الكتاب: درر السمط في خبر السبط
المؤلف: ابن الأبار
الجزء:
الوفاة: ٦٥٨
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: دكتور عز الدين عمر موسى
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٠٧ - ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الغرب الإسلامي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

درر السمط في خبر السبط
1

درر السمط في خبر السبط
لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي
المعروف بابن الأبار
" 595 / 1199 - 658 / 1260 "
تحقيق
عز الدين
عمر موسى
دار الغرب الاسلامي
3

جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى 1407 - 1987
دار الغرب الاسلامي
ص. ب: 5787 - 113
بيروت - لبنان
4

بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إلى الوالدة نعمات عباس
جزاء صبرها علي
وشفقتها بي
ودعائها لي
5

مقدمة التحقيق
المؤلف
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن
عبد الرحمن بن أحمد بن أبي بكر القضاعي الشهير بابن الأبار (1)
البلنسي (2). وقد ترجم له الأقدمون، مغاربة ومشارقة، تراجم
متفاوتة طولا وقصرا، متشابهة محتوى ومخبرا، وتميزت ترجمتهم له
بالدقة في تصوير أطوار حياته، وما اكتنفتها من تقلبات زمانه،
واعتبروه علما في أندلسه، وصدرا في بلنسية بلده، فذكروه مع
الكتاب والوزراء واللغويين والشعراء والمؤرخين والأدباء

(1) قال الغبريني (عنوان الدراية 257): " هكذا رأيت بخط يده رحمه الله ". ومن
هذا يتضح أن المؤلف كان يستعمل هذه النسبة ولو كان له فيها منقصة لما
أوردها. (عن هذه القضية راجع عبد العزيز عبد المجيد: ابن الأبار). وعن
رأي مخالف انظر مقدمة إبراهيم الأبياري لكتاب المقتضب من تحفة القادم.
(2) كثيرا ما نسب إلى بلده بلنسية حتى يميز بينه وبين ابن الأبار أبي جعفر أحمد
ابن محمد الخولاني الإشبيلي (ت 433)، وعلى اختلاف أسميهما وبلديهما،
وتفاوت عصريهما، فإن اشتراكهما في نسبة واحدة جعل بعض المؤرخين
ينسبون ما لأحدهما للآخر (قارن الزركشي: تاريخ الدولتين 287 وفوات
الوفيات 3: 404 - 405 بما في وفيات الأعيان 1: 141 والوافي بالوفيات
3: 355).
7

والمحدثين والفقهاء. لقد ترجم له كل من الغبريني في
عنوانه (1)، وابن رشيد في رحلته (2)، وابن سعيد في قدحه (3)
ومغربه (4)، وابن عبد الملك في ذيله (5)، وابن خلدون في
عبره (6)، والمقري في نفحه (7)، وأزهاره (8)، فضلا عن ابن شاكر
في فواته (9)، والصفدي في وافيه (10).
ودرس المحدثون، عربا ومستشرقين، ابن الأبار إما تقديما
لنصوص حققوها من كتبه ونشروها، أو بدراسة أفردوها عنه. فمن
المستشرقين: دوزي (11)، وكوديرا (12)، ويونس بويجس، ومن
العرب: إبراهيم الأبياري في تقديمه للمقتضب من تحفة القادم،
وصالح الأشتر في مقدمته لأعتاب الكتاب، وحسين مؤنس في

(1) عنوان الدراية 257 - 261.
(2) ملء العيبة (مخ الأسكوريال رقم 1737) 34 ب - 72 ب.
(3) اختصار القدح المعلى 191.
(4) المغرب في حلى المغرب 2: 309 - 312.
(5) الذيل والتكملة 6: 253 - 275.
(6) العبر 6: 283 - 285.
(7) نفح الطيب: أجزاء مختلفة وصفحات متفرقة خاصة 2: 589،
3: 303 - 304، 4: 320 وما بعدها، 456 - 460.
(8) أزهار الرياض 3: 204 وما بعدها.
(9) فوات الوفيات 3: 404.
(10) الوافي بالوفيات 3: 355.
(11) كتب دوزي عن ابن الأبار لما قدم للبيان المغرب ولما نشر تراجم الأندلسيين
من الحلة السيراء.
(12) قدم كوديرا لما نشر كتابي ابن الأبار: المعجم في أصحاب أبي علي الصدفي
والتكملة لكتاب الصلة.
8

تقديمه للحلة السيراء. وإفراد كل من عبد العزيز عبد المجيد
وأنيس عبد الله الطباع دراسة خاصة عن ابن الأبار.
ولهذا، فحياة ابن الأبار أصبحت معروفة نسبيا. فلا جدوى من
بحث ما درس، وبسط القول فيما شرح. وتكفي هنا الإشارة إلى
الخطوط العامة لعصر ابن الأبار وحياته بما يلقي من ضوء على
درر السمط، فيساعد في فهم الكتاب من خلال خط التطور العام
لحياة ابن الأبار خاصة، والأندلس الإسلامي عامة.
9

أصله
ولد أبو عبد الله ابن الأبار في بلنسية في أحد شهري ربيع سنة
595 / ديسمبر 1198 - يناير 1199، وتوفي بتونس محرم 568 /
1260 (1). وأصل سلفه من أندة، واستقر والده ببلنسية وفيها
توفي (2). ولم يكن ابن الأبار من بيوت الرئاسة ولا الولاية، وإن
كان أبوه من أهل العلم والدين والفضل. يقول عن أبيه أنه " شديد
الانقباض بعيدا عن التصنع، حريصا على التخلص، مقدما في
حملة القرآن، كثير التلاوة له والتهجد به، صاحب ورد لا يكاد
يهمله، ذاكرا للقراءات، مشاركا في حفظ المسائل آخذا فيما
يستحسن من الأدب، معدلا عند الحكام، وكان القاضي أبو
الحسن بن واجب يستخلفه على الصلاة بمسجد السيدة من داخل

(1) الذيل والتكملة 6: 275.
(2) انظر ترجمة والده في التكملة، الذيل والتكملة 6: 253 ويقول الغبريني إن
أصله من أجرده (في نسختين أجرة)، ويضيف أنها " وما والاها دار القضاعيين
في الأندلس ". ويرى ابن بونار أن هذا خطأ والصحيح تورية ولم يذكر مصدرا
(انظر عنوان الدراية 258 والحاشية رقم 1). وعند ابن سعيد أن أنده من
حصون رندة من عمل إشبيلية (المغرب 1: 329، 338) ولكن حسين مؤنس
يقول بأن أنده " كانت... على أيام المسلمين تابعة لكورة بلنسية ". (الحلة
السيراء 1: 1 المقدمة: 14).
10

بلنسية... وتوفي ببلنسية... وكانت جنازته مشهودة والثناء عليه
جميلا " (1).
وعليه فقد عاش ابن الأبار في النصف الأول من القرن
السابع / الثالث عشر في شرق الأندلس وبلنسية منه خاصة، وختم
حياته في إفريقية عامة وتونس بخاصة. فما هي الخطوط العامة
لذلك العصر وكيف أثرت في حياة ابن الأبار العلمية والعملية؟

(1) راجع ترجمة أبيه في التكملة.
11

عصره
تميز عصر ابن الأبار بضعف الأندلس داخليا وعدم قدرة أهله
على الصمود في وجه الزحف النصراني القشتالي البرتغالي
الأرغوني. فتهاوت معاقل الأندلس وحصونه ثم مدنه وعواصم
أقاليمه إلا غرناطة وما حولها من رقعة صغيرة استطاع بنو الأحمر
الاحتفاظ بها حتى ختام القرن التاسع / الخامس عشر.
وكان سقوط الأندلس، الذي شهد ابن الأبار أهم فصوله وتيقن
من حتمية وقوعه، قد بدأ مسلسل أحداثه وتتابع بوائقه وأتراحه
منذ مطلع القرن الخامس / الحادي عشر، وذلك عندما استطاعت
ممالك أرغون وقشتالة والبرتغال تركيز السلطة الداخلية واستغلال
ظروف الضعف في المناطق الأندلسية فتوسعوا، وإذا ما شهد
الأندلس انتعاشة ركزوا سلطانهم فيما فتحوا واتبعوا سياسة
المهادنة والملاينة انتظارا لغرة جديدة ليغتنموها. هذا في الوقت
الذي عاش الأندلس - منذ انحلال الخلافة الأموية في قرطبة -
فترة اضطراب عصيبة وفوضى عظيمة، تغذت بالفتنة البربرية التي
أفضت إلى إنهاء الخلافة الأموية والدولة العامرية، فتمزق
الأندلس إلى دويلات " مدينية " متناحرة اصطلح على تسميتها
بممالك الطوائف.
ومع هذه الفترة بدأ تنقص الأندلس من أطرافه، وتحيف مدنه،
12

وتهديم دوره، وانتساف زروعه، وتقبض ضياعه، وقتل رجاله،
وسباء نسائه وأطفاله. وغدا الأندلس مكتوم الأجل مكنون العلل،
أسير جوع وصريع شبع، بادي الضعف. وكلما لاح بارق أمل
تفتق عن بوائق ونتجت عنه مصائب، فيتابع الأندلس مسيرته
الهابطة.
لقد رافق الفتنة البربرية انجلاء الناس عن مدنهم وقراهم،
وذلك لسقوط مدينة في حرب داخلية أو عدوان خارجي، أو
بسبب من ظلم اجتماعي وتعسف ضرائبي وصراع عنصري. وزاد
الحال ضيقا مع ملوك الطوائف نتيجة للثأرات بينهم وتحالفهم مع
نصارى الشمال مع أتاوات تدفع. فتحيف ملوك الطوائف رعاياهم
فتمزقت أوصال الأندلس وتبعثرت قواه، وتحكمت الذاتية
واستشرت الأنانية وضاعت الحقوق (1).
فواتت الظروف نصارى الشمال الإسباني، فتوسعوا على
حساب المناطق الإسلامية الأندلسية، وبدا وكأن الغلبة ستكون
للنصارى الأسبان يوم استولى القشتاليون على طليطلة في
478 / 1085، وأصبح شعار الأندلسيين، يومئذ، قول ابن
العسال:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس * فما المقام بها إلا من الغلط
غير أن المرابطين الذين استنجد بهم الأندلسيون، قد أنجدوا
الأندلس وحفظوه أمدا يسيرا، مستفتحين بانتصارهم في الزلاقة

(1) راجع عباس: عصر الطوائف والمرابطين 22 وما بعدها.
13

أمرهم (749 / 1086)، فضموا الأندلس إلى دولتهم (1)، وذبوا
عنه فترة من الزمن باستثناء الجزر الشرقية وسرقسطة وسهلة بني
رزين (شنتمرية الشرق) (2).
ولكن أمر المرابطين قد بدأ يضعف منذ معركة أقليش 501 /
1108 (3)، وتجلى ذلك الضعف وتجسد يوم احتلت أرغون
سرقسطة واتخذتها عاصمة في 512 / 1118 (4)، وبلغ ذروته
بقيام ثورة الموحدين، ففقد المرابطون سيطرتهم على الأندلس،
وبسط العدو سيطرته على سهوله وبسائطه، وفشلت الجهود الذاتية
في الدفاع عن كثير من مدنه فسقط بعضها (5). فلم يكن أمام
الأندلسيين إلا استدعاء الموحدين الذين صنعوا ما صنعه
المرابطون من قبل، فضم الموحدون الأندلس إلى سلطانهم،
ووصلوا أقصى توسعهم بضم شرق الأندلس، وكان أعظم انتصار
لهم وآخره يوم الأرك في 591 / 1195. وبعد ذلك هزموا هزيمة
نكراء في موقعة العقاب 609 / 1212 التي أخلت المغرب من

(1) انظر في ذلك التبيان 108 - 113، الحلل الموشية 49 - - 50، روض
القرطاس 99، وفيات الأعيان 5: 30، 7: 120، الروض المعطار 93.
(2) لم يفتح المرابطون الجزر الشرقية إلا في 508 / 1115 وكانت سيادتهم عليها
قلقة (مكي: " وثائق تاريخية " 185 - 186). وأراد يوسف بن تاشفين سرقسطة
حاجزا بينه وبين الممالك المسيحية غير أن علي ابنه ضمها في 503 / 1110
(البيان المغرب 4: 43، الحلة السيراء 2: 248، عنان: عصر الطوائف
2: 281 - 282). أما عن شنتمرية الشرق فانظر الذيل والتكملة 5: 1: 52.
(3) أشباخ: تاريخ الأندلس 122 وما بعدها.
(4) المعجب 72، 208، الروض المعطار 97.
(5) راجع هويثي: " علي بن يوسف وأعماله في الأندلس "، مكي: " وثائق جديدة
167.
14

أهله، وأفضت إلى خراب الأندلس وضياعه، ومعها بدأ انهيار دولة
الموحدين كلها (1).
ولا ريب أن اتساع دولة الموحدين وترامي أطرافها وصعوبة
الدفاع عنها مع كثرة الأعداء المحيطين بها والعاملين من داخلها
كانت من العوامل الأساسية في سقوط كثير من مدن الأندلس أول
ما انفرط عقد الدولة الموحدية. هذا بالإضافة إلى أن الجبهة
الداخلية الأندلسية قد ضعفت نتيجة لاستحكام الانتهازية في
نفوس الكثيرين من أهلها ونقمة العامة على الطبقة المسيطرة من
الفقهاء " والنفرة الطبيعية بين الأندلسيين والمغاربة " (2).
وهكذا أصبح الأندلس مهيضا، وحاله حال من أصبح وأمسى
ينتظر الموت ولا يدري ما يفعل الله به. هذا في الوقت الذي
تفوق فيه العدو النصراني في الشمال تنظيما وعدة وسلاحا وروحا
معنوية. وأصبحت الحرب غير متكافئة، فالقلة منهم تفتح مدن
المسلمين وحصونهم دون مشقة أو كبير قتال. فسيطرت البرتغال
على غرب الأندلس، وقشتالة على حوض الوادي الكبير، وأرغون
على شرق الأندلس. وكانت قشتالة سباقة للفتح، واستطاع
فرناندو الثالث ملكها (1217 - 1252) أن يستولي على قواعد
الوادي الكبير مثل أندوجر وبياسة (623 / 1217)، وقرطبة
(633 / 1236)، وجيان (44 / 1246)، وقرمونة وإشبيلية

(1) المعجب 319 - 320، روض القرطاس 159، الذخيرة السنية 41، الروض
المعطار 11، نفح الطيب 4: 383.
(2) العبارة لابن الخطيب (انظر أعمال الأعلام، ط. ليفي، 277).
15

(646 / 1248). واستطاع شرق الأندلس وجنوبه أن يصمد بعض
الشئ نتيجة لجهود ابن هود وابن الأحمر إلا أن الشرق لم يصمد
طويلا فسقط بعد فترة يسيرة.
ففي هذا الصراع الذي امتد عبر قرنين من الزمان، كان شرق
الأندلس عامة، وبلنسية - بلد ابن الأبار - خاصة، أسعد حالا من
غيره من مناطق الأندلس ومدنه إذ قيض الله من ذاد عنه ودافع
في فترات مختلفة من أمثال المنتزين به من بني مردنيش، وبني
هود، وبني الأحمر، ومن أمثال الفقهاء الذين لم يتكالبوا على
الدنيا، وإنما جعلوا أكبر همهم الذب عن بيضة الدين وحوزة
المسلمين، فقاتلوا حتى استشهدوا، مثل أبي علي الصدفي وأبي
الربيع بن سالم الكلاعي وغيرهما.
ولم يكن ذلك الدفاع عن شرق الأندلس أمرا هينا ولا حالا
يسيرا. فقد لقي أهله - والبلنسيون منهم خاصة - أهوالا وتجشموا
صعابا وبذلوا أموالا وقدموا شهداء. فكثيرا ما صبروا على الشدة
حتى انتصروا. هكذا كان حال بلنسية مع مظفر ومبارك الخصيين
أيام الفتنة البربرية. فقد آويا إليهما كل آباق العبيد وضما إليهما
كل طريد وشريد، وزهدا عن الأحرار. ولكن صبر أهل بلنسية
جعلها أحسن حالا من غيرها من القواعد فأصبحت دارا لجالية
قرطبة فانتعش اقتصادها وازدهرت أوضاعها (1).
وقل مثل ذلك في حال بالنسية مع السيد القنبيطور وفتنته بها طوال
الفترة من 487 / 1094 إلى 495 / 1102 حتى أنقذها

(1) انظر رواية ابن حيان عند ابن بسام في الذخيرة 1: 1: 14 وما بعدها.
16

المرابطون (1). وشبيه بهذا حال بلنسية مع ابن مردنيش في
خريات أيامه، وتضيقه على بلنسية وحصاره لها متحالفا مع
النصارى متعسفا في فرض الضرائب والجعالات وجبايتها (2).
وعلى الرغم من صمود بلنسية طوال القرنين الخامس / الحادي
عشر والسادس / الثاني عشر فقد فشل أهلها في الاحتفاظ بها في
فترة انحلال الدولة الموحدية. لقد كانت بلنسية في تلك الفترة
تحت ولاية السيد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن
الذي ولاه الناصر الموحدي إياها سند 607 / 1210. ثم خلفه
ابنه السيد أبو زيد الذي نازعه الزعامة على بلنسية أبو جميل زيان
من بني مردنيش، فاضطر السيد أبو زيد إلى اللجوء إلى أرغون
مقيما بها مقتديا بأخيه السيد عبد الله البياسي الذي ذهب إلى قشتالة قبله.
وفي ذلك الوقت كانت مملكة أرغون بقيادة ملكها خايمه
الأول، مدعومة بالبابا أنسنت الثالث، قد بدأت كفاحا طويلا ضد
مسلمي شرق الأندلس. وفتحت أرغون حصن بنشكلة في
615 / 1228 ومدينة ميورقة في 621 / 1230، مما مهد الطريق
لإخضاع الجزيرة كلها في وقت يسير. وتوجه خايمه الأول نحو
بلنسية بحملات كثيرة طويلة فاتحا لحصونها ومسيطرا على سهولها
وذلك منذ سنة 630 / 1232 وحتى سقوط بلنسية في

(1) انظر 581, 9 - 538, 533, 508 5 -, 449, 434. PP, La Espana del Cid, Pidol.
(2) راجع المعجب 248 - 250، روض القرطاس 138 - 139. وانظر استصراخ
أبي المطرف محمد المخزومي للموحدين في حصار ابن سعد لبلنسية (الحلة
السيراء 2: 269).
17

636 / 1238. ولما فشل أبو جميل زيان في آخر محاولة جادة لرد
حملات خايمه عن منطقته في سنة 634 / 1237 توجه نحو
حفصي تونس مستنجدا، فبعثوا له بالمال والعتاد والزاد. ولم
يجد المدد طريقا إلى بلنسية المحصورة فاضطر أبو جميل زيان
إلى التسليم في 636 / 1238.
وانتقل أبو جميل إلى دانية متخذا لها قاعدة لملكه الصابر
الصامد في ظروف غير مواتية. ثم أضاف مرسيد إلى سلطانه. غير
أن دانية سقطت في 642 / 1244، وبقي في مرسية داعيا
للعباسيين في أول أمره، ثم داخلا في طاعة ابن الأحمر الذي لم
يلبث أن عزله، فهاجر زيان إلى إفريقية لاحقا بأفواج رعيته
وخلصائه الذين سبقوه إلى هنالك متخذين من تونس مهجرا.
هكذا كان عصر ابن الأبار عصر قلق واضطراب، وخوف
واكتئاب، وقتل ودمار، وطرد من الديار، وموت ذؤاب. ولعل خير ما
يصور حال العصر الذي عاشه ابن الأبار ما يرويه عن أبيه عن أبي
عبد الله ابن نوح وقد زاره بعض معارفه وسأله عن أحواله، فأنشده
ابن نوح متمثلا:
جرت عادة الناس أن يسألوا * عن الحال في كل خير وشر
فكل يقول بخير أنا * وعند الحقيقة ضد الخبر (1)

(1) ترجمة ابن الأبار الأب في التكملة.
18

وإذا كان الأدب يزدهر في عصور المشادة، فلا عجب أن
يزدهر عصر ابن الأبار من الوجهة الثقافية. وأية مشادة أبلغ من
الصراع بين المسيحية والإسلام على الأندلس، والمنافسة بين
مشرق الإسلام ومغربه، وبين العدوتين المغربية والأندلس. أفلا
يدعو كل ذلك لتدوين التراث وإبداع كل جديد في مختلف
الفنون!؟ ولهذا كان عصر ابن الأبار عصر ازدهار في اللغة
وآدابها، والقرآن وعلومه، والحديث وروايته، والفقه وأصوله
وفروعه، والفلسفة والعلوم التطبيقية والتاريخ والجغرافيا والرحلات
والتصوف. وكان لرجال مشرق الأندلس وبلنسية خاصة القدح
المعلى في الإنتاج الثقافي في النصف الأول من القرن السابع /
الثالث عشر (1). وقد أثر التياران السياسي والفكري في حياة ابن
الأبار العلمية والعملية تأثيرا بالغا.

(1) راجع عن هذا كله كتاب محمد المنوني: العلوم والآداب والفنون على عهد
الموحدين، مقدمة محمد بن شريفة لكتابه: أبو المطرف أحمد بن عميرة
المخزومي.
19

حياته العلمية
لقد تهيأ لابن الأبار مناخ ثقافي ثر، فولج باب العلم فاغترف من
ثبج بحر زاخر وشؤبوب غمام ماطر. لا سيما وأن أباه قد حرص
على تهيئة ابنه تهيئة علمية، وتنشئته نشأة دينية، فوجهه نحو الدين
وعلومه، وحرص أن يأخذ الإجازة من بعض الشيوخ لابنه الطفل.
يقول ابن الأبار: إن القاضي أبا بكر بن أبي جمرة أجاز والده
عبد الله بن الأبار وأجازه هو معه مرتين إحداهما في غرة 597
والثانية في ذي القعدة من العام ذاته وابن الأبار الابن وقتها ابن
عامين. وقرأ ابن الأبار الابن عن والده القرآن بقراءة نافع مرارا
وسمع منه أخبارا وأشعارا. وكان الوالد يمتحن حفظ ابنه لما
يتلقاه من علوم. وناول الأب الابن جميع كتبه وشاركه في أكثر
من روى عنهم (1).
والناظر في شيوخ ابن الأبار والعلوم التي أخذها عنهم والفنون
التي صنف فيها يدرك الشأو الذي بلغه في العلم في المغرب
الإسلامي، مما يدعو إلى القول بأنه كان في منزلة رجال الكمال
في عصره.
لقد أخذ ابن الأبار عن أكثر شيوخ عصره، مغاربة ومشارقة، قراءة
أو سماعا أو إجازة. " ولم يزل يسمع العلم ويتلقاه عن الكبير

(1) انظر ترجمة ابن الأبار الأب في التكملة رقم 1441.
20

والصغير شغفا به وحرصا عليه إلى منتهى عمره " (1). وحسب
المرء في هذا التقديم الإشارة إلى أبرز شيوخه في العلوم التي
برع فيها وصنف. لقد أخذ الفقه والحديث والشروط عن أبي
عبد الله محمد بن أيوب بن نوح السرقسطي (ت 608 / 1212)،
ومحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي زاهر (ت 634 /
1237). وأخذ الحديث والتاريخ عن أبي الخطاب أحمد بن
محمد بن عمر بن محمد بن واجب القيسي (ت 614 / 1217).
وأخذ التاريخ أيضا عن أبي سليمان داود بن سليمان بن حوط الله
الأنصاري (625 / 1227). وأخذ النحو والأدب عن محمد
بن محمد بن سليمان بن محمد بن عبد العزيز الأنصاري
(ت 610 / 1213)، وعن أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن
مسلم البكري (ت 628 / 1230)، وأبي عامر نذير بن وهب بن
لب بن عبد الملك بن نذير الفهري (ت 636 / 1238)، وأبي
محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن مطروح القيسي
(ت 635 / 1237).
وكان أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم بن حسان
الحميدي الكلاعي (ت 524 / 1227) أكبر شيوخه وأكثرهم تأثيرا
في حياته. يقول ابن عبد الملك عن صلة ابن الأبار بابن سالم
هذا: " واحتذى به ولازمه أزيد من عشرين سنة " (2). لقد برع
الكلاعي في الحديث والتاريخ والأدب والبلاغة وإنشاء الرسائل

(1) انظر عنهم الذيل والتكملة 6: 253 - 257 ودراسة عبد العزيز عبد المجيد
حيث أحصاهم عددا.
(2) الذيل والتكملة 6: 253.
21

والخطابة والتكلم عن الملوك. وبرز في التصنيف في التاريخ
والحديث، وهو الذي حض ابن الأبار على تصنيف التكملة بل
أمده بتقيداته فانتفع بها في التكملة. واستشهد أبو الربيع في
واقعة أنيشة قرب بلنسية. وإليه كانت الرحلة في عصره (1).
وبلا ريب إن أبا الربيع كان شيخ عصره علما وجهادا
واستشهادا، ولعله خاتمة تلك العصبة من العلماء المجاهدين ضد
الظلم الداخلي والعدوان الخارجي، مثل: الحسين بن سكرة
الصدفي (توفي 514 / 1121 في معركة كتندة)، والقاضي عياض
ابن موسى اليحصبي (ت 544 / 1149 - 1150)، وأبي بكر
محمد بن عبد الله بن يحيى بن الجد (ت 586 / 1190)، ثم
أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الحفيد
(ت 595 / 1199).
لكثرة شيوخ ابن الأبار وتنوع معارفه فقد اكتسب علوما شتى
حتى سماه المستنصر الحفصي ب‍ " حبر قضاعة " (2). وقال عنه
الغبريني: " ولا يكاد كتاب من الكتب الموضوعة في الإسلام إلا
وله فيه رواية إما بعموم أو بخصوص " (3). وحلاه ابن عبد الملك
بقوله: " وكان آخر رجال الأندلس براعة وإتقانا، وتوسعا في
المعارف وافتنانا، محدثا مكثرا، ضابطا عدلا ثقة، ناقدا يقظا،
ذاكرا للتواريخ على تباين أغراضها، مستبحرا في علوم اللسان
نحوا ولغة وأدبا، كاتبا بليغا، شاعرا مفلقا مجيدا، عني بالتأليف

(1) التكملة رقم 1991.
(2) رحلة التيجاني 376.
(3) عنوان الدراية 259.
22

وبخت فيه، وأعين عليه بوفور مادته، وحسن التهدي إلى سلوك
جادته، فصنف في ما كان ينتحله مصنفات برز في
إجادتها... " (1).
فلا عجب إن ألف ابن الأبار فأكثر، وصنف في فنون متنوعة،
وعلوم شتى، نثرا ونظما. فقد كتب ما ينيف على خمسين
مصنفا (2). ومنها يبدو واضحا اهتمامه بفنون ثلاثة رئيسية: الأدب
والحديث والتاريخ. وقد سلم القليل منها من عوادي الزمن مثل
أعتاب الكتاب، وتحفة القادم مقتضبا، والتكملة، والمعجم في
أصحاب أبي علي الصدفي، والحلة السيراء، ودرر السمط،
الذي نقدم له، هذا بالإضافة إلى أشعاره ورسائله. ومن مصنفاته
يتضح علو كعبه في التاريخ، وخاصة في التراجم، ويتبين أنه
مؤرخ فحل، واسع الاطلاع، نافذ النظر، حديد البصر، صادق
الحكم، مقتدر على استدراك أخطاء من سبقوه.

(1) الذيل والتكملة 6: 258.
(2) المصدر ذاته 6: 258 - 259. وانظر دراسة عبد العزيز عبد المجيد عن
مؤلفات ابن الأبار.
23

حياته العملية
إن هذه الثقافة التي نالها ابن الأبار مهدت له الطريق للإسهام
في الحياة العامة بنصيب، سواء في الخطط الإدارية أو الوظائف
الكتابية أو الإسفار عن الولاة. ومن ثم فقد كان عليه أن يلج باب
السياسة ومتاهاتها ويتحمل تبعاتها. هذا على الرغم من أن بيته لم
يكن من بيوت النباهة والجلالة ولا الرئاسة والقيادة.
لقد كتب ابن الأبار، وهو لم يتجاوز العشرين من عمره،
للسيد أبي عبد الله بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن الذي ولاه
الناصر ولاية بلنسية منذ سنة 607 / 1210 (1)، ثم كتب لابنه
السيد أبي زيد (2). ولما لجأ أبو زيد إلى خايمه الأول ملك أرغون
في صفر 626 / 1228 عندما هزمه أبو جميل زيان وغلبه على
بلنسية، صحب ابن الأبار أبا زيد هذا إلى هنالك. غير أن ابن
الأبار عاد مسرعا إلى الأندلس لما رأى سيده يرغب في الإقامة في
بلاد النصارى، فقد كان في وادي آش في شوال 626 / 1229.

(1) عن ولاية السيد أبي عبد الله انظر البيان المغرب (هويثي) 232، العبر
6: 521.
(2) كان أبو زيد واليا على بلنسية منذ خلافة المستنصر (610 / 1213 -
620 / 1223) وظل عليها خلافة عبد الواحد والعادل والمأمون (راجع البيان
المغرب - ط. هويثي - 257، العبر 6: 525، 528، روض القرطاس 263،
ابن شريفة: أبو المطرف أحمد بن عميرة المخزومي 90.
24

ويبدو أنه ذهب إلى أمير شاطبة أبي الحسين الخزرجي. وتولى
قضاء دانية في سنة 633 / 1235 - 1236 ثم عاد إلى بلنسية
مستصرخا أبا زكريا الحفصي أمير تونس، وذلك عندما حاصرت
قوات خايمه بلنسية، وأحكمت حصارها في رمضان
635 / 1238، وفشلت كل المحاولات المحلية في رد تلك
القوات. وفي تلك الوفادة أنشد ابن الأبار سينيته المشهورة:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا * إن السبيل إلى منجاتها درسا
وقد نجحت سفارة ابن الأبار، فأرسل أبو زكريا الحفصي مالا
وعدة ومؤنا، إلا أنها لم تجد طريقا للبلد المحصور. فاضطر أبو
جميل للتسليم، وبعث ابن الأبار مفاوضا. وبمقتضى الاتفاق
الذي أمضوه خرج المسلمون من بلنسية نهائيا في 636 / 1238.
وخرج أبو جميل إلى دانية ورافقه ابن الأبار إلى هنالك ويبدو
أن ابن الأبار وقتها قد كتب إلى بعض رؤساء الأندلس ليجد عملا
عندهم، ولكنه لم يوفق (1)، فظل في خدمة أبي جميل زيان الذي
أوفده مرة أخرى إلى تونس حاملا بيعة أبي زيان لأبي زكريا
الحفصي في 636 / 1239.
ولما عاد ابن الأبار إلى دانية من سفارته الثانية، وجد الناس قد
غزتهم كتائب من النوائب، وتغلب العدو على القواعد، والناس
يضربون طبول الذعر، واليأس قد ملأ قلوبهم، فقرر الهجرة إلى
العدوة مثلما فعل غيره، كأبي المطرف ابن عميرة (ت 658 /

(1) أورد المقري عدة رسائل من ابن الأبار لعدة من رؤساء الأندلس انظر أزهار
الرياض 3: 216 - 221.
25

1261)، وأبي الحجاج يوسف البياسي (ت 653 / 1256).
فتوجه هو إلى تونس بعد أن عرج على بجاية في سنة
637 / 1239، فاستكتبه أبو زكريا الحفصي مدة ثم غضب عليه
ونفاه إلى بجاية حيث رآه فيها ابن سعيد المغربي وقال عنه: " وهو
الان بها عاطل من الرتب خال من حلى الأدب، مشتغل
بالتصنيف في فنونه، مثقل منه بواجبه ومسنونه " (1).
واستعتب ابن الأبار الأمير الحفصي فأعتبه، ثم علا صيته
واشتهر مع المستنصر الحفصي. غير أن الصراع بين الأندلسيين
المهاجرين وبالبلديين، واعتداد ابن الأبار بنفسه، وأنفته وسرعة غضبه
وضيق خلقه، كانت عوامل أدت إلى اتهام ابن الأبار، فيما يبدو،
بتهديد السلطان والاشتراك مع آخرين ضد الدولة. وما وجد عنده
من هجاء للمستنصر اتخذ دليلا، فضرب بالسياط وقتل ضربا
بالرماح، وأحرقوا شلوه ومصنفاته في 658 / 1260.
إن ذلك العصر المضطرب الذي ساده القلق قد أثر في إنتاج
الأدباء والمفكرين أبلغ تأثير. وابن الأبار لم يكن بدعا في ذلك،
وإنتاجه خير شاهد على ذلك. ودرر السمط خير ما يصور مأساة
العصر وابن الأبار الأندلسي البلنسي الفقيه الأديب الكاتب
السياسي الذي شهد استشهاد وطنه وعاش هو أسير خوف على
المصير. فهل أدى ذلك إلى تشيع ابن الأبار وأضرابه؟
.

(1) اختصار القدح المعلى 191.
26

التشيع في الأندلس
يبدو أنه من المفيد التمييز بين مصطلحات أربعة تتعلق بالتشيع
حتى تفهم ظاهرة التشيع في الأندلس فهما دقيقا وهي: التشيع
المذهبي، ودعوة النسب الطالبي، وحب آل البيت، وأدب بكاء
آل البيت دون تشيع مذهبي. فالتشيع مذهب اعتقادي هو نتاج
وضع اجتماعي وسياسي أفرزته بيئات المشرق الإسلامي وظروفه
ممثلا معارضة النظام القائم طوال فترة الخلافتين الأموية والعباسية
في المشرق، باستثناء فترة قصيرة حيث تجسد التشيع في دولة ألا
وهي فترة الخلافة الفاطمية في مصر. وكان هذا التشيع المذهبي
يتمثل في الغالب في الميل عن أهل السنة وآرائهم التي كانت رمز
الشرعية وعروة النظام القائم وقتذاك.
ولهذا لابد من التمييز بين التشيع كمذهب له قواعده وآراؤه
واصطلاحاته وتنظيماته ودعاته وبين دعوة النسب الطالبي دون
تمذهب شيعي من جهة وحب آل البيت من جهة أخرى.
فالموقف الأخير تجده عند أهل السنة لأن الله أذهب عن آل البيت
الرجس وطهرهم تطهيرا (1) وسأل المؤمنين المودة فيهم (2)، وإلى

(1) يقول الله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا}. الأحزاب 33: 33.
(2) يقول سبحانه: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} الشورى
42: 23.
27

هذا يشير قول عبد المهيمن الحضرمي السبتي بقوله عن حبه لآل
البيت: " أحبهم حب التشرع لا حب التشيع " (1). وهنا ينبغي
التفريق بين حب آل البيت والبكاء على ما أصابهم من مأسي
متصلة في حلقات متعاقبة من العمل السياسي. فأدب البكاء هذا
قد يكون نتيجة التزام بالمذهب الاعتقادي الشيعي أو قد يكون
نتيجة لظروف خاصة بالشاعر أو الكاتب فوجد كل منهما في
مأسي آل البيت ما يحكي مأساته هو أو مأساة مجتمعة. وفي
الحالة الأخيرة هذه لابد من تبين الظروف الاجتماعية التي
أفرزت هذه الظاهرة التي تسمى أدب بكاء آل البيت في بيئة غير
شيعية. فكيف تعين هذه التميزات في فهم التشيع في
الأندلس (2)؟
من اللافت للنظر أن التغييرات الكبرى في أيام الخلافة
الإسلامية كانت تبدأ من مناطق الأطراف، ثم تزحف إلى وسط
أراضي الخلافة. وكان هذا حال الثورة العباسية والدعوة الفاطمية
وحركات الاستفاقة السنية مع السلاجقة الأتراك ودولهم المتتابعة
في المشرق والمرابطين والموحدين في المغرب. ومع أن
الأندلس كان منطقة أطراف فلم يعرف حالة شبيهة بتلك
الحالات. ولعل هذا يدل على أن أوضاع الأندلس وظروفه لم
تساعد على قيام حركات معارضة عقائدية كتلك التي شهدتها
الخلافة الإسلامية متجسدة في ثورات الخوارج والشيعة وحركات

(1) نفح الطيب 5: 469.
(2) راجع عن هذا الموضوع محمود مكي: " التشيع في الأندلس "، صحيفة معهد
الدراسات الإسلامية، مدريد، 1954 عدوى 1 - 2 وقد وصل فيه البحث إلى
أيام بني حمود.
28

الإصلاح السنية. وربما ترجع هذه الظاهرة الأندلسية إلى
خصوصية الوضع الأندلسي ذاته وكان لهذه الخصوصية الأندلسية
أثر كبير في قضية التشيع في الأندلس. ومن المفيد النظر إليها في
أربعة أدوار: دور الإمارة والخلافة، وعصر الطوائف، وفترة
التدخل المرابطي الموحدي، ثم دور الضعف مع انحلال دولة
الموحدين.
إن خصوصية الوضع الأندلسي تبدو جلية واضحة في كون
الأندلس كله قد اعتبر من ثغور الإسلام، وسرقسطة منه تمثل الثغر
الأعلى أو الأقصى (1). ولم تسلم شواطئ الأندلس الغربية
والجنوبية والشرقية من غزوات الشعوب الأوروبية طوال فترة
الخلافة (2). ومع أن الأندلس ثغر إلا أنه من الثغور المكتفية
بذاتها المعتمدة على مواردها. ولهذا كانت الطوائف في أيام
الإمارة والخلافة من أهم ما يكسب النظام شرعيته ومبررات
وجوده (3). ومن هنا فإن قضايا الأمن الداخلي والتغيير كانت تعتبر
من القضايا التي تهدد وجود الجماعة الإسلامية. وهذا ربما يفسر
سر قدسية التقليد والمحافظة عند الأندلسيين والنفور عن البدع

(1) يقول المقري: " واعلم أنه لو لم يكن للأندلس من الفضل سوى كونها ملاعب
الجياد للجهاد لكان كافيا " نفح الطيب (الأزهرية) 1: 87.
(2) من ذلك غزوات أساطيل المجوس، وفق تسمية المصادر الإسلامية لها، على
لشبونة وقصر أبي دانس وإشبيلية ومدن شرق الأندلس (انظر على سبيل المثال
البيان المغرب 2: 87 - 88، 96 - 97، 399).
(3) يعتبر ابن حزم " دولة بني أمية بالأندلس... أنبل دول الإسلام وأنها في العدو "
نفح الطيب (الأزهرية) 1: 153.
29

في الدين والازورار عن أقوال أصحاب الرأي فيه (1). ومما ساعد
في ذلك أن أرض الأندلس " لم تتجاذب فيها الخصوم ولا
اختلفت فيها النحل " على حسب قول ابن حزم في تعليله لقصور
باع الأندلسيين في علم الكلام (2).
فلا عجب إن كان الصراع في أندلس الإمارة والخلافة صراعا
إقليميا قبليا عنصريا بين مضرية ويمانية وعرب وبربر وموالي (3). ولقد
تميزت ثورات فترة تأسيس الإمارة الأموية بطموحات فردية مستغلة
لتذمر اجتماعي محدود في رقعة جغرافية معينة. وخير أمثلة على
ذلك ثورة العلاء بن مغيث الجذامي في باجة (4)، وهشام بن عروة
في طليطلة (5)، وسعيد اليحصبي في لبلة، وأبي الصباح بن يحيى

(1) منذ أن تحول الأندلس عن مذهب الأوزاعي مذهب أهل الشام إلى مذهب
مالك مذهب أهل المدينة في خلافة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن ثالث
أمراء بني أمية في قرطبة (نفح الطيب، الأزهرية، 2: 158 - 159) أصبح
التقليد هو القاعدة واتباع الفروع هو أصل الفقه. وتميزت المعارف بالنفور عن
المستحدث من الآراء حتى تلك التي تلقتها الجماعة المسلمة في المشرق
بالقبول. وخير ما يصور ذلك الموقف من آراء أبي حامد الغزالي في بداية
الأمر. وانظر كيف وقف فقهاء قرطبة في بادئ الأمر في وجه الطرف الجديدة
التي جاء بها بقي من مخلد في البيان المغرب 2: 110.
(2) نفح الطيب (الأزهرية) 2: 134. وعن موقف الأندلسيين من الفلسفة انظر نفح
الطيب 1: 102 - 103.
(3) انظر أمثلة في البيان المغرب 2: 53 - 54، 62، 64، 70، 81، 82، نفح
الطيب (الأزهرية) 2: 64، 67، 73، 79، المغرب في حلي المغرب
2: 161.
(4) نفح الطيب (الأزهرية) 1: 156، 2: 67، البيان المغرب 2: 51 - 52.
(5) البيان المغرب 2: 53.
30

اليحصبي في أشبيلية (1)، وعبد الغافر اليحصبي في أشبيلية (2)،
والحسين بن يحيى بن سعد بن عبادة الأنصاري في سرقسطة (3).
وشبيه بهذه الثورات تلك الثورات التي اندلعت في جميع أرجاء
الأندلس في إمارة عبد الله بن محمد، وقاد أكثرها العرب، وما
أخضعت إلا في خلافة حفيده عبد الرحمن الناصر (4).
ومما يلفت النظر في هذه الثورات جميعها خلوها من
المضمون الاجتماعي والغطاء الفكري، حتى إن المؤرخين
المسلمين احتاروا في أمر ثورة الربض في سنة 202 ه‍، " فمنهم
من يقول إن ذلك الهيج كان أصله الأشر والبطر، إذ لم تكن
ضرورة من إجحاف في مال، ولا انتهاك لحرمة، ولا تعسف في
ملكة "، فعلق ابن عذاري قائلا: " والحال تدل على صحة ذلك:
فإنه لم يكن على الناس وظائف، ولا مغارم، ولا سخر ولا
شئ يكون سببا لخروجهم على السلطان، بل كان ذلك أشرا
وبطرا، وملالا للعافية، وطبعا جافيا، وعقلا غبيا، وسعيا في
هلاك أنفسهم... " (5).
وهذه القاعدة العامة، من خلو الثورات من مضمون اجتماعي
وغطاء فكري، بعض الاستثناءات مثل ثورة أبي العلاء بن مغيث
فقد كانت عباسية، فنشر أبو العلاء الأعلام السود ودعا إلى طاعة

(1) البيان المغرب 2 \ 53 - 54، نفح الطيب (الأزهرية) 2: 73.
(2) البيان المغرب 2 \ 55.
(3) المصدر ذاته 2: 56 - 57.
(4) البيان المغرب 2: 133 - 138.
(5) البيان المغرب 2: 76.
31

أبي جعفر المنصور (1). هذا بالإضافة إلى ثلاث ثورات أخر.
تزعم الأولى شقيا بن عبد الواحد المكناسي مدعيا أنه فاطمي،
وثار بشنت برية، وتجمع حوله البربر، ودامت ثورته من سنة
152 ه‍ إلى سنة 160 ه‍ (2). وقاد الثانية ثائر ادعى النبوة في
الثغر الأعلى سنة 237 ه‍ (3). وكان على رأس الثالثة زعيم ادعى
أنه من ولد عبد المطلب في أشبونة سنة 333 ه‍ (4).
من هذا يتضح أن هناك ثورتين فقط ادعى قائداهما نسبة
فاطمية أو مطلبية قد تدعو إلى الظن بأن هناك أثرا شيعيا (5). غير
أن ادعاء النسب، في المغرب الإسلامي عامة والأندلس خاصة،
لا ينهض دليلا على شيعية الحركة في عهدي الإمارة والخلافة،
وحسب المرء شهادة على ذلك حركتا الأدارسة وبني حمود.
ولعل أقوى دليل على أن الأندلس لم يكن ممهدا للدعوة
الشيعية لتمثل معارضة السلطة القائمة هو ثورة ابن حفصون. لقد
ثار عمر بن حفصون متخذا من حصن بربشتر قاعدة ومن كورة
رية وتاكرنا والجزيرة ميدانا لأعماله. وكانت ثورته ضد الظلم
الاجتماعي وذات نزعة " شعوبية " ضد العرب. وكان معظم أتباعه
من مسالمة أهل الذمة أو من أسلم منهم. يقول ابن عذاري عنه:
" فلما ثار، وجد من الناس انقيادا وقبولا للمشاكلة والموافقة،

(1) البيان المغرب 2: 51، نفح الطيب (الأزهرية) 1: 156، 2: 73.
(2) نفح الطيب (الأزهرية) 2: 73، البيان المغرب 2: 54 - 55.
(3) المغرب 1: 50، البيان المغرب 2: 90.
(4) البيان 2: 211.
(5) انظر بحث محمود مكي 99 - 110.
32

فتألبت له الدنيا، ودخل إلى الناس من جهة الألفة، وقال: " طال
ما عنف عليكم السلطان، وانتزع أموالكم، وحملكم فوق
طاقتكم، وأذلتكم العرب واستعبدتكم، وإنما أريد أن أقوم
بثأركم، وأخرجكم من عبوديتكم " (1). ومع كل هذا لم يجد ابن
حفصون حاجة للبوس التشيع مذهبا لحركته ضد النظام
الاجتماعي والسلطة الممثلة له مع أن التشيع مذهب مخالف
لمذهب الجماعة المسيطرة الغالبة.
ومن هنا يصعب القول بأن أندلس الإمارة والخلافة عرف حركة
شيعية، ولم يهتم أمراء بني أمية الأندلسيين بالشيعة مذهبا وحركة
إلا في خلافتي الناصر وابنه المستنصر، نتيجة لقيام الدولة
الفاطمية في إفريقية، وصراعهم والأمويين على المغرب
الأقصى (2)، الذي اعتبروه جميعا منطقة نزاع بينهما. ولهذا
حرص أمويو قرطبة على طاعة حسني المغرب من الأدارسة (3)
وبني قنون الذين قاتلهم الأمويون عندما أظهروا الطاعة
للفاطميين، بل إن الأمويين قد حرقوا منبرا للفاطميين في أصيلا
كان بنو قنون قد شادوه (4).

(1) البيان المغرب 2: 114، وعن ثورته انظر 104، 106، 114، 116 - 119،
121 - 123، 131، 133 - 134، 139 - 140، البيان المغرب 1: 53،
184 - 185. وتجدر الإشارة إلى أن ثورته استمرت مدة أربعة من أمراء
بني أمية، من أيام محمد عبد الرحمن إلى خلافة الناصر. والجدير بالذكر أن
ابن حفصون في بعض مراحل ثورته أظهر النصرانية (البيان المغرب 2: 139).
(2) في ما يروى أن الناصر تسمى بأمير المؤمنين بسبب قيام خلافة الفاطميين (انظر
المغرب 1: 182).
(3) راجع عنهم البيان المغرب 2: 212، 215 - 216، 240، 241.
(4) البيان المغرب 2: 246 وعن استسلام بني قنون ص 248.
33

ولم يكتف الناصر والمستنصر بتتبع الشيعة في مملكتهما
وقتلهم (1)، وإنما سعى الناصر خاصة إلى زعزعة كيان الدولة
الفاطمية في إفريقية بتأييد الثوار عليها حتى وإن كانوا خوارجا
أباضية مثل أبي يزيد مخلد بن كيداد (2). وعلى ضوء هذا يمكن
فهم سياسة الناصر " بإطلاق اللعن على ملوك الشيعة بجميع منابر
الأندلس " (3). وقد حرص الأمويون على محاربة التشيع المذهبي
بوسائل متعددة منها الفكر والأدب. فهذا هو المستنصر، الذي
يوصف بأنه أحوذي ونسيج وحده في الأنساب (4)، يطلب التأليف
في أنساب الطالبيين، خاصة الذين قدموا إلى المغرب، وقد
صنف له ابن الشبانية كتابا في ذلك (5)، مما يدل على أن الغرض
منه كان سياسيا، هذا في الوقت الذي صنف قاسم بن أصبغ أحد
شيوخ المستنصر كتابا في فضائل بني أمية (6). وقد نظم ابن
عبد ربه أرجوزته التي أسقط فيها خلافة علي واعتبر معاوية رابع
الخلفاء، حتى قيل إن تلك الأرجوزة قد شقت على المعز
الفاطمي إلى أن عارضها شاعره الإيادي التونسي بأخرى (7).
ولكن روح لمحافظة السنية في المجتمع الأندلسي فإن تقبلت

(1) لعل إلى هذا يشير المقدسي بقوله: " إن الأندلسيين إذا عثروا على شيعي فربما
قتلوه ". (أحسن التقاسيم 322).
(2) انظر بيعته للناصر في سنة 333 ه‍. (البيان المغرب 2: 213).
(3) البيان المغرب 2: 230.
(4) نفح الطيب (الأزهرية) 1: 184.
(5) التكملة 2: 699 وانظر تعليق محمود مكي في بحثه آنف الذكر.
(6) انظر نفح الطيب (الأزهرية) 1: 184، 2: 133.
(7) وفيات الأعيان 1: 111 - 112.
34

الهجوم على الشيعة سياسيا فلم ترض عن انتقاص علي كخليفة،
وقد رد منذر البلوطي قاضي الجماعة في قرطبة على ابن عبد ربه
ردا عنيفا (1) ولم يعرض ذلك منذرا لسخط الناصر مما يؤكد أن
القضية كلها كانت موجهة ضد فاطمي إفريقية. وحسبك أن ابن
حزم الذي تشيع " لأمراء بني أمة، ماضيهم وباقيهم بالمشرق
والأندلس " اعتقد بإمامة عبد الله بن الزبير ويرى أن مقتل الحسين
من أكبر مصائب الإسلام (2).
ولم يجد التشيع إلى الأندلس طريقا حتى بعد أن أدبرت دولة
بني أمية، وأعرض الناس عنهم ك وأصبح الانتساب لهم قد يعرض
صاحبه إلى شقاء واضطهاد، حتى إن الشاعر أيوب بن سليمان
السهيلي الأموي، في أول أيام المرابطين يقول لغلامه: " إذا
سئلت عني فقل إنه من اليهود، فإنه أمشى لحالنا " (3).
وفي أيام بني حمود تهيأ مناخ لنشوء أدب تشيع ذلك لأن بني
حمود كانوا علويين وأخذوا السلطة من أمويين. ويلاحظ أن
الشعراء الذين مدحوا علي بن حمود أو إدريس بن يحيى من أمثال
ابن دارج القسطلي وعبادة بن ماء السماء وابن مقانا كانوا يصفون
ممدوحهم بابن الرسول أو الهاشمي أو الطالبي أو الفاطمي (4)،

(1) التكملة 1: 293 ويقول ابن بسام عن ابن عبد ربه: " ووقفنا على... ومدائحه
المروانية ومطاعنة في العباسية " (الذخيرة 4: 1: 210). هذا مع أن عبد ربه في
عقده قد عد عليا من الخلفاء (العقد 2:).
(2) قارن الذخيرة 1: 1: 169 والمغرب 1: 355 بما في المحلى 1: 236 وجوامع
السيرة 359 ومناقشة دكتور إحسان للأمر في مقدمة جوامع السيرة.
(3) المغرب 1: 61.
(4) مثل قول ابن دارج في خطابه لعلي " حسبك الله يا ابن رسول الله " (الذخيرة
1: 1: 64). أو في شعره في لاميته:
فكوني شفيعي إلى ابن الشفيع * وكوني رسولي إلى ابن الرسول
إلى قوله:
إلى الهاشمي إلى الطالبي * إلى الفاطمي العطوف الوصول
(الذخيرة السنية 1: 1: 88 - 90، ديوان ابن دارج 75).
أو قول عبادة:
صلى عليك الله يا ابن رسوله * ووليه المختص بعد خليله
(الذخيرة 1: 1: 476، وانظر أخرى 478).
أو قول ابن مقانا في نونيته المشهورة:
يا بني أحمد يا خير الورى * لأبيكم كان رفد المسلمين
وقوله:
خلقوا من ماء عدل وتقى * وجميع الناس من ماء وطين
وقوله:
انظرونا نقتبس من نوركم * إنه من نور رب العالمين
(الذخيرة 2: 2: 793، نفح الطيب (الأزهرية) 1: 202 - 203).
35

وقد يجهرون بحبهم لآل محمد كصنيع ابن الحناط في قوله:
إن كان عدوا حب آل محمد
ذنبا فإني لست منه أتوب (1)
وفي كل هذا لا يظهر أثر للمذهب الشيعي ولا يخرج قائله من
نطاق ما يقول به أهل السنة. وابن دارج الذي يعتبر أول من ذكر

(1) الذخيرة (1: 1: 449).
36

مناقب أهل البيت في أسلوب حزين مؤثر (1) لم يورد مصطلحات
شيعية في القصيدة التي عدها ابن بسام " من الهاشميات الغر التي
بناها من المسك والدر فلو سمعها شعراء الشيعة المشارقة
لأمسكوا عن القول " (2).
ولا تجد مصطلحات تشيع صريحة مذكورة إلا عند ابن الحناط
الكفيف في مثل قوله عن علي بن حمود:
إمام وصي المصطفى وابن عمه * أبوه، فتم الفخر بين أب وابن (3)
أو قوله عن يحيى الحمودي:
لئن كان من قبله جده * علينا الوصي فهذا الأمين (4)
ويذهب ابن بسام إلى القول بأن عبادة بن ماء السماء كان " يظهر
التشيع في شعره " ويستدل على ذلك بقول عبادة في يحيى بن
حمود:
فها أنا ذا يا ابن النبوة نافث * من القول أريا غير ما ينفث الصل
وعندي صريح في ولائك معرق * تشيعه محض وبيعته بتل

(1) مقدمة محمود مكي لديوان ابن دارج.
(2) انظرها في الذخيرة 1: 1: 88 - 91، ديوان ابن دارج 75 - 81.
(3) الذخيرة 1: 1: 451.
(4) الذيل والتكملة 6: 223.
37

ووالي أبي قيس أباك على العلا * فخيم في قلب ابن هند له غل (1)
فآراء عبادة هذا ومصطلحات الحناط تلك تشابه ما مدح به
الحموديين من قبل. وكلها لا تخرج عن كونها مدائح شعراء
كلبهم الدهر وعضتهم الحاجة فاشتد عليهم الزمان وضاق بهم
الحال فأسرفوا في مديحهم طمعا في نوال ممدوحهم. وقد مدحوا
غير بني حمود بأوصاف تعارض هذه الأقوال مما يدل على
انتهازية لا عقائدية في مواقفهم يقول ابن دارج عن سليمان بن
الحكم الأموي:
قريب النبي المصطفى وابن عمه * ووارث ما شادت قريش وعدنان (2)
ويقول في المرتضى آخر بني مروان:
وبيعة رضوان رعى الله حقها * لمن بيعة الرضوان إذ غاب جده (3)
ولا يستغرب هذا الموقف المتناقض من شاعر يقول عنه ابن
حيان: " وكان ممن طوحت به تلك الفتنة الشنعاء، واضطرته إلى
النجعة، فاستقري ملوكها [أي جزيرة الأندلس] أجمعين، ما بين
الجزيرة الخضراء فسرقسطة من الثغر الأعلى، يهز كلا بمديحه
ويستعينهم على نكبته ". ثم يضيف: وجرت له " أخبار شاقة،

(1) الذخيرة 1: 1: 478.
(2) من نونيته المشهورة، انظر ديوانه 54 - 59، الذخيرة 1: 1: 70.
(3) الذخيرة 1: 1: 82 وانظر القصيدة في ديوانه 81 - 86.
38

فيها لذي اللب موعظة بالغة " (1). وأصبح مضربا لمثلهم في
شكوى الزمان والحديث عن الفتن (2).
ويبدو أن عبادة كان في ضيق حياة وضنك عيش ومن ثم تميز
بالحرص القاتل. يقول ابن شهيد، حسبما يروي الحميدي: " إن
عبادة مات في مالقة مغتما عندما ضاعت منه مائة مثقال " (3).
وشكى ابن مقانا الأشبوني (4) زمانه ثم عاد زارعا بعد تطوافه على
ملوك زمانه ومدحه ملوك الجزيرة كلها. وكان ابن الحناط الضرير
" سئ الظن بمعارفه شديد الحذر على نفسه، فاسد التوهم في
ذاته " (5). وما بالغ في مدح بني حمود إلا لخوفه من أبي الحزم
ابن جهور. يقول ابن عبد الملك المراكشي: " وكان ابن الحناط
ممن خاف من أبي الحزم بن جهور بسبب ما شاع عنه من هجائه
إياه، فلحق ببني حمود وهاجر إليهم وأكثر من مديحهم، وطار
ذكره بالتشيع فيهم والاختصاص بهم " (6).
أما تصوير ابن دارج لحنان النبي (صلى الله عليه وسلم) على أحفاده في صورة
حزينة وعاطفة جياشة، ستصبح نواة لأدب بكاء آل البيت في الأندلس،
فمصدرها أن ابن دارج نفسه كان له من الأطفال، مع حاجته، ما
ألجأ للإحاف في السؤال والاشتطاط في المدح، وقد ذكر

(1) الذخيرة 1: 60 - 61.
(2) يقول ابن بسام عن ابن شرف القيرواني: " إنه انتحى منحى القسطلي في
شكوى الزمن والحديث عن الفتن " (الذخيرة 4: 1: 91 - 92، 170).
(3) الذخيرة 1: 1: 470 - 471، فوات الوفيات 2: 153.
(4) الذخيرة 2: 2: 787، 788 - 793.
(5) انظر رواية ابن حيان عند ابن بسام في الذخيرة 1: 1: 438.
(6) الذيل والتكملة 6: 222.
39

صراحة في قصيدة رفعها إلى سليمان بن الحكم الأموي، مضمنا
بيت الحطيئة المشهور في نفس غرضة. يقول ابن دارج (1).
" ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ * حمر الحواصل لا ماء ولا شجر "
ما أوضح العذر لي لو أنهم عذروا * وأجمل الصبر بي لو أنهم صبروا
لكنهم صغروا عن أمة كبرت * فما اعتذاري عمن عذره الصغر
وهكذا لم يجد التشيع سبيلا إلى الناس في أندلس الفتنة
البربرية وعصر الطوائف. هذا مع أن العصر الأخير قد كان فترة
كرب عظيم وبلاء مقيم للخاصة والعامة. فزهد عامة الناس في
الطبقة المسيطرة: أمراء وفقهاء، ويئست الطبقة المسيطرة ذاتها
من نفسها، ولجأوا جميعا ومعا إلى قوة مسلمة خارجية طمعا في
حفظ الأندلس ودرء الخطر الخارجي عنه وأملت العامة أيضا في
العدل الاجتماعي (2)، ومن ثم كان تدخل المرابطين ثم
الموحدين في الأندلس.
وأخفق المرابطون والموحدون في نهاية المطاف في الأمرين
معا. وقد سيطر القلق على نفوس الأندلسيين حتى في عز قوة
المرابطين والموحدين وذروة مجدهم. فانجلى أكثر أهل

(1) الذخيرة 1: 1: 63، وبيت الخطيئة من قصيدته التي مدح فيها عمر بن الخطاب
مسترحما (انظرها في ديوانه 208).
(2) راجع عن تظلم الرعية الذخيرة 2: 1: 250 وما بعدها، التبيان 76، 77،
119 - 120، 340 - 341.
40

الفعاليات عن الأندلس إلى العدوة المغربية مركز السلطة الجديدة
طلبا للأمان والجاه والمال، ففاز بعضهم وعاد بالخسران أكثرهم.
وخابت أيضا آمال العامة في العدل الاجتماعي مرابطيا وموحديا.
وبدا للأندلسيين وكأن العالم مقبل على نهايته. فوجدت العامة
ذاتها في موجة في موجة التصوف التي بدأت بينة واضحة في القرن
السادس ثم تأصلت في القرن السابع. وعبر عن خيبة آمال
الخاصة وقلقهم وخوفهم من المجهول لجوء أدبائهم وشعرائهم
إلى الشفيع في دار القرار مادحين ولما أصاب ذريته نادبين.
لعل خير ما يصور موقف الخاصة الخاسر حياة أبي عبد الله
محمد بن مسعود بن أبي الخصال (ت 540) وإنتاجه الأدبي بعد
إخفاقه. فلما فشل في تحقيق آماله ومات مخدومه ابن الحاج،
" فلم ينزله المجد منازله " لزم داره خائفا إلى أن قتل في فتنة ابن
حمدين بقرطبة. ولعله كتب في فترة اعتزاله تلك رسائله وقصائده
النبوية. ومنها قصيدة في نسب الرسول تسمى معراج المناقب
وقصيدتين في رثاء الحسين (1).
ثم تكاثر أدب المدائح النبوية وبكاء الحسين لا سيما في ختام
القرن السادس وأوائل القرن السابع. لقد كتب أدباء ونظم
شعراء، كان حالهم حال ابن أبي الخصال، أرادوا الدنيا فلم
يظفروا منها بطائل، أو وجدوا أوطانهم قد أصبحت في مهب
الرياح، أو الأمرين معا، فخافوا سوء الخاتمة والمصير، فمدحوا

(1) لم يورد ابن بسام منها شيئا مما يدل على أنها مما كتب أخيرا انظر عنه الذخيرة
3: 2: 786 - 805، القلائد 175، المغرب 2: 66، فهرست ابن
خيره 421، مكي: " التشيع في الأندلس " 145، إحسان: تاريخ الأدب
الأندلسي، عصر الطوائف والمرابطين 169 - 170.
41

النبي وآل بيته تقربا وشفاعة، وخصوا بكاء الحسين بأوفر نصيب.
من هؤلاء أبو بحر صفوان بن إدريس التجيبي المرسي
(ت 598 ه‍.) الذي " انفرد من تأبين الحسين وبكاء أهل البيت
بما ظهرت عليه بركته " (1). وكتب أبو عبد الله محمد بن
عبد الرحمن التجيبي اللقتي الأصل التلمساني المهجر
(ت 610 ه‍.) كتاب مناقب السبطين الحسن والحسين (2). ونظم
ناهض الوادي آشي (ت 615 ه‍.) قصيدة في بكاء الحسين (3).
ونظم أبو الربيع ابن سالم الكلاعي (ت 624 ه‍.) قصيدة في
مدح النعل النبوية (4). ونظم أبو عمران موسى بن عيسى بن
المناصف (ت 627 ه‍.) أرجوزة في مقتل الحسين (5).
وبكاء آل البيت هذا لم يخرج عن إطار مذهب أهل السنة
الاعتقادي. فالقاضي أبو بكر ابن العربي بكى الحسين وندبه،
ولكنه في الوقت ذاته يقول إن الحسين قتل بسيف الشريعة (6).
فمع حب ابن العربي لآل البيت، ومع أن بكاءهم يعبر عن إنتاج
عصره وظروفه، إلا أن ابن العربي الفقيه يهمه استمرار الشرعية،
ولعل هذا يفسر ما يبدو من تناقض في موقفيه من مقتل الحسين.
ومن هنا يلاحظ المرء أن ناظمي القصائد وكاتبي الرسائل في بكاء

(1) المغرب 2: 260، المقتضب من تحفة القادم 153 - 154، نفح الطيب
5: 63 (الأزهرية) 3: 33 - 37.
(2) الذيل والتكملة 6: 352، 357، نفح الطيب (الأزهرية) 1: 397.
(3) نفح الطيب 5: 70 - 71.
(4) أزهار الرياض 3: 224 - 225.
(5) نفح الطيب (الأزهرية).
(6) العواصم من القواصم 214 وما بعدها، 228 وما بعدها خاصة 232.
42

الحسين لم يصدروا عن موقف شيعي إنما كتبوا ما كتبوه ونظموا
ما نظموه عن الحسين رجاء شفاعة جده يوم الحساب (1).
ويبدو أن أكثر أدب البكاء قد جاء عن رجال عاشوا في شرق
الأندلس أو هاجروا منه. وهذه ظاهرة تؤكد الترابط والتلازم بين
أدب البكاء وخيبة الآمال الفردية والقصور عن تحقيق المطامع
الذاتية من جهة، والعجز عن الدفاع عن الأوطان من جهة أخرى.
وذلك لأن كثيرا من علماء العصر قد كانوا من شرق الأندلس،
فأرادوا أن يحتلوا الصدارة في دول عصرهم فلم تسعفهم
ظروفهم، في وقت قد اشتد العدوان على شرق الأندلس واشتد
الدفاع عنه، ولم يغن هذا الدفاع ذوي المطامع والآمال عن
الهجرة إلى مراكز السلطان.
ومع الدور الرابع، الذي يبدأ بانحلال دولة الموحدين وضياع
أكثر مدن الأندلس وهجرة أغلب أهله، يتأكد الاتجاهان اللذان
برزا في القرن السادس: التصوف بين العامة والتوسل إلى الرسول
بين الخاصة وإرسال القصائد إلى الروضة الشريفة وبكاء آل البيت
وخاصة الحسين. ولعل الدليل على غلبة تيار المدائح النبوية
وأدب البكاء في أدب أهل الأندلس في فترة الضياع تلك أن
شاعرا يهوديا مثل أبي إسحاق إبراهيم بن سهل الإسرائيلي
(ت 649 ه‍.) قد نظم قصيدة في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) قبل
إسلامه (2). ومن ثم فقد كثر أدب المدائح النبوية وبكاء آل البيت

(1) هذا هو رأي ابن رشيد عن مثل هذا الأدب (انظر ملء العيبة 42 أ - 42 ب).
(2) انظر رواية ابن الأبار عند ابن شاكر في فوات الوفيات 1: 2، وانظر قصيدة في
نفح الطيب (الأزهرية) 4: 447 وعن قضية إسلام ابن سهل راجع مقدمة
الدكتور إحسان لديوان ابن سهل.
43

ومراثي الحسين وتخميس القصائد في ذات المواضيع وتسديسها.
لقد صنف ابن العطار المغربي كتاب نظم الدرر في مدح سيد
البشر (1)، والحسن بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن عذرة
المغربي كتاب منتهى السول في مدح الرسول (2). وكثرت تلك
الرسائل والقصائد المرسلة إلى الروضة الشريفة مثل الذي فعله
أبو عبد الله محمد بن الجنان (3).
وتطرق الموضوعات نفسها في الإنتاج الأدبي في القرن السابع
بكثرة، وخير شاهد على ذلك إنتاج ابن جابر أبي عبد الله محمد
ابن أحمد الهواري أحد معاصري لسان الدين ابن الخطيب (4)،
وكثر تخميس وتسديس القصائد النبوية التي أورد المقري جملة
منها وافرة مختتما بها نفحه (5). ولا يستغرب ذلك من الأندلسيين
الذين فقدوا أعز ما يملكون، وهو الوطن، فأطبق التشاؤم على
حياتهم فاتجهوا إلى الحياة الأخرى عسى أن يطيب عيشهم فيها.
فعبر عن حالهم أبو البقاء الرندي إذ يقول:
لكل أمر إذا ما تم نقصان * فلا يغر بطيب العيش إنسان
من كل ما تقدم يتضح ويستبين أن أدب بكاء آل البيت في
الأندلس لا يمثل مواقف شيعية، وإنما هو تعبير عن ظروف

(1) نفح الطيب (الأزهرية) 4: 469.
(2) المصدر ذاته 4: 453.
(3) نفح الطيب (الأزهرية) 4: 436 - 437، عنوان الدراية 302 - 306.
(4) نفح الطيب (الأزهرية) 4: 376 - 386، 399، 403 - 407.
(5) المصدر ذاته 4: 440 - 487.
44

اجتماعية خاصة بالشاعر أو الكاتب وأوضاع مجتمعه عامة، فجاء
ذلك الأدب تصويرا صادقا لخيبة الأمل في الحياة الدنيا والاتجاه
نحو الحياة الأخرى. وعليه فإن هذا الأدب يمثل روح الانهزامية
والاتجاه الاستسلامي الذي طبع حياة كثير من الأندلسيين عندما
فشلوا في تغيير واقعهم بمفردهم أو بمساعدة الآخرين. فآثر المرء
منهم النجاة بنفسه والخلاص بذاته غير آبه بالمسئولية الجماعية.
ومن هنا يجوز القول بأن أدب البكاء هذا والتصوف رافدان لاتجاه
واحد وهو " الفردية " التي غلبت على حياة الأندلسيين منذ سقوط
الخلافة الأموية إلى انتهاء أمر المسلمين في الأندلس. فماذا يمثل
درر السمط في خط التطور العام هذا؟.
45

درر السمط والتشيع
لم ترد إشارة إلى أي اتجاه شيعي عند ابن الأبار غير مرتبطة
بما كتبه في درر السمط. يذهب ابن الأحمر في مستودعه (1)
والمقري في نفحه (2) إلى أنك تشتم رائحة التشيع في درر
السمط. وقال المقري بعد أن أورد فصولا من الدرز: " انتهى ما
سنح لي ذكره من درر السمط، وهو كتاب غاية في بابه، ولم أورد
منه غير ما ذكرته لأن في الباقي ما تشم منه رائحة التشيع، والله
سبحانه يسامحه بمنه وكرمه ولطفه ".
ولم يرد في مصنفات ابن الأبار التي وصلتنا ما يوحي بموقف
شيعي أو متعاطف مع آراء الشيعة الكلامية. فابن الأبار في الحلة
السيراء لا يسلم بصحة نسب الفاطميين (3)، وفي رسائله يفخر
بتمسك الأندلس بمذهبها السني، وبعدها عن البدع، مع حب
لآل الرسول. فهو يقول عن الأندلس: " كلا بل دانت للسنة،
وكانت من البدع في أحصن جنة، هذه المروانية مع اشتداد
أركانها، وامتداد سلطانها، ألقت حب آل النبوءة في حبات
القلوب... والمحافظة على معالي الأمور، والركون إلى الهضبة
المنيعة والروضة المريعة من معاداة الشيعة وموالاة الشريعة " (4).

(1) مستودع العلامة 28.
(2) نفح الطيب 4: 506 وط. الأزهرية 2: 604.
(3) الحلة السيراء 1: 285.
(4) نفح الطيب 4: 498، ط. الأزهرية 2: 601.
46

أما درر السمط الذي بين أيدينا فهو، بلا ريب، تمجيد لآل
البيت وغض من الأمويين. لقد فضل ابن الأبار عليا في إسلامه
على أبي بكر وعمر (1)، وقد فضله الرسول على معاوية (2). وما
مواقف علي ضد الأمويين، في نظر ابن الأبار، إلا نصر
للإسلام (3) ويعتذر ابن الأبار لابن عمر في اعتزاله لعلي في
صراع علي من أجل الخلافة (4). ويعد موت الحسن احتذاء
لموت جده الأكبر (5). ويصف الأمويين بأبناء الطلقاء (6) وقد تولوا
الأمر دون استحقاق (7). وما تاريخ صدر الإسلام، عنده، من
حياة الرسول إلى مقتل الحسين إلا صراع بين الهاشميين والأمويين (8).
وعلى الرغم من هذا لم ترد عنده آراء شيعية كلامية. فهو ينعت
علي بالوصي (9) ويسميه " سيد الأوصياء " (10) ولكنه ليس بمنزلة
هارون من موسى (11). وتجد ابن الأبار لا يقبل بقول من
قال بإسلام أبي طالب في مرضه الذي مات فيه (12)، ويذكر صراحة

(1) درر السمط 79 - 80.
(2) المصدر ذاته 78.
(3) المصدر نفسه 86.
(4) المصدر ذاته 63، أكثر الأخبار على غير ذلك انظر طبقات ابن سعد (سخاو)
4: 110، 121، 125، 136.
(5) درر السمط 91.
(6) المصدر نفسه 66.
(7) المصدر ذاته 63.
(8) المصدر نفسه 93.
(9) المصدر ذاته 92.
(10) المصدر نفسه 88.
(11) درر السمط 79.
(12) المصدر ذاته 82.
47

تعيير العباسيين للعلويين كفر جدهم الأكبر (1). ويقر ابن الأبار،
كأهل السنة عامة، بخلافة الخلفاء الراشدين الأربعة، ولا يعد
الحسن خليفة، كما يفعل الشيعة أو من هواهم مع الشيعة (2).
وعنده علي هو آخر الخلفاء ومعاوية أول الملوك، ومكان الاثنين
الجنة: " وإن جمعتهم الجنان " على اختلاف درجتيهما فيها (3).
فهكذا أو في آل البيت حقهم من التكريم واحتفظ باعتقاده السني.
وربما كان ابن عبد الملك المراكشي يشير إلى هذا عندما قال عن
درر السمط أنه جاء على " طريقة أبي الفرج بن الجوزي " (4).
والمصادر التي اعتمدها ابن الأبار، وإن لم يذكرها، هي
المصادر السنية المعتمدة فالمقارنة بين رواياته في الدرر وبين
تلك المصادر تكشف اعتماده على مصادر معينة محتفظا بكلماتها
ذاتها. فتراه يعتمد ابن هشام في السيرة (5)، وابن سعد فيما يتعلق
بأخبار الصحابة (6)، والطبري في الأخبار عامة (7)، والمسعودي

(1) درر السمط 81.
(2) المصدر ذاته 89.
(3) المصدر نفسه 89.
(4) الذيل والتكملة 6: 259، وروى ابن خلكان أن الشيعة والسنة تنازعوا في
المفاضلة بين أبي بكر وعلي وسألوا أبا الفرج فقال: " أفضلهما من كانت ابنته
تحته... فقالت السنة: هو أبو بكر... وقالت الشيعة: هو علي... " (وفيات
الأعيان 3: 141).
(5) انظر أمثلة أدناه ص 68، 69، 72، 73، 74، 75، 76، 78، 79، 80،
84، 86، 87، 90، 119.
(6) راجع أمثلة أدناه ص 63، 73، 78.
(7) انظر أمثلة أدناه 81، 87، 89، 95، 96، 97، 98، 99، 100، 101،
102، 105، 108، 112، 115.
48

في مروجه في أخبار آل البيت مع الأمويين (1). وينبغي ألا يظن
بأن اعتماده على المسعودي قد يوحي بهوى شيعي، ذلك لأن ابن
الأبار كثيرا ما يستقي أخباره في الموضوعات ذاتها من ابن
عبد ربه في عقده، لا سيما " خطب آل البيت وأقوالهم
المأثورة " (2). ولا يخفى أن ابن عبد ربه كان أموي الهوى حسبما
سبقت الإشارة إلى ذلك.
وليس آراء ابن الأبار ومصادره فحسب التي تدعو إلى القول
بأن درر السمط يمثل جزا من أدب بكاء آل البيت في إطار سني
أندلسي، إنما أيضا سلسلة رواية العلم الأندلسي على عهد ابن
الأبار والروح الباعثة على تصنيف الدرر، أمران يجعلان كتاب
الدرر حلقة في سلسلة أدب بكاء آل البيت الذي أفرزته التجربة
الأندلسية وحالة الكاتب الاجتماعية.
يبدو أن ابن الأبار كان يعتبر نفسه متمما لما بدأه من سبقوه من
العلماء في شتى فنون العلوم الإسلامية في الأندلس. لقد صنف
التكملة استتماما لعلم ابن بشكوال (ت 578 ه‍.) (3). في
الصلة، الذي هو بدوره تتمة لعمل ابن الفرضي
(ت 403 ه‍.) (3). وعارض ابن الأبار بتحفة القادم زاد المسافر
لصفوان بن إدريس التجيبي المرسي (4). ولا يستبعد أن يكون

(1) راجع أمثلة أدناه 86، 88، 89، 90، 91، 95، 96، 97، 98، 105،
109، 120، 124.
(2) انظر أمثلة أدناه 65، 78، 79، 87، 100، 101، 103، 104، 105،
108، 109، 123.
(3) مقدمة الدكتور حسين مؤنس للحلة السيراء 49 - 50.
(4) انظر مقدمة المؤلف في المقتضب من تحفة القادم، وأيضا نفح الطيب 5: 538.
49

الدرر امتدادا لعمل رواد أدب بكاء آل البيت في عصر ابن الأبار.
فقد وصل علم صفوان بن إدريس، رائد أدب بكاء آل البيت في
شرق الأندلس، إلى ابن الأبار عن طريق شيخه أبي الربيع ابن
سالم الكلاعي (4). وأخذ أبو عمران موسى بن عيسى عن أبي
عبد الله محمد بن عبد الرحمن التجيبي (2). وقد لقي ابن الأبار أبا
عمران ابن المناصف هذا (3)، وكتب أبو عبد الله التجيبي إلى ابن
الأبار مجيزا وإن لم يلقه (4)، واحتذى ابن الأبار شيخه أبا الربيع
في أشعار مدح النبي (صلى الله عليه وسلم)، وجاراه في إحدى قصائده النبوية
وزنا وقافية ورويا (5).
أما إذا نظرنا إلى سيرة ابن الأبار العملية فقد كانت تتميز
بطموحات كبيرة وآمال عريضة، انتهت إلى إخفاق مريع وفشل
ذريع وخاتمة مؤسفة كان ابن الأبار لها متوقعا. فإن وطنه سليب
وهو طريد شريد. ولعله أراد في أول أمره أن يحذو حذو العلماء
المجاهدين من أمثال الصدفي والكلاعي ولكنه انتهى إلى حال
العلماء الانتهازيين الذين لا هم لهم إلا أنفسهم، فتقربوا من
أولي الأمر والحاكمين طمعا في جاه يصيبونه ومال يغنمونه. ولكن
طبعه غير طبعهم فلم ترحمه أيامه ولم ترحمه نفسه. فانتهى أمره
إلى الإبعاد حينا وإلى النفي حينا آخر وإلى القتل آخر الأمر.
وكأنه عنى نفسه عندما قال عن أبي طالب " فتجاذبته السعادة

(1) روى أبو الربيع عن صفوان بن إدريس (نفح الطيب، ط. الأزهرية 3: 33).
(2) الذيل والتكملة 6: 356.
(3) الذيل والتكملة 6: 255.
(4) المصدر ذاته 6: 256.
(5) أزهار الرياض 3: 224 - 227.
50

والشقاوة فنفذت بالمكروه في المحبوب الإرادة " (1).
ويدلك على حال اليأس التي اعترته والشعور بالفشل الذي
انتابه مما جرى لوطنه وما أصابه في نفسه قوله: " ما هذا النفخ
المعمور، أهو النفخ في الصور، أم النفر عاريا من الحج
المبرور، وما لأندلس أصيبت بأشرافها ونقصت من أطرافها " (2).
وقوله:
علت سني وقدري في انخفاض * وحكم الرب في المربوب ماض
إلى كم أسخط الأقدار حتى * كأني لم أكن يوما براضي
ولهذا تراه يتجه إلى الله فيقول:
إلام في حل وفي ربط * تخبط جهلا أيما خبط
دع الورى وارج إله الورى * فإنه ذو القبض والبسط
ليس لما يعطيه من مانع * ولا لما يمنع من معطي (3)
ثم يتجه إلى مدح الرسول لأنه الشفيع وبكاء آل بيته رجاء أن
يكون ذلك في يوم الدين " حجة لا تدحض " وحسنة تمحو سيئاته

(1) الدرر 82.
(2) نفح الطيب (الأزهرية) 2: 601.
(3) أزهار الرياض 3: 222.
51

وترحض، حتى ينعم في دار القرار بمجاورة الأبرار (1). وواضح
أنه وجد في مأساة الحسين صورة لمأساته ومأساة وطنه. وكأنه لا
يبكي الحسين وإنما يبكي نفسه ووطنه حين يقول: " أشهدك اللهم
في رزء الشهيد، وأني أهب التهويم للتسهيد، ثم لا أبرج ذا
غليل برح، وأليل يجل عن شرح، مضطرب البال، مضطرم
البلبال " (2).
وليكون التأثير بالغا والعواطف منفعلة حسبما يتطلب موضوع
الحسرة والبكاء، فقد تخير ابن الأبار أن تكون الفواصل قصيرة،
والسجعات متوازنة، والكلمات ذات جرس خاص، حتى إنه
ليطلب أكثر من اتفاق أواخر الفواصل في الحروف، فقد يبلغ
الاتفاق ثلاثا أو أربعا أو خمسا أو ستا. واهتمامه بالجرس قاده إلى
الجناس الناقص وتشابه الكلمات حروفا ونطقا. وليكون التأثير تاما
فتراه يختم كل فكرة أو فقرة وإن قصرت بآية قرآنية أو حديث
نبوي أو شعر مناسب أو مثل متخير. وقد يورد ذلك بلفظه أو
تضمينا. فهو يصل إلى ما يريد مباشرة ولا يطيل سفر الكلام.
ومما يدل على اهتمامه بأدب البكاء هذا أنه بالإضافة إلى درر
السمط فقد كتب كتابا آخرا هو معادن اللجين في مراثي
الحسين (3). ويقول الغبريني عن هذا الكتاب: " ولو لم يكن له
من التأليف إلا " هذا الكتاب " لكفاه في ارتفاع درجته، وعلو

(1) انظر التأمين الذي ختم به الدرر أدناه ص 126.
(2) الدرر 126.
(3) ذكره ابن الأبار في التكملة ترجمة 1003، وانظر أيضا الذيل والتكملة 6: 259
وفيه " معدن " موضع " معادن "، وأيضا عنوان الدراية 261 بإسقاط الكلمتين.
52

منصبه، وسمو مرتبته " وقد لا يكون الدرر إلا الرثاء النثري
والمعادن هو الرثاء الشعري. وأغلب الظن أنه كتب الدرر
والمعادن في أواخر أيامه إذ لم يذكر الدرر في المعجم أو الحلة
أو التكملة وإن ذكر " المعادن " في التكملة التي كان يضيف إليها
كثيرا.
53

منهج التحقيق
يقوم هذا التحقيق لدرر السمط على نسخة خطية وحيدة هي
نسخة المكتبة الكتانية المحفوظة بالخزانة العامة برباط الفتح
ورقمها 2081 ك، وعدد صفحاتها 147 صفحة، في كل صفحة
ستة أسطر، وخطها أندلسي غليظ جميل، غير أنها كثيرة التحريف
شديدة التصحيف، ولكنها مكتملة.
أولها: " قال الشيخ الفقيه العالم المحدث الحافظ أبو عبد الله
محمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن الأبار القضاعي
رحمه الله تعالى ورضي عنه آمين ". وآخرها: " كمل بحمد الله درر
السمط في أخبار السبط والله المستعان ".
ونقل المقري جملة فصول من الدرر في نفحه (1) من " رحمة
الله وبركاته عليكم أهل البيت " (2) إلى " ومن يكتمها فإنه آثم
قلبه " (3)، ومن " ما كانت خديجة " (4) إلى " نرفع درجات من
نشاء " (5). ثم يختتم المقري نقوله من الدرر بأبيات ابن أبي
الخصال (6).

(1) نفح الطيب 4: 500 - 506، ط. الأزهرية 2: 601 - 604.
(2) أدناه ص 61.
(3) أدناه ص 62.
(4) أدناه ص 67.
(5) أدناه ص 78.
(6) أدناه ص 107.
54

ولما كان الاعتماد على النسخة الخطية والفصول المطبوعة فقد
جاء الرمز للنسخة الكتانية بالحرف: ك، ولنقل المقري ب‍: نفح.
ومما يلفت النظر أن ناسخ الكتانية قد سمى الكتاب ب‍ " درر
السمط في أخبار السبط " بينما وقع العنوان عند ابن عبد الملك
المراكشي (1) والمقري (2) " درر السمط في خبر السبط ". وقد
أثبت الرسم الأخير لأن ناسخ الكتانية كثير التحريف والتصحيف
ووزن السجعة يقتضي كلمة " خبر " موضع " أخبار ".
وابن الأبار في الدرر شديد إيجاز العبارة فهو يبلغ المعنى ولا
يطيل الكلام ولا يردد المعاني، فهو يجمل الروايات المختلفة في
كلمات معدودة، مع تعدد مصادره وتنوعها من قرآن وتفاسيره،
وحديث ومجاميعه، وقفه وكتب أصوله وفروعه، وأدب ودواوين
نثره وشعره، وكتب أمثال فضلا عن الأقوال المأثورة والخطب
المتنوعة المبثوثة في بطون تصانيف شتى. وكل هذا يجعل
تخريج هذه الأشياء عملا شاقا وأمرا صعبا، خاصة وأن ابن الأبار
كثيرا ما يضمن الآيات والأحاديث النبوية والأشعار والأمثال
تضمينا، وقد يورد صدر البيت دون عجزه أو العجز دون صدره.
وفي القديم حاول أبو جمعة سعيد بن مسعود الماغوسي
المراكشي (ت 2016 ه‍)، بأمر المنصور الذهبي، أن يحل
إشارات الدرر وتلميحاته، ووضع كتاب نظم الفرائد الغرر في
سلك فصول الدرر بعد أن استعان بخمسمائة كتاب (3).

(1) الذيل والتكملة 6: 259.
(2) نفح الطيب 4: 500، ط. الأزهرية 2: 601.
(3) روضة الآس 227.
55

ولهذا كان لابد من الموازنة بين التخريج وترجيح القراءات
وبين الشرح والتعليق مع مراعاة الربط بين تقويم النص ومصادره.
وقد وفقت بعض التوفيق في الإشارة إلى مصادر مادته وتخريج
نصوصها وشرح كلماتها، ولم تستغلق علي إلا بعض أبيات
أشرت إليها في مواضعها.
وسرت في تقويم النص على منهج واحد لتجنب تحريف
الناسخ وتصحيفه (1)، فحافظت على ما يقتضيه السياق (2)،
مفضلا ما يحفظ توازن السجعة وتوافق المعنى (3)، مع الحرص
على توضيح ما يحتمل أكثر من قراءة واحدة (4). وما ورد ناقصا في
حديث أو مثل أو شعر فقد أكملته ونبهت عليه في موضعه (5)، إلا
في القرآن حيث أثبت ما جاء في رسم المصحف العثماني إلا إذا
جاز اختلاف في القراءات. وحيث لا يستقيم النص إلا بإضافة
كلمة أو أكثر فقد وضعت الزيادة بين معكوفين [] (6) بعد
مراجعة للروايات المختلفة في موضوع الزيادة وتبيين مصادرها.
وأشرت إلى نهاية صفحات المخطوط بخط مائل هكذا / مع
وضع رقم الصفحة في الهامش بالأرقام العربية.
وبعد، يسرني أن تقوم الآن دار الغرب الإسلامي بنشر هذا

(1) مثاله 110، 111، 114.
(2) 100، 121.
(3) 61، 70، 99.
(4) 100، 112.
(5) 65، 107.
(6) 90، 109.
56

الكتاب، الذي كنت قد بدأت طبعه في إحدى دور النشر البيروتية
قبل سنين ثم توقف العمل لأسباب قاهرة. وأجزل الشكر والمنة
لأستاذي الكريم الدكتور إحسان عباس الذي آثرني بالمخطوط
لتحقيقه وللأخت الدكتورة وداد القاضي على تشجيعها حتى
يخرج المخطوط من محبسيه: أدراج مكتبي ودار غربتي. والله
المستعان.
57

درر السمط في خبر السبط
بأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي
المعروف بابن الابار
" 595 / 1199 - 658 / 1260 "
تحقيق
عز الدين عمر موسى
60

قال الشيخ الفقيه العالم المحدث الحافظ أبو عبد الله محمد
ابن محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن الأبار القضاعي رحمه الله
تعالى ورضي عنه آمين (1):
{رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} (2): فروع النبوة (3)
والرسالة / وينابيع السماحة والبسالة. صفوة آل أبي طالب، [1]
وسراة (4) بني لؤي بن غالب. الذين حياهم (5) الروح الأمين،
وحلاهم الكتاب المبين
فقل في قوم شرعوا الدين القيم، ومنعوا اليتيم أن يقهر
والأيم (6): ما قد من أديم / آدم أطيب من أبيهم طينة، ولا أخذت [2]

(1) من هنا يبدأ ما نقله المقري في نفح الطيب.
(2) قرآن (هود) 11: 73.
(3) في ك: النبوءة.
(4) في ك: سرارة. ولؤي من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) في نفح جاءهم، وفي ك: حباهم، وما أثبته يقتضيه توازن السجعة وموافقة
المعنى فربما يشير إلى قوله تعالى {سلام على آل ياسين}، قرآن (الصافات)
37: 13، ففي بعض الرواية أن المراد آل النبي. ويقول السيد الحميري:
يا نفسي لا تمحضي بالنصح جاهدة * علي المودة إلا آل ياسين
(انظر تفسير القرطبي 8: 5448، 5564).
(6) قوله هذا ينظر إلى الآية {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا.
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} قرآن (الإنسان)
76: 8، فقد قيل إنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (انظر تفسير
القرطبي 10: 6921 وما بعدها).
61

الأرض أجمل من مساعيهم زينة. لولاهم ما عبد الرحمن، ولا
عهد الإيمان وعقد الأمان.
ذؤابة أشابة، فضلهم ما شانه نقص ولا شابه، سرارة محلتهم
[3] سر المطلوب، / وقرارة محبتهم حبات القلوب.
أذهب الله عنهم الرجس (1)، وشرف بخلقهم الجنس، فإن
تميزوا فبشريعتهم البيضاء، أو تحيزوا فلعشيرتهم الحمراء. من
كل يعسوب كتيبة (2)، منسوب لنجيب ونجيبة. نجارة الكرم ودارة
[4] الحرم: /
نمته العرانيين من هاشم * إلى النسب الأصرح الأوضح (3)
إلى نبتة فرعها في السما * ومغرسها سرة الأبطح
أولئك السادة أحيي وأفدي، والشهادة بحبهم أو في وأؤدي. 1 {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} (4):

(1) يشير إلى الآية {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا}. قرآن (الأحزاب) 33: 33.
(2) في نفح: الكتيبة.
(3) سقطت " الأوضح " من ك. وفي الأصلين ورد البيتان منثوران، وورد البيتان غير
منسوبين في زهر الآداب 57، ونسبها أبو الفرج لمحمد بن ذويب العماني.
وفي روايته الأوضح الأصرح انظر الأغاني 18: 235 - 336. واليعسوب في
الأصل فحل النحل، واستعمل في الرئيس الكبير والسيد المقدم. ومن قول
علي (ر.): (أنا يعسوب المؤمنين).
(4) قرآن (البقرة) 2: 283. ومن هنا ينقطع نقل المقري في النفح.
62

حيها أوجها على السفح غرا * وقبابا بيضا ونوقا حمرا (1) / [5]
فصل
أي صفحات شربت ماء بشرها الصفاح، وترحات ما شفي
تباريحها إلا السفاح (2). {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه
سلطانا} (3).
يا لهفا للملة وهت مقاعدها، وهوت فراقدها، فتسلط الأنقص
على الأكمل، / واختلط المرعي بالهمل {إن في ذلك لآيات [6]
للمتوسمين} (4).
شد ما شالت النعامة، ومالت الدعامة، وآلت إلى الاستكانة
الزعامة. تالله ما راعت تلك الأحداث، حتى قعد مقعد
الشيخين (5) الأحداث. ولي أمر الأمة الأغمار، فسفكت الدماء / [7]
ونهبت الأعمار، واسى ابن عمر لاعتزاله يوم قتل عمار (6). فود
الإسلام - إذ جد به الاصطلاح وأعيا الاجتماع بعد الافتراق، وحيا

(1) لم أوفق إلى تخريجه.
(2) يريد أن أبا العباس السفاح انتقم للهاشمية من الأموية.
(3) قرآن (الإسراء) 170: 33.
(4) قرآن (الحجر) 15: 75.
(5) الشيخان: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
(6) يشير إلى ما يروى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال: " ما آسي من
الدنيا إلا على ثلاث.. وألا أكون قاتلت هذه الفئة الباغية التي حلت بنا "
(طبقات ابن سعد 4: 136) وما يروى عن أم سلمة إنها قالت: " سمعت النبي
(صلى الله عليه وسلم) يقول تقتل عمارا الفئة الباغية " (طبقات ابن سعد 4: 180).
63

بغير الحياة أهل الشام أهل العراق - لو (1) عمر عمر فلازمه
[8] النساء (2)، وسالمه الصباح والمساء، حتى لا يراق دم، ولا /
يراقب ندم، {ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما
يريد} (3).
كان بعده كسر الباب سببا لتقطع الأسباب. والمقدور كائن.
جدد الحتف، وجرد السيف، فأبيح حمى المهاجرين
والأنصار، وأتيح لأهل البيت يوم كيوم الدار:
[9] * تلك الرزية لا رزية مثلها (4) * /
فصل
يا لك أنجم هدايد، لا تصلح الشمس لهم عن آية. كفلتهم
في حجرها النبوة. فلله تلك النبوة {ذرية بعضها من بعض} (5).
سرعان ما بلى منهم الجديد، وغرى بهم الحديد. نسفت
[10] أجبلهم الشامخة، وشدخت غررهم الشادخة. فطارت / بطررهم
الأرواح، وراحت عن جسوسهم الأرواح، بعد أن فعلو الأفاعيل،
وعيل صبر أقتالهم وصبرهم ما عيل:

(1) في ك: ولو. وما أثبت يقتضيه سلامة النص.
(2) أي طول العمر.
(3) قرآن (البقرة) 2: 253.
(4) صدر بيت لأبي تمام. انظر ديوان أبي تمام 209. ويعني بيوم الدار يوم مقتل
عثمان بن عفان ر.
(5) قرآن (آل عمران) 3: 34.
64

يود أعداؤهم لو أنهم قتلوا * وأنهم صنعوا بعض الذي صنعوا (1)
تذامروا والردى موجه يلتطم، وتوامروا والقنا يكسر بعضه بعضا
ويحتطم. فإن يكونوا ما / عرجوا في مراقي الملك، فقد درجوا [11]
في مهاوي الهلك:
ونحن أناس لا توسط عندنا * لنا الصدر دو [ن العالمين أو القبر] (2)
وعلى هذا فقد نجموا ونجبوا مع الحتوف الشداد، والسيوف
الحداد، والتمر أنهي على الجداد (3).
ما أعجب كلمة أبيهم، ظهر صدقها فيهم: " بقية السيف أنمى
عددا، وأنجب ولدا " (4) {ولا تحسبن / الذين قتلوا في سبيل الله [12]
أمواتا} (5).
رضوا في ذاته رضا، فمشوا إلى الموت ركضا، " إنا والله لا
نموت حبجا كما يموت بنو مروان " (6):

(1) ديوان أبي تمام، شرح التبريزي 4: 90، والديوان 322.
(2) البيت لأبي فراس والتتمة عن ديوانه (انظر ديوانه تحقيق الدهان ص 214).
(3) جداد التمر: صرامه أي قطفه، يريد أن التمر إذا قطف ازداد وتكاثر في قابل.
(4) انظر العقد الفريد 1: 102 مع بعض اختلاف في الكلمات.
(5) قرآن (آل عمران) 3: 169.
(6) القول لابن الزبير انظر تاج العروس واللسان مادة (حبج)، وهو من خطبة له في
عيون الأخبار 2: 240، والحبج أن يأكل البعير لحاء العرفج فيرم بطنه سمنا
وربما قتله ذلك. وأراد ابن الزبير التعريض ببني مروان لكثرة أكلهم وإسرافهم
في ملاذ الدنيا حتى أنهم ليموتون بالتخمة.
65

تسيل على حد الظبات نفوسنا * وليست على غير السيوف تسيل (1)
فصل
أي بني الطلقاء، ما أقعدكم عن الإبقاء، وأقامكم إلى العنقاء كبرت
[13] أن تصاد (2). / فعليكم الاقتصاد، ولا تقيموا الرقب والأرصاد، إياكم
والشماتة، فلن تدركوا ذلك الإحياء ولا [تلك] (3) الإماتة:
فيم الشماتة إعلانا بأسد وغى * أفناهم الصبر إذ أبقاكم الجزع
لا غرو أن قتلوا صبرا ولا عجب * فالقتل للصبر في حكم القنا تبع (4)
[14] * الحق أبلج والباطل لجلج * (5) {فلا تغرنكم الحياة /
الدنيا} (6).
ربما ارتاب ناظر (7) في هلكة العلوية وملكة الأموية. وشفاء ما
به قريب، إن كان له من الفهم نصيب: الأنبياء أشد الناس بلاء

(1) في الأصل " الضبات " والبيت من قصيدة السموأل بني عاديا، انظر الحماسة
شرح المرزوقي 1: 117 والحاشية رقم: 15.
(2) من قول أبي العلاء المعري: أرى العنقاء تكبر أن تصاد.
(3) الزيادة تقتضيها تناغم السجعة وتوافق المعنى.
(4) ديوان أبي تمام شرح التبريزي 4: 91.
(5) مجمع الأمثال 1: 139.
(6) قرآن (لقمان) 3: 33، (فاطر) 35: 5.
(7) في الأصل " فاجر ".
66

ثم الذين يلونهم (1)، فضلا عمن يلدونهم. {إنا وجدنا آباءنا على
أمد} (2).
فصل (3)
ما كانت خديجة لتأتي بخداج (4)، ولا الزهراء / لتلد إلا [15]
أزهر (5) كالسراج، مثل النحلة لا تأكل إلا طيبا، ولا تضع إلا
طيبا (6).
خلدت بنت خويلد ليزكو عقبها من الحاشر العاقب (7)، ويسمو
مرقبها على النجم الثاقب لم تخد (8) بمثلها المهاري (9)، ولم
يلد له غيرها من المهاري. آمت من بعلوتها قبله، لتصل السعادة
بحبلها حبله. ملاك / العمل خواتمه (10). رب ربات حجال أنقذ [16]
من فحول الرجال:

(1) في الحديث: أي الناس أشد بلاءا؟ قال: الأنبياء... الخ، انظر: البخاري
(مرض: 3) والترمذي (زهد: 57) وابن ماجة (فتن: 23) ومسند أحمد
1: 172، 174، 180.
(2) قرآن (الزخرف) 43: 22، 23.
(3) من هنا يستأنف المقري نقله وقد سقطت كلمة " فصل " من ك.
(4) الخداج: الناقص الخلقة.
(5) في نفح: أزاهر.
(6) الحديث (إن مثل المؤمن لكمثل النحلة أكلت طيبا ووضعت طيبا) رواه الإمام
أحمد (انظر المسند 2: 199).
(7) الحاشر العاقب: اسمان من أسماء الرسول (صلى الله عليه وسلم).
(8) تخد: تمشي.
(9) المهاري: جمع مهرية وهي نوع من النوق منسوب إلى مهرة.
(10) إشارة إلى الحديث " وإنما الأعمال بالخواتيم " انظر البخاري (قدر: 5)،
(رقاق: 33، مسند أحمد 5: 225).
67

وما التأنيث لاسم الشمس عيب * ولا التذكير فخر للهلال (1)
هذه خديجة من أخيها حزام (2) أحزم، ولشعار الصدق من
شعارات القص ألزم. ركنت إلى الركن الشديد، وسددت للهدى
كما هديت للتسديد. يوم نبئ خاتم الأنبياء، وأنبئ (3) بالنور
[17] المنزل عليه / والضياء.
فصل
وكان قبيل المبعث، وبين يدي لم الشعث، يثابر على كل
حسنى وحسنة، ويجاور شهرا من كل سنة، يتحرى حراء
التعهد (4)، ويزجي تلك المدة في التعبد. وذلك الشهر المقصور
على التبرر (5) المقدور فيه رفع التضرر، {شهر رمضان الذي
أنزل فيه القرآن} (6).
[18] فبيناه / لا ينام قلبه وإن نامت عيناه، جاءه الملك مبشرا

(1) ديوان المتنبي: 257 وشرح العكبري 3: 18.
(2) حزام بن خويلد أخو خديجة عده ابن الأثير خطأ في الصحابة، وتعقبه الذهبي
وقال: غلط من عده في الصحابة (الإصابة 2: 7)، يعني ابن الأبار أن حزاما لم
يؤت الحزم حين لم يهتد إلى الإسلام.
(3) ك ونبئ.
(4) عن تحنث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حراء انظر سيرة ابن هشام 1: 249 - 253.
فابن الأبار يكاد أن يستعمل الكلمات ذاتها.
(5) التبرر: التطهر والتنسك.
(6) قرآن (البقرة) 2: 185 ولم ترد الآية في نفح إلا تضمينا: " شهر رمضان المنزل
فيه القرآن ".
68

بالنجح، وقد " كان يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح " (1).
فغمره بالكلاءة (2)، وأمره بالقراءة. وكلما تحبس له غطه (3) ثم
أرسله، " وإذا أراد الله [عز وجل] بعبد خيرا عسله " (4):
تريدين إدراك المعالي رخيصة * ولابد دون الشهد من إبر النحل (5)
كذلك حتى عاذ بالأرق من الفرق، وقد علق فاتحة
العلق (6). / فلا يجري غيرها على لسانه، وكأنما كتبت كتابا في [19]
جنانه.
فصل
ولما أصبح يؤم الأهل، وتوسط الجبل يريد السهل، وقد قضى
الأجل وما نضى الوجل، نوجي بما (7) في الكتاب المسطور،

(1) هذا حديث، انظر مسند الإمام أحمد 6: 153، 232 صحيح البخاري (بدء
الوحي: 3)، صحيح مسلم (إيمان: 252).
(2) الكلاءة: الرعاية والحفظ.
(3) كذا في نفح ك وفي ك: غته. والمعنى واحد أي عصره عصرا شديدا وعن بدء
الوحي انظر سيرة ابن هشام 1: 249 - 253. وعن حديث نزول الوحي. انظر
صحيح البخاري (بدء الوحي: 3) صحيح مسلم (إيمان: 252)، مسند أحمد
6: 233.
(4) مسند لإمام أحمد 4: 200. والمعنى جعل له من العمل الصالح ثناء طيبا
والزيادة حسب رواية المسند.
(5) ديوان المتنبي: 520 وقد رواه الثعالبي في ثمار القلوب (ص 507) ونسبه لأبي
تمام وروايته عنده " تريدين تحصيل..... ".
(6) يريد آية: {اقرأ باسم ربك...}. ووردت العلق مكررة في ك.
(7) كذا في نفح، وفي ك: بها.
69

ونودي كما نودي موسى من جانب الطور. فعرض له في طريقه،
[20] ما شغله عن فريقه. / فرفع (1) رأسه متأملا، فأبصر الملك في
صورة رجل متمثلا، يشرفه بالنداء، ويعرفه الاجتباء. وإنما عضد
خبر الليلة بعيان اليوم، وأرى في اليقظة مصداق ما أسمع في
النوم. ليحق الله الحق بكلماته (2).
وعلى ما ورد في الأثر، وسرد رواة السير، فذلك اليوم كان
[21] عيد فطرنا الآن (3). وغير بدع ولا بعيد، أن يبدأ الوحي بعيد، /
كما ختم بعيد، {اليوم أكملت لكم دينكم} (4).
فبهت عليه السلام لما سمعه وراءه، وثبت لا يتقدم أمامه ولا
يرجع وراءه:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي * متأخر عنه ولا متقدم (5)
[22] ثم جعل بين الخوف والرجاء (6)، لا يقلب وجهه / في

(1) كذا في نفح، وفي ك: ورفع.
(2) من الأية {ويحق الله الحق بكلماته} قرآن (يونس) 10: 82.
(3) في هذا اختلاف فقد قيل إن بدء نزول الوحي كان لثمان عشرة ليلة خلت من
رمضان وقيل لأربع وعشرين ليلة مضت منه (إمتاع الأسماع: 12).
(4) قرآن (المائدة) 5: 3.
(5) كذا في ك، وفي نفح: متقدم عنه ولا متأخر. وقد ورد البيت منسوبا لأبي أبي
الشيص في الشعر والشعراء ص 722 وفي الأغاني 16: 321، وانظر أشعار
أبي الشيص (جمع الجبوري: 92) نسبت في الأغاني مرة لعلي بن عبد الله
ابن جعفر (الأغاني 22: 32).
(6) في نفح: في الخوف والرجاء وفي ك: بين الرجاء والخوف، والسجعة تقتضي
ما أثبت في المتن.
70

السماء، إلا تعرض له في تلك الصورة، وعرض عليه ما أعطاه
الله (1) من السورة، فيقف موقف المتوكل، ويمسك حتى عن
التأمل:
تتوق إليك النفس ثم أردها * حياء ومثلي بالحياء حقيق (2)
أزود سوام (3) الطرف عنك وما له * إلى أحد إلا إليك طريق / [23]
فصل
وفطنت خديجة لاحتباسه (4)، فأمعنت في التماسه. " تزوجوا
الودود الولود " (5).
ولفورها بل فوزها، بعثت في طلبه رسلها، وانبعثت تأخذ
عليه شعاب مكة وسبلها:
* إن المحب إذا [ما] لم يزر زارا * (6)

(1) كذا في ك، وفي نفح: الله سبحانه.
(2) هذان البيتان وردا في ديوان المجنون: 207، ونسبهما أبو الفرج في الأغاني
(9: 196) لقيس بن ذريح. والرواية في المصدر الأخير: النفس بدلا عن
الطرف.
(3) كذا في نفح، وك; وفي ديوان المجنون: سواد.
(4) كذا في نفح، وفي ك: في احتباسه.
(5) حديث انظر مسند الإمام أحمد 3: 245 والنسائي (نكاح: 1) وسنن أبي
داود (نكاح: 3) وابن ماجة (نكاح: 1).
(6) كذا في ك، وفي نفح: إذا لم يستزر. وهذا عجز بيت للعباس بن الأحنف
صدره: نزوركم لا نكافيكم بجفوة (انظر ديوان العباس بن الأحنف 125).
71

[24] طال عليها الأمد، فطار إليها الكمد; / والمحب حقيقة، من لا
يفيق فيقة. بالنفس النفيسة سماحه وجوده، وفي وجود المحبوب
الأشرف وجوده:
كأن بلاد الله ما لم تكن بها * وإن كان فيها الخلق طرا بلاقع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى * [25] ويجمعني والهم بالليل جامع /
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا * لي الليل هزتني إليك المضاجع
لقد ثبتت في القلب منك محبة * كما ثبتت في الراحتين الأصابع (1)
فصل
وبعد لأي ما ورد عليها، وقعد مضيفا إليها (2). فطفقت بحكم
[26] الإجلال / تمسح أركانه، وتفسح مجال السؤال عما خلف له
مكانه. فباح لها بالسر المغيب، وقد لاح وسم الكرامة على
الطيب المطيب، فعلمت أنه الصادق المصدوق، وحكمت بأنه
السابق لا المسبوق. " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " (3).

(1) ديوان المجنون ص 185. ونسبت الأبيات في الأغاني تارة للمجنون (الأغاني
2: 38) وأخرى لقيس بن ذريح (الأغاني 9: 209). كما تنسب البيتان الأولان
لابن الدمينة (الديوان: 88) وفيهما " بدا " في موضع " دجا ".
(2) مضيفا إليها: ملتصقا بها، وفي السيرة (سيرة ابن هشام 1: 237) " فجلست إلى
فخذها مضيفا إليها ".
(3) انظر هذا الحديث في كشف الخفا 1: 42 وقال رواه الطبراني والترمذي من
حديث أبي أمامة.
72

وما زالت حتى أزالت ما به / من الغمة، وقالت: أني لأرجو أن [27]
تكون نبي هذه الأمة (1):
إني تفرست فيك الخير أعرفه * والله يعلم أن ما خانني البصر
أنت النبي ومن يحرم شفاعته * يوم الحساب فقد أزرى به القدر (2) / [28]
لا ترهب فسوف تبهر، وسيبدو أمر الله (3) ويظهر. أنت الذي
سجعت به الكهان، ونزلت له (4) من صوامعها الرهبان، وسارت
بخبر كرامته الركبان. أنت الذي ما حملت أخف منه حامل.
ودرت ببركته الشاة فإذا هي حافل (5):
وأنت لما ولدت أشرقت * الأرض وضاءت بنورك الأفق /. [29]
فنحن في ذلك الضياء وفي النور * وسبل الرشاد نخترق (6)

(1) هذا نص ما ذكره ابن إسحاق في السيرة (انظر سيرة ابن هشام 1: 238).
(2) أورد ابن سعد البيتين ونسبهما لعبد الله بن رواحة مع اختلاف في الكلمات
(الطبقات 3: 528 وانظر ديوانه جمع حسن محمد باجورة: 94).
(3) في نفح بإضافة " تعالى م بعد لفظ الجلالة.
(4) كذا في نفح; وفي ك: لهم.
(5) عن هذه المعجزات انظر سيرة ابن هشام 1: 162 - 164، 204.
(6) سقطت عبارة " شاد تحترق " من ك. وقد أورد ابن سعد البيتين للعباس بن
عبد المطلب مادحا الرسول (صلى الله عليه وسلم) في قفوله من غزوة تبوك (الطبقات 1: 98،
وانظر أيضا الاستيعاب في ترجمة " العباس ").
73

فصل
وما لبثت أن غلقت أبوابها، وجمعت عليها أثوابها، وانطلقت
إلى ورقد بن نوفل (1)، تطلبه بتفسير ذلك المجمل، وكان يرجع
إلى عقل حصيف، ويبحث عمن يبعث بالدين الحنيف، فاستبشر
[30] به ناموسا، وأخبر أنه / الذي كان يأتي موسى. فازدادت إيمانا،
وأقامت على ذلك زمانا. ثم رأت أن خبر الواحد قد يلحقه
التفنيد، ودرت أن المجتهد لا يجوز له التقليد، " طلب العلم
فريضة على كل مسلم " (2).
فرجعت أدراجها في ارتياد الاقناع، وألقي في روعها الخمار
[31] والقناع. فهناك (3) وضح لها البرهان، / وصح لديها (4) أن الآتي
ملك لا شيطان:
تدلى عليه الروح من عند ربه * وينزل من جو السماء ويرفع
نشاوره فيما نريد وقصدنا * إذا ما اشتهى إنا نطيع ونسمع (5)

(1) راجع الخبر في سيرة هشام 1: 238.
(2) رواه ابن ماجة (مقدمة: 17) وانظر الجامع الصغير 2: 54، المستصفى
2: 121.
(3) كذا في نفح، وفي ك: فهنالك.
(4) كذا في ك، وفي نفح: لها.
(5) في ك: تدل، وفي نفح: تدلى. أورد ابن هشام البيتين لكعب بن مالك (سيرة
ابن هشام 2: 133 وانظر ديوانه جمع سامي العاني: 224).
74

فصل
سبقت لها من الله (1) الحسنى، فصنعت / حسنا وقالت حسنا. [32]
{ومن يؤمن بالله يهد قلبه} (2).
ما فتر الوحي بعدها، ولا مطل الحق الحي وعدها {وعد الله
لا يخف الله وعده} (3).
دانت بالحق دين الإسلام (4)، فحياها الملك بالسلام، من
الملك السلام (5). من كان لله كان الله له.
أغنت غناء الأبطال، فغناها (6) لسان الحال: / [33]
هل تذكرين فدتك النفس مجلسنا * يوم التقينا فلم أنطق من الحصر
لا أرفع الطرف حولي من مراقبة * بقيا علي وبعض الحزم في الحذر (7)
يسرت لاحتمال الأذى والنصب، فبشرت ببيت في الجنة من

(1) بإضافة " تعالى " بعد لفظ الجلالة في نفح.
(2) قرآن (التغابن) 64: 11.
(3) قرآن (الروم) 30: 6.
(4) في نفح: دانت لحب ذي الإسلام.
(5) في السيرة أقرئ خديجة السلام من ربها " فقالت خديجة: الله السلام ومنه
السلام، وعلى جبريل السلام " (سيرة ابن هشام 1: 241).
(6) في ك: فغنتها.
(7) لم أهتد إلى تخريج البيتين.
75

[34] قصب (1). ما أمنت إذ آمنت / من الرعب (2)، حتى غنيت من
الشبع بما في الشعب (3).
لا تحسب المجد تمرا أنت تأكله * لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا (4)
واها لها! احتملت عض الحصار، وما أطاقت فقد النبي (5)
المختار:
يطول اليوم لا ألقاك فيه * [35] وحول نلتقي فيه قصير (6) /
والحبيب سمع المحب وبصره، وله طول محياه وقصره:
أنت كل الناس عندي فإذا * غبت عن عيني لم ألق أحد (7)
مكثت للرسالة (8) مواسية وآسية، فثلثت في بحبوحة الجنة

(1) أي من فضة، انظر تاج العروس مادة قصب، وقال ابن هشام: القصب هنا
اللؤلؤ (السيرة 1: 241).
(2) في نفح: هل أمنت إذا آمنت.
(3) في ك بإسقاط " بما ". والإشارة إلى الشدة التي لقيها آل هشام في شعب أبي
طالب (انظر سيرة ابن هشام 1: 35 وما بعدها).
(4) ذكره أبو علي القالي لأحد بني أسد ولم يسمه (الأمالي 1: 112) وفيه " تمرا "
موضع " ثمرا " وانظر أيضا شرح المضنون به على غير أهله: 473.
(5) بإسقاط كلمة " النبي " في ك.
(6) في نفح: شهر بدل حول. والبيت لجميل، وفي رواية الديوان اختلاف عما هنا
(انظر ديوان جميل 19).
(7) لم أهتد إلى تخريجه.
(8) في نفح: الرياسة.
76

مريم وآسية. ثم ربعت البتول فبرعت، نطقت بذلك الآثار
وصدعت /: خير نساء العالمين أربع (1). [36]
فصل
إلى البتول سير بالشرف التالد، وسيق الفخر بالأم الكريمة
والوالد. حلت في الحبل الجليل، وتحلت بالمجد الأثيل، ثم
تولت إلى الظل الظليل:
وليس يصح في الإفهام شئ * إذا احتاج النهار إلى دليل (2) / [37]
فصل (3)
وأبيها، إن أم أبيها (4) لا تجد لها شبيها. نثرة النبي، وطلة (5)
الوصي، وذات الشرف المستولي على الأمد القصي. كل ولد
الرسول درج في حياته، وحملت في ما حملت من آياته (6)
{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} (7).

(1) في الحديث " أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية ". انظر
الإصابة (الخانجي) 8: 158 والجامع الصغير 1: 51 وفيه أيضا " حسبك من
نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد
وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم ". (الجامع الصغير 1: 148 تفسير القرطبي
10: 6683).
(2) ديوان المتنبي: 334، شرح العكبري 3: 92.
(3) سقطت من نفح.
(4) يعني فاطمة لأن تلك كنيتها. (انظر الإصابة (الخانجي) 8: 157).
(5) والطلة هي الزوجة وفي ك: طلبة. والقراءتان صحيحتان.
(6) كانت أشبه بأبيها عليه الصلاة والسلام (انظر الطبقات (سخو) 8: 17).
(7) قرآن (الجمعة) 62: 4.
77

[38] لا فرع للشجرة المباركة / من سواها، فهل جدوى أوفر من
جدواها؟ {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} (1).
حفت بالتطهير والتكريم، زفت إلى الكفء (2) الكريم. فوردا
صفو العارفة والمنة، وولدا سيدي شباب أهل الجنة (3).
[39] عوضت من الأمتعة الفاخرة بسيد في الدنيا والآخرة (4). / ما
أثقل نحوها ظهرا، ولا بذل غير درعه مهرا. كان صفر اليدين من
البيضاء والصفراء، وبحالة لا حيلة معها في إهداء الحلة السيراء.
فصاهره الشارع وخالله، وقال في معاوية (5): " صعلوك لا مال
له " (6) {نرفع درجات من نشاء} (7).

(1) قرآن (الأنعام) 6: 124.
(2) في نفح: الكفؤ.
(3) وردت أحاديث بروايات مختلفة أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة
انظر الترمذي (منافب: 30)، ابن ماجة (مقدمة: 11)، مسند أحمد 3: 2،
62، 64، 82، 5: 291، 292، الجامع الصغير 1: 152). ويبدو أن ابن
الأبار يتابع رواية ابن عبد ربه (أنظر العقد الفريد 4: 361).
(4) في نفح: بسيدي وتجوز القراءتان: الأولى بالإشارة إلى علي والثانية استطرادا
مشيرة إلى الحسن والحسين. وعن زواج علي من فاطمة انظر الطبقات (سخو)
8: 12 وما بعدها.
(5) في نفح: بعض. ويرى الدكتور إحسان عباس أن القمري كني بالبعض تورعا
(نفح الطيب 4: 506).
(6) بعض حديث (راجع صحيح مسلم). وفي رواية عن ابن ماجة " أما معاوية
فرجل ترب لا مال له " (سنن ابن ماجة 1: 601) والمعنى واحد.
(7) قرآن (الأنعام) 6: 83، (يوسف) 12: 76، وهنا يتوقف نقل المقري إلا بعض
الأبيات التي يختم بها (انظر أدناه ص 107).
78

فصل
لله علي علا عن النظراء، وسامى الزهرة بالزهراء. كان ثاني [40]
خديجة في الإيمان، وأول الذكور أسلم وجهه للرحمان، قبل ما
سن قبل سن الخطات (1)، ولم تكن هذه السابقة لابن أبي قحافة
وابن الخطاب. مت بالأبوة إلى النبوة، ثم حظي بالأخوة والبنوة.
فلولا أن " لا نبي بعدي " نص في الامتناع، لكانت " أنت مني
بمنزلة هارون من موسى " (2) حجة في الاتباع: / [41]
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهر (3)
رب فرج أتي من شدة، وبلى أفضي إلى جدة. أسنت (4) أهل
مكة ليتمكن سناء علي، فألزم الحق في تلك الأزمة أن يخص
بكفالة النبي. فلم يمض إلا ليال قلائل، حتى سطعت البراهين
والدلائل. فنجا من التباب، / في ريعان الشباب. " السعيد من [42]
سعد في بطن أمه " (5). رشد هو مترعوعا، وضل أبوه

(1) عن إسلام علي انظر سيرة ابن هشام 1: 245 - 246.
(2) نص الحديث (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)
صحيح البخاري (فضائل أصحاب النبي: 9)، مسند أحمد 1: 170، 177،
179، 182، 184، 185، 3: 32، شرح النووي على صحيح مسلم
15: 174، الترمذي (مناقب: 20)، ابن ماجة (مقدمة: 11). وانظر رواية ابن
عبد ربه، التي يبدو أن ابن الأبار يتابعها، في العقد الفريد 4: 311.
(3) للنابغة الجعدي. ورد البيت في العقد الفريد 2: 52، الشعر والشعراء 208
وديوان النابغة 73.
(4) أسنت القوم: أصابهم قحط وجدب.
(5) حديث، انظر الجامع الصغير 2: 37 وتمام الحديث: " والشقي من شقي في
بطن أمه ".
79

مستعسعا (1)، " كل شئ بقضاء وقدر " (2).
فصل
وا رحمتا لأبي طالب! كفل ثم كفر، ونصر وما أبصر. " ارحموا
عزيز ذل " (3).
سود وكان أهلا لذلك، فلو سدد لصافح الملائك. كان شأنه
عجبا: دعى للحنيفية فأبي، وما برح في الحدب على أهلها
[43] أبا. /
أسد الله ورسوله (4) كان رأيه أسد، وأمد سعادته الأبدية أمد.
وقي كل محذور ومخشي، ولقي حبور الأنس بحربة وحشي (5).
من لم يعاين أبا نصر وقاتله * فما رأى ضبعا في شدقها سبع (6)
[44] وأما هو (7) فحمي الحق وتحاماه، وصد عنه صناديد / قريش
وصاداه (8). سعى في نقض الخيفة، ودعا إلى نقض

(1) في الأصل " ظل "، والمتسعسع، الشيخ الهرم.
(2) في الجامع الصغير (2: 93) كل شئ بقدر حتى العجز والكيس.
(3) في كشف الخفا (1: 125) ارحموا من الناس ثلاثة: عزيز قوم ذل، وغني قوم
افتقر وعالما بين جهال، رواه ابن حبان بسند فيه منكر عن أنس، وذكره ابن
الجوزي في الموضوعات وقيل إنه من كلام الفضيل بن عياض.
(4) يعني حمزة بن عبد المطلب.
(5) يشير إلى قتل حمزة بحربة وحشي يوم أحد (انظر سيرة ابن هشام 2: 61،
69 - 72).
(6) ديوان أبي تمام شرح التبريزي 4: 91.
(7) أما هو: عاد إلى الحديث عن أبي طالب.
(8) عنه: أي عن الحق أو عن الرسول، وصاداه: اعتنى به، والمصاداة: الملاينة
والمداراة.
80

الصحيفة (1)، حتى أدركها التمزيق، وفرج على يده الضيق،
وامتاز من الصميم اللصيق. فصفت المناهل والشروب، ونكصت
عن الدين بالشعب الشعوب.
وقبل إخماد تلك الجمرة، ما عاذ بالحجر والجمرة (2). وذكر
بعاطفات / الوسائل، ومكر بعاديات القبائل. فما تقلص ممتد [45]
الأفياء، ولا ملك حيه أحد من الأحياء. وعندها أصبح جذلا، وقد
أنجح مخذلا، واستقل بنصر المصطفى، على رغم من رسب
وطفا. ولما استقام الناس على الجادة عرد.
* شوى أخوك حتى إذا أنضج رمد * (3)
فصل
خاف السبة بزعمه /، فخان السنة والوفاء لها من همه {إن [46]
هذا الشئ عجاب} (4).
عنى من القرابة بما لا يعنيه، فلو لاها لما عاير المنصور بعض
بنيه: " أسلم اثنان، أحدهما أبي، وكفر اثنان، أحدهما أبوك " (5).

(1) عن خبر نقض الصحيفة راجع سيرة ابن هشام 1: 374.
(2) يعني بالحجر الحجر الأسود من الكعبة وبالجمرة مكان رمي الجمار في منى.
(3) مجمع الأمثال 1: 243. وهو مثل يقال في إفساد الاصطناع بالمن أو ما يورث
سوء الظن.
(4) قرآن (ص) 38: 5.
(5) جاء ذلك في مفاخرة أبي جعفر المنصور بإسلام العباس وحمزة ومعايرته
لمحمد بن عبد الله بن حسن بكفر أبي طالب وأبي جهل. ثم أكد أبو جعفر
على أن الله قطع ولايتهما من النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يجعل بينه وبينهما إلا " ولا ذمة
ولا ميراثا " (راجع رسالة أبي جعفر عند الطبري 7: 569).
81

أتيح له حرباء تنضبه (1)، يرى تضليله أكبر مأربة، حمله على
[47] ملة عبد المطلب فمضى، وقضى الله أن درج ضالا / وقضى،.
{ومن يهن الله فما له من مكرم} (2).
تجاذبته الشقاوة والسعادة، فنفذت بالمكروه في المحبوب
الإرادة. {إنك لا تهدي من أحببت} (3).
صم عما جهر له بإبلاغه، فصمم لما تغلي منه أم دماغه (4)
{وكان أمر الله قدرا مقدورا}.
[48] غلبه أبو جهل على علمه، واستزله ولا أرجح / من حلمه:
* قوموا انظروا كيف تزول الجبال * (6)
فليت عدو الله بالعداوة هام، وعلى القطيعة دام، فلم يدخل

(1) من قول الشاعر:
إني أتيح له حرباء تنضبه * لا يرسل الساقي إلا ممسكا ساقا
والإشارة في حرباء تنضبه إلى أبي جهل (راجع مادة نضب في تاج
العروس).
(2) قرآن (الحج) 22: 18.
(3) قرآن (القصص) 28: 56.
(4) يشير إلى ما جاء في الحديث من أن أبا طالب سيكون في ضحضاح من نار
يغلي منه دماغه. أنظر مسلم (إيمان: 358).
(5) قرآن (الأحزاب) 33: 38.
(6) عجز بيت ابن المعتز:
هذا أبو العباس في نعشه * قوموا انظروا كيف تزول الجبال
(ديوان ابن المعتز القصيدة التي يرثي بها عبد الله بن سليمان بن
وهب).
82

عليه عائدا، ولا كره الإيمان عليه عامدا، ما زاد على سجايا
اللئام، قطع في الحياة ووصل في الحمام.
لا ألفينك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي (1) / [49]
فصل
لكن أمير المؤمنين عليا - رفعه الله عليا - أم أمه وأبي أباه،
ونادى كل من اختدعه واستهواه: {أف لكم ولما تعبدون من دون
الله} (2).
ما تلبس بطاعة أوثان وأصنام، ولا قصر نفسه وحبس على غير
صلاة وصيام. شن على الكفرة / غارة الإبادة، وشب يألف عادة [50]
العبادة (يعجب ربك من شاب ليست له صبوه) (3).
برع بفضل الطبع، وقرع النبع بالنبع (4)، إذ وفي الحق
المطاع، وأوفى الكفرة بالصاع {فطفق مسحا بالسوق
والأعناق} (5).

(1) قال العكبري الشعر لعبيد بن الأبرص بإجماع الرواة، انظر فصل المقال الطبقة
الثانية ص 241 - 242، وديوان عبيد بن الأبرص 63 والشعر والشعراء 269،
وفي المصدر الأخير " لأعرفنك " في موضع " لا ألفينك " ونسبه الميداني للنابغة
(مجمع الأمثال 2: 248).
(2) قرآن (الأنبياء) 21: 67.
(3) رواه الإمام أحمد مع اختلاف في الرواية عما هنا (مسند أحمد 4: 151).
(4) يريد أنه جيد الرأي حاذق بالأمور. ففي الأمثال " لو اقتدح بالنبع لأورى نارا "
(راجع مادة نبع في تاج العروس).
(5) قرآن (ص) 38: 33.
83

[51] ما عرد ولا عرج، ولا تحرك يرجع من إليه خرج /:
علي ليس يمنع من مجيئ * مبارزه ويمنعه الرجوعا
علي قاتل البطل المفدى * ومبدله من الزرد النجيعا (1)
بطش في كل كفاح بالأقران، وأنسى مواضي الهند وعوالي
المران. ولله وثباته، يوم بدر وثباته. صدرا في كل قلب، وقلبا
في كل صدر. فآخاه المختار، {وربك يخلق ما يشاء
ويختار} (2).
[52] كفل أبو طالب / كفالة الأب، فنزل علي منزلة الأخر {هل جزاء
الإحسان إلا الإحسان} (3).
فصل
لما رجح علي فعلا، صلح لفاطمة بعلا {الطيبات للطيبين
والطيبون للطيبات} (4).
فازت بعصمتها قداحة، وأورى في خطبتها اقتداحه:

(1) ديوان المتنبي شرح البرقوقي 2: 62.
(2) قرآن (القصص) 28: 68. وعن مؤاخاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لعلي راجع سيرة ابن
هشام 1: 505.
(3) قرآن (الرحمن) 55: 60. وعن كفالة أبي طالب للرسول (صلى الله عليه وسلم) أنظر سيرة ابن
هشام 1: 179.
(4) قرآن النور 24: 26.
84

ولم تك تصلح إلا له * ولم يك يصلح إلا لها (1) / [53]
لاجرم أن من تصدى لها صد، أو تردد في شأنها رد. حتى
حسده صنفه. ذاك الفحل لا يقدع أنفه (2):
ولو رامها أحد غيره * لزلزلت الأرض زلزالها (3)
ما أدل نقد الحصداء الدلاص (4)، على الثقة بالخلاص
والإخلاص! دفع إليها جنة الحرب، وعرض نحره للطعن
والضرب (5).
تهون علينا في المعالي نفوسنا * ومن خطب الحسناء لم يغله المهر (6) / [54]
أقرضته النبوة ما أقرضها ناجله، وزيد المصاهرة فأقصر
مساجله:
وفي تعب من يحسد الشمس نورها * ويجهد أن يأتي لها بضريب (7)

(1) ديوان أبي العتاهية 612.
(2) المثل " هو الفحل... " أنظره في مجمع الأمثال 2: 395.
(3) ديوان أبي العتاهية 612.
(4) في الأصل " الضلاص " وهو تحريف. والحصداء الدروع ضيقة الحلق
المحكمة، الدلاص الدروع الملساء (جمهرة ابن دريد 2: 212 - 213،
274).
(5) الإشارة إلى أن عليا دفع درعه مهرا لزواج فاطمة.
(6) ديوان أبي فراس 214 وفيه " يغلها ".
(7) ديوان المتنبي 317، شرح العكبري 1: 56، شرح البرقوقي 1: 61.
85

فصل
إن عليا طار مع النسر نسر السماء، وباغيه سبح مع الحوت
حوت الماء، حتى بلغا الغاية.
[55] ما نقمت منه العبشمية (1)، / ولا نعت الطائفة الحكمية (2)،
إلى أن جدل الوليد بن عتبه (3)، ثم جلد الوليد بن عقبه (4). ذلك
لنصره الكفار الذي تولى، ولهذا لمجه الخمر في سنن
المصلى. {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} (5).
غيث الجروب (6) وليث الحروب، والطالع تشرق أسرته بين
[56] الشروق والغروب، /
يعود من كل فتح غير مفتخر * وقد أغذ إليه غير محتفل (7)
لم يك نفي الخندق له من بد، أن يناجز عمرو (8) بن عبد ود.
سجية نفس نفيسة، وحمية ضرغام لا يسلم خيسه. فسله: كيف
هذا به (9)؟ ثم عف عن أثوابه.

(1) يعني بني عبد شمس.
(2) المراد بنو الحكم بن أبي العاص.
(3) قتله علي يوم بدر (انظر سيرة ابن هشام 1: 625).
(4) لقد جلده علي أيام عثمان (راجع خبره في مروج الذهب 3: 344 - 345).
(5) قرآن (السجدة) 32: 18.
(6) الجروب الأرض الممحلة المقحوطة لا شئ فيها.
(7) ديوان المتنبي 266، شرح البرقوقي 3: 613.
(8) في الأصل: عمر. والمشهور أن مبارز علي هو عمرو بن عبد ود (سيرة ابن
هشام 1: 224 - 225، القصيدة المذهبة 143 - 144، 148 - 149). وفي
أي الشيعة أن قتل عمرو أفضل من عبادة الثقلين (راجع الإرشاد 44 - 49).
(9) قطعه بالسيف قطعا سريعا.
86

إن الأسود أسود الغاب همتها * يوم الكريهة في المسلوب لا السلب (1) / [57]
ظن أصحاب عمرو أنه الغالب، حتى حضر منه الغائب،
فقالوا: قريع؟ وعلموا أنه صريع!
لقد سلكت نهج السبيل إلى الردى * ظباء دنت من غابة الأسد الورد (2)
وفي خيبر دخلت شبهة على بعض الصحابة - وهم رضي الله
عنهم عصابة الإصابة - / لما رأوا عليا رمدا -، وسمعوا: " لأعطين [58]
الراية غدا ". فكلهم أصبح يرقبها، ولولا مشروع التوقير لأفصح
يطلبها (3). ألم يسمعوه يقول: " أبدأ بمن تعول " (4):
* ذكرتك والخطي يخطر بيننا * (5).

(1) ديوان أبي تمام شرح التبريزي 1: 71 وفي متن الديوان الفيل وفي عدة
مخطوطات منه الغاب.
(2) لم أهتد إلى تخريجه.
(3) أورد ابن هشام الخبر دون أن يشير إلى رغبة الصحابة في أخذ الراية (سيرة ابن
هشام 1: 334). أما الطبري فقد قال إن أبا بكر وعمرا طلبا الراية لما قال
الرسول (صلى الله عليه وسلم) " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله... ". وفي الغد
أعطاها لعلي وهو أرمد بعد أن تفل في عينيه (تاريخ الطبري 3: 12، أيضا
القصيدة المذهبة 130 - 133، العقد الفريد 2: 368).
(4) حديث، الجامع الصغير 1: 5.
(5) صدر بيت لأبي العطاء السندي تتمته:
* وقد نهلت منا المثقفة السمر *
(راجع الحماسة شرح المرزوقي 1: 56).
87

فصل
[59] جعلت مصاف صفين تمحيصا، وأمر الله / من ذا يجد عنه
محيصا. فنهد ابن هند (1)، في أطوع جند، لا يفرقون بين اليوم
والأمس. ولا يعرفون وارثا للنبوة إلا عبد شمس. {بل كذبوا
بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} (2).
ودلف علي، وقياد جيشه عصي. شيب وشبان، كأنهم من
[60] الرهب رهبان. قد لبسوا المسوح، وتعودوا / الفتوح. منايا
المنافقين والكفار، وبقايا المهاجرين والأنصار (إذا رؤوا ذكر
الله) (3)، وتعلم خوفه وتقواه. يحجمون ورعا، لا جزعا،
ويظهرون شفقا، لا فرقا {أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم
المفلحون} (4).
ثم انجلت تلك الطوارق والنوائب، وقد شابت منها المفارق
[61] والذوائب. بيد أن بائدها سيد الأوصياء، بيد أشقى الأشقياء (5) /.
وما نكبة فاتت به بعظيمة * ولكنها من أمهات العظائم (6)

(1) أي معاوية بن سفيان فأمه هند بنت عتبة بن ربيعة.
(2) قرآن (ق) 50: 5.
(3) جزء من حديث (أفضلكم الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى لرؤيتهم) انظر
الجامع الصغير 1: 51.
(4) قرآن (المجادلة) 58: 22.
(5) الإشارة إلى ابن ملجم قاتل علي بن أبي طالب (راجع الخبر عند المسعودي
في مروح الذهب 3: 423 - 424).
(6) ديوان أبي تمام ص 333.
88

كان علي آخر الخلفاء ومعاوية أول الملوك (1). شتان بين
اثنين: هذا موعد بتسلب الدنيا وهذا واعد. وإن جمعتهم الجنان
ونزع من صدورهم الغل والشنان، فبين المنزلتين بون بان في
الكلمتين: " غري غيري " و " نحن الزمان " (2):
* وما قلت إلا بالذي علمت سعد (3) * [62]
فصل
تالله ما غاية القبيح إلا ما عومل به الحسن (4):
أتته الخلافة منقادة * إليه تجرجر أذيالها (5)
فتخلى عنها وما تخلص، بل انطوى ظله المديد وتقلص. يا من
عابه بما فعل (6)، لولا ذلك لبطل: إن (ابني هذا سيد) (7).

(1) يلاحظ هنا أن ابن الأبار لم يحسب الحسن خليفة كما يعده الشيعة أو من
هواهم مع الشيعة كالمسعودي ملا (انظر مروج الذهب 3: 5 وما بعدها خاصة
ص 7).
(2) الأول حديث علي: " يا دنيا غري غيري م (راجع مروج الذهب 2: 433، نهج
البلاغة 3: 166) والثاني قول معاوية: " نحن الزمان، من رفعناه ارتفع ومن
وضعناه اتضع ".
(3) عجز بيت للحطيئة صدره:
* ومعذلني أفناء سعد عليهم *
(ديوان الحطيئة: 141).
(4) في الرواية أنه تخلى عن الخلافة حقنا لدماء المسلمين ولكنه سم (انظر مروج
الذهب 3: 5 - 6، 8 - 9).
(5) ديوان أبي العتاهية 612 وفيه تجرر.
(6) راجع تاريخ الطبري 5: 16، الكامل في التاريخ 3: 407.
(7) جزء من حديث " ابني هذا سيد أهل الجنة وسيصلح الله به فئتين عظيمتين من
المؤمنين ". وقد أورده المسعودي في سياق خبر الصلح بين الحسن ومعاوية
(مروج الذهب 3: 8). ولم يرد الحديث عند الطبري الذي أورد المصالحة
بطريقة توحي بأن الحسن قد باع حقه في الخلافة. (أنظر تاريخ الطبري 5:
158 - 160) وانظر أيضا الأخبار الطوال 216 - 221 فالخبر من طوال
الدينوري.
89

[63] تعز فكم لك من سلوة / * تفرج عنك غليل لحزن
بموت الرسول وقتل الوصي * وقتل الحسين [وسم الحسن] (1)
لما نزلت {والله يعصمك من الناس} (2) سارت سورة سم
الذراع، تجمع بين التسليم والوداع (3) ناكصة على العقب،
{تكاد تميز من الغيظ} (4)، خائفة أن تعيرها يهود، كونها ليست
[64] لها نهود. وما كان / محل النبوة لتحله الأسواء، ولا لتحول بأيدي
البشر تلك الأضواء. {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم
نوره} (5).
فعند ما قبلت بنت الأشعث ما بعث لها من السم من بعث (6)،

(1) ينسب البيتان لأحد الشعراء الشيعة وقد وردا مع اختلاف في الرواية عند
المسعودي (انظر مروج الذهب 3: 6)، والزيادة عنه.
(2) قرآن (المائدة) 5: 67.
(3) يشير ابن الأبار إلى ما ترويه كتب السيرة من أن زينب بنت الحارث امرأة سلام
ابن مشكم أهدت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شاة مشوية بعد أن سمتها وأكثرت السم في
الذراع لأنه أحب عضو في الشاة للرسول (صلى الله عليه وسلم) فمات منها (انظر سيرة ابن
هشام 2: 337 - 338، تاريخ الطبري 3: 15 - 16).
(4) قرآن (الملك) 67: 8.
(5) قرآن (الصف) 61: 8.
(6) قيل إن جعدة بنت الأشعث الكندي سمت زوجها الحسن بن علي بإيعاز من
معاوية واعدا لها بمائة ألف درهم وتزويجها من يزيد ابنه فوفى لها المال وحده
(مروج الذهب 3: 5). ولم يشر الدينوري لقصة السم هذه (انظر الأخبار
الطوال 221 - 222).
90

عادت تلك السورة الكامنة فعدت، وأنجزت في الابن الكريم ما
وعدت.
[ألا إن في] ظفر المنية مهجة * تظل لها عين العلى وهي تدمع (1) / [65]
سما بإعراضه عمن سمه، وما صرف لاعتراضه (2) همه، علما
بأن أباه الأكبر ما زالت تعاوده (3) أكلة خيبر. ولا غرو أن يحذو
الفتى حذو والده (4).
يا جعدة (5)! أدى بك الملك الجعد (6)، وأجرى لك عن
خلفه الوعد {لله الأمر من قبل ومن بعد} (7).
* لا ماءك أبقيت، ولا درنك أنقيت، فهلا خفت / العاقبة [66]
واتقيت (8) *

(1) ديوان أبي تمام 324 من قصيدة يرثي بها إدريس بن بدر. والزيادة من الديوان.
(2) ك: اعتراضه.
(3) في الأصل: تعاده.
(4) لقد عفي النبي عن زينب بنت الحارث. وحذا الحسن حذو جده. ذكر
المسعودي أن الحسين قال لأخيه الحسن: " يا أخي من سقاك؟ قال: ما تريد
بذلك؟ فإن كان الذي أظنه فالله حسيبه، وإن كان غيره فما أحب أن يؤخذ في
برئ... ". (انظر مروج الذهب 3: 5).
(5) في الأصل: جمرة.
(6) أي البخيل.
(7) قرآن (الروم) 30: 4.
(8) مغير من المثل " لا ماءك أبقيت ولا حرك أنقيت " انظر مجمع الأمثال 2: 113.
91

لا يبلغ الأعداء من جاهل * ما يبلغ الجاهل من نفسه (1)
يا لها من وقيعة نكراء، وفجيعة أبكت الخضراء والغبراء:
لئن هي أهدت للأقارب ترحة * لقد جللت تربا خدود الأباعد
فما جانب الدنيا بسهل، ولا الضحى * [67] بطلق، ولا ماء الحياة ببارد (2) /
فصل
اقتسم السبطان، على رغم أنف الشيطان، خلق جدهما
النبي، وخلق أبيهما الوصي. فردي أكبرهما بما أذي به الأكبر،
ولقي أصغرهما الموت الأحمر:
وإنا لقوم ما نرى القتل سبة * إذا ما رأته عامر وسلول (3)
[58] تبع الأول في ذلك الآخر، وخاضا بحر الهول وهو زاخر: /
كانت ماتم بالعراق تعدها * أموية بالشام من أعيادها (4)

(1) لصالح بن عبد القدوس (راجع نهاية الأرب 3: 82 وانظر سمط اللآلي،
1: 105).
(2) ديوان أبي تمام ص 317.
(3) للسموأل (راجع الحماسة شرح المرزوقي 1: 114).
(4) ديوان الشريف الرضي.
92

فكيف توسى الكلام، أو يتأسى الإسلام؟:
وعلى الدهر من دماء الشهيدين * علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجران * وفي أولياته شفقان
ثبتا في قميصه ليجئ * المحشر مستعديا إلى الرحمن (1)
وا أسفا / ألب على الرسول أبو سفيان ولاكت كبد حمزة هند، [69]
ونازع حق علي معاوية، واحتز هامد الحسين يزيد.
لقد علقوها بالنبي خصومة * إلى الله تغني عن يمين وشاهد (2)
فصل
الآجلة مدفوعة، والعاجلة متبوعة (3)، والأنفس على حبها
مطبوعة. فأتباع تلك ضعفة أمناء، وأتباع هذه خونة أقوياء (أشكو
إلى الله ضعف الأمين / وخيانة القوي) (4). [70]
قعد بالحسين حقه، وقام بيزيد باطله، وا خلافاه! فإذا حضر

(1) ك: في البيت الأول " فلى " بدل " وعلى "، وفي البيت الثالث " تا " بدل " ثبتا ".
(راجع الأبيات في ديوان أبي العلاء المعري ص 126، سقط الزند 1: 441.
(2) ديوان الشريف الرضي.
(3) الآجلة الآخرة والعاجلة الدنيا.
(4) من قول عمر بن الخطاب (نهاية الأرب 3: 5).
93

موقف القضاء الخصمان، وعنت الوجوه للرحمن {جاء الحق
وزهق الباطل} (1).
إن الإمامة لم تكن * للئيم ما تحت العمامة
من سبط هند وابنها * دون البتول ولا كرامة (2)
[71] يسر ابن فاطمة للدين يسميه، وابن ميسون (3) للدنيا تستهويه /
(اعملوا فكل ميسر لما خلق له) (4).
فأما هذا فتحرج وتأثم، وأما ذلك فتلجلج وتلعثم. مشى
الواحد إلى نور يسعى بين يديه، وعشا الثاني إلى ضوء نار لا
يعرف ما لديه.
يا ويح من وارى الكتاب * قفاه والدنيا أمامه (5)
كانت بنو حرب فراعنة. فذهب ابن بنت الرسول ليخرجهم من
[72] العراق فانعكس المروم، / وحورب ولا فارس والروم.
كأن لم يرج في دنيا * وآخرة ولم يخف
ولم يهلل بتلبية * ولم ينسك ولم يطف

(1) قرآن (الإسراء) 17 - 81.
(2) لم أهتد إلى تخريج هذه الأبيات.
(3) يعني يزيد بن معاوية فأمه ميسون بنت بحدل الكلبي.
(4) حديث فيه روايات مختلفة.
(5) لم أهتد لتخريج هذا البيت.
94

كوتب من الكوفة، وقد سار إلى مكة: يجنح إلى النفر
الحائف، ويحتج بما أتاه من الصحائف. فقال له ابن عمر:
أستودعك الله من قتيل (1). فقضى أن غيل منه ليث غيل. / [73]
هي فرقة من صاحب لك ماجد * فغدا إذابة كل دمع جامد (2)
فصل
قدم مسلم بن عقيل (3)، فأسلم لعبيد الله بن زياد (4)، والدنيا
إلا على الدناءة صعبة الانقياد:
تفانى الرجال على حبها * وما يحصلون على طائل (5) / [74]
جئ به يقاد إليه، وقد خذلته الشيعة الملتفة عليه، بعد ما أبلى
في القتال عذرا، وارتجز لا يستشعر ذعرا:

(1) عن هذه الأحداث انظر تاريخ الطبري 5: 347 وما بعدها، الكامل في التاريخ
4: 19 وما بعدها، مروج الذهب 3: 64 وما بعدها. ويبدو أن ابن الأبار يعتمد
المسعودي هنا مصدرا أساسيا.
(2) ديوان أبي تمام شرح التبريزي 4: 406.
(3) هو مسلم بن عقيل بن أبي طالب. كان الحسين قد بعثه إلى الكوفة لما كاتبه
أهلها وذلك ليستيقن من صدق نواياهم (راجع مروج الذهب 3: 64، الكامل
في التاريخ 5: 21).
(4) في الأصل عبد الله بن زياد. وعبيد بن زياد هو والي يزيد بن معاوية على
البصرة ثم أضاف إليه الكوفة لما اتصل بيزيد خبر الحسين و أهل الكوفة (مروج
الذهب 3: 66).
(5) ديوان المتنبي شرح العكبري 3: 34، شرح البرقوقي 3: 190.
95

أقسمت أن أقتل إلا حرا * أخاف أن أكذب أو أغرا (1)
فغر كما خاف وكذب، ثم جر إلى مصرعه وسحب:
ماكل ما يتمنى المرء يدركه * تجري الرياح بما لا يشتهي السفن (2) /
وثنى بابن عروة هانئ، وما لشأنيهما الكريمين من شانئ.
فعفرت لمته، وأخفرت ذمته، وهو الذي رجح إجارته، فهنيئا له ما
أربح تجارته (3).
إن كنت لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل

(1) أورد ابن الأبار الشطرين الأول والأخير من رجز مسلم بن عقيل وكامل رجزه في
رواية أبي مخنف عند الطبري.
أقسمت لا أقتل إلا حرا * وإن رأيت الموت شيئا نكرا
كل امرئ يوما ملاق شرا * ويخلط البارد سخنا مرا
رد شعاع الشمس فاستقرا * أخاف أن أكذب أو أغرا
(انظر تاريخ الطبري 5: 374) وأسقط المسعودي الشطرين الرابع
والخامس (مروج الذهب 3: 68.
(2) ديوان المتنبي شرح العكبري 4: 236).
(3) هانئ بن عروة المرادي أجار مسلم بن عقيل في نزوله الكوفة، ورفض تسليمه
وقاتل دونه حتى قتل (انظر تاريخ الطبري 5: 362 وما بعدها، الكامل في
التاريخ 5: 25 وما بعدها). غير أن المجير في رواية الدينوري هو هانئ بن
ورقة المذحجي (راجع الأخبار الطوال 233).
96

تري جسدا قد غير الموت لونه * ونضح دم قد سال كل مسيل (1) / [76]
فصل
وكان سرحون (2) أشار على يزيد بتقديم عبيد الله، وهو إذ ذاك
عنه شاحط، وعليه فيما ذكر ساخط. فكتب إليه برضاه، وجمع له
أدني العراق وأقصاه (3). فأعفي الركائب من مهلها، {ودخل
المدينة على حين غفلة من أهلها} (4). لا يمر بمجلس من
مجالس القوم مسلما - وقد قدم البصرة متلثما - إلا قالوا: وعليك
السلام / يا ابن بنت رسول الله (5). يحسبون أنه الحسين، [77]
وهيهات لا يشبه الشبه اللجين (6).
عاشت سمية ما عاشت وما علمت * أن ابنها من قريش في الجماهير (7)

(1) والأبيات تنسب لغير واحد منهم عبد الله بن الزبير والفرزدق (راجع في ذلك
تاريخ الطبري 5: 379 - 380) وأورد المسعودي البيتين مع تقديم وتأخير
فيهما دون أن ينسبهما (مروج الذهب 3: 69). وعند الدينوري لعبد الله بن
الزبيري الأسدي (الأخبار الطوال 242) وفي رواية أبي مخنف أنها لفرزدق
(مقتل أبي مخنف 37).
(2) هو سرحون بن منصور الرومي كاتب معاوية وصاحب أمره (تاريخ الطبري
5: 330) وأورد الطبري ما ذكره ابن الأبار (راجع تاريخ الطبري 5: 348).
(3) يشير إلى إضافة الكوفة لعبيد الله بن زياد والي البصرة.
(4) قرآن (القصص) 28: 15.
(5) انظر مروج الذهب 3: 66، مقتل أبي مخنف 24 وما بعدها.
(6) والشبه النحاس الأصفر واللجين الذهب.
(7) البيت لابن مفرغ الحميري (شعره: 85 وفيه بعض اختلاف في الرواية عما
هنا). وانظر أيضا نهاية الأرب 3: 279.
97

وقبل قتل مسلم، حرص على ملمح بخبره معلم فأسر إلى
[78] ابن سعد بن أبي وقاص (1) مقدم الحسين في الخيول القلاص، /
رجاء أن يرجع أدراجه، ويدفع إلى موقفه استدراجه. فباح
لعبيد الله بذلك، وارتاح لإشعاره بما هنالك، وقد أمره بالكتمان،
وحذره خون الائمتان. فمن أجلها أخرجه لقتاله، وجهزه في أربعة
آلاف من رجاله. تناسى الناس ما عدا، وليا ما عدا {وقليل ما
هم} (2).
[79] عدوك من صديقك مستفاد / * فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه * يكون من الطعام أو الشراب (3)
ثم كن بالقرابة شديد الاسترابة، فالمدخر الشفيق لا الشقيق،
والمعتبر الوداد لا الولاد:
[80] وإن القريب من يقرب نفسه / * لعمر أبيك الخير لا من تنسبا
هذا ابن الرسول قتله ابن خاله (4)، وحال في حفظ العهد عن
حاله.

(1) ك: سعد بن أبي وقاص. وفي الرواية أن عبيد الله بن زياد سير عمر بن سعد
ابن أبي وقاص لمحاربة الحسين. وكان عمر بن سعد على خيل عبيد الله بن
زياد في كربلاء. وقد وعده ولاية الري (انظر تاريخ الطبري 5: 409 - 410،
مروج الذهب 3: 70، مقتل أبي مخنف 50).
(2) قرآن (ص) 38: 24.
(3) ديوان ابن الرومي 313 وفيه " يحول " موضع " يكون ".
(4) " قتله ابن خاله " مكررة في الأصل ز ويعني إن عمر بن سعد بن أبي وقاص قتل
الحسين، فقد كان سعد من أخوال النبي (صلى الله عليه وسلم) (انظر جمهرة أنساب العرب
128 - 129).
98

* فلله أرحام هناك تشقق * (1)
خلافا لمن توجع واسترجع، وكان قد حبس به وجعجع (2)،
فانقلب إليه صائرا، حتى قتل معه صابرا، هو الحر (3) كما / [81]
سمته أمه فلله أبوه. لقد يسر لليسرى، وكان بذلك دون الأحرار
أحرى. بالأمس كان يقود محاربا ألفا، واليوم يعود مسالما ألفا:
إذا أنت أعطيت السعادة لم تبل * وإن نظرت شزرا إليك القبائل (4)
وافى (5) السبط في خيل عريت نواصيها من الخير، / وذؤبان [82]
عربان كأن أسنتهم المقابيس والرايات أجنحة الطير (6). وقد لجأ
إلى ذي حسم (7) متحصنا، وضرب هناك أخبيته متبينا. فما عجل

(1) عجز بيت لقتيلة بنت لنضر بن الحارث وصدره.
* ظلت سيوف بني أبيه تنوشه *
(2) أورد الخبر في اللسان وقال في شرحه: " أي أزعجه وأخرجه. وقال الأصمعي:
يعني أحبسه ". والعبارة هي جزء من خطاب ابن زياد إلى الحر بن يزيد (أنظره
في مقتل أبي مخنف 48).
(3) هو الحر بن يزيد الحنظلي ثم النهشلي، وكان في عسكر ابن زياد المتأهب
لقتال الحسين، ثم انضم إلى الحسين (راجع رواية أبي مخنف عند الطبري:
تاريخ الطبري 5: 427 وما بعدها، مقتل أبي مخنف 44 وما بعدها).
(4) البيت لأبي العلاء (انظر سقط الزند 2: 548).
(5) ك: وافني. والحديث هنا عن الحر بن يزيد عندما جاء قائدا عسكر ابن زياد.
(6) في رواية الطبري: " كأن أسنتهم اليعاسيب وراياتهم أجنحة الطير " (تاريخ
الطبري 5: 400). واليعسوب غرة بيضاء في وجه الفرس، وشبه لمعان الأسنة
بالغرر البيضاء. والمقابيس ما قبست بها النار. فشبه بها الأسنة في لمعانها.
(7) هو موضع في الطريق إلى الكوفة نزله الحسين ولقيه فيه الحر بن يزيد على
عسكر ابن زياد (انظر معجم البلدان 2: 258).
99

بمحاربة، ولا بعد عن مقاربة. وابن زياد قد أمده بفريقه، وأعده
لإشراقه بريقه، وقال لشيطانه: قم إليه فاحبس به الركب أو
جعجع (1). إلى أن هب من نومه، وعاد باللائمة على قومه،
[83] داعيا / لأمهم بالهبل والعبر (2). وقال: أدعوتموه حتى إذا أتاكم
أسلمتوه (3). {إنها لإحدى الكبر} (4).
وهو من تلك الآلاف (5) والمئين، أوتي وحده اليقين، وأحرز
عاقبة المتقين. ما أكثر الشجر، وليس كلها بثمر.
باء عمر بن سعد بالخسر العميم، وآب الحر بن يزيد (6) بالفوز
العظيم {فريق في الجنة وفريق في السعير} (7).
[84] غني بخضم (8) / هذه الدار، فشد ما فني بسيف المختار (9)
{وما الحياة الدنيا إلا متاح الغرور} (10).

(1) انظر خطاب ابن زياد إلى الحر بن يزيد (تاريخ الطبري 5: 408).
(2) العبر: سخنة العين.
(3) من مقالة الحر بن يزيد مخاطبا أهل الكوفة الذين في جيش عمر بن سعد
(راجع تاريخ الطبري 5: 428).
(4) قرآن (المدثر) 74: 35.
(5) ك: الأف، وما أثبته اقتضاه سياق الخبر كما ورد في الروايات.
(6) ك: زيد.
(7) قرآن (الشورى) 42: 42.
(8) قد تقرأ بحطم فتكون خطأ رسم إملائي صوابه " بحطام " على أن قراءة بخضم
تقود إلى المعنى ذاته لأن الخضم: الأكل السريع بكل الفم، ويكون المراد
التكالب على الدنيا.
(9) يعني أن المختار بن أبي عبيد الثقفي لما ثار على بني أمية قتل عمر بن سعد
فيمن قتل من قتلة الحسين (انظر العقد الفريد 4: 405).
(10) قرآن (آل عمران) 2: 185.
100

فصل
هم الحسين بالانصراف لما أتاه قتل مسلم بشراف (1). وليت
ذلك حم، فلم تغم الواقعة وتعم. لكن أبى إخوته أن يصيبوا
بثأرهم، فما وسعه غير إيثارهم واقتفاء آثارهم {ليقضي الله أمرا
كان مفعولا} (2).
ثم نزل / كربلاء، راجزا: منها الكرب والبلاء (3)، فصدق [85]
ذلك ما آلت إليه الحال، وأن عليه من الدنيا الترحال:
وإذا أتاك من الأمور مقدور * ففررت منه فنحوه تتوجه (4)
هنالك دفع إلى الأحداث تلتقمه ملء فيها، ومنع من الثلاث
التي خيرهم فيها (5):
وسائل لا تجدي لديهم كأنها * مسائل من علم على جاهل تلقى / [86]

(1) العقد الفريد 4: 379، وعند الطبري بالثعلبية (تاريخ الطبري 5: 397)، وعند
المسعودي بالقادسية (مروج الذهب 3: 70)، وعند الدينوري بزرود (الأخبار
الطوال 247).
(2) قرآن (الأنفال) 8: 42.
(3) لما نزل الحسين كربلاء على الفرات وسأل عنها قال: " أرض كرب وبلاء " انظر
العقد الفريد 4: 379، مقتل أبي مخنف 49.
(4) ديوان ابن الرومي، نهاية الأرب 3: 99.
(5) طلب منهم أن يرجع إلى حيث أتى وإما أن يأخذوه إلى يزيد وإما أن يسيروا به
إلى ثغر من ثغور المسلمين (راجع تاريخ الطبري 5: 413 - 414، العقد
الفريد 4: 379).
101

فقام لتوديع الحياة يريغه، وعام إلى ورد الردى يستسيغه:
* نحاول ملكا أو نموت فنعذرا * (1)
يا عجبا، لم يكن مذ قيده الأمل، حتى طلع في جياده الأجل:
ما كان أقصر وقتا كان بينهما * [87] كأنه الوقت بين الورد والغرب /
جلى عن الماء كأنه كبد السماء (2)، فعب في الغروب
الدلق (3) والأسنة الزرق:
* ليس الكريم على القنا بمحرم * (4)
فصل
وكم رجا ابن مرجانة (5)، أن يجرعه المهانة:
* وتلك التي تستك منها المسامع * (6)

(1) ديوان امرئ القيس 66 وصدره:
* فقلت له لا تبك عينك إنما *
(2) لما حال عسكر عمر بن سعد بين الحسين وأصحابه وبين الماء قال عبد الله بن
أبي حسين الأزدي: " يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء! والله لا
تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا " (تاريخ الطبري 5: 412).
(3) الغروب جمع غرب وهو القاطع والدلق جمع دلوق وهو السلس الخروج بريد
أن الحسين شرب من قواطع السيوف سلسة الخروج من أغمادها.
(4) عجز بيت عنترة:
* فشككت بالرمح الأصم نيابه *
(ديوان عنترة 15).
(5) هو عبيد الله بن زياد (تاريخ الطبري 5: 456).
(6) عجز بيت النابغة الذبياني وصدره:
* وأخبرت خير الناس أنك لمتني
(ديوان النابغة 47).
102

قال ابن الطاهرتين (1): أأنزل على حكم ابن الزانية (2)؟ متى
سلفت / أولى فتخلف بثانية! [88]
في مسلم وهانئ زاجر، فأنى يؤمن برا فاجر! أي عبد آل
صخر، [أبي] سيد ولد آدم ولا فخر (3). أمني تروم الدنية، لأني
أهاب المنية!؟.
أكر على الكتيبة لا أبالي * أحتفي كان فيها أم سواها (4) \ [89]
جاء عنه (5) أنه خطب في ذلك الخطب الجليل، وزهد في
عيش كالمرعى الوبيل، وقال: لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل (6):
سأغسل عني العار بالسيف جالبا * علي قضاء الله ما كان جالبا (7)
ليرغب المؤمن في لقاء الله يحمد معاده /، فإني لا أرى [90]
الموت إلا سعادة (8) {وعجلت إليك ربي لترضى} (9).

(1) أي خديجة وفاطمة، ويعني بابن الطاهرين الحسين.
(2) يعني عبيد الله بن زياد لأنه من ولد سمية. وفي رواية عند ابن عبد ربه أن
الحسين قال: " أنا انزل على حكم ابن مرجانة " (العقد الفريد 4: 379).
(3) في الحديث (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) انظر شرح العزيزي على
الجامع الصغير 2: 62. وفي رواية ابن عبد ربه للخبر: " أنا سيد البشر ولا
فخر ". (العقد الفريد 4: 251).
(4) البيت لعباس بن مرادس وفيه رواية مختلفة (انظر عيون الأخبار 2: 194).
(5) في الأصل: " جاء في ذلك عنه أنه خطب في ذلك ".
(6) انظر خطبة الحسين يوم كربلاء في تاريخ الطبري 5: 425.
(7) قائله سعد بن ناشب (راجع الحماسة شرح المرزوقي 1: 67).
(8) من خطبة للحسين (انظر العقد الفريد 4: 380).
(9) قرآن (طه) 20: 84.
103

وهون قدر الدنيا وصروفها وبين إقبال منكرها وإدبار معروفها.
ونادى فأسمع، وقد عزم طلاقها وأزمع. " ألا ترون الحق لا يعمل
[91] به، والباطل لا يتناهى عنه " (1) /.
إلى ديان يوم الدين نمضي * وعند الله تجتمع الخصوم (2)
فصل
أحب السبط - لما أعضل الداء، وكثر أولياءه الأعداء - أن يجلو
الخفية والخبية، ويبلو ما عند فئة غيها بلية. والكريم لا يوالس
[92] ولا يدالس (3). / فجمعهم وهم أزيد من سبعين رجالة وفوارس.
ثم أذن لهم في الانطلاق، وقد عدم التنفيس في الخناق. وقال:
لبني عقيل، حسبكم لمسلم تحملا، وهذا الليل قد غشيكم،
فاتخذوه جملا (4).
[93] فأبوا إلا نيل المرام، أو موت الكرام، ورأوا / أن العيش بعده
عين الحرام.
إذا ما أعضل الأمر دفعنا الشر بالشر * وما للحر منجاة كمثل السيف والصبر

(1) من خطبة الحسين (راجع العقد الفريد 4: 380 وفيه " لا ينهي " موضع " لا
يتناهى ").
(2) ديوان أبي العتاهية (المطبعة الكاثوليكية) 246.
(3) أي لا يخون ولا يغدر.
(4) انظر مجمع الأمثال 1: 135.
104

كان من جوابهم إذ رخص في ذهابهم: لم نفعل ذلك لنبقى
بعدك! لا والله حتى نرد وردك (1): / [94]
إن كان بعدكم في الموت (2) لي أرب * فلا قضيت إذا من حبكم أربا
بوركوا أشرافا، ونصعوا أوصافا:
أحيوا فرادى ولكنهم * على صحبة لبين ماتوا جميعا
عصبوا بأمره أمورهم، وبذلوا دون نحره / نحورهم. مستحلين [95]
من الحمام، ومستوفين على غاية الكمال والتمام (3):
عيني إبكي بعبرة وعويل * واندبي إذ ندبت آل الرسول
ستة كلهم لصلب علي * قد أصيبوا وخمسة لعقيل (4) / [96]
فصل
عاشر المحرم (5) أبيحت الحرمات، وأفيضت على النور

(1) ك: ورودك. وعن مخاطبته بني عقيل انظر تاريخ الطبري 5: 419.
(2) كذا لعلها " العيش " موضع " الموت ".
(3) انظر أقوال أصحاب الحسين في تاريخ الطبري 5: 419 - 420.
(4) رواهما المسعودي مع أخر لمسلم بن قتيبة مولى بني هاشم (مروج الذهب
3: 72). وأورد ابن عبد ربه البيتين ذاتهما ونسبهما إلى بنت عقيل بن أبي
طالب ولم يسمها (انظر العقد الفريد 4: 383).
(5) كان مقتل الحسين يوم الجمعة عاشر محرم سنة إحدى وستين بالطف من
شاطئ الفرات بكربلاء (العقد الفريد 4: 380).
105

الظلمات. فتفاقم الحادث، وحمل على الطيبين الأخابث.
وضرب السبط على عاتقه ويسراه، وما أجرأ من أسال دمه
[97] وأجراه (1)! ثم قتل بعقب [ذلك] ذبحا (2)، يبكى حتى / العاديات
ضبحا. أجزاء حائلة (3) الحلى، وأشلاء كرمن على البلى.
ومال الغواة على المتاع والثياب، ونازعوا النساء ما عليهن في
النهاب. إلى خدود خدوها، وقدود قدوها، ومحارم استحلوها
وانتهكوها، وأكارم أبقوا جثثهم وتركوها:
* جزرا لخامعة ونسر قشعم * (4) /
فيا لله من أيد عادية، وأنفس مصادية. فصلت بالخسران
خزايا، وحملت كرائم أظعان سبايا:
فما في حريم بعدها من تحرج * ولا هتك ستر بعدها بمحرم
[99] باب الندبة هنا يحسن، / فدع ما يسر لما يحزن:

(1) ضرب ذرعة بن شريك التميمي كف الحسين اليسرى ثم ضربه على عاتقه
(راجع تاريخ الطبري 5: 453).
(2) أجهز عليه سنان بن أنس النخعي طعنا بالرمح ثم حز رأسه (انظر الروايات
المختلفة في تاريخ الطبري 5: 453، العقد الفريد 4: 380، مروج الذهب
3: 71، الكامل في التاريخ 4 78).
(3) أي تغير لونها.
(4) عجز بيت لعنترة صدره:
* ان يفعلا فلقد تركت أباهما *
ورواية الديوان تختلف عما هنا (ديوان عنترة 154). الخامعة: الضبع،
والقشعم: المسن.
106

أترجو أمة قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب (1)
ما لقي في عاشوراء رداه، إلا والعشر مما يعد صداه. حموه
المناهل العذاب، وأباحوه المناصل العضاب (2). يا لك من نظام
نثر العصاة / الموارد (3): [100]
وظام يريغ الماء قد حيل دونه * سقوه ذبابات الدقاق البوارد
أعجبهم أن يتخبط عليلا، قبل أن يتشحط قتيلا {إن هؤلاء
يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} (4).
أتنتهب الأيام أفلاذ أحمد * وأفلاذ من عاداهم تتعدد (5)
ويضحى (6) ويظمأ أحمد وبناته * وبنت زياد وردها لا يصرد (7)
أفي دينه في أمنه في بلاده * تضيق عليهم فسحة تتورد

(1) ورد هكذا عند أبي مخنف مع أبيات أخر من غير أن تنسب (مقتل أبي مخنف
125).
(2) المناهل: مواضع الشرب، المناصل العضاب: السيوف القواطع. ويشير إلى
منعهم الماء عن الحسين وإباحتهم دمه.
(3) الموارد: المهالك.
(4) قرآن (الإنسان) 76: 27.
(5) بهذه الأبيات يختم المقري في النفح ما نقله عن درر السمط. والأبيات لابن
أبي الخصال (راجع أزهار الرياض).
(6) ساقطة من ك.
(7) ك: تصدد. الصرد هو القطع.
107

وما الدين إلا دين جدهم الذي به * [101] أصدروا في العالمين وأوردوا /
فصل
ومن نادر الاتفاق، السائر في الآفاق، أن قتل يوم عاشوراء ابن
زياد، وهي من خارقات الاعتياد (1). أوجده ابن الأشتر (2) فقده،
حين ضربه في المعترك فقده. ثم أحرق جثته الخبيثة وأذهب
عبيته (3) القديمة والحديثة.
واتفاق آخر - في ذلك المقام الأهول، لا يتأخر في الغرابة عن
[102] رتبة الأول - هو أن دخل برأسه على ابن الحسين (4) / وهو
يتغدى، في أخذه بما كان يحيف ويتعدى. فلما رآه قال: سبحان
الله! ما اغتر بالدنيا إلا من ليس في عنقه نعمة! لقد أدخل رأس
أبي عبد الله (5) على ابن زياد وهو يتغدى أليس عجيبا؟ إن ذا
لعجيب!

(1) في الأصل " الأشياء " وتوافق السجع يقتضي ما أثبت.
(2) هو إبراهيم بن مالك بن الأشتر النخعي فقد قد عبيد الله بن زياد نصفين في
لقاء العراقيين بقيادة مالك مع الشاميين بإمرة عبيد الله بن زياد في سنة 67 ه‍
على شاطئ نهر بازر قرب الموصل (انظر تاريخ الطبري 6: 90، الكامل في
التاريخ 4: 264).
(3) في الأصل عينيه ولعل الصواب ما أثبتناه والعبية: الكبر والفخر والنخوة.
(4) يعني دخل برأس عبيد الله بن زياد على علي بن الحسين في المدينة (راجع
الخبر في العقد الفريد 4: 404 فابن الأبار يعتمده مصدرا وإن لم يذكره).
(5) يعني الحسين بن علي.
108

هذا إلى وقعه جبانة السبيع (1) وأشباه لها آحاد وجميع، وما
كان الدم الطاهر ليذهب ويضيع. وكفى بفعل / عبد الصمد بن [103]
علي وقوله، في سطوه بالأموية عند انقراضها وصوله:
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها * أخذي بثأري من بني مروان
ومن آل حرب ليت شيخي شاهد * سفكي دماء بني أبي سفيان (2)
فصل
وهب الرجال تجز رؤوسهم وتبيد نفوسهم / [104]
بنات زياد في القصور مصانة * وبنت رسول الله في الفلوات (3)
لا ينقضي العجب [من يزيد، يعير] (4) عبيد الله حملهن على
الأقتاب مسافرات، ويقعد هو وبطانته لرؤيتهن سافرات، بعد أن

جبانة السبيع موضع بالكوفة كان فيه للمختار يوم على أهل الكوفة (راجع
الكامل في التاريخ 4: 233 وما بعدها).
(2) عم المنصور العباسي وقد ولي الحجاز وفتك بالأمويين فيه وهو قائل البيتين
(انظر مروج الذهب 3: 338).
(3) ديوان دعبل الخزاعي 41، ورواية عجزه:
* وآل رسول الله في الفلوات *
(4) النص هنا مضطرب فقد جاء فيه " لا ينقضي العجب عبيد الله حملهن... م
فكأن الحديث عن عبيد الله وحده. والروايات مختلفة في شأن قرع الأسنان
بالقضيب، فمن قائل هو ابن زياد (انظر رواية حميد بن مسلم عند أبي مخنف
في تاريخ الطبري 4: 456 - 457) ومن قائل هو يزيد (انظر رواية القاسم بن
بخيت عند أبي مخنف في تاريخ الطبري 5: 465). غير أن ابن الأبار يتوكأ
على ما ورد في العقد الفريد، من هنا وحتى نهاية الفصل، وفيه أن يزيد هو
الذي قرع أسنان رأس الحسين بالقضيب. وعير ابن زياد في معاملته لبنات آل
البيت (انظر العقد الفريد 4: 382). ولهذا لا يستقيم المعنى بغير الزيادة بين
المعكوفين.
109

بعث بالرأس للبعيد والقريب، وعبث في قرع الأسنان بالقضيب
[105] {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (1): /
ومقبل كان النبي * يلثمه يشفي غرامه
قرع ابن هند بالقضيب * عذابه (2) فرط استضامه
وشاد بنغمته عليه * وصب بالفضلات جامه
ليضرسن يد الندامة * حين (3) لا تغني الندامة (4)
ومع قعوده لما اعتقده فتحا، وعرضهن في الهيئات المتناهيات
[106] قبحا، فقد دمعت عيناه الجمود، وأقر بحقهن وهو الجحود /.
ولولا النعمان بن بشير، ما جعل أحد (5) بحفظهن يشير. ذكره (6)
العزم الشرعي على أبيه، أن ينحل مثل ما نحله بنيه (7). فأجرى

(1) قرآن (البقرة) 2: 44.
(2) عذابه: سنانه.
(3) في الأصل " ليضرس يدا الندامة حتى... ".
(4) ديوان بديع الزمان الهمذاني.
(5) ك: أحدهن.
(6) ك: أذكر.
(7) ابن الأبار يشير إلى حديث النعمان بن بشير بأن أباه أتى به إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم)
فقال: (إني نحلت ابني هذا غلاما، فقال: أكل ولدك نحلت مثله قال: لا.
قال: فأرجعه). انظر صحيح البخاري (هبة 12).
110

حكم الأصل في الفروع الكرام، واستزاد يزيد لهم (1) من الرعي
والاحترام (2). فإلى ذلك المقام أصغى، وإلى تصويب
الاستئصال / ألغى. ما سر بما وقع. حتى سبئ وما نفع {كذلك [107]
يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} (3).
فصل
تمثل (4) يزيد ورأس الحسين بين يديه، وقد أطال النظر لو
ازدجر واعتبر لديه.
نفلق هاما من رجال أعزة / [108] * علينا وهم كانوا أعق وأظلما (5)
وقال: لعن الله ابن سمية (6)، لو كانت بينه وبينه رحم ما فعل
هذا {كلا إنها كلمة هو قائلها، ومن ورائهم برزخ إلى يوم
يبعثون. فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يؤمئذ ولا
يتساءلون} (7).

(1) في الأصل " استزايد يدلهم ".
(2) انظر تاريخ الطبري 5: 460 - 462، العقد الفريد 4: 382 - 383.
(3) قرآن (البقرة) 2: 167.
(4) في الأصل: مثل.
(5) في ك: أعز موضع أعق والبيت مما تمثله يزيد ورأس الحسين بين يديه. وهو
للحصين بن الحمام المري (انظر فصل المقال 490، العقد الفريد 4: 382،
تاريخ الطبري 5: 460، 463، 465).
(6) انظر العقد الفريد 4: 382 وفيه ابن مرجانة. ومرجانة والدة عبيد الله وأما سمية
فأم أبيه زياد. راجع أيضا تاريخ الطبري 5: 460 وفيه ابن سمية.
(7) قرآن (المؤمنون) 23: 101.
111

أكثر به في الآفاق المدار، فأظهر مروان إليه البدار يرتجز ما
[109] يغيظ / الإيمان، ويقول: كأني أنظر إلى يوم عثمان (1). لو ذكر
حبس الحكم بالطائف (2)، ما شمت لقتل الحسين بالطف، [و]
لم تخنقه في مصيبته عبرة فمات خنقا وفي ذلك عبرة (3):
أيها العاذل الذي * بعذابي توكلا
عش صحيحا مسلما * [110] لا تعير فتبتلي (4) /
تناولته الأيمان وتناقلته الركبان، تسير به بل تسيل، فجثمان
حيث الفرات وجمجمة حيث النيل (5):
يا بعد مصرع (6) جثة من رأسها * رأس بمصر وجثة بالرخج (7)

(1) هو مروان بن الحكم رابع خلفاء بني أمية. يقول ابن الأبار في الحلة السيراء
1: 29 أن الزبير بن بكار وغيره ذكروا رجزا لمروان بن الحكم في قتل الحسين
ابن علي حين قدم برأسه على المدينة.
(2) الحكم بن أبي العاصي والد مروان وقد نفاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الطائف (انظر
الإصابة 2: 28).
(3) الإشارة إلى ما قيل من أن أم خالد بن يزيد غطته بوسادة حتى قتلته وقد كان
تزوجها بعد أن ولي الأمر (تاريخ الطبري 5: 611، الكامل في التاريخ
4: 192).
(4) البيتان لأبي عبد الله بن الفراء (انظرهما في زاد المسافر 142).
(5) يعني كربلاء والقاهرة.
(6) كذا في الأصل ولعلها " مطرح ".
(7) الرخج قرية قرب بغداد.
112

فصل
أهان منه عبيد الله الدعي، ما أكرم عبيد الله الشيعي (1).
فأعجب لهذين / الاسمين كيف تفاوتا في النزول والسمو، وكأنما [111]
تفاوضا في التسمي بالولي والعدو. فأقدمهما أراق دمه بحربته (2)،
وأحدثهما نصر من زعمه (3) في الكون من ذريته.
ولما صار ملك مصر لأبنائه، جعلوا له مصنعا (4) تأنقوا في
بنائه. فجاء للروضة نظيرا، / وبما أشرب من ماء الذهب نضيرا. [112]
يقيد الأبصار جمالا، ويدله الأفكار جلالا. قد أودع من الرخام
الغريب ما أودع، وكلما أعيد في ترصيعه وأبدى أبدع.
وهنالك مسجد ألبست المرمر حيطانه، وفيه حجر يصف
الأشخاص لمعانه. داخله يبادر استلامه / قبل أن يقضي سلامه، [113]
ويرسل دموعه بعدما يصل خشوعه، وقد علقوا عليه ستور
الديباج، وأنفوا لمصابيحه أن تشرج في الزجاج. فهي من الفضة
البيضاء كما صفت أمواه الأضاء (5). تقديسا لتلك الهامة، لا
عدمت صوب الغمامة (6).

(1) الأول عبد الله بن زياد والآخر عبيد الله المهدي أول خلفاء الفاطميين.
(2) ك: بحبريته.
(3) نصر من زعمه جاءت في ك: نصر مزعمه. وتجدر الإشارة إلى أن ابن الأبار لا
يرى أن نسب الفاطميين صحيحا (انظر الحلة السيراء 1: 285).
(4) أي قصرا (انظر تاج العروس مادة صنع). والحديث هنا عن المشهد الحسيني
وابن الأبار يتابع وصف ذلك من رحلة ابن جبير (قارن ما هنا بما في رحلة ابن
جبير 19 - 20).
(5) أي البحيرة.
(6) عن وصف مغربي آخر لقصور الفاطميين في مصر. انظر ما أورده المقري نقلا
عن ابن سعيد المغربي (نفح الطيب 2: 345).
113

[114] وقبلها بنى أبوهم المهدية (1) بالمغرب، / وصارم صريمته غير
نابي المضرب. صادعا بكلمته الخالدة في العوالم، [اليوم] أمنت
على الفواطم.
فقيل في تلك البنية ما أومأ للميتة الحسينية (2):
خطت بأرجاء المغرب دار * دانت لها الأمصار والأقطار
[115] لاذت ببرد الماء لما أيقنت / * أن القلوب على الحسين حرار (3)
فصل
أية فتنة عمياء وداهية دهياء؟ لا تقوم بها النوادب ولا تبلغ
معشارها النوائب! طاشت لها النهى وطارت، وأفلت (4) شهب
الدجا وغارت. لولاها ما دخل ذل على العرب، ولا ألف صيد
[116] الصقر / بالخرب (5)، وقصف (6) النبع بالغرب. فانظر إلى ذوي

(1) ك: المهدلة.
(2) ك: الحسنة.
12 (3) ورد البيتان غير منسوبين في الحلة السيراء 1: 192 وفيها " المغارب " موضع
" المغرب ".
(4) ك: أقبلت. وما أثبت يقتضيه المعنى.
(5) والخرب: طائر الحباري. والمعنى أن الوضيع قهر الشريف.
(6) ك: قصب وأيضا يريد أن الوضيع يعتدي على الشريف. يقول المتنبي:
فلا تذلك الليالي إن أيديها * إذا ضربن كسرن النبع بالغرب
ولا يعن عدوا أنت قاهره * فإنهن يصدن الصقر بالخرب
114

الاستبصار خضع الرقاب نواكس الأبصار:
وإن قتيل الطف من آل هاشم * أذل رقاب المسلمين فذلت (1)
فاستكانت بنته (2) سكينة حتى أسمعت القوم ما تجاوز التثريب
واللوم - إذ خرجوا / لتوديعها ورغبوا في تشييعها ومصعب بن [117]
الزبير بعلها، قد خذلته الكوفة وأهلها - " أيتمتموني صغيرة
وأرملتموني كبيرة " (3).
ويلك يا قاتل الحسين لقد * فئت بحمل ينوء بالحامل
أي حباء حبوت أحمد في / [118] * حفرته من حرارة الثاكل
تعال غدا واطلب شفاعته * وانهض فرد حوضه مع الناهل
ما الشك عندي في حال قاتله * لكنني أشك في الخاذل (4)

(1) رواه المسعودي لسليمان بن قته العدوي مع اختلاف في الرواية (انظر مروج الذهب 3: 74).
(2) في الأصل " بنت م وهي سكينة بنت الحسين. كانت قد تزوجت مصعب بن
الزبير الذي ثار على الأمويين في العراق وقتل في قتاله معهم.
(3) تريد خذلانهم للحسين وقتلهم له ثم خذلانهم لمصعب وتركهم له حتى واجه
مصيره مع عبد الملك بن مروان (انظر هذه الأحداث في تاريخ الطبري 6:
157 - 158).
(4) نسب أبو الفرج هذه الأبيات لمنصور النمري (انظر الأغاني، دار الفكر
12: 24).
115

فصل
[119] ما عذر الأموية وأبنائها \ في قتل العلوية وإفنائها؟ {أهم
يقسمون رحمة ربك} (1)!
دليل في غاية الوضوح، على أنهم كسفينة نوح، من ركب فيها
نجا، ومن تخلف عنها غرق (2). ثم يحبسهم (3) آل الطليق (4)
ويطردهم آل الطريد (5) {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز
[120] الحميد} (6) /.
نساؤهم أيامى أمية، وسماؤهم أرض بني سمية. من عصبة
أضاعت دماء محمد وبنيه بين يزيدها وزيادها.
كان الحسين يقطع الليل تسبيحا وقرآنا (7)، ويزيد يتلف العمر
تبريحا وعدوانا.
[121] * عمرك الله كيف يلتقيان! * (8) /

(1) قرآن (الزخرف) 43: 32.
(2) يشير إلى حديث (إلا إن مثل أهل بيتي مثل سفينة...). الحاكم، المستدرك
3: 151.
(3) ك: يحسبهم.
(4) يعني آل حرب.
(5) يعني آل مروان بن الحكم سبق أن ذكرنا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفى الحكم إلى
الطائف.
(6) قرآن (البروج) 85: 8.
(7) ينظر إلى قول حسان بن ثابت في عثمان بن عفان:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
(ديوان حسان 1: 96).
(8) عجز بيت عمر بن أبي ربيعة صدره:
* أيها المنكح الثريا سهيلا *
(ديوان عمر بن أبي ربيعة، الأغاني، دار الفكر 1: 235).
116

افتتح بكربلاء أمره (1)، وختمه بعد ذلك بالحرة (2) {إن هذا
لهو البلاء المبين} (3).
فقل في أيام تصحيفها: لها مالئ (4)، طاغية هواه له
ممالئ (5). أنهب المدينة ثلاثا، وقتل أهله (6) كهولا وأحداثا، وما
لبث أن قتله الجدري، وأدبره ورأيه الدبري (7).
ثم انكفأ ابنه عاجلا وانقلب، وصار / الملك بعد أبي ليلى [122]
لمن غلب (8).

(1) في الأصل " افتتح أمره بكربلاء ". ولعل الصواب ما أثبت لتوافق السجعة.
(2) راجع خبر الحرة في تاريخ الطبري 5: 487 - 495.
(3) قرآن (الصافات) 37: 106.
(4) ك: مال، ولكن المؤلف ربما يشير إلى أيام يزيد منذ كربلاء إلى وفاته بحساب
الجمل: " لها " ستة وثلاثون شهر و " مالي " اثنان وسبعون يوما.
(5) ك: ممال. وعن ممالأة هوى يزيد له انظر مروج الذهب 3: 77.
(6 كذا في الأصل ولعلها " أهلها ".
(7) من أمثالهم: شر الرأي الدبري " أي الذي يعن بعد فوات الحاجة. (انظر تاج
العروس مادة: دبر 9.
(8) أبو ليلى كنية معاوية بن يزيد والإشارة هنا إلى قول القائل:
إني أرى فتنة حان أولها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
(تاريخ الطبري 5: 200، أيضا أنساب الأشراف 4: ق 2: 62.
وصدر البيت عند البلاذري:
* لا تخدعني فإن الأمر مختلف *
117

قرضهم التسلط في السلطان، واعتصر ما وهب لهم العصران:
ثم صاروا كأنهم ورق جف * فألوت به الصبا والدبور (1)
فصل
عبد الملك (2) كان أحزم من يزيد، وأعلم بالسبيل إلى ما
[123] يريد. كتب إلى / حجاجة (3) - وقد أشفق من لجاجه - أن يجنبه
دماء أهل البيت ويحترمهم، ولا يتقبل فيهم صنع آل
حرب فيخترمهم (4)، جاعلا سبب هلكهم سلب ملكهم.
وأما بنوه فأطاعوه بغيهم وتعديهم، وبسطوا لآل السبطين
[124] ألسنتهم بالسوء وأيديهم. فافترسهم / من عنابس بني العباس كل
معروف الصول والباس (5). قطع دابرهم، وأخلى أسرتهم
ومنابرهم {هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا} (6).
أولم مروان الجعدي، [و] استدعى أشراف قريش، فدخل
[125 [آكله] عبد الله بن علي ليأكل، فوقعت عينه عليه، وهو / يجيد
خضم ما بين يديه فقال: إن هذا الفتى لتلقامة (7)، فعلى يديه

(1) البيت لعدي بن زيد العبادي (ديوانه 90). والصبا: ربح شرقي، والدبور: ريح
غربي.
(2) هو عبد الملك بن مروان.
(3) هو الحجاج بن يوسف الثقفي.
(4) انظر في توجيهات عبد الملك إلى الحجاج بشأن آل البيت وخاصة محمد بن
الحنفية (العقد الفريد 4: 400 - 401).
(5) لعله يعني عبد الله بن علي.
(6) قرآن (مريم) 19 - 98.
(7) اللقم: سرعة الأكل والمبادرة إليه.
118

كانت تلك الانتقامة. رب كلمة وافقت قدرا.
خافه على من بعده، وسأله في حفظهم وعده. فقال: الحق
لنا في دمك، وعلينا في حرمك. وهكذا فعل، بعد أن قتل من
قتل، وأطال / في دمائهم العلل والنهل (1): [126]
كالحوت لا يرويه شئ يلقمه * يصبح ظمآن وفي الماء فمه (2)
فصل
من سافرت في الملكوت أفكاره، أسفرت له عن كننها
أسراره. سبق في الأزل، أن ينزل بآل علي ما نزل. [ومذ آمن] (3)
الفاروق [أمن] (3) الفرق، وهجع ملء جفونه / الساهد الأرق. أيد [127]
به الإسلام، وأجيبت فيه دعوة النبي السلام (4). فلم يكن يقرضه
إلا قرضا حسنا، ولا يدع حسينا يهدر دمه ولا حسنا. " إذا ذكر
الصالحون فحي هلا بعمر " (5).
أصهر إلى أبيهما، وأظهر مكنون حبه فيهما. / فأملك على [128]
مكانها من الصغر أم كلثوم (6)، وذرأ من ذريته المصلحة من فرق

(1) انظر تتبعه للأمويين وقتلهم في الكامل في التاريخ 5: 429 - 422، مروج
الذهب 3: 219 - 220.
(2) ديوان رؤبة بن العجاج.
(3) بياض في الموضعين مقدار كلمة في كل، والزيادة يقتضيها السياق.
(4) انظر عن إسلام عمر سيرة ابن هشام 1: 342 وما بعدها.
(5) رواه الإمام أحمد (انظر مسند أحمد 6: 148). والمراد: عليك به.
(6) أملكه إياها: زوجه إياها. والحديث هنا عن زواج عمر بن الخطاب من أم
كلثوم بنت علي بن أبي طالب (طبقات ابن سعد (سخو) 8: 339).
119

شمل الفريق المأثوم. ففي حياته نصرت الرايات، وأحرزت
الغايات، وفتح الأقصى والأدنى، ومنح الإيمان أفضل ما تمنى.
[129] وبعد مماته / خرج من ضئضئه (1) من دان لضوئه القمران،
وبان أنه وأباه لا اشتراك فيهما ولا اشتباه العمران (2). فشرع في
شد الشريعة، وأسرع لسد الذريعة. وجعل يرتاع من المظالم،
ويرتاح لإحياء المعالم (3). وعندها أذن في الإملاك لمحمد بن
[130] علي (4) أبي الأملاك (5). / وكان من قبله يمنعون أصهار بني
العباس لبني الحارث، ويتحدثون أن في ذلك إحلال
الحادث (6). يدبر ابن آدم والقضاء يضحك.
فقضي أن قيض من صحيحهم من كان السبب في تمزيق
[131] أديمهم وتكدر نعيمهم. إذا أراد الله أمرا اتفقت أسبابه /

(1) من أصله وصلبه، ويعني عمر بن عبد العزيز، فأمه أم عاصم بنت عاصم بن
عمر بن الخطاب. (الكامل في التاريخ 5: 59، جمهرة أنساب العرب 105).
(2) هما عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز.
(3) انظر مواقف عمر بن عبد العزيز هذه في تاريخ الطبري 6: 567 وما بعدها،
الكامل في التاريخ 5: 42، 60 - 66، مروج الذهب 3: 193.
(4) لعله يشير إلى ابتداء الدعوة العباسية بقيادة محمد بن علي في خلافة عمر بن
عبد العزيز (انظر عن ذلك تاريخ الطبري 6: 562، الكامل في التاريخ
5: 53 - 54).
(5) الإشارة إلى ما يروى من أن عليا لما ولد لعبد الله بن العباس ولده علي حنكه
" ودعا له ثم رده إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك ". (وفيات الأعيان 3: 274).
(6) كانت أم العباس السفاح تحت عبد الملك بن مروان، فلما توفي عبد الملك
تزوجها محمد بن علي فولدت منه عبد الله السفاح. (انظر مروج الذهب
3: 266). وأمه هي ريطة بنت عبيد الله من بني الحارث (جمهرة أنساب
العرب 20).
120

كانوا قد اغتروا بالأحلام، واعتدوا في الأحكام، فأبوهم (1)
[أمرهم] الرحمة لأولي الأرحام والكف، وحذرهم لما أنذرهم
يوما كيوم الطف. فأظهروا التقيد للأمر، وأضمروا إلحاق زيد
بعمرو. وخوفهم التلف، وقال: {عفا الله عما سلف} (2).
فأمسكوا (3) / برهة عنهم، ثم عادوا (4) ينتقم الله منهم {والله عزيز [132]
ذو انتقام} (5).
فصل
لولا عمر بن عبد العزيز، حل الدين بالمكان الحريز. قام
بتجديده على رأس المائة (6)، ورام بتسديده فئة تلك الفئة. عريق
في الطاب الطاب، بين أبي العاص وآل / الخطاب (7). تنهى [133]
الصالحات إليه، وتبدو المشابهة الكريمة عليه. عز بجده يوم
أسلم أهل الدار، وأخذ هو لأهل البيت بالثأر. كانت له عليه

(1) يعني عبد الملك بن مروان.
(2) قرآن (المائدة) 5: 95.
(3) في الأصل: فلتمسكوا، والسياق يقتضي ما أثبت.
(4) يريد أن الأمويين أمسكوا عن آل البيت بنصيحة عبد الملك غير أن أبناءه عادوا
لسياسة الفتك بالعلويين مرة أخرى.
(5) قرآن (المائدة) 5: 95.
(6) إشارة إلى الحديث القائل بأن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من
يجدد لها دينها (انظر إتحاف السادة المتقين 1: 26).
(7) اقتبس قول كثير في عمر بن عبد العزيز:
يا عمر بن عمر بن الخطاب * مقابل الأعراف في الطاب الطاب
بين أبي العاص وآل الخطاب
الطاب: الطيب (انظر تاج العروس: طيب) والإشارة إلى جدي عمر بن
عبد العزيز من أمه وأبيه.
121

ولادة، فصيغت لجيده تلك القلادة:
لم يؤثروه بها إذ قدموا لها * [134] لكن لأنفسهم ما كانت / الأثر (1)
ما بالى إسخاط القبيل في القبول مع إرضاء عترة آل الرسول.
وهبه كأن لم يعلم بالمال، ولا تعمد حصاد الآل:
* غلط الطبيب إصابة المقدار * (2)
لو خير أبوه الأكبر (3) في إسلام أبي طالب والخطاب، لاختار
أحبهما إلى النبوة. شنشنة أعرفها من أخزم (4):
[135] * ومن / يشابه أباه فما ظلم * (5)
فصل
يجمع الناس على أن عمر أحيا الإيمان، وأنا أخالف إلى كون

(1) ديوان الحطيئة 208 وتختلف روايته عما هنا.
(2) عجز بيت ابن الرومي:
والناس يلحون الطبيب وإنما * غلط الطبيب إصابة المقدار
(ديوان ابن الرومي).
(3) يعني عمر بن الخطاب.
(4) عجز بيت نسبه الميداني لأبي أخزم الطائي وصدره:
* أن بني درجوني بالدم *
(انظر مجمع الأمثال 1: 361، العقد الفريد 2: 192).
(5) عجز بيت لرؤبة. انظر ديوان رؤبة بن العجاج وصدره:
* بأبيه اقتدى عدي في الكرم *
والعجز من أمثالهم (انظر مجمع الأمثال 2: 170).
122

ذلك من سليمان (1)، سلفت له غير حريمة، كفرها بفعلته الكريمة
{خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} (2).
خامر عبد الملك أعظم الاضطراب، / إذ رأى كأنه يبول أربع [136]
مرات في المحراب. فدرأ ابن المسيب (3) من رعبه، وقال في
تأويلها: يملك أربعة لصلبه. فولى سليمان بعد الوليد، وملك
هشام إثر يزيد.
لكن أبا حفص قلدها أبو أيوب (4)، فكأنما ناجته وناجاها
الغيوب، ثم أدركت / الأخوة النخوة، ونافسوه الحظوة الحلوة. [137]
فنودي بلسان الحال: يا يزيد تريد وأنا أريد، ولا يكون إلا ما
أريد. دع أشجها (5) يقيم جهادها وحجها، ويقوم متأودها
ومعوجها. أما أنت (6) فتغني صبابة، وتعنى بحب حبابة (7). لا تدفن

(1) يعني سليمان بن عبد الملك. قال الطبري: " كان الناس يقولون: سليمان مفتاح
الخير، ذهب عنهم الحجاج، فولي سليمان، فأطلق الأسارى، وخلى أهل
السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز ".
(تاريخ الطبري 6: 546).
(2) قرآن (التوبة) 9: 102.
(3) يعني سعيد بن المسيب المخزومي. انظر الخبر في وفيات الأعيان 2: 378.
(4) أبو أيوب كنية سليمان بن عبد الملك. وأبو حفص كنية عمر بن عبد العزيز.
والمعنى أن سليمان قلد الخلافة عمر بن عبد العزيز. وكلمة " أبا حفص "
مفعول أول مقدم.
(5) هو عمر بن عبد العزيز (انظر العقد الفريد 4: 433).
(6) رجع الحديث إلى يزيد بن عبد الملك.
(7) هي جارية يزيد بن عبد الملك ومغنيته. وفي الرواية أنه كلف بها واشتغل بها
وأضاع الرعية. (العقد الفريد 6: 61).
123

[138] جيفة، ولا تبطن خيفة. " خل الطريق / لمن يبنى المنار به " (1).
وعلى قدم نجلك ومستفرغ سجلك يبين الاعتراض ويحين
الانقراض {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} (2).
فصل
إنما حرم بنو علي الدنيا وإن تبؤوا الذروة العليا، لأن أباهم
[139] طلقها ثلاثا لا رجعة فيها (3). وزوج الأب على الأبن حرا م. / أما
هي أخون من مومس! وهو يقول: ما لي ولأجور (4) المومسات:
تصاريفها ألوان وتباريجها بكر وعوان (5). {والآخرة خير
وأبقى} (6). " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى
الكافر منها جرعة ماء " (7). أغرقت في اللوم، وهانت على ذوي
[140] الحلوم، فلا حظ لديها للكرماء، ولا حض عليها للحكماء: /
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها * تقلب تارات بنا وتصرف (8)
قل ما أنس واليها، وطال ما دنس مواليها. فالنجاة منها حقا،

(1) في الأصل " خل طريق لمن يبني في الطريق المنار به ".
(2) قرآن (البقرة) 2: 54.
(3) يروى أن عليا قال: " يا دنيا غري غيري... قد أبنتك ثلاثا لأرجع دلي فيك ".
(انظر مروج الذهب 2: 433، نهج البلاغة 3: 166 - 167).
(4) في الأصل: ولا جوى.
(5) نهج البلاغة 3: 166 - 167.
(6) قرآن (الأعلى) 87: 17.
(7) انظر الجامع الصغير شرح العزيزي 3: 202 - 203 وفيه رواية أخرى (انظر
العقد الفريد 2: 37).
(8) لحرقة بنت النعمان.
124

والنجاء عنها بعدا لها وسحقا. {إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} (1).
فصل / [141]
{يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} (2)! قريب ينادي:
تذكرت يوم الشعب من آل هاشم * وما يومنا من آل حرب بواحد
لئن رقد النصار عما أصابنا * فما الله عما نيل منا براقد
ومتقرب يشد نعم الشادي: / [142]
مررت على أبيات آل محمد * فلم أرها كعهدنا يوم حلت
وكانوا رجاء ثم أضحوا رزية * لقد عظمت تلك الرزايا وجلت (3)
وأنا قد ران على قلبي ما أكسب، فلا أنمي بقربة ولا
أنتسب: / " جللا كما بي فليك التبريح " (4) وبما شجاني ينبغي [143]
التصريح.

(1) قرآن (الأحزاب) 33: 33.
(2) قرآن (الزمر) 39: 56.
(3) يروي البيتان لسليمان بن قته العدوي (الحماسة شرح المرزوقي 1: 399).
وذكرهما أبو مخنف دون نسبة (مقتل أبي مخنف 106).
(4) ضمن ابن الأبار هذا الشطر من صدر بيت للمتنبي الذي عجزه:
* أغذاء ذا الرشاد الأغن الشيح *
(ديوان شرح العكبري 1: 243).
125

أشهدك اللهم في رزء الشهيد، [و] إني أهب التهويم للتسهيد
ثم لا أبرح ذا غليل برح، وأليل يجل عن شرح. مضطرب البال،
مضطرم البلبال. لا أعقب علاقة الأشجان سلوانا، ولا أرتقب
[144] لراحة / الجنان وديم الأجفان أوانا:
بين يوم ألاقيه عريض المناكب * " وليل أقاسيه بطئ الكواكب " (1)
وهذا التأمين عما في الضمير يبين. ورب لسان أشفى من
سنان. ومقول أمضى من مفصل. إلى علمك المحيط أكل
صفاءه، وعلى فضلك البسيط أقف رجاءه. فأكرمه اللهم بقبولك،
[145] ولا تحرمه شفاعة رسولك. / واجعله لي بين يديك حجة لا
تدحض، وحسنة لديك تمحو سيئاتي وترحض (2). حتى أنعم في
دار القرار، بمجاورة الأبرار، ولا أندم يوم السؤال على الإعلان
والإسرار. إنك ذو الصفح الجميل، والمنح الجزيل. ويا من
[146] أدخر ندبته للمئاب، وأفتخر بالوجد فيه والاكتئاب: /
سلام وريحان وروح ورحمة * عليك وممدود من الظل سجسج
ويا أسفا ألا ترد تحية * سوى أرج من طيب رمسك يأرج (3).

(1) عجز بيت النابغة: * كليني لهم يا أمية ناصب *
(ديوان النابغة).
(2) ترحض: تغسل.
(3) ديوان ابن الرومي 2: 48.
126