه لا علم لنا الآن بشيء من هذين البعضين بعينه
506

وقال كثير منهم لا نقطع بعفوه عن الكبائر بلا توبة بل نجوزه
لنا على ما اختاره جمهورنا وجهان
الأول أن العفو من لا يعذب على الذنب مع استحقاقه أي استحقاق العذاب
ولا يقولون يعني المعتزلة به أي بذلك الاستحقاق في غير صورة النزاع إذ لا استحقاق بالصغائر أصلا ولا بالكبائر بعد التوبة
فلم يبق إلا الكبائر قبلها فهو يعفو عنها كما ذهبنا إليه
الثاني الآيات الدالة عليه أي على العفو عن الكبيرة قبل التوبة نحو قوله تعالى * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * فإن ما عدا الشرك داخل فيه
ولا يمكن التقييد بالتوبة لأن الكفر مغفور معها
فيلزم تساوي ما نفي عنه الغفران وما ثبت له
وذلك مما لا يليق بكلام عاقل
فضلا عن كلام الله تعالى
وقوله * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * فإنه عام للكل
فلا يخرج عنه إلا ما أجمع عليه
وقوله تعالى * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * والتقرير ما ذكرناه آنفا إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة
507

المقصد التاسع
المتن في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم
أجمع الأمة على أصل الشفاعة
وهي عندنا لأهل الكبائر من الأمة لقوله صلى الله عليه وسلم (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)
ولقوله تعالى * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) *
أي ولذنب المؤمنين لدلالة القرينة
وطلب المغفرة شفاعة
وقالت المعتزلة إنما هي لزيادة الثواب لا لدرء العقاب لقوله تعالى * (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة) *
وهو عام في شفاعة النبي وغيره
الجواب إنه لا عموم له في الأعيان لأن الضمير لقوم معينين فلا يلزم أن لا تنفع الشفاعة غيرهم
ولا في الزمان لأنه لوقت مخصوص
فلا يلزم عدم نفعها في غير ذلك الوقت
الشرح
المقصد التاسع في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم
أجمع الأمة على ثبوت أصل الشفاعة المقبولة له صلى الله عليه وسلم
ولكن هي عندنا لأهل الكبائر من الأمة في إسقاط العقاب عنهم لقوله صلى الله عليه وسلم (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)
فإنه حديث
508

صحيح
ولقوله تعالى * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) * أي ولذنب المؤمنين لدلالة القرينة السابقة
وهي ذكر الذنب وسيأتيك في بيان حقيقة الإيمان أن مرتكب الكبيرة مؤمن
وطلب المغفرة لذنب المؤمن شفاعة له في إسقاط عقابه عنه
وقالت المعتزلة إنما هي لزيادة الثواب لا لدرء العقاب لقوله تعالى * (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة) * وهو عام في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره
الجواب إنه لا عموم له في الأعيان لأن الضمير لقوم معينين هم اليهود
فلا يلزم أن لا تنفع الشفاعة غيرهم
ولا عموم له في الزمان أيضا لأنه لوقت مخصوص هو اليوم المذكور فيه
فلا يلزم عدم نفعها في غير ذلك الوقت
وفيه بحث لأن الضمير في قوله * (ولا تنفعها) * راجع إلى النفس الثانية وهي نكرة في سياق النفي فتكون عامة
وإن كانت واردة على سبب خاص
والإمام الرازي
بعدما أورد شبهات المعتزلة في إثبات ما ادعوه
قال والجواب عنها إجمالا أن يقال دلائلكم في نفي الشفاعة لا بد أن تكون عامة في الأشخاص والأوقات
ودلائلنا في إثباتها لا بد أن تكون خاصة فيهما لأنا لا نثبت الشفاعة في حق كل شخص ولا في جميع الأوقات
والخاص مقدم على العام
فالترجيح معنا
وأما الأجوبة المفصلة فمذكورة في التفسير الكبير
المقصد العاشر في التوبة
وفيه بحثان
المتن
الأول في حقيقتها
وهي الندم على معصية من حيث هي معصية مع
809

عزم أن لا يعود إليها إذا قدر عليها
فقولنا من حيث هي معصية لأن من ندم على شرب الخمر لما فيه من الصداع ونزف العقل والإخلال بالمال والعرض لم يكن تائبا
وقولنا مع عزم أن لا يعود إليها زيادة تقرير لأن النادم على الأمر لا يكون إلا كذلك
ولذلك ورد في الحديث (الندم توبة)
وقولنا إذا قدر لأن من سلب القدرة على الزنا وانقطع طمعه عن عودة القدرة إذا عزم على تركه لم يكن ذلك توبة منه
الثاني في أحكامها
الأول الزاني المجبوب إذا ندم على الزنا وعزم أن لا يعود إليه على تقدير القدرة فهل يكون ذلك توبة منعه أبو هاشم
وقال به الآخرون
والمأخذ واضح
الثاني إن قلنا لا يقبل فمن تاب لمرض مخيف فهل يقبل لوجود التوبة أم لا لأنه أوليس
باختياره كالإيمان عند اليأس
الثالث شرط المعتزلة فيها أمورا ثلاثة
رد المظالم
وأن لا يعاود ذلك الذنب
وأن يستديم الندم وهي عندنا غير واجبة فيها
أما رد المظالم فواجب برأسه لا مدخل له في الندم على ذنب آخر
510

وأما أن لا يعاود أصلا فلأن الشخص قد يندم على الأمر زمانا ثم يبدو له
والله مقلب القلوب
وأما استدامته للندم فلأن الشارع أقام الحكمي مقام ما هو حاصل بالفعل كما في الإيمان ولما في التكليف بها من الحرج المنفي عن الدين
الرابع لهم في التوبة المؤقتة مثل أن لا يذنب سنة
والمفصلة نحو أن يتوب عن الزنا دون شرب الخمر خلاف مبني على أن الندم إذا كان لكونه ذنبا عم الأوقات والذنوب
الخامس أنهم أوجبوا قبول التوبة على الله بناء على أصلهم الفاسد
السادس الظاهر أن التوبة طاعة فيثاب عليها لأنها مأمور بها
قال الله تعالى * (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) *
والأمر ظاهر في الوجوب لكنه غير قاطع لجواز أن يكون رخصة وإيذانا بقبولها ودفعا للقنوط لقوله تعالى * (لا تقنطوا من رحمة الله) * * (لا تيأسوا من روح الله) * * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) *
الشرح
المقصد العاشر في التوبة
وفيه بحثان
الأول في حقيقتها وهي في اللغة الرجوع
قال الله تعالى * (ثم تاب عليهم ليتوبوا) *
أي رجع عليهم بالتفضل والإنعام ليرجعوا إلى الطاعة والانقياد
وفي الشرع الندم على معصية من حيث هي معصية مع عزم أن لا يعود إليها إذا قدر عليها
فقولنا الندم لما سيأتي من الحديث
وقولنا على معصية
511

لأن الندم على فعل لا يكون معصية بل مباحا لا يسمى توبة
وقولنا من حيث هي معصية لأن من ندم على شرب الخمر لما فيه من الصداع ونزف العقل أي خفته وطيشه والإخلال بالمال والعرض لم يكن تائبا شرعا
وقولنا مع عزم أن لا يعود إليها زيادة تقرير لما ذكر أولا
وذلك لأن النادم على الأمر لا يكون إلا كذلك
ولذلك ورد في الحديث (الندم توبة)
واعترض عليه بأن النادم على فعل في الماضي قد يريده في الحال أو الاستقبال
فهذا القيد احتراز عنه
وما ورد في الحديث محمول على الندم الكامل
وهو أن يكون مع العزم على عدم العود أبدا
ورد بأن الندم على المعصية من حيث هي معصية يستلزم ذلك العزم كما لا يخفى
وقولنا إذا قدر لأن من سلب القدرة على الزنا وانقطع طمعه عن عود القدرة إليه إذا عزم على تركه لم يكن ذلك توبة منه وفيه بحث
لأن قوله إذا قدر ظرف لترك الفعل المستفاد من قوله لا يعود
وإنما قيد به لأن العزم على ترك الفعل في وقت إنما يتصور ممن قدر على ذلك الفعل وتركه في ذلك الوقت
ففائدة هذا القيد أن العزم على الترك أوليس
مطلقا حتى لا يتصور ممن سلب قدرته وانقطع طمعه بل هو مقيد بكونه على تقدير فرض القدرة وثبوتها فيتصور ذلك العزم من المسلوب أيضا
ويؤيد ما قررناه قول الآمدي حيث قال وإنما قلنا عند كونه أهلا لفعله في المستقبل احترازا عما إذا زنى ثم جب أو كان مشرفا على الموت فإن العزم على ترك الفعل في المستقبل غير متصور منه لعدم تصور الفعل منه
ومع ذلك فإنه إذا ندم على ما فعل صحت توبته بإجماع السلف
وقال أبو هاشم الزاني إذا جب لا تصح توبته لأنه عاجز عنه
وهو باطل بما إذا تاب عن الزنا وغيره وهو في مرض مخيف
فإن توبته صحيحة
512

بالإجماع وإن كان جاز ما يعجزه عن الفعل في المستقبل
هذه عبارته
وأيضا فقول المصنف لم يكن ذلك توبة منه يدل على أنه مختار الكل أو الأكثر فينافيه ما صرح به من أن توبة المجبوب صحيحة عند غير أبي هاشم فتدبر
البحث الثاني في أحكامها
الأول الزاني المجبوب أي الذي زنى ثم جب إذا ندم على الزنا وعزم أن لا يعود إليه على تقدير القدرة فهل يكون ذلك توبة منه منعه أبو هاشم وزعم أنه لا يتحقق منه حقيقة العزم على عدم الفعل في المستقبل إذ لا قدرة له على الفعل فيه
وقال به الآخرون بناء على أنه يكفي لتلك الحقيقة تقدير القدرة والمأخذ في هذين القولين واضح كما ذكرناه
الثاني من تلك الأحكام إن قلنا لا يقبل ندم المجبوب فمن تاب عن معصية لمرض مخيف فهل يقبل ذلك منه لوجود التوبة أم لا لم يقبل لأنه أوليس
باختياره بل بإلجاء الخوف إليه فيكون كالإيمان عند اليأس وظهور ما يلجئه إليه فإنه غير مقبول إجماعا
والترديد الذي ذكره المصنف في توبة المرض المخيف مناف لما نقله الآمدي من الإجماع على القبول كما مر
الثالث منها شرط المعتزلة فيها أي في التوبة أمور ثلاثة
أولها رد المظالم
فإنهم قالوا شرط صحة التوبة عن مظلمة الخروج عن تلك المظلمة
وثانيها أن لا يعاود ذلك الذنب الذي تاب عنه
أي ذنب كان
513

وثالثها أن يستديم الندم على الذنب المتوب عنه في جميع الأوقات وهي عندنا غير واجبة فيها أي في صحة التوبة
أما رد المظالم والخروج عنها برد المال أو الاستبراء عنه أو الاعتذار إلى المغتاب واسترضائه إن بلغه الغيبة ونحو ذلك فواجب برأسه لا مدخل له في الندم على ذنب آخر
قال الآمدي إذا أتى بالمظلمة كالقتل والضرب مثلا فقد وجب عليه أمران التوبة
والخروج عن المظلمة
وهو تسليم نفسه مع الإمكان ليقتص منه
ومن أتى بأحد الواجبين لم تكن صحة ما أتى به متوقفة على الإتيان بالواجب الآخر
كما لو وجب عليه صلاتان فأتى بإحديهما دون الأخرى
وأما أن لا يعاود أصلا إلى ما تاب عنه فلأن الشخص قد يندم على الأمر زمانا ثم يبدو له
والله تعالى مقلب القلوب من حال إلى حال
قال الآمدي التوبة مأمور بها فتكون عبادة
وليس من شرط صحة العبادة المأتي بها في وقت عدم المعصية في وقت آخر بل غايته أنه إذا ارتكب ذلك الذنب مرة ثانية وجب عليه توبة أخرى عنه
وأما استدامة الندم في جميع الأزمنة فلأن النادم إذا لم يصدر عنه ما ينافي ندمه كان ذلك الندم في حكم الباقي لأن الشارع أقام الحكمي أي الأمر الثابت حكما مقام ما هو حاصل بالفعل كما في الإيمان
فإن النائم مؤمن بالاتفاق ولما في التكليف بها أي باستدامة الندم من الحرج المنفي عن الدين
قال الآمدي يلزم من ذلك اختلال الصلوات وباقي العبادات وأن لا يكون بتقدير عدم استدامة الندم وتذكره تائبا
وأن تجب عليه إعادة التوبة
وهو خلاف الإجماع
قال ومهما صحت التوبة ثم تذكر الذنب لم يجب عليه تجديد
514

التوبة خلافا لبعض العلماء
وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن الصحابة ومن أسلم بعد كفره كانوا يتذاكرون ما كانوا عليه في الجاهلية من الكفر ولا يجددون الإسلام ولا يؤمرون به
فكذلك الحال في كل ذنب وقعت التوبة عنه
الرابع من أحكام التوبة لهم في التوبة المؤقتة مثل أن لا يذنب سنة
وفي التوبة المفصلة نحو أن يتوب عن الزنا دون شرب الخمر خلاف مبني على أن الندم إذا كان لكونه ذنبا عم الأوقات والذنوب جميعا
إذ لا يجب عمومه لهما
فذهب بعضهم إلى أنه يجب العموم لأنه إذا ندم على ذنب في وقت ولم يندم على ذنب آخر أو في وقت آخر ظهر أنه لم يندم عليه لقبحه وإلا ندم على قبائحه كلها لاشتراكها في العلة المقتضية للندم وندم أيضا في جميع الأوقات
وإذا لم يكن ندمه لقبحه لم يكن توبة
وذهب آخرون منهم إلى أنه لا يجب ذلك العموم كما في الواجبات
فإنه قد يأتي المأمور ببعضها دون بعض
وفي بعض الأوقات دون بعضها ويكون المأتي به صحيحا في نفسه بلا توقف على غيره مع أن العلة المقتضية للإتيان بالواجب هي كون الفعل حسنا واجبا
فإن قيل مراتب الحسن مختلفة في الأفعال ويتفاوت أيضا اقتضاؤها بحسب الأوقات
قلنا مراتب القبح أيضا كذلك
والأشاعرة وافقوا هؤلاء في صحة التوبتين
515

الخامس أنهم أوجبوا قبول التوبة على الله بناء على أصلهم الفاسد فقالوا التوبة حسنة
ومن أتى بالحسنة وجب مجازاته عليها
وقد عرفت بطلانه
وأما قوله تعالى " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده "
فلا يدل على الوجوب بل على أنه الذي يتولى ذلك ويتقبله وليس لأحد سواه ذلك
السادس اختلف في كون التوبة طاعة
قال الآمدي الظاهر أن التوبة طاعة واجبة فيثاب عليها لأنه مأمور بها
قال الله تعالى * (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) * والأمر ظاهر في الوجوب لكنه غير قاطع لجواز أن يكون رخصة وإيذانا بقبولها ودفعا للقنوط لقوله تعالى * (لا تقنطوا من رحمة الله) * * (لا تيأسوا من روح الله) * * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) *
المقصد الحادي عشر
المتن إحياء الموتى في قبورهم
ومسألة منكر ونكير لهم وعذاب القبر للكافر والفاسق كلها حق عندنا
واتفق عليه سلف الأمة قبل ظهور الخلاف
والأكثر بعده
وأنكره ضرار بن عمرو وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة
لنا وجهان
516

الأول قوله تعالى * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) *
عطف عذاب القيامة عليه فعلم أنه غيره وليس غير عذاب القبر اتفاقا فهو هو
وبه ذهب أبو الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر إلى أن الكافر يعذب فيما بين النفختين أيضا
وأما ما ذهب إليه الصالحي من المعتزلة وابن جرير الطبري وطائفة من الكرامية من تجويز ذلك على الموتى من غير إحياء فخروج عن المعقول
الثاني قوله تعالى * (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) * وما هو إلا الإماتة ثم الإحياء في القبر ثم الإماتة فيه ثم الإحياء للحشر
ومن قال بالإحياء فيه قال بالمسألة والعذاب
هذا والأحاديث الدالة عليه أكثر من أن تحصى بحيث تواتر القدر المشترك
احتج المنكر بقوله تعالى * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * ولو أحيوا في القبر لذاقوا موتتين
517

الجواب أن ذلك وصف لأهل الجنة
والضمير في فيها للجنة
أي لا يذوق أهل الجنة في الجنة الموت فلا ينقطع نعيمهم
وإلا الموتة الأولى للجنس لا للوحدة نحو * (إن الإنسان لفي خسر) *
وليس فيها نفي تعدد الموت
فهذا معارضة ما احتججنا به من الآيتين
قالوا إنما يمكن العمل بالظواهر إذا لم تكن مخالفة للمعقول
ودليل مخالفتها للمعقول أنا نرى شخصا يصلب ويبقى مصلوبا إلى أن تذهب أجزاؤه
ولا نشاهد فيه إحياء ولا مسألة
والقول بهما مع عدم المشاهدة سفسطة
وأبلغ منه من أكلته السباع والطيور وتفرقت أجزاؤه في بطونها وحواصلها وأبلغ منه من أحرق وذري أجزاؤه في الرياح العاصفة شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا
فإنا نعلم عدم إحيائه ومسألته وعذابه ضرورة
وقد تحير الأصحاب في التقصي عن هذا
فقالوا في صورة المصلوب لا يعد في الإحياء
والمسألة مع عدم المشاهدة كما في صاحب السكتة وكما في رؤية النبي جبريل عليهما السلام وهو بين أظهر أصحابه مع ستره عنهم
وأما الصورة الأخرى فإن ذلك مبني على اشتراط البنية
وهو ممنوع عندنا
فلا بعد في أن تعاد الحياة إلى الأجزاء أو بعضها
وإن كان خلاف العادة
فإن خوارق العادة غير ممتنعة في مقدور الله تعالى
الشرح
المقصد الحادي عشر إحياء الموتى في قبورهم
ومسألة منكر ونكير لهم
وعذاب القبر للكافر والفاسق كلها حق عندنا
واتفق عليه سلف الأمة قبل ظهور الخلاف
واتفق عليه الأكثر بعده أي بعد الخلاف وظهوره وأنكره مطلقا ضرار بن عمرو وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة وأنكر الجبائي وابنه والبلخي تسمية الملكين منكرا ونكيرا
وقالوا
518

إنما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل
والنكير إنما هو تقريع الملكين له
لنا في إثبات ما هو حق عندنا وجهان
الأول قوله تعالى * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * عطف في هذه الآية عذاب القيامة عليه أي على العذاب الذي هو عرض النار صباحا ومساء فعلم أنه غيره
ولا شبهة في كونه قبل الإنشار من القبور كما يدل عليه نظم الآية بصريحه
وما هو كذلك أوليس
غير عذاب القبر اتفاق لأن الآية وردت في حق الموتى فهو هو
وبه أي بما ذكر من الآية ذهب أبو الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر إلى أن الكافر يعذب فيما بين النفختين أيضا
وإذا ثبت التعذيب ثبت الإحياء والمسألة لأن كل من قال بعذاب القبر قال بهما
وأما ما ذهب إليه الصالحي من المعتزلة وابن جرير الطبري وطائفة من الكرامية من تجويز ذلك التعذيب على الموتى من غير إحياء فخروج عن المعقول لأن الجماد لا حس له فكيف يتصور تعذيبه
وما ذهب إليه بعض المتكلمين من أن الآلام تجتمع في أجساد الموتى وتتضاعف من غير إحساس بها
فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة
فهو إنكار للعذاب قبل الحشر فيبطل بما قررناه من ثبوته قبله
الوجه الثاني قوله تعالى حكاية على سبيل التصديق * (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) *
وما هو
أي والمراد بالإماتتين والإحياءين في هذه الآية إلا الإماتة قبل مزار القبور ثم الإحياء في القبر ثم الإماتة فيه أيضا بعد مسألة منكر ونكير
ثم الإحياء للحشر هذا هو الشائع المستفيض بين أصحاب التفسير
519

قالوا والغرض بذكر الإحياءين أنهم عرفوا فيهما قدرة الله على البعث
ولهذا قالوا * (فاعترفنا بذنوبنا) * أي الذنوب التي حصلت بسبب إنكار الحشر
وإنما لم يذكر الإحياء في الدنيا لأنهم لم يكونوا معترفين بذنوبهم في هذا الإحياء
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالإماتتين ما ذكر وبالإحياءين الإحياء في الدنيا والإحياء في القبر
لأن مقصودهم ذكر الأمور الماضية
وأما الحياة الثالثة
أعني حياة الحشر
فهم فيها
فلا حاجة إلى ذكرها
وعلى هذين التفسيرين ثبت الإحياء في القبر
ومن قال بالإحياء فيه قال بالمسألة والعذاب أيضا فقد ثبت أن الكل حق
وأما حمل الإماتة الأولى على خلقهم أمواتا في أطوار النطفة وحمل الثانية على الإماتة الظاهرة وحمل الإحياءين على إحياء الدنيا والإحياء عند الحشر
وحينئذ لا يثبت بالآية الإحياء في القبر فقد رد عليه بأن الإماتة إنما تكون بعد سابقة الحياة
ولا حياة في أطوار النطف وبأنه قول شذوذ من المفسرين
والمعتمد هو قول الأكثرين
هذا والأحاديث الصحيحة الدالة عليه أي على عذاب القبر أكثر من أن تحصى بحيث تواتر القدر القدر المشترك وإن كان كل واحد منها من قبيل الآحاد منها أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير بل لأن أحدهما كان لا يستبرىء من البول
وأما الثاني فكان يمشي بالنميمة)
ومنها قوله (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر من البول)
520

ومنها قوله في سعد بن معاذ (لقد ضغطته الأرض ضغطة اختلفت بها ضلوعه)
ومنها أنه يكثر الاستعاذ بالله من عذاب القبر إلى غير ذلك من الأحاديث المشتملة بعضها على مسألة ملكين أيضا
وتسميتها منكرا ونكيرا مأخوذة من إجماع السلف وأخباره مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم
احتج المنكر بقوله تعالى * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) *
ولو أحيوا في القبر لذاقوا موتتين
الجواب إن ذلك وصف لأهل الجنة
والضمير في فيها للجنة
أي لا يذوق أهل الجنة في الجنة الموت فلا ينقطع نعيمهم كما انقطع نعيم أهل الدنيا بالموت
فلا دلالة في الآية على انتفاء موتة أخرى بعد المسألة وقبل دخول الجنة
وأما قوله إلا الموتة الأولى فهو تأكيد لعدم موتهم في الجنة على سبيل التعليق بالمحال كأنه قيل لو أمكن ذوقهم الموتة الأولى لذاقوا في الجنة الموت لكنه لا يمكن بلا شبهة
فلا يتصور موتهم فيها
وقد يقال إلا الموتة الأولى للجنس لا للوحدة وإن كانت الصيغة صيغة الواحد نحو * (إن الإنسان لفي خسر) *
وليس فيها نفي تعدد الموت لأن الجنس يتناول المتعدد أيضا
فهذا الذي ذكروه من الآية واجبنا عنه معارضة ما احتججنا به من الآيتين ثم أنهم بعد المعارضة قالوا إنما يمكن العمل بالظواهر التي تمسكتم بها إذا لم تكن مخالفة للمعقول
فإنها على تقدير مخالفتها إياه يجب تأويلها وصرفها عن ظواهرها فلا يبقى لكم وجه الاحتجاج بها
ودليل مخالفتها للمعقول أنا نرى شخصا يصلب ويبقى مصلوبا إلى أن تذهب أجزاؤه ولا نشاهد فيه إحياء ولا مسألة
فالقول بهما
521

مع عدم المشاهدة سفسطة ظاهرة وأبلغ منه من أكلته السباع والطيور وتفرقت أجزاؤه في بطونها وحواصلها
وأبلغ منه من أحرق حتى تفتت وذري أجزاؤه المتفتتة في الرياح العاصفة شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا فإنا نعلم عدم إحيائه ومسألته وعذابه ضرورة
وقد تحير الأصحاب في التقصي عن هذا فقالوا أي القاضي وأتباعه في صورة المصلوب لا يعد في الإحياء
والمسألة مع عدم المشاهدة كما في صاحب السكتة فإنه حي مع أنا لا نشاهد حياته
وكما في رؤية النبي جبريل عليهما السلام وهو بين أظهر أصحابه مع ستره عنهم
وقال بعضهم لا بعد في رد الحياة إلى بعض أجزاء البدن فيختص بالإحياء والمسألة والعذاب
وإن لم يكن ذلك مشاهدا لنا
وأما الصورة الأخرى يعني بها ما يشتمل الثانية والثالثة إذ هما من واد واحد فإن ذلك أي التمسك بها مبني على اشتراط البنية في الحياة وهو ممنوع عندنا كما مر فلا بعد في أن تعاد الحياة إلى الأجزاء المتفرقة أو بعضها
وإن كان خلاف العادة
فإن خوارق العادة غير ممتنعة في مقدور الله تعالى كما سلف تقريره
المقصد الثاني عشر
المتن في أن جميع ما جاء به الشرع من الصراط والميزان والحساب وقراءة الكتب والحوض المورود وشهادة الأعضاء حق
522

والعمدة في إثباتها إمكانها في نفسها إذ لا يلزم من فرض وقوعها محال لذاته مع إخبار الصادق عنها
وأجمع عليه المسلمون قبل ظهور المخالف
ونطق به الكتاب نحو قوله * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون) * وقوله * (والوزن يومئذ الحق) *
وقوله * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) *
وقوله * (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) * مع الإجماع على تسمية يوم القيامة يوم الحساب
وقوله * (فأما من أوتي كتابه بيمينه) *
وقوله * (اقرأ كتابك) *
وقوله * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) *
وقوله * (إنا أعطيناك الكوثر) * مع قوله لأصحابه وقد قالوا له أين نطلبك يوم الحشر فقال على الصراط أو على الميزان أو على الحوض
وكتب الأحاديث طافحة بذلك بحيث تواتر القدر المشترك
واعلم أن الصراط جسر ممدود على ظهر جهنم يعبر عليه المؤمن وغير المؤمن
وأنكره أكثر المعتزلة
وتردد قول الجبائي فيه نفيا وإثباتا
قالوا من أثبته وصفه بأنه أدق من الشعر وأحد من غرار السيف كما ورد به الحديث
ولا يمكن العبور عليه وإن أمكن ففيه تعذيب المؤمنين ولا عذاب عليهم يوم القيامة
الجواب القادر المختار يمكن من العبور عليه ويسهله على المؤمنين كما جاء في الحديث في صفات الجائزين عليه أن منهم من هو كالبرق الخاطف ومنهم من هو كالريح الهابة
ومنهم من هو كالجواد
ومنهم من تجوز رجلاه وتعلق يداه
ومنهم من يخر على وجهه
523

وأما الميزان فأنكره المعتزلة عن آخرهم لأن الأعمال أعراض
وإن أمكن إعادتها فلا يمكن وزنها إذ لا توصف بالخفة والثقل
وأيضا فالوزن للعلم بمقدارها وهي معلومة لله تعالى فلا فائدة فيه فيكون قبيحا تنزه عنه الرب تعالى
والجواب أنه ورد في الحديث أن كتب الأعمال هي التي توزن وحديث الغرض من الوزن والقبح العقلي قد مر مرارا
الشرح
المقصد الثاني عشر في أن جميع ما جاء به الشرع من الصراط والميزان والحساب وقراءة الكتب والحوض المورود وشهادة الأعضاء كلها حق بلا تأويل عند أكثر الأمة
والعمدة في إثباتها إمكانها في نفسها
إذ لا يلزم من فرض وقوعها محال لذاته مع إخبار الصادق عنها
وأجمع عليه المسلمون قبل ظهور المخالف
ونطق به الكتاب نحو قوله تعالى * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون) *
وقوله * (والوزن يومئذ الحق) * وقوله * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) * فقد ثبت بما ذكر الصراط والميزان بل ثبت أيضا السؤال الذي هو قريب من الحساب
وقوله * (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) * مع الإجماع على تسمية يوم القيامة يوم الحساب
فهذا الإجماع يؤيد الآية الدالة على ثبوت الحساب
وقوله تعالى * (فأما من أوتي كتابه بيمينه) * وقوله * (اقرأ كتابك) * فقد ثبت بها قراءة الكتب
وقوله * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) * فتحققت به شهادة الأعضاء
وقوله * (إنا أعطيناك الكوثر) *
فإنه يدل على الحوض
مع قوله عليه
524

السلام يعني أنه نطق بما ذكرناه الكتاب مع السنة أيضا كقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد قالوا له أين نطلبك يوم الحشر فقال على الصراط أو على الميزان أو على الحوض وكتب الأحاديث طافحة أي ممتلئة جدا بذلك الذي ادعينا كونه حقا بحيث تواتر القدر المشترك ولم يبق للمنصف فيه اشتباه
واعلم أن الصراط جسر ممدود على ظهر جهنم يعبر عليه جميع الخلائق المؤمن وغير المؤمن
وأنكره أكثر المعتزلة وتردد قول الجبائي فيه نفيا وإثباتا فنفاه تارة وأثبته أخرى
وذهب أبو الهذيل وبشر بن المعتمر إلى جوازه دون الحكم بوقوعه
قالوا أي المنكرون من أثبته بالمعنى المذكور وصفه بأنه أدق من الشعر وأحد من غرار السيف أي حده كما ورد به الحديث الصحيح
وأنه على تقدير كونه كذلك لا يمكن عقلا العبور عليه
وإن أمكن العبور لا يمكن إلا مع مشقة عظيمة
ففيه تعذيب المؤمنين
ولا عذاب عليهم يوم القيامة وحينئذ وجب أن يحمل قوله تعالى " فاهدوهم إلى صراط الجحيم (على الطريق إليها
الجواب القادر المختار يمكن من العبور عليه ويسهله على المؤمنين بحيث لا يلحقهم تعب ولا نصب كما جاء في الحديث في صفات الجائزين عليه أن منهم من هو كالبرق الخاطف ومنهم من هو كالريح الهابة ومنهم من هو كالجواد
ومنهم من تجوز رجلاه وتعلق يداه ومنهم من يخر على وجهه
وأما الميزان فأنكره المعتزلة عن آخرهم إلا أن منهم من أحاله عقلا
525

ومنهم من جوزه ولم يحكم بثبوته كالعلاف وابن المعتمر
قالوا يجب حمل ما ورد في القرآن من الوزن والميزان على رعاية العدل والإنصاف بحيث لا يقع فيه تفاوت أصلا لا على آلة الوزن الحقيقي وذلك لأن الأعمال أعراض قد عدمت فلا يمكن إعادتها
وإن أمكن إعادتها فلا يمكن وزنها إذ لا توصف الأعراض بالخفة والثقل بل هما مختصان بالجواهر
وأيضا فالوزن للعلم بمقدارها وهي معلومة لله تعالى بلا وزن فلا فائدة فيه فيكون قبيحا تنزه عنه الرب تعالى
والجواب إنه ورد في الحديث حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم كيف توزن الأعمال أن كتب الأعمال وصحفها هي التي توزن
وحديث الغرض من الوزن والقبح العقلي فيما لا فائدة فيه قد مر مرارا
526

المرصد الثالث في الأسماء والأحكام
وفيه مقاصد
المقصد الأول في حقيقة الإيمان
المتن إعلم أن الإيمان في اللغة التصديق
قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف * (وما أنت بمؤمن لنا) * أي بمصدق
وقال صلى الله عليه وسلم (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) أي تصدق
وأما في الشرع وهو متعلق ما ذكرنا من الأحكام فهو عندنا
وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة
فتفصيلا فيما علم تفصيلا
وإجمالا فيما علم إجمالا
وقيل هو المعرفة
فقوم بالله
وقوم بالله وبما جاءت به الرسل
وقالت الكرامية هو كلمتا الشهادة
وقالت طائفة التصديق مع الكلمتين
527

ويروى هذا عن أبي حنيفة رحمه الله
وقال قوم إنه أعمال الجوارح
فذهب الخوارج والعلاف وعبد الجبار إلى أنه الطاعات فرضا أو نفلا
وذهب الجبائي وابنه وأكثر المعتزلة البصرية إلى أنه الطاعات المفترضة دون النوافل
وقال السلف وأصحاب الأثر إنه مجموع هذه الثلاثة فهو تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان
ووجه الضبط أن الإيمان عن فعل القلب والجوارح
فهو إما فعل القلب فقط وهو المعرفة أو التصديق
وإما فعل الجوارح فقط وهو إما اللسان وهو الكلمتان أو غيره وهو العمل بالطاعات
وإما فعل القلب والجوارح معا
والجارحة إما اللسان أو سائر الجوارح
لنا وجوه
الأول الآيات الدالة على محلية القلب للإيمان نحو * (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) * * (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * * (وقلبه مطمئن بالإيمان) * ومنه الآيات الدالة على الختم والطبع على القلوب ويؤيده دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم ثبت قلبي على دينك)
وقوله لأسامة وقد قتل من قال لا إله إلا الله (هلا شققت قلبه)
528

الثاني جاء الإيمان مقرونا بالعمل الصالح في غير موضع من الكتاب نحو * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) *
فدل على التغاير
الثالث أنه قرن بضد العمل الصالح نحو * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * ومنه مفهوم قوله " الذي آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم "
فإن قيل فلم لا تجعلونه التصديق باللسان فإن أهل اللغة لا يعلمون من التصديق إلا ذلك
قلنا لو فرض عدم وضع صدقت لمعنى أو وضعه لمعنى غير التصديق لم يكن المتلفظ به مصدقا قطعا
فالتصديق إما معنى هذه اللفظة أو هذه اللفظة لدلالتها على معناها فيجب الجزم بعلم العقلاء ضرورة بالتصديق القلبي
ويؤيده قوله تعالى * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) *
وقوله * (قالت الأعراب آمنا) * الآية
احتج الكرامية بأنه تواتر أن الرسول والصحابة والتابعين كانوا يقنعون بالكلمتين ممن أتى بهما لا يستفسرون عن علمه وعمله فيحكمون بإيمانه بمجرد الكلمتين
الجواب معارضته بالإجماع على أن المنافق كافر وبنحو قوله * (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) * ولا نزاع في أنه يسمى إيمانا لغة
وأنه يترتب عليه أحكام الإيمان ظاهرا
وإنما النزاع فيما بينه وبين الله ثم نقول
529

يلزمكم أن من صدق بقلبه وهم بالتكلم بالكلمتين فمنعه مانع من ضرس وغيره أن يكون كافرا وهو خلاف الإجماع
احتج المعتزلة بوجوه منها ما يدل على إثبات مذهبهم
ومنها ما يدل على إبطال مذهب الخصم
القسم الأول أربعة
الأول فعل الواجبات هو الدين
والدين هو الإسلام
والإسلام هو الإيمان
ففعل الواجبات هو الإيمان
أما أن فعل الواجبات هو الدين فلقوله تعالى بعد ذكر العبادة * (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) *
وأما أن الدين هو الإسلام فلقوله تعالى * (إن الدين عند الله الإسلام) *
وأما أن الإسلام هو الإيمان فلأن الإيمان لو كان غير الإسلام لما قبل من مبتغيه لقوله تعالى * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) * ولاستثناء المسلمين من المؤمنين في قوله * (فأخرجنا من كان فيها) * الآية
قلنا لفظ ذلك إشارة إلى الإخلاص
لأنه واحد مذكر
فلا يصح إشارة إلى الكثير والمؤنث وهو أولى من تقدير الذي ذكرتم إذ فيه تقرير اللغة
هذا والثالثة إنما تصح لو كان الإيمان دينا غير الإسلام
وفيه مصادرة لا تخفى
الثاني * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * أي صلاتكم إلى بيت المقدس
قلنا بل التصديق بها
530

الثالث قاطع الطريق أوليس
بمؤمن لأنه يخزى لقوله تعالى فيهم * (ولهم في الآخرة عذاب النار) * مع قوله تعالى * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) *
قلنا هو مخصوص بالصحابة
ولا قاطع طريق فيهم
الرابع نحو قوله صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) (لا إيمان لمن لا أمانة له)
قلنا مبالغة ثم إنها معارضة بالأحاديث الدالة على أنه مؤمن وأنه يدخل الجنة حتى قال لأبي ذر لما بالغ في السؤال عنه (وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر)
القسم الثاني الوجوه الدالة على بطلان مذهب الخصم
وهي ثلاثة
الأول لو كان الإيمان هو التصديق لما كان المرء مؤمنا حين لا يكون مصدقا كالنائم حال نومه والغافل حين غفلته
وأنه خلاف الإجماع
قلنا المؤمن من آمن في الحال أو في الماضي لا لأنه حقيقة فيه بل لأن الشارع يعطي الحكمي حكم المحقق
وإلا ورد عليهم مثله في الأعمال
531

الثاني من صدق وسجد للشمس ينبغي أن يكون مؤمنا
والإجماع على خلافه
قلنا هو دليل عدم التصديق حتى لو علم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الإلهية لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله
الثالث * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) *
والتصديق بجميع ما جاء به الرسول لا يجامع الشرك لأن التوحيد مما علم مجيئه به
قلنا ذلك مشترك الإلزام لأن الشرك مناف للإيمان إجماعا
ثم إن الإيمان المعدي بالباء هو التصديق
والتصديق بالله لا ينافي الشرك
إذ لعله بوجوده وصفاته لا بالتوحيد
احتج الآخرون بقوله صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)
الجواب أن المراد شعب الإيمان قطعا لا نفس الإيمان
فإن إماطة الأذى عن الطريق أوليس
داخلا في أصل الإيمان حتى يكون فاقده غير مؤمن بالإجماع
الشرح
المرصد الثالث في الأسماء الشرعية المستعملة في أصول الدين كالإيمان والكفر والمؤمن والكافر
والمعتزلة يسمونها أسماء دينية لا شرعية تفرقة بينها وبين الألفاظ المستعملة في الأفعال الفرعية والأحكام من أن
532

الإيمان هل يزيد وينقص أو لا ومن أنه هل يثبت بين المؤمن والكافر واسطة أو لا وفيه مقاصد
المقصد الأول في حقيقة الإيمان
اعلم أن الإيمان في اللغة هو التصديق مطلقا
قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف * (وما أنت بمؤمن لنا) * أي بمصدق فيما حدثناك به
وقال صلى الله عليه وسلم (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله)
أي تصدق
ويقال فلان يؤمن بكذا
أي يصدقه ويعترف به
وأما في الشرع وهو متعلق ما ذكرنا من الأحكام يعني الثواب على التفاصيل المذكورة فهو عندنا يعني أتباع الشيخ أبي الحسن وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ
ووافقهم على ذلك الصالحي وابن الراوندي من المعتزلة التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا فهو في الشرع تصديق خاص
وقيل الإيمان هو المعرفة فقوم بالله وهو مذهب جهم بن صفوان وقوم بالله وبما جاءت به الرسل إجمالا وهو منقول عن بعض الفقهاء
وقالت الكرامية هو كلمتا الشهادة
وقالت طائفة هو التصديق مع الكلمتين
ويروى هذا عن أبي حنيفة رحمه الله
وقال قوم إنه أعمال الجوارح فذهب الخوارج والعلاف وعبد الجبار إلى أنه الطاعات بأسرها فرضا كانت أو نفلا
وذهب الجبائي وابنه وأكثر المعتزلة البصرية إلى أنه الطاعات المفترضة من الأفعال والتروك دون النوافل
وقال السلف أي
533

بعضهم كابن مجاهد وأصحاب الأثر أي المحدثون كلهم أنه مجموع هذه الثلاثة فهو عندهم تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان
ووجه الضبط في هذه المذاهب الثمانية أن الإيمان لا يخرج بإجماع المسلمين عن فعل القلب
وفعل الجوارح
فهو حينئذ إما فعل القلب فقط وهو المعرفة على الوجهين أو التصديق المذكور
وإما فعل الجوارح فقط
وهو إما اللسان أي فعله وهو الكلمتان أو غيره أي غير فعل اللسان وهو العمل بالطاعات المطلقة أو المفترضة
وإما فعل القلب والجوارح معا
والجارحة إما اللسان وحده أو سائر الجوارح أي جميعها
فقد انضبط بهذا التقسيم المذاهب كلها
لنا على ما هو المختار عندنا وجوه
الأول الآيات الدالة على محلية القلب للإيمان نحو * (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) * * (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * * (وقلبه مطمئن بالإيمان) *
ومنه أي ومما يدل على محلية القلب للإيمان الآيات الدالة على الختم والطبع على القلوب وكونها في أكنة فإنها واردة على سبيل البيان لامتناع الإيمان منهم ويؤيده دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم ثبت قلبي على دينك) وقوله لأسامة وقد قتل من قال لا إله إلا الله (هلا شققت قلبه)
534

وإذا ثبت أنه فعل القلب وجب أن يكون عبارة عن التصديق الذي من ضرورته المعرفة
وذلك لأن الشارع إنما يخاطب العرب بلغتهم ليفهموا ما هو المقصود بالخطاب
فلو كان لفظ الإيمان في الشرع مغيرا عن وضع اللغة لتبين للأمة نقله وتغييره بالتوقيف كما تبين نقل الصلاة والزكاة وأمثالهما ولاشتهر اشتهار نظائره بل كان هو بذلك أولى
الثاني جاء الإيمان مقرونا بالعمل الصالح في غير موضع من الكتاب نحو * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) * فدل على التغاير وعلى أن العمل أوليس
داخلا فيه لأن الشيء لا يعطف على نفسه ولا الجزء على كله
الثالث أنه أي الإيمان قرن بضد العمل الصالح نحو * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) *
فأثبت الإيمان مع وجود القتال
ومنه أي ومما يدل على كونه مقرونا بضد العمل الصالح مفهوم قوله تعالى * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) *
فإنه يستفاد منه اجتماع الإيمان مع الظلم
وإلا لم يكن لنفي اللبس فائدة
ومن المعلوم أن الشيء لا يمكن اجتماعه مع ضده ولا مع ضد جزئه فثبت أن الإيمان أوليس
فعل الجوارح ولا مركبا منه فيكون فعل القلب وذلك إما التصديق وإما المعرفة
والثاني باطل لأنه خلاف الأصل لاستلزامه النقل وقد عرفت بطلانه
فإن قيل فلم لا تجعلونه التصديق باللسان يريد أنكم إذا أثبتم النقل عن المعنى اللغوي وجب عليكم أن تجعلوا الإيمان عبارة عن التصديق
535

باللسان كما هو مذهب الكرامية
فإن أهل اللغة لا يعلمون من التصديق إلا ذلك
قلنا لو فرض عدم وضع صدقت لمعنى بل كان مهملا أو فرض وضعه لمعنى غير التصديق لم يكن المتلفظ به على ذلك التقدير مصدقا بحسب اللغة قطعا
فالتصديق إما معنى هذه اللفظة أو هذه اللفظة لدلالتها على معناها
وأيا ما كان فيجب الجزم بعلم العقلاء إلا اللساني ويؤيده أي يؤيد أن الإيمان أوليس
فعل اللسان بل فعل القلب قوله تعالى * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) * وقوله * (قالت الأعراب آمنا) * الآية
فقد أثبت في هاتين الآيتين التصديق اللساني ونفي الإيمان فعلم أن المراد به التصديق القلبي دون اللساني
احتج الكرامية بأنه تواتر أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يقنعون بالكلمتين ممن أتى بهما ولا يستفسرون عن علمه وتصديقه القلبي وعلمه فيحكمون بإيمانه بمجرد الكلمتين
فعلمنا أنه الإيمان بلا علم وعمل
الجواب معارضته بالإجماع على أن المنافق كافر مع إقراره باللسان وتلفظه بالشهادتين
ومعارضته بنحو قوله تعالى * (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) * وحله بأن يقال لا نزاع في أنه أي التصديق اللساني يسمى إيمانا لغة لدلالته على التصديق القلبي ولا في أنه يترتب عليه في الشرع أحكام الإيمان ظاهرا
فإن الشارع جعل مناط الأحكام الأمور الظاهرة المنضبطة والتصديق القلبي أمر خفي لا يطلع عليه بخلاف الإقرار باللسان فإنه مكشوف بلا سترة فيناط به الأحكام الدنيوية
وإنما النزاع
536

فيما بينه وبين الله النزاع في الإيمان الحقيقي الذي يترتب عليه الأحكام الأخروية
ثم نقول لهم يلزمكم أن من صدق بقلبه وهم بالتكلم بالكلمتين فمنعه منه مانع من خرس وغيره كخوف من مخالف أن يكون كافرا وهو خلاف الإجماع
احتج المعتزلة بوجوه
منها ما يدل على إثبات مذهبهم
ومنها ما يدل على إبطال مذهب الخصم
القسم الأول أربعة
الأول فعل الواجبات هو الدين
والدين هو الإسلام
والإسلام هو الإيمان
ففعل الواجبات هو الإيمان
أما أن فعل الواجبات هو الدين فلقوله تعالى بعد ذكر العبادة * (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) * إذ لا يخفى أن لفظة ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم من الواجبات على معنى ذلك الذي أمرتم به دين الملة القيمة ففعل الواجبات هو الدين
وأما أن الدين هو الإسلام فلقوله تعالى * (إن الدين عند الله الإسلام) *
وأما أن الإسلام هو الإيمان فلأن الإيمان لو كان غير الإسلام لما قبل من مبتغيه لقوله تعالى * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) * ولاستثناء المسلمين من المؤمنين في قوله * (فأخرجنا من كان فيها) * الآية
يعني أن كلمة غير في قوله * (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) * ليست صفة على معنى فما وجدنا فيها أي في تلك القرية شيئا غير بيت من المسلمين أنه كاذب بل هي استثناء
والمراد بالبيت أهل البيت
فيجب أن يقدر المستثنى منه على وجه يصح وهو أن يقال فما
537

وجدنا فيها بيتا من المؤمنين إلا بيتا من المسلمين فقد استثنى المسلم من المؤمن فوجب أن يتحد الإيمان بالإسلام
قلنا لفظ ذلك في تلك الآية إشارة إلى الإخلاص الذي يدل عليه لفظ مخلصين لا إلى المذكورات لأنه واحد مذكر فلا يصلح أن يكون إشارة إلى الكثير والمؤنث فإن أكثر المذكورات مؤنث وهو أي جعله إشارة إلى الإخلاص أولى من تقدير الذي ذكرتم
والظاهر المطابق لنهاية العقول أن يقال من تقدير الذي أمرتم به أو الذي ذكر إذ فيه أي في كونه إشارة إلى الإخلاص تقرير اللغة على أصلها
وفي كونه إشارة إلى المذكور مطلقا إخراجها عنه
هذا كما مضى
وأما المقدمة الثالثة وهي أن الإسلام هو الإيمان فهي إنما تصح وتثبت بالدليل الأول لو كان الإيمان دينا غير الإسلام لأن الآية إنما دلت على أن كل دين مغاير للإسلام فإنه غير مقبول لا على أن كل شيء مغاير له غير مقبول
فالاتحاد بين الإسلام والإيمان إنما يثبت بهذه الآية إذا ثبت كون الإيمان دينا
وفيه مصادرة لا تخفى لأن كون الإيمان دينا
أي عمل الجوارح الذي هو الإسلام في قوة كونه عين الإسلام
فإثبات الثاني بالأول يكون دورا من قبيل أخذ المطلوب في إثباته
ولو اقتصر على منع كونه دينا إذ هو في قوة أول المسألة
أعني كون الإيمان عمل الجوارح لكان أولى
وأما قضية الاستثناء فإنها تدل على تصادق المسلم والمؤمن دون الإسلام والإيمان
ألا يرى أن الضاحك يصدق على الباكي ولا تصادق بين الضحك والبكاء فضلا عن الاتحاد
الثاني من تلك الوجوه قوله تعالى * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * أي صلاتكم إلى بيت المقدس
وذلك لنزول الآية بعد تحويل
538

القبلة دفعا لتوهم إضاعة صلوات كانت إليه
قلنا بالتصديق بها أي لا يضيع تصديقكم بوجوب الصلوات التي توجهتم فيها إلى بيت المقدس
وما ترتب على ذلك التصديق
وهو تلك الصلوات
فلا يلزم حينئذ تغيير اللفظ عن معناه الأصلي
وإن سلم أن المراد الصلاة جاز أن يكون مجاز وهو أولى من النفل الذي هو مذهبكم
الثالث قاطع الطريق أوليس
بمؤمن فيكون ترك المنهي داخلا في الإيمان
وإنما قلنا هو أوليس
بمؤمن لأنه يخزى يوم القيامة لقوله تعالى فيهم * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * قال المفسرون أي * (ولهم في الآخرة عذاب النار) *
فالمذكور في الكتاب معنى القرآن لا نظمه مع قوله تعالى حكاية على سبيل التصديق والتقرير * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) *
فإن هذين القولين معا يدلان على أن قاطع الطريق يخزى يوم القيامة
والمؤمن لا يخزى في ذلك اليوم لقوله تعالى * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) *
قلنا عدم الإخزاء لا يعم المؤمنين جميعا بل هو مخصوص بالصحابة كما يدل عليه لفظ معه
ولا قاطع طريق فيهم فلا يتم هذا الاستدلال
وأيضا يجوز أن يكون الموصول مع صلته مبتدأ خبره * (نورهم يسعى بين أيديهم) *
وحينئذ جاز أيضا أن يكون المؤمن مخزى في يوم القيامة بإدخاله في النار وإن كان مآله الخروج منها
الرابع نحو قوله صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني وهو مؤمن) (لا إيمان لمن لا أمانة له)
قلنا مبالغة على معنى أن هذه الأفعال ليست من شأن المؤمن كأنها تنافي الإيمان ولا تجامعه
ويجب الحمل على هذا
539

المعنى كي لا يلزم نقل لفظ الإيمان عن معناه اللغوي
ثم أنها أي الأحاديث الدالة على اعتبار الأعمال كترك الزنا مثلا في الإيمان معارضة بالأحاديث على أنه أي مرتكب الزنا مثلا مؤمن وأنه يدخل الجنة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لما بالغ في السؤال عنه (وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر)
القسم الثاني من القسمين السابقين الوجوه الدالة على بطلان مذهب الخصم
وهي ثلاثة
الأول لو كان الإيمان هو التصديق لما كان المرء مؤمنا حين لا يكون مصدقا كالنائم حال نومه والغافل حين غفلته
وأنه خلاف الإجماع
قلنا المؤمن من آمن في الحال أو في الماضي لا لأنه حقيقة فيه
وإن أمكن أن يدعي فيه ذلك كما هو مذهب جماعة في المشتقات بل لأن الشارع يعطي الحكمي حكم المحقق
وإلا أي وإن لم يكن الأمر كما ذكرناه
ورد عليهم مثله في الأعمال فإن النائم والغافل ليسا في الأعمال المعتبرة في الإيمان فلا يكونان مؤمنين ولا مخلص إلا بأن الحكمي كالمحقق
الثاني من صدق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك سجد للشمس ينبغي أن يكون مؤمنا
والإجماع على خلافه
قلنا هو دليل عدم التصديق أي سجوده لها يدل بظاهرة على أنه أوليس
بمصدق
ونحن نحكم بالظاهر
540

فلذلك حكمنا بعدم إيمانه لا لأن عدم السجود لغير الله داخل في حقيقة الإيمان حتى لو علم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الإلهية بل سجد لها وقلبه مطمئن بالتصديق
لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله وإن أجري عليه حكم الكفر في الظاهر
الثالث قوله تعالى * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * فإنه يدل على اجتماع الإيمان مع الشرك
والتصديق
بجميع ما جاء به الرسول لا يجامع الشرك لأن التوحيد مما علم مجيئه به فلا يكون الإيمان عبارة عن ذلك التصديق
قلنا ذلك الذي ذكرتموه مشترك الإلزام لأن الشرك مناف للإيمان إجماعا
وفعل الواجبات لا ينافيه فلا يكون إيمانا ثم نقول في حله إن الإيمان المعدى بالباء هو التصديق ولم يقصد به في الآية التصديق
بجميع ما علم مجيئه في الدين بل بما قيد به ظاهرا
وهو الله سبحانه وتعالى
والتصديق بالله لا ينافي الشرك إذ لعله بوجوده وصفاته الحقيقية لا بالتوحيد الذي هو من الصفات السلبية وحاصله أن الإيمان في اللغة هو التصديق مطلقا
وفي الشرع هو التصديق مقيدا بأمر مخصوص هو جميع ما علم كونه من الدين ضرورة
والمذكور في الآية محمول على معناه اللغوي
واعلم أن الإمام الرازي قرر في النهاية الوجه الثالث هكذا المراد بالإيمان هنا التصديق
وهو مجامع للشرك فالإيمان الذي لا يجامع الشرك وجب أن يكون مغايرا للتصديق ثم أجاب عنه بأن ذلك حجة عليكم لأن أفعال الواجبات قد تجامع الشرك والإيمان لا يجامعه
فدل على أن فعل الواجبات أوليس
بالإيمان
وعلى هذا التقرير يظهر اشتراك الإلزام لا على ما في الكتاب
احتج الآخرون القائلون بأن الإيمان فعل الطاعات بأسرها والقائلون بأنه مركب من التصديق والإقرار والعمل جميعا
بقوله صلى الله عليه وسلم
541

(الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)
الجواب أن المراد شعب الإيمان قطعا لا نفس الإيمان فإن إماطة الأذى عن الطريق أوليس
داخلا في أصل الإيمان حتى يكون فاقده غير مؤمن بالإجماع فلا بد في الحديث من تقدير مضاف
والمصنف لم يورد دليل القائلين بأن الإيمان هو المعرفة أو التصديق مع الإقرار
المقصد الثاني
المتن في أن الإيمان هل يزيد وينقص أثبته طائفة ونفاه آخرون
قال الإمام الرازي وكثير من المتكلمين هو فرع تفسير الإيمان
فإن قلنا هو التصديق فلا يقبلهما
لأن الواجب هو اليقين وأنه لا يقبل التفاوت لأن التفاوت إنما هو لاحتمال النقيض وهو ولو بأبعد وجه ينافي اليقين
وإن قلنا هو الأعمال فيقبلهما
وهو ظاهر
والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان بوجهين
الأول القوة والضعف
قولكم الواجب اليقين والتفاوت لاحتمال النقيض
قلنا لا نسلم أن التفاوت لذلك
ثم ذلك يقتضي أن يكون إيمان النبي وآحاد الأمة سواء وأنه باطل إجماعا
ولقول إبراهيم عليه السلام * (ولكن ليطمئن قلبي) *
542

والظاهر أن الظن الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمه حكم اليقين
الثاني التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال
والنصوص دالة على قبوله لهما
الشرح
المقصد الثاني في أن الإيمان هل يزيد وينقص أثبته طائفة ونفاه آخرون
قال الإمام الرازي وكثير من المتكلمين هو بحث لفظي لأنه فرع تفسير الإيمان
فإن قلنا هو التصديق فلا يقبلهما لأن الواجب هو اليقين
وأنه لا يقبل التفاوت لا بحسب ذاته لأن التفاوت إنما هو لاحتمال النقيض
وهو أي احتماله ولو بأبعد وجه ينافي اليقين فلا يجامعه ولا بحسب متعلقة لأنه جميع ما علم بالضرورة مجيء الرسول به والجميع من حيث هو جميع لا يتصور فيه تعدد
وإلا لم يكن جميعا
وإن قلنا هو الأعمال إما وحدها أو مع التصديق فيقبلهما
وهو ظاهر
والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان لوجهين أي بحسب الذات وبحسب المتعلق
الأول القوة والضعف فإن التصديق من الكيفيات النفسانية المتفاوتة قوة وضعفا قولكم الواجب اليقين والتفاوت لا يكون إلا لاحتمال النقيض
قلنا لا نسلم أن التفاوت لذلك الاحتمال فقط
إذ يجوز أن يكون بالقوة والضعف بلا احتمال للنقيض ثم ذلك الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون إيمان النبي وآحاد الأمة سواء
وأنه باطل إجماعا
ولقول أي ذلك الذي ذكرتموه أوليس
بصحيح لاقتضائه تلك المساواة ولقول إبراهيم عليه السلام
543

* (ولكن ليطمئن قلبي) *
فإنه يدل على قبول التصديق اليقيني للزيادة كما سلف تقريره
والظاهر أن الظن الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمه حكم اليقين في كونه إيمانا حقيقيا
فإن إيمان أكثر العوام من هذا القبيل
وعلى هذا فكون التصديق الإيماني قابلا للزيادة واضح وضوحا تاما
الثاني من وجهي التفاوت أعني ما هو بحسب المتعلق أن يقال التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال يعني أن أفراد ما جاء به متعددة وداخلة في التصديق الإجمالي
فإذا علم واحد منها بخصوصه وصدق به كان هذا تصديقا مغايرا لذلك التصديق المجمل وجزءا من الإيمان
ولا شك أن التصديقات التفضلية تقبل الزيادة
فكذا الإيمان
والنصوص كنحو قوله تعالى * (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) *
دالة على قبوله لهما أي قبول الإيمان للزيادة والنقصان بالوجه الثاني كما أن نص قوله * (ولكن ليطمئن قلبي) * دل على قبوله لهما بالوجه الأول
المقصد الثالث
المتن في الكفر
وهو خلاف الإيمان
فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم مجيئه به ضرورة
544

فإن قيل فشاد الزنار ولابس الغيار بالاختيار لا يكون كافرا
قلنا جعلنا الشيء علامة للتكذيب فحكمنا عليه بذلك وهو عند كل طائفة مقابل ما فسر به الإيمان
فقالت الخوارج كل معصية كفر
وقد أبطلناه
وقالت المعتزلة المعاصي ثلاثة إذ منها ما يدل على الجهل بالله ووحدته وما يجوز عليه وما لا يجوز
وبرسالة رسوله كإلقاء المصحف في القاذورات والتلفظ بكلمات دالة على ذلك فهو كفر
ومنها ما لا يدل على ذلك وهو قسمان قسم يخرج إلى منزله بين المنزلتين لا يحكم على صاحبها بالكفر لسائر أعماله
ولا بالإيمان لإيهامه عدم التصديق
ويعبر عنها بالكبائر
ومنها ما لا يخرج ككشف العورة والسفه
ويسمى بالصغائر وسنزيده بيانا في المقصد الذي يتلوه
تذنيب في تفصيل الكفار
الإنسان إما معترف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا
والثاني إما معترف بالنبوة في الجملة وهم اليهود والنصارى وغيرهم وإما غير معترف بها
وهو إما معترف بالقادر المختار وهم البراهمة أو لا وهم الدهرية
ثم إنكارهم لنبوته صلى الله عليه وسلم إما عن عناد وإما عن اجتهاد
والمعترف بنبوته صلى الله عليه وسلم إما مخطىء في أصل وسنبين أنه أوليس
بكافر أو لا
وهو إما
545

عن برهان وهو ناج باتفاق أو عن تقليد وقد اختلف فيه
فمن قال إنه ناج فلأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإسلام من لم يعلم منه ذلك وهم الأكثرون
ومن قال إنه غير ناج فلأن التصديق بالنبوة يتضمن العلم بدلالة المعجزة
وأنه يتضمن العلم بما يجب اعتقاده وإن لم يمكن له تنقيح الأدلة وتحريرها
الشرح
المقصد الثالث في الكفر
وهو خلاف الإيمان
فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم مجيئه ضرورة
فإن قيل فشاد الزنار ولابس الغيار بالاختيار لا يكون كافرا إذا كان مصدقا له في الكل
وهو باطل إجماعا قلنا جعلنا الشيء الصادر عنه باختياره علامة للتكذيب فحكمنا عليه بذلك أي بكونه كافرا غير مصدق
ولو علم أنه شد الزنار لا لتعظيم دين النصارى واعتقاد حقيته لم يحكم بكفره فما بينه وبين الله كما مر في سجود الشمس
لا يقال أطفال المؤمنين لا تصديق لهم
فيلزم أن يكونوا كفارا لا مؤمنين وهو باطل لأنا نقول هم مصدقون حكما لما علم من الدين ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل إيمان أحد الأبوين إيمانا للأولاد
وهو أي الكفر عند كل طائفة مقابل ما فسر به الإيمان كما هو عندنا مقابل لما فسرناه به
فمن قال الإيمان معرفة الله قال الكفر هو الجهل بالله
وبطلانه ظاهر
ومن قال الإيمان هو الطاعات كالخوارج وبعض المعتزلة قال الكفر هو المعصية لكنهم اختلفوا
فقالت الخوارج كل معصية كفر
وقد أبطلناه
546

وقالت المعتزلة المعاصي أقسام ثلاثة
إذ منها ما يدل على الجهل بالله ووحدته
وما يجوز عليه وما لا يجوز
والجهل برسالة رسوله كإلقاء المصحف في القاذورات والتلفظ بكلمات دالة على ذلك وكسب الرسول والاستخفاف به فهو كفر
ومنها ما لا يدل على ذلك وهو قسمان
قسم يخرج مرتكبه إلى منزلة بين المنزلتين أي الكفر والإيمان على معنى أنه لا يحكم على صاحبها بالكفر لسائر ما اتصف به من أعماله الصالحة ولا بالإيمان لإيهامه عدم التصديق بل يحكم عليه بالفسق ويعبر عنها أي عن المعاصي المخرجة إلى تلك المنزلة بالكبائر كالقتل العمد العدوان والزنا وشرب الخمر ونظائرها
وأول من أحدث القول بهذا الإخراج واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ومنها ما لا يخرج أي قسم لا يخرج ككشف العورة والسفه
ويسمى بالصغائر
ولا يوصف صاحبها بالكفر ولا بالفسق بل بالإيمان
وسنزيده أي نزيد ما ذكرناه في هذا المقصد من قول الخوارج والمعتزلة بيانا في المقصد الذي يتلوه
تذنيب في تفصيل الكفار فنقول الإنسان إما معترف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا
والثاني إما معترف بالنبوة في الجملة وهم اليهود النصارى وغيرهم كالمجوس
وإما غير معترف بها أصلا
وهو إما معترف بالقادر المختار
وهم البراهمة
أو لا وهم الدهرية على اختلاف أصنافهم
ثم إنكارهم لنبوته صلى الله عليه وسلم إما عن عناد وعذابه مخلدا إجماعا
وإما عن اجتهاد به بلا تقصير
فالجاحظ والعنبري على أنه معذور وعذابه غير مخلد وقد عرفت أنه مخالف لإجماع من قبلهما والأول هو المعترف بنبوته صلى الله عليه وسلم
547

إما مخطىء في أصل من المسائل الأصولية وسنبين في المقصد الخامس أنه أوليس
بكافر أو لا يكون مخطئا في عقائده المتعلقة بأصول الدين
وهو إما أن يكون اعتقاده عن برهان وهو ناج باتفاق أو عن تقليد
وقد اختلف فيه
فمن قال إنه ناج بهذا الاعتقاد التقليدي فلأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإسلام من لم يعلم منه ذلك وهم الأكثرون
ومن قال إنه غير ناج به فلأن التصديق بالنبوة يتضمن العلم بدلالة المعجزة
وأنه أي العلم بدلالة المعجزة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن العلم بما يجب اعتقاده في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله
فمن كان مصدقا حقيقة كان عالما بهذه الأمور كلها وإن لم يكن له تنقيح الأدلة وتحريرها فإن ذلك أوليس
شرطا في العلم والخروج عن التقليد
فمن لم يكن عالما بها بأدلتها مفصلة ولا مجملة وكان مقلدا محضا لم يكن مصدقا حقيقة فلا يكون ناجيا ولعل الأكثرين الذين حكم النبي بإسلامهم ونجاتهم كانوا من العالمين علما إجماليا كما مر في قصة الإعرابي لا من المقلدين تقليدا محضا
المقصد الرابع
المتن في أن مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة مؤمن
وقد تقدم بيانه في مسألة حقيقة الإيمان
وغرضنا ههنا ذكر مذهب المخالفين والجواب عن شبهتهم
ذهب الخوارج إلى أنه كافر
والحسن البصري إلى أنه منافق
والمعتزلة إلى أنه لا مؤمن ولا كافر
حجة الخوارج وجوه
الأول قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
548

الكافرون)
قلنا المراد من لم يحكم بشيء مما أنزل الله أصلا
أو هو التوراة بقرينة ما قبله وهو * (إنا أنزلنا التوراة) *... الآية وأمتنا غير متعبدين بالحكم بها فيختص اليهود
الثاني * (وهل نجازي إلا الكفور) * قلنا متروك الظاهر إذ يجازي غير الكفور
وهو المثاب
ولقوله تعالى * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) *
الثالث قوله تعالى بعد إيجاب الحج * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) *
قلنا المراد من جحد وجوبه
الرابع * (أن العذاب على من كذب وتولى) * قلنا متروك الظاهر للاتفاق على عذاب شارب الخمر والزاني مع أنه غير مكذب لله تعالى بل اليهود والنصارى
وربما يلزمهم التكذيب
لكن فرق بين المكذب ومن يلزمه التكذيب
الخامس قوله تعالى * (فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى) *
والفاسق يصلاها
قلنا لعل ذلك نار خاصة
السادس قوله تعالى في حق من خفت موازينه * (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون) * والفاسق من خفت موازينه
قلنا بل ثقلت بالإيمان
السابع * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * والفاسق ممن وجهه
549

مسود
قلنا لا نسلم أن كل فاسق كذلك بل هي واردة في بعض الكفار لقوله * (أكفرتم بعد إيمانكم) *
الثامن أنه من أصحاب المشأمة
وقال تعالى * (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة) * قلنا هو من باب إيهام العكس وينتقض بالزاني والسارق مع عدم تكذيبهما
التاسع * (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) * وأنه يقتضي حصر المبتدأ في الخبر
قلنا ممنوع لأن الكافر ابتداء كذلك
العاشر * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) * والفاسق آيس من روح الله
قلنا ممنوع للرجاء
الحادي عشر * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * مع قوله * (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) * قلنا المفرد المحلى باللام لا عموم له أو المراد به الخزي الكامل
الثاني عشر * (وأما من أوتي كتابه بشماله) *.. إلى قوله * (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) *
قلنا ذكر قسمين لا يدل على عدم الثالث مع أن التخصيص ظاهر
الثالث عشر * (ألا لعنة الله على الظالمين) *
قلنا يلزم تكفير الأنبياء حيث اعترفوا بظلمهم
الرابع عشر قوله تعالى * (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار) * الآية
قلنا يقتضي أن كل فاسق مكذب بالقيامة
وأنه باطل قطعا
550

الخامس عشر قوله تعالى * (يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر) *.. إلى قوله * (وكنا نكذب بيوم الدين) *
قلنا قد مر جوابه
السادس عشر قوله تعالى * (وسيق الذين كفروا) * إلى قوله * (وسيق الذين اتقوا) *
وقد مر مثله
السابع عشر قوله صلى الله عليه وسلم (من ترك صلاة متعمدا فقد كفر) وقوله صلى الله عليه وسلم (من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا)
قلنا الآحاد لا تعارض الإجماع
الثامن عشر ولاية الله وعداوته ضدان
فلا واسطة بينهما
وولاية الله إيمان فعداوته كفر
قلنا لا نسلم عدم الواسطة بين كل ضدين
احتج من زعم أنه منافق بوجهين
الأول قوله صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف
وإذا حدث كذب
وإذا ائتمن خان)
قلنا هو متروك الظاهر لأن من وعد غيره أن يخلع عليه خلعة نفيسة ثم أخلفه لم يخرج عن الإيمان إلى النفاق إجماعا
551

الثاني أن من اعتقد إن في هذا الجحر حية لم يدخل يده فيه
فإذا زعم ذلك ثم أدخل يده فيه علم أنه قاله لا عن اعتقاده
قلنا مضرة الحية عاجلة محققة بخلاف عقاب الذنب لأنها آجلة إذ يجوز التوبة والعفو فافترقا
احتج المعتزلة بوجهين
الأول أن الفاسق أوليس
مؤمنا لما مر ولا كافرا بالإجماع لأنهم كانوا يقيمون عليه الحد ولا يقتلونه ولا يحكمون بردته ويدفنونه في مقابر المسلمين
وأيضا فيلزم بينونة المرأة بمجرد رمي الزوج إياها بالزنا من غير لعان وقضاء قاض لأنه إن صدق فهي كافرة وإن كذب فهو كافر
قلنا هو مؤمن وقد مر الكلام فيه
الثاني ما قاله واصل بن عطاء لعمرو بن عبيد فرجع إلى مذهبه وهو أن فسقه معلوم وإيمانه مختلف فيه فنترك المختلف فيه ونأخذ بالمتفق عليه
قلنا قد مر أنه مؤمن قطعا ولا خلاف فيه ممن قبله بل قد أجمع على أنه إما مؤمن أو كافر
فالقول بالواسطة خرق للإجماع فيكون باطلا
الشرح
المقصد الرابع في أن مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة أي من أهل القبلة مؤمن وقد تقدم بيانه في مسألة حقيقة الإيمان
وغرضنا ههنا ذكر مذهب المخالفين والجواب عن شبهتهم
ذهب الخوارج إلى أنه كافر والحسن البصري إلى أنه منافق والمعتزلة إلى أنه لا مؤمن ولا كافر
حجة الخوارج وجوه
552

الأول قوله تعالى * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *
فإن كلمة من عامة في كل من لم يحكم بما أنزل فيدخل فيه الفاسق المصدق وأيضا فقد علل كفرهم بعدم الحكم فكل من لم يحكم بما أنزل الله كان كافرا
والفاسق لم يحكم بما أنزل الله
قلنا الموصولات لم توضع للعموم بل هي للجنس تحتمل العموم والخصوص
فنقول المراد من لم يحكم بشيء مما أنزل الله أصلا ولا نزاع في كونه كافرا
أو نقول المراد بما أنزل الله هو التوراة بقرينة ما قبله وهو * (إنا أنزلنا التوراة) * الآية
وأمتنا غير متعبدين بالحكم فيختص باليهود فيلزم أن يكونوا كافرين إذا لم يحكموا بالتوراة
ونحن نقول بموجبه
الثاني من تلك الوجوه قوله تعالى * (وهل نجازي إلا الكفور) *
فإنه يدل على أن كل من يجازى فهو كافر
وصاحب الكبيرة ممن يجازى لقوله * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * فيكون كافرا
قلنا هو متروك الظاهر لأن ظاهره حصر الجزاء في الكفور
وهو متروك قطعا إذ يجازى غير الكفور وهو المثاب لأن الجزاء يعم الثواب والعقاب
وأيضا ذلك الحصر متروك لقوله تعالى * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) *
فوجب حمل الآية على جزاء مخصوص بالكافر كما يدل عليه سياق الآية
أعني قولك * (ذلك جزيناهم بما كفروا) *
فالمعنى وهل يجازى ذلك الجزاء إلا الكفور
وصاحب الكبيرة جاز أن يجازى جزاء مغايرا لما يختص بالكافر
553

الثالث قوله تعالى بعد إيجاب الحج * (ومن كفر) * أي لم يحج * (فإن الله غني عن العالمين) * فقد جعل ترك الحج كفرا
قلنا المراد من جحد وجوبه ولا شك في كفره
الرابع قوله تعالى حكاية عن موسى وهارون * (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) *
فإنه يدل على انحصار العذاب في المكذب
وهو كافر
ولا شك أن الفاسق معذب لما ورد فيه من الوعيد
قلنا هو أيضا متروك الظاهر ومخصوص للاتفاق على عذاب شارب الخمر والزاني مع أنه غير مكذب لله تعالى بل اليهود والنصارى لا يكذبون الله تعالى
وربما يلزمهم التكذيب
لكن فرق بين المكذب ومن يلزمه التكذيب
الخامس قوله تعالى * (فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى) *
فإنه يدل على أن كل من يصلى النار فهو كافر والفاسق أي مرتكب الكبيرة يصلاها أي النار للآيات العامة الموعدة بدخولها
قلنا لعل ذلك نار خاصة
يعني أن الضمير في يصلاها عائد إلى نار منكرة فلعل تنكيرها للوحدة النوعية فتكون نارا مخصوصة لا يصلاها إلا الكافر
السادس قوله تعالى في حق من خفت موازينه * (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون) *
وحينئذ نقول الفاسق ممن خفت موازينه لقلة حسناته
وكل من خفت موازينه فهو مكذب بالآية المذكورة
وكل مكذب كافر
554

قلنا بل ثقلت موازين الفاسق بالإيمان فلا يندرج فيمن خفت موازينه
السابع قوله تعالى * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) *
والفاسق ممن وجهه مسود بالمعصية فيكون كافرا
قلنا لا نسلم أن كل فاسق كذلك أي مسود الوجه يوم القيامة
فإن الآية لا تقتضي ذلك
بل هي واردة في بعض الكفار الذين كفروا بعد إيمانهم لقوله * (أكفرتم بعد إيمانكم) *
الثامن إنه أي مرتكب الكبيرة من أصحاب المشأمة
وقال تعالى * (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة) *
فدل على أنه كل من كان من أصحاب المشأمة فهو كافر
قلنا هو أي ما ذكرتم من معنى الآية من باب إيهام العكس فإنها تدل على أن كل من كفر كان من أصحاب المشأمة وذلك لا ينعكس كليا كما توهمتموه وأيضا ينتقض استدلالكم بهذه الآية بالزاني والسارق المصدقين بما هو من ضرورات الدين فإنهما من أصحاب المشأمة مع عدم تكذيبهما
التاسع قوله تعالى * (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) *
وأنه يقتضي حصر المبتدأ في الخبر
والصحيح المطابق للنهاية حصر الخبر في المبتدأ فيصدق حينئذ أن كل فاسق كافر
قلنا الحصر الذي ذكرتموه ممنوع كونه مستفادا من الآية لأن الكافر ابتداء كذلك أي فاسق لغة
وإن لم يطلق لفظ الفاسق في العرف
555

الطارىء على الكافر
فلا ينحصر الفاسق مطلقا فيمن كفر بعد ذلك بل المنحصر فيه الفاسق الكافر الكامل
العاشر قوله تعالى * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) *
والفاسق آيس من روح الله أي ثوابه
قلنا كونه آيسا ممنوع للرجاء الحاصل له بسبب إيمانه
الحادي عشر قوله تعالى * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * مع قوله * (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) *
وتقريره أن الفاسق يدخل النار للآيات العامة الموعدة وكل من يدخل النار فهو مخزي للآية الأولى
وكل مخزي كافر للآية الثانية
قلنا المفرد المحلى باللام وهو الخزي ههنا لا عموم له عندنا
فلا يلزم انحصار الخزي مطلقا في الكافر أو نقول المراد به على تقدير عمومه الخزي الكامل فيلزم حينئذ انحصار أفراده في الكافر لا انحصار أفراد الخزي مطلقا فيه
الثاني عشر قوله تعالى * (وأما من أوتي كتابه بشماله) * * (فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه) *.. إلى قوله * (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) *
والفاسق لا يؤتى كتابه بيمينه
وهو ظاهر بل بشماله إذ لا ثالث هناك فيكون كافرا
قلنا ذكر قسمين من الناس في ذلك اليوم
أعني من يؤتى كتابه بيمينه ومن يؤتى بشماله لا يدل على عدم القسم الثالث إذ يجوز أن لا يؤتى بعضهم كتابه بأيديهم بل يقرأ عليهم وليس في نظم التنزيل ما ينافي ذلك مع أن التخصيص ظاهر أي إن سلمنا الانحصار في القسمين قلنا إن قوله * (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) * أوليس
عاما لكل من يؤتى كتابه
556

بشماله لأن فساق أهل القبلة مؤمنون بالله
أي مصدقون به فلا يندرجون في قوله * (إنه كان لا يؤمن) *
الثالث عشر الفاسق ظالم على غيره أو على نفسه
وكل ظالم كافر لقوله تعالى * (ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون) *
قلنا يلزم مما ذكرتم تكفير الأنبياء حيث اعترفوا بظلمهم فإنه قال آدم وحواء * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * وقال موسى * (إني ظلمت نفسي) *
وقال يونس * (إني كنت من الظالمين) *
وحله أن يقال ما ذكر بعد الظالمين صفة مخصصة فلا يلزم تكفير كل ظاهر
الرابع عشر قوله تعالى * (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار) * الآية
وتمامها " كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي الذي كنتم به تكذبون "
فإنه يدل على أن كل فاسق كافر
قلنا أوليس
قوله * (وأما الذين فسقوا) * باقيا على عمومه الظاهر لأنه يقتضي أن كل فاسق مكذب بالقيامة
وأنه باطل قطعا
الخامس عشر قوله تعالى * (يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر) * إلى قوله * (وكنا نكذب بيوم الدين) * فثبت بذلك أن كل مجرم داخل في النار كافر
ولا شبهة في أن الفاسق مجرم لا يدخل النار
قلنا قد مر جوابه وهو أن الآية متروكة الظاهر
وإلا لزم كون كل مجرم مكذبا بيوم القيامة
وهو باطل قطعا
557

السادس عشر قوله تعالى * (وسيق الذين كفروا) * إلى قوله * (وسيق الذين اتقوا) * إذ يعلم منه أن الإنسان إما متق يساق إلى الجنة أو كافر يساق إلى النار
والجواب عنه قد مر مثله وهو أن ذكر قسمين لا يدل على عدم قسم ثالث
السابع عشر قوله صلى الله عليه وسلم (من ترك صلاة متعمدا فقد كفر) وقوله صلى الله عليه وسلم (من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا)
قلنا الآحاد لا تعارض الإجماع المنعقد قبل حدوث المخالفين والثامن عشر ولاية الله وعداوته ضدان فلا واسطة بينهما
وولاية الله إيمان وعداوته كفر
قلنا لا نسلم عدم الواسطة بين كل ضدين
فإن السواد والبياض متضادان وبينهما واسطة
فجاز أن يكون بين ولايته وعداوته واسطة
احتج من زعم أنه أي مرتكب الكبيرة منافق بوجهين
الأول نقلي
وهو قوله صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف
وإذا حدث كذب
وإذا ائتمن خان)
قلنا هو متروك الظاهر
لأن من وعد غيره أن يخلع عليه خلعة نفيسة ثم أخلفه لم يخرج بذلك عن الإيمان إلى النفاق إجماعا
وقيل معناه أن هذه الخصال الثلاث إذا صارت معا ملكة الشخص كانت علامة لنفاقه
وأما بدون كونها ملكة فلا
ألا ترى أن إخوة يوسف وعدوا أباهم أن يحفظوا فأخلفوا وائتمنهم أبوهم فخانوا وكذبوا في قولهم
558

* (فأكله الذئب) * وما كانوا منافقين اتفاقا
على أن العلامة الدالة على شيء قد لا تكون قطعية الدلالة فيجوز تخلف المدلول عنها
الثاني عقلي وهو أن من اعتقد من العقلاء أن في هذا الجحر حية لم يدخل يده فيه
فإذا زعم ذلك ثم أدخل يده فيه علم أنه قاله لا عن اعتقاد وكذا الحال فيمن ارتكب الكبيرة
قلنا مضرة الحية عاجلة محققة بخلاف عقاب الذنب لأنها آجلة وغير محققة إذ يجوز التوبة والعفو فافترقا
احتج المعتزلة بوجهين
الأول إن الفاسق أوليس
مؤمنا لما مر من أن الإيمان عبارة عن الطاعات ولا كافرا بالإجماع لأنهم أي الصحابة ومن بعدهم من السلف كانوا يقيمون عليه الحد في الزنا وشرب الخمر وقذف المحصنات ولا يقتلونه ولا يحكمون بردته ويدفنونه في مقابر المسلمين مع إجماعهم على أن الكافر لا يعامل معه كذلك
وأيضا فيلزم من كون الفاسق كافرا بينونة المرأة عن زوجها بمجرد رمي الزوج إياها بالزنا من غير لعان وقضاء قاض لأنه إن صدق الزوج فهي كافرة بارتكاب الزنا وإن كذب فهو كافر بارتكاب قذف المحصنة
فكانت البينونة واقعة على التقديرين
قلنا هو مؤمن
وقد مر الكلام فيه في بيان حقيقة الإيمان
559

الثاني ما قاله واصل بن عطاء لعمرو بن عبيد فرجع عمرو إلى مذهبه
وهو أن فسقه معلوم وفاقا وإيمانه مختلف فيه أي الأمة مجمعة على أن صاحب الكبيرة فاسق
واختلفوا في كونه مؤمنا أو كافرا فنترك المختلف فيه ونأخذ بالمتفق عليه
قلنا قد مر أنه مؤمن قطعا
ولا خلاف فيه ممن قبله من الأمة بل قد أجمع قبله على أنه أي المكلف إما مؤمن أو كافر
فالقول بالواسطة خرق بالإجماع المنعقد على الانحصار في ذينك القسمين فيكون باطلا بلا اشتباه
المقصد الخامس
في أن المخالف للحق من أهل القبلة هل يكفر أم لا
المتن جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة
والمعتزلة الذين قبل أبي الحسين تحامقوا فكفروا الأصحاب فعارضه بعضنا بالمثل
وقد كفر المجسمة مخالفوهم
وقال الأستاذ كل مخالف يكفرنا فنحن نكفره
وإلا فلا
لنا إن المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون الله تعالى عالما بعلم أو موجدا لفعل العبد أو غير متحيز ولا في جهة ونحوها لم يبحث النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون
فعلم أن الخطأ فيها أوليس
قادحا في حقيقة الإسلام
560

فإن قيل لعله صلى الله عليه وسلم عرف منهم ذلك فلم يبحث عنها كما لم يبحث عن علمهم بعلمه وقدرته مع وجوب اعتقادهما
قلنا مكابرة
والعلم والقدرة مما يتوقف عليه ثبوت نبوته
فكان الاعتراف بها دليلا للعلم بهما
ولنذكر الآن ما كفر به بعض أهل القبلة
ونفصل القول عنها
وفيه أبحاث
الأول كفر المعتزلة في أمور
الأول نفي الصفات
لأن حقيقة الله ذات موصوفه بهذه الصفات
فمنكره جاهل بالله
والجاهل بالله كافر
قلنا الجهل بالله من بعض الوجوه لا يضر
وإلا لزم تكفير المعتزلة والأشاعرة بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه
الثاني إنكارهم إيجاد الله لفعل العبد
وأنه كفر
أما أولا فلأنهم جعلوه غير قادر على فعل العبد
وجعلوا العبد غير قادر على فعله تعالى
فهو إثبات للشريك كما هو مذهب المجوس
وأما ثانيا فللإجماع على التضرع إلى الله في أن يرزقهم الإيمان
وهم ينكرونه لأنهم يقولون قد فعل الله من اللطف ما أمكن لوجوبه عليه
قلنا المجوس كفروا بغيره
وخرق الإجماع أوليس
بكفر
ثم من يلزمه الكفر ولا يعلم به لم قلتم أنه كافر
الثالث قولهم بخلق القرآن
وفي الحديث الصحيح (من قال القرآن مخلوق فهو كافر)
قلنا آحاد
أو المراد بالمخلوق المختلق
أي المفتري
561

الرابع قد أجمع من قبلهم على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
وهم ينكرونه
قلنا نمنع الإجماع
ونمنع كون مخالفه كافرا
الخامس قولهم المعدوم شيء
وأنه تصريح بمذهب أهل الهيولى سيما نفاة الأحوال لأن ذاته عندهم وجوده
قلنا والإلزام غير الالتزام
واللزوم غير القول به
السادس إنكارهم الرؤية
وقد قال تعالى * (بل هم بلقاء ربهم كافرون) *
قلنا اللقاء مجاز فلعل المراد به لقاء ثواب الله
فإن المفسرين قالوا المراد به الوصول إلى دار الثواب
الثاني تكفير المعتزلة الأصحاب بأمور
الأول إنكار كون العبد فاعلا لفعله لأنه سد باب إثبات الصانع إذ طريقه قياس الغائب على الشاهد
قلنا قد تقدم لنا في إثبات الصانع وجوه لا يحتاج فيها إلى هذا القياس
الثاني نسبة فعل العبد إلى الله تعالى يلزمه كونه فاعلا للقبائح فجاز إظهار المعجزة على يد الكاذب وجاز الكذب عليه
وفيه إبطال الشرائع بالكلية
قلنا قد أجبنا عنه
562

الثالث إثبات الصفات قول بقدماء
وقد كفر النصارى للقول بقدماء ثلاثة فكيف الستة أو السبعة
قلنا قد مر جوابه
الرابع قولهم القرآن قديم
فإنه يقتضي عدم كون المسموع قرآنا لحدوثه قطعا
قلنا مشترك الإلزام إلا أن تقولوا ما نسمعه حكاية كلام الله فنقول مثله
الثالث قد كفر المجسمة بوجوه
الأول إن تجسيمه جهل به
وقد مر جوابه
الثاني إنه عابد لغير الله كعابد الصنم
قلنا بل معتقد في الله الخالق الرازق العالم القادر ما لا يجوز عليه مما قد جاء به الشرع على تأويل ولم يؤوله بخلاف عابد الصنم
الثالث * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) * وما ذلك إلا لأنهم جعلوا غير الله إلها فلزم الشرك
وهؤلاء كذلك
قلنا ممنوع
والمستند ما تقدم
الرابع قد كفر الروافض والخوارج بوجوه
563

الأول أن القدح في أكابر الصحابة تكذيب للرسول حيث أثنى عليهم وعظمهم
قلنا لا ثناء عليهم خاصة
ولا هم داخلون فيه عندهم
أو الثناء عليهم لشرط سلامة العاقبة ولم توجد عندهم
الثاني الإجماع على تكفير من كفر عظماء الصحابة
قلنا هو لا يسلم كونهم من أكابر الصحابة وعظمائهم
الثالث قوله صلى الله عليه وسلم (من قال لأخيه المسلم يا كافر فقد باء به أحدهما)
قلنا آحاد
والمراد مع اعتقاد أنه مسلم
فإن من ظن بمسلم أنه يهودي أو نصراني فقال به يا كافر لم يكن ذلك كفرا بالإجماع
وسنزيد لهذا تحقيقا إذا فصلنا الفرق في ذيل هذا الكتاب
الشرح
المقصد الخامس في أن المخالف للحق من أهل القبلة هل يكفر أم لا
جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة
فإن الشيخ أبا الحسن قال في أول كتاب مقالات الإسلاميين اختلف المسلمون بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء ضلل بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم
564

عن بعض فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم
فهذا مذهبه
وعليه أكثر أصحابنا
وقد نقل عن الشافعي أنه قال لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء إلا الخطابية فإنهم يعتقدون حل الكذب
وحكى الحاكم صاحب المختصر في كتب المنتقى عن أبي حنيفة رحمة الله عليه أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة
وحكى أبو بكر الرازي مثل ذلك عن الكرخي وغيره
والمعتزلة الذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا فكفروا الأصحاب في أمور سيأتيك تفصيلها
فعارضه بعضنا بالمثل فكفرهم في أمور أخرى ستطلع عليها
وقد كفر المجسمة مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة
وقال الأستاذ أبو إسحق كل مخالف يكفرنا فنحن نكفره
وإلا فلا
لنا على ما هو المختار عندنا وهو أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة أن المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون الله تعالى عالما بعلم أو موجدا لفعل العبد أو غير متحيز ولا في جهة ونحوها
ككونه مرئيا أو لا
لم يبحث النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون
فعلم أن صحة دين الإسلام لا تتوقف على معرفة الحق في تلك المسائل
وأن الخطأ فيها أوليس
قادحا في حقيقة الإسلام إذا لو توقفت عليها وكان الخطأ فادحا في تلك الحقيقة لوجب أن يبحث عن كيفية اعتقادهم فيها
لكن لم يجر حديث شيء منها في زمانه صلى الله عليه وسلم
ولا في زمانهم أصلا
565

فإن قيل لعله صلى الله عليه وسلم عرف منهم ذلك أي كونهم عالمين بها إجمالا فلم يبحث عنها لذلك كما لم يبحث عن علمهم بعلمه وقدرته مع وجوب اعتقادهما
وما ذلك إلا لعلمه بأنهم عالمون على طريق الجملة بأنه تعالى عالم قادر
فكذا الحال في تلك المسائل
قلنا ما ذكرتموه مكابرة لأنا نعلم أن الأعراب الذين جاءوا إليه صلى الله عليه وسلم ما كانوا كلهم عالمين بأنه تعالى عالم بالعلم لا بالذات وأنه مرئي في الدار الآخرة
وأنه أوليس
بجسم ولا في مكان وجهة وأنه قادر على أفعال العباد كلها وأنه موجد لها بأسرها
فالقول بأنهم كانوا عالمين بها مما علم فساده بالضرورة
وأما العلم والقدرة فيهما مما يتوقف عليه ثبوت نبوته لتوقف دلالة المعجزة عليهما فكان الاعتراف والعلم بها أي بالنبوة دليلا للعلم بهما ولو إجمالا
فلذلك لم يبحث عنهما
قال الإمام الرازي الأصول التي يتوقف عليها صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أدلتها على ما يليق بأصحاب الجمل ظاهرة فإن من دخل بستانا ورأى أزهارا حادثة بعد أن لم تكن ثم رأى عنقود عنب قد اسود جميع حباته إلا حبة واحدة مع تساوي نسبة الماء والهواء وحر الشمس إلى جميع تلك الحبات فإنه يضطر إلى العلم بأن محدثه فاعل مختار
لأن دلالة الفعل المحكم على علم فاعله واختياره ضرورية
ودلالة المعجزة على صدق المدعي ضرورية أيضا
وإذا عرف هذه الأصول أمكن العلم بصدق الرسول فثبت أن أصول الإسلام جلية
وأن أدلتها مجملة واضحة فلذلك لم يبحث عنها بخلاف المسائل التي اختلف فيها فإنها في الظهور والجلاء ليست مثل تلك
566

الأصول بل أكثرها مما ورد في الكتاب والسنة ما يتخيله المبطل معارضا لما يحتج به المحق فيها
وكل واحد منهما يدعي أن التأويل المطابق لمذهبه أولى
فلا يمكن جعلها مما يتوقف عليه صحة الإسلام فلا يجوز الإقدام على التكفير إذ فيه خطر عظيم
ولنذكر الآن ما كفر به بعض أهل القبلة ونفصل القول عنها على سبيل التفصيل وفيه أبحاث
الأول كفرت المعتزلة في أمور
الأول نفي الصفات
لأن حقيقة الله ذات موصوفة دائما بهذه الصفات الكمالية التي هي العلم والقدرة والحياة ونظائرها فمنكره أي منكر اتصافه بها جاهل بالله
والجاهل بالله كافر
قلنا الجهل بالله من جميع الوجوه كفر لكن أوليس
أحد من أهل القبلة يجهل كذلك فإنهم على اختلاف مذهبهم اعترفوا بأنه قديم أزلي عالم قادر خالق للسموات والأرض
والجهل به من بعض الوجوه لا يضر وإلا لزم تكفير المعتزلة والأشاعرة بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه أي لو كان الجهل بتفاصيل الصفات قادحا في الإيمان لكفر بعض الأشاعرة بعضهم فيما اختلفوا فيه من تفاصيلها
وكذا الحال في معتزلة البصرة وبغداد
فإنهم اختلفوا أيضا فيها
الثاني من تلك الأمور وإنكارهم إيجاد الله لفعل العبد وإنه كفر
أما أولا فلأنهم جعلوه غير قادر على فعل العبد إما على عينه كالجبائية وأما على مثله كالبلخي وأتباعه وإما على القبيح مطلقا كالنظام
567

ومتابعيه
وجعلوا العبد غير قادر على فعله تعالى فهو إثبات للشريك كما هو مذهب المجوس حيث أثبتوا له شريكا لا يقدر أحدهما على مقدور الآخر
وأما ثانيا فللإجماع المنعقد من الأمة على التضرع والابتهال إلى الله في أن يرزقهم الإيمان ويجنبهم عن الكفر وهم ينكرونه لأنهم يقولون قد فعل الله من اللطف ما أمكن لوجوبه عليه
وأما نفس الإيمان فليس من فعله تعالى بل من فعل العباد كالكفر فلا فائدة في ذلك الابتهال المجمع عليه
قلنا المجوس لم يكفروا بقولهم إن الله لا يقدر على فعل الشيطان بل كفروا بغيره وهو قولهم بتناهي مقدورات الله تعالى وعجزه عن دفع الشيطان واحتياجه في دفعه إلى الاستعانة بالملائكة
وأيضا خرق الإجماع مطلقا أوليس
بكفر بل خرق الإجماع القطعي الذي صار من ضرورات الدين
ثم إن سلمنا أن خرق الإجماع الذي ذكرتموه كفر
قلنا ذلك الخرق أوليس
مذهبهم بل غايته أنه لازم منه
ومن يلزمه الكفر ولا يعلم به لم قلتم إنه كافر
الثالث قولهم بخلق القرآن
وفي الحديث الصحيح من قال القرآن مخلوق فهو كافر
قلنا آحاد فلا يفيد علما أو المراد بالمخلوق هو المختلق
أي المفتري يقال خلق الإفك واختلقه وتخلقه
أي افتراه
وهذا كفر بلا خلاف
والنزاع في كونه مخلوقا بمعنى أنه حادث
الرابع قد أجمع من قبلهم من الأمة على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقد ورد في الحديث أيضا وهم ينكرونه حيث يدعون أنه قد يشاء الله شيئا ولا يكون
وقد لا يشاء ويكون
568

قلنا نمنع الإجماع
وعلى تقدير ثبوته نمنع كون مخالفه كافرا كما عرفت
الخامس قولهم المعدوم شيء أي ثابت متقرر في الأزل وأنه تصريح بمذهب أهل الهيولى سيما نفاة الأحوال الذين كانوا قبل أبي هاشم لأن ذاته عندهم وجوده يعني أن نافي الأحوال يلزمه القول بأن ذات الشيء عين وجوده
فإذا كانت الذوات عندهم حاصلة في الأزل بلا فاعل كانت وجوداتها كذلك فذوات الممكنات حينئذ موجودة قديمة من غير استناد إلى فاعل أصلا
وهذا أشنع من القول بوجود الهيولى القديمة المستندة إلى فاعل في الجملة
قلنا ما ذكرتم إلزام للكفر عليهم بما ذهبوا إليه
والإلزام غير الالتزام
واللزوم غير القول به كما مر عن قريب
السادس إنكارهم الرؤية
وقد دل القرآن على أن منكرها كافر لأنه قال تعالى * (بل هم بلقاء ربهم كافرون) *
قلنا اللقاء حقيقة في الالتقاء والوصول إلى مماسة الشيء وذلك محال في حقه تعالى فتعين أنه في الآية مجاز
فلعل المراد به لقاء ثواب الله لا رؤيته فإن المفسرين كلهم قالوا المراد به الوصول إلى دار الثواب
الثاني من تلك الأبحاث تكفير المعتزلة الأصحاب بأمور
الأول إنكار كون العبد فاعلا لفعله لأنه يسد باب إثبات الصانع إذ طريقه قياس الغائب على الشاهد
وإذا جاز عدم استناد فعلنا إلينا جاز استناد الحوادث لا إلى محدثها أي الطريق إلى احتياج العالم في حدوثه إلى الفاعل هو قياسه على حاجة أفعالنا في حدوثها إلينا
فإذا لم تحتج هي في حدوثها إلينا لم يمكن القياس فالقول به سد لباب إثبات صانع العالم
وهو كفر
569

قلنا أوليس
الطريق إلى احتياج العالم في حدوثه إلى الصانع منحصرا في القياس المذكور إذ تقدم لنا في إثبات الصانع وجوه خمسة لا يحتاج فيها إلى هذا القياس
الثاني من تلك الأمور نسبة فعل العبد إلى الله تعالى فلأنه يلزمه كونه فاعلا للقبائح فجاز حينئذ إظهار المعجزة على يد الكاذب إذ غايته أنه فعل قبيح
وقد جوزتم صدوره عنه تعالى
فلا يبقى للمعجزة دلالة على صدق النبي
وجاز أيضا الكذب عليه سبحانه فيرتفع الوثوق عن كلامه في وعده ووعيده
وفيه إبطال الشرائع بالكلية
قلنا قد أجبنا عنه بما مر من أنه لا قبيح بالنسبة إليه تعالى
بل الأفعال كلها يحسن صدورها عنه
ومن أن إظهار المعجزة على يد الكاذب وإن كان ممكنا صدوره عنه عقلا إلا أنه معلوم انتفاؤه عادة كسائر العاديات إلى آخر ما مر في البحث عن كيفية دلالة المعجزة
الثالث إثبات الصفات قول بقدماء متعددة
وقد كفر النصارى للقول بقدماء ثلاثة فكيف الستة أو السبعة أو أكثر
قلنا قد مر جوابه في بحث القدم وأشير إليه في مباحث الصفات
الرابع قولهم القرآن قديم
فإنه يقتضي عدم كون المسموع قرآنا لحدوثه قطعا إذ هو مركب مما لا يجتمع في الوجود معا بل ينعدم المتقدم عند وجود المتأخر
قلنا ما ذكرتم مشترك الإلزام لأن الحروف والأصوات التي يتكلم بها الله على مذهبكم قد انتفت
وما يتكلم به حروف وأصوات أخر
فما تسمعه أوليس
كلام الله فقد لزمكم الكفر أيضا
ولا مفر لكم إلا أن تقولوا ما
570

نسمعه وإن لم يكن للأمة حقيقة لكنه حكاية كلام الله فلا يلزمنا الكفر فنقول نحن مثله فلا يلزمنا أيضا
الثالث من أبحاث التكفير قد كفر المجسمة بوجوه
الأول أن تجسمه جهل به
وقد مر جوابه وهو أن الجهل بالله من بعض الوجوه لا يضر
الثاني أنه عابد لغير الله فيكون كافرا كعابد الصنم
قلنا أوليس
المجسم عابدا لغير الله بل هو معتقد في الله الخالق الرازق العالم القادر ما لا يجوز عليه مما قد جاء به الشرع على تأويل ولم يؤوله فلا يلزم كفره بخلاف عابد الصنم فإنه عابد لغير الله حقيقة
الثالث * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) * وما ذلك الكفر إلا لأنهم جعلوا غير الله إلها فلزم الشرط
وهؤلاء المجسمة كذلك لأنهم جعلوا الجسم الذي هو غير الله إلها
قلنا ما ذكرتموه ممنوع والمستند ما تقدم من أنه اعتقد في الله ما لا يجوز عليه
فلم يجعل غير الله إلها حتى يكون مشركا
الرابع من تلك الأبحاث قد كفر الروافض والخوارج بوجوه
الأول أن القدح في أكابر الصحابة الذين شهد لهم القرآن والأحاديث الصحيحة بالتزكية والإيمان تكذيب للقرآن
وللرسول حيث أثنى عليهم وعظمهم فيكون كفرا
قلنا لا ثناء عليهم خاصة
أي لا ثناء في القرآن على واحد من
571

الصحابة بخصوصه
وهؤلاء قد اعتقدوا أن من قدحوا فيه أوليس
داخلا في الثناء العام الوارد فيه
وإليه أشار بقوله ولا هم داخلون فيه عندهم فلا يكون قدحهم تكذيبا للقرآن
وأما الأحاديث الواردة في تزكية بعض معين من الصحابة والشهادة لهم بالجنة فمن قبيل الآحاد فلا يكفر المسلم بإنكارها
أو نقول ذلك الثناء عليهم وتلك الشهادة لهم مقيدان بشرط سلامة العاقبة ولم توجد عندهم فلا يلزم تكذيبهم للرسول
الثاني الإجماع منعقد من الأمة على تكفير من كفر عظماء الصحابة وكل واحد من الفريقين بكفر بعض هؤلاء العظماء فيكون كافرا
قلنا هؤلاء أي من كفر جماعة مخصوصة من الصحابة لا يسلمون كونهم من أكابر الصحابة وعظمائهم فلا يلزم كفره
الثالث قوله صلى الله عليه وسلم (من قال لأخيه المسلم يا كافر فقد باء به أي بالكفر أحدهما)
قلنا آحاد وقد أجمعت الأمة على أن إنكار الآحاد أوليس
كفرا ومع ذلك نقول المراد مع اعتقاد أنه مسلم
فإن من ظن بمسلم أنه يهودي أو نصراني فقال له يا كافر لم يكن ذلك كفرا بالإجماع
واعلم أن عدم تكفير أهل القبلة موافق لكلام الشيخ الأشعري والفقهاء كما مر
لكنا إذا فتشنا عقائد الإسلاميين وجدنا فيها ما يوجب الكفر قطعا كالعقائد الراجعة إلى وجود إله غير الله سبحانه وتعالى
أو إلى حلوله في بعض أشخاص الناس أو إلى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو إلى ذمه
572

واستخفافه أو إلى استباحة المحرمات وإسقاط الواجبات الشرعية وإليه الإشارة بقوله وسنزيد لهذا الذي ذكرناه في المقصد الخامس تحقيقا إذا فصلنا الفرق الإسلامية وبينا عقائدهم في ذيل هذا الكتاب
والله الموفق لتحقيق الحق
573

المرصد الرابع في الإمامة ومباحثها
المتن عندنا من الفروع وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسيا بمن قبلنا
وفيه مقاصد
المقصد الأول في وجوب نصب الإمام
ولا بد من تعريفها أولا
قال قوم الإمامة رياسة عامة في أمور الدين والدنيا
ونقض بالنبوة
والأولى أن يقال هي خلافة الرسول في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة
وبهذا القيد يخرج من ينصبه الإمام في ناحية والمجتهد والآمر بالمعروف
وإذا عرفت هذا فنقول نصب الإمام عندنا واجب علينا سمعا
وقالت المعتزلة والزيدية بل عقلا
وقال الجاحظ بل عقلا وسمعا
وقالت الإمامية والإسماعيلية بل على الله
إلا أن الإمامية أوجبوه لحفظ قوانين الشرع
والإسماعيلية ليكون معرفا لله
574

وقالت الخوارج لا يجب أصلا
ومنهم من فصل فقال بعضهم يجب عند الأمن دون الفتنة
وقال قوم بالعكس
لنا أما عدم وجوبه على الله وعلينا عقلا فقد مر
وأما وجوبه علينا سمعا فلوجهين
الأول إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت عن إمام حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته ألا إن محمدا قد مات
ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به
فبادر الكل إلى قبوله
وتركوا له أهم الأشياء وهو دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر
فإن قيل لا بد للإجماع من مستند
ولو كان لنقل لتوفر الدواعي
قلنا استغني عن نقله بالإجماع أو كان من قبيل ما لا يمكن نقله من قرائن الأحوال التي لا يمكن معرفتها
إلا بالمشاهدة والعيان لمن كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
الثاني إنه فيه دفع ضرر مظنون وإنه واجب إجماعا
بيانه إنا نعلم علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعار الشرع في الأعياد والجمعات إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا
وذلك لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما يعن لهم
فإنهم
مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء وما بينهم من الشحناء
قلما ينقاد بعضهم لبعض فيفضي ذلك إلى التنازع والتواثب
وربما أدى إلى هلاكهم
575

جميعا
ويشهد له التجربة
والفتن القائمة عند موت الولاة إلى نصب آخر بحيث لو تمادى لعطلت المعايش وصار كل أحد مشغولا بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه
وذلك يؤدي إلى رفع الدين وهلاك جميع المسلمين
فإن قيل وفيه إضرار وأنه منفي بقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)
وبيانه من ثلاثة أوجه
الأول تولية الإنسان على من هو مثله ليحكم عليه فيما يهتدي إليه وفيما لا يهتدي إضرار به لا محالة
الثاني قد يستنكف عنه بعضهم كما جرت به العادة فيفضي إلى الفتنة
الثالث أنه لا يجب عصمته كما سيأتي فيتصور منه الكفر والفسوق
فإن لم يعزل أضر بالأمة بكفره وفسقه
وإن عزل أدى إلى الفتنة
قلنا الإضرار اللازم من تركه أكثر بكثير
ودفع الضرر الأعظم عند التعارض واجب
احتج المانع بوجوه
الأول توفر الناس على مصالحهم مما يحث عليه طباعهم وأديانهم فلا حاجة إلى نصب من يتحكم عليهم فيما يستقلون به
ويدل عليه انتظام أحوال العربان والبوادي الخارجين عن حكم السلطان
الثاني الانتفاع بالإمام إنما يكون بالوصول إليه
ولا يخفى تعذر وصول آحاد الرعية إليه في كل ما يعن لهم من الأمور الدنيوية عادة
الثالث للإمامة شروط قلما توجد في كل عصر
فإن أقاموا فاقدها لم يأتوا بالواجب
وإلا يقيموه فقد تركوا الواجب
والجواب عن الأول إنه وإن كان ممكنا عقلا فممتنع عادة لما يرى
576

من ثوران الفتن والاختلافات عند موت الولاة
ولذلك صادفنا العربان والبوادي كالذئاب الشاردة والأسود الضارية لا يبقي بعضهم على بعض ولا يحافظ في الغالب على سنة ولا فرض
وليس تشوفهم إلى العمل بموجب دينهم غالبا
ولذلك قيل ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن
وقيل السيف والسنان يفعلان ما لا يفعل البرهان
وعن الثاني لا نسلم أن الانتفاع بالإمام إنما يكون بالوصول إليه بل بوصول أحكامه وسياسته ونصبه من يرجعون إليه
وعن الثالث إن تركهم لنصبه لتعذره وعدم شرط الإمامة أوليس
تركا للواجب
إذ لا وجوب
ثم قال الموجبون إن أصل دفع المضرة واجب قطعا
فكذلك المضرة المظنونة
وذلك مثل أن يعرف الإنسان أن كل مسموم يجب اجتنابه ثم يظن أن هذا الطعام مسموم
فإن العقل الصريح يقضي بوجوب اجتنابه
وكذا من علم أن الحائط الساقط لا يجوز الوقوف تحته
ثم ظن أن هذا الحائط يسقط فالعقل الصريح يقضي بوجوب ألا يقف تحته
والجواب منع حكم العقل
احتج الموجب على الله بأنه لطف لكون العبد معه أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية
واللطف واجب عليه تعالى
والجواب بعد منع وجوب اللطف
أن اللطف إنما يحصل بإمام ظاهر
577

قاهر
وأنتم لا توجبونه
فالذي توجبونه أوليس
بلطف
والذي هو لطف لا توجبونه
حجة الخوارج أن نصبه يثير الفتنة لأن الأهواء مختلفة فيدعي كل قوم إمامة شخص وصلوحه لها دون الآخر فيقع التشاجر والتناجز والتجربة شاهدة بذلك
والجواب أنه يجب عندنا تقديم الأعلم
فإن تساويا فالأورع
وإن تساويا فالأسن
وبذلك تندفع الفتنة
وأما الفارقون منهم فقالوا تارة هو حال الفتنة يزيدها
وتارة حال الأمن لا حاجة إليه
الشرح
المرصد الرابع في الإمامة ومباحثها
ليست من أصول الديانات والعقائد خلافا للشيعة بل هي عندنا من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين
إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأمة سمعا
وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسيا بمن قبلنا إذ قد جرت العادة من المتكلمين بذكرها في أواخر كتبهم للفائدة المذكورة في صدر الكتاب
وفيه مقاصد
المقصد الأول في وجوب نصب الإمام
ولا بد من تعريفها أولا
قال قوم من أصحابنا الإمامة رياسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص فقيد العموم احتراز عن القاضي والرئيس وغيرهما
والقيد الأخير احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام عند فسقه
فإن الكل أوليس
شخصا
578

واحدا
ونقض هذا التعريف بالنبوة
والأولى أن يقال هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة
وبهذا القيد الأخير يخرج من ينصبه الإمام في ناحية كالقاضي مثلا و يخرج المجتهد إذ لا يجب اتباعه على الأمة كافة بل على من قلده خاصة
ويخرج الآمر بالمعروف أيضا
وإذا عرفت هذا فنقول قد اختلفوا في أن نصب الإمام واجب أو لا واختلف القائلون بوجوبه في طريق معرفته كما أشار إليه بقوله نصب الإمام عندنا واجب علينا سمعا
وقالت المعتزلة والزيدية بل عقلا
وقال الجاحظ والكعبي وأبو الحسين من المعتزلة بل عقلا وسمعا معا
وقالت الإمامية والإسماعيلية لا يجب نصب الإمام علينا بل على الله سبحانه
إلا أن الإمامية أوجبوه عليه لحفظ قوانين الشرع عن التغيير بالزيادة والنقصان
والإسماعيلية أوجبوه ليكون معرفا لله وصفاته على ما مر من أنه لا بد عندهم في معرفته من معلم
وقالت الخوارج لا يجب نصب الإمام أصلا بل هو من الجائزات ومنهم من فصل فقال بعضهم كهشام الغوطي وأتباعه يجب عند الأمن دون الفتنة
وقال قوم كأبي بكر الأصم وتابعيه بالعكس أي يجب عند الفتنة دون الأمن
لنا في إثبات مذهبنا أن نقول أما عدم وجوبه على الله أصلا وعدم وجوبه علينا عقلا فقد مر لما تبين من أنه لا وجوب عليه تعالى
ولا حكم للعقل في مثل ذلك
وأما وجوبه علينا سمعا فلوجهين
الأول إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة
579

النبي صلى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته المشهورة حين وفاته صلى الله عليه وسلم ألا إن محمدا قد مات
ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به
فبادر الكل إلى قوله
ولم يقل أحد لا حاجة إلى ذلك بل اتفقوا عليه وقالوا ننظر في هذا الأمر وبكروا إلى سقيفة بني ساعدة وتركوا له أهم الأشياء وهو دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم
واختلافهم في التعيين لا يقدح في ذلك الاتفاق
ولم يزل الناس بعدهم على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام
بيان لذلك أي لم يزل الناس على نصب إمام متبع في كل عصر
فإن قيل لا بد للإجماع المذكور من مستند كما علم في موضعه ولو كان لنقل ذلك المستند نقلا متواترا لتوفر الدواعي إليه
قلنا استغني عن نقله بالإجماع فلا توفر للدواعي أو نقول كان مستنده من قبيل ما لا يمكن نقله من قرائن الأحوال التي لا يمكن معرفتها إلا بالمشاهدة والعيان لمن كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
الثاني من الوجهين أن فيه أي في نصب الإمام دفع ضرر مظنون وأنه أي دفع الضر المظنون واجب على العباد إذا قدروا عليه إجماعا
بيانه أي بيان أن في نصب الإمام دفع ذلك الضرر أنا نعلم علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعار الشرع في الأعياد والجمعات إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا
وذلك المقصود لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما يعن لهم فإنهم مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء وما بينهم من الشحناء قلما ينقاد بعضهم لبعض فيفضي ذلك إلى التنازع والتواثب
وربما أدى إلى هلاكهم جميعا
ويشهد له التجربة والفتن القائمة عند موت الولاة إلى نصب آخر
بحيث لو تمادى
580

لعطلت المعايش وصار كل أحد مشغولا بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه
وذلك يؤدي إلى رفع الدين
وهلاك جميع المسلمين
ففي نصب الإمام دفع مضرة لا يتصور أعظم منها بل نقول نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين فحكمه الإيجاب السمعي
فإن قيل على سبيل المعارضة في المقدمة وفيه إضرار أيضا وأنه منفي بقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)
وبيانه أي بيان أن فيه إضرارا من ثلاثة أوجه
الأول تولية الإنسان على من هو مثله ليحكم عليه فيما يهتدي إليه وفيما لا يهتدي إضرار به لا محالة
الثاني إنه قد يستنكف عنه بعضهم كما جرت به العادة وفيما سلف من الأعصار فيفضي إلى اختلاف
والفتنة وهو إضرار بالناس
الثالث إنه لا يجب عصمته كما سيأتي تقريره
فيتصور حينئذ منه الكفر والفسوق
فإن لم يعزل أضر بالأمة بكفره وفسقه
وإن عزل أدى إلى الفتنة إذ يحتاج في عزله إلى محاربته
قلنا الإضرار اللازم من تركه أي ترك نصبه أكثر بكثير من الإضرار اللازم من نصبه ودفع الضرر الأعظم عند التعارض واجب
احتج المانع من وجوب نصبه بوجوه عارض بها دليلنا على وجوبه علينا
581

الأول توفر الناس على مصالحهم الدنيوية وتعاونهم على أشغالهم الدينية مما يحث عليه طباعهم وأديانهم
فلا حاجة بهم إلى نصب من يحكم عليهم فيما يستقلون به
ويدل عليه أي على ما ذكرناه من عدم الحاجة إليه انتظام أحوال العربان والبوادي الخارجين عن حكم السلطان
الثاني الانتفاع بالإمام إنما يكون بالوصول إليه لا يخفى تعذر وصول آحاد الرعية إليه في كل ما يعن لهم من الأمور الدنيوية عادة فلا فائدة في نصبه للعامة
فلا يكون واجبا بل جائزا
الثالث للإمامة شروط قلما توجد في كل عصر وعند ذلك فإن أقاموا أي الناس فاقدها لم يأتوا بالواجب عليهم بل بغيره وإن لم يقيموه أي وإن لم يقيموا الفاقد فقد تركوا الواجب فوجب نصب الإمام يستلزم أحد الأمرين الممتنعين فيكون ممتنعا
والجواب عن الأول أنه وإن كان ممكنا عقلا فممتنع عادة لما يرى من ثوران الفتن والاختلافات عند موت الولاة
ولذلك صادفنا العربان والبوادي كالذئاب الشاردة والأسود الضارية لا يبقي بعضهم على بعض ولا يحافظ في الغالب على سنة ولا فرض
فقد اختل أمرهم في دنياهم
وليس تشوفهم أي تطلعهم إلى العمل بموجب دينهم غالبا فيهم بحيث يغنيهم عن رياسة السلطان عليهم
ولذلك قيل ما يزغ السلطان أي يكفه أكثر مما يزغ القرآن
وقيل أيضا السيف والسنان يفعلان ما لا يفعل البرهان
والجواب عن الثاني لا نسلم أن الانتفاع بالإمام إنما يكون بالوصول إليه فقط
بل ويكون أيضا بوصول أحكامه وسياسته إليهم ونصبه من يرجعون إليه
وعن الثالث أن
582

تركهم لنصبه لتعذره وعدم شرط الإمامة أوليس
تركا للواجب
إذ لا وجوب ثمة عليهم على ذلك التقدير إنما الوجوب إذا وجد الجامع لشرائطها فلا محذور في ذلك الترك
ثم قال الموجبون لنصب الإمام على الأنام عقلا إن أصل دفع المضرة واجب بحكم العقل قطعا
فكذلك المضرة المظنونة يجب دفعها عقلا
وذلك لأن الجزئيات المظنونة المندرجة تحت أصل قطعي الحكم يجب اندراجها في ذلك الحكم قطعا مثل أن يعرف الإنسان أن كل مسموم يجب اجتنابه ثم يظن أن هذا الطعام مسموم
فإن العقل الصريح يقضي بوجوب اجتنابه وكذا من علم أن الحائط الساقط لا يجوز الوقوف تحته ثم ظن أن هذا الحائط يسقط فالعقل الصريح يقضي بوجوب أن لا يقف تحته
والجواب منع حكم العقل بالوجوب وأخواته بل هي لا تستفاد إلا من الشرع
احتج الموجب لنصب الإمام على الله بأنه لطف لكون العبد معه أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية واللطف واجب عليه تعالى
والجواب بعد منع وجوب اللطف أن اللطف الذي ذكرتموه إنما يحصل بإمام ظاهر قاهر يرجى ثوابه ويخشى عقابه يدعو الناس إلى الطاعات ويزجرهم عن المعاصي بإقامة الحدود والقصاص وينتصف للمظلوم من الظالم
وأنتم لا توجبونه على الله كما في هذا الزمان الذي نحن فيه
فالذي توجبونه وهو الإمام المعصوم المختفي أوليس
بلطف إذ لا يتصور منه مع الاختفاء تقريب الناس إلى الصلاح وتبعيدهم عن الفساد
والذي هو
583

لطف لا توجبونه عليه
وإلا لزم كونه تعالى في زماننا هذا تاركا للواجب وهو محال
حجة الخوارج على عدم وجوبه مطلقا أن نصبه يثير الفتنة لأن الأهواء مختلفة فيدعي كل قوم إمامة شخص وصلوحه لها دون الآخر فيقع التشاجر والتناجز
والتجربة شاهدة بذلك
نعم إن اختار الأمة نصب أمير أو رئيس يتقلد أمورهم ويرتب جيوشهم ويحمي حوزتهم كان لهم ذلك من غير أن يلحقهم بتركه حرج في الشرع
وأنت خبير بأن هذه الحاجة على عدم جواز نصب الإمام أدل منها على عدم وجوبه
والجواب إنه إن لم يقع اختلاف في نصبه فذاك
وإن وقع يجب عندنا تقديم الأعلم
فإن تساويا فالأروع
وإن تساويا فالأسن
وبذلك تندفع الفتنة والتخالف
وأما الفارقون أي المفصلون منهم فقالوا تارة هو أي نصب الإمام حال الفتنة يزيدها إذ ربما قتلوه لاستنكافهم عن طاعته فلا يجب
وأما في حال العدل والأمن فيجب نصبه إذ هو أقرب إلى إظهار شعائر الإسلام
وقالوا تارة هو حال الأمن والإنصاف بين الناس لا حاجة إليه
وإنما يجب عند الخوف وظهور الفتن
واعلم أن عبارة الكتاب ههنا وفي ذكر المذاهب أولا تدل على أن القائل بالتفصيل من الخوارج
وهو مخالف لظاهر عبارتي الأبكار والنهاية
584

المقصد الثاني في شروط الإمامة
المتن الجمهور على أن أهل الإمامة مجتهد في الأصول والفروع ليقوم بأمور الدين ذو رأي ليقوم بأمور الملك شجاع ليقوى على الذب عن الحوزة
وقيل لا يشترط هذه الصفات لأنها لا توجد
فيكون اشتراطها عبثا أو تكليفا بما لا يطاق ومستلزما للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها
نعم يجب أن يكون عدلا لئلا يجوز عاقلا ليصلح للتصرفات بالغا لقصور عقل الصبي ذكرا إذ النساء ناقصات عقل ودين حرا لئلا يشغله خدمة السيد ولئلا يحتقر فيعصى
فهذه الصفات شروط بالإجماع
وههنا صفات في اشتراطها خلاف
الأول أن يكون قرشيا
ومنعه الخوارج وبعض المعتزلة
لنا قوله صلى الله عليه وسلم (الأئمة من قريش) ثم إن الصحابة عملوا بمضمون هذا الحديث وأجمعوا عليه فصار قاطعا
احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم (السمع والطاعة)
ولو عبدا حبشيا)
قلنا ذلك فيمن أمره الإمام على سرية أو غيرها
الثانية أن يكون هاشميا
شرطه الشيعة
585

الثالثة أن يكون عالما بجميع مسائل الدين
وقد شرطه الإمامية
الرابعة ظهور المعجزة على يده إذ به يعلم صدقه في دعوى الإمامة والعصمة
وبه قال الغلاة
ويبطل الثلاثة أنا ندل على خلافة أبي بكر ولا يجب له شيء مما ذكر
الخامسة أن يكون معصوما شرطها الإمامية والإسماعيلية
ويبطله أن أبا بكر لا تجب عصمته اتفاقا
احتجوا بوجهين
الأول أن الحاجة إلى الإمام إما للتعليم
ولو جاز جهله لما صلح لذلك
وإما لجواز الخطأ على غيره في الأحكام
فلو جاز عليه أيضا لم يحصل الغرض الجواب منع كون الحاجة إليه لأحدهما بل لما تقدم
الثاني قوله تعالى * (لا ينال عهدي الظالمين) *
وغير المعصوم ظالم
فلا يناله عهد الإمامة
الجواب لا نسلم أن الظالم من أوليس
بمعصوم بل من ارتكب معصية مسقطة للعدالة مع عدم التوبة والإصلاح
الشرح
المقصد الثاني في شروط الإمامة
الجمهور على أن أهل الإمامة ومستحقها من هو مجتهد في الأصول والفروع ليقوم بأمور الدين متمكنا من إقامة الحجج وحل الشبه في العقائد الدينية مستقلا بالفتوى في النوازل والأحكام والوقائع نصا واستنباطا
لأن أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد وفصل الحكومات ورفع المخاصمات ولن يتم ذلك بدون هذا الشرط ذو رأي وبصارة بتدبير الحرب والسلم وترتيب الجيوش وحفظ الثغور ليقوم بأمور الملك شجاع قوي القلب ليقوى على الذب عن الحوزة والحفظ
586

لبيضة الإسلام بالثبات في المعارك كما روي أنه صلى الله عليه وسلم وقف بعد انهزام المسلمين في الصف قائلا (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) أو لا يهوله أيضا إقامة الحدود وضرب الرقاب
وقيل لا يشترط في الإمامة هذه الصفات الثلاث لأنها لا توجد الآن مجتمعة
وإذا لم توجد كذلك فإما أن يجب نصب فاقدها فيكون اشتراطها عبثا لتحقق الإمامة بدونها
أو يجب نصب واجدها فيكون تكليفا بما لا يطاق أو لا يجب لا هذا ولا ذاك
وحينئذ يكون اشتراطها مستلزما للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها فلا تكون هذه الأوصاف معتبرة فيها
نعم يجب أن يكون عدلا في الظاهر لئلا يجوز
فإن الفاسق ربما يصرف الأموال في أغراض نفسه
فيضيع الحقوق عاقلا ليصلح للتصرفات الشرعية والملكية بالغا لقصور عقل الصبي
ذكرا إذ النساء ناقصات عقل ودين
حرا لئلا يشغله خدمة السيد عن وظائف الإمامة
ولئلا يحتقر فيعصى
فإن الأحرار يستحقرون العبيد ويستنكفون عن طاعتهم
فهذه الصفات التي هي الثمان أو الخمس شروط معتبرة في الإمامة بالإجماع وفيه على الأول إشارة إلى أن القول بعدم اشتراط الثلاث الأول مما لا يلتفت إليه
وما تمسك به فيه مردود بأنا نختار عدم الوجوب مطلقا لكن للأمة أن ينصبوا فاقدها دفعا للمفاسد التي تندفع بنصبه
وههنا صفات أخرى في اشتراطها خلاف
الأول أن يكون قرشيا اشترطه الأشاعرة والجبائيان
ومنعه الخوارج وبعض المعتزلة
587

لنا قوله صلى الله عليه وسلم (الأئمة من قريش)
ثم إن الصحابة عملوا بمضمون هذا الحديث فإن أبا بكر رضي الله عنه استدل به يوم السقيفة على الأنصار حين نازعوا في الإمامة بمحضر الصحابة فقبلوه وأجمعوا عليه فصار دليلا قاطعا يفيد اليقين باشتراط القرشية احتجوا أي المانعون من اشتراطها بقوله صلى الله عليه وسلم (السمع والطاعة ولو عبدا حبشيا) فإنه يدل على أن الإمام قد لا يكون قرشيا
قلنا ذلك الحديث فيمن أمره الإمام أي جعله أميرا على سرية وغيرها كناحية
ويجب حمله على هذا دفعا للتعارض بينه وبين الإجماع
أو نقول هو مبالغة على سبيل الفرض
ويدل عليه أنه لا يجوز كون الإمام عبدا إجماعا
الثانية من تلك الصفات أن يكون هاشميا
شرطه الشيعة
الثالثة أن يكون عالما بجميع مسائل الدين أصولها وفروعها بالفعل لا بالقوة
وقد شرطه الإمامية
الرابعة ظهور المعجزة على يده إذ به يعلم صدقه في دعوى الإمامة والعصمة
وبه قال الغلاة
ويبطل هذه الثلاثة واشتراطها في الإمامة أنا ندل عن قريب على خلافة أبي بكر
وكونه إماما حقا ولا يجب له شيء مما ذكر من تلك الأوصاف
فإن كونه هاشميا ممتنع
والآخرين لا يجبان له إجماعا
588

الخامسة أن يكون معصوما
شرطها الإمامية والإسماعيلية
ويبطله أن أبا بكر لا تجب عصمته اتفاقا مع ثبوت إمامته
احتجوا على اشتراط العصمة بوجهين
الأول أن الحاجة إلى الإمام إما للتعليم أي لتعليم الناس المعارف الإلهية كما ذهب إليه الملاحدة
ولو جاز جهله وعدم عصمته لما صلح لذلك ولم يفد تعليمه اليقين إذ يجوز حينئذ خطأ فيما علم
وإما لجواز الخطأ على غيره في الأحكام كما ذهب إليه الإمامية
فلو جاز الخطأ عليه أيضا لم يحصل الغرض منه بل احتاج إلى إمام آخر ويتسلسل
الجواب منع كون الحاجة إليه لأحدهما بل لما تقدم من دفع الضرر المظنون
الثاني من الوجهين قوله تعالى * (لا ينال عهدي الظالمين) * في جواب إبراهيم عليه السلام حين طلب الإمامة لذريته
وغير المعصوم ظالم
فلا يناله عهد الإمامة
الجواب لا نسلم أن الظالم من أوليس
بمعصوم بل من ارتكب معصية مسقطة للعدالة مع عدم التوبة والإصلاح
المقصد الثالث
المتن فيما يثبت به الإمامة
وأنها تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع
وتثبت ببيعة أهل الحل والعقد خلافا للشيعة
لنا ثبوت إمامة أبي بكر بالبيعة كما سيأتي
589

احتجوا بوجوه
الأول الإمامة نيابة الله تعالى والرسول فلا تثبت بقول الغير
قلنا ذلك دليل لنيابة الله ورسوله
نصباه علامة لحكمهما بها كعلامات سائر الأحكام
الثاني لا تصرف لأهل البيعة في غيرهم فلا يصير فعلهم حجة على من عداهم
قلنا لما كان إمارة من جهة الله ورسوله يسقط هذا الكلام
وأيضا فينتقض بالشاهد والحاكم إذ يجب اتباعهما لجعل الشارع قولهما دليلا على حكم الله
وإن كانا لا تصرف لهما في المشهود عليه والمحكوم عليه
الثالث أن القضاء أمر جزئي ولا ينعقد بالبيعة فكيف الإمامة العظمى قلنا لا نسلم عدم انعقاد القضاء بالبيعة للخلاف فيه
وإن سلم فذلك عند وجود الإمام لإمكان الرجوع إليه في هذا المهم
وأما عند عدمه فلا بد من القول بانعقاده بالبيعة تحصلا للمصالح المنوطة به ودرءا للمفاسد المتوقعة دونه
الرابع إذ ربما تبايع أقوام على أئمة في بلد أو بلاد فيؤدي إلى الفتنة ويعود نفعه ضرا
الخامس وهو عمدتهم أن العصمة والعلم بجميع مسائل الدين وعدم الكفر شرط ولا يعلمها أهل البيعة
وقد مر جوابهما
وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة فاعلم أن ذلك لا يفتقر إلى الإجماع
إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع بل الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد كاف لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا
590

بذلك كعقد عمر لأبي بكر وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان
ولم يشترطوا اجتماع من في المدينة فضلا عن إجماع الأمة
هذا ولم ينكر عليهم أحد
وعليه انطوت الأعصار إلى وقتنا هذا
وقال بعض الأصحاب يجب كون ذلك بمشهد بينة عادلة كفا للخصام في ادعاء من يزعم عقد الإمامة له سرا قبل من عقد له جهرا
وهذا من المسائل الاجتهادية ثم إذا اتفق التعدد تفحص عن المتقدم فأمضى
ولو أصر الآخر فهو من البغاة ولا يجوز العقد لإمامين في صقع متضايق الأقطار
أما في متسعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد
وللأمة خلع الإمام بسبب يوجبه وإن أدى إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين
تذنيب قال الجارودية من الزيدية الإمامة شورى في أولاد الحسن والحسين فكل فاطمي خرج بالسيف داعيا إلى الحق وكان عالما شجاعا فهو إمام
فلذلك جوزوا تعدد الأئمة
وهو خلاف الإجماع
الشرح
المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة فإن الشخص بمجرد صلوحه للإمامة وجمعه لشرائطها لا يصير إماما بل لا بد في ذلك من أمر آخر
وأنها
591

تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع وتثبت أيضا ببيعة أهل الحل والعقد عند أهل السنة والجماعة والمعتزلة والصالحية من الزيدية خلافا للشيعة أي لأكثرهم
فإنهم قالوا لا طريق إلا النص
لنا ثبوت إمامة أبي بكر رضي الله عنه بالبيعة كما سيأتي
احتجوا على عدم انعقادها بالبيعة بوجوه
الأول الإمامة نيابة الله تعالى والرسول فلا تثبت بقول الغير الذي هو أهل البيعة
إذ لو ثبت بقوله لكان الإمام خليفة عنه لا عن الله ورسوله
قلنا ذلك أي اختار أهل البيعة للإمام دليل لنيابة الله ورسوله نصباه علامة لحكمهما بها أي بتلك النيابة كعلامات سائر الأحكام
وتلخيصه أن البيعة ليست عندنا مثبتة للإمامة حتى يتم ما ذكرتم بل هي علامة مظهرة لها
كالأقيسة والإجماعات الدالة على الأحكام الشرعية
الثاني لا تصرف لأهل البيعة في غيرهم فلا يصير فعلهم واختيارهم حجة على من عداهم يعني أنهم لا يملكون التصرف بأنفسهم في أمور المسلمين
ومن كان كذلك كيف يملك عليهم شخصا آخر يتصرف فيهم
قلنا لما كان فعلهم وبيعتهم إمارة منصوبة من جهة الله ورسوله دالة على حكمهما بإمامة من توديع يسقط هذا الكلام إذ تصير بيعتهم حينئذ حجة على المسلمين يجب عليهم اتباعها
وأيضا فينتقض ما ذكرتموه بالشاهد والحاكم
إذ يجب اتباعهما لجعل الشارع قولهما دليلا على حكم
592

الله الذي يجب اتباعه وإن كانا لا تصرف لهما في المشهود عليه والمحكوم عليه
يريد أن الشاهد أوليس
له أن يتصرف بالمدعى عليه
ومع ذلك يجعل القاضي متصرفا فيه بالحكم عليه
وكذا القاضي أوليس
له حق الاستيفاء منه
ومع ذلك يجعل المدعي مستحقا لذلك
الثالث أن القضاء وكذا الحسبة أمر جزئي
ولا ينعقد بالبيعة فيكف تنعقد بها الإمامة العظمى العامة لجميع المسلمين كافة
قلنا لا نسلم عدم انعقاد القضاء أو الحسبة بالبيعة للخلاف فيه
وإن سلم عدم انعقاده بها فذلك عند وجود الإمام لإمكان الرجوع إليه في هذا المهم
وأما عند عدمه فلا بد من القول بانعقاده بالبيعة تحصيلا للمصالح المنوطة به ودرءا للمفاسد المتوقعة دونه أي دون القضاء
الرابع ثبوت الإمامة بالبيعة يؤدي إلى الفتنة إذ ربما تبايع أقوام على أئمة في بلد واحد أو بلاد متعددة
ويدعي كل منهم أن الإمام الذي اختاره أولى من غيره فيؤدي ذلك إلى الفتنة
ويعود نفعه ضرا
وجوابه ما مر من أن الضرر اللازم من تركه أكثر بكثير من الضر اللازم من نصبه
وإذا تعارضا وجب دفع أعظمهما
الخامس وهو عمدتهم في إثبات مطلبهم أن العصمة والعلم بجميع مسائل الدين على التفصيل بحيث تكون كلها حاضرة عنده بلا احتياج إلى نظر واستدلال
وعدم الكفر شرط لصحة الإمامة
ولا يعلمها أهل البيعة فلا تثبت الإمامة ببيعتهم
وقد مر جوابهما أي جواب الرابع كما قررناه
وجواب الخامس وهو أن البيعة إمارة دالة على حكم الله ورسوله بإمامة صاحب البيعة
وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة فاعلم أن ذلك
593

الحصول لا يفتقر إلى الإجماع من جميع أهل الحل والعقد إذ لم يقم عليه أي على هذا الافتقار دليل من العقل أو السمع بل الواحد والاثنين من أهل الحل والعقد كاف في ثبوت الإمامة ووجوب اتباع الإمام على أهل الإسلام
وذلك لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين وشدة محافظتهم على أمور الشرع كما هو حقها اكتفوا في عقد الإمامة بذلك المذكور من الواحد والاثنين كعقد عمر لأبي بكر وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان
ولم يشترطوا في عقدها اجتماع من في المدينة من أهل الحل والعقد فضلا عن إجماع الأمة من علماء أمصار الإسلام ومجتهدي جميع أقطارها هذا كما مضى
ولم ينكر عليهم أحد
وعليه أي على الاكتفاء بالواحد والاثنين في عقد الإمامة انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا
وقال بعض الأصحاب يجب كون ذلك العقد من واحد أو اثنين بمشهد بينة عادلة كفا للخصام في ادعاء من يزعم عقد الإمامة له سرا قبل من عقد له جهرا
فإنه إذا لم يشترط البينة العادلة توجهت المخاصمة بالعقد سرا
وإذا اشترطت اندفعت لأن ذلك العقد غير صحيح
وهذا الذي ذكر من اعتبار البينة العادلة وعدمه من مسائل الاجتهادية فيجتهد فيها ويعمل بما يؤدي الاجتهاد إليه
ثم إذا اتفق التعدد في بلد أو بلاد تفحص عن المتقدم فأمضى
ولو أصر الآخر فهو من البغاة
فيجب أن يقاتل حتى يفيء إلى أمر الله
فإن لم يكن هناك متقدم أو كان ولم يعلم بعينه وجب إبطال الجميع واستئناف العقد لمن وقع عليه الاختيار
ولا يجوز العقد لإمامين في صقع أي جانب متضايق الأقطار لأدائه إلى وقوع الفتنة واختلال النظام أما في متسعها أي أما العقد لإمامين في صقع متسع الأقطار بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد لوقوع الخلاف
594

وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها وإن أدى خلعه إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين
تذنيب قالت الجارودية من الزيدية الإمامة شورى في أولاد الحسن والحسين
فكل فاطمي خرج بالسيف داعيا إلى الحق وكان عالما بأمور الدين شجاعا فهو إمام يجب مطاوعته فلذلك جوزوا تعدد الأئمة في صقع متضايق الأقطار وهو خلاف الإجماع المنعقد من السلف قبل ظهورهم
ولذلك أيضا جعلوا الدعوة طريقا لثبوت الإمامة
قال الإمام الرازي اتفقت الأمة على أنه لا مقتضى لثبوتها إلا أحد أمور ثلاثة النص والاختيار والدعوة
وهو أن يباين الظلمة من هو من أهل الإمامة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو الناس إلى اتباعه
ولا نزاع لأحد في أن النص طريق إلى إمامة المنصوص عليه
وأما الطريقان الآخران فنفاهما الإمامية
واتفق أصحابنا والمعتزلة والخوارج والصالحية من الزيدية على أن الاختيار طريق إليها أيضا
وذهب سائر الزيدية إلى أن الدعوة أيضا طريق إليها
ولم يوافقهم على ذلك سوى الجبائي
المقصد الرابع
المتن في الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو عندنا أبو بكر
وعند الشيعة علي رضي الله عنهما
لنا وجهان
595

الأول أن طريقة إما النص أو الإجماع
أما النص فلم يوجد لما سيأتي
وأما الإجماع فلم يوجد على غير أبي بكر اتفاقا
الثاني الإجماع على أحد الثلاثة أبي بكر وعلي والعباس
ثم إنهما لم ينازعا أبا بكر ولو لم يكن على الحق لنازعاه كما نازع علي معاوية لأن العادة تقضي بالمنازعة في مثل ذلك
ولأن ترك المنازعة مع إمكانها مخل بالعصمة وأنتم توجبونها
لا يقال لا نسلم إلا مكان لأنا نقول علي في غاية الشجاعة
وفاطمة مع علو منصبها زوجته والحسن والحسين ولداه والعباس مع علو منصبه معه روي أنه قال أمدد يدك أبايعك حتى يقول الناس بايع عم رسول الله ابن عمه فلا يختلف فيك اثنان
والزبير مع شجاعته كان معه حتى قيل إنه سل السيف وقال لا أرضى بخلافة أبي بكر
وقال أبو سفيان أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيمي
والله لأملأن الوادي خيلا ورجلا
وكرهت الأنصار خلافة أبي بكر فقالوا منا أمير ومنكم أمير
ولو كان على إمامة علي نص جلي لأظهره قطعا
وكيف وأبو بكر عندهم شيخ ضعيف جبان لا مال له ولا رجال ولا شوكة
وكلام الشيعة يدور على أمور
أحدها إن الإمام يجب أن يكون معصوما لما مر
وأبو بكر لم يكن معصوما اتفاقا لما سنذكره
596

والجواب منع وجوب العصمة
وقد تقدم
وثانيها البيعة لا تصلح طريقا إلى إثبات الإمامة
وإمامة أبي بكر إنما تستند إليها اتفاقا
الجواب ما مر
وثالثها علي أفضل الخلائق
ولا يجوز إمامة المفضول وسيأتي تقريرا وجوابا
ورابعها نفي أهلية الإمامة عن أبي بكر لوجوه
الأول أنه كان ظالما
وقال تعالى * (لا ينال عهدي الظالمين) *
بيان كونه ظالما أنه كان كافرا قل البعثة
وقد قال تعالى * (والكافرون هم الظالمون) *
وأيضا فمنع فاطمة إرثها لفدك وقد كانت مستحقة لنصفها لأنه قال تعالى * (وإن كانت واحدة فلها النصف) *
وفاطمة معصومة لقوله تعالى * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) * في معرض الامتنان والتعظيم
ولقوله صلى الله عليه وسلم (فاطمة بضعة مني)
وأنه صلى الله عليه وسلم معصوم فكذا بضعته
فتكون صادقة في دعواها الإرث
597

قلنا شرائط الإمامة ما تقدم وكان مستجمعا لها يدل عليه كتب السير والتواريخ
ولا نسلم كونه ظالما
قولهم كان كافرا قبل البعثة تقدم الكلام فيه
قولهم خالف الآية في منع الإرث
قلنا لمعارضتها بقوله صلى الله عليه وسلم (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)
حجية خبر الواحد والترجيح مما لا حاجة بنا إليه لأنه كان حاكما بما سمعه من رسول الله وعلم دلالته على ما حمله عليه لانتفاء الاحتمالات بقرينة الحال
قولهم فاطمة معصومة
قلنا ممنوع لأن أهل البيت يتناول أزواجه وأقرباءه كما رواه الضحاك ولم يكونوا معصومين
وقوله صلى الله عليه وسلم (بضعة مني) مجاز قطعيا
وعصمة النبي قد تقدم ما فيها ولا يجب مساواة البعض الجملة
فإن قيل ادعت أنه نحلها
وشهد علي والحسن والحسين وأم كلثوم فرد أبو بكر شهادتهم
قلنا أما الحسن والحسين فللفرعية
وأما علي وأم كلثوم فلقصورهما عن نصاب البينة
ولعله لم ير الحكم بشاهد ويمين لأنه مذهب كثير من العلماء
الثاني لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم شيئا في حال حياته وحيث بعثه إلى مكة ليقرأ سورة براءة على أهلها عزله باتباعه عليا
وقال (لا يبلغ عني إلا رجل مني) ولم يره أهلا لتبليغ ذلك فأنى يكون أهلا للإمامة العظمى
598

قلنا بل أمره على الحجيج سنة تسع
وأمره بالصلاة بالناس في مرضه
وأنما اتبعه عليا لأن عادة العرب في أخذ العهود أن يتولاه الرجل بنفسه أو أحد من بني عمه
ولم يعزله عما ولاه من أمر الحجيج
قولهم عزله عن الصلاة كذب وما نقلوه فيه مختلق والروايات متعاضدة على ذلك
الثالث شرط الإمام أن يكون أعلم الأمة بل عالما بجميع الأحكام كما مر
ولم يكن أبو بكر كذلك لأنه أحرق فجاءة بالنار
وكان يقول أنا مسلم
وقطع يسار السارق وهو خلاف الشرع
وقال لجدة سألته عن ميراثها لا أجد لك في كتاب الله وسنة رسوله ارجعي حتى أسأل الناس
فأخبر أن رسول الله جعل لها السدس
قلنا الأصل ممنوع
وإنما الواجب الاجتهاد
ولا يقتضي كون جميع الأحكام عتيدة عنده
وأنه مجتهد
إذ ما من مسألة
في الغالب
إلا وله فيها قول مشهور عند أهل العلم
وإحراق فجاءة لاجتهاده وعدم قبول توبته لأنه زنديق
ولا تقبل توبة الزنديق في الأصح
وأما قطع اليسار فلعله من غلط الجلاد أو رآه في الثالثة وهو رأي الأكثر
ووقوفه في مسألة الجدة ورجوعه إلى الصحابة لأنه غير بدع من المجتهد البحث عن مدارك الأحكام
الرابع عمر
مع أنه حميمه وناصره وله العهد من قبله
قد ذمه حيث شفع إليه عبد الرحمن بن أبي بكر في الحطيئة فقال دويبة سوء وهو خير من أبيه
وأنكر عليه عدم قتل خالد بن الوليد حيث قتل مالك بن
599

نويرة وتزوج بزوجته
وقال لئن وليت الأمر لأقيدنك به
وقال إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه
قلنا نسبة الذم إليه من الأكاذيب الباردة
فإن عمر
مع كمال عقله
وكانت إمامته بعهد أبي بكر إليه والقدح في أبي بكر قدح في إمامته
كيف يتصور منه ذلك وإنكاره قتل خالد من إنكار المجتهدين بعضهم على بعض فيما أدى إليه اجتهادهم
وأما قوله في بيعة أبي بكر فمعناه أن الإقدام على مثله بلا مشاورة الغير وتحصيل الاتفاق منه مظنة للفتنة فلا يقدمن عليه أحد على أني أقدمت عليه فسلمت وتيسر الأمر بلا تبعة ثم إنك خبير بأن أمثال هذه لا تعارض الإجماع على إمامته المستلزم للإجماع على أهليته للإمامة
وخامسها ادعاء النص على إمامة علي إجمالا وتفصيلا
أما إجمالا فقالوا نعلم وجود نص جلي وإن لم يبلغنا بعينه لوجهين
الأول أن عادة الرسول تقضي باستخلافه على الأمة عند غيبته عنهم كما كان يستخلف على المدينة عند نهوضه للغزوات
ولا يخل بذلك البتة ولا يترك أهل البلد فوضى فكيف يجوز أن يخلي الأمة بأجمعها عند الغيبة الكبرى التي لا رجوع بعدها بلا إمام وأيضا شفقته على الأمة معلومة
وعلمهم في أمر خسيس كقضاء الحاجة دقائق آدابه
فكيف لا يعين لهم من يصلح حالهم به معاشا ومعادا
الجواب أنه لما علم أن الصحابة يقومون بذلك ولا يخلون به لم يفعل ذلك لعدم الحاجة إليه
ثم عدم النص معلوم قطعا
لأنه لو وجد لتواتر ولم يكن ستره عادة
وأيضا لو وجد نص جلي على إمامة علي لمنع به غيره عن الإمامة كما منع أبو بكر الأنصار بقوله صلى الله عليه وسلم (الأئمة من
600

قريش)
مع كونه خبر واحد فأطاعوه وتركوا الإمامة لأجله
فكيف يتصور أن يوجد نص جلي متواتر في علي وهو بين قوم لا يعصون خبر الواحد في ترك الإمامة وشأنهم في الصلابة في الدين ما يشهد به بذلهم الأموال والأنفس ومهاجرتهم الأهل والوطن وقتلهم الأولاد والآباء والأقارب في نصرة الدين ثم لا يحتج عليهم بذلك بل ولا يقول أحد منهم عند طول النزاع في أمر الإمامة ما بالكم تتنازعون والنص قد عين فلانا ولو زعم زاعم أنه فعل ذلك فلم يقبلوه كان مباهتا منكرا للضرورة
وأما تفصيلا فالكتاب والسنة
أما الكتاب فمن وجهين
الأول " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله "
والآية عامة في الأمور كلها لصحة الاستثناء
ومنها الإمامة وعلي من أولي الأرحام دون أبي بكر
والجواب منع العموم وصحة الاستثناء معارض بصحة التقسيم
الثاني * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) *
والولي إما المتصرف وإما الناصر تقليلا للاشتراك
والناصر غير مراد لعموم النصرة
قال تعالى * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) *
فهو المتصرف
والمتصرف في الأمة هو الإمام
وأجمع أئمة التفسير أن المراد علي
وللإجماع على أن غيره غير مراد
والجواب أن المراد هو الناصر
والأدل على إمامته حال حياة الرسول ولأن ما تكرر فيه صيغ الجمع كيف يحمل على الواحد ولأن ذلك غير
601

مناسب لما قبلها وهو قوله * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) *
وما بعدها وهو قوله * (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) *
وأما السنة فمن وجوه
الأول خبر الغدير (وهو أنه صلى الله عليه وسلم أحضر القوم وقال لهم ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا بلى قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)
وجه الاستدلال أن المراد بالمولى هو الأولى ليطابق مقدمة الحديث
ولأنه يقال للمعتق والمعتق وابن العم والجار والحليف والناصر والأولى بالتصرف
والستة الأولى غير مرادة قطعا ولأنها تشترك في الولاية فيجب الحمل عليها دفعا للاشتراك
الجواب منع صحة الحديث ودعوى الضرورة مكابرة كيف ولم ينقله أكثر أصحاب الحديث
ولأن عليا لم يكن يوم الغدير مع النبي فإنه كان باليمن
وإن سلم فرواته لم يرووا مقدمة الحديث
والمراد بالمولى الناصر بدليل آخر الحديث
ولأن مفعل بمعنى أفعل لم يذكره أحد ولجواز هو أولى من كذا دون مولى من كذا
وأولى الرجلين أو الرجال دون مولى
وإن سلم فأين الدليل على أن المراد الأولى بالتصرف والتدبير بل في أمر من الأمور كما قال الله تعالى * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) *
وتقول التلامذة نحن أولى بأستاذنا
ويقول الأتباع نحن أولى بسلطاننا
ولصحة الاستفسار والتقسيم
602

الثاني قوله صلى الله عليه وسلم (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)
ومن المنازل الثابتة لهارون استحقاقه للقيام مقامه بعد وفاته لو عاش إلا أن ذلك كان له بحكم المنزلة في النبوة وانتفى ههنا بدليل الاستثناء
الجواب منع صحة الحديث أو المراد استخلافه على قومه في قوله * (اخلفني في قومي) * لاستخلافه على المدينة
ولا يلزم دوامه بعد وفاته
ولا يكون عدم دوامه عزلا له
ولا عزله إذا انتقل إلى مرتبة أعلى وهو الاستقلال بالنبوة منفرا
كيف والظاهر متروك لأن من منازل هارون كونه أخا ونبيا
هذا ونفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لنبوته لا للخلافة
وقد نفى النبوة فيلزم نفي مسببه
الثالث قوله صلى الله عليه وسلم (سلموا على علي بإمرة المؤمنين)
الجواب منع صحة الحديث للقاطع المتقدم
وكذا قوله (أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني)
وقوله (إنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين)
وبعد الأجوبة المفصلة هذه النصوص معارضة بالنصوص الدالة على إمامة أبي بكر رضي الله عنه
وهي من وجوه
الأول قوله تعالى * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) * وأقل الجمع ثلاثة
ووعد الله حق
ولم يوجد إلا خلافة الخلفاء الأربعة فهي التي وعد الله بها
603

الثاني قوله تعالى * (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) *
وليس الداعي محمدا لقوله تعالى * (سيقول لك المخلفون) * إلى قوله * (قل لن تتبعونا) *
ولا عليا لأنه لم يتفق له قتال لطلب الإسلام ولا من بعده لأنهم عندنا ظلمة وعندهم كفار
فلا يليق بهم قوله * (فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا) * فهو أحد الخلفاء الثلاثة
ويلزم خلافة أبي بكر لعدم القائل بالفصل
الثالث لو كانت إمامة أبي بكر باطلة لما كان معظما عند الله لكنه معظم وأفضل الخلق عنده
وسنزيده شرحا
الرابع كانت الصحابة وعلي يقولون له يا خليفة رسول الله
وقد قال تعالى فيهم * (أولئك هم الصادقون) *
الخامس لو كانت الإمامة حق علي ولم تعنه الأمة عليه لكانوا شر الأمم لكنهم خير أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
السادس قول صلى الله عليه وسلم (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر)
وأقل مراتب الأمر الجواز
قالت الشيعة هذا خبر واحد
قلنا أوليس
أقل من خبر الطير والمنزلة وهم يدعون فيما يوافق مذهبهم التواتر
وفيما يخالفه الآحاد تحكما
604

السابع قوله صلى الله عليه وسلم (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا)
الثامن أنه صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر في الصلاة وما عزله فيبقى إماما فيها فكذا في غيرها
إذ لا قائل بالفصل
ولذلك قال علي رضي الله عنه قدمك رسول الله في أمر ديننا أفلا نقدمك في أمر دنيانا
تذنيب إمامة الأئمة الثلاثة تعلم ما يثبت منها ببعض الوجود المذكورة
وطريقه في حق عمر نص أبي بكر
وفي حق عثمان وعلي البيعة
الشرح
المقصد الرابع في الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو عندنا أبو بكر
وعند الشيعة علي رضي الله عنهما
لنا وجهان
الأول إن طريقه أما النص أو الإجماع بالبيعة
أما النص فلم يوجد لما سيأتي
وأما الإجماع فلم يوجد على غير أبي بكر اتفاقا من الأمة
الثاني الإجماع منعقد على حقية إمامة أحد الثلاثة أبي بكر وعلي والعباس
ثم أنهما لم ينازعا أبا بكر
ولو لم يكن على الحق لنازعاه كما نازع علي معاوية لأن العادة تقضي بالمنازعة في مثل ذلك
ولأن ترك المنازعة مع إمكانها مخل بالعصمة إذ هو معصية كبيرة توجب انثلام العصمة
وأنتم توجبونها في الإمام وتجعلونها شرطا لصحة إمامته
لا يقال لا نسلم الإمكان أي إمكان منازعتهما أبا بكر لأنا نقول علي في غاية الشجاعة والتصلب في الأمور الدينية وفاطمة مع علو منصبها زوجته والحسن والحسين مع كونهما سبطي رسول الله ولداه
605

والعباس مع علو منصبه عمه فإنه روي أنه قال لعلي أمدد يدك أبايعك حتى يقول الناس بايع عم رسول الله ابن عمه
فلا يختلف فيك اثنان
والزبير مع شجاعته كان معه حتى قيل إنه سل السيف وقال لا أرضى بخلافة أبي بكر
وقال أبو سفيان أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيمي
والله لأملأن الوادي خيلا ورجلا
وكرهت الأنصار خلافة أبي بكر فقالوا منا أمير ومنكم أمير فدفعهم أبو بكر بما مر من قوله صلى الله عليه وسلم (الأئمة من قريش) ولو كان على إمامة علي نص جلي كما ادعته الشيعة لأظهروه قطعا ولأمكنهم المنازعة جزما
وكيف لا وأبو بكر عندهم أي عند الشيعة شيخ ضعيف جبان لا مال له ولا رجال ولا شوكة
فأنى يتصور امتناع المنازعة معه
وكلام الشيعة في إثبات إمامة علي يدور على أمور
أحدهما إن الإمام يجب أن يكون معصوما لما مر
وأبو بكر لم يكن معصوما اتفاقا لما سنذكره
وكذا العباس فتعينت إمامة علي
والجواب منع وجوب العصمة
وقد تقدم
وثانيها البيعة لا تصلح طريقا إلى إثبات الإمامة
وإمامة أبي بكر إنما تستند إليها اتفاقا
الجواب ما مر من أن البيعة طريقة صحيحة لإثبات الإمامة
606

وثالثها علي أفضل الخلائق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل
وسيأتي ذلك تقريرا وجوابا
ورابعها نفي أهلية الإمامة عن أبي بكر لوجوه
الأول أنه كان ظالما
وقال تعالى * (لا ينال عهدي الظالمين) *
بيان كونه ظالما أنه كان كافرا قبل البعثة
وقد قال تعالى * (والكافرون هم الظالمون) *
فحصر الظلم الكامل في الكافر
وأيضا فمنع أبو بكر فاطمة إرثها لفدك وهي قرية بخيبر كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ومات عنها
وقد كانت فاطمة مستحقة لنصفها لأنه قال تعالى * (وإن كانت واحدة فلها النصف) * وأيضا فاطمة معصومة لقوله تعالى * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) * في معرض الامتنان والتعظيم
فوجب أن ينتفي عنهم الرجس بالكلية لأن انتفاء بعضه يشاركهم فيه غيرهم
ولقوله صلى الله عليه وسلم (فاطمة بضعة مني) وأنه صلى الله عليه وسلم معصوم فكذا بضعته فتكون فاطمة صادقة في دعواها الإرث
لأن الكذب عمدا رجس ينافي العصمة
وكذلك الخطأ فيه
قلنا شرائط الإمامة ما تقدم
وكان أبو بكر مستجمعا لها يدل عليه كتب السير والتواريخ
ولا نسلم كونه ظالما
قولهم كان كافرا قبل البعثة تقدم الكلام فيه حيث قلنا الظالم من ارتكب معصية تسقط العدالة بلا توبة وإصلاح
فمن آمن عند البعثة وأصلح حاله لا يكون ظالما
قولهم خالف الآية في منع الإرث
قلنا لمعارضتها بقوله صلى الله عليه وسلم (نحن معاشر الأنبياء لا نورث
ما تركناه صدقة)
فإن قيل لا بد لكم من بيان حجية ذلك الحديث الذي هو من قبيل الآحاد ومن بيان ترجيحه على الآية
607

قلنا حجية خبر الواحد والترجيح مما لا حاجة لنا إليه ههنا لأنه رضي الله عنه كان حاكما بما سمعه من رسول الله فلا اشتباه عنده في سنده وعلم أيضا دلالته على ما حمله عليه من المعنى لانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه بقرينة الحال فصار عنده دليلا
قطعيا مخصصا للعمومات الواردة في باب الإرث
قولهم فاطمة معصومة
قلنا ممنوع لأن أهل البيت يتناول أزواجه وأقرباءه كما رواه الضحاك فإنه نقل بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين سألته عائشة عن أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس (لقد خص الله بهذه الآية فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم وعليا والحسن والحسين وجعفر وأزواج محمد وأقرباءه)
ولم يكونوا معصومين بالاتفاق
وقوله صلى الله عليه وسلم (بضعة مني) مجاز قطعا لا حقيقة
فلا يلزم عصمتها وأيضا عصمة النبي قد تقدم ما فيها
ولا يجب أيضا مساواة البعض الجملة في جميع الأحكام
فلعل المراد بها كبضعة مني فيما يرجع إلى الخير والشفقة
فإن قيل ادعت فاطمة أنه صلى الله عليه وسلم نحلها أي أعطاها فدكا نحلة وعطية
وشهد عليه علي والحسن والحسين وأم كلثوم
والصحيح أم أيمن وهي امرأة أعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت حاضنة أولاده فزوجها من زيد فولدت له أسامة فرد أبو بكر شهادتهم فيكون ظالما
608

قلنا أما الحسن والحسين فاللفرعية لأن شهادة الولد لا تقبل لأحد أبويه وأجداده عند أكثر أهل العلم
وأيضا هما كانا صغيرين في ذلك الوقت
وأما علي وأم كلثوم فلقصورهما عن نصاب البينة وهو رجلان أو رجل وامرأتان
ولعله أي أبا بكر لم ير الحكم بشاهد ويمين لأن مذهب كثير من العلماء
وأيضا قد ذهب بعضهم إلى أن شهادة أحد الزوجين للآخر غير مقبولة
الثاني من الوجوه الدالة على نفي أهليته للإمامة أنه لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الأعمال المتعلقة بإقامة قوانين الشرع والسياسات العامة لجمع كثير في حال حياته وحيث بعثه إلى مكة ليقرأ سورة براءة على أهلها في موسم الحج عزله عنها باتباعه عليا
وقال لا يبلغ عني رجل مني
ولم يره أهلا لتبليغ ذلك
فأنى يكون أهلا للإمامة العظمى والرياسة العامة الشاملة لكل الأمة
قلنا لا نسلم أنه لا يوله شيئا بل أمره على الحجيج سنة تسع من الهجرة بعد فتح مكة في رمضان سنة ثمان
وأمره بالصلاة بالناس في مرضه الذي توفي فيه
وإنما أتبعه عليا في تلك السنة بعد خروجه من المدينة لأن عادة العرب في أخذ العهود ونبذها أن يتولاه الرجل بنفسه أو أحد من بني عمه
ولم يعزله عما ولاه من أمر الحجيج
قولهم عزله عن الصلاة كذب وما نقلوه فيه مختلق
والروايات الصحيحة متعاضدة على ذلك فقد روي عن ابن عباس أنه قال لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم خلف أحد من أمته إلا خلف أبي بكر وصلى خلف عبد الرحمن ابن عوف في سفر ركعة واحدة
وروي عن رابع بن عمرو بن عبيد عن أبيه
609

أنه قال لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج أمر أبا بكر أن يقوم مقامه فكان يصلي بالناس
وربما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما دخل أبو بكر في الصلاة فيصلي خلفه ولم يصل خلف أحد غيره إلا أنه صلى خلف عبد الرحمن ركعة واحدة في سفر
وروى البخاري بإسناده عن أنس بن مالك أن أبا بكر كان يصلي بهم في مرض موته حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي صلى الله عليه وسلم سترة الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك فكدنا نطير من الفرح فنكص أبو بكر على عقبيه
وظن أن النبي خارج إلى الصلاة فأشار إلينا أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر وتوفي في يومه
وفي رواية وأرخى الحجاب
فلم يقدر عليه حتى مات
وأما ما روى البخاري بإسناده إلى عروة عن أبيه عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه فكان يصلي بهم
قال عروة فوجد رسول الله من نفسه خفة فخرج إلى المحراب فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله والناس يصلون بصلاة أبي بكر أي بتكبيره
فهو إنما كان في وقت آخر
الثالث من تلك الوجوه شرط الإمام أن يكون أعلم الأمة بل عالما بجميع الأحكام كما مر
ولم يكن أبو بكر كذلك لأنه أحرق فجاءة المازني بالنار وكان يقول أنا مسلم
وقطع يسار السارق وهو خلاف الشرع
وقال لجدة سألته عن ميراثها لا أجد لك في كتاب الله وسنة رسوله شيئا ارجعي حتى أسأل الناس
فأخبر أن رسول الله جعل لها السدس
قلنا الأصل وهو كون الإمام عالما بجميع الأحكام ممنوع
وإنما
610

الواجب الاجتهاد
ولا يقتضي كون جميع الأحكام عتيدة أي حاضرة عنده بحيث لا يحتاج المجتهد إلى نظر وتأمل
وأنه أي أبا بكر مجتهد
إذ ما من مسألة في الغالب إلا وله فيها قول مشهور عند أهل العلم وإحراق فجاءة إنما كان لاجتهاده وعدم قبول توبته لأنه زنديق
ولا تقبل توبة الزنديق في الأصح
وأما قطع اليسار فلعله من غلط الجلاد أو رآه في المرة الثالثة من السرقة
وهو رأي الأكثر من العلماء ووقوفه في مسألة الجدة ورجوعه إلى الصحابة في ذلك لأنه غير بدع من المجتهد البحث عن مدارك الأحكام
الرابع من الوجوه النافية لصلوحه للإمامة عمر
مع أنه حميمه
وناصره وله العهد أي عهد الإمامة من قبله
قد ذمه حيث شفع إليه عبد الرحمن بن أبي بكر في الحطيئة الشاعر فقال دويبة سوء
وهو خير من أبيه
وأنكر عمر عليه أي على أبي بكر عدم قتل خالد بن الوليد حيث قتل مالك بن نويرة وهو مسلم طمعا في امرأته لجمالها
ولذلك تزوج بزوجته من ليلته وضاجعها فأشار عليه عمر بقتله قصاصا فقال أبو بكر لا أغمد سيفا شهره الله على الكفار
وقال عمر مخاطبا لخالد لئن وليت الأمر لأقيدنك به
وقال عمر في ذمه أيضا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها
فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه
قلنا نسبة الذم إليه من الأكاذيب الباردة
فإن عمر
مع كمال عقله ووفور حزمه حتى قيل في حقه هو أعقل من أن يخدع وأروع من أين يخدع
وقد كانت إمامته بعهد أبي بكر إليه والقدح في أبي بكر قدح في إمامته
كيف يتصور منه ذلك
وإنكاره عدم قتل خالد أي عدم قتله من إنكار المجتهدين بعضهم على بعض فيما أدى إليه اجتهادهم
فإنه نقل أن خالدا إنما قتل مالكا لأنه ارتد
ورد على قومه صدقاتهم لما بلغه وفاة
611

رسول الله
وخاطب خالدا بأنه مات صاحبك
فعلم خالد قصده أنه أوليس
صاحبا له فتيقن ردته
وأما تزوجه امرأته فلعلها كانت مطلقة قد انقضت عدتها إلا أنها كانت محبوسة عنده
وأما قول في بيعة أبي بكر فمعناه أن الإقدام على مثله بلا مشاورة الغير وتحصيل الاتفاق منه مظنة للفتنة العظيمة فلا يقدمن عليه أحد على أني أقدمت عليه فسلمت وتيسر الأمر بلا تبعة
ثم إنك خبير بأن أمثال هذه الوجوه التي تمسكوا بها على انتفاء صلاحيته للإمامة لا تعارض الإجماع على إمامته المستلزم للإجماع على أهليته للإمامة
وخامسها أي خامس الأمور التي عليها مدار كلامهم في إثبات إمامة علي ادعاء النص على إمامة علي إجمالا وتفصيلا
أما إجمالا فقالوا نحن نعلم قطعا ويقينا وجود نص جلي
وإن لم يبلغنا بعينه لوجهين
الأول إن عادة الرسول تقضي باستخلافه على الأمة عند غيبته عنهم في حال حياته كما كان يستخلف على المدينة عند نهوضه للغزوات
ولا يخل بذلك البتة
ولا يترك أهل البلد فوضى أي متساوين لا رئيس لهم
فكيف يجوز أن يخلي الأمة بأجمعها عند الغيبة الكبرى التي لا رجوع بعدها بلا إمام يقتدون به ويرجعون إليه في مصالحهم
والثاني شفقته على الأمة معلومة مكشوفة لا سترة بها حتى قال إنما أنا لكم مثل الوالد لولده
وعلمهم في أمر خسيس كقضاء الحاجة دقائق آدابه فكيف لا يعين لهم من يصلح حالهم به معاشا ومعادا
ومن البين أنه لا نص في حق أبي بكر والعباس فتعين أن يكون في حق علي
612

والجواب إنه لما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابة يقومون بذلك التعيين
ولا يخلون به لم يفعل ذلك لعدم الحاجة إليه كما أنه صلى الله عليه وسلم لم ينص على كثير من الأحكام الشرعية بل وكلها إلى آراء المجتهدين الذين هم حماة الدين وأعلام الشرع
ثم عدم النص الجلي معلوم قطعا لأنه لو وجد لتواتر ولم يكن ستره عادة إذ هو ما تتوفر الدواعي إلى نقله
وأيضا لو وجد نص جلي على إمامة علي لمنع به غيره عن الإمامة كما منع أبو بكر الأنصار بقوله صلى الله عليه وسلم (الأئمة من قريش) مع كونه خبر واحد فأطاعوه وتركوا الإمامة لأجله فكيف يتصور أن يوجد نص جلي متواتر في علي وهو بين قوم لا يعصون خبر الواحد في ترك الإمامة وشأنهم في الصلابة في الدين ما يشهد به بذلهم الأموال والأنفس ومهاجرتهم الأهل والوطن وقتلهم الأولاد والآباء والأقارب في نصرة الدين ثم لا يحتج علي عليهم بذلك النص الجلي بل ولا يقول أحد منهم عند طول النزاع في أمر الإمامة ما بالكم تتنازعون فيها والنص قد عين فلانا لها
ولو زعم زاعم أنه أي عليا فعل ذلك لم يقبلوه كان ذلك الزاعم مباهتا منكرا للضرورة فلا يلتفت إلى زعمه ولا يبالي بشأنه
وأما تفصيلا فالكتاب والسنة
أما الكتاب فمن وجهين
الأول قوله تعالى " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله "
والآية عامة في الأمور كلها لصحة الاستثناء إذ يجوز أن يقال أولى إلا في كذا
ومنها أي ومن الأمور التي تعمها الآية الإمامة والخلافة وعلي من أولي الأرحام دون أبي بكر
والجواب منع العموم
وصحة الاستثناء معارض بصحة التقسيم إذ
613

يجوز أن يقال هذه الأولوية إما من جهة الخلافة أو الإرث أو العطف والشفقة إلى غير ذلك من المحتملات فلا تكون عامة لأن العام يتناول جميع جزئياته لا أحدها فقط
وتحريره أنها مطلقة
فإذا استثنى كان تقدير الكلام أولى من كل الوجوه
وإلا كانت باقية على إطلاقها
الثاني قوله تعالى * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) *
والولي إما المتصرف أي الأولى والأحق بالتصرف كولي الصبي والمرأة
وأما المحب والناصر تقليلا للاشتراك في لفظ الولي
وأيضا لم يعهد له في اللغة معنى ثالث
والناصر غير مراد في هذه الآية لعموم النصرة والمحبة في حق كل المؤمنين قال تعالى * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * أي بعضهم محب بعض وناصره
فلا يصح حصرها بكلمة إنما في المؤمنين الموصوفين بالصفة المذكورة في الآية
فهو المتصرف والمتصرف في الأمة هو الإمام
وقد أجمع أئمة التفسير على أن المراد بالذين يقيمون الصلاة إلى قوله تعالى * (وهم راكعون) * علي
فإنه كان في الصلاة راكعا فسأله سائل فأعطاه خاتمه فنزلت الآية
وللإجماع على أن غيره كأبي بكر مثلا غير مراد فتعين أنه المراد فتكون الآية نصا في إمامته
والجواب إن المراد هو الناصر والأول نظم الآية على إمامته وكونه أولى بالتصرف حال حياة الرسول
ولا شبهة في بطلانه
ولأن ما تكرر فيه صيغ الجمع كيف يحمل على الواحد وكونه نازلا في حقه لا ينافي شموله لغيره أيضا ممن يجوز اشتراكه معه في تلك الصفة
ولأن ذلك
614

أي حمل الولي في الآية على الأولى والأحق بالتصرف غير مناسب لما قبلها وهو قوله * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) *
فإن الأولياء ههنا بمعنى الأنصار لا بمعنى الأحقين بالتصرف وغير مناسب ما بعدها
وهو قوله * (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) *
فإن التولي ههنا بمعنى المحبة والنصرة دون التصرف
فوجب أن يحمل ما بينهما على النصرة أيضا ليتلاءم أجزاء الكلام
وأما السنة فمن وجوه
الأول خبر الغدير
وهو أنه صلى الله عليه وسلم أحضر القوم بعد رجوعه من حجة الوداع بغدير خم وهو موضع بين مكة والمدينة بالجحفة
وأمر بجمع الرحال فصعد عليها وقال لهم أولست أولى بكم من أنفسكم قالوا بلى
قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله
وجه الاستدلال أن المراد بالمولى ههنا هو الأولى ليطابق مقدمة الحدث ولأنه أي لفظ المولى يقال للمعتق والمعتق وابن العم والجار والحليف والناصر والأولى بالتصرف والستة الأولى غير مرادة ههنا قطعا فإن الحمل على المعتق والجار وابن العم يؤدي إلى الكذب والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معتقا ولا حليفا لأحد والحمل على الناصر ممتنع
فإن كل واحد يعلم من دينه ضرورة وجوب تولي المؤمنين بعضهم لبعض
فتعين الحمل على الأولى بالتصرف لما ذكرناه
ولأنها أي المعاني المذكورة تشترك في الولاية فيجب الحمل عليها وجعل حقيقة في هذا القدر المشترك دفعا للاشتراك اللفظي
الجواب منع صحة الحديث
ودعوى الضرورة في العلم بصحته لكونه
615

متواترا مكابرة
كيف ولم ينقله أكثر أصحاب الحديث كالبخاري ومسلم وأضرابهما
وقد طعن بعضهم فيه كابن أبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي وغيرهما من أئمة الحديث
ولأن عليا لم يكن يوم الغدير مع النبي فإنه كان باليمن ورد هذا بأن غيبته لا تنافي صحة الحديث إلا أن يروى هكذا أخذ بيد علي أو استحضره وقال
وإن سلم أن هذا الحديث صحيح فرواته أي أكثرهم لم يرووا مقدمة الحديث وهي (ألست أولى بكم من أنفسكم)
فلا يمكن أن يتمسك بها في أن المولى بمعنى الأولى
والمراد بالمولى هو الناصر بدليل آخر الحديث وهو قوله وال من والاه.. الخ
ولأن مفعل بمعنى أفعل لم يذكره أحد من أئمة العربية
وقوله تعالى (مأواكم النار هي مولاكم)
أي مقركم وما إليه مآلكم وعاقبتكم
ولهذا قال الله تعالى * (وبئس المصير) *
وقد قيل المراد ههنا أيضا الناصر فيكون مبالغة في نفي النصرة على طريقة قولهم الجوع زاد من لا زاد له
والاستعمال أيضا يدل على أن المولى أوليس
بمعنى الأول لجواز أن يقال هو أولى من كذا دون مولى من كذا
وأن يقال أولى الرجلين أو الرجال دون مولى الرجلين أو الرجال
وإن سلم أن المولى بمعنى الأولى فأين الدليل على أن المراد الأولى بالتصرف والتدبير بل يجوز أن يراد الأولى في أمر من الأمور كما قال الله تعالى * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) *
616

وأراد الأولوية في الاتباع والاختصاص به والقرب منه لا في التصرف فيه
وتقول التلامذة نحن أولى بأستاذنا
ويقول الأتباع نحن أولى بسلطاننا ولا يريدون الأولوية في التصرف والتدبير بل في أمر ما والصحة الاستفسار إذ يجوز أن يقال في أي شيء هو أولى في نصرته أو محبته أو التصرف فيه
ولصحة التقسيم بأن يقال كون فلان أولى بزيد إما في نصرته وإما في ضبط أمواله وإما في تدبيره والتصرف فيه
وحينئذ لا يدل الحديث على إمامته
الثاني من وجوه السنة قوله صلى الله عليه وسلم لعلي حين خرج إلى غزوة تبوك واستخلفه على المدينة (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) إلا أنه لا نبي بعدي فإنه يدل على أن جميع المنازل الثابتة لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلي من النبي صلى الله عليه وسلم
إذ لو لم يكن اللفظ محمولا على كل المنازل لما صح الاستثناء
ومن المنازل الثابتة لهارون من موسى استحقاقه للقيام مقامه بعد وفاته لو عاش هارون بعده
وذلك لأنه كان خليفة لموسى في حياته بدليل قوله * (اخلفني في قومي) *
لا معنى للخلافة إلا القيام مقام المستخلف فيما كان له من التصرفات فوجب أن يكون خليفة له بعد موته على تقدير بقائه
وإلا كان عزله موجبا لتنقصه والنفرة عنه
وذلك غير جائز على الأنبياء إلا أن ذلك القيام مقام موسى كان له بحكم المنزلة في النبوة وانتفى ههنا بدليل الاستثناء
قال الآمدي الوجه الثاني من وجهي الاستدلال بهذا الحديث هو أن من جملة منازل هارون بالنسبة إلى موسى أنه كان شريكا له في الرسالة
ومن
617

لوازمه استحقاق الطاعة بعد وفاة موسى لو بقي
فوجب أن يثبت ذلك لعلي إلا أنه امتنع الشركة في الرسالة فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم عملا بالدليل بأقصى ما يمكن
الجواب منع صحة الحديث كما منعه الآمدي
وعند المحدثين أنه صحيح وإن كان من قبيل الآحاد أو نقول على تقدير صحته لا عموم له في المنازل بل المراد استخلافه على قومه في قوله * (اخلفني في قومي) *
لاستخلافه على المدينة أي المراد من الحديث أن عليا خليفة منه على المدينة في غزوة تبوك كما أن هارون كان خليفة لموسى في قومه حال غيبته
ولا يلزم دوامه أي دوام استخلاف موسى بعد وفاته
فإن قوله اخلفني لا عموم له بحيث تقتضي الخلافة في كل زمان بل المتبادر استخلافه مدة غيبته
ولا يكون حينئذ عدم دوامه بعد وفاة موسى لقصور دلالة اللفظ عن استخلافه فيه عزلا له كما لو صرح بالاستخلاف في بعض التصرفات دون بعضها ولا عزل إذا انتقل إلى مرتبة أعلى وهو الاستقلال بالنبوة منفرا يعني وإن سلمنا تناول اللفظ لما بعد الموت
وإن عدم بقاء خلافته يعدل عزل له لم يكن ذلك العزل منفرا عنه وموجبا لنقصانه في الأعين
وبيانه أنه وإن عزل عن خلافة موسى فقد صار بعد العزل مستقلا بالرسالة والتصرف على الله تعالى
وذلك أشرف وأعلى من كونه مستخلف موسى مع الشركة في الرسالة
كيف والظاهر متروك
أي وإن فرض أن الحديث يعم المنازل كلها كان عاما مخصوصا لأن من منازل هارون كونه أخا نسبيا ونبيا
والعام المخصوص أوليس
حجة في الباقي أو حجيته ضعيفة
ولو ترك قوله ونبيا لكان أولى
ثم شرع في الجواب عن الوجه الثاني بقوله هذا ونفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لنبوته لا للخلافة عن موسى كما اعترفتم به في هذا الوجه
وقد نفى النبوة ههنا لاستحالة كون علي نبيا فيلزم نفي مسببه الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر
618

الثالث من وجوه السنة قوله صلى الله عليه وسلم (سلموا على علي بإمرة المؤمنين)
بكسر الهمزة
الجواب منع صحة الحديث للقاطع المتقدم الدال على عدم النص الجلي
وكذا قوله (أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني) بكسر الدال
وقوله إنه (سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين)
وبعد الأجوبة المفصلة على الوجوه المذكورة نقول هذه النصوص التي تمسكوا بها في إمامة علي رضي الله عنه معارضة بالنصوص الدالة على إمامة أبي بكر رضي الله عنه
وهي من وجوه
الأول قوله تعالى * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) *
والخطاب للصحابة
وأقل الجمع ثلاثة
ووعد الله حق) فوجب أن يوجد في جماعة منهم خلافة يتمكن بها الدين ولم يوجد على هذه الصفة إلا خلافة الخلفاء الأربعة
فهي التي وعد الله بها
الثاني قوله تعالى * (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) *
وليس الداعي إلى هؤلاء القوم لطلب الإسلام محمدا صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى * (سيقول لك المخلفون) * إلى قوله * (لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) * فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية أنهم لا يتبعون أبدا فكيف يدعوهم إلى القتال
وأيضا فإن المخلفين لم يدعوا إلى المحاربة في حياته صلى الله عليه وسلم
ولا عليا لأنه لم يتفق له في أيام خلافته قتال لطلب الإسلام بل لطلب الإمامة ورعاية
619

عضوضا) فقد حكم بأن القائمين بالأمر في مدة ثلاثين سنة بعده صلى الله عليه وسلم موصوفون بالخلافة عنه في أمر الدين وإعلاء كلمة الله
وأن القائمين به بعدها من أهل الدنيا موصوفون بكونهم ملوكا
وذلك دليل ظاهر على صحة خلافة الخلفاء الأربعة
الثامن إنه صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر في الصلاة حال مرضه واقتدى به
وما عزله كما مر تقريره فيبقى بعده إماما فيها
فكذا في غيرها
إذ لا قائل بالفصل
ولذلك قال علي رضي الله عنه قدمك رسول الله في أمر ديننا أفلا نقدمك في أمر دنيانا)
تذنيب إمامة الأئمة الثلاثة تعلم ما يثبت منها ببعض الوجوه المذكورة
يريد أن ما ذكرناه إنما كان لإثبات إمامة أبي بكر
وأما إمامة الأئمة الثلاثة الباقية فأنت تعلم أنها أو بعضا منها يمكن إثباتها ببعض الوجوه السابقة مثل قوله تعالى * (وعد الله الذين آمنوا) *... الآية
وقوله صلى الله عليه وسلم (الخلافة بعدي..) الحديث
وقوله (اقتدوا بالذين من بعدي).. إلى آخره
وطريقه المعول عليه في حق عمر نص أبي بكر وذلك أنه دعا في مرضه عثمان بن عفان وأمره أن أكتب هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالعقبى حالة يبر فيها الفاجر ويؤمن فيها الكافر إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب
فإن أحسن السيرة فذلك ظني به والخير أردت
وإن تكن
621

الأخرى فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
وفي حق عثمان وعلي البيعة
فإن عمر لم ينص على أحد بل جعل الإمامة شورى بين ستة وهم عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص
وقال لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لما ترددت فيه
وإنما جعلها شورى بينهم لأنه رآهم أفضل ممن عداهم
وأنه لا يصلح للإمامة غيرهم
وقال في حقهم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض
ولم يترجح في نظره واحد منهم فأراد أن يستظهر برأي غيره في التعيين
ولذلك قال إن انقسموا اثنين وأربعة فكونوا مع الأربعة
ميلا منه إلى الأكثر لأن رأيهم إلى الصواب أقرب
وإن تساووا فكونوا في الحزب الذي فيه عبد الرحمن
ولم يعين أحدا منهم للصلاة عليه كيلا يفهم منه أنه عينه بل وصى بها إلى صهيب
ولما تشاوروا اتفقوا على عثمان وبايعه عبد الرحمن
ولما استشهد عثمان اتفق الناس على بيعة علي رضي الله تعالى عنه
المقصد الخامس
المتن في أفضل الناس بعد رسول الله
هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة أبو بكر رضي الله عنه
وعند الشيعة أكثر متأخري المعتزلة علي
لنا وجوه
الأول قوله تعالى * (وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى) *
622

قال أكثر المفسرين
واعتمد عليه العلماء إنها نزلت في أبي بكر
فهو أكرم عند الله لقوله تعالى * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) *
وهو الأفضل
وأيضا فقوله * (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) *
يصرفه عن علي إذ عنده نعمة التربية
وهي نعمة تجزى
الثاني قوله صلى الله عليه وسلم (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر)
عمم الأمر فيدخل في الخطاب علي وهو يشعر بالأفضلية
إذ لا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالاقتداء سيما عندهم
الثالث قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء (والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر)
الرابع قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر (هما سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين)
الخامس قوله صلى الله عليه وسلم (ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه غيره)
السادس تقديمه في الصلاة مع أنها أفضل العبادات
وقوله (يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر)
623

السابع قوله صلى الله عليه وسلم (خير أمتي أبو بكر ثم عمر)
الثامن قوله صلى الله عليه وسلم (لو كنت متخذا خليلا
دون ربي
لاتخذت أبا بكر خليلا
ولكن هو شريكي في ديني وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار وخليفتي في أمتي)
التاسع قوله صلى الله عليه وسلم (وأين مثل أبي بكر كذبني الناس وصدقني وآمن بي وزوجني ابنته وجهزني بماله وواساني بنفسه وجاهد معي ساعة الخوف)
العاشر قول علي رضي الله عنه (خير الناس
بعد النبيين
أبو بكر ثم عمر ثم الله أعلم)
وقوله إذ قيل له ما توصي ما أوصى رسول الله حتى أوصي
ولكن إن أراد الله بالناس خيرا جمعهم على خيرهم كما جمعهم
بعد نبيهم
على خيرهم
لهم فيه مسلكان
المسلك الأول ما يدل عليه إجمالا
وهو وجوه
الأول آية المباهلة
وجه الاحتجاج أن قوله وأنفسنا لم يرد به نفس النبي بل المراد به علي دلت عليه الأخبار الصحيحة
وليس نفس علي نفس محمد
فالمراد المساواة فترك العمل به في فضيلة النبوة وبقي حجة في الباقي
وقد يمنع أن المراد علي بل جميع قراباته وخدمه داخلون فيه يدل عليه صيغة الجمع
الثاني خبر الطير وهو قوله (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل
624

معي هذا الطير فأتى علي والمحبة من الله كثرة الثواب والتعظيم
وأجيب بأنه لا يفيد كونه أحب إليه في كل شيء لصحة التقسيم وإدخال لفظ الكل والبعض
الثالث قوله صلى الله عليه وسلم في ذي الثدية (يقتله خير الخلق) وقد قتله علي
وأجيب بأنه ما باشر قتله فيكون من باشره من أصحابه خيرا منه
وأيضا فمخصوص بالنبي ويضعف حينئذ عمومه للباقي
الرابع قوله صلى الله عليه وسلم (أخي ووزيري وخير من أتركه بعدي يقضي ديني وينجز وعدي علي ابن أبي طالب)
وأجيب بأنه يدل على أنه خير من يتركه قاضيا ومنجزا
فلا يتناول الكل
الخامس قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة (أما ترضين أني زوجتك من خير أمتي)
وأجيب بأنه لا يلزم كونه خيرا من كل وجه
ولعل المراد خيرهم لها
السادس قوله صلى الله عليه وسلم (خير من أتركه بعدي علي)
وأجيب بما مر
السابع قوله صلى الله عليه وسلم (أنا سيد العالمين وعلي سيد العرب)
أجيب بأن السيادة الارتفاع لا الأفضلية
وإن سلم فهو كالخبر لا عموم له
الثامن قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة (إن الله اطلع على أهل الأرض واختار منهم أباك فاتخذه نبيا
ثم اطلع ثانية واختار منهم بعلك)
625

وأجيب بأنه لا عموم فيه فلعله اختاره للجهاد أو لبعلية فاطمة
التاسع إنه صلى الله عليه وسلم لما آخى بين الصحابة اتخذه أخا لنفسه
قيل لا دلالة إذ لعل ذلك لزيادة شفقته عليه للقرابة وزيادة الألفة والخدمة
العاشر قوله صلى الله عليه وسلم بعد ما بعث أبا بكر وعمر إلى خيبر فرجعا منهزمين (لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار) وأعطاها عليا
وذلك يدل على أن ما وصفه به لم يوجد في غيره فقيل نفي المجموع لا يجب أن يكون بنفي كل جزء منه
بل يجوز أن يكون بنفي كونه كرارا غير فرار
ولا يلزم حينئذ الأفضلية مطلقا
الحادي عشر قوله تعالى في حق النبي * (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) *
والمراد بصالح المؤمنين علي كما نقله كثير من المفسرين
فقيل معارض بما عليه الأكثر من العموم وقوم من أن المراد أبو بكر وعمر
الثاني عشر قوله صلى الله عليه وسلم (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته
وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى ابن أبي طالب)
فقد ساواه بالأنبياء وهم أفضل من سائر الصحابة إجماعا
وأجيب بأنه تشبيه ولا يدل على المساواة
وإلا كان علي أفضل من الأنبياء لمشاركته لكل في فضيلته
واختصاصه بفضيلة الآخرين
والإجماع على أن الأنبياء أفضل من الأولياء
626

المسلك الثاني ما يدل عليه تفصيلا
وهو أن فضيلة المرء على غيره إنما تكون بما له من الكمالات
وقد اجتمع في علي منها ما تفرق في الصحابة
وهي أمور
الأول العلم
وعلي أعلم الصحابة
لأنه كان في غاية الذكاء والحرص على التعلم ومحمد صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وأحرصهم على إرشاده وكان في صغره في حجره
وفي كبره ختنا له يدخل عليه كل وقت
وذلك يقتضي بلوغه في العلم كل مبلغ
وأما أبو بكر فاتصل بخدمته في كبره وكان يصل إليه في اليوم مرة أو مرتين
ولقوله صلى الله عليه وسلم (أقضاكم علي) والقضاء يحتاج إلى جميع العلوم فلا يعارضه نحو (أفرضكم زيد وأقرؤكم أبي)
ولقوله تعالى * (وتعيها أذن واعية) *
وأكثر المفسرين على أنه علي
ولأنه نهى عمر عن رجم من ولدت لستة أشهر وعن رجم الحاملة
فقال عمر لولا علي لهلك عمر ولقول علي (لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم
والله ما من آية نزلت في بر أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أي شيء نزلت)
ولأن عليا ذكر في خطبته من أسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء والقدر ما لم يقع مثله في كلام الصحابة
ولأن جميع الفرق ينتسبون إليه في الأصول والفروع
وكذا المتصوفة في علم تصفية الباطن وابن عباس رئيس المفسرين تلميذه
وكان في الفقه والفصاحة في الدرجة القصوى
وعلم النحو إنما ظهر منه
وهو الذي أمر أبا الأسود الدؤلي بتدوينه
وكذا علم الشجاعة وممارسة الأسلحة
وكذا علم الفتوة والأخلاق
627

الثاني الزهد
اشتهر عنه أنه
مع اتساع أبواب الدنيا عليه
ترك التنعم
وتخشن في المآكل والملابس حتى قال للدنيا طلقتك ثلاثا
الثالث الكرم كان يؤثر المحاويج على نفسه وأهله حتى تصدق في الصلاة بخاتمه ونزل ما نزل وتصدق في ليالي صيامه المنذور بما كان فطوره ونزل فيه * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *
الرابع الشجاعة
تواتر مكافحته للحروب ولقاء الأبطال
وقتل أكابر الجاهلية حتى قال صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب (لضربة علي خير من عبادة الثقلين)
وتواتر وقائعه في خيبر وغيره
الخامس حسن خلقه حتى نسب إلى الدعابة
السادس مزيد قوته حتى قلع باب خيبر بيده وقال (ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية لكن بقوة إلهية)
السابع نسبه وقربه من الرسول نسبا ومصاهرة
وهو غير خفي
وعباس وإن كان عم النبي صلى الله عليه وسلم لكن كان أخا عبد الله من الأب وأبو طالب أخاه من الأب والأم
الثامن اختصاصه بصاحبة كفاطمة وولدين كالحسن والحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة ثم أولاد أولاده ممن اتفق الأنام على فضلهم على العالمين حتى كان أبو يزيد سقاء في دار جعفر الصادق رضي الله عنه ومعروف الكرخي بواب دار علي بن موسى الرضا
628

والجواب عن الكل أنه يدل على الفضيلة
وأما الأفضلية فلا
كيف ومرجعها إلى كثرة الثواب وذلك يعود إلى الاكتساب والإخلاص
وما يعود إلى نصرة الإسلام ومآثرهم في تقوية الدين
واعلم أن مسألة الأفضلية لا مطمع فيها في الجزم واليقين وليست مسألة يتعلق بها عمل فيكتفي فيها بالظن
والنصوص المذكورة من الطرفين
بعد تعارضها
لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف لكنا وجدنا السلف قالوا بأن الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي
وحسن ظننا بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه
فوجب علينا اتباعهم في ذلك
وتفويض ما هو الحق فيه إلى الله
الشرح
المقصد الخامس في أفضل الناس بعد رسول الله
هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة أبو بكر رضي الله عنه
وعند الشيعة وأكثر متأخري المعتزلة علي
لنا وجوه
الأول قوله تعالى * (وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى) *
قال أكثر المفسرين وقد اعتمد عليه العلماء إنها نزلت في أبي بكر فهو أتقى
ومن هو أتقى فهو أكرم عند الله لقوله تعالى * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) *
وهو أي الأكرم عند الله هو الأفضل فأبو بكر أفضل ممن عداه من الأمة
وأيضا فقوله * (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) * يصرفه عن الحمل على علي إذ عنده نعمة التربية فإن النبي
629

ربى عليا وهي نعمة تجزى وإذا لم يحمل عليه تعين أبو بكر للإجماع على أن ذلك الأتقى هو أحدهما لا غير
الثاني قوله صلى الله عليه وسلم (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر) عمم الأمر بالاقتداء فيدخل في الخطاب علي وهو يشعر بالأفضلية إذ لا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالاقتداء سيما عندهم إذ لا يجوزون إمامة المفضول أصلا كما سيأتي
الثالث قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء (والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر)
الرابع قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر (هما سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين)
الخامس قوله صلى الله عليه وسلم (ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه غيره)
السادس تقديمه في الصلاة مع أنها أفضل العبادات
وقوله (يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر) وفي معناه قوله (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)
وذلك أن بلالا أذن بالصلاة في أيام مرضه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن
630

زمعة (اخرج وقل لأبي بكر يصلي بالناس)
فخرج فلم يجد على الباب إلا عمر في جماعة أوليس
فيهم أبو بكر
فقال يا عمر صل بالناس
فلما كبر وكان رجلا صيتا وسمع صلى الله عليه وسلم صوته قال ذلك ثلاث مرات
السابع قوله صلى الله عليه وسلم (خير أمتي أبو بكر ثم عمر)
الثامن قوله صلى الله عليه وسلم (لو كنت متخذا خليلا دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلا)
ولكن هو شريكي في ديني وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار وخليفتي في أمتي)
التاسع قوله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر عنده أبو بكر (وأين مثل أبي بكر كذبني الناس وصدقني وآمن بي وزوجني ابنته وجهزني بماله وواساني بنفسه وجاهد معي ساعة الخوف)
العاشر قول علي رضي الله عنه (خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثم عمر ثم الله أعلم)
وقوله إذ قيل له ما توصي أي أما توصي وما تعين من يقوم مقامك بعدك ما أوصى رسول الله حتى أوصي
ولكن إن أراد الله بالناس خيرا جمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم
لهم أي للشيعة ومن وافقهم فيه أي في بيان أفضلية علي مسلكان
الأول ما يدل عليه أي على كونه أفضل إجمالا وهو وجوه
الأول آية المباهلة وهي قوله تعالى * (تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) * وجه الاحتجاج أن قوله تعالى
631

* (وأنفسنا) * لم يرد به نفس النبي لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به علي
دلت عليه الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل أنه صلى الله عليه وسلم دعا عليا إلى ذلك المقام وليس نفس علي نفس محمد حقيقة فالمراد المساواة في الفضل والكمال
فترك العمل به في فضيلة النبوة وبقي حجة في الباقي فيساوي النبي في كل فضيلة سوى النبوة فيكون فضل من الأمة
وقد يمنع أن المراد بأنفسنا علي وحده بل جميع قراباته وخدمه النازلون عرفا منزلة نفسه صلى الله عليه وسلم داخلون فيه تدل عليه صيغة الجمع
الثاني خبر الطير
وهو قوله صلى الله عليه وسلم حين أهدي إليه طائر مشوي (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير) فأتى علي وأكل معه الطائر
والمحبة من الله كثرة الثواب والتعظيم فيكون هو أفضل وأكثر ثوابا
وأجيب بأنه لا يفيد كونه أحب إليه في كل شيء لصحة التقسيم وإدخال لفظ الكل والبعض
ألا ترى أنه يصح أن يستفسر ويقال أحب خلقه إليه في كل شيء أو في بعض الأشياء وحينئذ جاز أن يكون أكثر ثوابا في شيء دون آخر فلا يدل على الأفضلية مطلقا
الثالث قوله صلى الله عليه وسلم في ذي الثدية (يقتله خير الخلق)
وفي رواية (خير هذه الأمة)
وقد قتله علي
632

وأجيب بأنه ما باشر قتله فيكون من باشره من أصحابه خيرا منه ومن سائر الخلق
وهو باطل إجماعا
وأيضا فمخصوص بالنبي أي هو خارج من الخلق المذكور في الحديث
وإلا كان علي خيرا منه
ويضعف حينئذ عمومه للباقي
وقيل الصواب في الجواب أن عليا حين قتله كان أفضل الخلق لأن قتله إياه كان في زمن خلافته بعد ذهاب المشايخ الثلاثة
الرابع قوله صلى الله عليه وسلم (أخي وزيري وخير من أتركه بعدي يقضي ديني وينجز وعدي علي بن أبي طالب)
وأجيب بأنه لا دلالة للأخوة والوزارة على الأفضلية
وأما باقي الكلام فإنه يدل على أنه خير من يتركه قاضيا لدينه ومنجزا لوعده
وذلك لأن قوله يقضي مفعول ثان ل أتركه أو حال من مفعوله
وحينئذ فلا يتناول الكل
الخامس قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة (أما ترضين أني زوجتك من خير أمتي)
وأجيب بأنه لا يلزم منه كونه خيرا من كل وجه
ولعل المراد خيرهم لها باعتبار القرابة والشفقة ورعاية الموافقة
السادس قوله صلى الله عليه وسلم (خير من أتركه بعدي علي) وأجيب بما مر من أنه لا يلزم كونه خيرا من كل وجه بل جاز أن يكون ذلك في قضاء الدين وإنجاز الوعد
السابع قوله صلى الله عليه وسلم (أنا سيد العالمين وعلي سيد العرب)
قالت عائشة رضي الله عنها كنت عند النبي إذ أقبل علي فقال هذا سيد العرب
فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله ألست سيد العرب فقال أنا.. الحديث
أجيب بأن السيادة هي الارتفاع لا الأفضلية
وإن سلم فهو كالخبر لا عموم له
فلا يلزم كونه سيدا في كل شيء بل في بعض الأشياء
633

الثامن قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة (إن الله اطلع على أهل الأرض واختار منهم أباك فاتخذه نبيا ثم اطلع ثانية واختار منهم بعلك)
وأجيب بأنه لا عموم فيه فلعله اختاره للجهاد أو بعلية فاطمة
التاسع إنه صلى الله عليه وسلم لما آخى بين الصحابة اتخذه أخا لنفسه
وذلك يدل على علو رتبته وأفضليته
قيل لا دلالة لاتخاذه أخا على أفضليته إذ لعل ذلك لزيادة شفقته عليه للقرابة وزيادة الإلفة والخدمة
العاشر قوله صلى الله عليه وسلم بعد ما بعث أبا بكر وعمر إلى خيبر فرجعا منهزمين (لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار)
وأعطاها عليا فإنه روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أولا فرجع منهزما وبعث عمر
فرجع كذلك فغضب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك
فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه راية فقال (لأعطين..) إلى آخره
فتعرض له المهاجرون والأنصار
فقال صلى الله عليه وسلم (أين علي) فقيل إنه أرمد العين
فتفل في عينه ثم دفع إليه الراية
وذلك يدل على أن ما وصفه به لم يوجد في غيره ويلزم منه أن يكون أفضل ممن عداه
فقيل نفي هذا المجموع لا يجب أن يكون بنفي كل جزء منه بل يجوز أن يكون بنفي كونه كرارا غير فرار
ولا يلزم حينئذ الأفضلية مطلقا بل في كونه كرارا غير فرار
الحادي عشر قوله تعالى في حق النبي * (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) * والمراد بصالح المؤمنين علي كما نقله كثير
634

من المفسرين والمولى بمعنى الناصر
واختصاص علي من بين الصحابة بنصرة النبي يدل على أنه أفضل منهم لأن نصرته من أفضل العبادات
وأيضا بدأ الله بنفسه ثم بجبريل ثم بعلي فدل على كونه أفضل من غيره
فقيل دليلكم على أن المراد به علي معارض بما عليه الأكثر من العموم الشامل له ولغيره وبما عليه قوم من المفسرين كالضحاك وغيره من أن المراد أبو بكر وعمر
الثاني عشر قوله صلى الله عليه وسلم (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى ابن أبي طالب
فقد ساواه النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء المذكورين وهم أفضل من سائر الصحابة إجماعا فكذا من ساواهم
وأجيب بأنه تشبيه لعلي بكل واحد من هؤلاء الأنبياء في فضيلة واحدة ولا يدل على المساواة في كل فضيلة لكل واحد منهم وإلا كان علي أفضل من الأنبياء المذكورين لمشاركته ومساواته حينئذ لكل منهم في فضيلته واختصاصه بفضيلة الآخرين
والإجماع منعقد قبل ظهور المخالف الثابت على أن الأنبياء أفضل من الأولياء
المسلك الثاني ما يدل عليه أي على كونه أفضل تفصيلا وهو أن فضيلة المرء على غيره إنما تكون بما له من الكمالات
وقد اجتمع في علي منها ما تفرق في الصحابة
وهي أمور
الأول العلم
وعلي أعلم الصحابة لأنه كان في غاية الذكاء والحرص على التعلم ومحمد صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وأحرصهم على إرشاده
وكان في صغره في حجره وفي كبره ختنا له يدخل عليه كل وقت
وذلك الذي ذكرناه من صفاته وصفات معلمه يقتضي بلوغه في العلم كل مبلغ
وأما أبو بكر فاتصل بخدمته في كبره وكان يصل إليه في اليوم مرة ومرتين
635

ولقوله صلى الله عليه وسلم (أقضاكم علي)
والقضاء يحتاج إلى جميع العلوم فيكون أعلم فيها جميعا فلا يعارضه نحو أفرضكم زيد
وأقرؤكم أبي فإنهما يدلان على التفضيل في علم الفرائض وعلم القراءة فقط
ولقوله تعالى * (وتعيها أذن واعية) *
أي حافظة وأكثر المفسرين على أنه علي
ومقام المدح يقتضي الاختصاص بما مدح به ولأنه أي عليا نهى عمر عن رجم من ولدت لستة أشهر ونبهه علي أن قوله وتعالى * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين) * مع قوله * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * يدل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر
ونهاه أيضا عن رجم الحاملة التي أقرت عنده بالزنا
وقال إن كان لك سلطان عليها فما سلطانك على ما في بطنها فقال عمر في كل واحدة من القضيتين لولا علي لهلك عمر
ولقول علي لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم
والمقصود إحاطة علمه بما في هذه الكتب الأربعة لا لجواز الحكم بما نسخ
فلا يتجه عليه اعتراض أبي هاشم بأن التوراة منسوخة فكيف يجوز الحكم بها ويدل على ما ذكرناه قوله والله ما من آية نزلت في بر أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أي شيء نزلت
ويؤيده أن أول كلامه مشتمل على الفرض والتقدير
وليس يلزم منه جواز
636

الحكم كما تشهد به الفطرة السليمة
ولأن عليا ذكر في خطبته من أسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء والقدر ما لم يقع مثله في كلام سائر الصحابة فدل على أنه أعلم
ولأن جميع الفرق ينتسبون إليه في الأصول الكلامية والفروع الفقهية
وكذا المتصوفة في علم تصفية الباطن
فإن خرقة المشايخ تنتهي إليه
وابن العباس رئيس المفسرين تلميذه
وكان في الفقه والفصاحة في الدرجة القصوى
وعلم النحو إنما ظهر منه
وهو الذي تكلم فيه أولا
وأمر أبا الأسود الدؤلي بتدوينه كما هو المشهور
وكذا علم الشجاعة وممارسة الأسلحة
وكذا علم الفتوة والأخلاق فإنه كان أعلم بها من غيره
الثاني من تلك الأمور الزهد
اشتهر عنه أنه
مع اتساع أبواب الدنيا عليه ترك التنعم وتخشن في المآكل والملابس ولم يلتفت إلى الملاذ حتى قال للدنيا طلقتك ثلاثا
الثالث الكرم
قد اشتهر عنه أنه كان يؤثر المحاويج والمساكين على نفسه وأهله وكان ذلك عادة منه حتى تصدق في الصلاة بخاتمه ونزل في شأنه وما نزل على ما مر وتصدق أيضا في ليالي صيامه المنذور بما كان فطوره ونزل فيه * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *
الرابع الشجاعة
تواتر مكافحته للحروب ولقاء الأبطال وقتل أكابر الجاهلية حتى قال صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب (لضربة علي خير من عبادة الثقلين) وتواتر وقائعه في خيبر وغيره
الخامس حسن خلقه
قد اشتهر ذلك منه حتى نسب إلى الدعابة
وقد قال صلى الله عليه وسلم (حسن الخلق من الإيمان)
637

السادس مزيد قوته حتى قلع باب خيبر بيده
وقال (ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية لكن بقوة إلهية)
السابع نسبه وقربه من الرسول نسبا ومصاهرة
وهو غير خفي
وعباس وإن كان عم النبي صلى الله عليه وسلم لكن كان أخا عبد الله من الأب وأبو طالب أخاه من الأب والأم
الثامن اختصاصه بصاحبة كفاطمة سيدة نساء العالمين
وولدين كالحسن والحسين
وهما سيدا شباب أهل الجنة كما ورد في الحديث ثم أولاد أولاده ممن اتفق الأنام على فضلهم على العالمين حتى كان أبو يزيد مع علو طبقته سقاء في دار جعفر الصادق رضي الله عنه
وكان معروف الكرخي بواب دار علي بن موسى الرضا
هذا مما لا شبهة في صحته
فإن معروفا كان صبيا نصرانيا فأسلم على يد علي بن موسى وكان يخدمه
وأما أبو يزيد فلم يدرك جعفرا بل هو متأخر عن معروف
ولكنه كان يستفيض من روحانية جعفر
فلذلك اشتهر انتسابه إليه
وإذا اجتمعت هذه الصفات المذكورة في علي وجب أن يكون أفضل من غيره
والجواب عن الكل أنه يدل على الفضيلة
وأما الأفضلية فلا كيف ومرجعها أي مرجع الأفضلية التي نحن بصددها إلى أكثر الثواب والكرامة عند الله
وذلك يعود إلى الاكتساب للطاعات
والإخلاص فيها
وما يعود إلى نصرة الإسلام ومآثرهم في تقوية الدين
ومن المعلوم في كتب السير أن
638

أبا بكر لما أسلم اشتغل بالدعوة إلى الله فأسلم على يده عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون فتقوى بهم الإسلام
وكان دائما في منازعة الكفار وإعلاء دين الله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته
واعلم أن مسألة الأفضلية لا مطمع فيها في الجزم واليقين إذ دلالة العقل بطريق الاستقلال على الأفضلية بمعنى الأكثرية في الثواب بل مستندها النقل
وليست هذه المسألة مسألة بتعلق بها عمل فيكتفي فيها بالظن الذي هو كاف في الأحكام العملية بل هي مسألة علمية يطلب فيها اليقين
والنصوص المذكورة من الطرفين بعد تعارضها لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف لأنها بأسرها إما آحاد أو ظنية الدلالة مع كونها متعارضة أيضا
وليس الاختصاص بكثرة أسباب الثواب موجبا لزيادته قطعا بل
639

ظننا لأن الثواب تفضل من الله كما عرفته فيما سلف فله أن لا يثبت المطيع ويثبت غيره
وثبوت الإمامة وإن كان قطعيا لا يفيد القطع بالأفضلية بل غايته الظن
كيف ولا قطع بان إمامة المفضول لا تصح مع وجود الفاضل
لكنا وجدنا السلف قالوا بأن الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي
وحسن ظننا بهم يقضي بأنهم لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه فوجب علينا اتباعهم في ذلك القول
وتفويض ما هو الحق فيه إلى الله
قال الآمدي وقد يراد بالتفضيل اختصاص أحد الشخصين عن الآخر إما بأصل فضيلة لا وجود لها في الآخر كالعالم والجاهل وإما بزيادة فيها ككونه أعلم مثلا
وذلك أيضا غير مقطوع به فيما بين الصحابة إذ ما من فضيلة تبين اختصاصها بواحد منهم إلا ويمكن بيان مشاركة غيره له فيها
وبتقدير عدم المشاركة فقد يمكن بيان اختصاص الآخر بفضيلة أخرى
ولا سبيل إلى الترجيح بكثرة الفضائل لاحتماله أن تكون الفضيلة الواحدة أرجح من فضائل كثيرة إما لزيادة شرفها في نفسها أو لزيادة كميتها
فلا جزم بالأفضلية بهذا المعنى أيضا
المقصد السادس
المتن في إمامة المفضول مع وجود الفاضل
منعه قوم لأنه قبيح عقلا
فإن من ألزم الشافعي حضور درس بعض آحاد الفقهاء والعمل بفتواه عد سفيها قاضيا بغير قضية العقل
وجوزه الأكثرون
إذ لعله أصلح للإمامة من الفاضل
إذ المعتبر في ولاية كل أمر معرفة مصالحه ومفاسده وقوة القيام
640

بلوازمه
ورب مفضول في علمه وعمله هو بالزعامة أعرف وبشرائطها أقوم
وفصل قوم فقالوا نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب
وإلا وجب
الشرح
المقصد السادس في إمامة المفضول مع وجود الفاضل منعه قوم كالإمامية لأنه قبيح عقلا
فإن من ألزم الشافعي حضور درس بعض آحاد الفقهاء والعمل بفتواه عد سفيها قاضيا بغير قضية العقل
وجوزه الأكثرون وقالوا جعل المفضول رئيسا ومقتدى فيما هو مفضول فيه كما في المثال المذكور مستقبح
وأما في غيره كما فيما نحن بصدده فلا
إذ لعله أصلح للإمامة من الفاضل
إذ المعتبر في ولاية كل أمر والقيام به معرفة مصالحه ومفاسده وقوة القيام بلوازمه
ورب مفضول في علمه وعمله هو بالزعامة والرياسة أعرف وبشرائطها أقوم وعلى تحمل أعبائها أقدر
وفصل قوم في هذه المسألة فقالوا نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب كما إذا فرض أن العسكر والرعايا لا ينقادون للفاضل بل للمفضول
وإلا وجب
المقصد السابع
المتن إنه يجب تعظيم الصحابة كلهم والكف عن القدح فيهم لأن الله عظمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه
والرسول قد أحبهم وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة
ثم إن من تأمل سيرتهم ووقف على مآثرهم وجدهم في الدين
641

وبذلهم أموالهم وأنفسهم في نصرة الله ورسوله لم يتخالجه شك في عظم شأنهم وبراءتهم عما ينسب إليهم المبطلون من المطاعن
ومنعه ذلك عن الطعن فيهم ورأى ذلك مجانبا للإيمان
ونحن لا نلوث كتابنا بأمثال ذلك
وهي مذكورة في المطولات مع التقصي عنها
وأما الفتن والحروب الواقعة بين الصحابة فالهشامية أنكروا وقوعها
ولا شك أنه مكابرة للتواتر في قتل عثمان ووقعة الجمل وصفين
والمعترفون بوقوعها منهم من سكت عن الكلام
فإن أرادوا أنه اشتغال بما لا يعني فلا بأس به إذ قال الشافعي تلك دماء طهر الله عنها أيدينا فلنطهر عنها ألسنتنا
وإن أرادوا أنا لا نعلم أوقعت أولا فباطل لوقوعها قطعا
واتفق العمرية أصحاب عمرو بن عبيد الواصلية أصحاب واصل بن عطاء على رد شهادة الفريقين
قالوا لو شهد الجميع بباقة بقل لم نقبلها
أما العمرية فلأنهم يرون فسق الجميع وأما الواصلة فلأنهم يفسقون أحد الفريقين لا بعينه فلا يعلم عدالة شيء منهما
والذي عليه الجمهور
أن المخطيء قتلة عثمان ومحاربو علي لأنهما إمامان فيحرم القتل والمخالفة قطعا
642

الشرح
المقصد السابع أنه يجب تعظيم الصحابة كلهم والكف عن القدح فيهم لأن الله سبحانه وتعالى عظمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه كقوله * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) *
وقوله * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم) *
وقوله * (والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا) * وقوله * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) * إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عظم قدرهم وكرامتهم عند الله
والرسول قد أحبهم وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)
ومنها قوله (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)
ومنها قوله (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم
ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم
ومن آذاهم فقد آذاني
ومن آذاني فقد آذى الله
فيوشك أن يأخذه) إلى غير ذلك من الأحاديث المشهورة في الكتب الصحاح
ثم إن من تأمل سيرتهم ووقف على مآثرهم وجدهم في الدين وبذلهم أموالهم وأنفسهم في نصرة الله ورسوله لم يتخالجه شك في عظم شأنهم وبراءتهم عما ينسب إليهم المبطلون من المطاعن ومنعه ذلك أي تيقنه بحالهم عن الطعن فيهم
643

فرأى ذلك مجانبا للإيمان
ونحن لا نلوث كتابنا بأمثال ذلك
وهي مذكورة في المطولات مع التقصي عنها فارجع إليها إن أردت الوقوف عليها
وأما الفتن والحروب الواقعة بين الصحابة فالهشامية من المعتزلة أنكروا وقوعها
ولا شك أنه مكابرة للتواتر في قتل عثمان ووقعة الجمل وصفين
والمعترفون بوقوعها منهم من سكت عن الكلام فيها بتخطئة أو تصويب
وهم طائفة من أهل السنة
فإن أرادوا أنه اشتغال بما لا يعني فلا بأس به
إذ قال الشافعي وغيره من السلف تلك دماء طهر الله عنها أيدينا فلنطهر عنها ألسنتنا
وإن أرادوا أنا لا نعلم أوقعت أم لا فباطل لوقوعها قطعا
وأنت خبير بأن الشق الثاني من الترديد ينافي الاعتراف بوقوعها
واتفق العمرية أصحاب عمرو بن عبيد والواصلية أصحاب واصل بن عطاء على رد شهادة الفريقين
قالوا لو شهد الجميع بباقة بقلة لم نقبلها
أما العمرية فلأنهم يرون فسق الجميع من الفريقين
وأما الواصلية فلأنهم يفسقون أحد الفريقين لا بعينه فلا يعلم عدالة شيء منهما
والذي عليه الجمهور من الأمة هو أن المخطىء قتلة عثمان ومحاربو علي لأنهما إمامان
فيحرم القتال والمخالفة قطعا
إلا أن بعضه كالقاضي أبي بكر ذهب إلى أن هذه التخطئة لا تبلغ إلى حد التفسيق
ومنهم من ذهب إلى التفسيق كالشيعة وكثير من أصحابنا
644

خاتمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المتن أوجبه قوم ومنعه آخرون
والحق أنه تابع للمأمور به والمنهي عنه فيكون الأمر بالواجب واجبا وبالمندوب مندوبا والنهي عن الحرام واجبا وعن المكروه مندوبا
ثم إنه فرض كفاية لا فرض عين
فإذا قام به قوم سقط عن الآخرين لأن غرضه يحصل بذلك
وإذا ظن كل طائفة أنه لم يقم به الآخر أثم الكل بتركه
وهو عندنا من الفروع وعند المعتزلة من الأصول
ولوجوبه شرطان
أحدهما أن يظن أنه لا يصير موجبا لثوران فتنة
وإلا لم يجب
وكذا إذا ظن أنه لا يفضي إلى المقصود
بل يستحب حينئذ إظهارا لشعار الإسلام
وثانيهما عدم التجسس للكتاب والسنة
أما الكتاب فقوله تعالى * (ولا تجسسوا) *
وقوله * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا) * الآية
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم (من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته
645

ومن تتبع الله عورته فضحه على رؤوس الأشهاد الأولين والآخرين)
وقوله صلى الله عليه وسلم (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليسترها)
وعلم من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يتجسس عن المنكرات
بل يسترها ويكره إظهارها
جعلنا الله ممن اتبع الهدى
واقتدى برسول الله وأصحابه والصالحين من عباده إنه ولي الهداية والتوفيق
والحمد لله رب العالمين والصلاة على نبيه محمد وآله وأصحابه أجمعين
الشرح خاتمة للمرصد الرابع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أوجبه قوم ومنعه آخرون
والحق أنه تابع للمأمور به والمنهي عنه فيكون الأمر بالواجب واجبا وبالمندوب مندوبا
والنهي عن الحرام واجبا وعن المكروه مندوبا
ثم إنه فرض كفاية لا فرض عين
فإذا قام به قوم سقط عن الأخرين لأن غرضه يحصل بذلك
وإذا ظن كل طائفة أنه لم يقم به الآخر أثم الكل بتركه
وهو عندنا من الفروع
وعند المعتزلة من الأصول
قال الآمدي ذهب بعض الروافض إلى أنه لا يجب بل لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بنصب الإمام واستنابته كما في إقامة الحدود
وذهب من عداهم إلى وجوبه مطلقا ثم اختلفوا فذهب أهل السنة إلى وجوبه شرعا والجبائي وابنه إلى وجوبه عقلا ثم اختلفا فقال الجبائي يجب مطلقا فيما يدرك حسنه وقبحه عقلا
وقال أبو هاشم إن تضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دفع ضرر عن الآمر والناهي ولا يندفع عنه إلا بذلك وجب
وإلا فلا
والذي
646

يدل على وجوبه عندنا الإجماع
فإن القائل قائلان قائل بوجوبه مطلقا وقائل بوجوبه باستنابة الإمام
فقد اتفق الكل على وجوبه في الجملة والكتاب كقوله تعالى * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) *
والسنة كقوله صلى الله عليه وسلم (لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يستجاب)
وأما عدم توقف جوازه على استنابة الإمام فيدل عليه أن كل واحد من آحاد الصحابة كان يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا استنابة وإذن من الإمام
وكان ذلك شائعا ذائعا فيما بينهم
ولم يوجد نكير فكان إجماعا على جوازه
ولوجوبه بعد علمه بأن ما يأمر به معروف وأن ما ينهى عن منكر
وأن ذلك أوليس
من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها اعتقاد الآمر والمأمور والناهي والمنهي شرطان
أحدهما أن يظن أنه لا يصير موجبا لثوران فتنة
وإلا لم يجب
وكذا لا يجب إذا ظن أنه لا يفضي إلى المقصود بل يستحب حينئذ إظهارا لشعار الإسلام فوجوبه إنما هو إذا جوز حصول المقصود بلا إثارة فتنة
وثانيهما عدم التجسس والتفتيش عن أحوال الناس للكتاب والسنة
أما الكتاب فقوله تعالى * (ولا تجسسوا) * وقوله " إن الذين
647

يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا..) الآية
فإنه يدل على حرمة السعي في إظهار الفاحشة
ولا شك أن التجسس سعي في إظهارها
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم (من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته
ومن تتبع الله عورته فضحه على رؤوس الأشهاد الأولين والآخرين)
وقوله صلى الله عليه وسلم (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليسترها) بستر الله
فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حد الله
وأيضا قد علم من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يتجسس عن المنكرات بل يسترها ويكره إظهارها
جعلنا الله ممن اتبع الهدى واقتدى برسول الله وأصحابه والصالحين من عباده إنه ولي الهداية والتوفيق والحمد لله رب العالمين والصلاة على نبيه محمد وآله وأصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
648

تذييل
المتن في ذكر الفرق التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة
كلها في النار إلا واحدة
وهي ما أنا عليه وأصحابي)
وكان ذلك من معجزاته حيث وقع ما أخبر به
إعلم أن كبار الفرق الإسلامية ثمانية المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والنجارية والجبرية والمشبهة والناجية
الشرح تذييل للكتاب في ذكر الفرق التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة
كلها في النار إلا واحدة وهي ما أنا عليه وأصحابي)
وكان ذلك من معجزاته حيث وقع ما أخبر به
قال الآمدي كان المسلمون عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على عقيدة واحدة وطريقة واحدة إلا من كان يبطن النفاق ويظهر الوفاق ثم نشأ
649

الخلاف فيما بينهم أولا في أمور اجتهادية لا توجب إيمانا ولا كفرا
وكان غرضهم منها إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم وذلك كاختلافهم عند قول النبي في مرض موته (ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي) حتى قال عمر إن النبي قد غيبه الوجع حسبنا كتاب الله
وكثر اللغط في ذلك حتى قال النبي (قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع)
وكاختلافهم بعد ذلك في التخلف عن جيش أسامة فقال قوم بموجب الاتباع لقوله صلى الله عليه وسلم (جهزوا جيش أسامة
لعن الله من تخلف عنه)
وقال قوم بالتخلف انتظارا لما يكون من رسول الله في مرضه وكاختلافهم بعد ذلك في موته حتى قال عمر من قال إن محمدا قد مات علوته بسيفي
وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى بن مريم
وقال أبو بكر من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت
وتلا قوله تعالى * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) * الآية
فرجع القوم إلى قوله
وقال عمر كأني ما سمعت هذه الآية إلا الآن
وكاختلافهم بعد ذلك في موضع دفنه بمكة أو المدينة أو القدس حتى سمعوا ما روي عنه من أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون
وكاختلافهم في الإمامة وثبوت الإرث عن النبي كما مر
وفي قتال مانعي الزكاة حتى قال عمر كيف نقاتلهم وقد قال صلى الله عليه وسلم أمرت أن
650

أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم
فقال له أبو بكر أليس قد قال إلا بحقها
ومن حقها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
ولو منعوني عقالا مما أدوه إلى النبي لقاتلتهم عليه
ثم اختلافهم بعد ذلك في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة ثم في أمر الشورى حتى استقر الأمر على عثمان
ثم اختلافهم في قتله
وفي خلافة علي ومعاوية وما جرى في وقعة الجمل وصفين
ثم اختلافهم أيضا في بعض أحكام الفروعية كاختلافهم في الكلالة وميراث الجد مع الإخوة وعقل الأصابع وديات الأسنان.. إلى غير ذلك من الأحكام
وكان الخلاف يندرج ويترقى شيئا فشيئا إلى آخر أيام الصحابة حتى ظهر معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري وخالفوا في القدر وإسناد جميع الأشياء إلى تقدير الله
ولم يزل الخلاف يتشعب والآراء تتفرق حتى تفرق أهل الإسلام وأرباب المقالات إلى ثلاث وسبعين فرقة
وإذا عرفت هذا فنقول اعلم أن كبار الفرق الإسلامية ثمانية المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والجبرية والنجارية والمشبهة والناجية
651

الفرقة الأولى المعتزلة
المتن أصحاب واصل بن عطاء الغزال اعتزل عن مجلس الحسن البصري
وأخذ يقرر أن مرتكب الكبيرة أوليس
بمؤمن ولا كافر ويثبت له المنزلة بين المنزلتين
فقال الحسن قد اعتزل عنا واصل
ويلقبون بالقدرية لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم
وأنهم قالوا إن من يقول بالقدر خيره وشره من الله أولى باسم القدرية
ويرده قوله صلى الله عليه وسلم (القدرية مجوس هذه الأمة)
وقوله صلى الله عليه وسلم (هم خصماء الله في القدر)
ولقبوا أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد لقولهم بوجوب الأصلح ونفي الصفات القديمة
وقالوا جميعا بأن القدم أخص وصف الله وبنفي الصفات
وبأن كلامه مخلوق محدث وبأنه غير مرئي في الآخرة
والحسن والقبح عقليان ويجب عليه رعاية الحكمة في أفعاله وثواب المطيع والتائب
وعقاب صاحب الكبيرة
ثم افترقوا عشرين فرقة يكفر بعضهم بعضا منهم
1 - الواصلية قالوا بنفي الصفات وبالقدر وامتناع إضافة الشر إلى
652

الله وبالمنزلة بين المنزلتين وذهبوا إلى الحكم بتخطئة أحد الفريقين من عثمان وقاتليه
وجوزوا أن يكون عثمان لا مؤمنا ولا كافرا وأن يخلد في النار
وكذا علي ومقاتلوه
وحكموا بأن عليا وطلحة والزبير بعد وقعة الجمل لو شهدوا على باقة بقلة لم تقبل كشهادة المتلاعنين
2 - العمرية مثلهم
إلا أنهم فسقوا الفريقين
3 - الهذيلية أصحاب أبي الهذيل العلاف
قالوا بفناء مقدورات الله
وأن أهل الخلدين يصيرون إلى خمود
ولذلك سمى المعتزلة أبا الهذيل جهمي الآخرة
وأن الله عالم بعلم هو ذاته قادر بقدرة هي ذاته
ومريد بإرادة لا في محل
وبعض كلامه لا في محل وهو كن
وإرادته غير المراد
والحجة فيما غاب لا تقوم إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة
4 - النظامية أصحاب إبراهيم بن سيار النظام
قالوا لا يقدر الله أن يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح لهم فيه
ولا أن يزيد أو ينقص من ثواب وعقاب
وكونه مريدا لفعله أنه خالقه
ولفعل العبد أنه آمر به
والإنسان هو الروح والبدن آلتها
والأعراض أجسام
والجوهر مؤلف من الأعراض
والعلم مثل الجهل
والإيمان مثل الكفر
والله خلق الخلق دفعة والتقدم والتأخر في الكمون والظهور
ونظم القرآن أوليس
بمعجز
والتواتر يحتمل الكذب
والإجماع والقياس أوليس
بحجة
وبالطفرة
ومالوا إلى الرفض ووجوب النص
653

على الإمام وثبوته
لكن كتمه عمر
وقالوا من خان فيما دون نصاب الزكاة أو ظلم به لا يفسق
5 - الأسوارية أصحاب الأسواري
زادوا أن الله تعالى لا يقدر على ما أخبر بعدمه
أو علم عدمه
والإنسان قادر عليه
6 - الإسكافية أصحاب أبي جعفر الإسكاف
قالوا الله لا يقدر على ظلم العقلاء بخلاف ظلم الصبيان والمجانين
7 - الجعفرية أصحاب الجعفرين
ابن مبشر وابن حرب
زادوا أن في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس
والإجماع على حد الشرب خطأ
وسارق الحبة منخلع عن الإيمان
8 - البشرية هو بشر بن المعتمر
قالوا الأعراض من الألوان
والطعوم والروائح وغيرها تقع متولدة
والقدرة سلامة البنية
والله قادر على تعذيب الطفل ظالما
ولو عذبه لكان عاقلا عاصيا
وفيه تناقض
9 - المزدارية وهو أبو موسى عيسى بن صبيح المزدار
وهو تلميذ بشر
قال الله قادر على أن يكذب ويظلم
ويجوز أن يقع فعل من فاعلين
654

تولدا والناس قادرون على مثل القرآن وأحسن منه نظما
ومن لابس السلطان كافر لا يوارث
وكذا من قال بخلق الأعمال وبالرؤية
10 - الهشامية وهو هشام بن عمرو الغوطي
قالوا لا يطلق اسم الوكيل على الله لاستدعائه موكلا
ولا يقال ألف الله بين القلوب
والأعراض لا تدل على الله ولا رسوله ولا دلالة في القرآن على حلال وحرام
والإمامة لا تنعقد مع الاختلاف
والجنة والنار لم تخلقا بعد ولم يحاصر عثمان ولم يقتل
ومن أفسد صلاة افتتحها أولا فأول صلاته معصية منهي عنه
11 - الصالحية أصحاب الصالحي
جوزوا قيام العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر بالميت
وخلو الجوهر عن الأعراض
12 - الحابطية وهو أحمد بن حابط من أصحاب النظام
قالوا للعالم إلهان
قديم هو الله تعالى
ومحدث هو الذي يحاسب الناس في الآخرة
13 - الحدثية هو فضل الحدثي
زادوا التناسخ
وأن كل حيوان مكلف
655

14 - المعمرية هو معمر بن عباد السلمي
قالوا الله لا يخلق شيئا غير الأجسام
ولا يوصف بالقدم
ولا يعلم نفسه
والإنسان لا فعل له غير الإرادة
15 - الثمامية وهو ثمامة بن أشرس النميري
قالوا الأفعال المتولدة لا فاعل لها
والمعرفة متولدة من النظر
وأنها واجبة قبل الشرع
واليهود والنصارى والمجوس والزنادقة يصيرون ترابا لا يدخلون جنة ولا نارا
وكذا البهائم والأطفال
والاستطاعة سلامة الآلة
ومن لا يعلم خالقه من الكفار معذور
والمعارف كلها ضرورية
ولا فعل للإنسان غير الإرادة
وما عداها حادث بلا محدث والعالم فعل الله بطبعه
16 - الخياطية أصحاب أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط
قالوا بالقدر
وتسمية المعدوم شيئا وجوهرا وعرضا
وأن إرادة الله كونه غير مكره ولا كاره
وهي في أفعال نفسه الخلق
وفي أفعال عباده الأمر
وكونه سميعا بصيرا أنه عالم بمتعلقهما
وكونه إراداته أو غيره أنه يعلمه
17 - الجاحظية وهو عمرو بن بحر الجاحظ
قالوا المعارف كلها ضرورية ولا إرادة في الشاهد
إنما هي عدم السهو
ولفعل الغير الميل إليه
وأن الأجسام ذوات طبائع ويمتنع انعدام الجواهر والنار تجذب إليها أهلها
656

لا أن الله يدخلها
والخير والشر من فعل العبد والقرآن جسد ينقلب تارة رجلا وتارة امرأة
18 - الكعبية هو أبو القاسم بن محمد الكعبي
قالوا فعل الرب واقع بغير إرادته
ولا يرى نفسه ولا غيره إلا بمعنى أنه يعلمه
19 - الجبائية هو أبو علي الجبائي
قالوا إرادة الرب حادثة لا في محل
والعالم يفنى بفناء لا في محل
والله متكلم بكلام يخلقه في جسم ولا يرى في الآخرة
والعبد خالق لفعله
ومرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر
وإذا مات بلا توبة يخلد في النار
ولا كرامات للأولياء
ويجب لمن يكلف إكمال عقله وتهيئة أسباب التكليف له
والأنبياء معصومون
وشارك فيها أبا هاشم ثم انفرد بأن الله عالم بلا صفة ولا حاله توجب العالمية
وكونه سميعا بصيرا أنه حي لا آفة به
ويجوز الإيلام للعوض
20 - البهشمية انفرد أبو هاشم عن أبيه بإمكان استحقاق الذم العقاب بلا معصية وبأنه لا توبة عن كبيرة مع الإصرار على غيرها عالما بقبحه ولا مع عدم القدرة
ولا يتعلق علم بمعلومين على التفصيل
ولله أحوال لا معلومة ولا مجهولة ولا قديمة ولا حادثة
الشرح
الفرقة الأولى المعتزلة
أصحاب واصل بن عطاء الغزال
اعتزل
657

عن مجلس الحسن البصري
وذلك أنه دخل على الحسن رجل فقال يا إمام الدين ظهر في زماننا جماعة يكفرون صاحب الكبيرة
يعني وعيدية الخوارج وجماعة أخرى يرجئون الكبائر ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة فكيف تحكم لنا أن نعتقد في ذلك فتفكر الحسن
وقبل أن يجيب قال واصل أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ولا كافر مطلق
ثم قام إلى أسطوانة من إسطوانات المسجد وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب الحسن ما أجاب به من أن مرتكب الكبيرة أوليس
بمؤمن ولا كافر
ويثبت له المنزلة بين المنزلتين قائلا إن المؤمن اسم مدح والفاسق لا يستحق المدح فلا يكون مؤمنا وليس بكافر أيضا لإقراره بالشهادتين
ولو وجود سائر أعمال الخير فيه
فإذا مات بلا توبة
خلد في النار إذ أوليس
في الآخرة إلا فريقان
فريق في الجنة وفريق في السعير
لكن يخفف عليه ويكون دركته فوق دركات الكفار
فقال الحسن قد اعتزل عنا واصل فلذلك سمي هو وأصحابه معتزلة
ويلقبون بالقدرية لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم وإنكارهم القدر فيها
وأنهم قالوا إن من يقول بالقدر خيره وشره من الله أولى باسم القدرية منا وذلك لأن مثبت القدر أحق بأن ينسب إليه من نافيه فنقول كما يصح نسبة مثبته إليه يصح نسبة النافي أيضا إذا بالغ في نفيه لأن ملتبس به
ولا يمكن حمل القدرية على المثبتين له لأنه يرده قوله صلى الله عليه وسلم (القدرية مجوس هذه الأمة)
فإنه يقتضي مشاركتهم للمجوس فيما اشتهروا به من إثبات خالقين لا في قولهم بأن الله خلق شيئا ثم أنكره
والنافون له هم المشاركون لهم في تلك
658

الصفة المشهورة حيث يجعلون العبد خالقا لأفعاله وينسبون القبائح والشرور إليه دون الله سبحانه
ويرده أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حق القدرية (هم خصماء الله في القدر)
ولا خصومة للقائل بتفويض الأمور كلها إليه تعالى
إنما الخصومة لمن يعتقد أنه يقدر على ما لا يريد الله بل يكرهه
والمعتزلة لقبوا أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد
وذلك لقولهم بوجوب الأصلح ونفي الصفات القديمة يعني أنهم قالوا يجب على الله ما هو الأصلح لعباده ويجب أيضا ثواب المطيع فهو لا يخل بما هو واجب عليه أصلا وجعلوا هذا عدلا
وقالوا أيضا بنفي الصفات الحقيقة القديمة القائمة بذاته تعالى احترازا عن إثبات قدماء متعددة
وجعلوا هذا توحيدا
وقالوا أي المعتزلة جميعا بأن القدم أخص وصف الله لا يشاركه فيه ذات ولا صفة
وبنفي الصفات الزائدة على الذات
وبأن كلامه تعالى مخلوق محدث مركب من الحروف والأصوات وبأنه غير مرئي في الآخرة بالأبصار وبأن الحسن والقبح عقليان ويجب عليه تعالى رعاية الحكمة والمصلحة في أفعاله
وثواب المطيع والتائب وعقاب صاحب الكبيرة ثم أنهم بعد اتفاقهم على هذه الأمور المذكورة افترقوا عشرين فرقة يكفر بعضهم بعضا
منهم
الواصلية أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء قالوا بنفي الصفات
قال الشهر ستاني شرعت أصحابه في هذه المسألة بعد ما طالعوا كتب الفلاسفة وانتهى نظرهم إلى أن ردوا جميع الصفات إلى كونه عالما قادرا ثم حكموا بأنهما صفتان ذاتيتان اعتباريتان للذات القديمة كما قاله الجبائي أو حالان كما قاله أبو هاشم
وقالوا بالقدر أي إسناد أفعال العباد إلى قدرهم وامتناع إضافة الشر إلى الله
وقالوا بالمنزلة بين المنزلتين على ما
659

مر تفصيله
وذهبوا إلى الحكم بتخطئة أحد الفريقين من عثمان وقاتليه
وجوزوا أن يكون عثمان لا مؤمنا ولا كافرا وأن يخلد في النار
وكذا علي ومقاتلوه
وحكموا بأن عليا وطلحة والزبير بعد وقعة الجمل لو شهدوا على باقة بقلة لم تقبل شهادتهم كشهادة المتلاعنين
أي الزوج والزوجة
فإن أحداهما فاسق لا بعينه
العمرية مثلهم أي مثل الواصلية فيما ذكر من مذهبهم إلا أنهم فسقوا الفريقين في قصتي عثمان وعلي وهم منسوبون إلى عمرو بن عبيد وكان من رواة الحديث معروفا بالزهد تابع واصل بن عطاء في القواعد المذكورة
وزاد عليه تعميم التفسيق
الهذيلية أصحاب أبي الهذيل بن حمدان العلاف شيخ المعتزلة ومقرر طريقتهم
أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل
قالوا بفناء مقدورات الله وهذا قريب من مذهب جهم حيث ذهب إلى أن الجنة والنار تفنيان وقالوا إن حركات أهل الجنة والنار ضرورية مخلوقة لله إذ لو كانت مخلوقة لهم لكانوا مكلفين ولا تكليف في الآخرة
وأن أهل الخلدين تنقطع حركاتهم ويصيرون إلى خمود دائم وسكون ويجتمع في ذلك السكون اللذات لأهل الجنة والآلام لأهل النار
إنما ارتكب أبو الهذيل هذا القول لأنه التزم في مسألة حدوث العالم أنه لا فرق بين حوادث لا أول لها وبين حوادث لا آخر لها فقال لا أقول أيضا بحركات لا تنتهي إلى آخرها بل تصير إلى سكون
وتوهم أن ما لزمه في الحركة لا يلزمه في السكون
ولذلك سمى المعتزلة أبا الهذيل جهمي الآخرة
وقيل إنه قدري الأولى جهمي الآخرة
وقالوا إن الله عالم بعلم هو ذاته قادر بقدرة هي
660

ذاته حي بحياة هي ذاته وأخذوا هذا القول من الفلاسفة الذين يعتقدون أنه تعالى واحد من جميع جهاته لا تعدد فيه أصلا بل جميع صفاته راجعة إلى السلوب والإضافات
وقالوا هو مريد بإرادة حادثة لا في محل وأول من أحدث هذه المقالة هو العلاف
وقالوا في بعض كلامه تعالى لا في محل
وهو كن
وبعضه في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار
وذلك لأن تكوين الأشياء بكلمة كن فلا يتصور لها محل
وقالوا إرادته تعالى غير المراد
قيل لأن إرادته عبارة عن خلقه لشيء وخلقه لشيء مغاير لذلك الشيء بل الخلق عندهم قول لا في محل
أعني كلمة كن فتأمل
وقالوا الحجة بالتواتر فيما غاب لا تقوم إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر وقالوا ألا تخلو الأرض عن أولياء الله تعالى هم معصومون لا يكذبون ولا يرتكبون شيئا من المعاصي
فالحجة قولهم لا التواتر الذي هو كاشف عنه وتوفي العلاف سنة خمس وثلاثين ومائة
ومن أصحابه أبو يعقوب الشحام
النظامية أصحاب إبراهيم بن سيار النظام وهو من شياطين القدرية طالع كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة
661

قالوا لا يقدر الله أن يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح لهم فيه
ولا يقدر أن يزيد في الآخرة أو ينقص من ثواب وعقاب لأهل الجنة والنار
وتوهموا أن غاية تنزيهه تعالى عن الشرور والقبائح لا يكون إلا بسلب قدرته عليها
فهم في ذلك كمن هرب من المطر إلى الميزاب
وقالوا كونه تعالى مريدا لفعله أنه خالقه على وفق علمه وكونه مريدا لفعل العبد أنه آمر به
وقالوا الإنسان هو الروح
والبدن آلتها
وقد أخذه النظام من الفلاسفة إلا أنه مال إلى الطبيعيين منهم فقال الروح جسم لطيف سار في البدن سريان ماء الورد في الورد والدهن في اللبن والسمسم
وقالوا الأعراض كالألوان والطعوم والروائح وغيرها أجسام كما هو مذهب هشام بن الحكم فتارة يحكم بأن الأعراض أجسام وأخرى بأن الأجسام أعراض
وقالوا الجوهر مؤلف من الأعراض المجتمعة
والعلم مثل الجهل المركب
والإيمان مثل الكفر في تمام الماهية
وأخذوا هذه المقالة من الفلاسفة حيث حكموا بأن حقيقتهما حصول الصورة في القوة العاقلة والامتياز بينهما بأمر خارجي هو مطابقة تلك الصورة لمتعلقها وعدم مطابقتها له
وقالوا الله خلق الخلق أي المخلوقات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا
وغير ذلك
فلم يكن خلق آدم متقدما على خلق أولاده إلا أنه تعالى كمن بعض المخلوقات في بعض
والتقدم والتأخر في الكمون والظهور وهذه المقالة مأخوذة من كلام الفلاسفة القائلين بالخليط والكمون والبروز
662

وقالوا نظم القرآن أوليس
بمعجز إنما المعجز إخباره بالغيب من الأمور السالفة والآتية
وصرف الله العرب عن الاهتمام بمعارضته حتى لو خلاهم لأمكنهم الإتيان بمثله بل بأفصح منه
وقالوا التواتر الذي لا يحصى عدده يحتمل الكذب والإجماع
والقياس أوليس
شيء منهما بحجة
وقالوا بالطفرة ومالوا إلى الرفض ووجوب النص على الإمام وثبوته أي ثبوت النص من النبي على علي رضي الله عنه لكن كتمه عمر
وقالوا (من خان بالسرقة فيما دون نصاب الزكاة كمائة وتسعة وتسعين درهما وأربعة من الإبل مثلا أو ظلم به على غيره بالغضب والتعدي لا يفسق)
الأسوارية أصحاب الأسواري
وافقوا النظامية فيما ذهبوا إليه
وزادوا عليهم أن الله تعالى لا يقدر على ما أخبر بعدمه أو علم عدمه
والإنسان قادر عليه لأن قدرة العبد صالحة للضدين على سواء
فإذا قدر على أحدهما قدر على الآخر فتعلق العلم أو الإخبار من الله تعالى بأحد الطرفين لا يمنع مقدورية الآخر للعبد
الإسكافية أصحاب أبي جعفر الإسكاف
قالوا الله تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء بخلاف ظلم الصبيان والمجانين
فإنه يقدر عليه
الجعفرية أصحاب الجعفرين
جعفر ابن مبشر وابن حرب وافقوا الإسكافية
وزادوا عليهم متابعة لابن المبشر أن في فساق الأمة من هو
663

شر من الزنادقة والمجوس
والإجماع من الأمة على حد الشرب خطأ لأن المعتبر في الحد هو النص
وسارق الحبة فاسق منخلع عن الإيمان
البشرية هو بشر بن المعتمر كان من أفاضل علماء المعتزلة
وهو الذي أحدث القول بالتوليد
قالوا الأعراض من الألوان والطعوم والروائح وغيرها كالإدراكات من السمع والرؤية تقع أي يجوز أن تحصل متولدة في الجسم من فعل الغير كما إذا كان أسبابها من فعله
وقالوا القدرة والاستطاعة سلامة البنية والجوارح عن الآفات
وقالوا الله قادر على تعذيب الطفل ولو عذبه لكان ظالما لكنه لا يستحسن أن يقال في حقه ذلك بل يجب أن يقال ولو عذبه لكان الطفل بالغا عاقلا عاصيا مستحقا للعقاب
وفيه تناقص إذ حاصله أن الله يقدر أن يظلم
ولو ظلم لكان عادلا
المردارية هو أبو موسى عيسى بن صريح المردار
هذا لقبه
وهو من باب الافتعال من الزيارة
وهو تلميذ بشر أخذ العلم عنه وتزهد حتى سمي راهب المعتزلة
قال الله قادر على أن يكذب ويظلم
ولو فعل لكان إلها كاذبا ظالما تعالى الله عما قاله علوا كبيرا
ويجوز أن يقع فعل من فاعلين تولدا لا مباشرة
وقال الناس قادرون على مثل القرآن وأحسن منه نظما وبلاغة كما قاله النظام
وهو الذي بالغ في حدوث القرآن وكفر
664

القائل بقدمه قال ومن لابس السلطان كافر لا يوارث أي لا يرث ولا يورث منه
وكذا من قال بخلق الأعمال وبالرؤية كافرا أيضا
الهشامية وهو هشام بن عمرو الغوطي الذي كان مبالغا في القدر أكثر من مبالغة سائر المعتزلة
قالوا لا يطلق اسم الوكيل على الله مع وروده في القرآن لاستدعائه موكلا ولم يعلموا أن الوكيل في أسمائه بمعنى الحفيظ كما في قوله تعالى * (وما أنت عليهم بوكيل) *
ولا يقال ألف الله بين القلوب مع أنه مخالف لقوله تعالى * (ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) *
وقالوا الأعراض لا تدل على الله
ولا على رسوله أي هي لا تدل على كونه تعالى خالقا لها
ولا تصلح دلالة على صدق مدعي الرسالة
إنما الدال هو الأجسام
ويلزمهم على ذلك أن فلق البحر وقلب العصا حية وإحياء الموتى لا يكون دليلا على صدق من ظهر على يده
وقالوا لا دلالة في القرآن على حلال وحرام
والإمامة لا تنعقد مع الاختلاف بل لا بد من اتفاق الكل
قيل ومقصودهم الطعن في إمامة أبي بكر إذ كانت بيعته بلا اتفاق من جميع الصحابة لأنه بقي في كل طرف طائفة على خلافه
والجنة والنار لم تخلقا بعد إذ لا فائدة في وجودهما الآن
ولم يحاصر عثمان ولم يقتل مع كونه متواترا
ومن أفسد صلاة في آخرها وقد افتتحها أولا بشروطها فأول صلاته معصية منهي عنه مع كونه مخالفا للإجماع
الصالحية أصحاب الصالحي ومن مذهبهم أنهم جوزوا قيام العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر بالميت
ويلزمهم جواز كون الناس مع
665

اتصافهم بهذه الصفات أمواتا
وأن لا يكون الباري تعالى حيا
وجوزوا خلو الجوهر عن الأعراض كلها
الحابطية هو أحمد بن حابط نسب أتباعه إلى أبيه
وهو من أصحاب النظام
قالوا للعالم إلهان
قديم هو الله تعالى
ومحدث هو المسيح
والمسيح هو الذي يحاسب الناس في الآخرة وهو المراد بقوله * (وجاء ربك والملك صفا صفا) *
وهو الذي يأتي في ظلل من الغمام
وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله خلق آدم على صورته)
وقوله (يضع الجبار قدمه في النار)
وإنما سمى المسيح لأنه أبدع الأجسام وأحدثها
قال الآمدي وهؤلاء كفار مشركون
الحدثية هو فضل الحدثي ومذهبهم مذهب الحابطية إلا أنهم زادوا التناسخ
وأن كل حيوان مكلف
فإنهم قالوا إن الله سبحانه وتعالى أبدع الحيوانات عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار وخلق فيهم معرفته والعلم به
وأسبغ عليهم نعمه ثم ابتلاهم وكلفهم شكر نعمته فأطاعه بعض فأقرهم في دار النعيم التي ابتدأهم فيها وعصاه بعض في الجميع فأخرجهم من تلك الدار إلى دار العذاب وهي النار وأطاعه بعض في البعض دون البعض فأخرجهم إلى دار الدنيا وكساهم هذه الأجساد الكثيفة على صور مختلفة كصورة الإنسان وسائر الحيوانات وابتلاهم بالبأساء والضراء والآلام
666

واللذات على مقادير ذنوبهم
فمن كان معاصيه أقل وطاعاته أكثر كانت صورته أحسن
وآلامه أقل
ومن كان بالعكس فبالعكس
ولا يزال يكون الحيوان في الدنيا في صورة بعد صورة ما دامت معه ذنوبه
وهذا عين القول بالتناسخ
المعمرية هو معمر بن عباد السلمي
قالوا الله لم يخلق شيئا غير الأجسام أما الأعراض فتخترعها الأجسام إما طبعا كالنار للإحراق والشمس للحرارة
وإما اختيارا كالحيوان للألوان
قيل ومن العجب أن حدوث الأجسام وفناءها عند معمر من الأعراض فكيف يقول إنها من فعل الأجسام
وقالوا لا يوصف الله بالقدم لأنه يدل على التقادم الزماني
والله سبحانه أوليس
بزماني ولا يعلم الله نفسه وإلا اتحد العالم والمعلوم
وهو ممتنع
والإنسان لا فعل له غير الإرادة مباشرة كانت أو توليدا بناء على ما ذهبوا إليه من مذهب الفلاسفة في حقيقة
الثمامية هو ثمامة بن أشرس النميري كان جامعا بين سخافة الدين وخلاعة النفس
قالوا الأفعال المتولدة لا فاعل لها إذ لا يمكن إسنادها إلى فاعل السبب لاستلزامه إسناد الفعل إلى الميت فيما إذا رمى سهما إلى شخص ومات قبل وصوله إليه ولا إلى الله تعالى لاستلزامه صدور القبيح عنه
والمعرفة متولدة من النظر
وأنها واجبة قبل الشرع
واليهود
667

والنصارى والمجوس والزنادقة يصيرون في الآخر ترابا
لا يدخلون جنة ولا نارا
وكذا البهائم والأطفال
والاستطاعة سلامة الآلة وهي قبل الفعل
ومن لا يعلم خالقه من الكفار معذور
والمعارف كلها ضرورية
ولا فعل للإنسان غير الإرادة
وما عداها حادث بلا محدث
والعالم فعل الله بطبعه كأنهم أرادوا به ما يقوله الفلاسفة من الإيجاب ويلزمه قدم العالم
وكان ثمامة في زمان المأمون وله عنده منزلة
الخياطية أصحاب أبي الحسين بن أبي عمر الخياط
قالوا بالقدر أي إسناد الأفعال إلى العباد
وتسمية المعدوم شيئا أي ثابتا متقررا في حال العدم
وجوهرا وعرضا أي الذوات المعدومة الثابتة متصفة بصفات الأجناس حالة العدم
وأن إرادة الله كونه قادرا غير مكره ولا كاره
وهي أي إرادته تعالى في أفعال نفسه الخلق أي كونه خالقا لها
وفي أفعال عباده الأمر بها
وكونه سميعا بصيرا معناه أنه عالم بمتعلقهما
وكونه يرى ذاته أو غيره معناه أنه يعلمه
الجاحظية هو عمرو بن بحر الجاحظ كان من الفضلاء البلغاء في أيام المعتصم والمتوكل
وقد طالع كتب الفلاسفة وروج كثيرا من مقالاتهم بعباراته البليغة اللطيفة
668

قالوا المعارف كلها ضرورية
ولا إرادة في الشاهد أي في الواحد منا
إنما هي إرادته لفعله عدم السهو أي كونه عالما به غير ساه عنه وإرادته لفعل الغير هي الميل أي ميل النفس إليه
وقالوا إن في الأجسام ذوات طبائع مختلفة لها آثار مخصوصة كما ذهب إليه الفلاسفة الطبيعيون ويمتنع انعدام الجواهر
إنما تتبدل الأعراض والجواهر باقية على حالها كما قيل في الهيولى
والنار تجتذب إليها أهلها لا أن الله يدخلها أي يدخلهم فيها
والخير والشر من فعل العبد
والقرآن جسد ينقلب تارة رجلا وتارة امرأة
الكعبية هو أبو القاسم بن محمد الكعبي كان من معتزلة بغداد وتلميذ الخياط
قالوا فعل الرب واقع بغير إرادته
فإذا قيل إنه تعالى مريد لأفعاله أريد أنه خالق لها
وإذا قيل مريد لأفعال غيره أريد أنه آمر بها ولا يرى نفسه ولا غيره إلا بمعنى أنه يعلمه كما ذهب إليه الخياطية
الجبائية هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي من معتزلة البصرة
قالوا إرادة الرب حادثة لا في محل
والله تعالى مريد بتلك الإرادة موصوف بها
والعالم يفنى بفناء لا في محل عند إرادة الله تعالى فناء العالم والله متكلم بكلام مركب من حروف وأصوات يخلقه الله تعالى في جسم
والمتكلم بذلك الكلام من فعل الكلام وخلقه لا من قام به وحل فيه
ولا يرى الله في الآخرة
والعبد خالق لفعله
ومرتكب الكبيرة لا مؤمن
669

ولا كافر
وإذا مات بلا توبة يخلد في النار
ولا كرامات للأولياء
ويجب على الله لمن يكلف أي للمكلف إكمال عقله وتهيئة أسباب التكاليف له
أي يجب عليه اللطف بالمكلف ورعاية ما هو أصلح له
والأنبياء معصومون
وشارك أبو علي فيها أي في الأحكام المذكورة أبو هاشم
ثم انفرد عنه بأن الله عالم لذاته بلا إيجاب صفة هي علم ولا حالة توجب العالمية
وكونه تعالى سميعا بصيرا معناه أنه حي لا آفة به
ويجوز الإيلام للعوض
البهشمية انفرد أبو هاشم عن أبيه بإمكان استحقاق الذم والعقاب بلا معصية مع كونه مخالفا للإجماع والحكمة
وبأنه لا توبة عن كبيرة مع الإصرار على غيرها عالما بقبحه
ويلزمه أن لا يصح إسلام الكافر مع أدنى ذنب أصر عليه
ولا توبة مع عدم القدرة فلا تصح توبة الكاذب عن كذبه بعد ما صار أخرس ولا توبة
والزاني عن زناه بعد ما جب
ولا يتعلق علم واحد بمعلومين على التفصيل
ولله أحوال لا معلومة ولا مجهولة ولا قديمة ولا حادثة
قال الآمدي هذا تناقض إذ لا معنى لكون الشيء حادثا إلا أنه أوليس
قديما
ولا معنى لكونه مجهولا إلا أنه أوليس
معلوما على أن إثبات حالة له غير معلومة مما لا سبيل إليه
670

الفرقة الثانية الشيعة
المتن وهم اثنتان وعشرون فرقة يكفر بعضهم بعضا
أصولهم ثلاث فرق غلاة وزيدية
وإمامية
أما الغلاة فثمانية عشر
1 - السبائية قال عبد الله بن سبأ لعلي أنت الإلة حقا
قال وأنه لم يمت وإنما قتل ابن ملجم شيطانا وعلي في السحاب والرعد صوته والبرق سوطه
وأنه ينزل إلى الأرض ويملؤها عدلا
وهؤلاء يقولون عند سماع الرعد وعليك السلام يا أمير المؤمنين
2 - الكاملية قال أبو كامل بكفر الصحابة بترك بيعة علي
وبكفر علي بترك طلب الحق
وبالتناسخ
وأن الإمامة نور يتناسخ
وقد تصير في شخص نبوة
3 - البيانية قال بيان بن سمعان التميمي الله على صورة إنسان
671

ويهلك كله إلا وجهه
وروح الله حلت في علي ثم في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم
ثم في بيان
4 - المغيرية قال مغيرة بن سعيد العجلي الله جسم عن صورة إنسان من نور على رأسه تاج
وقلبه منبع الحكمة
ولما أراد أن يخلق الخلق تكلم بالاسم الأعظم فطار فوقع تاجا على رأسه
ثم كتب على كفه أعمال العباد فغضب من المعاصي فعرق فحصل منه بحران
أحدهما ملح مظلم والآخر حلو نير
ثم اطلع في البحر النير فأبصر فيه ظله فانتزعه فجعل منه الشمس والقمر
وأفنى الباقي نفيا للشريك
ثم خلق الخلق من البحرين فالكفر من المظلم
والإيمان من النير
ثم أرسل محمدا والناس في ضلال
وعرض الأمانة
وهي منع علي عن الإمامة
على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها
وحملها الإنسان
وهو أبو بكر حملها بأمر عمر بشرط أن يجعل الخلافة بعده له
وقوله تعالى * (كمثل الشيطان) * الآية
نزلت في أبي بكر وعمر
والإمام المنتظر زكريا بن محمد بن علي بن الحسين
وهو حي في جبل حاجز
وقيل المغيرة
5 - الجناحية قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين الأرواح تتناسخ وكان روح الله في آدم ثم في شيت ثم
672

الأنبياء والأئمة حتى انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة ثم إلى عبد الله هذا
وهو حي بجبل بأصفهان
وأنكروا القيامة
واستحلوا المحرمات
6 - المنصورية هو أبو منصور العجلي
قالوا الإمامة صارت لمحمد بن علي بن الحسين
عرج إلى السماء
ومسح الله رأسه بيده وقال يا بني اذهب فبلغ عني
وهو الكسف
والرسل لا تنقطع والجنة رجل أمرنا بموالاته وهو الإمام
والنار بالضد
وهو ضده
وكذا الفرائض والمحرمات
الخطابية هو أبو الخطاب الأسدي
قالوا الأئمة أنبياء
وأبو الخطاب نبي ففرضوا طاعته بل الأئمة آلهة
والحسنان ابنا الله
وجعفر إله لكن أبو الخطاب أفضل منه ومن علي
ويستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم
والإمام بعد قتله معمر
والجنة نعيم الدنيا
والنار آلامها
واستباحوا المحرمات وترك الفرائض
وقيل الإمام بزيغ
وأن كل مؤمن يوحى إليه
وفيهم من هو خير من جبريل وميكائيل وهم لا يموتون بل يرفعون إلى الملكوت
وقيل هو عمرو بن بنان العجلي إلا أنهم يموتون
7 - الغرابية قالوا محمد بعلي أشبه من الغراب بالغراب
فغلط جبريل من علي إلى محمد فيلعنون صاحب الريش يعنون به جبريل
9 - الذمية ذموا محمدا لأن عليا هو الإله
وقد بعثه ليدعو الناس إليه فدعا إلى نفسه
وقيل بإلهيتهما
ولهم في التقديم خلاف
وقيل بإلهية خمسة
673

أشخاص هما وفاطمة والحسنان
ولا يقولون فاطمة تحاشيا عن وصمة التأنيث
10 - الهشامية أصحاب الهشامين
ابن الحكم وابن سالم قالوا الله جسد فقال ابن الحكم هو طويل عريض عميق متساو وهو كالسبيكة البيضاء يتلألأ من كل جانب وله لون وطعم ورائحة ومجسة
وليست هذه الصفات المذكورة غيره
ويقوم ويقعد
ويعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل عنه إليه
وهو سبعة أشبار بأشبار نفسه
مماس للعرش بلا تفاوت بينهما
وإرادته حركة هي لا عينه ولا غيره
وإنما يعلم الأشياء بعد كونها بعلم لا قديم ولا حادث
وكلامه صفة له لا مخلوق ولا غيره
والأعراض لا تدل على الباري
والأئمة معصومون دون الأنبياء
وقال ابن سالم هو على صورة إنسان
وله وفرة سوداء
ونصفه الأعلى مجوف
11 - الزرارية هو زرارة بن أعين
قالوا بحدوث الصفات وقبلها لا حياة
12 - اليونسية هو يونس بن عبد الرحمن القمي
قال الله تعالى على العرش تحمله الملائكة
وهو أقوى منها كالكركي يحمله رجلاه
13 - الشيطانية هو محمد بن النعمان الملقب بشيطان الطاق
قال إنه نور غير جسماني على صورة إنسان
وإنما يعلم الأشياء بعد كونها
674

14 - الرزامية قالوا الإمامة لمحمد بن الحنفية ثم ابنه عبد الله ثم علي بن عبد الله بن عباس ثم أولاده إلى المنصور
ثم حل الإله في أبي مسلم
وأنه لم يقتل
واستحلوا المحارم
15 - المفوضية قالوا الله فوض خلق الدنيا إلى محمد
وقيل إلى علي
16 - البدائية جوزوا البداء على الله
17 - النصيرية والإسحاقية قالوا حل الله في علي
18 - الإسماعيلية ولقبوا بسبعة ألقاب
بالباطنية لقولهم بباطن الكتاب دون ظاهره
وبالقرامطة لأن أولهم حمدان قرمط
وهي إحدى قرى واسط
وبالحرمية لإباحتهم المحرمات والمحارم
وبالسبعية لأنهم زعموا أن النطقاء بالشرائع
أي الرسل سبعة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ومحمد المهدي سابع النطقاء
وبين كل اثنين سبعة أئمة يتممون شريعته
ولا بد في كل عصر من سبعة بهم يقتدي وبهم يهتدي إمام يؤدي عن الله
وحجة يؤدي عنه
وذو مصة يمص العلم من الحجة
وأبواب وهم الدعاة فأكبر برفع درجات المؤمنين
ومأذون يأخذ العهود على الطالبين
ومكلب يحتج ويرغب إلى الداعي ككلب الصائد
ومؤمن يتبعه
قالوا ذلك كالسماوات والأرضين وأيام الأسبوع
والسيارة وهي المدبرات أمرا كل منها سبعة
675

وبالبابكية إذ اتبع طائفة منهم بابك الخرمي بآذربيجان
وبالمحمرة للبسهم الحمرة في أيام بابك
أو تسميتهم المسلمين حميرا
وبالإسماعيلية لإثباتهم الإمامة لإسماعيل بن جعفر
وقيل لانتساب زعيمهم إلى محمد بن إسماعيل
وأصل دعوتهم على إبطال الشرائع لأن الغيارية وهم طائفة من المجوس راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم ورأسهم حمدان قرمط
وقيل عبد الله بن ميمون القداح
ولهم في الدعوة مراتب
الذوق وهو تفرس حال المدعو هل هو قابل للدعوة أم لا ولذلك منعوا إلقاء البذر في السبخة والتكلم في بيت فيه سراج
ثم التأنيس باستمالة كل أحد بما يميل إليه من زهد وخلاعة
ثم التشكيك في أركان الشريعة بمقطعات السور وقضاء صوم الحائض دون قضاء صلاتها
والغسل من المني دون البول
وعدد الركعات ليتعلق قلبهم بمراجعتهم فيها
676

ثم الربط أخذ الميثاق منه بحسب اعتقاده ألا يفشي لهم سرا وحوالته على الإمام في حل ما أشكل عليه
ثم التدليس وهو دعوى موافقة أكابر الدين والدنيا لهم حتى يزداد ميله
ثم التأسيس وهو تمهيد مقدمات يقبلها المدعو
ثم الخلع وهو الطمأنينة إلى إسقاط الأعمال البدنية
ثم السلخ عن الاعتقادات
وحينئذ يأخذون في استعجال اللذات وتأويل الشرائع
ومن مذهبهم أن الله لا موجود ولا معدوم
وربما خلطوا كلامهم بكلام الفلاسفة
وحين ظهر الحسن بن محمد الصباح جدد الدعوة على أنه الحجة
وحاصل كلامه ما تقدم في الاحتجاج إلى المعلم
وأما الزيدية فثلاث فرق
1 - الجارودية أصحاب أبي الجارود قالوا بالنص على علي وصفا لا تسمية والصحابة كفروا بمخالفته
والإمامة بعد الحسن والحسين شورى في أولادهما
فمن خرج منهم بالسيف وهو عالم شجاع فهو إمام
واختلفوا في الإمام المنتظر
أهو محمد بن عبد الله وأنه لم يقتل أو محمد بن القاسم ابن علي أو يحيى بن عمير صاحب الكوفة
2 - السليمانية هو سليمان بن جرير
قالوا الإمامة شورى
وإنما
677

تنعقد برجلين من خيار المسلمين
وأبو بكر وعمر إمامان
وإن أخطأ الأمة في البيعة لهما
وكفروا عثمان وطلحة والزبير وعائشة
3 - البتيرية هو بتير الثومي
توقفوا في عثمان
وأما الإمامية فقالوا بالنص الجلي على إمامة علي وكفروا الصحابة ووقعوا فيهم وساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق
واختلفوا في المنصوص عليه بعده
وتشعب متأخروهم إلى معتزلة وإلى إخبارية
وإلى مشبهة وسلفية وملتحقة بالفرق الضالة
الشرح
الفرقة الثانية من كبار الفرق الإسلامية الشيعة
أي الذين شايعوا عليا وقالوا إنه الإمام بعد رسول الله بالنص إما جليا وإما خفيا
واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده
وإن خرجت فإما بظلم يكون من غيرهم وإما بتقية منه أو من أولاده وهم اثنتان وعشرون فرقة يكفر بعضهم بعضا
أصولهم ثلاث فرق غلاة وزيدية وإمامية
أما الغلاة فثمانية عشر
السبائية قال عبد الله بن سبأ لعلي أنت الإله حقا فنفاه علي إلى المدائن
وقيل إنه كان يهوديا فأسلم
وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى مثل ما قال في علي
وهو أول من أظهر القول بوجوب إمامة علي
ومنه تشعبت أصناف الغلاة
وقال ابن سبأ وأنه لم يمت علي ولم يقتل
وإنما قتل ابن ملجم شيطانا تصور بصورة علي
وعلي في السحاب
والرعد صوته والبرق سوطه
وأنه ينزل بعد هذا إلى الأرض
678

ويملأها عدلا
وهؤلاء يقولون عند سماع الرعد عليك السلام يا أمير المؤمنين
الكاملية قال أبو كامل بكفر الصحابة بترك بيعة علي وبكفر علي بترك طلب الحق
وقال بالتناسخ في الأرواح عند الموت
وأن الإمامة نور يتناسخ أي ينتقل من شخص إلى آخر
وقد تصير في شخص نبوة بعد ما كانت في شخص آخر إمامة
البيانية قال بيان بن سمعان التميمي النهدي اليمني الله على صورة إنسان ويهلك كله إلا وجهه وروح الله حلت في علي ثم في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بيان
المغيرية قال مغيرة بن سعيد العجلي الله جسم على صورة إنسان بل رجل من نور
على رأسه تاج من نور وقلبه منبع الحكمة
ولما أراد أن يخلق الخلق تكلم بالاسم الأعظم فطار فوقع تاجا على رأسه
وذلك قوله تعالى * (سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى) *
ثم إنه كتب على كفه أعمال العباد فغضب من المعاصي فعرق فحصل منه أي من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم
والآخر حلو نير ثم اطلع في البحر النير فأبصر فيه ظله فانتزعه
أي انتزع بعضا من ظله فجعل وخلق منه الشمس والقمر
وأفنى الباقي من الظل نفيا للشريك وقال لا ينبغي أن يكون معي إله آخر ثم خلق الخلق من البحرين
فالكفر أي الكفار من المظلم
والإيمان أي المؤمنين من النير ثم أرسل محمدا والناس في ضلالة وعرض الأمانة
وهي منع علي عن الإمامة
على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان وهو أبو بكر حملها بأمر عمر حين ضمن أن يعينه على ذلك بشرط أن يجعل أبو بكر الخلافة بعده له
وقوله تعالى * (كمثل الشيطان) * الآية
نزلت
679

في حق أبي بكر وعمر وهؤلاء يقولون الإمام المنتظر هو زكريا ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي
وهو حي مقيم في جبل حاجر إلى أن يؤمر بالخروج
وقيل المغيرة فإنه لما قتل اختلف أصحابه فقال بعضهم بانتظاره وقال آخرون بانتظار زكريا كما كان هو قائلا به
الجناحية قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين الأرواح تتناسخ
وكان روح الله في آدم ثم في شيث ثم الأنبياء والأئمة حتى انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة ثم إلى عبد الله
هذا وقالت الجناحية هو عبد الله حي مقيم بجبل بأصفهان
وسيخرج
وأنكروا القيامة
واستحلوا المحرمات من الخمر والميتة والزنا وغيرها
المنصورية هو أبو منصور العجلي عزا نفسه إلى أبي جعفر محمد الباقر
فلما تبرأ منه وطرده ادعى الإمامة لنفسه
قالوا الإمامة صارت لمحمد بن علي بن الحسين ثم انتقلت عنه إلى أبي منصور
وزعموا أن أبا منصور عرج إلى السماء
ومسح الله رأسه بيده
وقال يا بني اذهب فبلغ عني
ثم أنزله إلى الأرض
وهو الكسف المذكور في قوله تعالى * (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم) *
وكان قبل ادعائه الإمامة لنفسه يقول الكسف علي بن أبي طالب
وقالوا الرسل لا تنقطع أبدا
والجنة رجل أمرنا بموالاته وهو الأمام والنار بالضد أي رجل أمرنا ببغضه
وهو ضده أي ضد الإمام وخصمه كأبي بكر وعمر
وكذا الفرائض والمحرمات
فإن الفرائض أسماء رجال أمرنا بموالاتهم
والمحرمات أسماء رجال أمرنا بمعاداتهم
ومقصودهم بذلك أن من ظفر برجل منهم فقد ارتفع عنه التكليف
والخطاب لوصوله إلى الجنة
680

الخطابية هو أبو الخطاب الأسدي عزا نفسه إلى أبي عبد الله جعفر الصادق
فلما علم منه غلوه في حقه تبرأ منه
فلما اعتزل عنه ادعى الأمر لنفسه
قالوا الأئمة أنبياء
وأبو الخطاب نبي ففرضوا طاعته
أي زعموا أن الأنبياء فرضوا على الناس طاعة أبي الخطاب
بل زادوا على ذلك وقالوا الأئمة آلهة
والحسنان ابنا الله
وجعفر الصادق إله ولكن أبو الخطاب أفضل منه ومن علي
وهؤلاء يستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم
والإمام بعد قتله أي قتل أبي الخطاب معمر
أي ذهب إلى ذلك جماعة منهم فعبدوا معمرا كما كانوا يعبدون أبا الخطاب
وقالوا الجنة نعيم الدنيا والنار آلامها والدنيا لا تفنى
واستباحوا المحرمات وترك الفرائض
وقيل الإمام بعد قتله بزيغ أي ذهب إلى ذلك طائفة أخرى منهم
وقالوا إن كل مؤمن يوحى إليه مستمسكين بقوله تعالى * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) * أي بوحي من الله إليه
وفيهم أي في أصحاب بزيغ من هو خير من جبريل وميكائيل
وهم لا يموتون أبدا
بل إذا بلغوا النهاية يرفعون إلى الملكوت
وقيل هو أي الإمام بعد أبي الخطاب عمير بن بنان العجلي
إلا أنهم يموتون أي يقولون بذلك
الغرابية قالوا محمد بعلي أشبه من الغراب بالغراب والذباب بالذباب فبعث الله جبريل إلى علي فغلط جبريل في تبلغ الرسالة من علي إلى محمد قال شاعرهم
681

(غلط الأمين فجازها عن حيدره
*) فيلعنون صاحب الريش
يعنون به جبريل
الذمية
لقبوا بذلك لأنهم ذموا محمدا لأن عليا هو الإله
وقد بعثه ليدعو الناس إليه فدعا إلى نفسه
وقيل بإلهيتهما
أي قالت طائفة منهم بإلهية محمد وعلي
ولهم في التقديم خلاف فبعضهم يقدم عليا في أحكام الإلهية وبعضهم يقدم محمدا
وقيل بإلهية خمسة أشخاص يسمون أصحاب العباء
هما وفاطمة والحسنان
وهؤلاء زعموا أن هذه الخمسة شيء واحد
وأن الروح حالة فيهم بالسوية لا مزية لواحد منهم على آخر
ولا يقولون فاطمة تحاشيا عن وصمة التأنيث
الهشامية أصحاب الهشامين ابن الحكم وابن سالم الجواليقي
قالوا الله جسد اتفقوا على ذلك ثم اختلفوا
فقال ابن الحكم هو طويل عريض عميق متساو طوله وعرضه وعمقه
وهو كالسبيكة البيضاء الصافية يتلألأ من كل جانب
وله لون وطعم ورائحة ومجسة
بفتح الميم هو الموضع الذي يجسه الطبيب كأنهم يريدون بها النبض
قالوا وليست هذه الصفات المذكورة غيره أي غير ذاته تعالى
ويقوم الله ويقعد ويتحرك ويسكن
وله مشابهة بالأجسام لولاها لم تدل عليه ويعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل عنه إليه وهو سبعة أشبار بأشبار نفسه مماس للعرش بلا تفاوت بينهما أي على وجه لا يفضل أحدهما على الآخر
وإرادته تعالى حركة هي لا عينه ولا غيره
وإنما يعلم الأشياء بعد كونها لا قبله بعلم لا قديم ولا حادث لأنه صفة
والصفة لا توصف
وكلامه صفة له لا مخلوق ولا غيره لما مر
والأعراض لا تدل على الباري إنما الدال عليه هو الأجسام لما عرفت من مشابهته إياها
والأئمة معصومون دون الأنبياء لأن
682

النبي يوحى إليه فيتقرب به إلى الله بخلاف الإمام
فإنه لا يوحى إليه فوجب أن يكون معصوما
وقال ابن سالم هو على صورة إنسان له يد ورجل وحواس خمس وأنف وأذن وعين وفم
وله وفرة سوداء ونصفه الأعلى مجوف
والأسفل مصمت إلا أنه أوليس
لحما ودما
الزرارية هو زرارة بن أعين
قالوا بحدوث الصفات لله
وقبلها أي قبل حدوثها له لا حياة
فلا يكون حينئذ حيا ولا عالما ولا قادرا ولا سميعا ولا بصيرا
اليونسية هو يونس بن عبد الرحمن القمي
قال الله تعالى على العرش تحمله الملائكة
وهو أقوى منها أي من الملائكة مع كونه محمولا لهم كالكرسي يحمله رجلاه وهو أقوى منهما
الشيطانية هو محمد بن النعمان الملقب بشيطان الطاق
قال إنه تعالى نور غير جسماني ومع ذلك هو على صورة إنسان
وإنما يعلم الأشياء بعد كونها
الرزامية قالوا الإمامة بعد علي لمحمد بن الحنفية ثم ابنه عبد الله ثم علي بن عبد الله بن عباس ثم أولاده إلى المنصور ثم حل الإله في أبي
683

مسلم
وأنه لم يقتل واستحلوا المحارم وتركوا الفرائض
ومنهم من ادعى الإلهية في المقنع
المفوضة قالوا الله فوض خلق الدنيا إلى محمد أي الله خلق محمدا وفوض إليه خلق الدنيا فهو الخلاق لها بما فيها
وقيل فوض ذلك إلى علي
البدائية جوز البدء على الله تعالى
أي جوزوا أن يريد الله شيئا ثم يبدو له أي يظهر عليه ما لم يكن ظاهرا له
ويلزمه أن لا يكون الرب عالما بعواقب الأمور
النصيرية والإسحاقية قالوا حل الله في علي
فإن ظهور الروحاني في الجسد الجسماني مما لا ينكر
أما في جانب الخير فكظهور جبريل بصورة البشر
وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان في صورة الإنسان
قالوا ولما كان علي أولاده أفضل من غيرهم وكانوا مؤيدين بتأييدات متعلقة بباطن الأسرار قلنا ظهر الحق تعالى بصورتهم ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم
ومن ههنا أطلقنا الآلهة على الأئمة
ألا ترى أن النبي قاتل المشركين وعليا قاتل المنافقين
فإن النبي يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر
الإسماعيلية
ولقبوا بسبعة ألقاب
بالباطنية لقولهم بباطن الكتاب دون ظاهره فإنهم قالوا للقرآن ظاهر وباطن
والمراد منه باطنه وظاهره المعلوم من اللغة ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر
والمتمسك بظاهره معذب بالمشقة في الاكتساب
وباطنه مؤد إلى ترك العمل بظاهره
وتمسكوا في ذلك بقوله تعالى * (فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) *
وهذا القول أخذوه من المنصورية والجناحية
ولقبوا بالقرامطة لأن أولهم الذي دعا الناس إلى مذهبهم رجل
684

يقال له حمدان قرمط
وهي إحدى قرى واسط
وبالخرمية لإباحتهم المحرمات والمحارم
وبالسبعية لأنهم زعموا أن النطقاء بالشرائع
أي الرسل سبعة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ومحمد المهدي سابع النطقاء
وبين كل اثنين من النطقاء سبعة أئمة يتممون شريعته ولا بد في كل عصر من سبعة بهم يقتدى
وبهم يهتدى في الدين
وهم متفاوتون في الرتب إمام يؤدي عن الله وهو غاية الأدلة إلى دين الله وحجة يؤدي عنه أي عن الإمام ويحمل علمه ويحتج به له
وذو مصة يمص العلم من الحجة أي يأخذه منه
فهذه ثلاثة
وأبواب
وهم الدعاة فأكبر أي داع أكبر هو رابعهم يرفع درجات المؤمنين
وداع مأذون يأخذ العهود على الطالبين من أهل الظاهر فيدخلهم في ذمة الإمام ويفتح لهم باب العلم والمعرفة
وهو خامسهم
ومكلب قد ارتفعت درجته في الدين ولكن لم يؤذن له في الدعوة بل في الاحتجاج على الناس فهو يحتج ويرغب إلى الداعي ككلب الصائد حتى إذا احتج على أحد من أهل الظاهر وكسر عليه مذهبه بحيث رغب عنه
وطلب الحق أداه المكلب إلى الداعي المأذون ليأخذ عليه العهود
قال الآمدي وإنما سموا مثل هذا مكلبا لأن مثله مثل الجارح يحبس الصيد على كلب الصائد على ما قال تعالى * (وما علمتم من الجوارح مكلبين) * وهو سادسهم
ومؤمن يتبعه أي يتبع الداعي
وهو الذي أخذ عليه العهد وآمن وأيقن بالعهد ودخل في ذمة الإمام وحزبه
وهو سابعهم
قالوا ذلك الذي ذكرناه كالسماوات والأرض والبحار وأيام الأسبوع
والكواكب السيارة
وهي المدبرات أمرا
كل منها سبعة كما هو المشهور
ولقبوا بالبابكية إذ اتبع طائفة منهم بابك الخرمي في الخروج بأذربيجان
685

وبالمحمرة للبسهم الحمرة في أيام بابك أو تسميتهم المخالفين لهم من المسلمين حميرا
وبالإسماعيلية لإثباتهم الإمامة لإسماعيل بن جعفر الصادق وهو أكبر أبنائه
وقيل لانتساب زعيمهم إلى محمد بن إسماعيل
وأصل دعوتهم على إبطال الشرائع لأن الغيارية وهم طائفة من المجوس راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم
وذلك أنهم اجتمعوا فتذاكروا ما كان عليه أسلافهم من الملك وقالوا لا سبيل لنا إلى دفع المسلمين بالسيف لغلبتهم واستيلائهم على الممالك
لكنا نحتال بتأويل شرائعهم إلى ما يعود إلى قواعدنا ونستدرج به الضعفاء منهم
فإن ذلك يوجب اختلافهم واضطراب كلمتهم
ورأسهم في ذلك حمدان قرمط
وقيل عبد الله بن ميمون القداح
ولهم في الدعوة واستدراج الطعام مراتب الذوق وهو تفرس حال المدعو هل هو قابل للدعوة أم لا ولذلك منعوا إلقاء البذر في السبخة أي دعوة ما أوليس
قابلا لها
ومنعوا التكلم في بيت فيه سراج أي في موضع فيه فقيه أو متكلم
ثم التأنيث باستمالة كل أحد من المدعوين بما يميل إليه بهواه وطبعه من زهد وخلاعة
فإن كان يميل إلى الزهد زينه في عينه وقبح نقيضه
وإن كان يميل إلى الخلاعة زينها وقبح نقيضها حتى يحصل له الأنس به
ثم التشكيك في أركان الشريعة بمقطعات السور بأن يقول ما معنى الحروف المقطعة في أوائل السور وقضاء صوم الحائض دون قضاء
686

صلاتها أي لم يجب أحدهما دون الآخر
ووجوب الغسيل من المني دون البول وعدد الركعات أي لم كان بعضها أربعا وبعضها ثلاثا وبعضها اثنتين إلى غير ذلك من الأمور التعبدية
وإنما يشككون في هذه الأشياء ويطوون الجواب عنها ليتعلق قلبهم بمراجعتهم فيها
ثم الربط
وهو أمران الأول أخذ الميثاق منه بأن يقولوا قد جرت سنة الله بأخذ المواثيق والعهود ويستدلوا على ذلك بقوله تعالى * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) * ثم يأخذوا من كل أحد ميثاقه بحسب اعتقاده أن لا يفشي لهم سرا
والثاني حوالته على الإمام في حل ما أشكل عليه من الأمور التي ألقاها إليه فإنه العالم بها ولا يقدر عليها أحد حتى يترقى من درجته وينتهي إلى الإمام
ثم التدليس
وهو دعوى موافقة أكابر الدين والدنيا لهم حتى يزداد ميله إلى ما دعاه إليه
ثم التأسيس
وهو تمهيد مقدمات يقبلها ويسلمها المدعو وتكون سائقة له إلى ما يدعوه إليه من الباطل
ثم الخلع
وهو الطمأنينة إلى إسقاط الأعمال البدنية
ثم السلخ عن الاعتقادات الدينية
وحينئذ أي وحين إذا آل حال المدعو إلى ذلك يأخذون في الإباحة والحث على استعجال اللذات وتأويل الشرائع
كقولهم الوضوء عبارة عن موالاة الإمام
والتيمم هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة
والصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) *
والاحتلام عبارة عن إفشاء سر من أسرارهم إلى من أوليس
من أهله بغير قصد منه
والغسل تجديد العهد
والزكاة تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من
687

الدين
والكعبة النبي
والباب علي والصفا هو النبي
والمروة علي والميقات الإيناس والتلبية إجابة الدعوة
والطواف بالبيت سبعا موالاة الأئمة السبعة
والجنة راحة الأبدان عن التكاليف
والنار مشقتها بمزاولة التكاليف إلى غير ذلك من خرافاتهم
ومن مذهبهم أن الله لا موجود ولا معدوم ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز وكذلك في جميع الصفات
وذلك لأن الإثبات الحقيقي يقتضي المشاركة بينه وبين الموجودات
وهو تشبيه
والنفي المطلق يقتضي مشاركته للمعدومات
وهو تعطيل
بل هو واهب هذه الصفات ورب المتضادات
وربما خلطوا كلامهم بكلام الفلاسفة فقالوا إنه تعالى أبدع بالأمر العقل التام وبتوسطه أبدع النفس التي ليست تامة فاشتاقت النفس إلى العقل التام مستفيضة منه فاحتاجت إلى الحركة من النقصان إلى الكمال
ولن تتم الحركة إلا بآلتها فحدثت الأجرام الفلكية وتحركت حركة دورية بتدبير النفس فحدثت بتوسطه الطبائع البسيطة العنصرية وبتوسط البسائط حدثت المركبات من المعادن والنباتات وأنواع الحيوانات وأفضلها الإنسان لاستعداده لفيض الأنوار القدسية عليه واتصاله بالعالم العلوي
وحيث كان العالم العلوي مشتملا على عقل كامل كلي ونفس ناقصة كلية تكون مصدرا للكائنات وجب أن يكون في العالم السفلي عقل كامل يكون وسيلة إلى النجاة وهو الرسول الناطق ونفس ناقصة تكون نسبتها إلى الناطق في تعريف طرق النجاة نسبة النفس الأولى إلى العقل الأول فيما يرجع إلى إيجاد
688

الكائنات وهي الإمام الذي هو وصي الناطق وكما أن تحرك الأفلاك بتحريك العقل والنفس كذلك تحرك النفس إلى النجاة بتحريك الناطق والوصي
وعلى هذا في كل عصر وزمان
قال الآمدي هذا ما كان عليه قدماؤهم
وحين ظهر الحسن بن محمد الصباح جدد الدعوة على أنه الحجة الذي يؤدي عن الإمام الذي لا يجوز خلو الزمان عنه
وحاصل كلامه ما تقدم في الاحتجاج إلى المعلم
ثم إنه منع العوام عن الخوض في العلوم والخواص عن النظر في الكتب المتقدمة كيلا يطلع على فضائحهم ثم أنهم تفلسفوا ولم يزالوا مستهزئين بالنواميس الدينية والأمور الشرعية
وتحصنوا بالحصون
وكثرت شوكتهم
وخافت ملوك السوء منهم فأظهروا إسقاط التكاليف وإباحة المحرمات وصاروا كالحيوانات العجماوات بلا ضابط ديني ولا وازع شرعي
نعوذ بالله من الشيطان وأتباعه
وأما الزيدية وهم المنسوبون إلى زيد بن علي زين العابدين فثلاث فرق
الجارودية أصحاب أبي الجارود الذي سماه الباقر سرحوبا وفسره بأنه شيطان يسكن البحر
قالوا بالنص من النبي في الإمامة على علي وصفا لا تسمية
والصحابة كفروا بمخالفته وتركهم الاقتداء بعلي بعد النبي
والإمامة بعد الحسن والحسين شورى في أولادهما فمن خرج منهم بالسيف وهو عالم شجاع فهو إمام كما مر
واختلفوا في الإمام المنتظر أهو محمد بن عبد الله ابن الحسين بن علي الذي قتل بالمدينة في أيام المنصور فذهب
689

طائفة منهم إلى ذلك
وزعموا أنه لم يقتل أو هو محمد بن القاسم بن علي ابن الحسين صاحب طالقان الذي أسر في أيام المعتصم وحمل إليه فحبسه في داره حتى مات فذهب طائفة أخرى إليه وأنكروا موته
أو هو يحيى بن عمير صاحب الكوفة من أحفاد زيد بن علي دعا الناس إلى نفسه واجتمع عليه خلق كثير وقتل في أيام المستعين بالله فذهب إليه طائفة ثالثة وأنكروا قيله
السليمانية هو سليمان بن جرير
قالوا الإمامة شورى فيما بين الخلق وإنما تنعقد برجلين من خيار المسلمين
وتصح إمامة المفضول مع وجود الأفضل
وأبو بكر وعمر إمامان
وإن أخطأ الأمة في البيعة لهما مع وجود علي لكنه خطأ لم ينته إلى درجة الفسق
وكفروا عثمان وطلحة والزبير وعائشة
البتيرية هو كثير النواء
وافقوا السليمانية إلا أنهم توقفوا في عثمان
هذه فرق الزيدية وأكثرهم في زماننا مقلدون يرجعون في الأصول إلى الاعتزال وفي الفروع إلى مذهب أبي حنيفة إلا في مسائل قليلة
وأما الإمامية فقالوا بالنص الجلي على إمامة علي
وكفروا الصحابة ووقعوا فيهم
وساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق
واختلفوا في المنصوص عليه بعده
والذي استقر عليه رأيهم أنه ابنه موسى الكاظم وبعده علي بن موسى الرضا وبعده محمد بن علي التقي وبعده علي بن محمد النقي
وبعده الحسن بن علي الزكي وبعده محمد بن الحسن
وهو الإمام المنتظر
ولهم
690

في كل من المراتب التي بعد جعفر اختلافات أوردها الإمام في آخر المحصل وكانت الإمامية أولا على مذهب أئمتهم حتى تمادى بهم الزمان فاختلفوا وتشعب متأخروهم إلى معتزلة إما وعيدية أو تفضيلية
وإلى إخبارية يعتقدون ظاهر ما ورد به الأخبار المتشابهة
وهؤلاء ينقسمون إلى مشبهة يجرون المتشابهات على أن المراد بها ظواهرها
وسلفية يعتقدون أن ما أراد الله بها حق بلا تشبيه كما عليه السلف
وإلى ملتحقة بالفرق الضالة
691

الفرقة الثالثة الخوارج
المتن وهم سبع فرق 1 - المحكمة وهم الذين خرجوا على علي عند التحكيم وكفروه
وهم إثنا عشر ألف رجل
قالوا من نصب من قريش وغيرهم وعدل فهو إمام
ولم يوجبوا نصب الإمام
وكفروا عثمان وأكثر الصحابة ومرتكب الكبيرة
2 - البيهسية هو بيهس بن الهيصم بن جابر
قالوا الإيمان الإقرار والعلم بالله وبما جاء به الرسول
فمن وقع فيما لا يعرف أحلال هو أم حرام فهو كافر لوجوب الفحص عليه
وقيل لا حتى يرفع إلى الإمام فيحده
وقيل لا حرام إلا ما في قوله تعالى " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما.. " الآية
وقيل إذا كفر الإمام كفرت الرعية حاضرا أو غائبا
والأطفال كآبائهم إيمانا وكفرا
والسكر من شراب حلال لا يؤاخذ صاحبه بما قال وفعل
وقيل هو مع الكبيرة كفر
ووافقوا القدرية
3 - الأزارقة هو نافع بن الأزرق
قالوا كفر علي بالتحكيم
692

وابن ملجم محق
وكفرت الصحابة
والقعدة عن القتال وتحرم التقية
ويجوز قتل أولاد المخالفين ونسائهم
ولا رجم على الزاني ولا حد للقذف على النساء
وأطفال المشركين في النار مع آبائهم
ويجوز نبي كان كافرا
ومرتكب الكبيرة كافر
4 - النجدات هو نجدة بن عامر الحنفي
منهم العاذرية عذروا بالجهالات في الفروع
وقالوا لا حاجة إلى الإمام
ويجوز لهم نصبه
وخالفوا الأزارقة في غير التكفير
5 - الأصفرية أصحاب زياد بن الأصفر
يخالفون الأزارقة في تكفير القعدة وفي إسقاط الرجم وفي أطفال الكفار
ومنع التقية في القول
وقالوا المعصية الموجبة للحد لا يسمى صاحبها إلا بها
وما لا حد فيه لعظمه كترك الصلاة والصوم كفر
وقيل تزوج المؤمنة من الكافر في دار التقية دون العلانية
6 - الأباضية هو عبد الله بن أباض
قالوا مخالفونا كفار غير مشركين يجوز مناكحتهم وغنيمة أموالهم من سلاحهم وكراعهم عند الحرب دون غيره
ودارهم دار الإسلام إلا معسكر سلطانهم
وتقبل شهادة مخالفيهم عليهم
ومرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن
والاستطاعة قبل الفعل
وفعل العبد مخلوق لله تعالى
ويفنى العالم كله بفناء أصل التكليف
ومرتكب الكبيرة
693

كافر كفر نعمة لا ملة
وتوقفوا في أولاد الكفار وفي النفاق أهو شرك وجواز بعثة رسول بلا دليل
وتكليف اتباعه
وكفروا عليا وأكثر الصحابة وافترقوا أربعا
الأولى الحفصية هو أبو حفص بن أبي المقدام
زادوا أن بين الإيمان والشرك معرفة الله تعالى
فمن عرف الله وكفر بما سواه أو بارتكاب كبيرة فكافر لا مشرك
الثانية اليزيدية
أصحاب يزيد بن أنيسة
قالوا سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب في السماء ويترك شريعة محمد إلى ملة الصابئة
وأصحاب الحدود مشركون
وكل ذنب شرك
الثالثة الحارثية أصحاب أبي الحارث الأباضي خالفوا الأباضية في القدر
وفي الاستطاعة قبل الفعل
الرابعة القائلون بطاعة لا يراد بها الله
7 - العجاردة هو عبد الرحمن بن عجرد
زادوا على النجدات وجوب البراءة عن الطفل حتى يدعي الإسلام
ويجب دعاؤه إليه إذا بلغ
وأطفال المشركين في النار
وهم عشر فرق
الأولى الميمونية هو ميمون بن عمران
قالوا بالقدر والاستطاعة قبل الفعل وأن الله يريد الخير دون الشر
ولا يريد المعاصي
وأطفال الكفار في الجنة
ويروى عنهم تجويز نكاح البنات للبنين وللبنات ولأولاد الأخوة والأخوات وإنكار سورة يوسف
694

الثانية الحمزية
هو حمزة بن أدرك
وافقوهم إلا أنهم قالوا أطفال الكفار في النار
الثالثة الشعيبية
هو شعيب بن محمد
وهو كالميمونية
إلا في القدر
الرابعة الحازمية
هو حازم بن عاصم
وافقوا الشعيبية
الخامسة الخلفية
أصحاب خلف
أضافوا القدر خيره وشره إلى الله
وحكوا بأن أطفال المشركين في النار بلا عمل وشرك
السادسة الأطرافية
عذروا أهل الأطراف فيما لم يعرفوه
ووافقوا أهل السنة في أصولهم وفي نفي القدر
السابعة المعلومية هم كالحازمية إلا أن المؤمن عندهم من عرف الله بجميع أسمائه
وفعل العبد مخلوق لله تعالى
الثامنة المجهولية
قالوا يكفي معرفته تعالى ببعض أسمائه
وفعل العبد مخلوق له
التاسعة الصلتية
هو عثمان بن أبي الصلت
وقيل الصلت من الصامت
هم كالعجاردة
لكن قالوا من أسلم واستجار بنا توليناه
وبرئنا من أطفاله
وروي عن بعضهم أن الأطفال لا ولاية لهم ولا عداوة
العاشرة الثعالبة
هو ثعلب بن عامر
قالوا بولاية الأطفال
وقد نقل عنهم أن الأطفال لا حكم لهم ويرون أخذ الزكاة من العبيد إذا استغنوا وإعطاءها
لهم إذا افتقروا
وتفرقوا أربع فرق
الأولى الأخنسية
أصحاب أخنس بن قيس
هم كالثعالبة إلا أنهم
695

توقفوا فيمن هو في دار التقية إلا من علم حاله
وحرموا الاغتيال بالقتل والسرقة
ونقل عنهم تزويج المسلمات من مشركي قومهم
الثانية المعبدية
هو معبد بن عبد الرحمن
خالفوهم في التزويج من المشركين
وخالفوا الثعالبة في زكاة العبيد
الثالثة الشيبانية
هو شيبان بن سلمة
قالوا بالجبر ونفي القدرة الحادثة
الرابعة المكرمية
هو مكرم العجلي
قالوا تارك الصلاة كافر لجهله بالله
وكذا كل كبيرة
وموالاة الله ومعاداته لعباده باعتبار العاقبة
فكذا نحن فإذن فرق الخوارج عشرون
الشرح
الفرقة الثالثة من كبار الفرق الإسلامية الخوارج وهم سبع فرق المحكمة وهم الذين خرجوا على علي عند التحكيم وما جرى بين الحكمين
وكفروه
وهم إثنا عشر ألف رجل كانوا أهل صلاة وصيام
وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم (يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم
وصومه في جنب صومهم
ولكن لا يجازو إيمانهم تراقيهم)
قالوا من نصب من قريش وغيرهم وعدل فيما بين الناس فهو إمام
وإن غير السيرة وجار وجب أن يعزل أو يقتل
ولم يوجبوا نصب الإمام بل جوزوا أن لا يكون في العالم إمام
وكفروا عثمان وأكثر الصحابة ومرتكب الكبيرة
البيهسية هو بيهس بن الهيصم بن جابر
قالوا الإيمان هو الإقرار والعلم بالله وبما جاء به الرسول
فمن وقع فيما لا يعرف أحلال هو أم حرام فهو كافر
لوجوب الفحص عليه حتى يعلم الحق
696

وقيل لا يكفر حتى يرفع أمره إلى الإمام فيحده
وكل ما أوليس
فيه حد فهو مغفور
وقيل لا حرام إلا ما في قوله تعالى " قل لا أحد في ما أوحي إلي محرما.. " الآية
وقيل إذا كفر الإمام كفرت الرعية حاضرا أو غائبا
وقالوا الأطفال كآبائهم إيمانا وكفرا
وقال بعضهم السكر من شراب حلال لا يؤاخذ صاحبه بما قال وفعل بخلاف السكر من شراب حرام
وقيل هو أي السكر مع الكبيرة كفر
ووافقوا القدرية في إسناد أفعال العباد إليهم
الأزارقة هو نافع بن الأزرق قالوا كفر علي بالتحكيم
وهو الذي أنزل فيه * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام) *
وابن ملجم محق في قتله
وهو الذي أنزل فيه * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) * وفيه قال مفتي الخوارج وزاهدها عمران ابن حطان
697

(يا ضربة من تقي ما أراد بها
* إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا)
(إني لأذكره يوما فأحسبه
* أو في البرية عند الله ميزانا) وكفرت الصحابة أي عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس وسائر المسلمين معهم وقضوا بتخليدهم في النار
وكفروا القعدة عن القتال وإن كانوا موافقين لهم في الدين
وقالوا تحرم التقية في القول والعمل
ويجوز قتل أولاد المخالفين ونسائهم
ولا رجم على الزاني المحصن إذ هو غير مذكور في القرآن
ولا حد للقذف على النساء
أي القاذف إن كان امرأة لم يحد لأن المذكور في القرآن هو صيغة الدين وهو للمذكرين
قال الآمدي وأسقطوا حد قذف المحصنين من الرجال دون النساء
أي المقذوف المحصن إن كان رجلا لا يحد قاذفه
وإن كان امرأة يحد قاذفها
وهذا أظهر
وأطفال المشركين في النار مع آبائهم
ويجوز نبي كان كافرا وإن علم كفره بعد النبوة
ومرتكب الكبيرة كافر
النجدية هو نجدة بن عامر الحنفي منهم العاذرية الذين عذروا الناس بالجهالات في الفروع
وذلك أن نجدة وجه ابنه مع جيش إلى أهل القطيف فقتلوهم وأسروا نساءهم ونكحوهن قبل القسمة وأكلوا من الغنيمة قبلها أيضا
فلما رجعوا إلى نجدة أخبره بما فعلوا فقال لم يسعكم ما فعلتم فقالوا لم نعلم أنه لا يسعنا فعذرهم بجهالتهم فاختلف أصحابه بعد ذلك
فمنهم من تابعه وقالوا الدين أمران
698

أحدهما معرفة الله ورسوله وتحريم دماء المسلمين
أي الموافقين لهما
والإقرار بما جاء به الرسول جملة
فهذا لا يعذر فيه الجاهل به
والثاني ما سوى ذلك
والجاهل به معذور
فهؤلاء منهم سموا عاذرية
وقالوا أي النجدات كلهم لا حاجة للناس إلى الإمام
بل الواجب عليهم رعاية النصفة فيما بينهم
ويجوز لهم نصبه إذ رأوا أن تلك الرعاية لا تتم إلا بإمام يحملهم عليها
وخالفوا الأزارقة في غير التكفير
أي وافقوهم في التكفير
وخالفوهم في الأحكام الباقية
الأصفرية أصحاب زياد بن الأصفر
يخالفون الأزارقة في تكفير القعدة عن القتال إذا كانوا موافقين لهم في الدين
وفي إسقاط الرجم فإنهم لم يسقطوه
وفي أطفال الكفار أي لم يكفروا أطفالهم
ولم يقولوا بتخليدهم في النار
ومنع التقية في القول أي جوزوا التقية في القول دون العمل
وقالوا المعصية الموجبة للحد لا يسمى صاحبها إلا بها فيقال مثلا سارق أو زان أو قاذف
ولا يقال كافر
وما لا حد في لعظمه كترك الصلاة والصوم كفر
فيقال لصاحبه كافر
وقيل تزوج المؤمنة أي المعتقدة لما هو دينهم من الكافر المخالف لهم في دار التقية دون دار العلانية
الأباضية هو عبد الله بن أباض
قالوا مخالفونا من أهل القبلة
699

كفار غير مشركين يجوز مناكحتهم وغنيمة أموالهم من سلاحهم وكراعهم حلال عند الحرب دون غيره
ودارهم دار الإسلام إلا معسكر سلطانهم
وقالوا تقبل شهادة مخالفيهم عليهم
ومرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن بناء على أن الأعمال داخلة في الإيمان
والاستطاعة قبل الفعل
وفعل العبد مخلوق لله تعالى
ويفنى العالم كله بفناء أصل التكليف
ومرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة لا ملة
وتوقفوا في تكفير أولاد الكفار وتعذيبهم
وتوقفوا في النفاق أهو شرك أم لا وفي جواز بعثة رسول بلا دليل
ومعجزة وتكليف اتباعه فيما يوحى إليه
أي ترددوا أن ذلك جائز أو لا
وكفروا عليا وأكثر الصحابة وافترقوا فرقا أربعا
الأولى الحفصية
هو أبي حفص بن أبي المقدام
زادوا على الأباضية أن بين الإيمان والشرك معرفة الله تعالى
فإنها خصلة متوسطة بينهما
فمن عرف الله وكفر بما سواه من رسول أو جنة أو نار أو بارتكاب كبيرة فكافر لا مشرك
الثانية اليزيدية
أصحاب يزيد بن أنيسة زادوا على الأباضية أن قالوا سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب في السماء وينزل عليه جملة واحدة
ويترك شريعة محمد إلى ملة الصابئة المذكورة في القرآن
700

وقالوا أصحاب الحدود مشركون
وكل ذنب شرك كبيرة كانت أو صغيرة
الثالثة الحارثية
أصحاب أبي الحارث الأباضي
خالفوا الأباضية في القدر أي كون أفعال العباد مخلوقه صلى الله عليه وسلم تعالى
وفي كون الاستطاعة قبل الفعل
الرابعة القائلون بطاعة لا يراد بها الله أي زعموا أن العبد إذا أتى بما أمر به ولم يقصد الله كان ذلك طاعة
العجاردة هو عبد الرحمن بن عجرد
وهم آخر السبع من فرق الخوارج زاودا على النجدات بعد أن وافقوهم في مذهبهم وجوب البراءة عن الطفل أي يجب أن يتبرأ عنه حتى يدعي الإسلام بعد البلوغ
ويجب دعاؤه إليه أي إلى الإسلام إذا بلغ
وأطفال المشركين في النار
وهم عشر فرق
الأولى الميمونية
هو ميمون بن عمران
قالوا بالقدر
أي إسناد الأفعال إلى قدر العباد
ويكون الاستطاعة قبل الفعل وأن الله يريد الخير دون الشر
ولا يريد المعاصي كما هو مذهب المعتزلة
قالوا وأطفال الكفار في الجنة
ويروى عنهم تجويز نكاح البنات للبنين وللبنات وللأولاد الأخوة والأخوات أي جوزوا نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات أولاد الإخوة والأخوات
وإنكار سورة يوسف
فإنهم زعموا أنها قصة من القصص
ولا يجوز أن تكون قصة الفسق قرآنا
الثانية من فرق العجاردة الحمزية هو حمزة ابن أدرك
701

وافقوهم أي الميمونة فيما ذهبوا إليه من البدع إلا أنهم قالوا أطفال الكفار في النار
الثالثة منهم الشعيبية
هو شعيب بن محمد وهم كالميمونية في بدعهم إلا في القدر
الرابعة الحازمية
هو حازم بن عاصم
وافقوا الشعيبية ويحكى عنهم أنهم يتوقفون في أمر علي
ولا يصرحون بالبراءة عنه كما يصرحون بالبراءة عن غيره
الخامسة الخلفية
أصحاب خلف الخارجي
وهم خوارج كرمان ومكران أضافوا القدر خيره وشره إلى الله وحكموا بأن أطفال المشركين في النار بلا عمل وشرك
السادسة الأطرافية هم على مذهب حمزة
ورئيسهم رجل من سجستان يقال له غالب
إلا أنهم عذروا أهل الأطراف فيما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من جهة العقل ووافقوا أهل السنة في أصولهم وفي نفي القدر أي إسناد الأفعال إلى قدرة العبد
وفي بعض النسخ
وفي نفي القدرة
أي نفي المقدرة المؤثرة عن العباد
السابعة المعلومية
هم كالحازمية إلا أن المؤمن عندهم من عرف الله بجميع أسمائه وصفاته
ومن لم يعرفه كذلك
فهو جاهل لا مؤمن
وفعل العبد مخلوق لله تعالى
الثامنة المجهولية مذهبهم كمذهب الحازمية أيضا إلا أنهم قالوا يكفي معرفته تعالى ببعض أسمائه فمن علمه كذلك فهو عارف به مؤمن وفعل العبد مخلوق لله تعالى
702

التاسعة الصلتية
هو عثمان بن أبي الصلت
وقيل الصلت بن الصامت
هم كالعجاردة لكن قالوا من أسلم واستجار بنا توليناه وبرئنا من أطفاله حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام فيقبلوا
وروي عن بعضهم أن الأطفال سواء كانوا للمسلمين أو المشركين لا ولاية لهم ولا عداوة حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام ويقبلوا أو ينكروا
العاشرة من فرق العجاردة
الثعالبة هو ثعلبة بن عامر
قالوا بولاية الأطفال صغارا كانوا أو كبارا حتى يظهر منهم إنكار الحق بعد البلوغ
وقد نقل عنهم أيضا أن الأطفال لا حكم لهم من ولاية أو عداوة إلى أن يدركوا
ويرون أخذ الزكاة من العبيد إذا استغنوا
وإعطاءها لهم إذا افتقروا
وتفرقوا أي الثعالبة أربع فرق
الأولى الأخنسية
أصحاب أخنس بن قيس
هم كالثعالبة
إلا أنهم امتازوا عنهم بأن توقفوا فيمن هو في دار التقية من أهل القبلة فلم يحكموا عليه بإيمان ولا كفر إلا من علم حاله من إيمانه أو كفره
وحرموا الاغتيال بالقتل لمخالفيهم والسرقة من أموالهم
ونقل عنهم أنه يجوز تزويج المسلمات من مشركي قومهم
الثانية المعبدية
هو معبد بن عبد الرحمن
خالفوهم أي الأخنسية في التزويج أي تزويج المسلمات من المشركين
وخالفوا الثعالبة في زكاة العبيد أي أخذها منهم ودفعها إليهم
703

الثالثة الشيبانية
هو شيبان بن سلمة قالوا بالجبر ونفي القدرة الحادثة
الرابعة المكرمية هو مكرم بن عبد الله العجلي
قالوا تارك الصلاة كافر لا لترك الصلاة بل لجهله بالله
فإن من علم أنه مطلع على سره وعلنه ومجازيه على طاعته ومعصيته لا يتصور منه الإقدام على ترك الصلاة وكذا كل كبيرة فإن مرتكبها كافر لجهله بالله لما ذكرناه
وموالاة الله ومعاداته لعباده باعتبار العاقبة وما هم صائرون إليه عند موافاة الموت إلا باعتبار أعمالهم التي هم فيها إذ هي غير موثوق بدوامها
وكذا نحن فمن وصل إلى حالة الموت فإن كان مؤمنا في تلك الحالة واليناه
وإن كان كافرا عاديناه
فإذن فرق الخوارج عشرون
لأن العجاردة عشر فرق نضمها إلى الست السابقة تصير ست عشرة وتتشعب من الثعالبة والأباضية أربع فرق أخرى
فالمجموع عشرون
وفيه بحث لأن المقسم لا يعد مع أقسامه
فلا تعتبر الثعالبة عاشرة أقسام العجاردة مع فرقها الأربع
بل يكتفي عنها بهذه الأربع فتكون الفرق حينئذ تسع عشرة
وأيضا إذا اعتبر فرق الأباضية وفرق الثعالبة معا كانت الفرق كلها اثنتين وعشرين
واعتبار إحدى الأربعين دون الأخرى تحكم محض
704

الفرقة الرابعة المرجئة
المتن لقبوا به لأنهم يرجئون العمل عن النية أو لأنهم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية
فهم يعطون الرجاء
وفرقهم خمس
1 - اليونسية هم يونس النميري
قالوا الإيمان المعرفة بالله والخضوع له
والمحبة بالقلب
ولا يضر معها ترك الطاعات
وإبليس كان عارفا بالله وإنما كفر باستكباره
2 - العبيدية أصحاب عبيد المكذب
زادوا أن علم الله لم يزل شيئا غيره
وأنه تعالى على صورة الإنسان
3 - الغسانية أصحاب غسان الكوفي
قالوا الإيمان المعرفة بالله ورسوله وبما جاء من عندهما إجمالا
وهو يزيد ولا ينقص
وذلك مثل أن يقول قد فرض الله الحج ولا أدري أين الكعبة
ولعلها بغير مكة
وبعث محمدا ولا أدري أهو الذي بالمدينة أم غيره
وغسان كان يحكيه عن أبي حنيفة
وهو افتراء
705

4 - الثوبانية أصحاب ثوبان المرجىء
قالوا الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله وبرسله وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله
واتفقوا على أنه تعالى لو عفا عن عاص لعفا عن كل من هو مثله
وكذا لو أخرج واحدا من النار
ولم يجزموا بخروج المؤمنين من النار
واختص غيلان بالقدر والخروج من حيث أنه قال يجوز أن لا يكون الإمام قرشيا
5 - التومنية أصحاب أبي معاذ التومني
قالوا الإيمان هو المعرفة والتصديق والمحبة والإخلاص والإقرار
وترك كله أو بعضه كفر
وليس بعضه إيمانا ولا بعضه
وكل معصية لم يجمع على أنه كفر فصاحبه يقال فيه إنه فسق وعصى
ولا يقال إنه فاسق
ومن ترك الصلاة مستحلا
كفر
وبنية القضاء لم يكفر
ومن قتل نبيا أو لطمه كفر لأنه دليل لتكذيبه وبغضه
وبه قال ابن الرواندي وبشر المريسي
وقالا السجود للصنم علامة الكفر
فهذه هي المرجئة الخالصة
ومنهم من جمع إليه القدر كالصالحي وأبي شمر ومحمد بن شبيب وغيلان
الشرح
الفرقة الرابعة من كبار الفرق الإسلامية المرجئة
لقبوا به لأنهم
706

يرجئون العمل عن النية أي يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد
من أرجأه أي أخره
ومنه أرجئه وأخاه أي أمهله وأخره
أو لأنهم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة فهم يعطون الرجاء وعلى هذا ينبغي أن لا يهمز لفظه المرجئة
وفرقهم خمس
اليونسية وهو يونس النميري
قالوا الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له والمحبة بالقلبت فمن اجتمعت فيه هذه الصفات فهو مؤمن
ولا يضر معها ترك الطاعات وارتكاب المعاصي
ولا يعاقب عليها
وإبليس كان عارفا بالله
وإنما كفر باستكباره وترك الخضوع لله كما دل عليه قوله * (أبى واستكبر وكان من الكافرين) *
العبيدية أصحاب عبيد المكذب
زادوا على اليونسية أن علم الله لم يزل شيئا غيره أي غير ذاته
وكذا باقي صفاته
وأنه تعالى على صورة الإنسان لما ورد في الحديث من أن الله خلق آدم على صورة الرحمن
الغسانية أصحاب غسان الكوفي
قالوا الإيمان هو المعرفة بالله ورسوله
وبما جاء من عندهما إجمالا لا تفصيلا
وهو أي الإيمان يزيد ولا ينقص
وذلك الإجمال مثل أن يقول قد فرض الله الحج ولا أدري أين الكعبة
ولعلها بغير مكة
وبعث محمدا
ولا أدري أهو الذي بالمدينة أم غيره
وحرم الخنزير ولا أدري أهو هذه الشاة أم غيرها
فإن القائل بهذه المقالات مؤمن ومقصودهم بما ذكروه أن هذه الأمور ليست داخلة في حقيقة الإيمان
وإلا فلا شبهة في أن عاقلا لا يشك فيها
وغسان كان
707

يحكيه أي القول بما ذهب إليه عن أبي حنيفة
ويعده من المرجئة
وهو افتراء عليه قصد به غسان ترويج مذهبه بموافقة رجل كبير مشهور
قال الآمدي
ومع هذا فأصحاب المقالات قد عدوا أبا حنيفة وأصحابه من مرجئة أهل السنة
ولعل ذلك لأن المعتزلة في الصدر الأول كانوا يلقبون من خالفهم في القدر مرجئا
أو لأنه لما قال الإيمان هو التصديق
ولا يزيد ولا ينقص ظن به الإرجاء بتأخير العمل عن الإيمان
وليس كذلك إذا عرف منه المبالغة في العمل والاجتهاد فيه
الثوبانية أصحاب ثوبان المرجىء
قالوا الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله وبرسله وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله
وأما ما جاز في العقل أن يفعله فليس الاعتقاد به من الإيمان
وأخروا العمل كله عن الإيمان
ووافقهم على ذلك مروان بن غيلان
وقيل أبو مروان غيلان الدمشقي وأبو شمر ويونس بن عمران
والفضل الرقاشي
وهؤلاء كلهم اتفقوا على أنه تعالى لو عفا في القيامة عن عاص لعفا عن كل من هو مثله
وكذا لو أخرج واحدا من النار لأخرج كل من هو مثله
ولم يجزموا بخروج المؤمنين من النار
واختص ابن غيلان
أو غيلان من بينهم بالقدر
إذ قد جمع بين الإرجاء والقول بالقدر
أي إسناد الأفعال إلى العباد
والخروج من حيث أنه قال يجوز أن لا يكون الإمام قرشيا
التومنية أصحاب أبي معاذ التومني
قالوا الإيمان هو المعرفة والتصديق والمحبة والإخلاص والإقرار بما جاء به الرسول وترك كله أو بعضه كفر
وليس بعضه إيمانا ولا بعضه أي ولا بعض إيمان
وكل معصية لم يجمع على أنه كفر فصاحبه يقل أنه فسق وعصى
ولا يقال إنه
708

فاسق
ومن ترك الصلاة مستحلا كفر لتكذيبه بما جاء به النبي
ومن تركها بنية القضاء لم يكفر
ومن قتل نبي أو لطمه كفر لا لأجل القتل أو اللطمة بل لأنه دليل لتكذيبه وبغضه
وبه قال ابن الراوندي وبشر المريسي
وقالا السجود للصنم أوليس
كفرا بل هو علامة الكفر
فهذه هي المرجئة الخالصة
ومنهم من جمع إليه أي إلى الإرجاء القدر
كالصالحي وأبي شمر ومحمد بن شبيب وغيلان
709

الفرقة الخامسة النجارية
المتن أصحاب محمد بن الحسين النجار
هم موافقون لأهل السنة في خلق الأفعال
وأن الاستطاعة مع الفعل والعبد يكتسب فعله
وللمعتزلة في نفي الصفات وحدوث الكلام وفرقهم ثلاث
الأولى البرغوتية قالوا كلام الله إذا قرىء عرض
وإذا كتب فهو جسم
الثانية الزعفرانية قالوا كلام الله غيره
وكل ما هو غيره مخلوق
ومن قال كلام الله غير مخلوق فهو كافر
الثالثة المستدركة استدركوا عليهم
وقالوا إنه مخلوق مطلقا لكنا وافقنا السنة والإجماع في نفيه وأولناه بما هذه حكايته
وقالوا أقوال مخالفينا كلها كذب حتى قولهم لا إله إلا الله
الشرح
الفرقة الخامسة من كبار الفرق الإسلامية
البخارية
أصحاب محمد بن الحسين البخار
هم موافقون لأهل
710

السنة في خلق الأفعال
وإن الاستطاعة مع الفعل
وأن العبد يكتسب فعله
وموافقون للمعتزلة في نفي الصفات الوجودية على وحدوث الكلام ونفي الرؤية بالإبصار
ووافقهم على ذلك ضرار بن عمرو وحفص الفرد
وفرقهم ثلاث
الأولى البرغوثية
قالوا كلام الله إذا قرىء عرض
وإذا كتب بأي شيء كان فهو جسم
الثانية الزعفرانية
قالوا كلام الله غيره
وكل ما هو غيره مخلوق
ومن قال كلام الله غير مخلوق
فهو كافر
الثالثة المستدركية
استدركوا عليهم أي على الزعفرانية وقالوا إنه أي كلام الله مخلوق مطلقا لكنا وافقنا السنة الواردة بأن كلام الله غير مخلوق
والإجماع المنعقد عليه في نفيه
وأولناه بما هذه الصورة حكايته أي حملنا قولهم غير مخلوق على أنه غير مخلوق على هذا الترتيب والنظم من هذه الحروف والأصوات
بل هو مخلوق على غير هذه الحروف
وهذه حكاية عنها
وقالوا أقوال مخالفينا كلها كذب حتى قولهم لا إله إلا الله فإنه كذب أيضا
711

الفرقة السادسة الجبرية
المتن والجبر إسناد فعل العبد إلى الله
والجبرية متوسطة تثبت للعبد كسبا كالأشعرية
وخالصة ولا تثبته كالجهمية وهم أصحاب جهم بن صفوان
قالوا لا قدرة للعبد أصلا
والله لا يعلم الشيء قبل وقوعه
وعلمه حادث لا في محل
ولا يتصف بما يوصف به غيره كالعلم والقدرة
والجنة والنار تفنيان
ووافقوا المعتزلة في نفي الرؤية وخلق الكلام وإيجاب المعرفة بالعقل
الشرح الفرقة السادسة من تلك الفرق الكبار الجبرية والجبر إسناد فعل العبد إلى الله
والجبرية متوسطة أي غير خالصة في القول بالجبر المحض بل متوسطة بين الجبر والتفويض تثبت للعبد كسبا في الفعل بلا تأثير فيه كالأشعرية والنجارية والضرارية
وخالصة لا تثبته كالجهمية وهم أصحاب جهم بن صفوان الترمذي
قالوا لا قدرة للعبد أصلا لا مؤثرة ولا كاسبة بل هو بمنزلة الجمادات فيما يوجد منها
والله لا يعلم الشيء قبل وقوعه وعلمه حادث لا
712

في محل ولا يتصف الله بما يوصف به غيره إذ يلزم منه التشبيه كالعلم والقدرة لو أبدل القدرة بالحياة كما ذكره الآمدي لكان أولى لأن جهما لا يثبت لغير الله قدرته
والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما حتى لا يبقى موجود سوى الله سبحانه
ووافقوا المعتزلة في نفي الرؤية وخلق الكلام وإيجاب المعرفة بالعقل قبل ورود الشرع
713

الفرقة السابعة المشبهة
المتن شبهوا الله بالمخلوقات
وإن اختلفوا في طريقه
فمنهم مشبهة غلاة الشيعة كما تقدم
ومنهم مشبهة الحشوية كمضر وكهمس والهجيمى
قالوا هم جمس من لحم ودم
وله الأعضاء حتى قال بعضهم إعفوني عن اللحية والفرج
وسلوني عما وراءه
ومنهم مشبهة الكرامية أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام
وأقوالهم متعددة غير أنها لا تنتهي إلى من يعبأ به
فاقتصرنا على ما قاله زعيمهم
وهو أن الله على العرش من جهة العلو
ويجوز عليه الحركة والنزول
واختلفوا أيملأ العرش أم لا وقال بعضهم بل هو محاذ للعرش
واختلفا أببعد متناه أو غيره ومنهم من أطلق عليه لفظ الجسم
ثم هل هو متناه من الجهات أو من جهة تحت أو لا وتحل الحوادث في ذاته
وزعموا أنه إنما يقدر عليها دون الخارجة عن ذاته
ويجب أن يكون أول خلقه حيا يصح منه الاستدلال
والنبوة والرسالة صفتان سوى الوحي والمعجزة والعصمة
وصاحبها رسول
ويجب على الله إرساله لا غير
وهو حينئذ مرسل
وكل مرسل رسول بلا عكس
ويجوز عزله دون الرسول
وليس من الحكمة رسول واحد
وجوزوا إمامين كعلي ومعاوية
إلا أن إمامة على علي وفق السنة بخلاف معاوية
لكن يجب طاعة رعيته له
والإيمان قول الذر في الأزل بلى وهو باق في الكل إلا المرتدين
وإيمان المنافق كإيمان الأنبياء
والكلمتان ليستا بإيمان إلا بعد الردة
فهذه هي الفرق الضالة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلهم في النار)
714

الشرح الفرقة السابعة منها المشبهة
شبهوا الله بالمخلوقات ومثلوه بالحادثات
وهم لأجل ذلك جعلناهم فرقة واحدة قائلة بالتشبيه
وإن اختلفوا في طريقه فمنهم مشبهة غلاة الشيعة كالسبائية والبيانية والمغيرية وغيرهم
كما تقدم من مذاهبهم القائلة بالتجسيم والحركة والانتقال والحلول في الأجسام
إلى غير ذلك
ومنهم مشبهة الحشوية كمضر وكهمس
والهيجمى قالوا هو جسم لا كالأجسام من لحم ودم لا كاللحوم والدماء
وله الأعضاء والجوارح ويجوز عليه الملامسة والمصافحة والمعانقة للمخلصين الذين يزورونه في الدنيا ويزورهم حتى نقل أنه قال بعضهم إعفوني عن اللحية والفرج وسلوني عما وراءه
ومنهم مشبهة الكرامية أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام
قيل هو بكسر الكاف وتخفيف الراء
وفيه قيل
(الفقه فقه أبي حنيفة وحده
* والدين دين محمد بن كرام) وأقوالهم في التشبيه متعددة مختلفة غير أنها لا تنتهي إلى من يعبأ
715

به ويبالي بقوله فاقتصرنا على ما قاله زعيمهم
وهو أن الله على العرش من جهة العلو مماس له من الصفحة العليا
ويجوز عليه الحركة والنزول
واختلفوا أيملأ العرش أم لا يملأه بل هو على بعضه
وقال بعضهم أوليس
هو على العرش بل هو محاذ للعرش
واختلف أببعد متناه أو غيره ومنهم من أطلق عليه لفظ الجسم ثم اختلفوا هل هو متناه من الجهات كلها أو متناه من جهة تحت فقط أو لا أي أوليس
متناهيا بل هو غير متناه في جميع الجهات
وقالوا تحل الحوادث في ذاته
وزعموا أنه إنما يقدر عليها أي على الحوادث الحالة فيه دون الخارجة عن ذاته
ويجب على الله أن يكون أول خلقه حيا يصح منه الاستدلال
وقالوا النبوة والرسالة صفتان قائمتان بذات الرسول سوى الوحي وسوى أمر الله بالتبليغ
وسوى المعجزة والعصمة
وصاحبها أي صاحب تلك الصفة رسول بسبب اتصافه بها من غير إرسال ويجب على الله إرساله لا غير أي لا يجوز إرسال غير الرسول
وهو حينئذ أي حين إذا أرسل مرسل
وكل مرسل رسول بلا عكس كلي
ويجوز عزله
أي عزل المرسل عن كونه مرسلا دون الرسول فإنه لا يتصور عزله عن كونه رسولا وليس من الحكمة رسول واحد أي لا يجوز الاقتصار على إرسال رسول واحد
بل لا بد من تعدده وجوزوا إمامين في عصر واحد كعلي ومعاوية إلا أن إمامة علي وفق السنة بخلاف إمامة معاوية لكن يجب طاعة رعيته له وقالوا الإيمان قول الذر في الأزل
بلى أي الإيمان هو الإقرار الذي وجد من الذر حين قال تعالى لهم * (ألست بربكم) *
وهو باق في الكل على السوية إلا المرتدين
وإيمان المنافق مع
716

كفره كإيمان الأنبياء لاستواء الجمع في ذلك الإيمان والكلمتان ليستا بإيمان إلا بعد الردة
فهذه هي الفرق الضالة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلهم في النار)
المتن وأما الفرقة الناجية المستثناة الذين قال فيهم (هم الذين على ما أنا عليه وأصحابي) فهم الأشاعرة والسلف من المحدثين وأهل السنة والجماعة
ومذهبهم خال عن بدع هؤلاء
وقد أجمعوا على حدوث العالم ووجود الباري تعالى
وأنه لا خالق سواه
وأنه قديم متصف بالعلم والقدرة وسائر صفات الجلال لا شبيه له ولا ضد ولا ند
ولا يحل في شيء
ولا يقوم بذاته حادث
ليس في حيز ولا جهة ولا يصح عليه الحركة والانتقال
ولا الجهل ولا الكذب ولا شيء من صفات النقص
مرئي للمؤمنين في الآخرة
ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
غني لا يحتاج إلى شيء ولا يجب عليه شيء
إن أثاب فبفضله
وإن عاقب فبعدله لا غرض لفعله ولا حاكم سواه
لا يوصف فيما يفعل أو يحكم بجور ولا ظلم وهو غير متبعض ولا له حد ولا نهاية
وله الزيادة والنقصان في مخلوقاته
والمعاد حق
وكذا المجازاة والمحاسبة والصراط والميزان وخلق الجنة والنار
وخلود أهل الجنة فيها والكفار في النار ويجوز العفو والشفاعة حق
وبعثة الرسل بالمعجزات حق من آدم إلى محمد
وأهل بيعة الرضوان وأهل بدر من أهل الجنة
والإمام يجب نصبه على المكلفين
والإمام الحق بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي
والأفضلية بهذا الترتيب ولا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بما فيه نفي للصانع والأفضلية القادر العليم
أو شرك أو إنكار للنبوة أو ما علم مجيئه صلى الله عليه وسلم عليه ضرورة أو لمجمع عليه كاستحلال المحرمات
وأما ما عداه فالقائل به مبتدع غير كافر
وللفقهاء في معاملتهم خلاف
717

هو خارج عن فننا هذا
وليكن هذا آخر الكلام من كتاب المواقف
ونسأل الله تعالى أن يثبت قلبنا على دينه ولا يزيغه بعد الهداية ويعصمنا عن الغواية ويوفقنا للاقتداء برسول الله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ويعفو عن طغيان القلم وما لا يخلو عنه البشر من السهل والزلل وأن يعاملنا بفضله ورحمته
إنه هو الغفور الرحيم
الشرح وأما الفرقة الناجية المستثناة الذين قالوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم (هم الذين على ما أنا عليه وأصحابي) فهم الأشاعرة والسلف من المحدثين وأهل السنة والجماعة
ومذهبهم خال عن بدع هؤلاء
وقد أجمعوا على حدوث العلم خلافا لبعض الغلاة القائلين بقدمه ووجود الباري تعالى خلافا للحابطية حيث قالوا لا موجود ولا معدوم
وأنه لا خالق سواه خلافا للقدرية وأنه قديم خلافا للمعمرية القائلين بأنه لا يوصف بالقدم متصف بالعلم والقدرة وسائر صفات الجلال خلافا لنفاة الصفات لا شبيه له خلافا للمشبهة
ولا ضد ولا ند خلافا للحابطية
حيث أثبتوا إلهين
ولا يحل في شيء خلافا لبعض الغلاة
ولا يقوم بذاته حادث خلافا للكرامية أوليس
في حيز ولا جهة ولا يصح عليه الحركة والانتقال
ولا الجهل ولا الكذب ولا شيء من صفات النقص خلافا لمن جوزها عليه كما تقدم
مرئي للمؤمنين في الآخرة بلا انطباع ولا شعاع
ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
غني لا يحتاج في شيء إلى شيء
ولا يجب عليه شيء
إن أثاب فبفضله
وإن عاقب فبعدله
لا غرض لفعله
718

ولا حاكم سواه
لا يوصف فيما يفعل أو يحكم بجور ولا ظلم
وهو غير متبعض
ولا له حد ولا نهاية وله الزيادة والنقصان في مخلوقاته
والمعاد الجسماني حق
وكذا المجازاة والمحاسبة والصراط والميزان وخلق الجنة والنار
وخلود أهل الجنة فيها
وخلود الكفار في النار
ويجوز العفو عن المذنبين
والشفاعة حق
وبعثة الرسل بالمعجزات حق من آدم إلى محمد
وأهل بيعة الرضوان تحت الشجرة وأهل بدر من أهل الجنة
والإمام يجب نصبه على المكلفين
والإمام الحق بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي
والأفضلية بهذا الترتيب
ولا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بما فيه نفي للصانع القادر العليم أو شرك أو إنكار للنبوة أو إنكار المجمع عليه كاستحلال المحرمات التي أجمع على حرمتها
فإن كان ذلك المجمع عليه مما علم ضرورة من الدين فذلك ظاهر داخلا فيما تقدم ذكره
وإلا فإن كان إجماعا ظنيا فلا كفر بمخالفته
وإن كان قطعيا ففيه خلاف
وأما ما عداه فالقائل به مبتدع غير كافر
وللفقهاء في معاملتهم خلاف هو خارج عن فننا هذا
قال المصنف وليكن هذا آخر الكلام من كتاب المواقف ونسأل الله تعالى أن يثبت قلبنا على دينه ولا يزيغه بعد الهداية ويعصمنا عن الغواية ويوفقنا للاقتداء برسول الله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان
ويعفو عن طغيان القلم وما لا يخلو عنه البشر من السهو والزلل وأن يعاملنا بفضله ورحمته
إنه هو الغفور الرحيم
وأنا أقول هذا ما تيسر لنا بعون الله وحسن توفيقه من كشف مشكلاته وتوضيح معضلاته وتحرير مسائله وتقرير دلائله معرضين عن الإطناب الممل والإيجاز المخل ومشيرين في بعض المواضع إلى ما يتوجه
719

على كلامه من الأسئلة وما يمكن أن يتمسك به في دفعها من الأجوبة
نفع الله به الطالبين وجعله ذخرا لنا يوم الدين
إنه خير موفق ومعين
وقد وقع الفراغ من تأليفه يوم السبت قريب العصر من أوائل شوال
سنة سبع وثمانمائة بمحروسة سمرقند صينت عن الآفات وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير
وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأنام وآله الكرام وصحبه العظام وسلم تسليما كثيرا كثيرا آمين
تم بحمد الله
720