الكتاب: المواقف
المؤلف: الإيجي
الجزء: ٢
الوفاة: ٧٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: عبد الرحمن عميرة
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٧ - ١٩٩٧م
المطبعة: لبنان - بيروت - دار الجيل
الناشر: دار الجيل
ردمك:
ملاحظات:

النوع الثالث المسموعات
وهي الأصوات والحروف ومباحثه قسمان
القسم الأول في الصوت وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
قد اشتبهت عند بعضهم ماهيته بسببه فقيل هو التموج وقيل هو القرع أو القلع والحق أن ماهيته بديهية وسببه القريب تموج الهواء وليس تموجه حركة بل هو صدم بعد صدم وسكون بعد سكون وسبب التموج المذكور قلع عنيف أو قرع عنيف إذ بهما ينفلت الهواء من المسافة التي يسلكها الجسم إلى الجنبتين وينقاد له ما يجاوره إلى أن تنتهي كالحجر المرمي في الماء
5

الشرح
النوع الثالث من المحسوسات المسموعات وهي الأصوات والحروف التي هي كيفيات عارضة للأصوات ومباحثه أي مباحث النوع الثالث قسمان
القسم الأول في الصوت قدمه على الحروف لكونه معروضا له متقدما عليه بالطبع وفيه مقاصد
الأول أن الصوت وإن كان بديهي التصور كسائر المحسوسات إلا أنه قد اشتبهت عند بعضهم ماهيته بسببه القريب أو البعيد فقيل الصوت هو التموج أي تموج الهواء وهو سببه القريب وقيل الصوت هو القرع أو القلع مع أن هذين سببان له بعيدان
والحق كما أشرنا إليه أن ماهيته بديهية مستغنية عن التعريف ومغايرة لما توهموه فإن التموج محسوس باللمس ألا يرى أن الصوت الشديد ربما ضرب الصماخ بتموجه فأفسده وأنه قد يعرض من الرعد أن يدك الجبال وكثيرا ما يستعان على هدم الحصون العالية بأصوات الأبواق والصوت ليس ملموسا في نفسه وأيضا التموج حركة والصوت ليس كذلك والقرع مماسة والقلع تفريق والصوت ليس شيئا منهما وأيضا كل منهما مبصر بتوسط اللون ولا شيء من الأصوات بمبصر أصلا وسببه أي سبب الصوت القريب تموج الهواء وليس تموجه هذا حركة انتقالية من هواء واحد بعينه بل هو صدم بعد صدم وسكون بعد سكون فهو حالة شبيهة بتموج الماء في الحوض إذا ألقي حجر في وسطه وإنما جعل التموج سببا قريبا له لأنه متى حصل التموج المذكور حصل الصوت وإذا انتفى
6

انتفى فإنا نجد الصوت مستمرا باستمرار تموج الهواء الخارج من الحلق والآلات الصناعية ومنقطعا بانقطاعه وكذا الحال في طنين الطست فإنه إذا سكن انقطع لانقطاع تموج الهواء حينئذ
قال الإمام الرازي وأنت خبير بأن الدوران لا يفيد إلا الظن والمسألة مما يطلب فيه اليقين على أن الدوران ههنا ليس بتمام إما وجودا فلأنه قد يوجد تموج الهواء باليد ولا صوت هناك وإما عدما فلأن ما ذكرتم إنما يدل على عدم الصوت في بعض صور ما عدم فيه التموج لا في جميعها فلا يفيد ظنا أيضا وقد يقال إن استقراء بعض الجزئيات مع الحدس القوي من الأذهان الثاقبة يفيد الجزم بكون الصوت معلولا لتموج الهواء على وجه مخصوص وكذا الحال في كثير من المسائل العلمية يستعان فيها بالحدس الفتوي الصائب فلا تقوم حجة على الغير مع كونها معلومة يقينا وسبب التموج المذكور قلع عنيف أي تفريق شديد أو قرع عنيف أي إمساك شديد وإنما كانا سببين للتموج إذ بهما ينفلت الهواء من المسافة التي يسلكها الجسم القارع أو المقروع إلى الجنبتين بعنف وينقاد له أي لذلك الهواء المنفلت ما يجاوره من الهواء فيقع هناك التموج المذكور وهكذا تتصادم الأهوية وتتموج إلى أن تنتهي إلى هواء لا ينقاد للتموج فينقطع هناك الصوت ولا يتعداه كالحجر المرمي في وسط الماء فظهر أن كل واحد من القرع والقلع لتموج الهواء وإن كان التموج القرعي أشد انبساطا من التموج القلعي وذكر بعضهم أن الهواء التموج بهما على هيئة مخروط قاعدته على سطح الأرض إذا كان المصوت ملاصقا به ورأسه في السماء وإذا فرض المصوت في موضع عال حصل هناك مخروطان تتطابق قاعدتاهما ومن هذا التصوير يعلم اختلاف مواضع وصول الصوت بحسب الجوانب وإنما اعتبر العنف في القرع والقلع لأنك لو قرعت جسما
7

كالصوف مثلا قرعا لينا أو قلعته كذلك لم يوجد هناك صوت قيل وإنما لم يجعلوهما سببين للصوت ابتداء حتى يكون التموج والوصول إلى السامعة سببا للإحساس به لا لوجوده في نفسه بناء على أن القرع وصول والقلع لا وصول وهما آنيان فلا يجوز كونهما سببين للصوت لأنه زماني ورد ذلك بأن التموج إن كان آنيا فقد جعلوه سببا للصوت الزماني وإن كان زمانيا فقد جعلوا القرع والقلع الآنيين سببا له فجعل الآني سببا للزماني لازم على كل تقدير ولا محذور فيه إذا لم يكن السبب علة تامة أو جزءا أخيرا منها إذ لا يلزم حينئذ أن يكون الزمان موجودا في الآن
المقصد الثاني
المتن
الصوت كيفية قائمة بالهواء يحملها إلى الصماخ لا لتعلق حاسة السمع به كالمرئي لوجوه
الأول أن من وضع فمه في طرف أنبوبة وطرفها الآخر في صماخ إنسان وتكلم فيه سمعه دون غيره وما هو إلا لحصرها الهواء الحامل للصوت ومنعها إياه من الانتشار والوصول إلى صماخ الغير
الثاني أنه يميل مع الريح كما هو المجرب في صوت المؤذن على المنارة
الثالث أنه يتأخر عن سببه تأخرا زمانيا فإنا نشاهد ضرب الفأس من
8

بعيد ونسمع صوته بعد ذلك بزمان يتفاوت ذلك الزمان بالقرب والبعد وما هو إلا لسلوك الهواء الحامل له في تلك المسافة احتج بأنا نسمع الصوت من وراء جدار ونفوذ الهواء فيه باقيا على شكله مما لا يعقل
قلنا شرطه بقاؤه على كيفيته ولا يبعد أن ينفذ في المنافذ متكيفا بها وإطلاق الشكل على الكيفية تجوز
الشرح
المقصد الثاني الصوت كيفية قائمة بالهواء يحملها الهواء إلى الصماخ فيسمع الصوت لوصوله إلى السامعة لا لتعلق حاسة السمع به أي بالصوت مع كونه بعيدا عن الحاسة كالمرئي فإنه يرى مع بعده عن الباصرة لأجل تعلق بينهما كما ستعرفه والمقصود أن الإحساس بالصوت يتوقف على أن يصل الهواء الحامل له إلى الصماخ لا بمعنى أن هواء واحدا بعينه يتموج ويتكيف بالصوت ويوصله إلى القوة السامعة بل بمعنى أن ما يجاور ذلك الهواء المتكيف بالصوت يتموج ويتكيف بالصوت أيضا وهكذا إلى أن يتموج ويتكيف به الهواء الراكد في الصماخ فتدكه السامعة حينئذ وإنما قلنا إن الإحساس بالصوت يتوقف على وصول الهواء الحامل له إلى حاسة السامع لوجوه
الأول أن من وضع فمه في طرف أنبوبة طويلة ووضع طرفها الآخر في صماخ إنسان وتكلم فيه بصوت عال سمعه ذلك الإنسان دون غيره من الحاضرين وإن كانوا أقرب إلى المتكلم من ذلك الإنسان وما هو إلا لحصرها أي ليس ما ذكر من سماعه للصوت دون غيره إلا لحصر الأنبوبة الهواء الحامل للصوت ومنعها إياه من الانتشار والوصول إلى صماخ الغير فلا يصل إلا إلى صماخ ذلك الإنسان فلا يسمعه إلا هو
9

الثاني أنه أعني الصوت يميل مع الريح كما هو المجرب في صوت المؤذن على المنارة فمن كان منه في جهة تهب الريح إليها يسمع صوته وإن كان بعيدا ومن كان في غير تلك الجهة لا يسمعه وإن تساويا في مسافة البعد وما ذلك إلا لأن الريح تميل الهواء الحامل له وتحركه إلى الجانب الذي هبت إليه فدل على أن سماع الصوت يتوقف على وصول حامله إلى قوة السمع
الثالث أنه أي سماع الصوت يتأخر عن سببه أعني سبب الصوت تأخرا زمانيا فإنا نشاهد ضرب الفأس على الخشب من بعيد ونسمع صوته الذي يوجد معه بلا تخلف بعد ذلك بزمان يتفاوت ذلك الزمان بالقرب والبعد وما هو إلا لسلوك الهواء الحامل له في تلك المسافة حتى يصل إلى صماخنا
واعترض عليه الإمام الرازي بأن الوجوه الثلاثة راجعة إلى الدوران إذ محصولها أنه متى وجد وصول الهواء الحامل وجد السماع ومتى لم يوجد لم يوجد فلا يفيد إلا ظنا وقد سبق أن مثلها يحتاج إلى حدس ليفيد جزما
احتج هو على صيغة المبنى للمفعول أي احتج المخالف على أن الإحساس بالصوت لا يتوقف على وصول حامله إلى الحاسة بأنا نسمع الصوت من وراء جدار غليظ جدا وإن فرض كونه محيطا بجميع الجوانب أيضا ولا يمكن أن يكون ذلك السماع بسبب وصول الهواء الحامل له إلى السامع فإن الهواء ما لم يتشكل بشمل محسوس لم يتكيف بالكيفية
10

المخصوصة ونفوذ الهواء الحامل للصوت فيه أي في الجدار المذكور ومنافذه الضيقة في الغاية باقيا على شكله الذي
بسببه يتكيف بالكيفية المخصوصة موصلا لها إلى الحاسة مما لا يعقل فلو كان السماع موقوفا على الوصول لم يتصور ههنا سماع أصلا قلنا شرطه بقاؤه على كيفيته أي شرط السماع بقاء الهواء على كيفيته التي هي الصوت المتفرع على التموج ولا يبعد أن ينفذ الهواء في المنافذ الضيقة متكيفا بها أي بالكيفية التي هي للصوت المخصوص وإطلاق الشكل على الكيفية تجوز فمن قال إن الهواء الحامل للصوت متشكل بشكل مخصوص أراد به تكيفه بكيفيته المعينة على سبيل التجوز ولم يرد به أنه متشكل بالشكل الحقيقي حتى لا يتصور نفوذه في تلك المنافذ مستبقيا لشكله على حاله وربما يحتج على عدم توقف الإحساس على الوصول بأن الحروف الصامتة لا وجود لها إلا في آن حدوثها فلا بد أن يكون سماعنا إياه قبل وصول الهواء الحامل لها إلينا وفساده ظاهر مما صورناه في كيفية الوصول وقد يحتج عليه أيضا بأن حامل حروف الكلمة الواحدة إما هواء واحد أو متعدد فعلى الأول يجب أن لا يسمعها إلا سامع واحد وعلى الثاني يجب أن يسمعها السامع الواحد مرارا كثيرة ويجاب بأن الحامل لها هواء متعدد لكن الواصل إلى السامع الواحد جاز أن يكون واحدا ولو فرض تعدد الواصل إليه جاز أن يكون السماع مشروطا بالوصول أول مرة فيكون شرط السماع فيما بعدها منتفيا
المقصد الثالث
المتن
الصوت موجود في الخارج لا أنه إنما يحصل في الصماخ وإلا لم ندرك جهته كما أن اليد لما كانت تلمس الشيء حيث تلقاه لا في المسافة
11

لم يتميز جهته ولذلك نميز بين القريب والبعيد لا يقال إنما دركها للتوجه منها ولأن أثر القريب أقوى لأنا نجيب
عن الأول أن من سد إحدى أذنيه وسمع بالأخرى عرف الجهة
وعن الثاني أنه يميز بين القوي البعيد والضعيف القريب
الشرح
المقصد الثالث الصوت موجود في الخارج أي في خارج الصماخ لا أنه إنما يحصل في الصماخ على ما توهم بعضهم من أن التموج الناشئ من القرع أو القلع إذا وصل إلى الهواء المجاور للصماخ حدث في هذا الهواء بسبب تموجه الصوت ولا وجود له في الهواء المتموج الخارج عن الصماخ وإلا أي وإن لم يكن الصوت موجودا في الخارج بل في داخل الصماخ فقط لم ندرك جهته أصلا لأنه لما لم يوجد إلا في داخله لم ندركه إلا في تلك الحالة التي لا أثر للجهة معها فوجب أن لا ندرك أن الصوت من أي جهة وصل إلينا كما أن اليد لما كانت تلمس الشيء حيث تلقاه ويصل ذلك الشيء إليها لا في مسافة لم يتميز عندنا بلمس اليد جهته أي جهة ذلك الشيء الملموس ولم ندر أنه من أي جهة أتانا لكنا ندرك في بعض الأوقات جهات الأصوات فوجب أن يكون الصوت موجودا قبل الوصول إلى السامعة وأن يكون مدركا هناك أيضا لنميز جهته وليس يلزم أن يكون حينئذ بعيدا عنا لينافي ما تقدم من أن الإحساس بالصوت مشروط بوصول الهواء الحامل له إلينا بل يجوز أن يكون قريبا منا جدا فيكون واصلا إلينا إذ لم نرد بالوصول حقيقته بل ما يتناولها وما في حكمها من القرب ولذلك أي ولأن الصوت موجود في خارج الصماخ تميز بين الصوت القريب و الصوت البعيد إذ لولا أن الأصوات موجودة في خارج الأصمخة ومدركة حيث هي من الأمكنة لما أمكننا أن نميز بينها بحسب القرب والبعد وهذا الدليل الثاني لابتنائه على إدراك الصوت في مكانه القريب أو البعيد من السامع ينافي بظاهره اشتراط الإحساس بالوصول
12

لكن قال صاحب المعتبر أنا قد علمنا أن هذا الإدراك إنما يحصل أولا بقرع الهواء المتموج لتجويف الصماخ ولذلك يصل من الأبعد في زمان أطول لكن بمجرد إدراكنا الصوت القائم بالهواء القارع للصماخ لا يحصل لنا الشعور بالجهة والقرب والبعد بل ذلك إنما يحصل بتتبع الأثر الوارد من حيث ورد وتتبع ما بقي منه في الهواء الذي هو في المسافة التي فيها ورد قال والحاصل أن عند غفلتنا يرد علينا هواء قارع فندرك الصوت الذي فيه عند الصماخ وهذا القدر لا يفيد إدراك الجهة ثم إنا بعد ذلك نتتبعه بتأملنا فيتأوى إدراكنا من الذي وصل إلينا إلى ما قبله فما قبله من جهته ومبدأ وروده فإن كان بقي منه شيء متأد أدركناه إلى حيث ينقطع ويفنى وحينئذ ندرك الوارد ومورده وما بقي منه موجودا وجهته وبعد مورده وقربه وما بقي من قوة أمواجه وضعفها وإن لم يبق في المسافة أثر ينبهنا على المبدأ لم نعلم من قدر البعد إلا بقدر ما بقي ولذلك لا نفرق في البعد بين الرعد الواصل إلينا من أعالي الجو وبين دوي الرحى التي هي أقرب إلينا ونفرق فيه بين كلامي رجلين لا نراهما وبعد أحدهما منا ذراع وبعد الآخر ذراعان فإنا إذا سمعنا كلامهما عرفنا قرب أحدها وبعد الآخر
قال الإمام الرازي هذا منتهى ما قيل في هذا المقام وقد بقي فيه بحث وهو أنه هب أن السامع يتتبع من الذي وصل إليه إلى ما قبله فما قبله ولكن مدرك السمع هو الصوت نفسه دون الجهة فإنها غير مدركة بالسمع أصلا وإذا لم تكن الجهة مدركة له لم يكن كون الصوت حاصلا في تلك الجهة مدركا له فبقي أن يكون مدركه الصوت الذي في تلك الجهة لا من حيث أنه في تلك الجهة بل من حيث أنه صوت فقط وهذا القدر المدرك بالسمع لا يختلف باختلاف الجهات فلا يكون موجبا
13

لإدراك الجهة أصلا وضعفه ظاهر فإن الصوت إذا أدرك في جهة علم أنه في تلك الجهة وإن لم تكن الجهة ولا كون الصوت حاصلا فيها مما يدرك بالسمع ألا ترى أن الرائحة إذا أدركت من جسم علم أنها فيه وإن لم يكن الجسم ولا كون الرائحة فيه حاصلة مما يدرك بالشم لا يقال إنما ندركها للتوجه منها أي إنما ندرك جهة الصوت لأن الهواء القارع للصماخ توجه من تلك الجهة لا لأن الصوت موجود فيها كما ذكرتم في الدليل الأول و نميز بين القريب والبعيد لأن أثر القريب أقوى من أثر البعيد فإن القرع مثلا إذا كان قريبا كان الأثر الحادث عنه أقوى من الأثر الحادث من البعيد فلذلك امتاز القريب من البعيد لا لأن الصوت موجود في خارج الصماخ مسموع حيث هو من مكان قريب أو بعيد كما ذكرتموه في الدليل الثاني لأنا نجيب عن الأول أن من سد أي بأن من سد إحدى أذنيه التي تكون في جانب المصوت وسمع الصوت بالأخرى عرف الجهة وعلم أن الصوت إنما وصل إليه من جانب الأذن المسدودة ولا شك أن التموج لا يصل إلى غير المسدودة إلا بالانعطاف فيكون الهواء القارع واصلا إلى السامع من خلاف جهة الصوت فلا يكون إدراك جهته بسبب توجه الهواء القارع منها و نجيب عن الثاني أنه أي بأن السامع يميز بين القوي البعيد والضعيف القريب فبطل ما توهم من أن القريب هو الأقوى ولو صح ذلك لوجب أن يشتبه علينا الحال في القوة والضعف والقرب والبعد حتى إذا سمعنا صوتين متساويين في البعد مختلفين في القوة وجب أن نتردد ونجوز أن يكون أحدهما قريبا والآخر بعيدا أو يكون التفاوت بينهما في القوة لذلك لا لتفاوتهما في أنفسهما قوة وضعفا وليس الأمر كذلك
14

المقصد الرابع
المتن
الهواء إذا صادم أملس كجبل أو جدار ورجع بهيئته كالكرة المرمية إلى الحائط رجع الهواء القهقري فيحدث صوت شبيه بالأول وهو الصدى
فرعان الأول الظاهر أن الصدى تموج هواء جديد لا رجوع الهواء الأول
الثاني قد ظن بعض أن لكل صوت صدى لكن قد لا يحس إما لقرب المسافة بين الصوت وعاكسه فلا نميز بينهما وإما لأن العاكس لا يكون صلبا أملس فيكون كالكرة ترمى إلى شيء لين فيكون رجوعه ضعيفا ولذلك كان صوت المغني في الصحراء أضعف منه في المسقفات
المقصد الرابع الهواء المتموج الحامل للصوت إذا صادم جسما أملس كجبل أو جدار اعتبر الملاسة فيهما والمشهور في الكتب اعتبارها في الجدار دون الجبل ورجع ذلك الهواء المصادم بهيئته لأن ذلك الجسم يقاومه ويصرفه إلى خلف ويكون شكله في التموج باقيا على هيئته كالكرة المرمية إلى الحائط المقاوم لها فتنبو الكرة عنه إلى خلف رجع جواب إذا أي رجع ذلك الهواء القهقري فيحدث في الهواء المصادم الراجع صوت شبيه بالأول وهو الصدى المسموع بعد الصوت الأول على تفاوت بحسب قرب المقاومة وبعده
فرعان على القول بوجود الصدى
الأول الظاهر أن الصدى أي سبب الصدى تموج هواء جديد لا
15

رجوع الهواء الأول وذلك لأن الهواء إذا تموج على الوجه الذي عرفته فيما مر حتى صادم المتموج منه جسما يقاومه
ويرده إلى خلف لم يبق في الهواء المصادم ذلك التموج الذي كان حاصلا له بل يحصل فيه بسبب مصادمته ورجوعه تموج شبيه بالتموج الأول فهذا التموج الجديد الحاصل بالمصادمة والرجوع هو السبب للصدى الشبيه بالصوت الأول وكما أن التموج الأول كان بصدم بعد صدم وسكون بعد سكون كذلك الحال في التموج الثاني الذي كان ابتداؤه عند انتهاء الأول وقد يظن أن الهواء المصادم يرجع متصفا بتموجه الأول بعينه فيحمل ذلك الصوت الأول إلى السامع ألا ترى أن الصدى يكون على صفته وهيئته وهذا وإن كان محتملا إلا أن الأول هو الظاهر
الفرع الثاني قد ظن بعض أن لكل صوت صدى قال الإمام الرازي الأشبه ذلك لأنه إذا تموج هواء عن مكان لا بد أن يتموج إلى ذلك المكان هواء آخر لامتناع الخلاء فيكون تموج الهواء الآخر سببا للصدى وأنت خبير بأن هذا إنما يتم إذا كان الصدى حادثا من انتقال الهواء الآخر إلى مكان الهواء المتموج الحاصل للصوت لا من رجوع الهواء
16

الحامل له بسبب مصادمته لما يقاومه على أحد الوجهين كما مر آنفا لكن قد لا يحس به أي الصدى إما لقرب المسافة بين الصوت وعاكسه فلا يسمع الصوت والصدى في زمانين متباينين بحيث يقوى الحس على إدراك تباينهما فلا نميز بينهما أي بين الصوت وصداه لعجز الحس عن التمييز بين الأمثال فيحس بهما على أنهما صوت واحد كما في الحمامات والقباب الملس الصقيلة جدا وإما لأن العاكس لا يكون صلبا أملس فيكون الهواء الراجع بسبب مقاومة العاكس المذكور كالكرة التي ترمي إلى شيء لين فلا يكون نبوها عنه إلا مع ضعف فيكون رجوعه أي رجوع الهواء عن ذلك العاكس ضعيفا فلا يحدث هناك إلا صدى ضعيف خفي يتعذر الإحساس به هذا إذا اشترط في الصدى وجود المقاوم العاكس وأما إذا لم يشترط ذلك كما لزم من كلام الإمام فيقال كما ذكره قد لا يسمع الصدى إما لقرب الزمانين كما مر وإما لانتشاره كما في الصحراء ولذلك أي ولما ذكرناه من حال الصدى كان صوت المغني في الصحراء أضعف منه في المسقفات إذ ليس السبب في هذا إلا أن الصدى يقترن بالصوت في المسقف فيتقوى ويتضاعف صوته حينئذ بالصدى المحسوس معه في زمان واحد بخلاف الصحراء إذ ينتشر هناك الصدى أو لا يوجد فيها على القول باشتراط العاكس
17

القسم الثاني في الحرف وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
عرفه ابن سينا بأنه كيفية تعرض للصوت بها يمتاز عن مثله في الحدة والثقل تميزا في المسموع وقوله تعرض للصوت أراد ما يتناول عروضها له في طرفه عروض الآن للزمان ليتناول الحروف الآنية ومثله في الحدة والثقل ليخرج الحدة والثقل وتميزا في المسموع ليخرج الغنة والبحوحة ونحوهما إذ قد تختلف والمسموع واحد وقد تتحد والمسموع مختلف وبالجملة فماهية الحرف أوضح من ذلك
القسم الثاني في الحرف وفيه مقاصد أربعة
المقصد الأول عرفه أي الحرف ابن سينا بأنه كيفية أي هيئة وصفه تعرض للصوت بها أي بتلك الكيفية يمتاز الصوت عن صوت آخر مثله في الحدة والثقل تميزا في المسموع هذا تعريفه و أما
18

الكشف عن مفهومه فهو أن نقول قوله تعرض للصوت أراد به ما يتناول عروضها له في طرفه الآن للزمان ليتناول الحروف الآنية وهذا إشارة إلى ما ذكره الإمام الرازي من أن التعريف المذكور لا يتناول الحروف الصوامت كالتاء والطاء والدال فإنها لا توجد إلا في الآن الذي هو بداية زمان الصوت أو نهايته فلا تكون عارضة له حقيقة لأن العارض يجب أن يكون موجودا مع المعروض وهذه الحروف الآنية لا توجد مع الصوت الذي هو زماني
قال ويمكن أن يجاب عنه بأنها عارضة للصوت عروض الآن للزمان والنقطة للخط يعني أن عروض الشيء للشيء قد يكون بحيث يجتمعان في الزمان وقد لا يكون وحينئذ يجوز أن يكون كل واحد من الحروف الآنية طرفا للصوت عارضا له عروض الآن للزمان فيندفع الإشكال وقوله مثله في الحدة والثقل ليخرج عن التعريف الحدة أي الزيرية والثقل أي اليمبة فإنهما وإن كانتا صفتين مسموعتين عارضتين للصوت فيمتاز بهما ذلك الصوت عما يخالفه في تلك الصفة العارضة إلا أنه لا يمتاز بالحدة صوت عن صوت آخر يماثله في الحدة ولا بالثقل صوت عما يشاركه فيه و قوله تميزا في المسموع ليخرج الغنة التي تظهر من تسريب الهواء بعضا إلى جانب الأنف وبعضا إلى الفم مع انطباق الشفتين والبحوحة التي هي غلظ الصوت الخارج من الحلق فإن الغنة والبحوحة سواء كانتا ملذتين أو غير ملذتين صفتان عارضتان للصوت يمتاز بهما عما يشاركه في الحدة والثقل لكنهما ليستا مسموعتين فلا يكون التميز الحاصل منهما تميزا في المسموع من حيث هو مسموع ونحوهما كطول الصوت وقصره وكونه طيبا وغير طيب فإن هذه الأمور ليست مسموعة أيضا أما الطول والقصر فلأنهما من الكميات المحضة أو المأخوذة مع إضافة ولا شيء منهما بمسموع وإن كان يتضمن ههنا المسموع فإن الطول إنما يحصل
19

من اعتبار مجموع صوتين صوت حاصل في ذلك الوقت وهو مسموع وصوت حاصل قبل ذلك الوقت وليس بمسموع وإما كون الصوت طيبا أي ملائما للطبع أو غير طيب فأمر يدرك بالوجدان دون السمع فهما مطبوعان لا مسموعان إذ قد تختلف هذه الأمور أعني الغنة والبحوحة ونحوهما والمسموع واحد وقد تتحد والمسموع مختلف وذلك لأن هذه الأمور وإن كانت عارضة للصوت المسموع إلا أنها في أنفسها ليست مسموعة فلا يكون اختلافها مقتضيا لاختلاف المسموع ولا اتحادها مقتضيا لاتحاده بخلاف العوارض المسموعة فإن اختلافها يقتضي اختلاف المسموع الذي هو مجموع الصوت وعارضه واتحادها يقتضي اتحاد المسموع لا مطلقا بل باعتبار ذلك العارض المسموع فتأمل واعلم أن الحكم بأن الغنة والبحوحة والجهارة والخفاية ليست مسموعة منظور فيه وأن الحرف قد يطلق على الهيئة المذكورة العارضة للصوت وعلى مجموع المعروض والعارض وهذا أنسب بمباحث العربية قال المصنف وبالجملة فماهية الحرف أوضح من ذلك الذي ذكر في تعريفها لما مر من أن الإحساس بالجزئيات أقوى في إفادة المعرفة بماهيات المحسوسات من تعريفاتها بالأقوال الشارحة إذ لا يمكن لنا أن نعرفها إلا بإضافات واعتبارات لازمة لها لا يفيد شيء منها معرفة حقائقها وكأن المقصود مما ذكر في تعريفاتها التنبيه على خواصها وصفاتها
المقصد الثاني
الحروف تنقسم من وجوه
الأول إما مصوتة وهي التي تسمى في العربية حروف المد واللين وأما صامته وهي ما سواها
20

الثاني إما زمانية صرفة كالفاء والقاف وإما آنية صرفة كالتاء والطاء وإما آنية تشبه الزمانية وهي أن تتوارد أفراد آنية مرارا فيظن أنها فرد واحد زماني كالراء والحاء والخاء
الثالث أنها إما متماثلة كالباءين الساكنين أو متخالفة بالذات كالباء والميم أو بالعرض كالباء الساكنة والمتحركة
المقصد الثاني الحروف تنقسم من وجوه
الأول إن الحروف إما مصوتة وهي التي تسمى في العربية حروف المد واللين وهي الألف والواو والياء إذا كانت ساكنة متولدة من إشباع ما قبلها من الحركات المجانسة لها فإن الضم مجانس للواو والفتح للألف والكسر للياء وإما صامته وهي ما سواها أي ما سوى الحروف المذكورة والصامتة قد تكون متحركة وقد تكون ساكنة بخلاف المصوتة فإنها لا تكون إلا ساكنة مع كون حركة ما قبلها من جنسها كما عرفت فالألف لا يكون إلا مصوتا لامتناع كونه متحركا مع وجوب كون الحركة السابقة عليه فتحة وإطلاق اسم الألف على الهمزة بالاشتراك اللفظي وأما الواو والياء فكل واحد منهما قد يكون مصوتا كما عرفت وقد يكون صامتا بأن يكون متحركا أو ساكنا ليس حركة ما قبله من جنسه
الوجه الثاني إن الحروف إما زمانية صرفة كالحروف المصوتة كالفاء والقاف والسين والشين فإن المصوتة زمانية عارضة للصوت باقية معه زمانا وكذلك الصوامت المذكورة ونظائرهما مما يمكن تمديدها بلا توهم تكرار فإن الغالب على الظن أنها زمانية أيضا وإما آنية صرفة كالتاء والطاء والدال وغيرها من الصوامت التي لا يمكن تمديدها أصلا فإنها لا توجد إلا في آخر زمان حبس النفس كما في لفظ بنت وقرط وولد أو في أوله كما تراب وطرب ودول أو في آن يتوسطها كما إذا وقعت هذه الصوامت في
21

أوساط الكلمات فهي بالنسبة إلى الصوت كالنقطة والآن بالنسبة إلى الخط والزمان كما نبهت عليه وتسميتها بالحروف أولى من تسمية غيرها لأنها أطراف الصوت والحروف هو الطرف وإما آنية تشبه الزمانية وهي أن تتوارد أفراد آنية مرارا فيظن أنها فرد واحد زماني كالراء والخاء فإن الغالب على الظن أن الراء التي في آخر الدار مثلا راآت متوالية كل واحد منها آني الوجود إلا أن الحس لا يشعر بامتياز أزمنتها فيظنها حرفا واحدا زمانيا وكذا الحال في
الحاء والخاء
الثالث أنها أي الحروف إما متماثلة لا اختلاف بينها بذواتها ولا بعوارضها المسماة بالحركة والسكون كاليائين الساكنين أو المتحركين بنوع واحد من الحركة أو متخالفة إما بالذات والحقيقة كالباء والميم فإنهما حقيقتان مختلفتان سواء كانتا ساكنتين أو متحركتين بحركتين متماثلتين أو مختلفتين أو بالعرض كالباء الساكنة والمتحركة فإنهما متفقتان في الحقيقة ومختلفتان بسبب العارض الذي هو الحركة والسكون
المقصد الثالث
المتن
هل يمكن الابتداء بالساكنة قد منعه قوم للتجربة وجوزه آخرون لأن ذلك ربما يختص بلغة كالعربية ويجوز في أخرى فإنا نرى في المخارج اختلافا كثيرا
الشرح
المقصد الثالث في أنه هل يمكن الابتداء بالساكن الحرف إما متحرك أو ساكن ولا نعني بذلك حلول الحركة والسكون في الحرف لأنهما بالمعنى المشهور من خواص الأجسام بل نعني بكونه متحركا أن يكون
22

الحرف الصامت بحيث يمكن أن يوجد عقيبه مصوت مخصوص من المصوتات الثلاث وبكونه ساكنا أن يكون بحيث لا يمكن أن يوجد عقيبه شيء من تلك المصوتات إذا عرفت هذا فنقول لا خلاف في أن الساكن إذا كان حرفا مصوتا لم يمكن الابتداء به إنما الخلاف في الابتداء بالساكن الصامت قد منعه أي إمكان الابتداء به قوم للتجربة أي زعموا أن التجربة دلت على امتناع الابتداء به فإن كل من جرب ذلك من نفسه علم أنه لا يمكنه أن يبتدئ في تلفظه بالساكن الصامت كما لا يمكنه الابتداء فيه بالمصوت فلا فرق في ذلك بينهما لاشتراك السكون الذي هو المانع بينهما وجوزه آخرون لأن ذلك أي عدم جواز الابتداء بالساكن ربما يختص بلغة كالعربية فإنه ليس في لغة العرب الابتداء بالساكن ولا يجوز فيها ذلك لا لأنه ممتنع في نفسه بل لأن لغتهم موضوعة على غاية من الإحكام والرصانة وفي الابتداء بالساكن نوع لكنة وبشاعة ولذلك أيضا لم يجوزوا الوقف على المتحرك مع إمكانه بلا شبهة ويجوز أي الابتداء بالساكن في لغة أخرى كما في اللغة الخوارزمية مثلا فإنا نرى في الخارج اختلافا كثيرا ألا ترى أن بعض الناس يقدر على التلفظ بجميع الحروف المتخالفة المعتبرة في اللغات بأسرها ومنهم من لا يقدر إلا على بعضها متفاوتا بحسب القلة والكثرة وما ذكر من التجربة فهو حكاية عن ألسنتهم المخصوصة فلا يقوم حجة على غيرهم وامتناع الابتداء بالحروف المصوتة
23

إنما نشأ من ذواتها فإنها مدات حاصلة من إشباع الحركات المتقدمة عليها فلا يتصور وقوعها في مبدأ الألفاظ لذلك لا لكونها ساكنة
المقصد الرابع
المتن
هل يمكن الجمع بين الساكنين أما صامت مدغم قبله مصوت فجائز اتفاقا وأما الصامتان فجوزه قوم كما في الوقف على الثلاثي الساكن الأوسط بل ساكنين قبلهما مصوت كما يقال في الفارسية كارد ومنهم من منعه وجعل ثمة حركة مختلسة
الشرح
المقصد الرابع في أنه هل يمكن الجمع بين الساكنين إما صامت مدغم في مثله قبل مصوت نحو ولا الضالين فجائز جمعهما اتفاقا وأما الصامتان أو صامت غير مدغم قبله مصوت فجوزه أي جمعهما قوم كما في الوقف على الثلاثي الساكن الأوسط كزيد وعمرو بل جوزوا أيضا جمع ساكنين صامتين قبلهما مصوت فيجتمع حينئذ ثلاث سواكن كما يقال في الفارسية كارد وكوشت ومنهم من منعه وجعل ثمة أي فيما ذكرنا من الصور حركة مختلسة خفية جدا فلا يحس بها على ما ينبغي فيظن أنه اجتمع هناك ساكنان أو أكثر وأما اجتماع ساكنين مصوتين أو صامت بعده مصوت فلا نزاع في امتناعه
قال الإمام الرازي الحركات أبعاض المصوتات أما أولا فلأن هذه المصوتات قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فله طرفان ولا طرف في النقصان للمصوتات إلا هذه الحركات بشهادة الاستقراء وأما ثانيا فلأن الحركات لو لم تكن أبعاض المصوتات لما حصلت المصوتات بتمديدها
24

فإن الركة إذا كانت مخالفة لها ومددتها لم يمكنك أن تذكر المصوت إلا باستئناف صامت آخر يجعل المصوت تبعا له لكن الحس شاهد بحصول المصوتات بمجرد تمديد الحركات ثم إن أوسع المصوتات باعتبار انفتاح الفم هو الألف ثم الياء ثم الواو وأثقلها الضمة المحتاجة إلى مزيد تحريك الشفتين ثم الكسرة ثم الفتحة فقد جعل الحركات داخلة في المصوتات فلذلك انقسم المصوتة إلى مقصورة هي الحركات وممدودة هي الحروف المخصوصة
قال والحرف الصامت سابق على الحركة لوجهين
الأول إن الصامت البسيط حقيقة وحس آني والحركة زمانية والآن متقدم على الزمان فما يوجد في الآن الذي هو أول زمان وجود الشيء كان سابقا على ما يحدث فيه وقد يقال جاز أن يكون حدوث الحرف الآني في الآن الذي هو آخر زمان الحركة ولا بد لنفيه من دليل
الثاني إن الحركة لو كانت سابقة على الحرف لكان المتكلم بالحركة مستغنيا عن التكلم بالحرف لأن السابق غني عن المسبوق المحتاج إليه والتالي باطل لأنا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا أنه لا يمكن التكلم بالحركة دون التكلم بالحرف
واعترض عليه بأنه ليس يلزم من إبطال تقدم الحركة على الحرف الصامت تقدمه عليها لجواز أن لا يسبق أحدهما الآخر بل يوجدان معا على أن نقول جاز أن يكون السابق مستعقبا للمسبوق بحيث يمتنع تخلفه عنه فلا يثبت حينئذ بطلان تقدم الحركة على الحرف وبهذا يعلم أيضا بطلان ما قيل من أن الابتداء بالصامت الساكن جائز وإلا توقف الصامت المتقدم على المصوت المتأخر المحتاج إلى ذلك المتقدم وهو محال
25

النوع الرابع المذوقات وهي الطعوم
وفيها مقصدان
المقصد الأول
أصولها تسعة حاصلة من ضرب ثلاثة في ثلاثة لأن الفاعل إما حار أو بارد أو معتدل والقابل إما لطيف أو كثيف أو معتدل فالحار يفعل كيفية غير ملائمة إذ من شأنه التفريق ففي الكثيف في الغاية وهي المرارة لشدة المقاومة وكون التفريق عظيما وفي اللطيف دونه وهي الحرافة إذ تفرق تفريقا صغيرا لكنه يكون غائصا وفي المعتدل ملوحة وهي بينهما ولذلك تميل إلى المرارة مدة وإلى الحرافة أخرى وتحقيقه أنه إذا أخذ لطيف الرماد المر وخلط بالماء وطبخ حصلت الملوحة والبارد يفعل كيفية غير ملائمة إذ من شأنه التكثيف ففي الكثيف عفوصة لأنه يتضاعف التكثيف وفي اللطيف حموضة لأنه يكثف ببرده ويغوص بلطافته فيكون عدم ملاءمته بين بين ولذلك فإن التمر العفص كلما ازداد مائية ازداد حموضة وفي المعتدل قبضا وهو دون العفوصة إذ العفص يقبض باطن اللسان وظاهره والقابض يقبض ظاهره فقط والمعتدل يفعل فعلا ملائما وهو في الكثيف الحلاوة لشدة المقاومة وفي اللطيف الدسومة لقلة المقاومة فيحس بكيفية ضعيفة ملائمة وفي المعتدل التفاهة لعدم التأثير لا بمادته ولا بكيفيته فلا يحصل به إحساس ويقال التفاهة لعدم الطعم وتسمى حقيقية ولكون الجسم بحيث لا يحس بطعمه لكثافة أجزائه فلا يتحلل منه ما يخالط الرطوبة العذبة التي هي آلة للإدراك بالقوة الذائقة كالصفر فإذا احتيل في تحليله أحس منه كما يزنجر وهذه تسمى تفاهة غير حقيقية
26

الشرح
النوع الرابع من الكيفيات المحسوسة المذوقات المدركة بالقوة الذائقة وإنما أخرها عن المبصرات والمسموعات لما مر من أن الكلام فيها مختصر ولولا ذلك لجعلها رديفة للملموسات بناء على أن أهم الإحساسات للحيوان المغتذي هو اللمس الذي يحترز به عما يضره ويفسد مزاجه ثم الذوق الذي يستعين به على ما يغتذيه ويحفظ به اعتداله فكان رديفا له وأيضا إدراك القوة الذائقة مشروط باللمس ومع ذلك يحتاج أيضا إلى ما يؤدي الطعم إليها وهو الرطوبة اللعابية وأيضا قد يتركب من اللمس والذوق إحساس واحد وذلك بأن يرد على النفس اثر اللامسة والذائقة فتدركهما معا كطعم واحد من غير تمييز في الحس كما في الحريف فإنه إذا ورد على سطح اللسان فرقه وسخنه وله أثر ذوقي أيضا فلا يتميز أحدهما عن الآخر وهي الطعوم وفيها أي وفي الطعوم مقصدان
الأول أصولها أي بسائطها تسعة حاصلة من ضرب ثلاثة في ثلاثة وذلك لأن الطعم لابد له من فاعل هو الحرارة أو البرودة أو الكيفية المتوسطة بينهما ومن قابل هو الكثيف أو اللطيف أو المعتدل بينهما وإلى هذا أشار بقوله لأن الفاعل إما حار أو بارد أو معتدل والقابل إما لطيف أو كثيف أو معتدل وإذا ضرب أقسام الفاعل في أقسام القابل حصل أقسام تسعة فتنقسم الطعوم بحسبها أيضا واعترض عليه بأن انحصار الفاعل في الحرارة والبرودة والكيفية المتوسطة بينهما ممنوع وأيضا المراتب المتوسطة بين غايتي الحرارة والبرودة وكذا بين غايتي اللطافة والكثافة غير محصورة
27

فجاز أن تكون كل واحدة من تلك المراتب فاعلة أو قابلة لطعم بسيط على حدة فلا ينحصر عدد الطعوم البسيطة في عدة محصورة فضلا عن التسعة والعشرة وأيضا الخيار والقرع والحنطة النية يحس من كل منها بطعم لا تركيب فيه وليس من التسعة المذكورة وأيضا الاختلاف بالشدة والضعف إن اقتضى الاختلاف النوعي فأنواع الطعوم غير منحصرة وإن لم يقتض كان القبض والعفوصة نوعا واحدا إذ لا اختلاف بينهما إلا بالشدة والضعف فإن القابض كما سيأتي يقبض ظاهر اللسان وحده والعفص يقبض ظاهره وباطنه معا وأيضا حدوث الطعوم التسعة على تلك الوجوه المخصوصة لم يقم عليه برهان ولا إمارة تفيد غلبة الظن ولهذا قيل مباحث الطعوم دعاوى خالية عن الدلائل إلا ن المصنف ذكر في كيفية الحدوث مناسبات ربما أوقعت لبعض النفوس ظنا بتلك الوجوه فقال فالحار أي الحرارة كما هو المشهور في الكتب أو الأمر الحار كما يتبادر من العبارة فإن الفاعل هو الصورة النوعية بحسب كيفياتها التي هي آلاتها في أفاعيلها يفعل كيفية غير ملائمة للأجسام التي ندركها إذ من شأنه التفريق لما عرفت من أن الحرارة تحدث تفريقا ولا شك أن التفريق حالة غير ملائمة للأجسام فلذلك كانت الكيفية الحادثة من تأثير الحرارة غير ملائمة على حسب التفريق الحاصل من تأثيرها كما أشار إليه بقوله ففي الكثيف أي فيفعل الحار في القابل الكثيف كيفية غير ملائمة في الغاية وهي المرارة فإنها أبغض الطعوم وأبعدها عن الملاءمة ولو فرض ملاءمتها لبعض الأجسام كان ذلك لبعده عن الاعتدال لشدة المقاومة وكون التفريق عظيما يعني أن القابل إذا كان كثيفا قاوم الحرارة مقاومة شديدة ومنعها عن النفوذ فيه فتجتمع حينئذ أجزاء الحرارة وتتفرق تفريقا عظيما لأن الحرارة المجتمعة أشد تأثيرا فيكون أثرها
28

أقوى فلا جرم تكون الكيفية الحادثة حينئذ في غاية البعد عن الملازمة في القابل اللطيف كيفية غير ملائمة أيضا إلا أنها تكون في عدم الملائمة و يفعل الحار دونه أي دون ما ذكر أو لا وهي أي تلك الكيفية الحادثة اللطيف الحرافة إذ تتفرق تفريقا صغيرا لكنه يكون غائصا يعني أن القابل إذا كان لطيفا لم يقاوم الفاعل الخارج ولم يمنعه من النفوذ فيه فيغوص في أجزائه فيضعف التأثير لعدم اجتماع الحرارة ويكون التفريق صغيرا فلا بد أن تكون الكيفية الحادثة فيه حينئذ غير ملائمة وأن تكون دون المرارة في عدم الملائمة و يفعل الحار في القابل المعتدل ملوحة وهي بينهما أي بين المرارة والحرافة في عدم الملاءمة لأن مقاومة المعتدل للحرارة أقل من مقاومة الكثيف وأكثر من مقاومة اللطيف فيكون التفريق فيها متوسطا بين العظم والصغر فلا محالة من أن تكون الكيفية الحادثة في المعتدل أضعف من المرارة في عدم الملاءمة وأقوى فيه من الحرافة ولذلك أي ولأن الملوحة كيفية متوسطة بين كيفيتي المرارة والحرافة تميل الملوحة إلى المرارة مرة وإلى الحرافة أخرى أي يكون طعم المالح تارة قريبا من المرارة بحيث يتوهم أنه مر وتارة قريبا من الحرافة بحيث يتخيل أنه حريف وتحقيقه أي تحقيق كون الملوحة متوسطة بينهما أنه إذا أخذ لطيف الرماد المر وخلط بالماء وطبخ حصلت الملوحة وهذا ما قيل من أن سبب حدوث الملوحة مخالطة رطوبة مائية قليلة الطعم أو عديمته بأجزاء أرضية محترقة يابسة المزاج مرة الطعم مخالطة باعتدال فإن الأجزاء الأرضية إذا كثرت أمرت ومن هذا السبب تتولد الأملاح وتصير المياه ملحا وقد يصنع الملح من الرماد والقلي والنورة وغير ذلك بأن يطبخ في الماء ويصفى ويغلى ذلك الماء حتى ينعقد ملحا أو يترك حتى ينعقد بنفسه والبارد يفعل كالحار كيفية غير ملائمة إذ من شأنه التكثيف الذي لا يلائم الأجسام أيضا لكن عدم ملاءمته أقل من عدم ملاءمة التفريق ولذلك كانت الكيفيات
29

الحادثة بواسطة التفريق أشد في المنافرة من الكيفيات الحادثة بتوسط التكثيف ثم إن هذه الكيفيات أيضا مختلفة في عدم الملاءمة على حسب مراتب التكثيف في القوة والضعف وإليه الإشارة بقوله ففي الكثيف أي فيفعل البارد في القابل الكثيف عفوصة لأنه يتضاعف التكثيف يعني أن التكثيف يمنع البرودة عن النفوذ ويقاومها فيجتمع حينئذ أجزاء البرودة ويؤثر فيه تأثيرا عظيما ويكثفه تكثيفا بليغا متضاعفا فيحدث فيه العفوصة التي تقرب من المرارة في المنافرة ويفعل البارد في القابل اللطيف حموضة لأن اللطيف لا يقاوم البرودة فينفذ في أعماقه ويكثفه تكثيفا أقل بكثير مما في القابل الكثيف فيحدث فيه كيفية يكون عدم ملاءمتها أقل من عدم ملاءمة العفوصة بكثير أيضا وهي الحموضة وإلى ما ذكرنا أشار بقوله لأنه أي الفاعل البارد يكثف القابل اللطيف ببرده ويغوص فيه بلطافته أي بسبب لطافته فيضعف فيه تأثيره فيكون عدم ملاءمته أي عدم ملاءمة الطعم الحادث في ذلك القابل اللطيف بين بين ولا يخفى عليك أن الصواب تبديلهما بأقل كما أشرنا إليه ولذلك أي ولأن الحموضة تحدث من فعل البارد في اللطيف كان الثمر العفص لشدة برده وكثافته كلما ازداد مائية ولطافة واعتدل قليلا بإسخان الشمس المنضج ازداد حموضة و يفعل البارد في القابل المعتدل قبضا وهو في عدم الملائمة دون العفوصة وفوق الحموضة لأن تكثيف البرودة في المعتدل أقل من تكثيفها في الكثيف وأكثر من تكثيفها في اللطيف على قياس ما مر فيحدث فيه كيفية عدم ملاءمتها بين بين وهو القبض وكونه في عدم الملاءمة فوق الحموضة ظاهر وأما كونه في ذلك دون العفوصة فإليه أشار بقوله إذ العفص يقبض باطن اللسان وظاهره معا فينفر الطبع عنه نفره شديدة
30

والقابض يقبض ظاهره فقط فلا تكون النفرة عنه في تلك الغاية والمعتدل الذي هو بين الحار والبارد يفعل فعلا ملائما وذلك لأنه لا يفرق تفريقا شديدا ولا يكثف أيضا تكثيفا قويا بل يفعل فعلا بين بين فيحدث منه طعم ملائم وهو أي ما يحدث من فعله في القابل الكثيف الحلاوة وذلك لشدة المقاومة بين القابل الكثيف والفاعل المعتدل فيجتمع أجزاء الفاعل ويؤثر تأثيرا تاما ملائما جدا هو بين التفريق والتكثيف البليغين فيحدث هناك كيفية هي في غاية الملاءمة أعني الحلاوة التي هي أشد الطعوم ملاءمة للأمزجة المعتدلة وألذها وأشهاها عند القوى الذائقة و هو في اللطيف الدسومة لقلة المقاومة بين القابل اللطيف والفاعل المعتدل فتنفذ أجزاء الفاعل فيه ويفعل فعلا ضعيفا ملائما فيحس منه بكيفية ضعيفة ملائمة هي الدسومة و هو في القابل المعتدل التفاهة وذلك لأن القوة المعتدلة يجب أن يكون تأثيرها في القابل المعتدل أقل من تأثيرها في الكثيف وأكثر من تأثيرها في اللطيف فيجب أن يحصل هناك كيفية ملائمة هي أضعف من الحلاوة وأقوى من الدسومة لا أن هذه الكيفية لا تؤثر في المذاق لضعفها والجسم الحامل لها لا ينفذ فيه لتوسطه بين اللطافة والكثافة فلا يحس بهذه الكيفية لعدم التأثير أي تأثير القابل المعتدل في القوة الذائقة لا بمادته ولا بكيفيته أي طعمه فلا يحصل به أي بذلك الطعم إحساس بخلاف الدسومة فإنها وإن كانت ضعيفة إلا أن حاملها لطيف ينفذ في المذاق فيؤثر فيه بمادته وإن لم يؤثر فيه بكيفيته فيحس بالدسومة دون التفاهة ومن ههنا يظهر أن التفاهة طعم فوق الدسومة ودون الحلاوة إلا أنها غير محسوسة إحساسا متميزا ويقال التفاهة لعدم الطعم كما في الأجسام البسيطة وتسمى هذه تفاهة حقيقية والمتصف بهذه التفاهة يسمى تفها ومسيخا ويقال أيضا لكون الجسم بحيث لا يحس بطعمه لكثافة أجزائه فلا يتحلل منه أي من ذلك الجسم ما يخالط الرطوبة اللعابية العذبة أي
31

الخالية في نفسها عن الطعوم كلها التي هي آلة للإدراك بالقوة الذائقة كالصفر ونحوه من الحديد وغيره فإذا احتيل في تحليله أحس منه بطعم قوي حاد كما يزنجر أي يجعل الصفر زنجارا وأجزاء صغارا وهذه تسمى تفاهة غير حقيقة وتفاهة حسية هذا وقد توهم بعضهم أن المعدود في الطعوم هو التفاهة بمعنى عدم الطعم
قال إنما عدوها منها كما عدت المطلقة في الموجهات ولذلك تركها الإمام الرازي رحمه الله فقال بسائط الطعوم ثمانية وذكر بعضهم أن المعدود فيها هو التفاهة الغير الحقيقية فإنها طعم بسيط ورد عليه بأن هذا يبطله ما ذكره من اجتماع المرارة والتفاهة في الهندباء وقد ذكروا أن أسخن الطعوم الحرافة ثم المرارة ثم الملوحة لأن الحريف أقوى على التحليل من المر ثم المالح كأنه مر مكسور برطوبة باردة لما عرفت من سبب حدوث الملوحة ويدل أيضا على تأخر الملوحة عن المرارة في السخونة أن البورق والملح المر أسخن من الملح المأكول وأبرد الطعوم العفوصة ثم القبض ثم الحموضة فإن الفواكه التي تحلو تكون أولا عفصة شديدة البرد فإذا اعتدلت قليلا قليلا بإسخان الشمس مالت إلى القبض ثم إلى الحموضة ثم تنتقل إلى الحلاوة والحامض وإن كان أقل بردا من
32

العفص لكنه في الأغلب أكثر تبريدا منه لشدة غوصه بسبب لطافته ومن هذا يعلم أن كون الحريف أقوى على التحليل لا يدل على أنه أسخن من المر لجواز أن يكون ذلك بسبب شدة نفوذه لأجل لطافته
واعترضوا بأن الكافور مع شدة برده مر وكذلك الشاهترج وبعض القثاء والخيار والعسل حلو حار والزيت دسم حار والدماغ دسم بارد وكثير من الأدهان كذلك
وأجابوا بأن غلبة البرد على المر أو الدسم وغلبة الحرارة على الحلو أو الدسم إما لتركب الحامل من أجزاء مختلفة الطعوم وإما لعارض أورثه ذلك وتفصيله إلى الكتب الطبية
المقصد الثاني
المتن
هذه هي الطعوم البسيطة ويتركب منها طعوم لا نهاية لها إما بحسب التركيب وإما بحسب تركب الأسباب وقد يفعل بعض بالعرض فيظن نقضا كما أن الأفيون مع مرارته يبرد تبريدا عظيما فربما كان ذلك لأنه بحرارته
33

يبسط الروح حتى يخلو مركزها فيحصل بالعرض منه تبريد فمن المركبة ما له اسم نحو البشاعة من مرارة وقبض كما في الحضض والزعوقة من ملوحة ومرارة كما في السبخة وربما ينضم إليها كيفية لمسية فلا يميز الحس بينهما فيصير كطعم واحد كاجتماع تفريق وحرافة فيظن حرارة أو تكثيف وتجفيف فيظن عفوصة
الشرح
المقصد الثاني هذه الطعوم المذكورة هي الطعوم البسيطة كما مر ويتركب منها طعوم لا نهاية لها وذلك إما بحسب التركيب في القوابل بين أجسام ذوات طعوم بسيطة مختلفة المراتب التي لا تنحصر في عدد فإنها إذا ركبت أحس من المجموع بطعم واحد مركب من تلك البسائط وإما بحسب تركب الأسباب المقتضية للطعوم المتعددة فإنه إذا اجتمع أسباب كثيرة على جسم واحد واقتضى كل واحد منها فيه طعما من تلك البسائط حصل فيه طعم مركب منها ولا شك أن في كل واحد من التركيب والتركب المذكورين كثرة غير منحصرة فتتعدد الطعوم المركبة أيضا بحسب تلك الكثرة وقد يفعل بعض من الطعوم فعلا بالعرض لا بالذات فيظن ذلك نقضا على ما ذكرناه من كيفية حدوث الطعوم من الفاعل والقابل المذكورين كما أن الأفيون مثلا مع مرارته يبرد تبريدا عظيما فيتخيل أنه بارد فينتقض به ما ذكرناه من أن فاعل المرارة هو الحرارة لكنه تخيل فاسد كما بينه بقوله فربما كان ذلك التبريد لأنه أي الأفيون بحرارته وتسخينه يبسط الروح ويحلله أيضا إذ من شأن الحرارة إحداث الميل المصعد والتحليل وإذا تحلل بعض من الروح الحامل للحرارة الغريزية وانبسط بعضه الباقي حتى يخلو مركزها أي مركز الروح فإنه يجوز تأنيثه فيحصل بالعرض منه أي من الأفيون تبريد فإنه لما أزال المسخن عاد أجزاء البدن المقتضية للبرودة بطباعها إلى تبريده فهذا التبريد ليس فعلا للأفيون حتى يلزم كونه باردا بل هو من فاعل آخر أزال عنه الأفيون بحرارته ما كان يمنعه من فعله فلا نقض أصلا ولتكن هذه القاعدة
34

على ذكر منك فإنها تنفعك في مواضع عديدة فمن الطعوم المركبة ما له اسم على حدة نحو البشاعة المركبة من مرارة وقبض كما في الحضض بضم الضاد الأولى وفتحها أيضا وهو صمغ مر كالصبر مشهور يتداوى به و نحو الزعوقة المركبة من ملوحة ومرارة كما في السبخة والشيحة ومن الطعوم المركبة ما ليس له اسم مخصوص به كالطعم المركب من الحلاوة والحرافة في العسل المطبوخ وكالمركب من المرارة والحرافة والقبض في الباذنجان وكالمركب من المرارة والتفاهة في الهندباء كما مر
قال الإمام الرازي هذه الطعوم هل هي كيفيات حقيقية أو تخييلية يشبه أن يقال إن هذه الطعوم إنما تكثرت بسبب أنها كما تحدث ذوقا يحدث بعضها لمسا أيضا فيتركب من الكيفية الطعمية والتأثير اللمسي أمر واحد لا يتميز في الحس فيصير ذلك الواحد كطعم واحد مخصوص متميز مثلا يشبه أن يكون طعما من الطعوم يصحبه في بعض المواضع تفريق وإسخان فيسمى جملة ذلك حرافة وطعم آخر يصحبه تفريق من غير إسخان فيسمى ذلك المجموع حموضة وطعم آخر يصحبه تكثيف وتجفيف فيسمى ذلك المجموع عفوصة وعلى هذا القياس فلا يتحقق حينئذ أن الطعوم المذكورة حقائق متعددة متكثرة في أنفسها بل يجوز أن يكون تعدد حقائقها مبنيا على هذا التخيل وقد أجمل المصنف هذا المعنى في قوله وربما ينضم إليها أي إلى الطعوم كيفية لمسية فلا يميز الحس بينهما أي بين الكيفية الطعمية والكيفية اللمسية فيصير مجموعهما كطعم واحد متميز عن سائر الطعوم وذلك كاجتماع تفريق وحرارة مع طعم من الطعوم فيظن مجموع ذلك حرافة أو كاجتماع تكثيف وتجفيف مع طعم من
35

الطعوم فيظن مجموع ذلك عفوصة وإذا كان هذا محتملا بل واقعا في بعض الصور فماذا يؤمننا أن تكون الحرافة والعفوصة من هذا القبيل في جميع المواضع وقد يتوهم من عبارته أنهما طعمان حقيقيان بلا شبهة إلا أنه قد يقع الاشتباه فيهما في بعض المواضع
36

النوع الخامس في المشمومات
ولا اسم لها إلا من وجوه
المتن
الأول الملائم طيب والمنافر منتن
الثاني بحسب ما يقارنها من طعم كما يقال رائحة حلوة أو حامضة
الثالث بالإضافة إلى محلها كرائحة الورد والتفاح
الشرح
النوع الخامس من الكيفيات المحسوسة في المشمومات المدركة بالقوة الشامة ولا اسم لها عندنا إلا من وجوه ثلاثة
الأول باعتبار الملاءمة والمنافاة فيقال الملائم طيب والمنافر منتن
الثاني بحسب ما يقارنها من طعم كما يقال رائحة حلوة أو رائحة حامضة
الثالث بالإضافة إلى محلها كرائحة الورد والتفاح وأنواع الروائح غير مضبوطة ومراتبها في الشدة والضعف غير منحصرة كمراتب الطعوم وغيرهما
37

الفصل الثاني في الكيفيات النفسانية
المتن
فإن كانت راسخة سميت ملكة وإلا سميت حالا والاختلاف بينهما بعارض فإن الحال بعينها تصير ملكة بالتدريج وهي أيضا أنواع
النوع الأول الحياة
وفيها مقاصد
المقصد الأول
الحياة قوة تتبع اعتدال النوع ويفيض منها سائر القوى
قال ابن سينا إنها غير قوة الحس والحركة وغير قوة التغذية ويدل عليه أنها توجد للمفلوج إذ هي الحافظة للأجزاء عن التفريق والبلى وليس له قوة الحس والحركة وتوجد في الذابل مع عدم قوة التغذية وفي النبات قوة التغذية مع عدم الحياة
38

والجواب أنا لا نسلم أن القوة مفقودة في المفلوج والذابل لجواز أن يكون الفعل قد تخلف عنها لمانع ولا نسلم أن ما هو قوة التغذية في الحي موجودة في النبات لجواز أن تكون قوة التغذية في النبات مخالفة بالحقيقة لها في الحي إذ قد يشترك المختلفان بالحقيقة في لازم واحد من فعل أو غيره
الشرح
الفصل الثاني من الفصول الأربعة التي هي في أقسام الكيفيات في الكيفيات النفسانية أي المختصة بذوات الأنفس من الأجسام العنصرية فقيل المراد الأنفس الحيوانية ومعنى الاختصاص بها أن تلك الكيفيات توجد في الحيوان دون النبات والجماد وعلى هذا فلا يتجه أن بعض هذه الكيفيات كالحياة والعلم والقدرة والإرادة ثابتة للواجب والمجردات فلا تكون مختصة بالحيوانات على أن القائل بثبوتها للواجب وغيره من المجردات لم يجعلها مندرجة في جنس الكيف ولا في الأعراض
وقيل المراد ما يتناول النفوس الحيوانية والنباتية أيضا فإن الصحة وما يقابلها من هذه الكيفيات يوجدان في النبات بحسب قوة التغذية والتنمية كما سيرد ذلك عليك في مباحثهما فإن كانت الكيفية النفسانية راسخة في موضوعها أي مستحكمة فيه بحيث لا تزول عنه أصلا أو يعسر زوالها سميت ملكة وإلا أي وإن لم تكن راسخة فيه سميت حالا لقبولها التغير والزوال بسهولة والاختلاف بينهما بعارض مفارق لا بفصل فإن الحال بعينها تصير ملكة بالتدريج ألا ترى أن الكيفية النفسانية الواحدة بالشخص كالكتابة مثلا تكون في ابتداء حصولها حالا وإذا ثبتت زمانا واستحكمت
39

صارت هي بعينها ملكة كما أن الشخص الواحد قد كان صبيا ثم يصير رجلا
قالوا وكل ملكة فإنها قبل استحكامها كانت حالا وليس كل حال يصير ملكة وأنت تعلم أن الكيفية النفسانية قد تتوارد أفراد منها على موضوعها بأن يزول عنه فرد ويعقبه فرد آخر فيتفاوت بذلك حال الموضوع في تمكن الكيفية فيه حتى ينتهي الأمر إلى فرد إذا حصل فيه كان متمكنا راسخا فهذا الفرد ملكة لم يكن حالا بشخصه بل بنوعه وهي أي الكيفيات النفسانية أيضا كالكيفيات المحسوسة أنواع خمسة كثيرة المباحث فذكر أولا الحياة ثم العلم ثم الإرادة ثم القدرة ثم بقية الكيفيات النفسانية من اللذة والألم وغيرهما
النوع الأول في الحياة قدمها على سائر الأنواع لأنها أصل لها ومستتبعة إياها وفيها أي في الحياة مقاصد ثلاثة
الأول في تعريفها الحياة قوة تتبع تلك القوة اعتدال النوع ومعنى ذلك أن كل نوع من أنواع المركبات العنصرية له مزاج مخصوص يناسب الآثار والخواص المطلوبة منه حتى إذا خرج من ذلك المزاج لم يبق ذلك النوع كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى فالحياة في كل نوع من أنواع الحيوانات تابعة لذلك المزاج المسمى بالاعتدال النوعي ويفيض منها أي من تلك القوة سائر القوى الحيوانية كقوى الحس والحركة والتصرف في الأغذية وتلخيصه أنه إذا حصل في مركب عنصري اعتدال نوعي يليق بنوع حيواني فاض عليه من المبدأ قوة الحياة ثم انبعثت منها قوى أخرى
40

أعني الحواس الباطنة والظاهرة والقوة المحركة إلى جلب المنافع ودفع المضار كل ذلك بتقدير العزيز العليم فالحياة تابعة للاعتدال المذكور ومتبوعة لما عداها من القوى الموجودة في الحيوان وقد يتوهم أن الحياة هي قوة الحس والحركة الإرادية وقوة التغذية بعينها لا أنها قوى أخرى مستتبعة لهذه القوى كما ذكرنا فلذلك قال ابن سينا في كليات القانون دفعا لهذا التوهم أنها أي الحياة غير قوة الحس والحركة وغير قوة التغذية والتنمية ويدل عليه أي على التغاير المذكور أنها أي الحياة توجد للمفلوج من الأعضاء إذ هي الحافظة في الحيوان للأجزاء العنصرية المتداعية إلى الانفكاك عن التعفن والتفرق والبلى ألا ترى أن العضو الميت تتسارع إليه هذه الأمور وليس له أي للعضو المفلوج قوة الحس والحركة وكذا الحال في العضو الخدر فإنه أيضا فاقد في الحال قوة الحس والحركة مع وجود قوة الحياة فيه فظهر أن الحياة مغايرة للقوى النفسانية التي هي القوى المدركة والمحركة وأما مغايرتها للقوى الطبيعية التي تتصرف في الأغذية فيدل عليها قوله وتوجد أي الحياة في العضو الذابل فإنه لو لم يكن حيا لفسد بالتعفن والتفرق مع عدم قوة التغذية فيه وأيضا في النبات قوة التغذية مع عدم الحياة فيه فقد وجد كل واحدة من الحياة وقوة التغذية بدون الأخرى فكانتا متغايرتين قطعا ومن ههنا تبين أن أجناس القوى الموجودة في الحيوانات ثلاثة جنس القوى النفسانية وجنس القوى الطبيعية وجنس القوى الحيوانية كما هو المشهور عند الأطباء وللإنسان من بينها قوة رابعة يدرك بها المعقولات ويتوصل بها إلى ما يختص به من الآثار المطلوبة منه
41

والجواب عما ذكره ابن سينا أنا لا نسلم أن القوة أي أن قوة الحس والحركة مفقودة في العضو المفلوج و أن قوة التغذية مفقودة في العضو الذابل لجواز أن يكون الفعل أي الإحساس والحركة والتغذية قد تخلف عنها أي عن القوة الموجودة فيهما لمانع يمنعها عن فعلها والحاصل أن المفقود في العضو المفلوج هو الفعل أعني الإحساس والحركة الإرادية وذلك لا يدل على أن القوة المقتضية لهما مفقودة فيه لجواز أن يكون عدم الفعل لوجود المانع لا لعدم المقتضى وكذلك المفقودة في العضو الذابل هو التغذية وليس يلزم من فقدانها فقدان القوة المقتضية لها ولا نسلم أيضا أن ما هو قوة التغذية في الحي موجود في النبات حتى يلزم من مغايرة الحياة لغاذية النبات مغايرتها لغاذية الحيوان وذلك لجواز أن تكون قوة التغذية في النبات مخالفة بالحقيقة لها أي لقوة التغذية في الحي وليس يلزم من اشتراك هاتين القوتين في التغذية اشتراكهما في الحقيقة إذ قد يشترك المختلفان بالحقيقة في لازم واحد من فعل أو غيره
المقصد الثاني
المتن
الحياة عند الحكماء مشروطة بالبنية المخصوصة وهو جسم له صورة مخصوصة وكيفيات تتبعها من اعتدال خاص وغيره وكذا عند المعتزلة وهي مبلغ من الأجزاء يقوم بها تأليف خاص لا يتصور قيام الحياة بدونها ونحن لا نشترطها بل يجوز أن يخلق الله تعالى الحياة في جزء واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ والذي يبطل مذهبهم أنه إما أن يقوم بالجزئين معا حياة واحدة فيلزم قيام الواحد بالكثير وأنه محال وإما أن يقوم بكل جزء حياة على حدة وحينئذ فإما أن يكون كل واحد مشروطا بالآخر ويلزم الدور أو يكون
42

أحدهما مشروطا بالآخر من غير عكس ويلزم الترجيح بلا مرجح أو لا يكون شيء منهما مشروطا بالآخر وهو المطلوب
والجواب أنك قد عرفت مرارا أن دور المعية ليس باطلا وحكاية الترجيح بلا مرجح كما قد علمته في الأولوية فإنه إن أريد في نفس الأمر منع أو عندنا لم يفد
الشرح
المقصد الثاني في شرط الحياة الحياة عند الحكماء مشروطة بالبنية المخصوصة وهو جسم مركب من العناصر له صورة نوعية مخصوصة ولذلك الجسم كيفيات تتبعها أي تتبع هذه الكيفيات تلك الصورة المخصوصة من اعتدال مزاجي خاص وغيره فإنهم زعموا أنه لا بد في الحياة من جسم مؤلف من العناصر الأربعة ومن مزاج معتدل مناسب لنوع من الحيوانات حتى يفيض عليه صورة نوعية حيوانية مستتبعة للحياة ولا بد فيها من اعتدال الروح الحيواني المتولد من بخارية الأخلاط الحامل لقوة الحياة إلى أعضاء البدن على ما فصل في الكتب الطبية ثم إن بقاء المزاج والروح الحيواني على اعتدالهما المعتبر في بقاء الحياة تابع لتلك الصورة النوعية فإذا تغير المزاج وزال عن الاعتدال بسبب من الأسباب زالت الحياة وانتقضت البنية واضمحلت الصورة كما يشاهد ذلك في الحيوانات بمساعدة التجربة وكذا الحياة عند المعتزلة مشروطة بالبنية المخصوصة ولكنها عندهم ليست ما ذكرها الحكماء بل هي مبلغ من الأجزاء أي الجواهر الفردة يقوم بها أي بتلك الأجزاء تأليف خاص لا يتصور قيام الحياة بدونها أي بدون تلك الأجزاء مع ذلك التأليف والمراد أن لا يمكن تركب بدون الحيوان مما هو أقل من تلك الأجزاء وذلك لأنهم لا يجوزون
43

قيام الحياة بجوهر واحد ونحن معاشر الأشاعرة لا نشترطها أي لا نشترط البنية المخصوصة في الحياة بل نجوز أن يخلق الله تعالى الحياة في جزء واحد من الأجزاء التي تتجزأ بوجه من وجوه الانقسام والتجزي والذي يبطل مذهبهم أي مذهب الحكماء والمعتزلة في اشتراط البنية المخصوصة أنه أي الشأن على تقدير الاشتراط إما أن يقوم بالجزئين معا حياة واحدة فيلزم قيام العرض الواحد بالكثير وأنه محال كما مر وإما أن يقوم بكل جزء منهما حياة على حدة وحينئذ فإما أن يكون كل واحد من الجزئين في قيام الحياة به مشروطا بالآخر ويلزم الدور لأن قيام الحياة بهذا موقوف على قيام الحياة بذاك وبالعكس أو يكون أحدهما في قيام الحياة به مشروطا بالآخر من غير عكس ويلزم الترجيح بلا مرجح وذلك لأن الجزئين أعني الجوهرين متفقان في الحقيقية وكذلك الحياتان متماثلتان فالتوقف من أحد الجانبين تحكم بحت أو لا يكون شيء منهما في قيام الحياة به مشروطا بالآخر وهو المطلوب أعني اشتراط الحياة بالبنية
والجواب عن هذا الاستدلال أنك إن أردت بقيام حياة واحدة بالجزئين معا أنها تقوم بكل واحد منهما فذلك مما لا شك في استحالته لكن ههنا قسم آخر وهو أن تقوم الحياة الواحدة بمجموعهما من حيث هو مجموع وإن أردت به ما يتناول هذا القسم أيضا فاستحالته ممنوعة فإن العرض الواحد يصح قيامه بمحل منقسم فينقسم بانقسامه إن كان حلوله فيه سريانيا وإلا فلا وأيضا قد عرفت مرارا أن دور المعية ليس باطلا فنختار ههنا أن قيام الحياة بكل من الجزئين يستلزم قيامها بالآخر فهما متلازمان بينهما معية لا تقدم فلا محذور على أنا نقول قيام الحياة بكل جزء مشروط
44

بانضمام الجزء الآخر إليه لا بقيام الحياة بالآخر فلا دور أصلا ولنا أن نختار الاشتراط من أحد الجانبين فقط وحكاية الترجيح بلا مرجح كما قد علمته في الأولوية فإنه يقال ههنا أيضا إن أريد أنه لا رجحان في شيء من الجانبين في نفس الأمر منع إذ يجوز أن يكون هناك رجحان ناشئ إما من أحد الجزئين أو من إحدى الحياتين أو من خارج ولا نعلمه أو لا رجحان عندنا لم يفد لأن عدم العلم بشيء لا يستلزم عدمه في نفسه
فإن قيل إذا كان الاشتراط من أحد الجانبين فقط لزم قيام الحياة بالجزء الآخر من غير اشتراط البنية وهو المطلوب
قلنا قيام الحياة بأحد الجزئين وإن كان مشروطا بقيامها بالآخر من دون عكس لكن قيامها بالجزء الآخر مشروط بانضمام الجزء الأول إليه وهو المقصود بالبنية وتحقيقه ما مر آنفا
المقصد الثالث
المتن
الموت عدم الحياة من شأنه أن يكون حيا وقيل كيفة وجودية يخلقها الله تعالى في الحي فهو ضدها لقوله تعالى * (خلق الموت والحياة) *
والخلق لا يتصور إلا فيما له وجود
والجواب أن الخلق تقدير
الشرح
المقصد الثالث فيما يقابل الحياة الموت عدم الحياة عما من
45

شأنه أن يكون حيا والأظهر أن يقال عدم الحياة عما اتصف بها وعلى التفسيرين فالتقابل بين الحياة والموت تقابل الملكة والعدم
وقيل الموت كيفية وجودية يخلقها الله تعالى في الحي فهو ضدها لقوله تعالى * (خلق الموت والحياة) * والخلق لكونه بمعنى الإيجاد لا يتصور إلا فيما له وجود والجواب أن الخلق ههنا معناه التقدير دون الإيجاد وتقدير الأمور العدمية جائز كتقدير الوجودات
46

النوع الثاني العلم
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
العلم لا بد فيه من إضافة بين العالم والمعلوم وهو الذي نسميه التعلق ولم يثبت غيره بدليل وقيل هو صفة ذات تعلق فثمة أمران العلم والعالمية وأثبت القاضي معهما تعلقا فإما للعلم فقط أو للعالمية فقط فههنا ثلاثة أمور وإما لهما معا فههنا أربعة أمور وقال الحكماء العلم هو الوجود الذهني إذ قد يعقل ما هو نفي محض وعدم الصرف والتعلق إنما يتصور بين شيئين فإذا لا حقيقة له إلا الأمر الموجود في الذهن وهو العلم والمعلوم ثم قد يطابقه أمر في الخارج وقد لا يطابقه وبهذا الاعتبار تلحقه الأحكام الخارجية وإما من حيث هو موجود فلا حكم عليه إلا بأن يتصور مرة ثانية من حيث أنه في الذهن فيحكم عليه بأحكام أخر ويسمى مثل ذلك معقولات ثانية قال المتكلمون هو باطل لوجهين
47

الأول لو كان التعقل بحصول ماهية المعقول فمن عقل السواد والبياض يكون قد حصل في ذهنه السواد والبياض فيكون الذهن أسود وأبيض وأيضا يجتمع الضدان
الثاني حصول ماهية الجبل والسماء في ذهننا معلوم الانتفاء بالضرورة
وجواب الأول أنه إنما يلزم كون الذهن أبيض وأسود لو حصل فيه هوية السواد والبياض لا ماهيتهما إذ قد علمت أنه لا معنى للماهية إلا الصورة العقلية وأنها مخالفة للهويات الخارجية في اللوازم كما تنبهت له من قبل
والثاني أن الممتنع حصول هوية الجبل والسماء لا ماهيتهما وهذا غلط واقع من جهة اشتراك اللفظ فإن الماهية تطلق على الأمر المعقول وعلى ما يطابقه فظنا أمرا واحدا وربما جعلوه أمرا عدميا فقالوا هو تجرد العالم والمعلوم من المادة
النوع الثاني
الشرح
من الأنواع الخمسة العلم وفيه مقاصد ست عشر
المقصد الأول العلم لا بد فيه من إضافة أي نسبة مخصوصة بين العالم والمعلوم بها يكون العالم عالما بذلك المعلوم والمعلوم معلوما لذلك العالم وهو أي ما ذكرناه من الإضافة والنسبة هو الذي نسميه نحن معاشر
48

المتكلمين التعلق فهذا الأمر المسمى بالتعلق لا بد منه في كون الشيء عالما بآخر ولم يثبت غيره بدليل فلذلك اقتصر جمهور المتكلمين عليه وقيل هو أي العلم صفة حقيقية ذات تعلق والقائل به جماعة من الأشاعرة وهم الذين عرفوه بأنه صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض وقد عرفت أنه المختار من تعريفاته عند المصنف فلا تغفل وعلى قول هؤلاء فثمة أمران هما العلم وهو تلك الصفة والعالمية أي ذلك التعلق وأثبت القاضي الباقلاني العلم الذي هو صفة موجودة والعالمية التي هي من قبيل الأحوال عنده وأثبت معهما تعلقا فإما للعلم فقط أو للعالمية فقط فههنا ثلاثة أمور العلم والعالمية والتعلق الثابت لأحدهما وإما لهما معا فههنا أربعة أمور العلم والعالمية والتعلق الثابت لهما وقال الحكماء العلم هو الوجود الذهني أي الموجود الذهني كما قالوا العلم حصول الصورة وأرادوا به أنه الصورة الحاصلة على ما صرح به بعضهم ويدل عليه أنهم جعلوا العلم من مقولة الكيف ومع ذلك عرفوه بحصول الصورة ولا شبهة في أن الحصول ليس من هذه المقولة وإنما ذهبوا إلى أن العلم هو الوجود الذهني إذ قد يعقل ما هو نفي محض وعدم صرف في الخارج بحسب الخارج كالممتنعات وكثير من الممكنات كبعض الاشكال الهندسية ألا ترى أنا نحكم عليها ولا يمكن ذلك إلا بتعقلها ولا شبهة أيضا في أن بين العاقل والمعقول تعلقا مخصوصا كما مر والتعلق إنما يتصور بين شيئين متمايزين ولا تمايز إلا بأن يكون لكل منهما ثبوت في الجملة وإذ لا ثبوت للمعلوم ههنا في الخارج فإذا لا حقيقة له إلا الأمر الموجود في الذهن وهو أي ذلك الأمر الموجود في الذهن هو العلم وأما التعلق المذكور فأمر خارج عن حقيقة العلم لازم لها و هو المعلوم أيضا فإنه باعتبار قيامه بالقوة العاقلة علم وباعتباره في نفسه من حيث هو معلوم فالعلم والمعلوم متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار وإذا كان العلم بالمعدومات الخارجية على هذه الحالة وجب أن يكون العلم بسائر المعلومات كذلك إذ لا اختلاف بين أفراد حقيقة واحدة نوعية ثم إن الأمر الموجود في الذهن قد يطابقه أمر في الخارج بأن تكون تلك الماهية التي اتصفت بالوجود الذهني
49

متصفة بالوجود الخارجي أيضا وقد لا يطابقه بأن لا تكون تلك الماهية موجودة في الخارج وبهذا الاعتبار أي باعتبار المطابقة تلحقه أي ذلك الموجود الذهني الأحكام الخارجية من السواد والبياض والحركة والسكون ونظائرها فإن الماهية إذا وجدت في الخارج لم تخل من أمور تعرض لها بحسب هذا الوجود وتختص به فلا تكون عارضة لها حال كونها موجودة في الذهن ويحتمل أن يراد بهذا الاعتبار اعتبار المطابقة واللامطابقة على معنى أن الموجود الذهني بمجرد حصوله فيه ملحوظ من حيث هو هو ومن هذه الحيثية يجوز أن يكون له مطابق في الخارج وأن لا يكون ويمكن للعقل أن يجري عليه أحكام خارجية صادقة أو كاذبة وهذا الاحتمال أنسب بقوله وأما من حيث هو موجود في الذهن فلا حكم له أي لا يمكن للعقل أن يحكم عليه من هذه الحيثية إلا بأن يتصور مرة ثانية من حيث أنه في الذهن فيحكم عليه بأحكام أخر مخالفة للأحكام الخارجية كالكلية والجزئية والذاتية والعرضية والجنسية والفصلية إلى غير ذلك من أشباهها ويسمى مثل ذلك معقولات ثانية ومحصول الكلام أن الماهية إذا وجدت في الذهن كانت ملحوظة في نفسها وصالحة لأن يحكم بأمور لا تعرض لها إلا في الخارج وهي المسماة بالعوارض الخارجية وغير صالحة لأن يحكم عليها بأمور لا تعرض لها إلا في الذهن بل لا بد لهذا الحكم من تصورها مرة ثانية ليلاحظ عروض هذه العوارض لها فيحكم بها عليها وأما لوازم الماهية من حيث هي هي عارضة لها في الوجودين فيصح أن يحكم بها
50

عليها في كل واحدة من الملاحظتين وإنما سميت العوارض الذهنية معقولات ثانية لأنها في الدرجة الثانية من التعقل واعلم أن الماهية الموجودة في الذهن إذا أخذت من حيث هي ذهنية كانت ممتنعة الحصول في الخارج سواء كانت تلك الصورة الذهنية مأخوذة من الممتنع أو من الممكن وأما إذا نظر إليها من حيث هي مع قطع النظر عن اعتبار كونها ذهنية فقد تكون ممتنعة وقد لا تكون إلا أن الحكم بامتناعها أو إمكانها لا يمكن إلا حال وجودها في الذهن وقال المتكلمون هو أي كون العلم عبارة عن الوجود الذهني باطل لوجهين
الأول لو كان التعقل بحصول ماهية المعقول في ذهن العاقل فمن عقل السواد والبياض وحكم بتضادهما يكون قد حصل في ذهنه السواد والبياض فيكون الذهن أسود وأبيض إذ لا معنى للأسود والأبيض إلا ما حصل فيه ماهية السواد والبياض لكنه باطل قطعا لأن هذه الصفات منتفية عنه وأيضا يجتمع الضدان في محل واحد وهو سفسطة
الوجه الثاني حصول ماهية الجبل والسماء في ذهننا معلوم الانتفاء بالضرورة وتجويزه مكابرة محضة
وجواب الوجه الأول أنه إنما يلزم كون الذهن أبيض وأسود لو حصل فيه هوية السواد والبياض أي ماهيتهما الموجودة بالوجود العيني المسمى بالوجود الخارجي الذي هو مصدر للأثار الخارجية ومظهر للأحكام لا ماهيتهما الموجودة بالوجود الظلي المسمى بالوجود الذهني إذ قد علمت في مباحث الوجود الذهني أنه لا معنى للماهية إلا الصورة العقلية المتصفة بوجود غير أصيل وعلمت أيضا أنها أي الصورة العقلية مخالفة للهويات الخارجية المتصفة بوجودات أصلية في اللوازم التي تكون للموجود الخارجي باعتبار خصوصية مدخل فيها كما تنبهت له من قبل
51

وكون المحل أسود وأبيض وكذلك التضاد من قبيل ما للوجود الخارجي مدخل فيه فلا يلزم اتصاف الذهن بما هو منتف عنه قطعا ولا اجتماع الضدين
وجواب الوجه الثاني أن الممتنع حصول هوية الجبل والسماء في ذهننا فإن هذه الهوية هي المتصفة بالعظم المانع من الحصول في أذهاننا لا ماهيتهما إذ ليس فيها ما يمنع من حصولها فيها وهذا الذي ذكره المتكلمون في هاتين الشبهتين غلط واقع من جهة اشتراك اللفظ فإن الماهية أي لفظها تطلق على الأمر المعقول الذي هو الماهية الموجودة بالوجود الذهني وعلى ما يطابقه أي يطابق ذلك الأمر المعقول وهو الموجود الخارجي فظنا أمرا واحدا وبنى عليه اشتراكهما في الأحكام كلها وقد تبين لك فساد ذلك الظن وربما جعلوه أي الحكماء العلم أمرا عدميا فقالوا هو تجرد العالم والمعدوم من المادة ورد بأنه يلزم منه أن يكون كل شخص إنساني عالما بجميع المجردات فإن النفس الإنسانية مجردة عندهم وأقرب من هذا ما قيل إن العلم حصول صورة مجردة عن المادة عند ذات مجردة عنها ولا بأس بخروج إدراكات الحواس عن تعريف العلم لأن الكلام في التعقلات دون الإحساسات كما دلت عليه المباحث السابقة
قال الإمام الرازي في المباحث المشرقية قد اضطرب كلام ابن سينا في حقيقة العلم فحيث بين أن كون الباري عقلا وعاقلا ومعقولا لا يقتضي كثرة في ذاته فسر العلم بالتجرد عن المادة وحيث قيد اندراج العلم في مقولة الكيف بالذات وفي مقولة المضاف بالعرض جعله عبارة عن صفة
52

ذات إضافة وحيث ذكر أن تعقل الشيء لذاته ولغير ذاته ليس إلا حضور صورته عنده جعله عبارة عن الصورة المرتسمة في الجوهر العاقل المطابقة لماهية المعقول وحيث زعم أن العقل البسيط الذي لواجب الوجود ليس عقليته لأجل صور كثيرة فيه بل لأجل فيضانها عنه حتى يكون العقل البسيط كالمبدأ الخلاق للصور المفصلة في النفس جعله عبارة عن مجرد إضافة وقال في الملخص إنا نعلم بالضرورة علمنا بالسماء والأرض ووجودنا ووجود لذاتنا وآلامنا ونميز بينه وبين سائر الأحوال النفسانية وذلك يتوقف على تصور ماهية العلم وما يتوقف عليه البديهي أولى أن يكون بديهيا فتصور العلم بديهي ثم إن هذه الحالة الوجدانية المسماة بالعلم ليست عدمية لأنها ممتازة عن غيرها بالضرورة والعدم لا يكون كذلك وأيضا لو كانت عدما لكانت عدم ما يقابلها وهو إما الجهل البسيط الذي هو عدم فيكون العلم عدما للعدم فيكون ثبوتيا مع فرض كونه عدميا وأما الجهل المركب وهو باطل أيضا لخلو المحل عنهما معا كما في الجماد لا يقال جاز أن يكون عبارة عن التجرد عن المادة لأنا نقول قد يعقل كون الشيء مجردا وهو أن لا يكون جسما ولا جسمانيا مع الشك في كونه عالما وأيضا يصح أن يقال في الشيء إنه عالم بهذا دون ذاك ولا يصح أن يقال إنه مجرد عن المادة بالنسبة إلى أحدهما دون الآخر وإذا لم تكن تلك الحالة عدمية فهي وجودية إما حقيقية أو إضافية أما الحقيقية فإما أن تكون نفس الصورة المساوية لماهية المدرك وهو باطل لأن ماهية السواد حاصلة للجماد ولا علم هناك
فإن أجيب عنه بأن العلم ليس نفس حصول ماهية الشيء لآخر بل هو حصول خاص أعني حصول ماهية المدرك للذات المجردة والجماد ليس ذاتا مجردة
قلنا فهذا اعتراف بأن العلم ليس نفس الحصول وإما أن تكون أمرا
53

آخر مغايرا للصورة وذلك مما لا تقوم عليه دلالة وإن قال به جماعة وأما الإضافية فلا شبهة في تحققها لأنا نعلم بالضرورة أن الشعور لا يتحقق إلا عند إضافة مخصوصة بين الشاعر والمشعور به وإما أنه هل يعتبر في تحقق هذه الإضافة المسماة بالشعور أمر آخر حقيقي أو إضافي أو عدمي فذلك مما لا حاجة إليه في البحث عن ماهية العلم هذا ما تلخص من كلامه ولا يخفى عليك ما فيه واعلم أن القائل بأن العلم هو الصورة المساوية للمعلوم يرد عليه الإشكال في علم الشيء بذاته وبصفات ذاته إذ يلزم أن يحل في ذاته صورة مساوية لذاته ولصفاته وذلك اجتماع المثلين
وأجيب عنه تارة بأن ذاته وصفاته موجودات عينية وصورها موجودات ذهنية والمستحيل هو اجتماع عينين متماثلين وأيضا ذاته قائمة بنفسها وصورة ذاته قائمة بها والمستحيل حلول المثلين في محل واحد لا حلول أحدهما في الآخر وأخرى بأن علم الشيء بذاته وصفاته علم حضوري لا حصولي ومعنى ذلك أن المعلوم ههنا حاضر عند العالم بنفسه لا بحصول صورته ففي علم الشيء بذاته يتحد العاقل والمعقول والعقل في الوجود العيني وفي علمه بصفاته يتحد العقل والمعقول فيه
فإن قلت كيف يتصور حضور الشيء عند نفسه مع أن الحضور نسبة لا تتصور إلا بين شيئين قلت إن التغاير بالاعتبار كاف لتحقق النسبة ولا شك أن النفس من حيث أنها صالحة لأن تكون عالمة بشيء من الأشياء مغايرة لها من حيث أنها صالحة لأن تكون معلومة لشيء ما وبهذا التغاير أيضا يندفع الإشكال في علم الشيء بنفسه عن القائل بأن العلم إضافة
54

محضة أو صفة حقيقية مستلزمة للإضافة وأما الإشكال عليه في العلم بالمعدومات الخارجية فإنما يندفع عنه إما باعتبار الوجود الذهني كما ذهب إليه الإمام الرازي في المباحث المشرقية وادعى أن العلم إضافة مخصوصة لا صورة عقلية لما عرفت من قصة الجماد وإما بأن الإضافة تتوقف على الامتياز الذي لا يتوقف على وجود المتمايزين لا في الخارج ولا في الذهن
المقصد الثاني
المتن
العلم الواحد الحادث هل يجوز تعلقه بمعلومين فيه مذاهب
الأول لبعض أصحابنا يجوز كعلم الله تعالى قلنا تمثيل بلا جامع
الثاني وهو مذهب الشيخ وكثير من المعتزلة لا يجوز إذ ليس عدد أولى من عدد فيلزم تعلقه بأمور غير متناهية وقد عرفته وأيضا فلا يسد أحدهما مسد الآخر فإن التعلق داخله في حقيقته ونقض بعلم الله تعالى وبسائر الهويات
الثالث مذهب أبي الحسن الباهلي لا يجوز تعلقه بنظريين لأنه يستلزم اجتماع نظريين وهو محال ويجوز تعلقه بضروريين لما مر
قلنا قد نعلمهما بنظر واحد كما نعلمهما بعلم واحد
55

الرابع وهو مختار القاضي وإمام الحرمين لا يجوز تعلقه بمعلومين يجوز انفكاك العلم بهما وإلا جاز انفكاك الشيء عن نفسه
قلنا قد نعلم ما ذكرتموه تارة بعلم واحد وتارة بعلمين ولا يلزم من ذلك الاستغناء عن تعدد الصفات فإنه تمثيل أيضا وأما ما لا يجوز انفكاك العلم بهما كالعلم بالشيء والعلم بالعلم به وكالعلم بالتضاد وفي الاختلاف فقد يتعلق بهما علم واحد إذ من علم شيئا علم علمه به بالضرورة وإلا جاز أن يكون أحدنا عالما بالجفر والجامعة وإن كان لا يعلم علمه به ثم يعلم علمه بعلمه به وهلم جرا فثم معلومات غير متناهية فلو استدعى كل معلوم علما لزم أن يكون لأحدنا علوم غير متناهية بالفعل وأنه محال والوجدان يحققه
والجواب أنا قد نعلم الشيء ولا نعلم العلم به إلا إذا التفت الذهن إليه وينقطع بانقطاع الاعتبار وأما قول من قال والعلم لا يتعلق بنفسه لأن النسبة بين شيئين فظاهر البطلان
قال الإمام الرازي والمختار أن الخلاف متفرع على تفسير العلم
فإن قلنا إنه نفس التعلق فلا شك أن التعلق بهذا غير التعلق بذاك فلا يتعلق علم بمعلومين
وإن قلنا إنه صفة ذات تعلق جاز أن يكون صفة واحدة يتعدد تعلقاته وكثرة التعلقات لا تجعل الصفة متكثرة
واعلم أن الجواز الذهني لا نزاع فيه والخارجي مما يناقش فيه
56

الشرح
المقصد الثاني العلم الواحد الحادث قيده بالحدوث لأن العلم الواحد القديم يجوز تعلقه بأمور غير متناهية هل يجوز تعلقه بمعلومين أي على سبيل التفصيل إذ لا خلاف في أن العلم الواحد الإجمالي يتعلق بما فيه كثرة فيه مذاهب أربعة
الأول لبعض أصحابنا من الأشاعرة يجوز ذلك مطلقا كعلم الله تعالى فإنه علم واحد متعلق بمعلومات متعددة
قلنا هذا تمثيل وقياس للشاهد على الغائب بلا جماع فيكون باطلا وأيضا يلزم على من احتج من أصحابنا بذلك القدرة فإن القدرة الحادثة لا تتعلق بمقدورين على أصلنا كما سيأتي من أن القدرة القديمة لا يجوز تعلقها بمقدورين فصاعدا والفرق بين العلم والقدرة في ذلك متعذر
الثاني وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وكثير من المعتزلة لا يجوز ذلك مطلقا إذ ليس عدد أولى من عدد فيلزم من جواز تعلقه بأكثر من واحد تعلقه بل جواز تعلقه بأمور غير متناهية فيلزم أن يجوز كون أحدنا عالما بعلم واحد
بمعلومات لا تتناهى وهو باطل قطعا وقد عرفته وأنه ضعيف جدا لأن عدم الأولوية في نفس الأمر ممنوع وعدمها عندنا لا يجدي شيئا والمحتج بهذه الحجة إن كان معتزليا ورد عليه القدرة الواحدة الحادثة فإنها على أصله يجوز تعلقها بمقدورين وأكثر ولا يجوز تعلقها بمقدورات لا تتناهى وأيضا فلا يسد أحدهما مسد الآخر هذا دليل ثان على المذهب الثاني وهو أن يقال لو تعلق العلم الواحد بمعلومين لسد العلم بأحدهما مسد العلم بالآخر ضرورة أن الشيء يسد مسد نفسه والتالي باطل فإن التعلق بالمعلوم داخل في حقيقته أي حقيقة العلم فإذا علم أحد المعلومين كان التعلق به داخلا في هذا العلم دون التعلق بالمعلوم الآخر وإذا علم الآخر انعكس الحال فلا يتصور قيام العلم بأحدهما مقام العلم بالآخر ونقض هذا
57

الدليل الثاني بعلم الله تعالى فإنه جار فيه مع كونه متعلقا بأمور متعددة وبسائر أي ونقض أيضا بسائر الهويات المتعلقة بأشياء متعددة كالسواد الواحد فإنه له تعلقا بالفاعل الموجد وتعلقا آخر بالمحل المقابل وتعلقا ثالثا بالزمان الذي وجد فيه إلى غير ذلك فتعدد التعلقات لا يقتضي تعددا في الذات وليس يلزم من وحدة الذات أن تكون هي مأخوذة مع تعلق مخصوص سادة مسدها مأخوذة مع تعلق آخر
الثالث مذهب أبي الحسن الباهلي من الأشاعرة وهو أنه لا يجوز تعلقه أي تعلق العلم الواحد بنظريين أي بمعلومين نظريين لأنه يستلزم اجتماع نظرين في حالة واحدة وهو محال بالضرورة الوجدانية ويجوز تعلقه بضروريين لما مر في المذهب الأول من القياس على علم الله تعالى وقد عرفت فساد هذا القياس وأما الجواب عن اجتماع النظرين فهو ما ذكره بقوله قلنا قد نعلمهما أي المعلومين النظريين بنظر واحد كما نعلمهما بعلم واحد فإنه إذا كان العلم بهما واحدا كفاه نظر واحد فاجتماع النظرين إنما يلزم إذا لم يجز تعلق علم واحد بهما وذلك مصادرة
المذهب الرابع وهو مختار القاضي وإمام الحرمين لا يجوز تعلقه بمعلومين حيث يجوز انفكاك العلم بهما أي كل معلومين يتصور العلم بأحدهما مع إمكان عدم العلم بالآخر كالقديم والحادث والسواد والبياض فإنه لا يجوز أن يتعلق بهما علم واحد وإلا جاز انفكاك الشيء عن نفسه إذ المفروض جواز الانفكاك بين العلم بهما فإذا كان ذلك العلم واحدا جاز انفكاكه عن نفسه
قلنا إنما يلزم ما ذكرتم إذا جاز الانفكاك بين العلم بالسواد والعلم
58

بالبياض مطلقا وهو ممنوع إذ لقائل أن يقول إنهما إذا علما بعلمين جاز الانفكاك بين العلم بهما وأما إذا علما بعلم واحد فلا يتصور ذلك الانفكاك وإليه الإشارة بقوله قد نعلم ما ذكرتموه أعني المعلومين اللذين يجوز الانفكاك بين العلم بهما تارة بعلم واحد فلا يجوز ذلك الانفكاك وتارة بعلمين فيجوز الانفكاك ولا استحالة في ذلك لأن جواز الانفكاك في حالة وعدم جوازه في أخرى ولا يلزم من ذلك أي من جواز تعلق علم واحد بذينك المعلومين تارة وتعلق علمين بهما أخرى الاستغناء عن تعدد الصفات بأن يقال لو جاز أن يكون علم واحد موجبا للعالمية بالسواد والعالمية بالبياض مع الاتفاق على أنه إذا تعدد العلم بهما كان موجبا للعالميتين أيضا لكانت الصفة الواحدة موجبة لحكمين متغايرين كالصفات المتعددة وحينئذ جاز أن تكون صفة واحدة موجبة للعالمية والقادرية معا فلا حاجة إلى إثبات صفات متعددة للأحكام المختلفة وهو باطل بالضرورة والاتفاق فإنه أي ما ذكرتموه من الاستدلال تمثيل أيضا كما مر خال عن الجمع لجواز أن تكون صفة واحدة موجبة لحكمين متجانسين كالعالميتين ويمتنع إيجابها لحكمين متخالفين كالعالمية والقادرية على أنه إنما يلزم القائل بالحال وأما ما لا يجوز انفكاك العلم بهما كالعلم بالشيء والعلم بالعلم به وكالعلم بالتضاد فإن العلم بمضادة شيء لآخر لا يكون إلا مع العلم بمضادة الآخر إياه و كذا الحال في الاختلاف والتماثل وسائر الإضافات فقد يتعلق بهما علم واحد أي يجوز تعلقه بهما إذ من علم شيئا علم علمه به بالضرورة وإلا أي وإن لم يصح ما ذكرناه من استلزام العلم بالشيء العلم بذلك العلم جاز أن يكون أحدنا عالما بالجفر
59

والجامعة وهما كتابان لعلي رضي الله تعالى عنه قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم وكان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونهما ويحكمون بهما وفي كتاب قبول العهد الذي كتبه علي بن موسى رضي الله عنهما إلى المأمون أنك قد عرفت من حقوقنا ما لم يعرفه آباؤك فقبلت منك عهدك إلا أن الجفر والجامعة يدلان على أنه لا يتم ولمشايخ المغاربة نصيب من علم الحروف ينتسبون فيه إلى أهل البيت ورأيت أنا بالشام نظما أشير فيه بالرموز إلى أحوال ملوك مصر وسمعت أنه مستخرج من ذينك الكتابين وإن كان أي أحدنا لا يعلم علمه به أي بما علمه من الجفر والجامعة لكن ذلك ضروري البطلان فظهر أن من علم شيئا علم علمه به ثم أنه يعلم أيضا علمه بعلمه به لما ذكرناه من استلزام العلم العلم بالعلم به وهلم جرا فثمة معلومات غير متناهية فلو لم يجز أن تكون عدة من هذه المعلومات معلومة بعلم واحد
60

بل استدعى كل معلوم منها علما على حدة لزم أن يكون لأحدنا إذا علم شيئا واحدا علوم غير متناهية بالفعل وأنه محال والوجدان يحققه أي يشهد بكونه محالا
والجواب أنا لا نسلم أن العلم بالشيء يستلزم العلم بذلك العلم إذ قد نعلم الشيء ولا نعلم العلم به إلا إذا التفت الذهن إليه لما مر من أن الموجود في الذهن لا يمكن أن يحكم عليه من حيث هو موجود فيه إلا بأن يتصور مرة ثانية ويلتفت إليه من حيث أنه في الذهن و هذا الالتفات لا يمكن أن يستمر حتى يلزم علوم غير متناهية بل ينقطع بانقطاع الاعتبار ولا فرق في ذلك بين معلوم واحد ومعلومات جمة إذ يجوز الغفلة عن العلم في الكل ولكن لما كان الالتفات إلى العلم قريبا من الحصول غير محتاج إلى تكلف ظن أنه حاصل بالفعل وبنى عليه ما بنى وأما قول من قال يعني به الآمدي فإنه قال في الجواب الكلام إنما هو في جواز تعلق العلم الواحد بمعلومين والعلم لا يتعلق بنفسه لأن النسبة التي هي التعلق لا تتصور إلا بين شيئين متغايرين ولا مغايرة بين الشيء ونفسه وقول القائل ذات الشيء ونفسه يوهم بظاهره نسبة الشيء إلى نفسه إلا أنه مجاز لا حقيقة له ومعنى كون الواحد منا عالما بعلمه لا يزيد على قيام علمه بنفسه فظاهر البطلان لأن تعلق العلم بالعلم ليس من قبيل تعلق الشيء بنفسه بل من قبيل تعلق جزئي من العلم بجزئي آخر منه ولا محذور فيه
قال الإمام الرازي والمختار عندي أن الخلاف متفرع على تفسير العلم فإن قلنا إنه نفس التعلق فلا شك أن التعلق بهذا غير التعلق بذاك فلا يتعلق علم واحد بمعلومين وإن قلنا إنه صفة ذات تعلق جاز أن يكون العلم صفة واحدة يتعدد تعلقاته وكثرة التعلقات الخارجة عن حقيقة الصفة لا تجعل الصفة متكثرة في ذاتها
قال المصنف واعلم أن الجواز الذهني لا نزاع فيه والجواز الخارجي مما يناقش فيه يعني أنا إذا نظرنا إلى أن العلم صفة ذات تعلق جوز العقل أن تكون هذه الصفة واحدة شخصية متعلقة بأمور متعددة بمعنى
61

أن العقل بمجرد هذه الملاحظة لا يحكم بامتناع تعلق علم واحد بمعلومين وهذا هو المسمى بالإمكان الذهني وليس يلزم منه الإمكان بحسب نفس الأمر لجواز أن يكون ممتنعا في نفسه لكن العقل لم يطلع على وجه استحالته والاستدلال على إمكانه في نفسه بأن العلم المتعلق بكون السواد مضادا للبياض إن لم يكن هو بعينه متعلقا بها لم يكن متعلقا بمضادة التي بينهما بل بمطلق المضادة وكلامنا في المضادة المخصوصة وإن كان متعلقا بهما فهو المطلوب ليس بشيء لن المضادة المخصوصة مفهوم متعلق بهما والعلم بها موقوف على العلم بهما معا فليس هناك علم واحد علم به معلومان وفي نقد المحصل أن العلم إذ فسر بالتعلق جاز تعدد المعلوم مع وحدة العلم كما إذا علم مجموع من حيث هو هو فإن الأجزاء داخلة فيه
والجواب ما مر من أن الخلاف في تعلق العلم الواحد بمتعدد على سبيل التفصيل بأن يكون متعلقا بخصوصية هذا وخصوصية ذاك معا فإنه جوزه جماعة كثيرة وليس العلم المتعلق بالمجموع من هذا القبيل
المقصد الثالث
المتن
الجهل المركب عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق وهو ضد العلم لصدق حد الضدين عليهما وقالت المعتزلة هو مماثل له لوجهين
الأول أن التميز بينهما بالنسبة إلى المتعلق وهي مطابقته أو لا مطابقته والنسبة لا تدخل في حقيقة المنتسب والامتياز بالأمور الخارجية لا يوجب الاختلاف بالذات
62

الثاني أن من اعتقد من الصباح إلى المساء أن زيدا في الدار وكان فيها إلى الظهر ثم خرج كان له اعتقاد واحد مستمر لا يختلف بحسب الذات ضرورة ثم إنه كان أولا علما ثم انقلب جهلا والانقلاب لا يتصور إلا في أمر عارض مع اتحاد الذات قال الأصحاب المطابقة واللامطابقة أخص صفاتهما فيلزم من الاختلاف فيه الاختلاف في الذات
الشرح
المقصد الثالث الجهل المركب عبارة عن اعتقاد جازم ثابت غير مطابق سواء كان مستندا إلى شبهة أو تقليد فليس الثبات معتبرا في الجهل المركب كما هو المشهور في الكتب وإنما سمي مركبا لأنه يعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه فهذا جهل بذلك الشيء ويعتقد أنه يعتقده على ما هو عليه فهذا جهل آخر قد تركبا معا وهو ضد للعلم لصدق حد الضدين عليهما فإنهما معنيان وموجوديان يستحيل اجتماعهما في محل واحد وبينهما غاية الخلاف أيضا
وقالت المعتزلة أي كثير منهم هو أي الجهل المركب ليس ضدا للعلم بل هو مماثل له فامتناع الاجتماع بينهما إنما هو للمماثلة لا للمضادة وإنما قالوا بالمماثلة بينهما لوجهين
الأول أن التميز بينهما ليس إلا بالنسبة إلى المتعلق وهي أي تلك
63

النسبة المميزة بينهما مطابقته أو لا مطابقته فإن العلم مطابق لمتعلقه والجهل المركب غير مطابق له والنسبة لا تدخل في حقيقة المنتسبين لأن النسبة متأخرة عن طرفيها فتكون خارجة عنهما والامتياز بالأمور الخارجية لا يوجب الاختلاف بالذات وإذ ليس بينهما اختلاف إلا بهذا الوجه لزم اشتراكهما في تمام الماهية
الوجه الثاني أن من اعتقد من الصباح إلى المساء أن زيدا في الدار وكان زيد فيها إلى الظهر ثم خرج كان له اعتقاد واحد مستمر من الصباح إلى المساء لا يختلف ذلك الاعتقاد بحسب الذات والحقيقة ضرورة ثم أنه كان أي ذلك الاعتقاد أولا علما ثم انقلب جهلا مركبا والانقلاب من شيء إلى آخر لا يتصور إلا في أمر عارض مع اتحاد الذات والحقيقة في ذينك الشيئين فيكونان متماثلين انقلب أحدهما إلى الآخر بسبب اختلاف العوارض ولا استحالة فيه بخلاف المتضادين والمتخالفين في الحقيقة فإن الانقلاب بينهما يفضي إلى انقلاب الحقائق وهو محال وأيضا قد ثبت في المثال المذكور اتحاد العلم والجهل المركب في الذات فلا يكون الاختلاف إلا بالعوارض
وقال الأصحاب في جوابهم بطريق المعارضة المطابقة واللامطابقة أخص صفاتهما أي صفات العلم والجهل المركب فيلزم من الاختلاف فيه أي في أخص الصفات الاختلاف في الذات لما مر من أن المتماثلين ما يشتركان في أخص صفات النفس
وأجاب الآمدي بعبارة أخرى وهي أن الاشتراك في الأخص المعتبر في التماثل يستلزم الاشتراك في الأعم ومن صفات العلم حصوله بالنظر الصحيح وذلك غير متصور في الجهل المركب بالاتفاق فلا يكون مثلا للعلم
قال واتفق الكل على أن اعتقاد المقلد للشيء على ما هو عليه مثل للعلم
64

المقصد الرابع
المتن
الجهل يقال للمركب وهو ما ذكرناه وللبسيط وهو عدم العلم عما من شأنه أن يكون عالما فلا يكون ضدا ويقرب منه السهو وكأنه جهل سببه عدم استثبات التصور حتى إذا نبه تنبه وكذا الغفلة ويفهم منها عدم التصور وكذلك الذهول والجهل بعد العلم يسمى نسيانا
الشرح
المقصد الرابع الجهل يقال للمركب وهو ما ذكرناه ويقال أيضا للبسيط وهو عدم العلم عما من شأنه أن يكون عالما فلا يكون ضدا للعلم بل مقابلا له مقابلة العدم للملكة ويقرب منه أي من الجهل البسيط السهو وهو كأنه جهل بسيط سببه عدم استثبات التصور أي العلم تصوريا كان أو تصديقيا فإنه إذا لم يتمكن التصور ولم يتقرر كان في معرض الزوال فيثبت مرة ويزول أخرى ويثبت بدله تصور آخر فيشتبه أحدهما بالآخر اشتباها غير مستقر حتى إذا نبه الساهي أدنى تنبيه تنبه وعاد إليه التصور الأول وكذلك الغفلة تقرب من الجهل أيضا ويفهم منها أي من الغفلة عدم التصور مع وجود ما يقتضيه وكذلك الذهول يقرب منه
قيل وسببه عدم استثبات التصور حيرة ودهشا قال الله تعالى * (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) *
فهو قسم من السهو والجهل البسيط بعد العلم يسمى نسيانا وقد
65

فرق بين السهو والنسيان بأن الأول زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة والثاني زوالها عنهما معا فيحتاج حينئذ في حصولها إلى سبب جديد
قال الآمدي إن الغفلة والذهول والنسيان عبارات مختلفة لكن يقرب أن تكون معانيها متحدة وكلها مضادة للعلم بمعنى أنه يستحيل اجتماعها معه
قال والجهل البسيط يمتنع مع العلم لذاتيهما فيكون ضدا له وإن لم تكن صفة إثبات وليس أي الجهل البسيط ضدا للجهل المركب ولا للشك ولا للظن ولا للنظر بل يجامع كلا منها لكنه يضاد النوم والغفلة والموت لأنه عدم العلم عما من شأنه أن يقوم به العلم وذلك غير متصور في حالة النوم وأخواته وأما العلم فإنه يضاد جميع هذه الأمور المذكورة
المقصد الخامس
المتن
إدراكات الحواس الخمس عند الشيخ علم بمتعلقاتها فالسمع علم بالمسموعات والأبصار علم بالمبصرات وخالفه فيه الجمهور فإنا إذا علمنا شيئا علما تاما ثم رأيناه فإنا نجد بين الحالتين فرقا ضروريا وله أن يجيب بأن ذلك الفرق لا يمنع كونه علما مخالفا لسائر العلوم إما بالنوع أو بالهوية وأيضا فإنما يصح استدلاله لو أمكن العلم بمتعلقه بطريق آخر
66

الشرح
المقصد الخامس إدراكات الحواس الخمس الظاهرة عند الشيخ الأشعري علم بمتعلقاتها فالسمع أي الإدراك بالسامعة علم بالمسموعات والإبصار أي الإدراك بالباصرة علم بالمبصرات وكذلك الحال في الإدراك باللامسة والذائقة والشامة فهذه الحواس وسائل إلى تلك العلوم الحاصلة باستعمالها كالوجدان والبديهة والنظر التي يتوسل بها إلى العلوم المستندة إليها وخالفه فيه الجمهور من المتكلمين فإنا إذا علمنا شيئا كاللون مثلا علما تاما ثم رأيناه فإنا نجد بين الحالتين فرقا ضروريا ونعلم أن الحالة الثانية مخالفة للحالة الأولى بلا شبهة ولو كان الإبصار علما بالمبصر لم يكن هناك فرق وهكذا نجد الفرق بين العلم بهذا الصوت وسماعه وبين العلم بهذا الطعم وذوقه وبين العلم بهذه الرائحة وشمها وله أي للشيخ أن يجيب بأن ذلك الفرق الوجداني لا يمنع كونه أي كون إدراك الحواس علما مخالفا لسائر العلوم المستندة إلى غير الحواس مخالفة إما بالنوع أو بالهوية فيكون العلم على الأول حقيقة جنسية مشتملة على حقائق مختلفة منها إدراك الحواس وعلى الثاني حقيقة نوعية متناولة لأفراد متخالفة بالهويات لا يقال الخلاف إنما هو في أن حقيقة إدراك الشيء بإحدى الحواس هل هي حقيقة إدراكه المسمى بالعلم اتفاقا أو لا وإذا فرض اختلافهما بالنوع صار النزاع لفظيا راجعا إلى أن لفظ العلم اسم لمطلق الإدراك أو لنوع منه لأنا نقول يكفينا في مقام المنع الاختلاف بالهوية لجواز استناد الفرق إليه وذكر الاختلاف النوعي لمزيد الاستظهار وأيضا فإنما يصح استدلاله أي استدلال الخصم أعني الجمهور لو أمكن العلم بمتعلقه أي بمتعلق الإدراك الحسي بطريق آخر غير الحس وهو باطل لأن الحس لا يتعلق إلا بالجزئيات من حيث خصوصياتها ولا سبيل إلى إدراكها من هذه الجهة سوى الحس
67

فإن قلت نحن نعلم أن في الجسم الفلاني مثلا لونا جزئيا مخصوصا علما تاما ثم ندركه بالبصر فنجد تفاوتا ضروريا فقد صح إمكان أن يتعلق العلم بطريق آخر بما تعلق به الإدراك الحسي
قلت هذا غلط نشأ من عدم الفرق بين إدراك الجزئي على وجه جزئي وبين إدراكه على وجه كلي وذلك لا يخفى على ذي مسكة
المقصد السادس
المتن
الحكماء قالوا الصور العقلية تمتاز عن الخارجية بوجوه
الأول أنها غير متمانعة في الحلول بل متفاوتة
الثاني تحل الكبيرة في محل الصغيرة
الثالث لا ينمحي الضعيف بالقوي
الرابع لا يجب زوالها وإذا زالت سهل استرجاعها
ثم ذكروا في معنى كون الإنسانية أمرا كليا أمرين
الأول اسم الإنسان لأفراده ليس باشتراط اللفظ ضرورة بل هو معنى مشترك ولا يدخل فيه المشخصات وإلا لم يكن
مشتركا فالنفس إذا استحضرت صورة الإنسانية مجردة عن المشخصات كانت مطابقة لزيد وعمرو وبكر أي كل واحد إذا جرد عن مشخصاته كانت هي بعينها الحاصل منه لا تختلف
الثاني أن المعلوم بها أمر كلي وهذا يليق بمن يرى العلم غير الصورة الذهنية وفيه نظر قد نبهتك عليه إن كان على ذكر منك حيث قلت
68

لك الصورة الذهنية هي العلم والمعلوم وإن كنت تحتاج إلى زيادة بيان فاستمع أليس إذا كان العلوم أمرا وراء ما في الذهن كان حصوله في الخارج فيكون شخصا وهو ينافي الكلية اللهم إلا أن يصار إلى أن الأمور المتصورة لها ارتسام في غير العقل وهو ينافي الوجود الذهني
الشرح
المقصد السادس فيما يتفرع على القول بثبوت الصورة العقلية الحكماء قالوا الصورة العقلية تمتاز عن الخارجية مع التساوي في نفس الماهية بوجوه
الأول إنها أي الصورة العقلية غير متمانعة في الحلول إذ يجوز حلولها معا في محل واحد بخلاف الصور الخارجية فإن المتشكل بشكل مخصوص مثلا لا يمتنع أن يتشكل بشكل آخر مع الشكل الأول وكذا المادة المتصورة بالصورة النارية يستحيل أن تتصور معها بصورة أخرى بل الصورة العقلية متفاوتة في الحلول فإن النفس إذا كانت خالية عن العلوم كان تصورها لشيء من الحقائق عسيرا جدا وإذا اتصفت ببعض العلوم زاد استعدادها للباقي وسهل انتقاشها به
الثاني تحل الكبيرة من الصور العقلية في محل الصغيرة منها معا ولذلك تقدر النفس على تخيل السماوات والأرض والجبال والأمور الصغيرة بالمرة معا بخلاف الصور المادية فإن العظيمة منها لا تحل في محل الصغيرة مجتمعة معها
الثالث لا ينمحي الضعيف بالقوي يعني أن الصورة العقلية للكيفية الضعيفة لا تزول عن القوة المدركة بسبب حصول صورة الكيفية القوية فيها
69

بخلاف الخارجية فإن الكيفية الضعيفة منها تنمحي عن المادة عند حصول الكيفية القوية فيها
الرابع الصور العقلية إذا حصلت في العاقلة لا يجب زوالها وإذا زالت سهل استرجاعها من غير حاجة إلى تجشم كسب جديد بخلاف الصورة الخارجية فإنها واجبة الزوال عن المادة العنصرية لاستحالة بقاء قواها أبدا وإذا زالت احتيج في استرجاعها إلى مثل السبب الأول ومن الفرق بينهما أن الصورة الخارجية قد تكون محسوسة بالحواس الظاهرة بخلاف الصور العقلية ومنها أن الصور العقلية كلية بخلاف الخارجية ثم إنهم ذكروا في معنى كون صورة الإنسانية المعقولة أمرا كليا أمرين
الأول اسم الإنسان مثلا لأفراده ليس باشتراك اللفظ ضرورة مثل اشتراك لفظ العين بين معانيه التي وضعها لفظه بإزاء كل منها على حدة بل هو أي مدلول اسم الإنسان معنى مشترك بين أفراده وإطلاقه عليها باعتبار ذلك المعنى وهذا هو الذي يسمى اشتراكا معنويا ولا يدخل فيه أي في ذلك المعنى المشترك المشخصات التي يمتاز بها أفراد بعضها عن بعض وإلا لم يكن ذلك المعنى مشتركا بين جميع أفراده بل المشخصات كلها خارجة عنه فالنفس الناطقة إذا استحضرت صورة الإنسانية أي صورة ذلك المعنى المشترك مجردة عن المشخصات التي هي عوارض غريبة ولواحق خارجية كانت تلك الصورة كلية على معنى أنها تكون مطابقة لزيد وعمرو وبكر إلى سائر أفراده والمراد بالمطابقة ما فسره بقوله أي كل واحد من تلك الأفراد إذا حضر في الخيال وجرد عن مشخصاته كانت تلك الصورة أعني صورة المعنى المشترك هي بعينها الأثر الحاصل منه أي من ذلك الواحد الذي جرد عن مشخصاته لا تختلف تلك الصورة باختلاف الأفراد التي تجرد عن المشخصات حتى إذا سبق واحد منها إلى النفس فتأثرت منه بذلك الأثر المجرد عن العوارض لم يكن لما عداه من الأفراد إذا حضر عندها تأثير آخر وإذا كان هذا المتأخر سابقا انعكس الحال بينهما ولو كان الحاضر من غير أفراده كفرس مثلا لكان
70

الأثر الحاصل في القوة العاقلة بالتجريد عن المشخصات صورة أخرى سوى صورة الإنسان فهذا معنى كون الصورة العقلية كلية مشتركة بين كثيرين
فإن قلت لا شك أن الصورة العقلية الإنسانية الحالة في القوة العاقلة صورة جزئية معروضة لعوارض ذهنية باعتبار حلولها في نفس جزئية ولذلك امتازت عن الصورة الإنسانية الحالة في نفس أخرى فكيف تكون كلية مع كونها جزئية أيضا
قلت لا منافاة لأن كليتها باعتبار أنها إذا أخذت في نفسها لا مع عوارضها الذهنية طابقت الأمور الكثيرة كما مر ومن ثمة زيد في المطابقة شيء آخر وهو أن تلك الصورة المأخوذة من الحيثية المذكورة إذا فرضت في الخارج متشخصة بتشخص فرد من أفرادها كانت عين ذلك الفرد ومن البين أن كليتها بهذا المعنى لا تنافي جزئيتها من حيث إنها محفوفة بمشخصات ذهنية عارضة لها بواسطة محلها
لا يقال كما أن الصورة العقلية تطابق أفرادها الخارجية كذلك كل واحد منها يطابقها لأن المطابقة لا تتصور إلا بين بين فيلزم أن يكون كل فرد مطابقا لسائر الأفراد أيضا ضرورة اشتراكها في مطابقة أمر واحد فيكون كل فرد كليا بالمعنى الذي ذكرتموه لأنا نقول ليست الكلية عبارة عن المطابقة مطلقا بل عن مطابقة ذات مثالية غير متأصلة في الوجود لما هي ظل لها واعلم أن ما ذكر في تصوير المطابقة التي هي معنى الكلية إنما يظهر في الكليات التي هي أنواع حقيقية فإذا أريد أجزاؤه في سائر الكليات قيست إلى حصصها التي هي أفرادها الاعتبارية فإنها أنواع حقيقية بالقياس
71

إليها أو جعل ما عدا المعنى المشترك بين أفرادها بمنزلة المشخصات في التجريد عنها
الثاني من الأمرين اللذين ذكروهما في معنى الكلية أن المعلوم بها أي بالصورة العقلية أمر كلي فإذا وصف الصورة بالكلية كان مجازا على معنى أنها صورة كلي ما علم بها وهذا الأمر الثاني لا يليق بمن يرى العلم غير الصورة الذهنية المساوية في الماهية للمعلومات بل يراه أنه صور ذهنية مخالفة لها في الماهية وتوضيح الكلام أن القائلين بالصور فرقتان
فرقة تدعي أن تلك الصور مساوية في الماهية للأمور المعلومة بها بل الصور هي ماهيات المعلومات من حيث أنها حاصلة في النفس فيكون العلم والمعلوم متحدين بالذات مختلفين بالاعتبار كما مر وعلى قول هؤلاء يكون للأشياء وجودان وجود خارجي ووجود ذهني وتكون الكلية عارضة للصور العقلية حقيقة لأنها ماهيات المعلومات المحمولة على أفرادها
وفرقة تزعم أن الصور العقلية مثل وأشباح للأمور المعلومة بها مخالفة لها في الماهية وعلى قولهم لا يكون للأشياء وجود ذهني بحسب الحقيقة بل بحسب المجاز والتأويل كأن يقال مثلا النار موجودة في الذهن ويراد أنه يوجد فيه شبح له نسبة مخصوصة إلى ماهية النار بسببها كان ذلك الشبح علما بالنار لا بغيرها من الماهيات وكأنا قد أشرنا إلى ذلك فيما سبق وكذا على قولهم لا تكون الكلية عارضة للصور العقلية حقيقة لأن تلك المثل والأشباح ليست محمولة على أفراد المعلومات بتلك الصور بل المحمول عليها ماهيتها المعلومة بها فأشار المصنف إلى أن القول بأن الصورة العقلية ليست كلية إنما الكلي هو المعلوم بها يليق بمذهب هؤلاء
72

لا بمذهب الفرقة الأولى إذ المعلوم والعلم عندهم متحدان ذاتا فقوله يرى العلم غير الصور الذهنية أراد به ما ذكرناه من أنه يرى العلم غير الصور الذهنية المساوية للمعلومات في الماهية بل يراه صورا ذهنية مخالفة في الماهية لما علم بها فمحصول كلامه يليق بمن يرى المعلوم غير الصور الذهنية ولو صرح بهذه العبارة لانتظم أول الكلام مع آخره الذي سيأتي بلا حاجة إلى تأويل كما يشهد به كل فطرة سليمة
قال المصنف وفيه أي في الأمر الثاني المبني على رأي الفرقة الثانية نظر قد نبهتك عليه إن كان على ذكر منك حيث قلت لك في المقصد الأول من هذا النوع الذي نحن فيه الصورة الذهنية هي العلم والمعلوم وذلك لأنا نعقل ما هو نفي محض وعدم صرف في الخارج ولا شك أنا إذا علمناه حصل بيننا وبينه تعلق وإضافة مخصوصة ولا يتصور تحقق النسبة إلا بين شيئين متمايزين ولا تمايز إلا مع ثبوت كل من المتمايزين في الجملة وإذ ليس المعلوم ههنا في الخارج فهو في الذهن فالصورة الذهنية هي ماهية المعلوم فقد اتحد العلم والمعلوم الذات ووجب أن يكون المتصف بالكلية هي الصورة العقلية وبطل ما قيل من أن المتصف بالكلية ليس هو الصورة بل المعلوم بها وإن كنت تحتاج ههنا إلى زيادة بيان فاستمع لما يتلى عليك أليس إذا كان المعلوم مغايرا للعلم وأمرا وراء ما في الذهن كان حصوله أي حصول المعلوم وثبوته في الخارج لأنه لا بد من ثبوته في الجملة ليتصور تحقق النسبة بينه وبين العالم وإذ ليس ثبوته في
الذهن كان في الخارج قطعا فيكون شخصا أي موجودا في الخارج متعينا في حد نفسه متأصلا في الوجود وهو ينافي الكلية فإذا كان المعلوم مغايرا للعلم لم يتصف بالكلية أصلا وإذا اتحدا كانت الصورة العقلية متصفة بالكلية فلا يصح نفي الكلية عن الصور وإثباتها للمعلوم بها
73

اللهم إلا أن يصار إلى أن الأمور المتصورة لها ارتسام في غير العقل الإنساني من القوى العاقلة ارتساما عقليا ظليا لا كارتسام الأعراض في محالها بحسب الوجود الخارجي وإلا كانت تلك الأمور المتصورة أشخاصا عينية يستحيل اتصافها بالكلية وهو أي الارتسام في غير العقل ينافي الوجود الذهني في النفس الناطقة الإنسانية لابتنائه على أن لا يكون لما تصورته النفس الناطقة ثبوت في غيرها لا أصيليا ولا ظليا وهو أعني نفي الوجود الذهني خلاف مذهبهم على أنا نقول المرتسم في سائر القوى العاقلة يجب أن يكون نفس ماهيات المعلومات حتى تصدق الأحكام الإيجابية الجارية عليها وتتحقق النسبة بينها وبين العالم بها وإذ لم يمكن ارتسامها فيها عينيا كان ارتسامها علميا ويتحد العلم والمعلوم هناك وتكون المعلومات متصفة بالكلية حال اتحادها بالعلم وهو المطلوب هكذا حقق المقال على هذا النسق وذر الذين لا يعلمون في خوضهم يلعبون
المقصد السابع
المتن
العلم ينقسم إلى تفصيلي وهو أن ينظر إلى أجزائه ومراتبه وإلى إجمالي كمن يعلم مسألة فيسأل عنها فإنه يحضر الجواب في ذهنه دفعة وهو متصور للجواب عالم بأنه قادر عليه ثم يأخذ في تقريره فيلاحظ تفصيله ففي ذهنه أمر بسيط هو مبدأ التفاصيل والتفرقة بين تلك الحالة وبين حالة الجهل وملاحظة التفصيل ضرورية وشبه ذلك بمن يرى نعما تارة دفعة فإنه يرى جميع أجزائه ضرورية وتارة بأن يحدق البصر نحو واحد واحد فيميزه
74

قال الإمام الرازي يمتنع حصول صورة واحدة مطابقة لأمور مختلفة بل لكل واحدة صورة ولا معنى للعلم التفصيلي إلا ذلك نعم إنه قد تحصل الصور تارة دفعة وتارة مترتبة في الزمان فإن أرادوا ذلك فلا نزاع فيه فرعان
الأول العلم الإجمالي هل يثبت لله تعالى أم لا جوزه القاضي والمعتزلة ومنعه كثير من أصحابنا وأبو هاشم والحق أن إن اشترط فيه الجهل بالتفصيل امتنع عليه تعالى وإلا فلا
فإن قيل فينتفي حينئذ عنه تعالى علم حاصل للمخلوق قلنا نعم وهو العلم المقرون بالجهل
وبالجملة فالمنفي عنه تعالى هو القيد أعني كونه مع الجهل وأنه لا يوجب في أصل العلم
الثاني المشهور أن الشيء قد يكون معلوما من وجه دون وجه
قال القاضي المعلوم غير المجهول ضرورة فمتعلق العلم والجهل شيئان وإن كان أحدهما عارضا للآخر أو هما عارضان لثالث أو بينهما تعلق آخر أي تعلق كان والتسمية مجاز ولا مشاحة فيه
الشرح
المقصد السابع العلم ينقسم إلى تفصيلي وهو أن ينظر إلى أجزائه ومراتبه أي أجزاء المعلوم ومراتبه بحسب أجزائه بأن يلاحظها واحدا بعد واحد وإلى إجمالي كمن يعلم مسألة فيسأل عنها فإنه يحضر الجواب الذي هو تلك المسألة بأسرها في ذهنه دفعة واحدة وهو أي ذلك الشخص المسؤول متصور في ذلك الزمان للجواب لأنه عالم حينئذ بأنه قادر عليه ولا شك أن علمه باقتداره على الجواب يتضمن علمه بحقيقة ذلك الجواب لأن العلم بالإضافة متوقف على العلم بكلا طرفيها ثم
75

يأخذ في تقريره أي تقرير الجواب فيلاحظ تفصيله بملاحظة أجزائه واحدا بعد واحد ففي ذهنه حال ما سئل أمر بسيط وهو مبدأ التفاصيل الحاصلة في ثاني الحال والتفرقة بين تلك الحالة الحاصلة دفعة عقيب السؤال وبين حالة الجهل الثابتة قبل السؤال وملاحظة التفصيل المتفرعة على التقرير ضرورية وجدانية إذ في حالة الجهل المسماة عقلا بالفعل ليس إدراك الجواب حاصلا بالفعل بل النفس في تلك الحالة تقوى على استحضاره وتفصيله بلا تجشم كسب جديد فهناك قوة محضة وفي الحالة الحاصلة عقيب السؤال قد حصل بالفعل شعور وعلم ما بالجواب لم يكن حاصلا قبله وفي الحالة التفصيلية صارت الأجزاء ملحوظة قصدا ولم يكن ذلك حاصلا في شيء من الحالتين السابقتين وشبه ذلك بمن يرى نعما كثيرا تارة دفعة فإنه يرى في هذه الحالة جميع أجزائه أي أجزاء ذلك النعم ضرورة وتارة بأن يحدق البصر نحو واحد واحد فيميزه أي النعم ويفصل أجزاءه بعضها عن بعض فالرؤية الأولى رؤية إجمالية والثانية رؤية تفصيلية والفرق بينهما معلوم بالوجدان فقس حالة البصيرة بالنسبة إلى مدركاتها على حال البصر بالقياس إلى مدركاته في ثبوت مثل هاتين الحالتين فيها أيضا قال الإمام الرازي في إنكار العلم الإجمالي يمتنع حصول صورة واحدة مطابقة لأمور مختلفة لأن الصورة الواحدة لو طابقت أمورا مختلفة لكانت مساوية في الماهية لتلك الأمور المختلفة فيكون لتلك الصورة حقائق مختلفة فلا تكون صورة واحدة بل يجب أن يكون لكل واحد من الأمور المتكثرة صورة على حدة ولا معنى للعلم التفصيلي إلا ذلك أعني أن يكون للعلومات المتكثرة صورة متعددة بحسبها فينكشف كل معلوم منها
76

بصورته ويمتاز عما عداه نعم إنه قد تحصل الصور المتعددة لأمور متكثرة كأجزاء المركب تارة دفعة كما إذا تصور حقيقة المركب من حيث هو وتارة مترتبة في الزمان كما إذا تصور أجزاءه واحدا بعد واحد فإن أرادوا بما ذكروه من العلم الإجمالي والتفصيلي ذلك الذي ذكرناه من حصول الصورة تارة دفعة وأخرى مترتبة فلا نزاع فيه إلا أن الإجمالي بهذا المعنى لا يكون حالة متوسطة بين القوة المحضة التي هي حالة الجهل وبين العقل المحض الذي هو حالة التفصيل لأن حاصله راجع إلى أن العلوم قد تجتمع في زمان واحد وقد لا تجتمع بل تتعاقب وبذلك لا يختلف حال العلم بالقياس إلى المعلوم فكلتا الحالتين علم تفصيلي بحسب الحقيقة والخلاف في التسمية باعتبار الاجتماع العارض للمعلوم لا باعتبار اختلافها مقيسة إلى المعلومات
قال وأما ما قالوه من أنه عقيب السؤال عالم بالجواب إجمالا لا تفصيلا لترتبه على التقرير فمردود بأن ذلك الجواب حقيقة وماهية وله لازم وهو أنه شيء يصلح جوابا لذلك السؤال والمعلوم عقيب السؤال هو ذلكم اللازم وهو معلوم بالتفصيل وأما الحقيقة فهي مجهولة في تلك الحالة ونظير ذلك أنا إذا عرفنا النفس من حيث أنها شيء يحرك البدن فإن لازمها أعني كونها محركة معلومة تفصيلا وحقيقتها مجهولة إلى أن تعرف بطريق آخر فبطل ما قالوه وظهر أيضا أن العلم الواحد لا يكون علما بمعلومات كثيرة أقول ومن إنكاره العلم الإجمالي نشأ إنكاره للاكتساب في التصورات
والجواب أنه إذا علم المركب بحقيقته حصل في الذهن صورة واحدة مركبة من صور متعددة بحسب تلك الأجزاء والعقل حينئذ متوجه
77

قصدا إلى ذلك المركب دون أجزائه فإنها مع حصول صورها في العقل كالمخزون المعرض عنه الذي لا يلتفت إليه فإذا توجه العقل إليها وفصلها صارت مخطرة بالبال ملحوظة قصدا منكشفة بعضها عن بعض انكشافا تاما لم يكن ذلك الانكشاف حاصلا في الحالة الأولى مع حصول صور الأجزاء في الحالتين معا فظهر أنه قد يتفاوت حال العلم بالقياس إلى المعلوم وأنه إذا كان المركب معلوما بحقيقته قصدا كان أجزاؤه معلومة حينئذ بلا قصد وإخطار وإذا فصلت الأجزاء كان العلم بها على وجه أقوى وأكمل من الوجه الأول فللعلم بالقياس إلى معلومه مرتبتان إحدهما إجمالية والأخرى تفصيلية كما ذكروه وقوله المعلوم عقيب السؤال عارض من عوارض الجواب
قلنا الكلام فيما إذا كان المركب حاصلا في الذهن بحقيقته لا باعتبار عارض من عوارضه فإن ذلك ليس علما بأجزائه لا تفصيلا ولا إجمالا وأما قوله العلم الواحد لا يكون علما بمعلومات كثيرة فجوابه أنا إذا قلنا كل شيء فهو ممكن بالإمكان العام فلا شك أنا حكمنا على جميع أفراد الشيء فلا بد أن تكون معلومة لنا ولا علم بها في هذه الحالة إلا باعتبار مفهوم الشيء الشامل لها بأسرها فإن العقل جعل هذا المفهوم آلة لملاحظة تلك الأفراد حتى أمكنه الحكم عليها وتلخيصه أن المفهوم الكلي قد يلاحظ في نفسه وبهذه الملاحظة يمكن الحكم عليه لا على أفراده وقد يجعل آلة ومرآة لملاحظة أفراده فيصح حينئذ أن يحكم على تلك الأفراد دونه ولتكن هذه المعاني التي قررناها مضبوطة عندك فإنها تنفعك في مواضع عديدة
فرعان
الأول العلم الإجمالي على تقدير جواز ثبوته في نفسه هل يثبت الله تعالى أم لا جوزه القاضي والمعتزلة ومنعه كثير من أصحابنا وأبو هاشم
78

والحق أنه إن اشترط فيه أي في العلم الإجمالي الجهل بالتفصيل امتنع عليه تعالى وإلا فلا يمتنع فإن قيل فينتفي حينئذ
عنه تعالى علم حاصل للمخلوق وهو العلم الإجمالي قلنا نعم وهو أي ذلك العلم المنتفى عنه تعالى هو العلم المقرون بالجهل وهذا القيد يجب انتفاؤه عنه تعالى
وبالجملة فالمنفي عنه تعالى هو القيد أعني كونه مع الجهل وأنه لا يوجب نفي أصل العلم بل هو ثابت له مجردا عن ذلك القيد الذي يستحيل عليه تعالى
الفرع الثاني المشهور أن الشيء الواحد قد يكون معلوما من وجه دون وجه قال القاضي الباقلاني المعلوم غير المجهول ضرورة فمتعلق العلم والجهل شيئان متغايران قطعا وإن كان أحدهما عارضا للآخر كما إذا علم باعتبار ضحكه وجهل باعتبار كتابته أو بينهما تعلق آخر سوى تعلق العروض على أحد الوجهين أي تعلق كان من التعلقات كالجزئية والكلية والاتصال والمجاورة فإن هذه التعلقات لا تقتضي اتحاد المعلوم والمجهول بل تغايرهما والتسمية مجاز يعني أنه إذا كان المعلوم عارضا للمجهول أو كانا عارضين لثالث أو كان بينهما تعلق بوجه آخر وأطلق على هذه الصور أنها من قبيل كون الشيء الواحد معلوما من وجهه ومجهولا من وجه آخر كان هذا الإطلاق من باب التجوز ولا مشاحة ولا منازعة فيه أي في الإطلاق مجازا فإن بابه مفتوح ولا يشتبه عليك بما أسلفناه لك أن عارض الشيء قد يلاحظ في نفسه فيكون العارض معلوما مع كون حقيقة الشيء مجهولة فيتغاير المعلوم والمجهول وقد يجعل آلة لملاحظة الشيء وحينئذ يكون ذلك الشيء معلوما باعتبار عارضه ومجهولا باعتبار حقيقته
79

فيتحد المعلوم والمجهول لكنه معلوم من حيثية ومجهول من حيثية أخرى ولا استحالة فيه وبمثل هذا الذي ذكره القاضي استدل الإمام الرازي على نفي العلم الإجمالي في المحصل فقال المعلوم على سبيل الجملة معلوم من وجه ومجهول من وجه والوجهان متغايران والوجه المعلوم لا إجمال فيه والوجه المجهول غير معلوم البتة لكن لما اجتمعا في شيء واحد ظن أن العلم الجملي نوع يغاير العلم التفصيلي
والجواب أن الإجمال والتفصيل ليس حالهما على ما توهمه بل المعلوم فيهما واحد والمختلف هو العلم المتعلق بذلك المعلوم فتارة يكون ذلك العلم في نفسه على وجه وأخرى على وجه آخر كما تحققته فليس الإجمال بأن يكون الشيء معلوما من وجه ومجهولا من آخر وإذا قلنا هذا الشيء معلوم من حيث الإجمال دون التفصيل كانت الحيثيتان راجعتين إلى العلم دون المعلوم وبما قررناه يتضح أن الفرع الثاني أيضا فرع على ثبوت العلم الإجمالي كأنه قيل هل هو من قبيل العلم بالشيء من وجه دون وجه أو لا
المقصد الثامن
المتن
قال بعض المتكلمين الشيء قد يعلم بالفعل وقد يعلم بالقوة كما إذا كان في يد زيد اثنان فسألنا أزوج هو أو فرد فإنا نعلم أن كل اثنين زوج وهذا اثنان فنعلم أنه زوج بالقوة القريبة وإن لم نكن نعلم أنه بعينه زوج وكذلك جميع الجزئيات المندرجة تحت الكليات قبل أن يتنبه للاندراج فالنتيجة حاصلة في أحدى المقدمتين بالقوة
الشرح
المقصد الثامن قال بعض المتكلمين الشيء قد يعلم بالفعل وهو ظاهر وقد يعلم بالقوة كما إذا كان في يد زيد اثنان فسألنا أزوج هو أي
80

ما في يده أو فرد فإنا نعلم في هذه الحالة أن كل اثنين زوج وهذا الذي في يده اثنان في الواقع فيكون مندرجا فيما علمناه فنعلم في هذه الحالة أنه زوج علما بالقوة القريبة من الفعل وإن لم نكن نعلم أنه بعينه زوج وكذلك جميع الجزئيات من الأحكام المندرجة تحت الكليات منها فإنها معلومة بالقوة قبل أن نتنبه للاندراج وأما بعد التنبه له فإنها تكون معلومة بالفعل فالنتيجة في الشكل الأول حاصلة في إحدى المقدمتين أعني كبراه حصولا بالقوة ولا شك أن كل مقدمة كلية صالحة لأن تجعل كبرى للشكل الأول حتى يستخرج الأحكام الجزئية المندرجة فيها من القوة إلى الفعل ولذلك سميت تلك المقدمة أصلا وقاعدة وقانونا وتلك الأحكام الجزئية فروعا لها
المقصد التاسع
المتن
العلم إما فعلي كما نتصور امرا ثم نوجده وإما انفعالي كما يوجد أمر ثم نتصوره فالفعلي قبل الكثرة والانفعالي بعدها قال الحكماء علم الله تعالى فعلي لأنه السبب لوجود الممكنات
الشرح
المقصد التاسع العلم إما فعلي وهو أن يكون سببا للوجود الخارجي كما نتصور أمرا مثل السرير مثلا ثم نوجده وإما انفعالي مستفاد من الوجود الخارجي كما يوجد أمر في الخارج مثل الأرض والسماء ثم نتصوره فالفعلي ثابت قبل الكثرة والانفعالي بعدها أي العلم الفعلي كلي
81

يتفرع عليه الكثرة وهي أفراده الخارجية والعلم الانفعالي كلي يتفرع على الكثرة وهي أفراده الخارجية التي استفيد هو منها وقد يقال إن لنا كليا مع الكثرة لكنه ليس من قبيل العلم أو مبني على وجود الطبائع الكلية في ضمن الجزئيات الخارجية قال الحكماء علم الله تعالى بمصنوعاته علم فعلي لأنه السبب لوجود الممكنات في الخارج لكن كون علمه سببا لوجودها لا يتوقف على الآلات والأدوات بخلاف علمنا بأفعالنا ولذلك يتخلف صدور معلومنا عن علمنا وقالوا إن علمه تعالى بأحوال الممكنات على أبلغ النظام وأحسن الوجوه بالقياس إلى الكل من حيث هو كل هو الذي استند إليه وجودها على هذا الوجه دون سائر الوجوه الممكنة وهذا العلم يسمى عندهم بالعناية الأزلية وأما علمه تعالى بذاته فليس فعليا ولا انفعاليا أيضا بل هو عين ذاته بالذات وإن كان مغايرا له بالاعتبار كما سيرد عليك إن شاء الله تعالى
المقصد العاشر
المتن
قالوا مراتب العقل أربع
الأولى العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض وهو قوة خيالية عن الفعل كما للأطفال
82

الثانية العقل بالملكة وهو العلم بالضروريات وإنه حادث فله شرط حادث وما هو إلا الإحساس بالجزئيات ولا نزيد بذلك العلم بجميع الضروريات فإن الضروريات قد تفقد لفقد شرط للتصور كحس ووجدان كالأكمه والعنين لا يتصوران ماهية اللون ولذة الجماع أو للتصديق كأحدهما في القضايا الحسية أو الوجدانية وكتصور الطرفين والنسبة في البديهيات
الثالثة العقل بالفعل وهو ملكة استنباط النظريات من الضروريات بحيث متى شاء استحضر الضروريات واستنتج منها النظريات
وقيل بل حصول النظريات بحيث يستحضرها متى شاء بلا روية
الرابعة العقل المستفاد وهو أن يحضر عنده النظريات بحيث لا تغيب عنه وهل يمكن ذلك والإنسان في جلباب من بدنه أم لا فيه تردد
الشرح
المقصد العاشر قالوا أي الحكماء مراتب العقل أي التعقل للنفس الناطقة الإنسانية أربع
الأولى العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات وهو قوة محضة خالية عن الفعل كما للأطفال فإن لهم في حال الطفولية وابتداء الخلقة استعدادا محضا ليس معه إدراك وليس هذا الاستعداد حاصلا لسائر الحيوانات وإنما نسب إلى الهيولى لأن النفس في هذه المرتبة تشبه الهيولى الأولى الخالية في حد ذاتها عن الصور كلها
المرتبة الثانية العقل بالملكة وهو العلم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات منها وأنه أي العلم بالضروريات حادث
83

بعد ابتداء الفطرة فله شرط حادث بالضرورة دفعا للترجيح بلا مرجح في اختصاصه بزمان معين وما هو أي ذلك الشرط الحادث إلا الإحساس بالجزئيات والتنبه لما بينها من المشاركات والمباينات فإن النفس إذا أحست بجزئيات كثيرة وارتسمت صورها في آلاتها الجسمانية ولاحظت نسبة بعضها إلى بعض استعدت لأن يفيض عليها من المبدأ صور كلية وأحكام تصديقية فيما بينها فهذه علوم ضرورية ولا نريد بذلك أي بالعلم بالضروريات العلم بجميع الضروريات فإن الضروريات قد تفقد إما لفقد شرط للتصور كحس ووجدان كالأكمه الفاقد للعين في أصل الخلقة والعنين الفاقد لقوة المجامعة لا يتصوران ماهية اللون التي يتوصل إلى إدراكها كإبصار جزئياتها و ماهية لذة الجماع
التي يتوصل إلى إدراكها بوجدان جزئياتها أو لفقد شرط للتصديق كأحدهما أي الحس والوجدان في القضايا الحسية فإن فاقد حس من الحواس فاقد للقضايا المستندة إلى ذلك الحس أو القضايا الوجدانية فإن فاقد الوجدان فاقد لها قطعا وكتصور الطرفين هذا عطف على قوله كأحدهما فإن تصور الطرفين والنسبة شرط في البديهيات أي الأوليات التي هي أقوى الضروريات وأقلها شرطا فإذا فقد هذا الشرط فقدت القضايا البديهية فضلا عما عداها من الضروريات المتوقفة على شروط أخر أيضا
المرتبة الثالثة العقل بالفعل وهو ملكة استنباط النظريات من الضروريات أي صيرورة الشخص بحيث متى شاء استحضر الضروريات ولاحظها واستنتج منها النظريات ولا شك أن هذه الحالة إنما تحصل له إذا صار طريقة الاستنباط ملكة راسخة فيه وقيل ليس العقل بالفعل ما ذكر بل هو ما اشتهر من أنه حصول النظريات وصيرورتها بعد استنتاجها من
84

الضروريات بحيث يستحضرها متى شاء بلا روية وتجشم كسب جديد وذلك إنما يحصل إذا لاحظ النظريات الحاصلة مرة بعد أخرى حتى يحصل له ملكة نفسانية يقوى بها على استحضارها متى أراد من غير حاجة إلى فكر
المرتبة الرابعة العقل المستفاد وهو أن يحضر عنده النظريات التي أدركها بحيث لا تغيب عنه وهل يمكن ذلك أي حضورها بأسرها مشاهدة للقوة العاقلة الإنسانية والإنسان في جلباب من بدنه أم لا يمكن فيه تردد إذ يجوز عند العقل أن يتجرد بعض النفوس الكاملة عن العلائق البدينة تجردا تاما بحيث تشاهد معقولاتها دفعة واحدة كأنها لمعة برق ثم تترقى عن هذه الحالة إلى مشاهدة بعد مشاهدة وهكذا حتى تصير المشاهدة ملكة راسخة فيه وإن كان رسوخها مستبعدا أكثر من استبعاد كونها بروقا لامعة والظاهر أن استمرار المشاهدة إنما يكون في الدار الآخرة واعلم أن تفسير العقل المستفاد بما ذكره ليس بمشهور والمسطور في مشاهير الكتب أن هذه المراتب الأربع تعتبر بالقياس إلى كل نظري على حدة والعقل المستفاد بالنسبة إلى نظري واحد هو أن يصير مشاهدا للقوة العاقلة ولا شبهة في وقوعه في هذه الحياة الدنيا ولا في تقدمه على العقل بالفعل بالمعنى الثاني في الحدوث وإن كان متأخرا عنه في البقاء كما أشرنا إليه في صدر الكتاب ثم أن الكمال من هذه المراتب هو العقل المستفاد وباقي المراتب وسائل إلى ذلك الكمال واستعدادات له متفاوتة فالهيولاني استعداد بعيد وما بالملكة استعداد متوسط وكلاهما وسيلتان إلى تحصيل الكمال ابتداء والعقل بالفعل بالمعنى المشهور استعداد قريب جدا وهو وسيلة إلى استحضار الكمال واسترداده بعد غيبته وزواله فإن الإنسان لكونه مملوا بشواغل بدنه لا يتأتى له استبقاء ذلك الكمال بعد حصوله فلا بد له من استعداد يتوصل به
85

إلى استدامته بطريق الاسترجاع ومن ثمة جاز تأخر هذا الاستعداد عن حصول الكمال أو لا
المقصد الحادي عشر
المتن
العقل مناط التكليف إجماعا وإنه يطلق على معان فقال الشيخ هو العلم ببعض الضروريات التي سميناها العقل بالملكة واحتج عليه بأنه ليس غير العلم وإلا جاز تصور انفكاكهما وهو محال إذ يمتنع عاقل لا علم له أصلا أو عالم لا عقل له وليس العلم بالنظريات لأنه مشروط بكمال العقل فيكون متأخرا عن العقل بمرتبتين فلا يكون نفسه فهو العلم بالضروريات وليس علما بكلها فإن العاقل قد يفقد بعضها كما ذكرنا فهو العلم ببعضها وهو المطلوب
وجوابه أنا لا نسلم أنه لو كان غير العلم جاز الانفكاك لجواز تلازمهما
قال الإمام الرازي والظاهر أنه غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات والنائم لم يزل عقله وإن لم يكن عالما
الشرح
المقصد الحادي عشر العقل مناط التكليف إجماعا من أهل الملة
86

وأنه أي لفظ العقل يطلق على معان فلذلك اختلف في تفسير العقل الذي هو مناط التكليف فقال الشيخ أبو الحسن الأشعري هو العلم ببعض الضروريات التي سميناها أي سمينا العلم بذلك البعض العقل بالملكة وإنما أنث البعض نظرا إلى المضاف إليه والأظهر أن يقال الذي سميناه على أنه صفة للعلم وقال القاضي هو العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات ومجاري العادات ولا يبعد أن يكون هذا تفسيرا لكلام الأشعري وزادت المعتزلة في العلوم التي يفسر بها العقل العلم بحسن الحسن وقبح القبيح لأنهم يعدونه من البديهيات بناء على أصلهم واحتج الشيخ عليه أي على ما ذكره بأنه أي العقل ليس غير العلم وإلا جاز تصور انفكاكها إما من الجانبين أو من أحدهما وهو محال إذ يمتنع عاقل لا علم له أصلا أو عالم لا عقل له أصلا فثبت أن العقل هو العلم وليس العقل العلم بالنظريات لأنه أي العلم بالنظريات مشروط بكمال العقل وكمال العقل مشروط بالعقل
فيكون العلم بالنظريات متأخرا عن العقل بمرتبتين فلا يكون نفسه فهو أي العقل هو العلم بالضروريات وليس العقل علما بكلها أي بكل الضروريات فإن العقل قد يفقد بعضها كما ذكرنا في المقصد العاشر من أن الضروريات قد تفقد لفقد شرط من شرائطها فهو العلم ببعضها وهو المطلوب وجوابه أنا لا نسلم أنه لو كان العقل غير العلم جاز الانفكاك بينهما لجواز تلازمهما فإن المتغايرين قد يتلازمان بحيث يمتنع الانفكاك
87

بينهما مطلقا كالجوهر والحصول في الحيز فإنهما متغايران ولا محال للانفكاك بينهما
قال الإمام الرازي والظاهر أنه أي العقل غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات والنائم لم يزل عقله وإن لم يكن عالما في حالة النوم بشيء من الضروريات لاختلاف وقع في الآلات وكذا الحال في اليقظان الذي يستحضر شيئا من العلوم الضرورية لدهشة وردت عليه فظهر أن العقل ليس عبارة عن العلم بالضروريات لا كلها ولا بعضها ولا شك أن العاقل إذا كان سالما عن الآفات المتعلقة بالآلات كان مدركا لبعض الضروريات قطعا فالعقل صفة غريزية تتبعها تلك العلوم وقد اتضح بما ذكر من حال النائم أن العلم قد ينفعك عن العقل فلا يتم نفي التالي في دليل الشيخ كما لم تتم الملازمة أيضا
المقصد الثاني عشر
المتن
كل علمين تعلقا بمعلومين فهما مختلفان تماثلا أو اختلفا وإلا لم يجتمعا وأما المتعلقان بمعلوم واحد فمثلان عند الأصحاب
قال الآمدي إن اتحد المعلوم ووقته وأما إذا اختلف فقد يقال مثلان إذ اختلاف الوقت لا يؤثر كما في الجوهر والفرق ظاهر فإن الوقت ههنا داخل في متعلق العلم وثمة عارض للجوهر وإنما نظير ذلك العلم في وقتين لا العلم بمعلوم مقيد بوقتين وأما إذا اختلف محل العلم كزيد وعمرو فإن قلنا كل من العلمين يقتضي الاختصاص بمحله لذاته فهما مختلفان وإلا فمثلان وسيأتي لذلك زيادة بيان
الشرح
المقصد الثاني عشر كل علمين تعلقا بمعلومين فهما أي ذانك العلمان مختلفان عند الأصحاب سوى والد الإمام الرازي سواء
88

تماثلا أي المعلومان كالبياضين أو اختلفا كالبياض والسواد وإلا أي وإن لم يكن العلمان المذكوران مختلفين بل كانا متماثلين لم يجتمعا لأن المثلين لا يجتمعان كالمتضادين وأما العلمان المتعلقان بمعلوم واحد فمثلان عند الأصحاب ومن ثمة امتنع اجتماعهما وسد أحدهما مسد الآخر
قال الآمدي هذا الذي ذكروه من تماثل العلمين حق بلا اشتباه إن اتحد المعلوم ووقته أيضا فإن كلا من العلمين حينئذ متعلق بعين ما تعلق به الآخر فكل منهما يقوم مقام صاحبه ولا يجامعه وأما إذا اختلف الوقت وحده مع اتحاد ذات المعلوم فقد يقال العلمان المتعلقان به في ذينك الوقتين مثلان إذ اختلاف الوقت لا يؤثر في اختلاف العلمين كما لا يؤثر اختلاف الوقت في اختلاف الجوهر فإن الجوهر لا يختلف بسبب كونه في وقتين مختلفين
قال الآمدي والفرق ظاهر فإن الوقت ههنا أي فيما نحن فيه داخل في متعلق العلم إذ الكلام فيما إذا تعلق العلم بشيء معين من حيث أنه في وقت وتعلق به أيضا من حيث أنه في وقت آخر ولا شك أن ذلك الشيء مأخوذا مع أحد الوقتين مغاير له مأخوذا مع الآخر وإذا تعدد المعلومان فقد بان أنه يلزم منه اختلاف العلمين و الوقت ثمة أي فيما ذكروه من النظير عارض للجوهر الحاصل في الوقتين فلا يقتضي تعددا في ذاته وإنما نظير ذلك الذي ذكروه من حال الجوهر هو العلم الواحد الثابت في وقتين فإنه كالجوهر لا يختلف بسبب حصوله في الوقتين لا العلم بمعلوم واحد
مقيد بوقتين مختلفين فإن ذلك التقييد يقتضي تعدد المعلوم المستلزم
89

لاختلاف العلمين كما قررناه وأنت خبير بأنه لما اقتضى تعدد المعلوم لم يكن العلمان متعلقين بمعلوم واحد كما هو المبحث إلا أن الأصحاب لما قالوا كل علمين متعلقين بمعلوم واحد فهما مثلان اتحد الوقت أو اختلف نبه الآمدي على أن اعتبار الوقت يمكن على وجهين
أحدهما أن يكون ظرفا للعلم فلا يوجب تعدده تعددا فيه فضلا عن الاختلاف والتماثل وإذا فرض تعدده فيهما كانا متماثلين
والثاني أن يكون قيدا للمعلوم فيتعدد العلم ويكون مختلفا وهذا الذي ذكرناه من حال العلمين المتعلقين بمعلوم واحد إنما هو على تقدير اتحاد محل العلم أي العالم وأما إذا اختلف محل العلم بمعلوم واحد كزيد وعمرو العالمين بشيء واحد فإن قلنا كل من العلمين القائمين بهما يقتضي الاختصاص بمحله لذاته أي يقتضي ذاته أن يكون حالا في ذلك لمحل دون غيره فهما مختلفان لأن المثلين لا يتفاوتان في الاقتضاء المستند إلى الذات وإلا فمثلان كما هو الظاهر إذ لا طريق إلى الاختلاف واقتضائه سوى ما ذكر والفرض أنه منتف وسيأتي لذلك زيادة بيان هذا وعد بلا وفاء والسبب فيه أن الآمدي أورد هذا المبحث في أوائل أبكار الأفكار وقال بعد قوله وإلا فهما مثلان وسيأتي تحقيق ذلك فيما بعد وأشار به إلى ما سيأتي في أواسط كتابه من تحقيق معنى التماثل والمثلين وإثبات ذلك على منكريه فالمصنف تابعه في هذه الحوالة وغفل عن تقديمه مباحث التماثل والمثلين في مرصد الوحدة والكثرة من الأمور العامة
90

المقصد الثالث عشر
المتن
هل ينقلب العلم الضروري والنظري أما انقلاب الضروري نظريا ففيه مذاهب
الأول قول القاضي وبعض المتكلمين يجوز مطلقا لأن العلوم متجانسة فيصح على كل ما صح على الآخر
قال الآمدي إن سلم فلا شك في الاختلاف بالنوع والشخص فلعل التنوع والتشخص يمنع ذلك إذ لا يجب أن يصح على الإنسان ما يصح على الفرس ولا على زيد ما يصح على عمرو
الثاني وعليه آخرون لا يجوز وإلا لجاز الخلو عن الضروري وأنه محال بالوجدان
الثالث وهو قول آخر للقاضي وعليه إمام الحرمين لا يجوز في ضروري هو شرط لكمال العقل إذ العقل شرط للنظر وهو شرط للنظري فيكون النظري شرطا لنفسه ومتقدما عليه بمراتب
وأما انقلاب النظري ضروريا فجائز اتفاقا بأن يخلق الله تعالى علما ضروريا متعلقا به ومنع المعتزلة وقوعه في العلم بالله تعالى وصفاته من حيث أن العبد مكلف به ولو لم يكن مقدورا قبح التكليف به ومعتمدهم في الجواز هو التجانس وقد مر بما فيه
91

الشرح
المقصد الثالث عشر هل ينقلب العلم الضروري نظريا و العلم النظري ضروريا أولا أما انقلاب الضروري نظريا ففيه مذاهب ثلاثة:
الأول قول القاضي وبعض المتكلمين يجوز مطلقا لأن العلوم بأسرها متجانسة متشاركة في جنسها الذي هو العلم فيصح على كل منها ما صح على الآخر وقد صح على بعض العلوم أن يكون نظريا فكذا الباقي
قال الآمدي إن سلم التجانس وأشار به إلى أنه يمكن منع التجانس لجواز أن يكون العلم والإدراك والإحاطة وغيرها مفهومات عارضة للعلوم فلا تكون متشاركة فيما يكون جنسا لها بل فيما هو عرض عام بالقياس إليها فلا شك في الاختلاف بالنوع والتشخص أما الاختلاف الشخصي فلا ريبة فيه وأما الاختلاف النوعي فهو جائز وذلك يكفيه فما هو بصدده فلعل التنوع والتشخص يمنع ذلك الذي صح على النوع أو التشخص الآخر إذ لا يجب أن يصح على الإنسان ما يصح على الفرس وإن كانا متشاركين في الجنس ولا أن يصح على زيد ما يصح على عمرو مع تشاركهما في تمام الماهية فإن الصحة ربما كانت معللة بخصوصية نوع أو شخص وكانت خصوصية نوع أو شخص آخر مانعة منها
فإن قيل الظاهر من التجانس على اصطلاحهم هو التماثل لا ما ذكره الآمدي
92

قلنا فله حينئذ أن يمنع التماثل أو ينسب منع الصحة إلى تشخص الأفراد المتماثلة كما أشار إليه المذهب الثاني وعليه آخرون من المتكلمين لا يجوز مطلقا وإلا لجاز الخلو عن الضروري إذ قد مر أن النظر ينافي العلم بالمطلوب المنظور فيه فإذا انقلب الضروري نظريا وجب أن يكون الناظر في ذلك النظري خاليا عن العلم به وذلك يؤدي إلى جواز خلو العاقل الناظر في العلوم عن العلم باستحالة اجتماع الضدين وبأنه لا واسطة بين النفي والإثبات وبأن الكل أعظم من الجزء إلى غير ذلك من الضروريات التي تلزم العاقل وأنه محال بالوجدان الشاهد بأن أمثال ما ذكر من البديهيات يستحيل انفكاك العاقل عنها وفيه بحث لجواز أن يكون الانقلاب فيما عداها من الضروريات التي يجوز فقدانها
وقد يستدل لهذا المذهب بأنه لو جاز الانقلاب في الضروري لجاز في الكل وما هو جائر لا يلزم من فرض وقوعه محال فلنفرض أن جميع الضروريات انقلبت نظرية وحينئذ يستحيل حصول شيء من العلوم النظرية إذ لا بد من انتهائها إلى العلم الضروري دفعا للدور والتسلسل وفيه ما قد عرفته آنفا وأيضا حصول العلوم النظرية واقع فدل على أن ذلك التقدير أعني انقلاب جميع الضروريات نظرية غير واقع وأما أنه مستحيل فلا دلالة عليه أصلا
المذهب الثالث وهو قول آخر للقاضي وعليه إمام الحرمين لا يجوز الانقلاب في ضروري هو شرط لكمال العقل إذ العقل أي كماله شرط للنظر فإنه لا يتم إلا به وهو أي النظر شرط للنظري لتوقفه عليه فيكون النظري أعني الضروري المذكور الذي انقلب نظريا شرطا لنفسه ومتقدما عليه بمراتب ثلاث بخلاف الضروري الذي ليس شرطا لكمال العقل فإنه يجوز انقلابه نظريا لما مر في المذهب الأول وقد عرفت ما
93

فيه وأما انقلاب النظري ضروريا فجائز اتفاقا من المتكلمين وذلك الانقلاب عندنا بأن يخلق الله تعالى علما ضروريا متعلقا به أي بالنظري ومنع المعتزلة وقوعه يعني أنهم وافقونا في التجويز لكن منعوا وقوع الانقلاب في العلم بالله تعالى وصفاته من حيث أن العبد مكلف به أي بالعلم بالله تعالى وصفاته ولو انقلب ضروريا لم يكن مقدورا للعبد كما مر في صدر الكتاب وإذا لم يكن مقدورا له قبح التكليف به على زعمهم ومعتمدهم في الجواز أي معتمد المعتزلة في جواز انقلاب النظري ضروريا هو التجانس وقد مر بما فيه من أن التجانس بين العلوم ممنوع وإن سلم فالاختلاف النوعي أو الشخصي قد يكون مانعا من أن يصح على بعضها ما يصح على غيره
المقصد الرابع العشر
المتن
وهل يستند العلم الضروري إلى النظري منعه بعض لاقتضائه توقف الضروري على النظري وجوزه بعضهم لأن العلم امتناع اجتماع الضدين مبني على وجودهما والعلم به ليس ضروريا ولذلك يثبت بالدليل ومن منع العلم به فهو مكابر ومناقض لقوله بل الحق أنه لا يتوقف على وجودهما وأما تصورهما فنعم فإن التصديق الضروري هو ما لا يتوقف بعد تصور الطرفين على نظر وفكر ثم أنه قد يكفي فيه تصورهما بوجه ما وقد يكون ذلك ضروريا فالحاصل أن هذا نزاع لفظي مرجعه إلى تفسير الضروري وكذا توقفه على ضروري آخر فإن قلنا هو مالا يتوقف على علم سابق لم يجز وإن قلنا هو ما لا يتوقف على نظر جاز
94

الشرح
المقصد الرابع عشر لا خلاف في استناد العلم النظري إلى الضروري وهل يستند العلم الضروري إلى النظري أو لا فيه خلاف منعه بعض من الأشاعرة لاقتضائه أي لاقتضاء هذا الاستناد توقف الضروري المستند إلى النظري على النظري فلا يكون ضروريا هذا خلف وجوزه أي الاستناد المذكور بعضهم لأن العلم بامتناع اجتماع الضدين ضروري ومع ذلك مبني على وجودهما والعلم به أي بوجودهما ليس ضروريا لأن التضاد لا يكون إلا بين الأعراض والعلم بوجود الأعراض ليس بضروري ولذلك يثبت وجود الأعراض بالدليل الدال على عرضيتها فإن بعضهم أنكر كون هذه الصفات المسماة بالأعراض مغايرة الذوات فمن لا يعلم وجود الأضداد كالسواد والبياض بذلك الدليل لم يحكم بامتناع الاجتماع بينها فقد صح استناد الضروري إلى النظري ومن أجاب عن هذا الاستدلال بأن منع العلم به أي بامتناع اجتماع الضدين بناء على أن العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به والمستحيل ليس بشيء فهو مكابر أي مانع مقتضى عقله ومناقض لقوله فإن حكمه بعدم معلومية ذلك الامتناع يستلزم العلم به كما مر في أوائل الكتاب بل الحق في
الجواب عنه أنه أي العلم بامتناع اجتماع الضدين لا يتوقف على وجودهما في الخارج إذ لا توقف للتصديق على وجود أطرافه وأما تصورهما أي تصور الضدين فنعم يتوقف العلم بذلك الامتناع عليه فإن التصديق الضروري هو ما لا يتوقف بعد تصور الطرفين على نظر وفكر وتوقفه على تصورهما مما لا شبهة فيه ثم إن قلت تصور الضدين كالسواد والبياض نظري قطعا فقد توقف ذلك التصديق الضروري المتعلق بامتناع اجتماعهما على علم نظري هو تصورهما قلت إنه قد يكفي فيه أي في العلم بامتناع اجتماعهما تصورهما بوجه ما وقد يكون ذلك القدر من التصور ضروريا فلا
95

يكون حينئذ التصديق الضروري مستندا إلى تصور نظري فالحاصل أن هذا نزاع لفظي مرجعه إلى تفسير الضروري فإن فسرنا التصديق الضروري بما لا يتوقف بعد تصور الطرفين على نظر كما مر جاز أن تكون مفرداته نظرية وتوقف التصديق على النظر في مفرداته لا يقدح في استغناء حكمه عن نظر كاسب له في ذاته فيجوز استناد العلم الضروري إلى التصور النظري وإن فسرناه بما لا يتوقف على نظر لا بذاته ولا بتوسط مفرداته لم يجز الاستناد المذكور بل يكون مثل هذا التصديق غير ضروري فإن عد نظريا لزم اكتساب التصديقات النظرية من الأقوال الشارحة وإلا كان واسطة بينهما وكذا توقفه أي توقف العلم الضروري على ضروري آخر فيه خلاف راجع أيضا إلى تفسير الضروري على ضروري آخر وإن قلنا هو ما لا يتوقف على نظر جاز توقف الضروري على ضروري آخر فإن قلت التصديقات الضرورية موقوفة على تصورات أطرافها الضرورية بلا نزاع فكيف يفسر الضروري بما لا يتوقف على علم سابق قلت المراد بالعلم السابق هو التصديق ولك أن تجعل قوله فإن قلنا إلى آخره مرجعا للنزاعين معا فإن الضروري المفسر بما لا يتوقف على علم سابق لا يجوز توقفه على ضروري آخر ولا على نظري أيضا والمفسر بما لا يتوقف على نظر يتناول التصديق الضروري الذي تكون مفرداته نظرية إذا أريد أنه لا يتوقف على نظر يتضمنه أو يكون كاسبا له بالذات
المقصد الخامس عشر
المتن
أثبت أبو هاشم علما لا معلوم له كالعلم بالمستحيل فإنه ليس بشيء والمعلوم شيء
96

قال الإمام الرازي هو تناقض فإن المعلوم لا معنى له إلا ما تعلق به العلم
قال الآمدي له أن يصطلح على أن لا يسميه معلوما والإنصاف أن لا تظن بكلمة تخرج من فم أخيك السوء فتطلب له محملا ما استطعت وهلا يحمل كلامه على ما صرح به ابن سينا في الشفاء من أن المستحيل لا يحصل له صورة في العقل فلا يمكن أن يتصور شيء هو اجتماع النقيضين فتصوره إما على سبيل التشبيه بأن يعقل بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع ثم يقال مثل هذا الأمر لا يمكن حصوله بين السواد والبياض وأما على سبيل النفي بأن يعقل أنه لا يمكن أن يوجد مفهوم هو اجتماع السواد والبياض
وبالجملة فلا يمكن تعقله بماهيته بل باعتبار من الاعتبارات
الشرح
المقصد الخامس عشر أثبت أبو هاشم علما لا معلوم له وقد اتفق العقلاء على امتناع علم لا معلوم له
قال الإمام الرازي هو تناقض فإن المعلوم لا معنى له إلا ما تعلق به العلم فإذا قيل المستحيل يتعلق به العلم وليس هو بمعلوم كان في قوة قولنا المستحيل متعلق للعلم وليس متعلقا له
قال الآمدي له أن يصطلح على أن لا يسميه معلوما أي يصطلح على أن متعلق العلم إذا كان مستحيلا لا يسميه معلوما وإذا لم يكن مستحيلا يسميه معلوما لكن هذا الاصطلاح لا فائدة فيه
97

قال المصنف والإنصاف أن لا تظن بكلمة تخرج من فم أخيك السوء أي خطأ فتطلب عطف على أن لا تظن له أي لذلك الخارج من فيه محملا في الصحة ما استطعت وهلا يجعل كلامه أي كلام أبي هاشم الذي نقل عنه على ما صرح به ابن سينا في الشفاء من أن المستحيل لا يحصل له صورة في العقل أي ليس لنا سبيل إلى إدراكه في نفسه بحيث يحصل في العقل منه صورة هي له في نفسه بخصوصه فلا يمكن أن يتصور شيء هو اجتماع النقيضين أو الضدين فتصوره أي تصور المستحيل أما على سبيل التشبيه بأن يعقل مثلا بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع ثم يقال مثل هذا الأمر الذي تعلقناه بين السواد والحلاوة لا يمكن حصوله بين السواد والبياض فالاجتماع بين السواد والحلاوة متصور معقول قد حصل منه في نفسه صورة في العقل بخلاف الاجتماع بين السواد والبياض إذ لم يحصل منه في العقل إلا صورة بطريق المقايسة والتشبيه وأما على سبيل النفي بأن يعقل أنه لا يمكن أن يوجد مفهوم هو اجتماع السواد والبياض فقد يعقل ههنا المستحيل المخصوص باعتبار أمر عام هو كونه مفهوما مسمى باجتماع السواد والبياض لا باعتبار خصوصه وكذا الحال في شريك الباري تعالى فإنه لا يتصور إلا على سبيل التشبيه بأن يعقل شيء نسبته إليه تعالى كنسبة زيد إلى عمرو أو على سبيل النفي بأن يعقل أنه لا يمكن مفهوم هو شريك له تعالى وبالجملة فلا يمكن تعقله أي تعقل المستحيل بماهيته من حيث خصوصيتها بل باعتبار من الاعتبارات التشبيهية أو العامة وعلى هذا فقول أبي هاشم معناه أن هناك علما وليس له معلوم تعلق به ذلك العلم من حيث ماهيته وخصوصيته وهو صحيح كما
98

عرفته ويحتمل أن يقال معناه أن هناك علما وليس له معلوم متقرر ثابت فإن المستحيل لا تقرر له أصلا بخلاف الممكنات فإنها ثابتة عندهم في العدم أيضا
المقصد السادس عشر
المتن
محل العلم الحادث غير متعين عقلا عند أهل الحق بل يجوز أن يخلقه الله تعالى في أي جوهر أراد لكن السمع دل على أنه هو القلب قال تعالى * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) *
وقال * (فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) *
وقال * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) *
وقال الحكماء محل الكليات النفس الناطقة المجردة بذاتها ومحل الجزئيات المشاعر العشرة الظاهرة والباطنة وسنفصلها تفصيلا ومنهم من يرى أن المدرك للجزئيات أيضا هو النفس الناطقة ولكن بواسطة الآلة فإنها تحكم بالكلي على الجزئي فلا بد أن تكون عاقلة لهما وسيأتي الكلام فيه
الشرح
المقصد السادس عشر محل العلم الحادث سواء كان متعلقا بالكليات أو الجزئيات غير متعين عقلا عند أهل الحق بل يجوز عندهم عقلا أن يخلقه الله تعالى في أي جوهر أراد من جواهر بدن الإنسان وغيرها لأن البنية ليست شرطا للحياة والعلم فأي جزء من أجزائه قام به العلم كان عالما لكن السمع دل على أنه أي محل العلم هو القلب قال
99

تعالى * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) * وقال تعالى * (فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) * وقال * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) * وهذا وقد اختلف المتكلمون في بقاء العلم فالأشاعرة قضوا باستحالة بقائه كسائر الأعراض عندهم وأما المعتزلة فقد أجمعوا على بقاء العلوم الضرورية التي لا يتعلق بها التكليف واختلفوا في العلوم المكتسبة المكلف بها فقال الجبائي إنها ليس باقية وإلا لزم أن لا يكون المكلف بها حال بقائها مطيعا ولا عاصيا ولا مثابا ولا معاقبا مع تحقق التكليف وهو باطل بناء على لزوم الثواب أو العقاب على ما كلف به وخالفه أبو هاشم في ذلك وأوجب بقاء العلوم مطلقا وقال الحكماء محل الكليات النفس الناطقة المجردة بذاتها عن المادة وتوابعها وإن كانت متعلقه بها أي متصرفة فيها ومدبرة لها ومحل الجزئيات المادية المشاعر العشرة أي الحواس الظاهرة والباطنة وسنفصلها أي الناطقة المجردة وأحوالها ومشاعرها المذكورة ومحالها تفصيلا تاما وافيا بمعرفة ماهيتها وكيفية إدراكاتها بحسب الطاقة البشرية ومنهم أي ومن الحكماء من يرى أن المدرك للجزئيات أيضا هو النفس الناطقة ولكن إدراكها للكليات بذاتها وللجزئيات بواسطة الآلة الجسمانية فإنها أي الناطقة تحكم بالكلي على الجزئي في مثل قولك زيد إنسان فلا بد أن تكون عاقلة لهما لأن الحاكم يجب أن يحضره المحكوم عليه والمحكوم به
100

وسيأتي الكلام فيه أي فيما ذكرناه فإنه سنبين لك في مباحث النفس أن المدرك للجميع هو النفس لكن صور الكليات ترتسم في ذاتها وصور الجزئيات المادية في آلاتها فتلاحظها النفس من هناك
101

النوع الثالث الإرادة
وفيها مقاصد
المقصد الأول
المتن
في تعريفها
قيل إنها اعتقاد النفع أو ظنه وقيل ميل يتبع ذلك فإنا نجد من أنفسنا بعد اعتقاد أن الفعل الفلاني فيه جلب نفع أو دفع ضر ميلا إليه وهو مغاير للعلم وأما عند الأشاعرة فصفة مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع والميل الذي يقولونه فنحن لا ننكره لكن ليس إرادة فإن الإرادة بالاتفاق صفة مخصصة لأحد المقدورين وسنبين أنها غير الميل ثم حصول الميل في الشاهد لا يوجب حصوله في الغائب
الشرح
النوع الثالث من أنواع الكيفيات النفسانية الإرادة وفيها أي في الإرادة وفي بعض النسخ وفيه أي في هذا النوع مقاصد سبعة
الأول
في تعريفها
قيل إنها أي الإرادة اعتقاد النفع أو ظنه والقائل بذلك كثير من المعتزلة قالوا إن نسبة القدرة إلى طرفي الفعل على السوية فإذا حصل
102

اعتقاد النفع أو ظنه في أحد طرفيه ترجح على الآخر عند القادر وأثر فيه قدرته وقيل ليس الإرادة ما ذكر من الاعتقاد أو الظن بل هذا هو المسمى بالداعية وأما الإرادة فهي ميل يتبع ذلك الاعتقاد أو الظن كما أن الكراهة نفرة تتبع اعتقاد الضرر أو ظنه وليست الإرادة من قبيل الاعتقاد والظن فإنا نجد من أنفسنا بعد اعتقاد أن الفعل الفلاني فيه جلب نفع أو دفع ضر ميلا إليه مترتبا على ذلك الاعتقاد وهو أي الميل الذي نجده أمر مغاير للعلم بالنفع أو دفع الضر ضرورة لا شبهة فيها وأيضا فإن القادر كثيرا ما يعتقد النفع في فعل أو يظنه ومع ذلك لا يريده ما لم يحصل له هذا الميل وقد أجيب عن ذلك بأنا لا ندعي أن الإرادة اعتقاد النفع أو ظنه مطلقا بل نقول هي اعتقاد نفع له أو لغيره ممن يؤثر خيره بحيث يمكن وصوله إلى أحدهما بلا ممانعة مانع من تعب أو معارضة والميل الذي ذكرتموه إنما يحصل لمن لا يقدر على ذلك الفعل قدرة تامة بخلاف القادر التام القدرة إذ يكفيه العلم والاعتقاد على قياس الشوق إلى المحبوب فإنه حاصل لمن ليس واصلا إليه دون الواصل إذ لا شوق له وهذا الذي ذكرناه من تعريفي الإرادة إنما هو على رأي المعتزلة وأما الإرادة عند الأشاعرة فصفة مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع والميل الذي يقولونه فنحن لا ننكره في الشاهد لكن ذلك الميل ليس إرادة فإن الإرادة بالاتفاق صفة مخصصة لأحد المقدورين بالوقوع وسنبين في المقصد الثالث من هذا النوع أنها أي الصفة المخصصة المذكورة غير الميل وليست أيضا مشروطة بالميل ولا باعتقاد النفع ثم حصول الميل في الشاهد لا يوجب حصوله في الغائب
103

وليس يصح القياس لثبوت الفارق بينهما فلا يصح تفسير مطلق الإرادة بالميل
المقصد الثاني
المتن
الإرادة القديمة توجب المراد اتفاقا وأما الحادثة فلا توجبه اتفاقا وجوز النظام إيجابها للمراد إذا كانت قصدا إلى الفعل وهو ما نجده من أنفسنا حال الإيجاد لا عزما عليه فإنه قد يتقدم على الفعل والعزم يقبل الشدة والضعف حتى يبلغ إلى درجة الجزم ومع ذلك فقد لا يكون مقارنا ولا قصدا بل جزما بأنه سيقصد وربما يزول لزوال شرط أو حدوث مانع
الشرح
المقصد الثاني الإرادة القديمة توجب المراد أي إذا تعلقت إرادة الله تعالى بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلفه عن إرادته اتفاقا من أهل الملة والحكماء أيضا وأما إذا تعلقت بفعل غيره ففيه خلاف المعتزلة القائلين بأن معنى الأمر هو الإرادة فإن الأمر لا يوجب وجود المأمور به كما في العصاة وأما الإرادة الحادثة فلا توجبه اتفاقا يعني أن إرادة أحدنا إذا تعلقت بفعل من أفعاله فإنها لا توجب ذلك المراد عند الأشاعرة وإن كانت مقارنة له عندهم ووافقهم في ذلك الجبائي وابنه وجماعة من متأخري المعتزلة وجوزه النظام والعلاف وجعفر بن حارث وطائفة من قدماء معتزلة البصرة إيجابها أي إيجاب الإرادة الحادثة للمراد إذا كانت تلك الإرادة قصدا إلى الفعل وهو أي القصد إلى الفعل ما نجده من أنفسنا حال الإيجاد أي حال إيجادنا للفعل لا عزما عليه لأن الإرادة إذا
104

كانت عزما على الفعل لم توجب المراد فإنه قد يتقدم العزم على الفعل فلا يتصور إيجابه إياه واستدلوا على ذلك بأن العزم توطين النفس على أحد الأمرين بعد سابقة التردد فيهما والعزم الذي هو هذا التوطين يقبل الشدة والضعف ويتقوى شيئا فشيئا حتى يبلغ إلى درجة الجزم فيزول التردد بالكلية ومع ذلك فقد لا يكون العزم الواصل إلى مرتبة الجزم مقارنا للفعل ولا قصدا إليه بل يكون جزما بأنه سيقصد الفعل فيكون متقدما على الفعل غير موجب له وربما يزول ذلك العزم أي الجزم لزوال شرط من شرائط الفعل أو حدوث مانع من موانعه فلا يوجد الفعل بعده أيضا وإذا لم يكن التوطين البالغ حد الجزم موجبا للفعل فالذي لم يبلغه كان أولى بعدم الإيجاب فهؤلاء أثبتوا إرادة متقدمة على الفعل بأزمنة هي العزم ولم يجوزوا كونها موجبة وإرادة مقارنة له هي القصد وجوزوا إيجابها إياه وأما الأشاعرة فلم يجعلوا العزم من قبيل الإرادة بل أمرا مغايرا لها
المقصد الثالث
المتن
الإرادة عندنا غير مشروطة باعتقاد النفع أو بميل يتبعه خلافا للمعتزلة لنا أن الهارب من السبع إذا عن له طريقان متساويان فإنه يختار أحدهما ولا
105

يتوقف على ترجح أحدهما لنفع فيه ولا على ميل يتبعه بل يرجح أحدهما بمجرد الإرادة لا أقول لا يكون للفعل مرجح بل لا يكون إليه داع ومعلوم بالضرورة أنه من دهشته لا يخطر بباله طلب مرجح وأنه لو لم يجد المرجح لم يتوقف متفكرا حتى يفترسه السبع وكذلك العطشان إذا كان عنده قدحا ماء وفرض استواؤهما من جميع الوجوه فإنه يختار أحدهما بلا داع له يرجحه في اعتقاده وكذلك جائع عنده رغيفان والمعتزلة ادعوا الضرورة بأن من استوى عنده الطرفان لا يرجح أحدهما إلا لمرجح
والجواب منع الضرورة والمعارضة بالضرورة في الأمثلة المذكورة
الشرح
المقصد الثالث الإرادة عندنا غير مشروطة باعتقاد النفع أو بميل يتبعه وذلك أن الإرادة توجد بدونهما فلا تكون عين أحدهما ولا مشروطة به أيضا فلا يصح تفسيرها بأحدهما أصلا خلافا للمعتزلة الذين فسروها بواحد منهما لنا في وجود الإرادة بدونهما أن الهارب من السبع إذا عن أي ظهر له طريقان متساويان في الإفضاء إلى مطلوبه الذي هو النجاة منه فإنه مع كونه ملجأ في الهرب يختار أحدهما بإرادته ولا يتوقف في ذلك الاختيار على ترجح أحدهما لنفع يعتقده فيه ولا على ميل يتبعه بل يرجح أحدهما على الآخر بمجرد الإرادة لا أقول لا يكون للفعل مرجح على عدمه فإن الهارب بإرادته مرجح إياه على تركه بل أقول لا يكون إليه أي إلى الفعل داع باعث للفاعل عليه من اعتقاد النفع أو ميل تابع له ومعلوم بالضرورة أنه من دهشته وحيرته لا يخطر بباله طلب مرجح يختار بسببه أحدهما بل لا يطلب ولا يتصور في تلك الحالة سوى النجاة و
106

معلوم بالضرورة أيضا أنه لو لم يجد المرجح لم يتوقف متفكرا فيه حتى يفترسه السبع وكذلك العطشان إذا كان عنده قدحان من ماء وفرض استواؤهما من جميع الوجوه فإنه يختار أحدهما بلا داع له يرجحه في اعتقاده على الآخر وكذلك جائع عنده رغيفان متساويان من جميع الجهات فإنه يختار أحدهما من غير داع يدعوه إليه وإذا ثبت في هذه الأمثلة وجود الإرادة بدون اعتقاد النفع أو ظنه ثبت وجودها بدون الميل التابع لهما إذ لا وجود للتابع بدون المتبوع والمعتزلة ادعوا الضرورة بأن من استوى عنده الطرفان لا يرجح باختياره أحدهما على الآخر إلا لمرجح يختص بذلك الطرف فما دام الاستواء لا يتصور منه ترجيح أصلا والجواب منع الضرورة والمعارضة بالضرورة في الأمثلة المذكورة فإنا نعلم بالضرورة وجود الترجيح فيها بلا مرجح وداع كما تحققته فإن قيل من البين أن الفعل في هذه الأمثلة راجح على الترك فلا تساوي فيها بينهما قلنا سلوك أحد الطريقين يستلزم ترك سلوك الآخر وبالعكس فإذا
استوى السلوكان فقد استوى سلوك أحدهما وتركه على وجه مخصوص وهو أن يتركه سالكا للآخر وأيضا السلوكان أمران مقدوران متساويان وقد رجح أحدهما بلا داع إليه وهو المطلوب نعم للمعتزلة أن يقولوا ليس يلزم من فرض التساوي وقوعه ولا بد في هذه الصور المفروضة من مرجح بحسب اعتقاده إذ لولاه لم يختر شيئا مما فرض تساويه وليس يلزم من الشعور بالمرجح الشعور بذلك الشعور فلعل الدهشة المذكورة صارت سببا لعدم استثبات الشعور في الحافظة فلأجل ذلك لا يعرف الهارب الآن أنه كان له شعور بالمرجح في تلك الحالة هذا
107

وقد قيل إذا فرض تساوي الطريقين في النجاة فإن طبيعته تقتضي سلوك الطريق الذي على يساره لأن القوة في اليمين أكثر والقوي يدفع الضعيف كما هو المشاهد فيمن يدور على عقبه وأما في القدحين والرغيفين فيختار ما هو أقرب إلى اليمين
المقصد الرابع
المتن
الإرادة مغايرة للشهوة لوجهين
الأول الإرادة قد تتعلق بنفسها دون الشهوة وفيه نظر تعرفه مما اخترناه من التعريف
الثاني إن الإنسان قد يريد شرب دواء كريه فيشربه ولا يشتهيه بل ينفر عنه
الشرح
المقصد الرابع الإرادة مغايرة للشهوة التي هي توقان النفس إلى الأمور المستلذة لوجهين
الأول الإرادة قد تتعلق بنفسها دون الشهوة فإنها لا تتعلق بنفسها بل باللذات وإذا ذكرت متعلقة بنفسها كانت مجازا عن الإرادة كما قيل لمريض ما تشتهي فقال أشتهي أن أشتهي أي أريد أن أشتهي وفيه أي في هذا الفرق نظر تعرفه أنت مما اخترناه في الإرادة من التعريف يعني
108

أنه إذا فسر الإرادة باعتقاد النفع أو الميل التابع له جاز تعلقها بنفسها لجواز أن يعتقد الشخص أن في اعتقاده لمنفعة فعل من الأفعال أو في ميله إليه نفعا له ثم يميل إلى ذلك الاعتقاد وما يتبعه وأما إذا فسرت بما اختاره من أنها صفة مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع فلا يجوز تعلقها بنفسها لأن إرادتنا ليست مقدورة لنا وإلا احتاج حصولها فينا إلى إرادة أخرى وهكذا إلى ما لا يتناهى اللهم إلا أن يذكروا هذا الفرق على تقدير إقدار الله تعالى إيانا على الإرادة فإن العلماء بناء على هذا التقدير اختلفوا في أن تلك الإرادة المقدورة هل تكون مرادة للعبد بإرادة أخرى أو لا أوجبه الأشاعرة إذ لا يصدر فعل عن فاعل قادر عالم بن ذاكر له إلا بإرادته
وقال الجبائي يستحيل كون الفاعل للإرادة مريدا لها بإرادة أخرى
الوجه الثاني أن الإنسان قد يريد شرب دواء كريه غاية الكراهة فيشربه ولا يشتهيه بل ينفر عنه وقد يشتهي الطعام اللذيذ ولا يريده إذا علم أن فيه هلاكه فقد وجد كل واحدة من الإرادة والشهوة بدون الأخرى وقد يجتمعان في شيء واحد فبينهما عموم من وجه بحسب الوجود وكذا الحال بين الكراهة والنفرة إذ في الدواء المذكور وجدت النفرة دون الكراهة المقابلة للإرادة وفي اللذيذ الحرام توجد الكراهة من الزهاد دون النفرة الطبيعية وقد يجتمعان أيضا في حرام منفور عنه
المقصد الخامس
المتن
إنها غير التمني فإنها لا تتعلق إلا بمقدور مقارن والتمني قد يتعلق بالمحال وبالماضي والميل الذي يسمونه إرادة هو بالتمني أشبه منه بالإرادة
109

الشرح
المقصد الخامس إنها أي الإرادة غير التمني فإنها لا تتعلق إلا بمقدور مقارن لها عند أهل التحقيق والتمني قد يتعلق بالمحال الذاتي وبالماضي وقد توهم جماعة أن التمني نوع من الإرادة حتى عرفوه بأنه إرادة ما علم أنه لا يقع أو شك وقوعه واتفق المحققون من الأشاعرة والمعتزلة على أن التمني غير الإرادة والميل الذي يسمونه إرادة كما مر هو بالتمني أشبه منه بالإرادة فتأمل
المقصد السادس
المتن
قال الشيخ إرادة الشيء كراهة ضده بعينها إذ لو كانت غيرها فإما مثلها أو ضدها فلا تجامعها وإما مخالف لها فيجامع ضدها إذ المخالف للشيء يجوز اجتماعه معه ومع ضده ولكن ضد إرادة الشيء إرادة الضد فيلزم كراهة الضد مع إرادته وأنه محال
والجواب لا نسلم أن المخالف للشيء يجامع ضده لجواز تلازمهما وكون الشيء ضدا للمتخالفين كالنوم هو ضد للعلم والقدرة ثم ما ذكرتم وإن دل على ما ادعيتم فعندنا ما ينفيه وهو أن شرط كراهة الضد الشعور به اتفاقا وقد لا يشعر به فتنفك الإرادة عن كراهة الضد فلا تكون نفسها
وبالجملة فاستلزام الشيء لنفسه لا يتوقف على شرط وإذا ظهر التغاير فهل الإرادة مستلزمة لكراهة الضد بشرط الشعور به فمختلف فيه
110

قال القاضي والغزالي مستلزمة والظاهر خلافه لجواز أن يريد الضدين كل واحد من وجه إرادة على السوية أو يترجح أحدهما بحسب ما فيه من نفع راجح
الشرح
المقصد السادس قال الشيخ الأشعري وكثير من أصحابه إرادة الشيء كراهة ضده بعينها إذ لو كانت إرادة الشيء غيرها أي غير تلك الكراهة فإما مثلها أو ضدها فلا تجامعها لامتناع اجتماع المتماثلين والمتضادين وإما مخالف لها أي أمر لا يماثلها ولا يضادها فيجامع ضدها بل يجامع كل واحدة منهما ضد الأخرى إذ المخالف للشيء يجوز اجتماعه معه ومع ضده كالحركة المخالفة للسواد فإنها تجامعه وتجامع البياض أيضا ولكن ضد كراهة الضد هو إرادة الضد فيلزم جواز اجتماع إرادة الشيء مع إرادة ضده لكن الإرادتين المتعلقتين بالضدين متضادتان فلا يجوز اجتماعهما وكذا ضد إرادة الشيء إرادة الضد فإذا جوز اجتماع كراهة الضد مع ضد إرادة الشيء فيلزم كراهة الضد مع إرادته أي يلزم جواز اجتماعهما وإنما لم يقل ضد إرادة الشيء كراهة ذلك الشيء فيلزم حينئذ كراهة الضدين لأن استحالته ممنوعة بخلاف استحالة إرادتهما معا واستحالة إرادة الشيء مع كراهته وأنه أي اجتماع كراهة الضد مع إرادته محال
والجواب عن استدلال الشيخ أن لا نسلم أن المخالف للشيء يجامع ضده لجواز تلازمهما أي تلازم الشيء وتخالفه بأن يكون كل منهما ملزوما للآخر ولا شك أن الملزوم يمتنع اجتماعه مع ضد اللازم فلا
111

يجوز حينئذ اجتماع شيء من المتخالفين مع ضد صاحبه و جواز كون الشيء الواحد ضد للمتخالفين وعلى هذا أيضا لا يجوز اجتماع الشيء مع ضد ما يخالفه وإلا لجاز اجتماعه مع ضده كالنوم هو ضد للعلم والقدرة المتخالفين ولا يجامعه شيء منهما ثم ما ذكرتم من الدليل وإن دل بظاهره على ما ادعيتم فعندنا ما ينفيه وهو أن شرط كراهة الضد الشعور به اتفاقا وضرورة وقد لا يشعر به أي بالضد حال إرادة الشيء إذ يجوز أن يخطر شيء بالبال وتتعلق به الإرادة مع الغفلة عن ضده فتنفك حينئذ الإرادة المتعلقة بالشيء عن كراهة الضد فلا تكون الإرادة نفسها
وبالجملة فاستلزام الشيء لنفسه لا يتوقف على شرط وهو ظاهر واستلزام إرادة الشيء كراهة ضده متوقف على الشعور بالضد الذي ربما لا يكون حاصلا مع حصول الإرادة فلا تكن الإرادة نفس تلك الكراهة ومنهم من قال إن الشيخ لم يدع أن الإرادة عين الكراهة على الإطلاق بل ادعى أن إرادة الشيء عين كراهة ضده حال الشعور بالضد ولا يذهب عليك أن مثل هذا الكلام مما لا يلتفت إليه وإذا ظهر التغاير بين إرادة الشيء وكراهة ضده بما بيناه فهل الإرادة مستلزمة لكراهة الضد لا مطلقا إذ قد تبين انفكاكها عن الكراهة في بعض الصور بل بشرط الشعور به أي بالضد مختلف فيه
قال القاضي أبو بكر و الإمام الغزالي مستلزمة أي إرادة الشيء مع الشعور بضده تستلزم كون الضد مكروها عند ذلك المريد والظاهر عند المصنف خلافه لجواز أن يريد الشخص الضدين كل واحد منهما من وجه إرادة على السوية أو يترجح أحدهما بحسب ما فيه من نفع راجح على نفع الآخر فيكونان مرادين لا على السوية وهذا الظاهر الذي ذكره
112

إنما يتأتى إذا فصلت الإرادة باعتقاد النفع أو ما يتبعه وأما إذا فصلت بصفة مخصصة لأحد طرفي الفعل مقارنة كما هو رأي الأشاعرة فلا لأن إرادة الضدين تستلزم اجتماعهما معا
المقصد السابع
المتن
قال القاضي وأبو عبد الله البصري الإرادة تفيد متعلقها صفة فللفعل كونه طاعة ومعصية وللقول كونه أمرا أو تهديدا فإن أرادا أنها تفيد صفة ثبوتية منع وما ذكراه اعتباري كيف والقول لا وجود لجملته فكيف تقوم به صفة
الشرح
المقصد السابع قال القاضي من الأشاعرة وأبو عبد الله البصري من المعتزلة لا إرادة تفيد متعلقها صفة زائدة عن ذات المتعلق سواء كان ذلك المتعلق فعلا أو قولا فللفعل تفيد كونه طاعة كالسجود بإرادته لله تعالى ومعصية كالسجود بإرادته للصنم وللقول تفيد كونه أمرا أو تهديدا فإن أرادا أي القاضي والبصري أنها أي الإرادة تفيد متعلقها صفة ثبوتية موجودة في الخارج منع كون الإرادة كذلك وما ذكراه من كون الفعل طاعة أو معصية وكون القول أمرا أو تهديدا وصف اعتباري لا تحقق له في الخارج كيف والقول لا وجود لجملته معا فكيف تقوم به صفة وجودية وإن أرادا أنها تفيد متعلقها صفة اعتبارية فذلك مما لا ينازع فيه ولا يتصور في ذكره مزيد فائدة
113

النوع الرابع القدرة
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
في تعريف القدرة وهي صفة تؤثر وفق الإرادة فخرج ما لا يؤثر كالعلم وما يؤثر لا على وفق الإرادة كالطبيعة
وقيل ما هو مبدأ قريب للأفعال المختلفة فالنفس الفلكية قدرة على الأول دون الثاني والنفس النباتية بالعكس وأما الحيوانية فقدرة على التفسيرين والقوى العنصرية ليست قدرة على التفسيرين ويرد عليهما القدرة الحادثة على رأينا فإنها لا تؤثر وليست مبدأ لأثر ويسمى كسبا والدليل أنه لو كان فعل العبد بقدرته وأنه واقع بقدرة الله لما سنبرهن على أنه تعالى قادر على جميع الممكنات فلو أراد شيئا وأراد العبد ضده لزم إما وقوعهما أو عدمهما أو كون أحدهما عاجزا
لا يقال نختار أنه يقع مقدور الله تعالى لأن قدرته أتم ألا ترى أنها أعم لأنا نقول عموم القدرة لا يؤثر فإن تعلق القدرة بغير المقدور المعين لا أثر له في هذا المعين ضرورة وبهذا الدليل بعينه نفي جهم الحادثة وأنه غلو
114

في الجبر وأنه مكابرة لأن الفرق بين الصاعد بالاختيار والساقط عن علو ضروري فالأول له اختيار دون الثاني ويندفع الإشكال بما ذكرناه من عدم تأثير قدرته فإن قال لا نريد بالقدرة إلا الصفة المؤثرة وإذ لا تأثير فلا قدرة كان منازعا في التسمية
الشرح
النوع الرابع من الكيفيات النفسانية القدرة وفيه مقاصد أربعة عشر بل ثلاثة عشر كما ستطلع عليه
المقصد الأول في تعريف القدرة وفي صفة تؤثر على وفق الإرادة فخرج من هذا التعريف ما لا يؤثر كالعلم إذ لا تأثير له وإن توقف تأثير القدرة عليه و خرج أيضا ما يؤثر لا على وفق الإرادة كالطبيعة للبسائط العنصرية
وقيل القدرة ما هو مبدأ قريب للأفعال المختلفة والمراد بالمبدأ هو الفاعل المؤثر والقريب احتراز عن البعيد الذي يؤثر بواسطة كالنفوس الحيوانية والنباتية فإنها مبادئ لأفعال مختلفة مثل الإنماء والتغذية والتوليد لكنها بعيدة لكونها مبادئ لها باستخدام الطبائع والكيفيات هكذا قيل وفيه بحث لأن المؤثر في هذه الأفاعيل إن كان هو الطبائع والكيفيات دون النفوس النباتية والحيوانية كانت هذه النفوس خارجة بقيد المبدأ لأنه الفاعل وإن كان المؤثر فيها هو النفوس وكانت الطبائع والكيفيات آلات لها لم تخرج بقيد القريب لأن الفاعل القريب قد يحتاج إلى استعمال الآلة وقد يقال معنى استخدامها إياهما أنها تنهضهما للتأثير في هذه الأفاعيل وبهذا الإنهاض أشبهت الفاعل كالقاسر في الحركة القسرية فإنه يسخر طبيعة المقسور للتحريك فكانت بحسب الظاهر داخلة في المبدأ وخارجة بالقريب
115

فالنفس الفلكية قدرة على التفسير الأول لأنها تؤثر على وفق الإرادة وهذا إنما يصح إذا حملت الصفة على ما يتناول الجوهر والعرض معا كتناول القوة إياهما أو يراد بالنفس الفلكية ما يكون صفة للفلك لا نفسه الجوهرية وإن كان مستبعدا جدا دون التفسير الثاني لأنها ليست مبدأ لأفاعيل مختلفة بل لفعل واحد على نسبة واحدة مع الشعور به والنفس النباتية هكذا في النسخ المشهورة وقيل هو سهو من الناسخ لما مر من أن النفس النباتية ليست مبدأ قريبا والصواب أن يقال والقوة النباتية لكن ما في الكتاب موافق للملخص بالعكس فإنها قدرة على التفسير الثاني لكونها مبدأ قريبا لأفاعيل مختلفة دون التفسير الأول إذ لا شعور لها بأفاعيلها وأما القوة الحيوانية فقدرة على التفسيرين لكونها صفة مؤثرة على وفق الإرادة ومبدأ قريبا لأفعال مختلفة والقوى العنصرية سواء أريد بها ما هو صورة مقومة لها ففي الأجسام البسيطة تسمى طبيعة كالنارية والمائية وفي الأجسام المركبة تسمى صورة نوعية لذلك المركب كالصورة المبردة التي للأفيون والمسخنة التي للقربيون أو ما هو عرض قائم بها كالحرارة والبرودة ليست قدرة على التفسيرين إذ لا إرادة لها ولا شعور وليست أفعالها مختلفة بل هي على نهج واحد ويرد عليهما أي على التفسيرين القدرة الحادثة على رأينا معاشر الأشاعرة فإنها لا تؤثر في فعل أصلا فلا تدخل في التفسير الأول وليست مبدأ الأثر قطعا فلا تدخل في التفسير الثاني و إن كان لها عندنا تعلق بالفعل يسمى ذلك التعلق كسبا والدليل على أن القدرة الحادثة
116

ليست مؤثرة أنه لو كان فعل العبد بقدرته وتأثيرها فيه وأنه أي والحال إن فعل العبد واقع بقدرة الله تعالى أي قدرته تعالى متعلقة بفعل العبد بل هو واقع بتأثيرها فيه لما سنبرهن على أنه تعالى قادر على جميع الممكنات بل جميعها صادرة عنه فلو أراد الله شيئا من الأفعال المقدورة للعباد وأراد العبد ضده لزم إما وقوعهما معا فيلزم اجتماع الضدين أو عدمهما معا ولا شك أن المانع من وقوع مراد كل منهما وقوع مراد الآخر فإذا لم يقعا وجب وقوعهما معا ويلزم ذلك المحال وأيضا إذا فرض ضدان لا واسطة بينهما كان عدمهما معا محالا أو كون أحدهما عاجزا غير قادر على ما فرض قدرته عليه وتأثيره فيه وهو أيضا محال
لا يقال نختار أنه يقع مقدورا لله تعالى لأن قدرته أتم من قدرة العبد ألا ترى أنها أعم منها لتعلقها بما لا يتصور تعلق قدرة العبد به ولا يلزم حينئذ عدم تأثير قدرة العبد في فعل أصلا بل يلزم تخلف أثرها عنه في هذه الصورة المفروضة لمانع أقوى منها أعني قدرة الله تعالى ولا يمكن أن يقال مثل ذلك في دليل التمانع على الوحدانية لأن تخلف الأثر نقصان في القدرة والناقص لا يكون إلها ويجوز أن يكون عبدا لأنا نقول عموم القدرة لا يؤثر فإن تعلق القدرة بغير المقدور المعين لا أثر له في هذا المعين ضرورة فلما فرض تعلق قدرتهما بمقدور معين كانت القدرتان متساويتين بالقياس إليه فكان تأثيرهما في طرفيه على سواء فكون تأثير إحديهما مانعا من تأثير الأخرى دون العكس ترجيح بلا مرجح وفيه بحث لأن تعلق القدرتين بمقدور معين لا يستلزم تساويهما لجواز أن يكون أحد القادرين أقدر عليه من الآخر مع تشاركهما في كون ذلك المعين مقدورا لهما فإن اختلاف مراتب القدرة بحسب الشدة والضعف جائز وبهذا الدليل الذي نفينا به تأثير القدرة الحادثة بعينه نفي جهم القدرة الحادثة فقال لو كان للعبد قدرة على فعل مع أن ذلك الفعل مقدور لله تعالى فإن فرض أن الله
117

أراد شيئا وأراد العبد ضده إلى آخره وأنه أي ما ذهب إليه جهم بن صفوان الترمذي من نفي قدرة العبد بالكلية غلو وتجاوز عن الحد في الجبر لا توسط بين الجبر والتفويض كما هو الحق وأنه أي ما ذهب إليه مكابرة أيضا ودفع لما هو معلوم بالبديهة أن الفرق بين الصاعد إلى موضع عال بالاختيار و بين الساقط عن علو ضروري فالأول له اختيار أي له صفة يوجد الصعود عقيبها ويتوهم كونها مؤثرة فيه وتسمى تلك الصفة قدرة واختيارا دون الثاني إذ ليس له تلك الصفة بالقياس إلى سقوطه ويندفع الإشكال اللازم من تمانع قدرة الله وقدرة العبد بما ذكرناه من عدم تأثير قدرته أي قدرة العبد فلا حاجة في دفعه إلى ما ارتكبه من الغلو فإن قال جهم لا نريد بالقدرة إلا الصفة المؤثرة وإذ لا تأثير كما اعترفتم به فلا قدرة أيضا كان منازعا في التسمية فإنا نثبت للعبد ذات الصفة المعلومة بالبديهة ونسميها قدرة فإذا اعترف جهم بتلك الصفة وقال إنها ليست قدرة لعدم تأثيرها كان نزاعه معنا في إطلاق لفظ القدرة على تلك الصفة وهو بحث لفظي وإن قال حقيقة القدرة وماهيتها أنها صفة مؤثرة منعناه بأن التأثير من توابع القدرة وقد ينفك عنها كما في القدرة الحادثة عندنا
المقصد الثاني
المتن
هل يجوز مقدور بين قادرين جوزه أبو الحسين البصري مطلقا والأصحاب بناء على إثبات قدرة للعبد غير مؤثرة مع شمول قدرة الله تعالى
118

ومنعه المعتزلة بناء على امتناع قدرة غير مؤثرة فيلزم التمانع والمجوزون من أصحابنا اتفقوا على امتناع قدرتين مؤثرتين للتمانع وقدرتين كاسبتين لأن الكسب هو أن يخلق الله للقدرة الحادثة وأنها لا تتعلق بفعل خارج عن المحل فلا يقدر زيد على فعل عمرو ولا يتصور اثنان هما محل لفعل واحد
الشرح
المقصد الثاني هل يجوز مقدور بين قادرين جوزه أبو الحسين البصري من المعتزلة مطلقا قيل معناه من غير تفصيل بين أن يكون القادران مؤثرين أو كاسبين أو أحدهما مؤثرا والآخر كاسبا ويرد عليه أن أبا الحسين لم يقل بقدرة كاسبة بل هذا مذهب الأشاعرة ومن يحذو حذوهم ويحتمل أن يقال معنى الإطلاق بالنسبة إلى الخالق والمخلوق والمخلوقين وكأنه نظر إلى أن دليل التمانع إنما يتم إذا كان حصول مراد أحدهما دون الآخر ترجيحا بلا مرجح كما في تعدد الآلهة وأما في غيره فلا يتم فإن الخالق أقدر من المخلوق ويجوز أن يكون أحد المخلوقين أقدر من الآخر فلا يكون وقوع مراد الأقدر تحكما و جوزه الأصحاب لا مطلقا بل بين قادر خالق وقادر كاسب بناء على إثبات قدرة للعبد غير مؤثرة في مقدوره بل متعلقة به تعلق الكسب مع شمول قدرة الله تعالى لجميع الأشياء فيكون مقدور العبد كسبا مقدورا لله تعالى تأثيرا ومنعه المعتزلة أي منعوا جواز كون مقدور بين قادرين مطلقا بناء على امتناع قدرة غير مؤثرة على رأيهم بل لا تكون القدرة عندهم إلا مؤثرة فيلزم التمانع على تقدير كون مقدور بين قادرين والمجوزون من أصحابنا لكون مقدور بين قدرة كاسبة وقدرة مؤثرة كما مر اتفقوا على امتناع مقدور بين قدرتين مؤثرتين للتمانع و على امتناع مقدور بين قدرتين كاسبتين لأن الكسب هو أن يخلق الله تعالى فعلا متعلقا للقدرة الحادثة وأنها أي القدرة الحادثة لا تتعلق بفعل خارج عن المحل أي محل
119

تلك القدرة الحادثة فلا يقدر زيد على فعل عمرو ولا يتصور اثنان هما في محل لفعل واحد بل يكون كل واحد من الاثنين محلا لفعل مغاير ولو بالشخص لفعل الآخر فلا يمكن اجتماع قدرتين كاسبتين على فعل واحد شخصي
المقصد الثالث
المتن
وقال بشر بن المعتمر القدرة عبارة عن سلامة البنية عن الآفات فمن أثبت صفة زائدة فعليه البرهان وقال ضرار بن عمرو وهشام بن سالم إنها بعض القادر وقيل بعض المقدور
الشرح
المقصد الثالث اتفقت الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم على أن القدرة صفة وجودية يتأتى معها الفعل بدلا عن الترك والترك بدلا عن الفعل وقال بشر بن المعتمر القدرة الحادثة عبارة عن سلامة البنية عن الآفات فجعلها
120

صفة عدمية قال فمن أثبت صفة زائدة على سلامة البنية فعليه البرهان واختار الإمام الرازي في المحصل مذهبه حيث قال المرجع بالقدرة في حقنا إن كان إلى سلامة الأعضاء فهو معقول وإن كان إلى أمر آخر ففيه النزاع وقال ضرار بن عمرو وهشام بن سالم إنها أي القدرة الحادثة بعض القادر فالقدرة على الأخذ عبارة عن اليد السليمة والقدرة على المشي عبارة عن الرجل السليمة وقيل القدرة بعض المقدور وفساده أظهر من أن يخفى
المقصد الرابع
المتن
اختلف في طريق إثباتها والحق أنها تعرف بالوجدان كما أشرنا إليه وقال الهمداني من المعتزلة هو تأتي الفعل من بعض الموجودين دون بعض قلنا الممنوع قادر عندك ولا يتأتى منه الفعل فإن قال يتأتى منه بتقدير ارتفاع المانع قلنا فالعاجز يتأتى منه الفعل بتقدير ارتفاع المانع وهو العجز وقال الجبائي هو العلم بصحة الشخص قلنا قد توجد ولا قدرة بأضدادها إجماعا
الشرح
المقصد الرابع اختلف في طريق إثباتها أي إثبات القدرة الحادثة والعلم بها والحق ما عليه الأشاعرة وهو أنها تعرف ويعلم وجودها بالوجدان كما أشرنا إليه حيث قلنا إن الفرق بين الصاعد بالاختيار والساقط عن علو ضروري فإنا نجد حالة الصعود أمرا ثابتا لها دون حالة السقوط وكذا نجد تفرقة ضرورية بين حركة الارتعاش وحركة الاختيار
وقال الهمداني من المعتزلة هو أي طريق إثباتها تأتي الفعل أي تيسره من بعض الموجودين دون بعض فإذا علمنا تيسر فعل من موجود
121

وتعذره من غيره علمنا أن الأول له قدرة دون الثاني قلنا الممنوع من الفعل قادر عندك على الفعل ومعلوم قدرته عليه ولا يتأتى منه الفعل حال كونه ممنوعا منه بل يتعذر عليه فلا يختص طريق إثباتها بتأتي الفعل فإن قال الهمداني يتأتى الفعل منه أي الممنوع بتقدير ارتفاع المانع قلنا فالعاجز يتأتى منه الفعل بتقدير ارتفاع المانع وهو العجز فيلزم أن يكون العاجز قادرا فإن قال القدرة مصححة للفعل لا موجبة له ولا شك أن الممنوع موصوف بما يصححه إلا أنه تخلف عنه لأجل المانع بخلاف العاجز إذ ليس معه ما يصحح الفعل قلنا المعلوم بلا شبهة هو أن الفعل يتعذر عليهما ما داما على حالهما وإذا فرض زوال ما بهما يتأتى الفعل منهما فمن أين لك وجود المصحح مع أحدهما دون الآخر وقال أبو علي الجبائي هو أي طريق العلم بالقدرة العلم بصحة الشخص وسلامته عن الآفات قلنا قد توجد تلك الصحة للشخص ولا قدرة له عند اتصافه بأضدادها من النوم والعجز فلا يكون العلم بتلك الصحة مستلزما للعلم بثبوت القدرة كيف والصحيح المتصف بتلك الأضداد لا قدرة له إجماعا
المقصد الخامس
المتن
قال الشيخ القدرة مع الفعل ولا توجد قبله إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل وإلا فلنفرض فهي حال الفعل هذا خلف
فإن قيل القدرة في الحال على إيقاع الفعل في ثاني الحال وهو لا يستدعي إمكانه في الحال بل في ثاني الحال قلنا الإيقاع إن كان نفس الفعل فمحال في الحال لما ذكرنا وإن كان غيره عاد الكلام فيه ولزم
122

التسلسل وفيه نظر يرجع إلى تحقيق معنى قوله حصول الفعل قبل الفعل محال فإنه قد يراد به بشرط كونه قبل الفعل فلا كلام إذ لا شك أنه تناقض وقد يراد به في زمان عدم الفعل بل بأن يفرض خلوه عن عدم الفعل ووقوع الفعل بدله وأنه غير محال وذلك كقعود زيد فإنه محال بشرط قيامه أي يمتنع كونه قائما قاعدا معا ولا يمتنع في زمان قيامه فإنه لا يستحيل أن يعدم القيام ويوجد بدله القعود
وقالت المعتزلة القدرة قبل الفعل فمنهم من قال ببقائها حال الفعل وإن لم تكن قدرة عليه فإنها شرط كالبنية ومنهم من نفاه ودليلهم وجوه
الأول إن تعلق القدرة معناه الإيجاد وإيجاد الموجود محال
قلنا إيجاده بذلك الوجود جائز بمعنى أن يكون ذلك الوجود مستندا إلى الموجد
الثاني يلزم القدرة على الباقي
قلنا نلتزمه لدوام وجوده بدوام تعلق القدرة أو نفرق باحتياج الموجود عن عدم إلى المقتضى دون غيره أن ننقض أو لا بتأثير العلم في الإتقان وفي كون الفاعل فاعلا والإرادة إذ يوجبونها حال الحدوث دون البقاء
الثالث أنه يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره
أجيب بأن الفعل في الأزل غير ممكن فلا تتعلق به وفيه نظر إذ فيه التزام وما ذكروه بيان للسبب وأيضا فالتعلق قبله بزمان لا يمتنع فيرد الإشكال بحسبه
الرابع يلزم أن لا يكون الكافر مكلفا بالإيمان لأنه غير مقدور له ولو جوز فليجز تكليفه بخلق الجواهر والأعراض
123

قلنا يجوز تكليف المحال عندنا والفرق أن ترك الإيمان بقدرته بخلاف عدم الجواهر والأعراض
وبالجملة فكون الشيء مقدورا الذي هو شرط التكليف عندنا أن يكون هو متعلقا للقدرة أو ضده
فروع للمعتزلة
الأول هل يخلو القادر عن جميع مقدوراته جوزه أبو هاشم وأتباعه مطلقا وفصل الجبائي فجوزه عند المانع ومنعه عند عدمه في المباشر دون المولد
الثاني تنقسم الأفعال المقدورة إلى ما لا يحتاج إلى آلة كالقائمة بالمحل وإلى ما يحتاج كالخارجة عنه
الثالث اتفقوا على أنها لا تبقى غير متعلقة فقيل القدرة تتعلق بالفعل عقيبها وقيل بما بعدها مطلقا فالجبائي الفاعل في الحالة الأولى يفعل وفي الثانية فعل وابنه في الأولى سيفعل وفي الثانية يفعل وابن المعتمر يفعل مطلقا
الرابع قال العلاف القدرة على أفعال القلوب معها وعلى أفعال الجوارح قبلها
الشرح
المقصد الخامس قال الشيخ وأصحابه القدرة الحادثة مع الفعل أي أنها توجد حال حدوث الفعل وتتعلق به في هذه الحالة ولا
124

توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلقها به إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل بل يمتنع وجوده فيه وإلا أي وإن لم يمتنع وجوده قبله بل أمكن فلنفرض وجوده فيه فهي أي فالحالة التي فرضناها أنها حالة سابقة على الفعل ليست كذلك بل هي حالة الفعل هذا خلف محال لأن كون المتقدم على الفعل مقارنا له يستلزم اجتماع النقيضين أعني كونه متقدما وغير متقدم فقد لزم من وجود الفعل قبله محال فلا يكون ممكنا إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات وإذا لم يكن الفعل ممكنا قبله لم يكن مقدورا قبله فلا تكون القدرة عليه موجودة حينئذ ولا شك أن وجود القدرة بعد الفعل مما لا يتصور فتعين أن تكون موجودة معه وهو المطلوب
فإن قيل نحن لا ندعي أن القدرة إذا وجدت في حال كانت متعلقة بوجود الفعل في ذلك الحال حتى يلزم إمكان وجوده فيه بل نقول القدرة في الحال إنما هي على إيقاع الفعل في ثاني الحال وهو أي تعلق القدرة السابقة بالفعل على هذا الوجه لا يستدعي إمكانه أي إمكان الفعل في الحال بل في ثاني الحال فلا يضرنا ما ذكرتم من أن الفعل ليس بممكن قبل حدوثه في جواز كون القدرة موجودة قبله
قلنا الإيقاع الذي هو تأثير القدرة الحادثة في الفعل وإيجادها إياه على رأيكم إن كان نفس الفعل على معنى أن التأثير في الفعل هو عين حصول الأثر الذي هو الفعل فمحال أي فالإيقاع محال في الحال لما ذكرنا من أن حصول الفعل مستحيل قبل زمان حدوثه وإن كان غيره عاد الكلام فيه لأن الإيقاع ممكن حادث فلا بد له من تأثير القدرة فيه فللإيقاع إيقاع آخر ولزم التسلسل بأن يكون بين القدرة والفعل إيقاعات وتأثيرات غير متناهية لا يقال الإيقاع أمر اعتباري فلا حاجة به إلى إيقاع
125

آخر لأنا نقول اتصاف الموقع بصفة الإيقاع دون اللا إيقاع يحتاج إلى ترجيح قطعا وهو المراد بالتأثير والإيقاع وفيه أي فيما ذكرنا من دليل الشيخ نظر يرجع ذلك النظر إلى تحقيق معنى قوله حصول الفعل قبل الفعل محال فإنه قد يراد به أن حصول الفعل في زمان بشرط كونه قبل الفعل محال فلا كلام فيه إذ لا شك أنه تناقض لاستلزامه أن يكون ذلك الزمان متقدما على الفعل وأن لا يكون متقدما عليه بل معه واستلزامه أيضا اجتماع وجود الفعل وعدمه معا لكن هذا المحال لم يلزم من وجود الفعل في ذلك الزمان وحده حتى يلزم امتناعه فيه بل منه مع فرض كون ذلك الزمان قبل الفعل مقارنا لعدمه فيكون هذا المجموع محالا دون الفعل وحده بل هو ممكن في ذاته قطعا فلا يتصف بالامتناع الذاتي أصلا بل بالامتناع الغيري وذلك لا ينافي تعلق القدرة به وقد يراد به معنى آخر وهو وجود الفعل في زمان عدم الفعل لا بأن يجتمع فيه مع عدمه بل بأن يفرض خلوه أي خلو ذلك الزمان عن عدم الفعل و يفرض وقوع الفعل فيه بدله وأنه غير محال في نفسه ولا يستلزم محالا أيضا فيجوز تعلق القدرة به قبل حدوثه على هذا الوجه وذلك الذي ذكرناه من أن الفعل قبله محال بشرط كونه قبل الفعل وليس بمحال إذ لم يؤخذ بذلك الشرط كقعود زيد فإنه محال بشرط قيامه أي يمتنع كونه قائما قاعدا معا فيكون الاجتماع محالا لا القعود في نفسه ولا يمتنع قعوده في زمان قيامه فإنه لا يستحيل أن يعدم القيام ويوجد بدله القعود وقد وافق الشيخ في أن القدرة الحادثة مع الفعل كثير من المعتزلة كالنجار
126

ومحمد بن عيسى وابن الراوندي وأبي عيسى الوراق وغيرهم
وقالت المعتزلة أي أكثرهم القدرة قبل الفعل وتتعلق به حينئذ ويستحيل تعلقها بالفعل حال حدوثه ثم اختلفوا في بقاء القدرة فمنهم من قال ببقائها حال وجود الفعل وإن لم تكن القدرة الباقية قدرة عليه أي على ذلك الفعل لامتناع تعلقها به حال وجوده لكن يجب بقاؤه إلى زمان وجود مقدورها فإنها شرط لوجود المقدور كالبنية المخصوصة المشروطة في وجود الأفعال المقدورة ومنهم من نفاه أي وجوب البقاء وجوز انتفاء القدرة حال وجود الفعل كما جوزوا كلهم انتفاء الفعل حال وجود القدرة ودليلهم على أن القدرة وتعلقها بالفعل إنما هو قبله لا معه وجوه
الأول أن تعلق القدرة بالفعل معناه الإيجاد وإيجاد الموجود محال لأنه تحصيل الحاصل بل يجب أن يكون الإيجاد قبل الوجود ولهذا صح أن يقال أوجده فوجد
قلنا هذا مبني على أن القدرة الحادثة مؤثرة وهو ممنوع وعلى تقدير تسليمه نقول ايجاده أي إيجاد الموجود بذلك الوجود الذي هو أثر ذلك الإيجاد جائز بمعنى أن يكون ذلك الوجود الذي هو به موجود في زمان الإيجاد مستندا إلى الموجد ومتفرعا على إيجاده والمستحيل هو إيجاد الموجود بوجود آخر وتحقيقه ما مر من أن التأثير مع حصول الأثر
127

بحسب الزمان وإن كان متقدما عليه بحسب الذات وهذا التقدم هو المصحح لاستعمال الفاء بينهما
الوجه الثاني إن جاز تعلق القدرة بالفعل الحادث حال حدوثه يلزم القدرة على الباقي حال بقائه والتالي باطل بيان الملازمة أن المانع من تعلق القدرة بالباقي ليس إلا كونه متحقق الوجود والحادث حال حدوثه متحقق الوجود أيضا أو نقول وجود الباقي هو نفس الوجود حال الحدوث فلو تعلقت القدرة به حال الحدوث لتعلقت به حال البقاء لأن المتعلق واحد ولا تأثير لتعاقب الأوقات في أحكام الأنفس
قلنا نلتزمه أي نلتزم تعلق القدرة بالباقي لدوام وجوده بدوام تعلق القدرة به أو نفرق بين الحادث والباقي بما تبطل به الملازمة المذكورة أعني باحتياج الموجود عن عدم إلى المقتضى لوجوده دون غيره وهو الباقي ومعناه أن الحادث هو الموجود بعد العدم فلو لم تتعلق به القدرة لبقي على عدمه وقد فرضنا وجوده هذا خلف بخلاف الباقي فإنه كان موجودا حال الحدوث فلو لم تتعلق به القدرة لبقي على الوجود وليس بمحال لكونه مطابقا للواقع أو ننقض دليلهم أو لا بتأثير العلم في الإتقان فإن المؤثر في إتقان الفعل وأحكامه هو العلم أو العالمية عندهم ولم يشترطوا مقارنة شيء منهما للإتقان حالة البقاء وإن كان ذلك مشروطا عندهم حال حدوثه و ثانيا بتأثير الفعل في كون الفاعل فاعلا فإن الفعل مؤثر في اتصاف الفاعل بكونه فاعلا حال الحدوث وبتقدير كون الفعل باقيا عندهم لا يؤثر في اتصافه بالفاعلية حال البقاء وننقضه ثالثا بمقارنة الإرادة إذ يوجبونها أي يوجبون مقارنتها للموجود حال الحدوث دون البقاء فلم يلزم
128

من عدم المقارنة حال البقاء عدم المقارنة حال الحدوث فكذا الحال في القدرة
قال الآمدي ولو راموا الفرق بين هذه الصور الثلاث وبين القدرة لم يجدوا إليه سبيلا
الوجه الثالث أنه أي كون القدرة مع الفعل لا قبله يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره إذ الفرض كون القدرة والمقدور معا فيلزم من حدوث مقدوره تعالى حدوث قدرته أو من قدم قدرته قدم مقدوره وكلاهما باطل بل قدرته أزلية إجماعا ومتعلقة في الأزل بمقدوراته فقد ثبت تعلق القدرة بمقدورها قبل حدوثه ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القديمة أيضا
أجيب عن ذلك بأن الفعل في الأزل غير ممكن فلا تتعلق به القدرة القديمة
قال المصنف وفيه أي في هذا الجواب الذي ذكره الآمدي نظر إذ فيه التزام لمذهب الخصم أعني وجود القدرة قبل الفعل وما ذكروه في الجواب بيان للسبب الذي به كان المقدور متأخرا عن القدرة فهو تأييد لمذهبه لا دفع له فإن قلت إن المعتزلة ادعوا وجود القدرة قبل الفعل مع تعلقها به والمجيب سلم وجودها ومنع تعلقها فلا يكون التزاما لمقالتهم قلت وجود القدرة مع انتفاء التعلق بالكلية مما تأباه البديهة فلا بد أن يقال هناك تعلق معنوي غير كاف في وجود المقدور وبذلك تثبت القدرة قبل الفعل مع تعلقها به في الجملة وأيضا إن امتنع تعلق القدرة بالفعل في الأزل لامتناع كون الفعل أزليا فالتعلق أي تعلقها بالفعل قبله بزمان متناه لا يمتنع فيرد الإشكال بحسبه أي بحسب هذا التعلق إذ حينئذ تكون القدرة
129

موجودة قبل الفعل ومتعلقة به أيضا قبله بزمان محدود كان الفعل فيه ممكنا فالصواب في الجواب أن يقال القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا فلا يلزم من جواز تقدمها على الفعل جواز
تقدم الحادثة عليه ثم إن القدرة القديمة متعلقة في الأزل بالفعل تعلقا معنويا لا يترتب عليه وجود الفعل ولها تعلق آخر به حال حدوثه تعلقا حادثا موجبا لوجوده فلا يلزم من قدمها مع تعلقها المعنوي قدم آثارها فاندفع الإشكال بحذافيره
الوجه الرابع إن كانت القدرة على الفعل معه لا قبله يلزم أن لا يكون الكافر في زمان كفره مكلفا بالإيمان لأنه غير مقدور له في تلك الحالة المتقدمة عليه بل نقول يلزم أن لا يتصور عصيان من أحد إذ مع الفعل لا عصيان وبدونه لا قدرة فلا تكليف فلا عصيان وأيضا أقوى أعذار المكلف التي يجب قبولها لدفع المؤاخذة عنه هو كون ما كلف به غير مقدور له فإذا لم يكن قادرا على الفعل قبله وجب دفع المؤاخذة عنه بعدم الفعل المكلف به وهو باطل بإجماع الأمة ولو جوز تكليف الكافر بالإيمان مع كونه غير مقدور له فليجز تكليفه بخلق الجواهر والأعراض مما ليس مقدورا له إذ لا مانع من التكليف بهذا الخلق سوى كونه غير مقدور وقد فرضنا أنه لا يصلح مانعا قلنا يجوز تكليف المحال عندنا فيلزم جواز التكليف بالخلق المذكور و لنا الفرق وهو أن ترك الإيمان من الكافر حال كفره إنما هو بقدرته وإن لم يكن وجوده مقدورا له حينئذ بخلاف عدم الجواهر والأعراض فإنه ليس مقدورا له أصلا فلا يلزم من جواز التكليف بالإيمان جواز التكليف بخلقها
وبالجملة فكون الشيء مقدورا الذي هو شرط التكليف عندنا أن يكون
130

هو أي ذلك الشيء متعلقا للقدرة أو يكون ضده متعلقا لها وهذا الشرط حاصل في الإيمان فإنه وإن لم يكن مقدورا له قبل حدوثه لكن تركه بالتلبس بضده الذي هو الكفر مقدور له حال كونه كافرا بخلاف أحداث الجواهر والأعراض فإنه غير مقدور له فعله ولا تركه فلا يجوز التكليف به وأما ما ذكروه من قصة الأعذار ووجوب قبولها فمبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وسيأتي بطلانها
فروع المعتزلة مبنية على مذهبهم في القدرة الحادثة
الأول هل يخلو القادر عن جميع مقدوراته جوزه أبو هاشم وأتباعه مطلقا وفصل الجبائي فجوزه أي الخلو عن جميع المقدورات عند وجود المانع ومنعه عند عدمه في المباشر دون المولد أي لم يجوز الخلو عند عدم المانع في الأفعال المباشرة وجوزه في الأفعال المولدة وقد تبين أن القدرة الحادثة لا تخلو عن مقدورها عند الأشاعرة
الفرع الثاني أنهم اتفقوا على أنه تنقسم الأفعال المقدورة إلى ما لا يحتاج في وقوعه إلى آلة كالقائمة بالمحل أي كالأفعال القائمة بمحل القدرة مثل حركة اليد وإلى ما يحتاج في وقوعه إلى آلة كالخارجة عنه أي كالأفعال الخارجة عن محل القدرة مثل حركة الحجر بتحريك اليد وعند الأشاعرة أن القدرة الحادثة لا تتعلق بما في غير محلها
الفرع الثالث اتفقوا على أنها لا تبقى غير متعلقة أي يستحيل أن توجد القدرة مع أنها لا تتعلق بمقدورها أصلا لكنهم اختلفوا في كيفية
131

تعلقها به فقيل القدرة الحادثة تتعلق بالفعل عقيبها أي هي في وقت وجودها متعلقة بالمقدور في الحالة الثانية فقط فلا تتعلق به في الحالة الثالثة إلا في الحالة الثانية وكذلك المقدور في الحالة الرابعة لا تتعلق به القدرة إلا في الحالة الثالثة وهكذا
وقيل القدرة حال وجودها متعلقة بما بعدها مطلقا أي هي في تلك الحالة متعلقة بوجود الفعل في الحالة الثانية والثالثة وما بعدها وليس يختص تعلقها بوجود الفعل في الحالة الثانية فقط
قال الآمدي ثم إن المخصصين لتعلقها بالحالة الثانية اختلفوا فالجبائي قال الفاعل في الحالة الأولى التي وجد فيها القدرة دون الفعل يقال في حقه يفعل وفي الحالة الثانية التي هي حال وجود الفعل يقال فعل ولا يقال يفعل و قال ابنه يقال في الحالة الأولى سيفعل ويقال في الحالة الثانية يفعل و قال ابن المعتمر يقال يفعل مطلقا أي في الحالتين معا وما ذهب إليه أبو هاشم أقرب إلى قواعد العربية فإن صيغة المضارع إذا أطلقت مجردة عن قرائن الاستقبال يتبادر منها الحال وكأن ابن المعتمر اختار مذهب الاشتراك والجبائي جعلها حقيقة في الاستقبال
الفرع الرابع قال أبو الهذيل العلاف القدرة على أفعال القلوب معها ولا يجوز تقدمها عليها والقدرة على أفعال الجوارح يجب أن تكون قبلها
قال الآمدي هذا وأمثالها من الاختلافات التي لا مستند لها يظهر
132

فسادها بأوائل النظر فيها والاشتغال بها تضييع للزمان في غيرهم فلذلك أعرضنا عنها
المقصد السادس
المتن
الممنوع عن الفعل هل هو قادر عليه منعه الأشاعرة إذ القدرة مع الفعل وقال به المعتزلة قالوا العجز يضاد القدرة والمنع المقدور وجوديا مضادا للمقدور أو مولدا لضده أو عدميا وادعوا الضرورة في الفرق بين الزمن والمقيد وذلك لأنه لم يتبدل ذاته ولا صفته ولم يطرأ عليه ضد من أضداد القدرة وعندنا لا فرق إلا ما يعود إلى جريان العادة بخلق الفعل فيه وعدمه ونمنع عدم تبدل صفاته فإن الله تعالى لم يخلق فيه القدرة ولا حاجة إلى طرو ضد
الشرح
المقصد السادس الممنوع عن الفعل هل هو قادر عليه حال كونه ممنوعا عنه منعه الأشاعرة إذ القدرة عندهم مع الفعل فلا يتصور كون الممنوع عن فعل قادر عليه في حالة المنع إذ لا فعل حينئذ فلا قدرة عليه وقال به أي بكون الممنوع قادرا على الفعل المعتزلة وفرقوا بين العجز والمنع حيث قالوا العجز يضاد القدرة دون المقدور والمنع بعكسه فإنه لا يضاد القدرة بل يضاد المقدور وينافيه مع بقاء القدرة سواء كان المنع وجوديا مضادا بنفسه للمقدور كالسكون بالنسبة إلى الحركة
133

المقدورة أو وجوديا مولدا لضده أي ضد المقدور كالاعتمادات السلفية المولدة للحركة السفلية المضادة للحركة العلوية أو كان عدميا كانتفاء شرط من شرائط المقدور مثل انتفاء العلم بالفعل المحكم فإنه ينافي وجود الأحكام دون القدرة عليه وادعوا الضرورة في الفرق بين الزمن والمقيد أي قالوا لو لم يكن الممنوع قادرا على ما منع منه لم يكن فرق فبين الزمن الذي لا يتصور منه الحركة أصلا وبين المقيد الصحيح السالم عن الآفات المانعة عن الحركة لأن كل واحد منهما غير قادر على الحركة والانتقال من مكانه لكن الضرورة العقلية شاهدة بالفرق بينهما وليس ذلك إلا بأن المقيد قادر على الحركة دون صاحبه
وقالوا أيضا إن الصحيح السالم عن الآفات إذا قيد كان قادرا على الحركة كما كان قادرا عليها قبل القيد وذلك لأنه لم يتبدل ذاته ولا صفته ولم يطرأ عليه ضد من أضداد القدرة حال القيد الذي ليس هو ضدا لها فوجب بقاء قدرته قطعا و الجواب عن الأول أن يقال عندنا لا فرق بينهما إلا ما يعود إلى جريان العادة من الله سبحانه بخلق الفعل مع القدرة فيه أي في المقيد حال ارتفاع القيد فإن هذا الارتفاع معتاد وعدمه أي عدم جريان العادة بخلق الفعل مع القدرة في الزمن فإن ارتفاع زمانته غير معتاد وهذا المقدار من الفرق كاف بشهادة البديهة و الجواب عن الثاني أنا نمنع عدم تبدل صفاته حال القيد فإن الله تعالى لم يخلق فيه القدرة حال كونه مقيدا وخلقها فيه حال كونه مطلقا ماشيا ولا حاجة لانتفاء القدرة في المقيد إلى طرو ضد من أضدادها عليه بل يكفيه انتفاء خلقها فيه
134

المقصد السابع
المتن
قال الشيخ بناء على كون القدرة مع الفعل أنها لا تتعلق بالضدين بل بمقدورين مطلقا
وقالت المعتزلة تتعلق بجميع مقدوراته وقول أبي هاشم متردد فقال مرة القدرة القائمة بالقلب تتعلق بجميع متعلقاتها دون القائمة بالجوارح وتارة أخرى كل واحدة منهما تتعلق بجميع متعلقاتها دون متعلقات الأخرى وتارة كل واحدة منهما تتعلق بمتعلقاتهما جميعا غير أن كلا لا يؤثر في متعلقات الأخرى لعدم الآلة ومرة القدرة القلبية تتعلق بمتعلقيهما دون العضوية
وقال ابن الراوندي تتعلق القدرة بالضدين بدلا لا معا
وأجمعت المعتزلة على أنها تتعلق بالمتماثلات مع اتفاقهم على أنه لا يقع بها مثلان في محل في وقت وأنهم يدعون فيما ذهبوا إليه الضرورة إذ لا معنى للقدرة إلا التمكن من الطرفين ومن لا يكون قادرا على عدم الفعل فهو مضطر لا قادر وعليه بنيت الدعوة والثواب والعقاب
قال الإمام الرازي القدرة تطلق على مجرد القوة التي هي مبدأ للأفعال المختلفة ولا شك أن نسبتها إلى الضدين سواء وهي قبل الفعل وتطلق على القوة المستجمعة لشرائط التأثير ولا شك أنها لا تتعلق بالضدين بل هي بالنسبة إلى كل
مقدور غيرها بالنسبة إلى الآخر لاختلاف الشرائط وهي مع الفعل ولعل الشيخ أراد بالقدرة القوة المستجمعة والمعتزلة مجرد القوة وفيه بحث
الشرح
المقصد السابع قال الشيخ وأكثر أصحابه بناء على كون القدرة عندهم مع الفعل لا قبله أنها أي القدرة الواحدة لا تتعلق بالضدين وإلا لزم اجتماعهما لوجوب مقارنتهما لتلك القدرة المتعلقة بهما بل قالوا إن
135

القدرة الواحدة لا تتعلق بمقدورين مطلقا سواء كانا متضادين أو متماثلين أو مختلفين لا معا ولا على سبيل البدل بل القدرة الواحدة لا تتعلق إلا بمقدور واحد وذلك لأنها مع المقدور ولا شك أن ما نجده عند صدور أحد المقدورين منا مغاير لما نجده عند صدور الآخر
وقالت المعتزلة أي أكثرهم قدرة العبد تتعلق بجميع مقدوراته المتضادة وغير المتضادة وقول أبي هاشم من بينهم متردد ترددا فاحشا فقال مرة القدرة القائمة بالقلب تتعلق بجميع متعلقاتها كالاعتقادات والإرادات ونحوها دون القدرة القائمة بالجوارح فإنها لا تتعلق بجميع مقدوراتها من الاعتمادات والحركات وغيرها وقال تارة أخرى كل واحدة منهما أي من قدرة القلب وقدرة الجوارح تتعلق بجميع متعلقاتها دون متعلقات الأخرى وقال تارة ثالثة كل واحدة منهما تتعلق بمتعلقاتها التي هي أفعال القلوب والجوارح جميعا غير أن كلا منهما لا يؤثر في متعلقات الأخرى لعدم الآلة أي يمتنع إيجاد أفعال الجوارح بالقدرة القائمة بالقلب لعدم الآلات والبنية المخصوصة المناسبة لتلك الأفعال وكذا العكس وقال مرة رابعة القدرة القلبية تتعلق بمتعلقاتهما معا دون القدرة العضوية فإنها تتعلق بأفعال الجوارح دون أفعال القلوب
وقال ابن الراوندي من المعتزلة وكثير من أصحابنا تتعلق القدرة الحادثة بالضدين بدلا لا معا وأجمعت المعتزلة على أنها أي القدرة الواحدة تتعلق بالمتماثلات من جنس واحد من المقدورات على تعاقب الأزمنة والأوقات مع اتفاقهم بأسرهم على أنه لا يقع بها أي بتلك القدرة الواحدة مثلان في محل واحد في وقت واحد وأنهم أي المعتزلة يدعون فيما ذهبوا إليه من تعلق القدرة بالضدين الضرورة إذ لا
136

معنى للقدرة إلا التمكن من الطرفين أي طرفي الفعل المقدور ومن لا يكون قادرا على عدم الفعل وتركه الذي هو ضده ومنافيه فهو مضطر وملجأ إلى الفعل بحيث لا يقدر على الانفكاك عنه لا قادر عليه وهو باطل كيف وعليه أي على كون المكلف قادرا متمكنا من الفعل بنيت الدعوة إلى دين الحق والثواب والعقاب على الأفعال القلبية والقالبية وإذا ثبت تعلقها بالمتضادات فتعلقها بغيرها أولى
وأجيب عن ذلك بأنه إن أريد بكونه مضطرا أن فعله غير مقدور له فهو ممنوع وإن أريد به أن مقدوره ومتعلق قدرته متعين وأنه لا مقدور له بهذه القدرة سواه فهذا عين ما ندعيه ونلتزمه ولا منازعة لنا في تسميته مضطرا فإن الاضطرار بمعنى امتناع الانفكاك لا ينافي القدرة ألا ترى أن من أحاط به بناء من جميع جوانبه بحيث يعجز عن التقلب من جهة إلى أخرى فإنه قادر على الكون في مكانه بإجماع منا ومنهم مع أنه لا سبيل له إلى الانفكاك عن مقدوره
قال الآمدي ولئن سلمنا أن القادر على الشيء لا بد أن يكون قادرا على ضده قلنا جاز أن تكون القدرة المتعلقة بهما متعددة لا واحدة
قال الإمام الرازي القدرة تطلق على مجرد القوة التي هي مبدأ للأفعال المختلفة الحيوانية وهي القوة العضلية التي هي بحيث متى انضم إليها إرادة أحد الضدين حصل ذلك الضد ومتى انضم إليها إرادة الضد الآخر حصل ذلك الآخر ولا شك أن نسبتها أي نسبة هذه القوة إلى الضدين سواء وهي قبل الفعل و القدرة تطلق أيضا على القوة المستجمعة لشرائط التأثير برمتها ولا شك أنها أي القوة المستجمعة لا تتعلق بالضدين معا وإلا اجتمعا في الوجود بل هي أي القوة المستجمعة بالنسبة إلى كل مقدور غيرها بالنسبة إلى المقدور الآخر سواء كانا متضادين أو غير
137

متضادين وذلك لاختلاف الشرائط المعتبرة في وجود المقدورات المختلفة فإن خصوصية كل مقدور لها شرط مخصوص به يعين وجودها من بين المقدورات المشتركة في تلك القوة المجردة ألا ترى أن القصد المتعلق بها شرط لوجودها دون غيرها وهي مع الفعل لأن وجود المقدور لا يتخلف عن المؤثر التام ولعل الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة فهذا وجه الجمع بين المذهبين وفيه بحث هذا ملحق ببعض النسخ وتوجيهه أن يقال القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ فكيف يصح أن يقال إنه أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير وقد يقال أيضا يلزم من تفسيرها بهذه القوة أن يكون إطلاق القدرة على أفرادها بالاشتراك اللفظي وليس بشيء لأن مفهوم القوة المستجمعة مشترك بينهما وإن كانت هي في أنفسها متخالفة بالماهية أو الهوية
المقصد الثامن
المتن
العجز عرض مضاد للقدرة خلافا لأبي هاشم في آخر أقواله حيث ذهب إلى أنه عدم القدرة وللأصم من حيث أنه نفى الأعراض لنا التفرقة ضرورية بين الزمن والممنوع ولأبي هاشم أن يجعلها عائدة إلى عدم القدرة
138

ثم قال الشيخ العجز إنما يتعلق بالموجود فالزمن عاجز عن القعود لا عن القيام فإن التعلق بالمعدوم خيال محض وله قول ضعيف أنه إنما يتعلق بالمعدوم وإليه ذهبت المعتزلة وكثير من أصحابنا وجواز تعلقه بالضدين فرع ذلك معتمد القول الأول أنه ضد القدرة فمتعلقهما واحد والقدرة متعلقة بالموجود والثاني الإجماع على عجز الزمن عن القيام ولو قيل يلزم عدم عجز المتحدي بمعارضة القرآن وأنه خلاف الإجماع والمعقول لكان حسنا ويمكن الجواب بأن العجز يقال باشتراك اللفظ لعدم القدرة ولصفة تستعقب الفعل لا عن قدرة
الشرح
المقصد الثامن العجز عرض موجود مضاد للقدرة باتفاق من الأشاعرة وجمهور المعتزلة خلافا لأبي هاشم في آخر أقواله حيث ذهب إلى أنه أي العجز عدم القدرة ونفى كونه معنى موجودا مع أنه معترف بوجود الأعراض وخلافا للأصم فإنه نفى كون العجز عرضا موجودا من حيث أنه نفي الأعراض مطلقا لنا في إثبات كونه وجوديا التفرقة الضرورية بين الزمن والممنوع من الفعل فإن كل عاقل يجد من نفسه التفرقة بين كونه زمنا وكونه ممنوعا من القيام مع سلامته وما هي إلا أن في الزمن صفة وجودية هي العجز وليس هذه الصفة في الممنوع ولأبي هاشم أن يجعلها أي التفرقة الضرورية عائدة إلى عدم القدرة في الزمن ووجودها في الممنوع فإن الممنوع قادر على رأيه كما مر
قال الإمام الرازي لا دليل على كون العجز صفة وجودية وما يقال من أن جعل العجز عبارة عن عدم القدرة ليس أولى من العكس ضعيف
139

لأنا نقول كلاهما محتمل وإذا لم يقم دليل على أحدهما كان الاحتمال باقيا وفي نقد المحصل أن القدرة إن فسرت بسلامة الأعضاء فالعجز حينئذ عبارة عن آفة تعرض للأعضاء وتكون القدرة أولى بأن لا تكون وجودية لأن السلامة عدم الآفة وإن فسرت القدرة بهيئة تعرض عند سلامة الأعضاء وتسمى بالتمكن أو بما هو علة له وجعل العجز عبارة عن عدم تلك الهيئة كانت القدرة وجودية والعجز عدميا وإن أريد بالعجز ما يعرض للمرتعش وتمتاز به حركة الارتعاش عن حركة الاختيار فالعجز وجودي ولعل الأشاعرة ذهبوا إلى هذا المعنى فحكموا بكونه وجوديا ثم قال الشيخ أبو الحسن الأشعري في الأصح من قوليه العجز إنما يتعلق بالموجود دون المعدوم على قياس القدرة فالزمن عاجز عن القعود الموجود لا عن القيام المعدوم فإن التعلق بالمعدوم خيال محض لا عبرة به أصلا وأختار على هذا القول أن العجز لا يسبق المعجوز عنه ولا يتعلق بالضدين على نحو ما ذكره في القدرة وله قول ضعيف هو أنه أي العجز إنما يتعلق بالمعدوم دون الموجود وإليه ذهب المعتزلة وكثير من أصحابنا وعلى هذا فالزمن عاجز عن القيام المعدوم لا عن القعود الموجود وإن كان مضطرا إليه بحيث لا سبيل له إلى الانفكاك عنه وجواز تعلقه أي تعلق العجز بالضدين فرع ذلك أي يجوز على هذا القول تعلق الهجز الواحد بالضدين وإن لم يجز تعلق القدرة الواحدة بهما وذلك لأن العجز متعلق بالعدم ويجوز اجتماع الضدين فيه والقدرة متعلقة بالوجود ولا يجوز اجتماعهما فيه وكذا يتقدم العجز على المعجوز عنه في هذا القول وأما على القول الأول فلا سبق ولا تعلق بالضدين كما عرفت معتمد القول الأول الذي هو الأصح أنه أي العجز ضد القدرة في جهة التعلق فمتعلقها واحد وإلا لما تضادا في التعلق والقدرة متعلقة بالموجود كما مر فيكون العجز متعلقا به أيضا ونظير ذلك
140

الإرادة والكراهة فإنهما لما تضادتا كان متعلقهما واحدا إذ لو اختلف متعلقهما لم تتضادا و معتمد القول الثاني هو
الإجماع من العقلاء على عجز الزمن عن القيام مع أنه معدوم
قال المصنف ولو قيل في الاستدلال على القول الثاني إن لم يتعلق العجز بالمعدوم يلزم عجز المتحدي بمعارضة القرآن أي يلزم أن لا يكون المتحدي بمعارضته عاجزا عن الإتيان بمثله بل يكون عاجزا عن عدم الإتيان بمثله وأنه خلاف الإجماع لأن الأمة مجمعون على عجزه عن الإتيان بمثل القرآن وخلاف المعقول أيضا لأن العقل يحكم بأن المعارضة إنما تكون بالأمثال لا بإعدامها لكان حسنا جدا
ويمكن الجواب عن الاستدلالين بأن العجز يقال باشتراك اللفظ لعدم القدرة وهو ظاهر ولصفة وجودية تستعقب الفعل لا عن قدرة كما في المرتعش فالزمن عاجز عن القيام بالمعنى الأول دون الثاني وعاجز عن القعود بالمعنى الثاني والمتحدون عاجزون بالمعنى الأول عن الإتيان بمثل القرآن وكأن الشيخ بنى قوليه على هذين المعنيين كما أشير إليه
المقصد التاسع
المتن
المقدور هل هو تبع للعلم أو للإرادة للمعتزلة فيه خلاف فمن قال تبع للإرادة فلأنه حقيقة القدرة ومن قال تبع للعلم فلأن صاحب الملكة يصدر عنها أفعال لا يقصدها فإن الكاتب يراعي دقائق في حرف واحد ولو لاحظها لفاته كثير منها
141

الشرح
المقصد التاسع المقدور هل هو تبع للعلم أو للإرادة للمعتزلة فيه خلاف فمن قال منهم هو تبع للإرادة فلأنه أي كون المقدور تبعا للإرادة حقيقة القدرة ومقتضاها فإنها صفة تؤثر على وفق الإرادة فيكون المقدور تبعا للإرادة قطعا ومن قال منهم هو تبع للعلم فلأن صاحب الملكة في صناعة زاولها مدة مديدة يصدر عنها أفعال محكمة متقنة لا يقصدها أي لا يقصد تفاصيل أجزائها ولو قصدها لم توجد على تلك الوجوه من الحسن والأحكام فإن الكاتب الحاذق يراعي دقائق كثيرة في حرف واحد بلا قصد إليها ولو لاحظها وقصد إليها لفاته كثير منها وأما الأشاعرة فقد حكموا بأن مقدورات العباد مخلوقة لله تعالى بإرادته المتعلقة بتفاصيلها
المقصد العاشر
المتن
هل النوم ضد للقدرة اتفقت المعتزلة وكثير منا على امتناع صدور الأفعال المتقنة الكثيرة من النائم وجواز القليلة بالتجربة فقيل هي مقدورة له
وقال الأستاذ أبو إسحق هي غير مقدورة له وتوقف القاضي وأما الرؤيا فخيال باطل عند المتكلمين أما عند المعتزلة فلفقد شرائط الإدراك من المقابلة وانبثاث الشعاع وتوسط الهواء والبنية المخصوصة وأما عند الأصحاب إذا لم يشترطوا شيئا من ذلك فلأنه خلاف العادة والنوم ضد للأدراك
142

وقال الأستاذ إنه إدراك حق إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه من إبصار وسمع وبين ما يجده اليقظان فلو جاز التشكيك فيه لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة ولم يخالف في كون النوم ضدا لكنه زعم أن الإدراك يقوم بجزء غير ما يقوم به النوم
وقال الحكماء المدرك في النوم يوجد في الحس المشترك ويكون ذلك على وجهين
الأول أن يرد عليه من النفس وهي تأخذه من العقل الفعال فإن جميع الصور الكائنات مرتسم فيه ثم يلبسه الخيال لما جبل عليه من الانتقال والتفصيل والتركيب صورا إما قريبة أو بعيدة فيحتاج إلى التعبير وهو أن يرجع المعبر قهقريا مجردا له عن تلك الصور حتى يحصل ما أخذته النفس فيكون هو الواقع وقد لا يتصرف فيه الخيال فيؤديه كما هو بعينه فيقع من غير حاجة إلى التعبير
الثاني أن يرد عليه إما من الخيال مما ارتسم فيه في اليقظة ولذلك فإن من دام فكره في شيء يراه في منامه وإما مما يوجبه مرض كثوران خلط أو بخار ولذلك فإن الدموي يرى في حلمه الأشياء الحمر والصفراوي النيران والأشعة والسوداوي الجبال والأدخنة والبلغمي المياه والألوان البيض وهذا بقسميه من قبيل أضغاث الأحلام لا يقع هو ولا تعبيره
فروع للمعتزلة
الأول اختلفوا فيمن يتمكن من حمل مائة من فقط ولا يتمكن من حمل مائة أخرى معها فقيل عاجز عن حملها وقيل لا يوصف بالعجز ولا بالقدرة وقيل قادر على حمل إحداهما من غير تعيين والكل مناقض لأصلهم في تعلق القدرة بجميع المقدورات
فإن قيل مذهبنا أن لا تتعلق في وقت في محل من جنس بأكثر من واحد
قلنا المحل المحمول وهو مختلف
143

الثاني شخصان يقدر كل على حمل مائة من إذا اجتمعا عليه فمنهم من قال حملها واقع بقدرة كل واحد واحد ويلزمه اجتماع قادرين على مقدور واحد وربما التزم ومنهم من قال هذا حامل للبعض وذاك للبعض ولا يخفى ما فيه من التحكم فإن نسبة كل جزء إلى كل واحد على السوية
الثالث قالوا القدرة الواحدة قد تولد في محال متفرقة حركات إلى جهات مختلفة وأما في محال مجتمعة فلا بل يجتمع على عشرة أجزاء مجتمعة عشرة أجزاء من القدرة فالقدرة على تحريك كل جزء غير القدرة على تحريك الآخر وإلا لكان قدرة على تحريك الأجزاء بالغة ما بلغت
الرابع قال الجبائي الاجتماع يمنع التحريك كالقيد وهو فرع أن المعدوم مقدور وبه منع كون القادر على حمل مائة من قادرا على حمل المائة الأخرى
الشرح
المقصد العاشر هل النوم ضد للقدرة فلا يكون حينئذ فعل النائم مقدورا له أوليس ضدا لها فجاز أن يكون فعله مقدورا له فنقول اتفقت المعتزلة وكثير منا على امتناع صدور الأفعال المتقنة الكثيرة من النائم وجواز صدور الأفعال المحكمة القليلة منه بالتجربة ثم اختلف المجوزون في هذه الأفعال القليلة فقيل هي مقدورة له وإن كان لا علم له بها فإن النوم لا يضاد القدرة مع كونه مضادا للعلم وغيره من الإدراكات باتفاق العقلاء
وقال الأستاذ أبو إسحق هي غير مقدورة له فإن النوم يضاد القدرة كما يضاد العلم وسائر الإدراكات وتوقف القاضي أبو بكر وكثير من
144

أصحابنا وقالوا لا قطع بكون تلك الأفعال مكتسبة للنائم ولا بكونها ضرورية له بل كلاهما محتمل بلا ترجيح
قال الآمدي قد ندعي الضرورة في العلم بكونها مقدورة للنائم من حيث أنا نفرق بين ارتعاد يده في نومه وبين تقلبه وقبض يده وبسطها كما نفرق بينهما في حق المستيقظ من غير فرق ومن رام التسوية بينهما في النائم لم يبعد عنه التشكيك في تسويتهما في حق اليقظان وهو بعيد عن المعقول قال هذا وإن كان في غاية الوضوح لكن فيه من مذهب القاضي نوع حزازة لأن الدليل يوافق مذهبه فإنا قطعنا بكون الرعدة ضرورية وكون القيام مثلا مكتسبا في حق المستيقظ فلعل الاستيقاظ شرط في الاكتساب أو النوم مانع منه ولما كان لقائل أن يقول إذا كان النوم مضادا للعلم وباقي الإدراكات فماذا نقول فيما يراه النائم ويدركه بالبصر والسمع وغيرهما أشار إلى جوابه بقوله وأما الرؤيا فخيال باطل عند المتكلمين أي جمهورهم أما عند المعتزلة فلفقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة وانبثاث الشعاع وتوسط الهواء الشفاف والبنية المخصوصة وانتفاء الحجاب إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراكات فما يراه النائم ليس من الإدراكات في شيء بل هو من قبيل الخيالات الفاسدة والأوهام الباطلة وأما عند الأصحاب إذا لم يشترطوا في الإدراك شيئا من ذلك أي مما ذكر من الشرائط المعتبرة عند المعتزلة فلأنه أي الإدراك في حالة النوم خلاف العادة أي لم تجر عادته تعالى بخلق الإدراك في الشخص وهو نائم ولأن النوم ضد للإدراك فلا يجامعه فلا تكون الرؤيا إدراكا حقيقة بل من قبيل الخيال الباطل
145

وقال الأستاذ أبو إسحاق إنه أي المنام إدراك حق بلا شبهة إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه في نومه من إبصار للمبصرات وسمع للمسموعات وذوق للمذوقات وغيرها من الإدراكات وبين ما يجده اليقظان في يقظته من إدراكاته فلو جاز التشكيك فيه أي فيما يجده النائم لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة والقدح في الأمور المعلومة حقيقتها بالبديهة ولم يخالف الأستاذ في كون النوم ضدا للإدراك لكنه زعم أن الإدراك يقوم بجزء من أجزاء الإنسان
غير ما يقوم به النوم من أجزائه فلا يلزم اجتماع الضدين في محل واحد
وقال الحكماء المدرك في النوم يوجد في الحس المشترك وذلك أن الحس المشترك مجمع المحسوسات الظاهرة فإن الحواس الظاهرة إذا أخذت صور المحسوسات الخارجية وأدتها إلى الحس المشترك صارت تلك الصور مشاهدة ثم أن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور إذا ركبت صورة فربما انطبعت تلك الصورة في الحس المشترك وصارت مشاهدة على حسب مشاهدة الصور الخارجية فإن الخارجية لم تكن مشاهدة لكونها صورة الخارجية بل لكونها مرتسمة في الحس المشترك ومن طباع القوة المتخيلة التصوير والتشبيح دائما حتى لو خليت وطباعها لما فترت عن هذا الفعل أعني رسم الصور في الحس المشترك إلا أن هناك أمرين صارفين لها عن فعلها
أحدهما توارد الصور من الخارج على الحس المشترك فإنه إذا انتقش بهذه الصور لم يتسع لانتقاشه بالصور التي تركبها المتخيلة فيعوقها ذلك عن عملها لعدم القابل
146

وثانيهما تسلط العقل أو الوهم عليها بالضبط عندما يستعملانها فتتعوق بذلك عن عملها وإذا انتفى هذان الشاغلان أو أحدهما تفرعت لفعلها وظهر سلطانها في التصوير ولا شك أن الشخص إذا نام انقطع عن الحس المشترك توارد الصور من الخارج فيتسع لانتقاش الصور من الداخل إذا عزفت هذا فنقول ما يدركه النائم ويشاهده صور مرتسمة في الحس المشترك موجودة فيه ويكون ذلك أي وجدانه في الحس المشترك وارتسامه فيه على وجهين
الأول أن يرد ذلك المدرك عليه أي على الحس المشترك من النفس الناطقة وهي تأخذه من العقل الفعال فإن جميع صور الكائنات من الأزل إلى الأبد مرتسم فيه بل في جميع المبادئ العالية والملائكة السماوية ومن شأن النفس الناطقة أن تتصل بتلك المبادئ اتصالا معنويا روحانيا وتنتقش ببعض ما فيها مما كان أو سيكون أو هو كائن إلا أن استغراقها في تدبير بدنها يعوقها عن ذلك فإذا حصل لها بالنوم أدنى فراغ فربما اتصلت بها فارتسم فيها ما يليق بها من أحوالها وأحوال من يقرب منها من الأهل والولد والإقليم والبلد حتى لو اهتمت بمصالح الناس رأتها ولو كانت منجذبة الهمة إلى المعقولات لاحت لها أشياء منها ثم إن ذلك الأمر الكلي المنتقش في النفس يلبسه ويكسوه الخيال أي القوة المتخيلة لما جبل الخيال عليه من المحكاة والانتقال من شيء إلى آخر مشابه له بوجه ما ومن التفصيل بين الأشياء المتصلة والتركيب بين الأمور المتفاصلة على وجوه مختلفة وأنحاء شتى صورا أي يلبسه صورا جزئية إما قريبة من ذلك الأمر الكلي أو بعيدة منه فيحتاج في معرفة ما ارتسمت في النفس على الوجه الكلي إلى التعبير وهو أن يرجع المعبر رجوعا قهقريا مجردا له أي لما رآه النائم عن تلك الصور التي صورها المتخيلة حتى يحصل المعبر بهذا التجريد إما بمرتبة أو
147

بمراتب على حسب تصرف المتخيلة في التصوير والكسوة ما أخذته النفس من العقل الفعال فيكون هو الواقع المطابق لما في نفس الأمر وقد لا يتصرف فيه أي فيما أخذته النفس الخيال فيؤديه كما هو بعينه أي لا يكون هناك تفاوت إلا بالكلية والجزئية فيقع ما رآه النائم من غير حاجة في الرؤيا إلى التعبير وقد يتصرف فيه تصرفا كثيرا فينتقل منه إلى نظيره ومن ذلك النظير إلى آخر وهكذا مع تفاوت وجوه المناسبة في تلك النظائر حتى ينسد على المعبر طريق الوصول إليه
الوجه الثاني أن يرد عليه أي على الحس المشترك لا من النفس بل إما من الخيال الذي هو خزانة صور المحسوسات بالحواس الظاهرة مما ارتسم فيه في اليقظة فإن القوة المتخيلة لما وجدت الحس المشترك خاليا صورت فيه بعض الصور الخيالية ولذلك فإن من دام فكره في شيء وارتسمت صورته في الخيال يراه في منامه وقد تركب المتخيلة صورة واحدة من الصور الخيالية المتعددة وتنقشها في الحس المشترك فتصير مشاهدة مع أن تلك الصورة لم تكن مرتسمة في الخيال من الأمور الخارجة وقد تفصل أيضا بعض الصور المتأدية إليه من الخارج وترسمها هناك ولذلك قلما يخلو النوم عن المنام من هذا القبيل وأما مما يوجبه مرض كثوران خلط من الأخلاط الأربعة أو بخار فإن المرض إذا أثار خلطا أو بخارا أو تغير مزاج الروح الحامل للقوة المتخيلة تغيرت أفعالها بحسب تلك التغيرات ولذلك فإن الدموي يرى في حلمه الأشياء الحمر والصفراوي يرى النيران والأشعة والسوداوي يرى الجبال والأدخنة والبلغمي يرى المياه والألوان البيض
وبالجملة فالمتخيلة تحاكي كل خلط أو بخار بما يناسبه وهذا الوارد على الحس المشترك بقسميه الواردين عليه من الخيال أو مما يوجبه
148

مرض أو غلبة خلط من قبيل أضغاث الأحلام لا يقع هو ولا تعبيره بل لا تعبير له
فروع للمعتزلة متفرعة على القدرة والعجز
الأول اختلفوا فيمن يتمكن من حمل مائة من فقط ولا يتمكن من حمل مائة أخرى معها أي مع المائة الأولى فقيل هو عاجز عن حملها أي عن حمل المائة الأخرى هذا هو الموافق لكلام الآمدي وإن كان الموجود في أكثير النسخ حملهما وقيل هولا يوصف بالعجز ولا بالقدرة بالنسبة إلى الأخرى فلا يقال هو عاجز عن حمل المائة الأخرى ولا هو قادر عليها وقيل هو قادر على حمل إحديهما أي إحدى المائتين من غير تعيين وغير قادر على إحديهما من غير تعيين أي هو قادر على حمل مائة غير معينة من هذه الجملة وليس بقادر على حمل مائة منها غير معينة أيضا والكل أي جميع هذا الأقوال الثلاثة مناقض لأصلهم ومذهبهم في وجوب تعلق القدرة بجميع المقدورات فإن المائة الأخرى معينة كانت أو غير معينة من جنس مقدورات العبد فالقول بأنه عاجز عنها أو غير قادر عليها يناقض ذلك الأصل فإن قيل مذهبنا ما ذكرتم لكن لا مطلقا بل بشرط وهو أن لا تتعلق القدرة الواحدة في وقت واحد في محل واحد من جنس واحد بأكثر من مقدور واحد ولو كانت القدرة على حمل مائة قدرة على حمل مائة أخرى لكان ذلك مخالفا لأصلنا المشروط بما ذكرنا قلنا في الرد عليهم المحل فيما نحن فيه هو المحمول المتحرك وهو مختلف يعني أن المقدور ههنا هو الحركة ومحلها المائتان فهو متعدد لا واحد فلا يكون تعلق القدرة بحركتهما مخالفا لذلك الشرط
149

فإن قالوا المحل وإن كان مختلفا إلا أنه لم يوجد له من القدرة غير ما يوازي الاعتمادات في إحدى المائتين فهو لا يقدر على حمل الجميع إلا بزيادة في القدرة موازية لاعتمادات المائة الأخرى حتى لو خلق له ذلك الزائد لكان قادرا على رفع الجميع
قلنا هذا وإن تخيل في المائتين المتلاصقتين فما يقولون في مائة أخرى منفصلة عن المائة المحمولة فإن قلتم إنه متمكن من حملها مع حمل الأولى مع أنه لم يوجد له من القدرة غير ما يوازي اعتمادات الأولى فهلا يجوزون ذلك في المائتين المتصلتين وإن قلتم إنه لا يتمكن من حملها بالقدرة التي تمكن بها من حمل المحمولة فقد ناقضتم أصلكم لا محالة لأن المقدورين من جنس واحد من محلين مختلفين
الفرع الثاني شخصان يقدر كل منهما على حمل مائة من إذا اجتمعا عليه أي على حمل المائة وحملاها معا فقد اختلفت المعتزلة ههنا فمنهم من قال وهم أكثرهم حملها واقع بقدرة كل واحد واحد فكل منهما يفعل في كل جزء من أجزاء المائة حال الاجتماع ما كان يفعله حال الانفراد ويلزمه اجتماع قادرين مستقلين على مقدور واحد فيستغني بكل منهما عن الآخر وربما التزم هذا القائل جواز اجتماعهما وإن كان مستبعدا جدا بل مستحيلا ومنهم من قال وهو عباد الضيمري والكعبي هذا حامل للبعض بحيث لا يشاركه فيه صاحبه وذاك حامل للبعض الآخر كذلك فلا يثبت لهما فعلان في جزء واحد من المائة المحمولة ولا يخفى
150

ما فيه من التحكم إذ لا بد أن يكون فعل كل منهما في بعض معين في نفس الأمر ولا سبيل إلى ذلك فإن نسبة كل جزء من أجزاء المائة المذكورة إلى كل واحد من القادرين على السوية فلا يتعين شيء منها لفعل أحدهما
الفرع الثالث وهو مبني على تأثير القدرة الحادثة والتوليد أيضا
قالوا القدرة الواحدة قد تولد في محال متفرقة حركات متعددة إلى جهات مختلفة فيجوز أن يحرك الشخص بقدرة واحدة جزءا إلى جهة وجزءا آخر إلى جهة أخرى وجزءا ثالثا إلى جهة ثالثة وهكذا بأن يضرب مثلا يده عليها دفعة فتتفرق في تلك الجهات وأما في محال مجتمعة كأجزاء متلاصقة فلا يجوز أن تولد القدرة الواحدة فيها حركات متعددة بأن تتحرك معا إلى جهة واحدة بل يجتمع على عشرة أجزاء مجتمعة متلاصقة عشرة أجزاء من القدرة فالقدرة على تحريك كل جزء من تلك العشرة المجتمعة غير القدرة على تحريك الجزء الآخر فيكون هناك عشر قدر بإزاء عشر أجزاء
وبالجملة يجب أن يكون عدد القدرة القائمة بالقادر على التحريك مساويا لعدد الأجزاء المجتمعة وإلا أي وإن لم تكن القدرة على تحريك جزء غير القدرة على تحريك الجزء الآخر بل جاز أن يكون القدرة على تحريك جزء قدرة على
تحريك جزئين لكان أي تلك القدرة وذكرها بتأويل التمكن قدرة على تحريك الأجزاء بالغة ما بلغت إذ ليس عدد أولى من عدد فيلزم أن تقدر البقة على تحريك الجبل وهو باطل بالضرورة وقد عرفت بطلان عدم الأولوية
قال الآمدي هذا الفرع مما اتفق عليه القائلون بالتوليد وهو من
151

قبيل تحكماتهم الباردة ودعاويهم الجامدة فإنه إذا قيل لهم لم كانت القدرة الواحدة تحرك الأجزاء المتفرقة وتوجب في كل واحد منها حركة ويمتنع عليها ذلك عند انضمام الأجزاء مع أنه لم يحدث بالانضمام ثقل ولا زيادة في الأجزاء بل لا فارق هناك سوى الاجتماع والافتراق لم يجدوا إلى الفرق سبيلا ولذلك قال أبو هاشم وغيره من فضلاء المعتزلة لا ندري لذلك سببا غير أنا وجدنا أن ما يسهل علينا تحريكه عند الافتراق يعسر علينا عند ذلك الاجتماع وهذا الذي قالوه وإن كان حقا إلا أنه لا يدل على وجوب اجتماع قدر موازية لأعداد الأجزاء المتلاصقة ولا على أن يكون هناك حركات بعدد الأجزاء لجواز أن يقال جرى عادته تعالى بخلق القدرة على التحريك حال الافتراق دون الاجتماع وأن يقال أيضا جاز التحريك في المجتمعة على وجود قدرة أخرى منضمة إلى الأولى من غير أن يكون عدد القدر بعدد الأجزاء ولا محيص لهم عن ذلك
وأما الجبائي فإنه قال انضمام الأجزاء مانع من التحريك ألا ترى أنا نجد القادر على المشي يمتنع عليه المشي بالربط والتقييد وليس ذلك إلا بسبب انضمام أجزاء القيد إلى رجليه وهو مبني على أصله في جواز منع القادر وقد بان بطلانه وإن سلمنا صحة المنع فلا نسلم صحة التعليل بانضمام أجزاء القيد إلى رجليه بل جاز أن يكون المنع لمعنى مختص بصورة القيد ولا وجود له فيما نحن فيه من الأجزاء المجتمعة وكيف لا والفرق واقع بينهما من جهة أن مانع القيد لا يزول وإن تضاعفت القدرة بخلاف الأجزاء المجتمعة فإنه قال بزوال المانع بتقدير أن يوجد قدر موازية لعدد الأجزاء المنضمة
ومما نقلناه تبين أن كلام الجبائي من تتمة الفرع الثالث كما هو المناسب لكن الموجود في أكثر نسخ الكتاب هكذا
152

الرابع أي من الفروع قال الجبائي الاجتماع يمنع التحريك كالقيد فإنه مانع عن المشي لمن هو قادر عليه وهو أي كون القيد مانعا من الفعل فرع أن المعدوم مقدور حتى يتصور كون القادر على فعل ممنوعا منه إذ لا مجال للمنع بالقياس إلى الفعل الموجود لكنا بينا بطلان كون المعدوم مقدورا بما ثبت من وجوب كون القدرة مع الفعل لا قبله وبه أي يكون الاجتماع مانعا عن التحريك منع الجبائي كون القادر على حمل مائة من قادر على حمل المائة الأخرى معها وحكم بأنه ليس قادرا على حملها وفيه بحث لأن كون الاجتماع مانعا من الفعل يقتضي كون ذلك القادر قادرا على حمل الأخرى ممنوعا منه لا كونه غير قادر عليه
المقصد الحادي عشر
المتن
القدرة المحركة يمنة ويسرة هل تقدر على التصعيد منهم من جوزه ومنهم من منعه للفرق بين الدحرجة والرفع ضرورة وعليه البهشمية وأوجبوا زيادة قدرة واحدة ولا يخفى ما فيه من التحكم
153

الشرح
المقصد الحادي عشر أي من مقاصد هذا النوع وكأنه سهو من الناسخ فإن هذا المبحث من فروع المعتزلة لا من مقاصد النوع الرابع فإن جعل كلام الجبائي من تتمة الفرع الثالث كما فعله بعضهم في شرح هذا الكتاب كان هذا فرعا رابعا وإن جعل فرعا على حدة كان هذا فرعا خامسا وأما جعله مقصدا حادي عشر فلا وجه له القدرة المحركة يمنة ويسرة هل تقدر وتقوى على التصعيد والرفع إلى جهة الفوق منهم من جوزه ومنهم من منعه للفرق بين الدحرجة والرفع ضرورة فإن كل عاقل يجد تفاوتا بينهما ويعلم أن رفع شيء أشق وأقوى من تحريكه دحرجة وعليه أي على المنع البهشمية أي الطائفة التابعة لرأي أبي هاشم وأوجبوا للتصعيد والرفع زيادة قدرة واحدة على القدرة المحركة يمنة ويسرة ولا يخفى ما فيه من التحكم إذ لا وجه لحصر الزيادة الكافية على القدرة الواحدة لجواز الاحتياج إلى ما يزيد عليها
المقصد الثاني عشر
المتن
القدرة مغايرة للمزاج من وجهين
الأول المزاج وأثرة من جنس الكيفيات المحسوسة دون القدرة
الثاني المزاج قد يمانع القدرة كما عند اللغوب
الشرح
المقصد الثاني عشر بل الحادي عشر لما عرفت القدرة مغايرة للمزاج من وجهين
الأول المزاج وأثره من جنس الكيفيات المحسوسة بالقوة اللامسة وذلك لأن المزاج كيفية متوسطة بين الكيفيات الأربع المشهورة وهي
154

بالحقيقة من جنسها إلا أنها منكسرة ضعيفة بالنسبة إليها فيكون أثرها وحكمها من جنس أحكام هذه الكيفيات إلا أنه يكون أضعف من أحكامها ولا شك أن أحكام هذه الأربع وآثارها من جنسها أيضا فالمزاج وأثره من جنس الكيفيات الملموسة دون القدرة فإنها ليست مدركة باللمس وليس أثرها من جنس هذه الكيفيات فليست القدرة نفس المزاج بل هي كيفية تابعة له
الثاني المزاج قد يمانع القدرة كما عند اللغوب فإن من أصابه لغوب وإعياء يصدر عنه أفعاله بقدرته واختياره ومزاجه يمانع قدرته في تلك الأفعال والشيء لا يمانع نفسه فالقدرة غير المزاج
المقصد الثالث عشر
المتن
القوة تقال للقدرة والمراد هنا جنسها وهو مبدأ التغير في آخر من حيث هو آخر وقولنا من حيث هو آخر ليدخل فيه المعالج لنفسه فإنه يؤثر من حيث هو عالم بصناعة الطب ويتأثر من حيث هو جسم ينفعل عما يلاقيه من الدواء وتقال للإمكان المقابل للفعل لأنه سبب للقدرة عليه مجازا وهذا غير الإمكان الذاتي فإنه قد يقارن الفعل وينعكس من الطرفين دون هذا وقد تقال في العرف للقدرة نفسها ولما به القدرة على الأفعال الشاقة ولعدم الانفعال
الشرح
المقصد الثالث عشر بل الثاني عشر قال الإمام الرازي لفظ القوة وضع أولا للمعنى الموجود في الحيوان الذي يمكنه به أن يصدر عنه أفعال
155

شاقة من باب الحركات ليست بأكثرية الوجود عن الناس ثم إن للقوة بهذا المعنى مبدأ ولازما أما المبدأ فهو القدرة أعني كون الحيوان إذا شاء فعل وإذا لم يشأ لم يفعل وأما اللازم فهو أن لا ينفعل عن الشيء بسهولة وذلك لأن مزاول التحريكات الشاقة إذا انفعل عنها صده ذلك عن اتمام فعله فلا جرم صار اللاانفعال دليلا على الشدة ثم إنهم نقلوا اسم القوة إلى ذلك المبدأ وهو القدرة وإلى ذلك اللازم وهو اللاانفعال ثم أن للقدرة وصفا هو كالجنس لها أعني الصفة المؤثرة في الغير ولها لازم هو الإمكان لأن القادر لما صح منه أن يفعل وصح منه أن لا يفعل كان إمكان الفعل لازما للقدرة فنقلوا اسم القوة إلى ذلك الجنس وذلك اللازم فيقولون للأبيض إنه أسود بالقوة أي يمكن أن يصير أسود وسموا الحصول والوجود فعلا وإن كان في الحقيقة انفعالا بناء على أن المعنى الذي وضع له لفظ القوة أولا كان متعلقا بالفعل فلما سموا ههنا الإمكان قوة سموا الأمر الذي تعلق به الإمكان وهو الوجود والحصول فعلا والمهندسون يجعلون مربع الخط قوة له كأنه أمر ممكن في ذلك الخط خصوصا إذا اعتقد ما ذهب إليه بعضهم من أن حدوث المربع بحركة ذلك الخط على مثله ولذلك قالوا وتر القائمة قوي على ضلعيها أي مربعه يساوي مربعيهما وإذا انتقشت هذه المعاني على صحيفة خاطرك فلنرجع إلى ما في الكتاب فنقول القوة تقال للقدرة والمراد هنا جنسها أي المقصود في المقصد بيان القوة التي هي جنس
156

القدرة وهو كما قاله ابن سينا مبدأ التغير في آخر من حيث هو آخر وقولنا من حيث هو آخر ليدخل فيه أي في هذا الحد المعالج لنفسه فإنه يؤثر من حيث هو عالم بصناعة الطب عامل بمقتضاها ويتأثر من حيث هو جسم ينفعل عما يلاقيه من الدواء وهذا مبني على ما يتبادر إلى الأوهام من أن الإنسان هو هذا الجسم والتحقيق أن المعالج المؤثر هو النفس الناطقة والمعالج المتأثر هو البدن وهما متغايران بالذات فالأولى أن يمثل بمعالجة الإنسان نفسه في إزالة
الأخلاق الرديئة التي هي أمراض نفسانية وإنما كان هذا القيد موجبا لعموم الحدود ودخول ما كان خارجا عنه لأن المتبادر من لفظ الآخر هو المغاير بالذات فلما قيد بالحيثية علم أن التغاير بالاعتبار كاف والقوة بهذا المعنى تنقسم إلى أقسام أربعة لأن الصادر من القوة إما فعل واحد أو أفعال مختلفة وعلى التقديرين إما أن يكون لها شعور بما يصدر عنها أو لا فالأول النفس الفلكية والثاني الطبيعة العنصرية وما في معناها والثالث القوة الحيوانية والرابع النفس النباتية وقد مرت الإشارة إليها قال الإمام الرازي بعض هذه الأقسام صور جوهرية وبعضها صور أعراض فلا تكون القوة مقولة عليها قول الجنس بل قول العرض العام لامتناع اشتراك الجواهر والأعراض في وصف جنسي وتقال القوة للإمكان المقابل لفعل لأنه أي هذا الإمكان سبب للقدرة عليه أي على الشيء الذي تعلق به هذا الإمكان مجازا وذلك لأن القدرة إنما تؤثر وفق الإرادة التي يجب مقارنتها لعدم المراد فلولا الإمكان المقارن للعدم وهو الذي يقابل الفعل لم تؤثر القدرة في ذلك المراد فهذا الإمكان سبب للقدرة بحسب الظاهر ولما كانت القدرة مسماة بالقوة أطلق اسمها على سببها وإنما لم يجعل الإمكان المقابل للفعل لازما للقدرة كما زعمه الإمام الرازي ووجهه بأن القادر هو الذي يصح منه الفعل أو الترك كما نقلناه لأن اللازم للقدرة على توجيهه هو الإمكان الذاتي لا المقابل للفعل وللتنبيه على ذلك قال المصنف وهذا أي الإمكان المقابل المسمى بالقوة غير الإمكان الذاتي فإنه أي الإمكان الذاتي قد يقارن الفعل فإن الأسود بالفعل يمكن سواده إمكانا ذاتيا وينعكس من الطرفين أي طرفي الوجود والعدم فإن ممكن الوجود ممكن العدم أيضا
157

وبالعكس دون هذا الإمكان المقابل فإنه لا يتصور مقارنته للفعل ولا ينعكس إذ لا يمكن أن يكون وجود السواد وعدمه معا بالقوة
فإن قلت قد علم مما ذكرت أن الإمكان الذاتي إذا قيد بمقارنة العدم كان مقابلا للفعل ومسمى بالقوة
قلت قد يكون الأمر كذلك كما في مثال السواد وقد لا يكون فإن الهواء يمكن أن يكون ماء بهذا الإمكان دون الإمكان الذاتي والنطفة أن تكون إنسانا مع صدق قولنا لا شيء من النطفة بإنسان بالضرورة فتأمل وقد تقال القوة في العرف للقدرة نفسها وهذا تكرار لما ذكره أولا وتقال القوة لما به القدرة على الأفعال الشاقة وهذه العبارة توهم أن القوة بهذا المعنى سبب للقدرة ومبدأ لها وليس كذلك بل الأمر بالعكس القدرة مبدأ لهذه القوة ففي المباحث المشرقية أن القوة بهذا المعنى كأنها زيادة وشدة في المعنى الذي هو القدرة وقد قيل أراد هنا بالقدرة على الأفعال الشاقة التمكن منها وتقال القوة لعدم الانفعال والقوة بهذا المعنى من الكيفيات الاستعدادية وهي بمعنى القدرة إذا خصت بالأعراض من الكيفيات النفسانية
المقصد الثالث عشر
المتن
الخلق ملكة تصدر عنها الأفعال بلا روية كمن يكتب شيئا من غير أن يروي في حرف حرف أو يضرب الطنبور من غير أن يفكر في نغمة نغمة
158

وينقسم إلى فضيلة ورذيلة وغيرهما فالفضيلة الوسط والرذيلة الأطراف وغيرهما ما ليس منهما
فالعفة هيئة للقوة الشهوية بين الفجور والخمود والشجاعة هيئة للقوة الغضبية بين التهور والجبن والحكمة هيئة للقوة العقلية بين الجربزة والبلاهة والخلق مغاير للقدرة سيما إن جعل نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء
الشرح
المقصد الثالث عشر وفي النسخ المشهورة الرابع عشر الخلق ملكة تصدر عنها أي عن النفس بسببها الأفعال بلا روية كمن يكتب شيئا من غير أن يروي في حرف حرف أو يضرب الطنبور من غير أن يفكر في نغمة نغمة أو في نقرة نقرة فالكيفية النفسانية إذا لم تكن ملكة لا تسمى خلقا وإذا كانت ملكة ولم تكن مبدأ لصدور الفعل عن النفس لم تسم أيضا خلقا وإذا كانت مبدأ له بعسر وتأمل لم تكن خلقا وإذا اجتمعت فيها هذه القيود معا كانت خلقا وينقسم الخلق إلى فضيلة هي مبدأ لما هو كمال ورذيلة هي مبدأ لما هو نقصان وغيرهما وهو ما يكون مبدأ لما ليس شيئا منهما والنفس الناطقة من حيث تعلقها بالبدن وتدبيرها إياه تحتاج إلى قوى ثلاث
إحداها القوة التي تعقل بها ما تحتاج إليه في تدبيره وتسمى قوة عقلية ملكية
وثانيتها القوة التي بها تجذب ما ينفع البدن ويلائمه وتسمى قوة شهوية بهيمية
159

وثالثتها ما يدفع به ما يضر البدن ويؤلمه وتسمى قوة غضبية سبعية ولكل واحدة من هذه القوى أحوال ثلاثة طرفان ووسط فالفضيلة الخلقية هي الوسط من أحوال هذه القوى والرذيلة هي الأطراف من تلك الأحوال وغيرهما أي غير الفضيلة والرذيلة ما ليس شيئا منهما أي من الوسط والأطراف فالفضائل الخلقية أصولها ثلاثة هي الأوساط من أحوال القوى المذكورة والرذائل الخلقية أصولها ستة هي أطراف تلك الأوساط ثلاثة منها من قبيل الإفراط وثلاثة أخرى من قبيل التفريط كلا طرفي كل الأمور ذميم
فالعفة هي هيئة للقوة الشهوية متوسطة بين الفجور الذي هو إفراط هذه القوة والخمود الذي هو تفريطها والشجاعة هيئة للقوة الغضبية متوسطة بين التهور الذي هو إفراط في هذه القوة والجبن الذي هو تفريط فيها
والحكمة هيئة للقوة العقلية العملية متوسطة بين الجربزة التي هي إفراط هذه القوة والبلاهة التي هي تفريطها
فهذه الأوساط الثلاثة أصول الفضائل الخلقية ومجموعها يسمى عدالة ومقابل العدالة شيء واحد هو الجور وفي الملخص قد ظن بعضهم أن الحكمة المذكورة ههنا هي التي جعلت قسيمة للحكمة النظرية حيث قيل الحكمة إما نظرية وإما عملية وهو ظن باطل إذ المقصود من هذه الحكمة ملكة تصدر عنها أفعال متوسطة بين أفعال الجربزة والغباوة والمراد بتلك الحكمة العملية العلم بالأمور التي وجودها من أفعالنا والفرق بين العلم المذكور والملكة المذكورة معلوم بالضرورة وقد تبين مما نقلناه أيضا أن الحكمة المذكورة ههنا مغايرة للحكمة التي قسمت إلى النظرية والعملية
160

لأنها بمعنى العلم بالأشياء مطلقا سواء كانت مستندة إلى قدرتنا أو لا ومما يجب التنبه له أن الأفراط المذموم إنما يتصور في القوة العقلية العملية دون النظرية فإن هذه القوة أعني النظرية كلما كانت أشد وأقوى كانت أفضل وأعلى وأن العدالة المركبة من العفة والشجاعة والحكمة تكون أفضل من كل واحدة من أجزائها لا من الحكمة النظرية إذ لا كمال أشرف من معرفته تعالى بصفاته ومعرفة أفعاله في المبدأ والمعاد والاطلاع على حقائق مخلوقاته وأحوالها وليست هذه داخلة في العدالة كما يظهر بأدنى تأمل في مقالتهم لمن له فطرة سليمة والخلق مغاير للقدرة لأن الخلق يعتبر فيه صدور الأفعال بسهولة من غير تقدم روية وليس يعتبر ذلك في أصل القدرة وأيضا لا يجب في الخلق أن يكون مع الفعل كما وجب ذلك عند الأشاعرة في القدرة فالفرق بينهما ظاهر سيما أن جعل نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء فإن الخلق لا يتصور فيه ذلك بل لا بد أن يكون متعلقا بأحد طرفي الفعل وأحد الضدين
خاتمة
المتن
في تفسير كيفيات نفسانية قريبة مما مر
الأول المحبة قيل هي الإرادة فمحبة الله لنا إرادته لكرامتنا ومحبتنا لله إرادتنا لطاعته
الثاني عند المعتزلة أن الرضاء هو الإرادة وعندنا ترك الاعتراض
الثالث الترك عدم فعل المقدور وقيل إن كان قصدا ولذلك يتعلق به الذم وقيل إنه من أفعال القلوب وقيل هو فعل الضد لأنه مقدور والعدم مستمر فلا يصلح أثرا للقدرة
الرابع العزم هو جزم الإرادة بعد التردد وهذا كله إنما يصلح إذا لم نفسرها بالصفة المخصصة بل بالميل
161

الشرح
خاتمة في تفسير كيفيات نفسانية قريبة مما مر في النوع الثالث والرابع
الأول من هذه الأمور القريبة المحبة قيل هي الإرادة فمحبة الله لنا إرادته لكرامتنا ومثوبتنا على التأبيد ومحبتنا لله إرادتنا لطاعته وامتثال أوامره ونواهيه وقد يقال محبتنا لله سبحانه كيفية روحانية مترتبة على تصور الكمال المطلق الذي فيه على الاستمرار ومقتضيه للتوجه التام إلى حضرة القدس بلا فتور وفرار وأما محبتنا لغيره فكيفية تترتب على تخيل كمال فيه من لذة أو منفعة أو مشاكلة تخيلا مستمرا كمحبة العاشق لمعشوقه والمنعم عليه لمنعمه والوالد لولده والصديق لصديقه
الثاني من تلك الأمور عند المعتزلة أن الرضاء هو الإرادة فإذ لم يرض الله لعباده الكفر لم يكن مريدا له أيضا وعندنا
أن الرضاء هو ترك الاعتراض فالكفر مع كونه مرادا له ليس مرضيا عنده لأنه يعترض عليه
الثالث الترك بحسب اللغة هو عدم فعل المقدور سواء كان هناك قصد من التارك أو لا كما في حالة الغفلة والنوم وسواء تعرض لضده أو لم يتعرض وأما عدم ما لا قدرة عليه فلا يسمى تركا ولذلك لا يقال ترك فلان خلق الأجسام وقيل إن كان قصدا أي عدم فعل المقدور إنما يسمى تركا إذا كان حاصلا بالقصد فلا يقال ترك النائم الكتابة ولذلك يتعلق به أي بالترك الذم والمدح والثواب والعقاب فلولا أنه اعتبر فيه القصد لم
162

يكن كذلك قطعا وقيل إنه أي الترك من أفعال القلوب لأنه انصراف القلب عن الفعل وكف النفس عن ارتياده وقيل هو أي الترك فعل الضد لأنه مقدور والعدم أي عدم الفعل مستمر من الأزل فلا يصلح أثرا للقدرة الحادثة وقد يقال دوام استمراره مقدور لأنه قادر على أن يفعل ذلك الفعل فيزول استمرار عدمه فمن هذه الجهة صلح أن يكون العدم أثرا للقدرة
قالوا ولا بد أن يكون كلا الضدين مقدورين حتى يكون ارتكاب أحدهما تركا للآخر فإذا لم يكن أحدهما أو كلاهما مقدورا لم يصح استعمال الترك هناك فلا يقال ترك بقعوده الصعود إلى السماء ولا ترك بحركته الاضطرارية حركته الاختيارية ولا ترك بحركته الاضطرارية الصعود
الرابع من تلك الأمور العزم وهو جزم الإرادة بعد التردد الحاصل من الدواعي المختلفة المنبعثة من الآراء العقلية والشهوات والنفرات النفسانية فإن لم يترجح أحد الطرفين حصل التحير وإن ترجح حصل العزم وهذا كله أي الذي ذكرناه في تفسير ما عدا الترك إنما يصح إذا لم يفسرها أي الإرادة بالصفة المخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع بل بالميل أو ما يقتضيه من اعتقاد النفع أو ظنه أما إذا فسرناه بالصفة المخصصة فلا يصح لأن الصفة المخصصة قد تخصص ما لا يكون محبوبا ولا مرضيا والعزم قد يكون سابقا على الفعل الذي يجب أن تقارنه الصفة المخصصة
163

النوع الخامس بقية الكيفيات النفسانية
وفيه مقصدان
المقصد الأول
المتن
اللذة والألم بديهيان فلا يعرفان وقيل اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم والملائم هو كمال الشيء الخاص به كالتكيف بالحلاوة والدسومة للذائقة والجاه والتغلب للغضبية وقولنا من حيث هو ملائم لأن الشيء قد يلائم من وجه دون وجه كالدواء الكريه إذا علم أن فيه نجاة من العطب وذلك لم يثبت فإنا ندرك حالة هي لذة ونعلم أن ثمة إدراكا للملائم وأما أن اللذة هل هي نفس ذلك الإدراك أو غيره وإنما ذلك سبب لها وهل يمكن أن تحصل بسبب آخر أم لا فلم يتحقق فوجب التوقف فيه وقال ابن زكريا الطبيب الرازي لا لذة وما يتصور منها إنما هو دفع ألم كالأكل لألم الجوع والجماع لألم دغدغة المني لأوعيته ولا نمنع جواز أن يكون ذلك أحد أسبابه إنما ننازعه في مقامين
أحدهما إنه دفع الألم
وثانيهما أنه لا يمكن أن تحصل بطريق آخر ومما ينبه أنه قد تحدث ما يوجب اللذة دفعة بلا شوق إليه ولا أن يخطر بالبال حتى يقال
164

إنها دفع لألم الشوق وذلك مثل النظر إلى وجه مليح والعثور على مال بغتة ثم قال الحكماء الألم سببه تفرق الاتصال بالتجربة وأنكره الإمام الرازي فإن من عقر بسكين شديد الحدة لم يحس بالألم إلا بعد زمان ولو كان ذلك سببا لامتنع التخلف عنه بل تفرق الاتصال يعد لسوء المزاج وحصوله يستدعي زمانا ما فريثما يبتدئ العضو بالاستحالة إلى مزاج سيئ يحصل الألم وربما احتج بأن التفرق عدم الاتصال وهو عدمي وبأن التغذي مداخلة الغذاء لجميع الأجزاء ولا تتصور إلا بتفريق فيجب أن يؤلم وزاد ابن سينا سببا آخر وهو سوء المزاج المختلف ولذلك تؤلم لسعة العقرب ما لا تؤلم الإبرة بخلاف المتفق فإنه لا يؤلم أما أنيته فإن حرارة المدقوق أكثر من حرارة صاحب الغب بكثير والثاني مدرك دون الأول وأما لميته فإن الإحساس شرطه مخالفة ما لكيفية الحاس والمحسوس إذ مع الاتفاق لا يحصل تأثر فلا يكون إحساس فإذا تمكن الكيفية المنافرة في العضو وأزال كيفية العضو الأصلية فليس ثمة كيفيتان متخالفتان فلم يكن فعل وانفعال فلا يحس به ولذلك فإن المحسوسات إذا استمرت يضعف الشعور بها متدرجا حتى ربما لم يشعر بها وإن شئت فقس من دخل الحمام يستسخن الماء الحار بحيث يشمئز منه حتى إذا لبث فيه قاب ساعة أثر فيه هواء الحمام فيسخن فتراه لا يدرك سخونته بل ربما استبرده
النوع الخامس من أنواع الكيفيات النفسانية في بقية الكيفيات النفسانية وفيه أي في هذا النوع مقصدان
الشرح
اللذة والألم بديهيان لأن كل عاقل بل كل حساس يدركهما من نفسه ويميز كل واحد منهما عن صاحبه ويميزهما عما عداهما بالضرورة فلا يعرفان لتحصيل ماهيتهما فإن الإحساس الوجداني بجزئياتهما قد أفاد العلم بتلك الماهية على وجه لا يتأتى لنا تحصيل مثله بطريق الاكتساب كما في سائر المحسوسات على ما مر وهذا مما لا يخفى على ذي انصاف
165

نعم قد يقصد في المحسوسات شرح الاسم وذكر الخواص دفعا للالتباس اللفظي وقيل اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم والألم إدراك المنافر من حيث هو منافر والملائم هو كمال الشيء الخاص به كالتكيف بالحلاوة والدسومة للذائقة واستماع النغمات الطيبة المتناسبة للقوة السامعة والجاه أي وكالجاه والرفعة والتغضب للغضبية وكإدراك حقائق الأشياء وأحوالها على ما هو عليه للقوة العقلية وقولنا من حيث هو ملائم لأن الشيء قد يلائم من وجه دون وجه كالدواء الكريه إذا علم أن فيه نجاة من العطب والهلاك فإنه ملائم من حيث اشتماله على النجاة وغير ملائم بل منافر من حيث اشتماله على ما تنفر الطبيعة عنه فإدراكه من حيث أنه ملائم يكون لذة دون إدراكه من حيث أنه منافر فإنه ألم لا لذة وبهذا أيضا ظهر فائدة قيد الحيثية في تعريف الألم
قال الإمام الرازي وذلك أي كون اللذة عين الإدراك المخصوص لم يثبت بالبرهان فإنا ندرك بالوجدان عند الأكل والشرب والوقاع حالة مخصوصة هي لذة ونعلم أيضا أن ثمة إدراكا للملائم الذي هو تلك الأشياء وإما أن اللذة هل هي نفس ذلك الإدراك أو غيره وإنما ذلك الإدراك سبب لها أي اللذة و أنه هل يمكن أن تحصل اللذة بسبب آخر مغاير لذلك الإدراك أم لا وأنه هل يمكن حصول ذلك الإدراك بدون اللذة أو لا يمكن فلم يتحقق شيء من هذه الأمور بدليل فوجب التوقف فيه أي في الكل إلى قيام البرهان وكذا الحال فيما بين الألم وإدراك المنافر
166

فإن قلت كيف يتأتى له هذه المناقشات وقد اختار أن تصورهما بديهي وأجلي من تصور الملائم والمنافر
قلت لعله أوردها على تقدير احتياجهما إلى التعريف دون استغنائها وأيضا تصور الكنه مانع عن الالتباس وبداهة تصورهما على وجه أبلغ مما يذكر في تعريفهما لا يستلزم تصور كنههما وقال ابن زكريا الطبيب الرازي لا لذة أي ليست اللذة أمرا محققا موجودا في الخارج بل هي أمر عدمي هو زوال الألم وإليه أشار بقوله وما يتصور منها أي من اللذة إنما هو دفع ألم من الآلام كالأكل فإنه دفع لألم الجوع والجماع فإنه دفع لألم دغدغة المني لأوعيته وبالجملة ليست اللذة إلا العود إلى الحالة الطبيعية بعد الخروج عنها أعني زوال الحالة الغير الطبيعية إلى الحالة الطبيعية ولا نمنع نحن جواز أن يكون ذلك أي دفع الألم وزواله أحد أسبابه أي أحد أسباب حصول اللذة إذ بالعود إلى الحالة الملائمة يحصل إدراكها فإن الأمور المستمرة لا يشعر بها فإذا زالت الحالة الطبيعية المستمرة ثم عادت بزوال ما ليست طبيعية حصل إدراكها الذي هو اللذة إنما ننازعه في مقامين
أحدهما أنه أي اللذة وتذكير الضمير للنظر إلى الخبر دفع الألم فإن من المعلوم البين أن اللذة أمر وراء زوال الألم
167

وثانيهما أنه لا يمكن أن تحصل اللذة بطريق آخر سوى دفع الألم ومما ينبه على أنه قد تحدث اللذة بطريق سواه ما يوجب اللذة دفعة بلا شوق إليه ولا أن يخطر بالبال حتى يقال إنها أي اللذة التي أوجبها ذلك الشيء دفع لألم الشوق إليه إذ لا إمكان للشوق بدون الشعور وذلك الموجب للذة دفعة مثل النظر إلى وجه مليح والعثور على مال بغته والاطلاع على مسألة علمية فجأة فإن الإنسان يلتذ بهذه الأشياء ولم يكن له ألم بفقدانها فقد ظهر أن دفع الألم على تقدير كونه سببا لحصول اللذة ليس سببا مساويا لها وقد يقال إنه كان مدركا لكليات هذه الأشياء ومشتاقا إليها في ضمن جميع جزئياتها ومتألما بفقدانها وإن لم يكن له شعور بهذه المعينات فإذا حصلت له هذه الجزئيات زال عنه بعض ذلك الألم وإذا حصل له جزئيات أخر زال بعض آخر وهكذا فلا يتحقق لذة بلا زوال ألم ثم قال الحكماء الألم سببه الذاتي تفرق الاتصال فقط بالتجربة وهذا مذهب جالينوس فالحار إنما يوجع ويؤلم لأنه يفرق الاتصال وكذا البارد يلزمه
تفرق الاتصال لأنه لشدة تكثيفه وجمعه يوجب انجذاب الأجزاء إلى ما يتكاثف إليه ويلزم من ذلك تفرقها مما تنجذب عنه والأسود الحالك المظلم يؤلم لشدة جمعه والأبيض اليقق لشدة تفريقه والمر والحامض من المذوقات يؤلمان لفرط التفريق والعفص والقابض لفرط التقبيض المستشيع للتفريق وكذا الحال في المشمومات فبعضها مفرق وبعضها مكثف والأصوات القوية تؤلم بالتفريق التابع لعنف الحركة الهوائية عند ملاقاة الصماخ
168

وبالجملة اتفق الأطباء على أن تفرق الاتصال سبب ذاتي للوجع وأنكره الإمام الرازي فإنه من عقر أي جرح يده بسكين شديدة الحدة في الغاية لم يحس بالألم إلا بعد زمان ولو كان ذلك أي تفرق الاتصال سببا ذاتيا قريبا لامتنع التخلف منه وحيث تخلف الألم عن القطع والتفريق ظهر أنه ليس سببا كذلك بل تفرق الاتصال الحاصل بالقطع يعد العضو لسوء المزاج الذي هو الألم وحصوله يستدعي زمانا ما وإن كان قليلا فريثما يبتدئ العضو المقطوع بالاستحالة إلى مزاج سئ يحصل الألم الذي هو مسببه وربما احتج الإمام على ما أنكره من كون تفرق الاتصال سببا ذاتيا للألم بأن التفرق عدم الاتصال عما من شأنه أن يكون متصلا وهو عدمي فلا يجوز أن يكون سببا ذاتيا للألم الذي هو وجودي بالضرورة و احتج أيضا على ذلك بأن التغذي مداخلة الغذاء لجميع الأجزاء ولا تتصور هذه المداخلة إلا بتفريق فيما بين الأجزاء فالغذاء إنما يصير جزءا من المغتذى بالفعل بأن يفرق اتصال أجزاء المغتذى ويتوسط بينها ويتشبه بها والاغتذاء حاصل لأكثر أجزاء المغتذى في أكثر الأوقات فيكون التفرق أيضا حاصلا لأكثر الأجزاء في أكثر الأوقات فيجب أن يؤلم المتغذي وليس كذلك لأن المتغذي لا يجد ألما أصلا فلا يكون التفرق مؤلما بالذات وكذا نقول إن النمو لا يحصل إلا بتفرق الاتصال مع أنه غير مؤلم بل نقول إن أعضاء البدن لا شك أنها دائما في التحلل ولا معنى له إلا أن ينفصل عن العضو ما كان متصلا به وليس هذا التحلل مختصا بظاهر العضو دون باطنه وذلك لأن المحلل هو الحرارة السارية في ظاهر العضو وباطنه فيكون تفرق الاتصال شاملا لظواهره وأعماقه مع أنه لا ألم فيه
فإن قيل التفرق الحاصل من التغذي والنمو والتحلل تفرق في أجزاء صغيرة جدا فلصغر هذا التفرق لم يحصل الألم
قلنا إن كل واحد من تلك التفرقات وإن كان صغيرا جدا إلا أن تلك التفرقات كثيرة جدا لأن هذه الأمور الموجبة للتفرق لا تختص بجزء من البدن دون جزء بل هي حاصلة في جميع الأجزاء فالتفرق الناشئ منها يعم
169

الأجزاء كلها فلو كان مؤلما بالذات لعم الألم الأعضاء بأسرها لا يقال تلك التفرقات مؤلمة إلا أن آلامها لما استمرت لم يحس بها كسائر الكيفيات المستمرة لأنا نقول لا نعني بالألم إلا المعنى المخصوص الذي يجده الحي من نفسه فإذا لم يحس به مع سلامة الحس والتوجه إلى إدراكه دل على عدمه قطعا فإن قيل الحس شاهد بأن تفرق الاتصال مؤلم قلنا تفرق الاتصال يستعقب سوء المزاج الذي هو المؤلم بالذات فإن اختلاط العناصر لما زال بالتفرق عاد طبيعة كل منها إلى اقتضاء الكيفية الخارجة عن الاعتدال بالفاعل للمزاج السيء هو طبائعها لا التفرق العدمي فلا يلزمنا جعل العدمي سببا للوجودي واحتج في الملخص بوجه آخر إلزامي وهو أن الفلاسفة متفقون على أن الكيفيات والصور الحادثة في الأجسام التي تحت كرة القمر إنما تحدث عن مبدأ عام الفيض وإنما تختلف الأعراض والصور في تلك الأجسام لاختلافها في الاستعداد فالجسم المركب يختص بصورة أو كيفية لأن مزاجه أفاده استعدادا لقبول تلك الصورة أو الكيفية من واهب الصور فعلى هذا يكون السبب القريب للذة والألم ثبوتا وانتفاء هو المزاج لا التفرق وزاد ابن سينا للألم سببا آخر فقال السبب القريب للألم أمران
أحدهما هو تفرق الاتصال على ما ذكره جالينوس
وثانيهما هو سوء المزاج وهو على قسمين متفق ومختلف فالمتفق مزاج غير طبيعي يرد على العضو ويزيل مزاجه الطبيعي ويتمكن فيه بحث يصير كأنه المزاج الطبيعي والمختلف مزاج غير طبيعي يرد عليه ولا يبطل مزاحه الطبيعي بل يخرجه عن الاعتدال والمؤلم من هذين سوء المزاج المختلف ولذلك أي ولأن سوء المزاج المختلف سبب للألم تؤلم لسعة
170

العقرب ما لا تؤلم الإبرة بل تلك اللسعة أشد إيلاما من الجراحة الكبيرة ولو كان المؤلم تفرق الاتصال فقط لم يكن الأمر كذلك بخلاف سوء المزاج المتفق فإنه لا يؤلم ويدل عليه برهان آني ولمي أما أنيته فإن حرارة المدقوق أكثر من حرارة صاحب الغب بكثير لأن حرارة الدق مستقرة في جوهر الأعضاء الأصلية ومذيبه لها وحرارة الغب واردة من مجاورة خلط صفراوي على أعضاء هي على مزاجها الطبيعي حتى إذا تنحى عنها ذلك الخلط كانت باقية على أمزجتها الأصلية
والثاني من المذكورين أعني حرارة الغب مدرك دون الأول فإن صاحب الغب يجد التهابا شديدا ويضطرب اضطرابا عظيما دون المدقوق وأما لميته فإن الإحساس شرطه مخالفة ما لكيفية الحس و كيفية المحسوس إذ مع الاتفاق بين كيفيتهما لا يحصل تأثر للحاس من المحسوس فلا يكون هناك إحساس لكونه مشروطا بالتأثر فإذا تمكن الكيفية المنافرة في العضو وأزال ذلك المتمكن كيفية العضو الأصلية كما في سوء المزاج المتفق على ما عرفت فليس ثمة كيفيتان متخالفتان فلم يكن فعل وانفعال فلا يحس به أي بالمنافرة الذي هو تلك الكيفية القريبة فلا يكون هناك ألم وأما في سوء المزاج المختلف فالكيفية الأصلية باقية مع الكيفية الواردة فتحقق المنافاة والإحساس بالمنافي الذي هو الألم ولذلك أي ولأن شرط الإحساس التأثر المتوقف على المخالفة والمنافاة فإن المحسوسات إذا استمرت زمانا يضعف الشعور بها متدرجا إذ بحسب استمرارها تقل المخالفة بينها وبين كيفية الحاس بها فيضعف التأثر والأحساس أيضا حتى ربما يشعر بها أي بتلك المحسوسات المستمرة
171

لحصول الموافقة بين كيفيتي الحاس والمحسوس ويكون لها في أول الوهلة سورة ثم تضمحل وإن شئت شاهدا على ما ذكرناه فقس من داخل الحمام فإنه عند دخوله فيه يستسخن الماء الحار بحيث يشمئز منه ويتأذى به وذلك لمخالفة كيفية بدنه لكيفية الماء حتى إذا لبث فيه قاب ساعة أثر فيه الحمام فيسخن وصار كيفية بدنه موافقة لكيفية الماء فتراه حينئذ لا يدرك سخونته بل ربما استبرده بسبب زيادة سخونة بدنه لأجل الهواء على سخونة الماء
المقصد الثاني
المتن
الصحة ملكة أو حالة يصدر عنها الأفعال من الموضوع لها سليمة وهذا يعم أنواعها وربما تخص بالحيوان أو بالانسان فيقال كيفية لبدن الحيوان أو لبدن الإنسان كما وقع الجميع في كلام ابن سينا وأورد الإمام الرازي على جعلها من الحالة والملكة أن مقابلها المرض وليس منها إذ أجناسه سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال وهي إما من المحسوسة أو من الوضع أو عدم ولا شيء منها بكيفية نفسانية وأورد على هذا الحد الذي ذكره شكوكا
الأول لم قدم الملكة وإنما تكون حالة ثم تصير ملكة
قلنا الملكة اتفق على كونها صحة أو لأن الملكة غاية الحالة
الثاني فيه اضطراب إذ أسند الفعل إلى الموضوع وإلى الصحة ولا يكون إلا أحدهما
قلنا الموضوع فاعل والصحة آلته
172

الثالث السليم هو الصحيح فالتعريف دوري
قلنا والصحة في الأفعال محسوسة وفي البدن غير محسوسة فعرف غير المحسوس بالمحسوس لكونه أجلى وإذا عرفت هذا المرض خلاف الصحة فهي حالة أو ملكة يصدر بها الأفعال عن الموضوع لها غير سليمة فلا واسطة بينهما إذ لا خروج عن النفي والإثبات وأثبت جالينوس فقال الناقة ومن ببعض أعضائه آفة أو يمرض مدة ويصح مدة لا صحيح ولا مريض وأنت تعلم أن ذلك لإهمال شروط التقابل من اتحاد المحل والزمان والجهة وأنه إذا روعي شروط التقابل فلا واسطة وكذا كل متقابلين يمتنع بينهما الواسطة فإنما هو باعتبار شرائط التقابل
الشرح
المقصد الثاني الصحة على ما ذكره ابن سينا في الفصل الأول من القانون ملكة أو حالة لم يكتف بذكر أحديهما تنبيها على أن الصحة قد تكون راسخة وقد لا تكون كصحة الناقة يصدر عنها أي يصدر لأجلها وبواسطتها الأفعال من الموضوع لها سليمة غير مألوفة وهذا التعريف يعم أنواعها إذ يدخل فيه صحة الإنسان وسائر الحيوانات وصحة النبات أيضا إذ لم يعتبر فيه إلا كون العقل الصادر عن الموضوع سليما فالنبات إذا صدر
173

عنه أفعاله من الجذب والهضم والتغذية والتنمية والتوليد سليمة وجب أن يكون صحيحا وربما تخص الصحة وتعريفها بالحيوان أو بالإنسان فيقال الصحة كيفية لبدن الحيوان إلى آخر ما مر أو يقال كيفية لبدن الإنسان إلى آخره كما وقع
الجميع في كلام ابن سينا أما الأول فكما عرفت وأما الثاني فقد ذكره في الفصل الثاني من سابعة قاطيغورياس من منطق الشفاء فإنه قال هناك الصحة ملكة في الجسم الحيواني يصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعية وغيرها على المجرى الطبيعي غير مألوفة وكأنه لم يذكر الحالة ههنا إما للاختلاف فيها وإما لعدم الاعتداد بها وأما الثالث فقد ذكره في الفصل الثاني من التعليم الأول من الفن الثاني من كتاب القانون حيث قال الصحة هيئة بها يكون بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث يصدر عنه الأفعال كلها صحيحة سالمة وأورد الإمام الرازي على جعلها أي جعل الصحة من الحالة والملكة أي من الكيفيات النفسانية سؤالا هو أن مقابلها المرض وليس المرض منها أي من الكيفيات النفسانية فلا تكون الصحة أيضا منها وإنما قلنا إن المرض ليس منها إذ أجناسه أي أنواعه المندرجة تحته باتفاق الأطباء ثلاثة سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال وهي أي هذه الأمور المذكورة إما من الكيفيات المحسوسة أو من مقولة الوضع أو عدم فإن سوء المزاج الذي هو مرض إنما يحصل إذا صار إحدى الكيفيات الأربع أزيد أو أنقص مما ينبغي بحيث لا تبقى الأفعال سليمة فهناك أمور ثلاثة تلك الكيفية وكونها غريبة منافرة وإتصاف البدن بها فإن جعل المرض الذي هو سوء المزاج عبارة عن تلك الكيفية كأن يقال الحمى هي تلك الحرارة الغريبة كان من الكيفيات المحسوسة وإن
174

جعل عبارة عن كون تلك الكيفية غريبة منافرة كان من باب المضاف وإن جعل عبارة عن اتصاف البدن بها كان من قبيل الانفعال واقتصر المصنف من هذه الأقسام الثلاثة على الأول فلذلك حكم بأن سوء المزاج من المحسوسات وأما سوء التركيب فهو عبارة عن مقدار أو عدد أو شكل أو وضع أو انسداد مجرى يخل بالأفعال وليس شيء منها من الكيفيات النفسانية وهو ظاهر وكون هذه الأمور غريبة منافرة من قبيل المضاف واتصاف البدن بها من مقولة أن ينفعل واقتصر المصنف من بينها على اعتبار الوضع فعد سوء التركيب منه وأما تفرق الاتصال فظاهر أنه أمر عدمي فلا يكون كيفية نفسانية ومنهم من أجاب عن ذلك بأن عبارة الأطباء فيها مسامحة والمقصود أن أنواع المرض كيفيات نفسانية غير معتدلة تابعة للأمور المذكورة ومخلة بالأفعال ولا شيء منها أي من الكيفيات المحسوسات والوضع والعدم بكيفية نفسانية فلا يكون شيء من سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال من الكيفيات النفسانية فلا يكون المرض الذي هو جنسها منها أيضا فلا تكون الصحة منها أيضا لأنها تكون عبارة إما عن أمور وجودية مقابلة للأمور التي سميناها مرضا وهو المزاج الملائم والهيئة الملائمة والاتصال الملائم وإما عن أمور عدمية هي عدم تلك الأشياء المسماة بالمرض وعلى التقديرين لم تكن الصحة كيفية نفسانية اللهم إلا إذا ثبت أن هناك كيفيات أخر مغايرة لتلك الوجوديات
175

وهذه العدميات وجعل الصحة عبارة عنها لكن ذلك مما لم يقم عليه شبهة فضلا عن حجة وأورد الإمام الرازي في المباحث المشرقية على هذا الحد الذي ذكره للصحة شكوكا وأجاب عنها أيضا
الأول لم قدم الملكة على الحالة في الذكر وإنما تكون الكيفية النفسانية التي هي الصحة أولا حالة ثم تصير ملكة قلنا الملكة اتفق على كونها صحة والحالة اختلف فيها فقيل هي صحة وقيل واسطة فقدمت لذلك أو لأن الملكة غاية الحالة والعلة الغائية متقدمة في الذهن وإن كانت متأخرة في الوجود
الثاني فيه أي في الحد اضطراب إذ أسند فيه الفعل وصدوره إلى الموضوع وإلى الصحة فإن قوله يصدر عنها الأفعال يدل على أن مبدأ الأفعال هو تلك الحالة والملكة وقوله من الموضوع يدل على أن مبدأها هو الموضوع ولا يكون المسند إليه الفعل بحسب الواقع إلا أحدهما لامتناع صدور فعل واحد من شيئين على أن يكون كل واحد منهما فاعلا له على حدة
قلنا الموضوع فاعل للفعل السليم والصحة آلته في صدور الفعل السليم عنه فقوله عنها أراد به لأجلها وبواسطتها كما أشرنا إليه وقد صرح بهذا المعنى في التعريف الثاني وفي الثالث أيضا وأما ما يقال من أن فاعل أصل الفعل هو الموضوع وفاعل سلامته هو الحالة أو الملكة فليس بشيء إلا أن يؤول بما ذكرناه
الثالث السليم هو الصحيح فالتعريف دوري أي تحديد للشيء بنفسه حيث عرف الصحة بالصحة
قلنا السلامة المأخوذة في تعريف صحة البدن هو صحة الأفعال والصحة في الأفعال محسوسة معلومة بمعاونة الحس والصحة في البدن غير محسوسة فعرف غير المحسوس بالمحسوس لكونه أجلى فلا إشكال وإذا عرفت هذا الذي ذكرناه من حد الصحة وما تعلق به فالمرض
176

خلاف الصحة ومقابلها فهي حالة أو ملكة يصدر بها الأفعال عن الموضوع لها غير سليمة بل مأوفة وهذا يعم أنواع الأمراض في الحيوانات والنباتات وقد يخص على قياس ما تقدم في الصحة بالحيوان أو بالإنسان وأنت خبير بما يرد على هذا الحد مما ذكره الإمام من عدم اندراج المرض في الكيفيات النفسانية وبأن المرض على هذا الحد يقابل الصحة تقابل التضاد وفي القانون أن المرض هيئة مضادة للصحة وفي الفصل الثاني من سابعة قاطيغورياس الشفاء مثل ذلك وفي الفصل الثالث من هذه المقالة السابعة أن المرض من حيث هو مرض بالحقيقة عدمي لست أقول من حيث هو مزاج أو ألم وهذا يدل على أن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة وفي المباحث المشريقة لا مناقضة بين كلاميه إذ في وقت المرض أمران
أحدهما عدم الأمر الذي كان مبدأ للأفعال السليمة
وثانيهما مبدأ للأفعال المأوفة فإن سمي الأول مرضا كان التقابل تقابل العدم والملكة وإن جعل الثاني مرضا فالتقابل من قبيل التضاد والأظهر أن يقال إن اكتفى في المرض بعدم سلامة الأفعال فذلك يكفيه عدم الصحة المقتضية للسلامة وإن أثبت هناك آفة وجودية فلا بد من إثبات هيئة تقتضيها فكأن ابن سينا كان مترددا في ذلك فلا واسطة بينهما أي بين الصحة والمرض المعرفين بهذين التعريفين إذ لا خروج عن النفي والإثبات فالكيفية التي بها تصدر الأفعال عن موضوعها إما أن تكون أفعالها سليمة أو غير سليمة فالأولى هي الصحة والثانية هي المرض وأثبت جالينوس بينهما واسطة وسماها الحالة الثالثة فقال الناقة ومن ببعض أعضائه آفة أو يمرض مدة كالشتاء ويصح مدة كالصيف لا صحيح ولا مريض وأنت تعلم أن ذلك أي إثبات الواسطة إنما هو لأهمال شروط التقابل من اتحاد
177

المحل والزمان والجهة وتعلم أنه إذا روعي شروط التقابل بين الصحة والمرض فلا واسطة بينهما أصلا لأن العضو الواحد في زمان واحد من جهة واحدة لا يخلو من أن يكون فعله سليما أو غير سليم فلا يتصور واسطة بين الصحة والمرض المعرفين بما مر إذا روعي الشرائط المعتبرة في التقابل وكذا كل متقابلين يمتنع بينهما الواسطة فإنما هو أي امتناع الواسطة بينهما باعتبار شرائط التقابل فإنه إذا أهمل شيء من شرائطه جاز ارتفاعهما معا وحينئذ تثبت الواسطة بينهما
قال ابن سينا من ظن أن بين الصحة والمرض وسطا هو لا صحة ولا مرض فقد نسي الشرائط التي يجب أن تراعى فيما له وسط وما ليس له وسط وتلك الشرائط أن يفرض الموضوع واحدا بعينه في زمان واحد وتكون الجهة والاعتبار واحدا وحينئذ إن جاز أن يخلو الموضوع عنهما كان هناك واسطة وإلا فلا وإذا فرض إنسان واحد واعتبر منه عضو واحد في زمان واحد فلا بد أن يكون إما معتدل المزاج سوي التركيب بحيث يكون فعله سليما وإما أن لا يكون كذلك فلا واسطة إلا أن يحد الصحة والمرض بحد آخر ويشترط فيه شروط لا حاجة إليها يعني أن يشترط في حد الصحة سلامة جميع الأفعال فيخرج سالم البعض ومن كل عضو فيخرج من كان بعض أعضائه مأوفا وفي كل وقت فيخرج من يصح مدة ويمرض مدة وأن لا يكون هناك استعداد يقتضي سهولة الزوال فيخرج الناقة والشيح والطفل ويشترط في حد المرض آفة جميع الأفعال من جميع الأعضاء في جميع الأوقات فتخرج الأمور المذكورة من حده أيضا وتثبت الواسطة قطعا إلا أن النزاع حينئذ يكون لفظيا
178

الفصل الثالث في الكيفيات المختصة بالكميات
وفيه مقصدان
المقصد الأول
المتن
أنها عارضة للكم إما وحدها فللمنفصلة كالزوجية والفردية وللمتصلة التثليث والتربيع وإما مع غيرها كالحلقة فإنها مجموع شكل وهو عارض للكم مع اعتبار لون وكالزاوية فإنها هيئة إحاطة الضلعين بالسطح مثلا في ملتقاهما لا باستقامة ومنهم من جعل الزاوية من باب الكم لقبولها التفاوت وأنها توصف بالأصغر والأكبر وبكونها نصفا وثلثا
والجواب أنه إنما يتم أن لو كان عروض ذلك لها بالذات وأنه ممنوع بل لأنه عارض للكم ويبطله أنها تبطل بالتضعيف
وتنعدم بخلاف الكم فإنه يزيد
الشرح
الفصل الثالث من فصول الكيف في الكيفيات المختصة بالكميات وفيه مقصدان
179

المقصد الأول أنها أي الكيفيات المختصة بالكميات عارضة للكم وإما وحدها فللمنفصلة كالزوجية والفردية العارضتين للعدد وكذلك الأولية والتركيب وسائر الأعراض الذاتية للأعداد وللمتصلة التثليث والتربيع أي كالتثليث والتربيع فإنهما عارضان للمثلث والمربع وكذلك التخميس والتسديس وغيرهما من الهيئات العارضة للسطوح الكثيرة الأضلاع وإما مع غيرها كالخلقة فإنها مجموع شكل وهو عارض للكم المتصل من حيث أنه محاط بحد واحد أو أكثر مع اعتبار لون
قال الإمام الرازي هذا النوع من الكيفيات هو الكيفية التي تعرض أولا وبالذات للكميات وبتوسطها لغيرها ويدخل في ذلك ما يكون كذلك إما لنفسه كالشكل العارض للمقدار وإما لجزئه كالخلقة فإنها كذلك بواسطة جزئها الذي هو الشكل
فإن قيل الخلقة عارضة للجسم الطبيعي إذ لولاه لم يكن خلقة
قلنا العارض للكمية إما أن يعرض لها من حيث أنها كمية أو من حيث أنها كمية شيء مخصوص وكلا القسمين عارض للكمية ثم إن اللون حامله الأول هو السطح الذي هو نهاية الجسم الطبيعي بتوسط الجسم التعليمي ومعنى كون الجسم ملونا أن سطحه ملون فكلا جزئي الخلقة حامله الأول هو المقدار فالخلقة عارضة بالذات للكم
قال ويتوجه على هذا أن يكون اللون والضوء داخلين في هذا النوع من الكيفيات لأن حاملها الأول هو السطح إذ لا لون ولا ضوء في عمق الجسم وقد يقال اللون قد يكون نافذا في داخل الجسم وكذلك الضوء في المضيء بالذات كالشمس فلا يختصان بالسطح والمتبادر من قوله
180

وكالزاوية أن الزاوية كالخلقة في أنها مركبة من الكيفية المختصة بالكميات مع غيرها وليست كذلك كما يدل عليه قوله فإنها هيئة إحاطة الضلعين بالسطح مثلا في ملتقاهما بالاستقامة فالزاوية هي تلك الهيئة لا الأمر المركب من تلك الهيئة والضلعين والسطح كما يتوهم وأشار بقوله مثلا إلى أن ما ذكره تعريف للزاوية المسطحة دون مطلقها المتناول للزاوية المجسمة وتلخيصه أن الزاوية المسطحة هيئة عارضة للسطح عند ملتقى خطين يحيطان به من غير أن يتحدا خطا واحدا فإنه إذا اتصل خطان على نقطة في سطح من غير أن يتحدا كذلك عرض لذلك السطح عند ملتقاهما هيئة انحدابية فيما بين الخطين المتصلين هي الزاوية وقد تطلق الزاوية على المقدار ذي الزاوية كما يطلق الشكل على المشكل وليس يعتبر في تحققها إحاطتهما بذلك السطح إحاطة تامة بل ربما امتنع إحاطتهما به كذلك كما إذا كان الخطان مستقيمين ولا يعتبر أيضا أن يكون هناك خط آخر يحيط معهما به ولا أن يكون ذانك الخطان متناهيين أو غير متناهيين قصيرين أو طويلين بخلاف الشكل إذ لا بد فيه من الإحاطة التامة فالشكل العارض للمثلث يتوقف على أضلاعه الثلاثة وكل واحدة من زواياه تتوقف على ضلعين فقط فقولنا من غير أن يتحدا احتراز عما إذا اتصل قوسان على نقطة وصارتا قوسا واحدة وأما قوله لا باستقامة فمستغنى عنه إذ لا إحاطة أصلا مع الاستقامة ثم إن الزاوية على التعريف المذكور من مقولة الكيف ومنهم من جعل الزاوية من باب الكم لقبولها التفاوت والتساوي وأنها أي ولأنها توصف بالأصغر والأكبر وبكونها نصفا وثلثا لزاوية أخرى ولا شك أن هذه الصفات أعراض ذاتية للكم فتكون الزاوية كما ولذلك عرف المسطحة بأنها سطح أحاط به خطان يلتقيان عند نقطة من غير أن يتحدا خطا واحدا
والجواب أنه أي هذا الاستدلال إنما يتم أن لو كان عروض ذلك التفاوت والتجزي لها أي للزاوية بالذات حتى يلزم كونها كما وأنه ممنوع بل عروضه لها يجوز أن يكون لأنه أي لأن هذا المعروض الذي هو
181

الزاوية عارض للكم كما في الشكل فإنه يعرض له ذلك بواسطة معروضه الذي هو الكم ويبطله أي يبطل كون الزاوية من الكم أنها تبطل بالتضعيف وتنعدم أما القائمة فإنها كلها تبطل بالتضعيف مرة واحدة بحيث لا تبقى هناك زاوية أصلا وأما الحادة فإنها تبطل إذا كانت نصف قائمة بالتضعيف مرتين كذلك بخلاف الكم فإنه يزيد بالتضعيف ولا يبطل فلا تكون الزاوية القائمة ولا الحادة المذكورة من مقولة الكم فلا يكون مطلق الزاوية من هذه المقولة أيضا ولو أبدل التضعيف بالزيادة لشمل البطلان الزوايا كلها فإن كل زاوية زيد عليها ما يجعلها مساوية لقائمتين لم يبق هناك زاوية أصلا وأما التضعيف فقد لا يبطل المنفرجة ولا الحادة التي هي أصغر من نصف قائمة أو أكبر منه إذ يجوز أن يبقى هناك زاوية في الجهة الأخرى من الخط الآخر نعم يلزم من تضعيف المنفرجة بطلان بعضها وكذا الحال في تلك الحادة إذا ضعفت مرارا وقد يكتفى بذلك في الاستدلال لأن الكم إذا ضعف لم يبطل منه شيء بل يزداد أبدا ومما يدل على أن الزاوية ليست سطحا أنها لا تقبل الانقسام على موازاة الوتر فإن الخط الواصل بين ضلعيها يحدث مثلثا هي بعينها إحدى زواياه كما يشهد به التخيل الصحيح واتفاق المهندسين عليه قاطبة ومنهم من جعل الزاوية من الإضافة فقال هي تماس خطين من غير أن يتحدا وبطلانه ظاهر فإن التماس لا يوصف بالصغر والكبر بخلاف الزاوية ومنهم من جعلها من مقولة الوضع وذهب جماعة إلى أنها أمر عدمي أعني انتهاء السطح عند نقطة مشتركة بين خطين يحيطان به فهذه أقوال خمسة أوردها بعضهم في رسالة صنفها لتحقيق الزاوية وما قيل فيها
182

المقصد الثاني
المتن
قال المهندسون الخط المستقيم خط تقع النقط المفروضة فيه كلها متوازية وأنه إذا أثبت أحد طرفيه وأدير حتى عاد إلى وضعه الأول حصلت الدائرة وهي شكل يحيط به خط في وسطه نقطة جميع الخطوط الخارجة منها إليه سواء ثم إذا أثبت قطر نصف الدائرة وأدير نصف الدائرة حتى عاد إلى وضعه الأول حصلت الكرة وهي جسم يحيط به سطح في وسطه نقطة جميع الخطوط الخارجة منها إليه سواء وإذا أثبت أحد ضلعي المربع المتوازي الأضلاع وأدير حصل الأسطوانة وهو شكل يحيط به دائرتان من طرفيه هما قاعدتاه يصل بينهما سطح مستدير يفرض وسطه خط مواز لكل خط يفرض على سطحه بين قاعدتيه وإذا أثبت الضلع المحيط بالقائمة من المثلث وأدير المثلث حصل المخروط وهو جسم أحد طرفيه دائرة والآخر نقطة ويصل بينهما سطح يفرض عليه الخطوط الواصلة بينهما مستقيمة وهذا كله أمور وهمية لا يعلم وجودها خارجا وعليها مبني علمهم الذي يدعون فيه اليقين
الشرح
المقصد الثاني قال المهندسون الخط المستقيم خط تقع النقطة المفروضة فيه كلها متوازية أي على سمت واحد لا يكون بعضها أخفض وقالوا إنه إذا أثبت أحد طرفيه على حالة وأدير الخط المستقيم على سمت واحد حتى عاد إلى وضعه الأول حصلت الدائرة وهي شكل أي مشكل يحيط به خط في وسطه نقطة جميع الخطوط الخارجة منها إليه أي من تلك النقطة إلى ذلك الخط سواء فتلك النقطة مركز الدائرة وذلك الخط محيطها والخطوط الخارجة منها إليه أنصاف أقطارها والخط
183

المستقيم الخارج من المركز إلى المحيط من الجانبين قطرها وهو منصف لها ثم إذا أثبت قطر نصف الدائرة على وضعه وأدير نصف الدائرة حتى عاد إلى وضعه الأول حصلت الكرة وهي جسم يحيط به سطح في وسطه نقطة جميع الخطوط الخارجة منها إليه أي إلى ذلك السطح سواء فتلك النقطة مركز الكرة وذلك السطح محيطها وتلك الخطوط أنصاف أقطارها والمستقيم الواصل من المركز إلى المحيط في الجانبين قطرها وإذا أثبت أحد ضلعي المربع المتوازي الأضلاع وأدير ذلك المربع حتى عاد إلى وضعه الأول حصل الأسطوانة والعبارة الظاهرة أن يقال إذا أثبت أحد أضلاع سطح متوازي الأضلاع وأدير حصل الأسطوانة المستديرة وهو شكل يحيط به دائرتان متوازيتان من طرفيه هما قاعدتاه يصل بينهما سطح مستدير يفرض وسطه خط مواز لكل خط يفرض على سطحه بين قاعدتيه وذلك لأن الخط المتوسط هو ذلك الضلع المثبت والسطح الواصل بين القاعدتين إنما ارتسم من الضلع الآخر الموازي للمثبت كما أن القاعدتين ارتسمتا من الضلعين الباقيين المتوازيين فلذلك كانتا متوازيتين وإذا أثبت الضلع المحيط بالقائمة أي أحد ضلعي القائمة من المثلث وأدير المثلث حتى يعود إلى وضعه الأول حصل المخروط المستدير وهو جسم أحد طرفيه دائرة هي قاعدته والآخر نقطة هي رأسه ويصل بينهما سطح ينفرض عليه أي على ذلك السطح الخطوط الواصلة بينهما أي بين محيط الدائرة وتلك النقطة مستقيمة واعلم أن ما نقله عنهم إنما ذكروه لتسهيل تخيل هذه الأمور لا لأن وجودها في أنفسها يكون بهذا الطريق كيف والخط عندهم عرض حال في السطح الحال في الجسم فلا يمكن حصول السطح بحركة الخط المتأخر عنه في الوجود ولا حصول الجسم من حركة السطح المتأخر عنه
184

ومن هذا القبيل ما قيل إنه إذا فرض نقطتان تحرك أحديهما إلى الأخرى على سمت واحد حصل الخط المستقيم وإذا أثبت أحد طرفيه وتحرك الخط مسافة قبل أن يصل إلى وضع الاستقامة حصل المثلث وإذا فرض تحرك خط على
مثله بحيث يكون قائما عليه دائما حصل المربع الذي هو في اصطلاحهم سطح متساوي الأضلاع قائم الزوايا
قال المصنف وهذا الذي ذكره المهندسون من الخطوط والسطوح والمجسمات كله أمور وهمية لا يعلم وجودها خارجا وعليها مبني علمهم الذي يدعون فيه اليقين وقد يقال قامت البراهين على وجودها في مواضعها وإن سلم كونها أمورا وهمية فلا ينافي ذلك كون أحكامها يقينية ألا ترى أن العدد المركب من الوحدات التي هي أمور اعتبارية له أحكام صادقة بلا شبهة ومن أنكر كونها يقينية فقد كابر وكذا الحال في المباحث الهندسية يعلمها من يزاولها
فإن قيل لا كمال في معرفته أحوال الموهومات
قلنا إن الموهومات قد تكون عارضة في نفس الأمر للأعيان الموجودة فيحصل لتلك الأعيان بسبب ذلك أحكام مطابقة للواقع وقد يستدل بأحكام الأمور الوهمية على أحوال الأمور العينية ولا يخفى شيء من ذلك على من له شعور ببراهين علم الهيئة من الحساب والهندسة
تنبيه
المتن
لو اعتبر المركبات حصلت مقولات غير متناهية والخلقة إنما اعتبرت باعتبار وحدة بحسبها يتصف بالحسن والقبح وهما غير العارضين للشكل وحده أو للون وحده وهذا عذر غير واضح
185

الشرح
تنبيه على ما يرد على جعل الخلقة من الكيفيات المختصة بالكميات وهو أن المعتبر من أنواع المقولات العشر ما يندرج تحت واحدة منها فقط ولو اعتبر المركبات في المقولات وأنواعها حصلت مقولات غير متناهية أي غير محصورة بل كثيرة جدا بحسب الازدواجات الحاصلة بينهما ثناء وثلاث إلى عشار وحصلت أيضا أنواع غير منحصرة فيما ذكروه من أنوعها بحسب التركيب فيما بين تلك الأنواع كأن تركب مثلا الأقسام الأربعة التي للكيف بعضها مع بعض وعلى هذا كان ينبغي أن لا تعد الخلقة من الكيفيات المختصة بالكميات لكونها مركبة من نوعين متخالفين ولكنهم قالوا الخلقة إنما اعتبرت وجعلت داخلة في هذا النوع باعتبار وحدة عرضت لمجموع الشكل واللون بحسبها أي بحسب تلك الوحدة يتصف بالحسن والقبح يعني أن الشكل إذا قارن اللون وحصلت منهما كيفية وحدانية باعتبارها يصح أن يقال للشيء أنه حسن الصورة أو قبيح الصورة وهما أي الحسن والقبح بحسب الصورة غير الحسن والقبح العارضين للشكل وحده أو للون وحده
قال المصنف وهذا عذر غير واضح لأنهم إن ادعوا أن بين الشكل واللون وحدة حقيقة منعناها وإن اكتفوا بالوحدة الاعتبارية جاز اعتبارها في كل أمرين يجتمعان وقد يقال قد اعتبر الوحدة بينهما في متعارف الناس حيث عبر عنهما بالخلقة ووصف الشخص بحسبهما بحسن الصورة وقبحها فلذلك عددناهما كيفية واحدة وأدرجناهما فيما اندرج فيه جزؤها كما عرفت ولم نجد لها نظيرا في ذلك فاكتفينا بها
186

الفصل الرابع في الكيفيات الاستعدادية
المتن
إما نحو القبول ويسمى ضعفا وإما نحو الدفع واللاقبول ويسمى قوة ولا ضعفا وأما قوة الفعل فليست منها فإن المصارعة مثلا تتعلق بعلم وصلابة الأعضاء لئلا يتأثر بسرعة وبالقدرة وشئ منها ليس من هذا الجنس
الشرح
الفصل الرابع من فصول الكيف في الكيفيات الاستعدادية وهي إما استعداد نحو القبول والانفعال ويسمى ضعفا ولا قوة كالممراضية وإما استعداد نحو الدفع واللاقبول ويسمى قوة ولا ضعفا كالمصحاحية وأما قوة الفعل كالقوة على المصارعة فليست منها أي من الكيفيات الاستعدادية كما ظنه قوم وجعلوا أقسامها ثلاثة فإن المصارعة مثلا تتعلق بعلم بهذا الصناعة وصلابة الأعضاء لئلا يتأثر بسرعة ولا يمكن عطفها بسهولة وتتعلق بالقدرة على هذا الفعل وشئ منها أي من هذه الثلاثة التي تعلق بها المصارعة ليس من هذا الجنس الذي هو الكيفية الاستعدادية لأن العلم والقدرة من الكيفيات النفسانية وصلابة الأعضاء من الكيفيات الملموسة على ما مر
187

المرصد الرابع في النسب
وفيه مقدمة وفصلان
المقدمة
المتن
أثبت الحكماء المقولات النسبية وأنكرها المتكلمون إلا الأين لوجوه
الأول لو وجدت لزم التسلسل أما أولا فلأن محلها يتصف بها فله إليها نسبة موجودة ويعود الكلام فيها وأما ثانيا فلأن لوجودها إليها نسبة وأما ثالثا فلأن لأجزاء الزمان بعضها إلى بعض نسبة
الثاني لو وجدت لوجدت الإضافة وهي لا تتحقق إلا بوجود المنتسبين فيوجد المتقدم والمتأخر معا
188

الثالث لو وجدت لزم اتصاف الباري تعالى بالحوادث لأن له مع كل حادث إضافة بأنه موجود معه وقبله بأنه متقدم عليه وبعده بأنه متأخر عنه وأثبتها ضرار والتزم التسلسل ومن ثم أثبت أعراضا غير متناهية
واحتج الحكماء بأن كون السماء فوق الأرض ومقابلة الشمس لوجه الأرض مما نعلمه ضرورة وأجابوا عن أدلة الخصم بأنها إنما تنفي كون جميع النسب موجودة في الخارج ونحن نقول به فإن من الإضافات أمورا موجودة في الخارج حقيقتها أنها إضافة ومنها إضافات يخترعها العقل عند ملاحظة أمرين كالتقدم والتأخر والأول ينتهي عند حد دون الثاني
الشرح
المرصد الرابع من مراصد الموقف الثالث في النسب أي المقولات النسبية وفيه مقدمة لبيان أنها موجودة في الخارج أولا وفصلان لبيان مباحث ما اتفق على وجوده أعني الأين تارة على رأي المتكلمين وتارة على رأي الحكماء
المقدمة أثبت الحكماء المقولات النسبية وأنكرها المتكلمون إلا الأين فإنهم اعترفوا بوجوده وأنكروا وجود ما عداه منها لوجوه
الأول لو وجدت الأعراض النسبية لزم التسلسل في الأمور الموجودة أما أولا فلأن هذه الأعراض لا بد لها من محل ولا شك أن محلها يتصف بها فله إليها نسبة بالمحلية والاتصاف وهذه النسبة
189

موجودة أيضا على ذلك التقدير ويعود الكلام فيها بأن يقال هذه النسبة أيضا لها محل يتصف بها فله إليها نسبة ثالثة موجودة وهكذا إلى ما لا نهاية له فهذا تسلسل وأما ثانيا فلأن لوجودها الزائد على ماهيتها لما مر إليها نسبة هي اتصافها بالوجود وهذه النسبة أيضا موجودة على ذلك التقدير فلوجودها إليها نسبة ثالثة وهكذا وهذا تسلسل ثان وأما ثالثا فلأن لأجزاء الزمان بعضها إلى بعض نسبة بالتقدم والتأخر فلو كانت النسب موجودة في الأعيان لكان التقدم والتأخر موجودين مع موصوفيهما وما مع المتقدم مقدم فيكون التقدم الموجود مع الزمان المتقدم متقدما على التأخر الموجود مع الزمان المتأخر فللتقدم تقدم آخر وهكذا للتأخر تأخر آخر فهناك تسلسل ثالث بل رابع أيضا
الوجه الثاني لو وجدت النسب لوجدت الإضافة لأنها من النسب لكونها نسبة متكررة وهي لا تتحقق إلا بوجود المنتسبين مجتمعين ومن أقسام الإضافة التقدم والتأخر فيوجد المتقدم والمتأخر من أجزاء الزمان معا وأنه باطل قطعا
الوجه الثالث لو وجدت النسب في الخارج لزم اتصاف الباري تعالى بالحوادث لأن له مع كل حادث إضافة ثابتة إليه بأنه موجود معه و له قبله أي قبل كل حادث إضافة أخرى إليه بأنه متقدم عليه و له بعده إضافة ثالثة إليه بأنه متأخر عنه وهذه الإضافة حادثة أما التي مع الحادث أو بعده فلا شبهة في حدوثها وأما التي قبله فقد زالت حال وجوده والقديم لا يزول وأثبتها أي الأعراض النسبية ضرار والصواب كما في المحصل معمر فإنه من قدماء المتكلمين لما رأى قوة الحجة التي ذكرها الحكماء على وجودها أذعن لها وحكم بوجودها و حيث لم يجد دفعا للتسلسلات المذكورة التزم التسلسل ومن ثم أثبت أعراضا غير متناهية يقوم بعضها ببعض ولا مخلص له من برهان التطبيق واحتج الحكماء
190

على وجود الأمور النسبية بأن كون السماء فوق الأرض ومقابلة الشمس لوجه الأرض وأمثالهما من النسب مما نعلمه ضرورة أي نعلم بالضرورة أنها ثابتة حاصلة سواء وجد هناك فرض فارض واعتبار معتبر أو لم يوجد ولقائل أن يقول إن ادعيتم أن الفوقية مثلا من الموجودات الخارجية منعناه بل هذا هو المتنازع فيه فيكف يدعي الضرورة فيه وإن قلتم السماء موصوفة بالفوقية في الخارج فلذلك لا يستلزم وجود الفوقية فيه لجواز اتصاف الأعيان الخارجية
بالأمور العدمية فإن زيدا أعمى في الخارج وليس العمى موجودا خارجيا وقد يستدل على ذلك أيضا بأن الشيء قد لا يكون فوقا ثم يصير فوقا فالفوقية التي حصلت بعد العدم لا تكون عدمية وإلا كان نفي النفي نفيا وهو محال ويجاب عنه بأن حصول الفوقية بعد ما لم تكن عبارة عن اتصاف الشيء بها بعد ما لم يكن متصفا وذلك لا يستلزم وجودها كما عرفت وأجابوا عن أدلة الخصم بأنها إنما تنفي كون جميع النسب موجودة في الخارج أي هذه الأدلة تدل على سلب الموجبة الكلية ونحن نقول به فإن من الإضافات والنسب أمورا موجودة في الخارج حقيقتها أنها إضافة كالفوقية والمقابلة ونظائرهما ومنها إضافات لا تحقق لها في الخارج بل يخترعها العقل عند ملاحظة أمرين كالتقدم والتأخر بين أمرين لا يجوز اجتماعهما كأجزاء الزمان والقسم الأول من هذين ينتهي عند حد أي يجب انتهاؤه إلى حد لا يتجاوزه دون الثاني إذ لا يقف عند حد لا يمكن
191

للعقل أن يتجاوزه ويفرض إضافة أخرى بعده وعلى هذا فقد انجلت تلك الأدلة واندفع التسلسل في الأمور الخارجية لجواز أن تنتهي السلسلة إلى نسبة موجودة يكون ما بعدها من النسب اعتبارية إذ ليس يلزم من وجود الفوقية في نفسها أن يكون حلولها في محلها أمرا موجودا أيضا ولا من وجود حلولها وجود حلول الحلول وكون هذه النسب متوافقة في الماهية لا يقتضي اشتراكها في الوجود لجواز أن يكون بعض أفراد الماهية موجودا وبعضها معدوما وقد يجاب عن بعض تلك الأدلة بكونه منقوضا بالأين
192

الفصل الأول في مباحث المتكلمين في الأكوان
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
المتكلمون وإن أنكروا سائر المقولات النسبية فقد اعترفوا بالأين وسموه بالكون وزعم قوم منهم أن حصول الجوهر في الحيز معلل بصفة قائمة بالجوهر فسموا الحصول في الحيز بالكائنية والصفة التي هي علة بالكون
قال الإمام الرازي حصول الصفة للشيء معناه تحيزها تبعا لتحيزه فيلزم الدور
والجواب ما قد عرفته مع أنه قد تكون ذات الصفة علة للحصول ويكون تحيزها معللا به فلا دور وربما قال قيام الصفة إن توقف على التحيز لزم الدور وإلا جاز انفكاك العلة عن المعلول وقد يقال إن التوقف بمعنى عدم جواز الانفكاك لا يوجب دورا ممتنعا وهو غير وارد إذا تأملت
تنبيه الأحياز الجزئية الممكنة للمتحيز نسبتها إليه سواء وإنما يقتضي حصوله في حيز ما بحسب ما يقارنه من شرط يعينه والكون هو نسبته إلى
193

الحيز المخصوص فالفرق ظاهر لكن الكلام في ثبوت ذلك المقتضي فإن الحصول في الحيز المخصوص عندنا بخلق الله تعالى
الشرح
الفصل الأول في مباحث المتكلمين في الأكوان وفيه مقاصد سبعة
الأول المتكلمون وإن أنكروا سائر المقولات النسبية فقد اعترفوا بالأين وسموه بالكون والجمهور منهم على أن المقتضي للحصول في الحيز هو ذات الجوهر لا صفة قائمة به فهناك شيئان ذات الجوهر والحصول في الحيز المسمى عندهم بالكون وزعم قوم منهم أعني مثبتي الحال أن حصول الجوهر في الحيز معلل بصفة قائمة بالجوهر فسموا الحصول في الحيز بالكائنية والصفة التي هي علة للحصول بالكون فهناك ثلاثة أشياء ذات الجوهر وحصوله في الحيز وعلته
قال الإمام الرازي في الأربعين هذا عندنا باطل إذ حصول الصفة للشيء معناه تحيزها تبعا لتحيزه فإذا فرض أن حصول الجوهر في الحيز معلل بقيام صفة أخرى بالجوهر كان كل واحد من الحصول وتلك الصفة متوقفا على الآخر فيلزم الدور والجواب ما قد عرفته في المرصد الأول من هذا الموقف وهو أنا لا نسلم أن معنى القيام ما ذكر بل هو الاختصاص الناعت مع أنه إن سلم أن معنى القيام ذلك فلا نسلم لزوم الدور لأنه قد تكون ذات الصفة لا قيامها بالجوهر علة للحصول ويكون تحيزها الذي هو قيامها معللا به أي بالحصول فلا دور وقوله ربما قال إشارة إلى
194

ما وجد في نسخة أخرى من الأربعين هكذا قيام الصفة التي هي علة للحصول إن توقف على التحيز أي الحصول في الحيز لزم الدور لأنه لما عللنا حصول الجوهر في حيزه بتلك الصفة القائمة به كان الحصول متوقفا على قيامها به والمفروض أن قيامها به متوقف على ذلك الحصول وهو الدور يرد عليه ما مر من أن العلة ذات الصفة من حيث وجودها في نفسها ولا يلزم من هذا توقف الحصول على قيامها بالجوهر وإلا أي وإن لم يتوقف قيام الصفة على الحصول في الحيز جاز انفكاك العلة التي هي تلك الصفة القائمة بالجوهر عن المعلول الذي هو الحصول في الحيز لأنه لما لم يتوقف قيامها به على الحصول أمكن القيام بدون الحصول فأمكن أن توجد تلك الصفة قائمة بالجوهر خالية عن معلولها الذي هو الحصول وقد يقال إن التوقف بمعنى عدم جواز الانفكاك لا يوجب دورا ممتنعا وتقريره على ما في كتاب الأربعين أنه إن عني بالتوقف وجوب تأخر الموقوف عن الموقوف عليه لم يلزم من عدم التوقف إمكان حصول العلة بدون المعلول وإن عنى به عدم جواز وجوده بدون الموقوف عليه لم يلزم من التوقف بهذا المعنى الدور لجواز أن تكون العلة والمعلول متلازمين مع كون المعلول محتاجا إلى علته بلا عكس
قال المصنف وهو أي ما ذكره هذا القائل غير وارد على كلام الإمام يظهر ذلك عليك إذا تأملت وقد وجهه بعض تلامذته بأن مجرد امتناع الانفكاك من الجانبين وإن لم يستلزم دورا ممتنعا إلا أن ههنا أمرا آخر يستلزمه إذ قد صرح الإمام بأن قيام الصفة بالشيء معناه أن تحيزها تابع لتحيزه ولا شك أن تحيز الجوهر تابع لقيام الصفة لكونه علة له فيلزم
195

الدور الممتنع وهذا مردود أما أولا فلأنه لا تصريح بذلك المعنى في هذه النسخة بل فيها أن قيام الصفة المذكورة بالجوهر إما أن يتوقف على حصوله في الحيز أو لا يتوقف فاستفسار هذا القائل متعلق بما ذكر فيها واعتراضه وارد عليه وأما ثانيا فلأن التمسك بمعنى القيام وجه مستقل كما في النسخة الأولى فلا وجه لجعله جزءا لدليل آخر وأما ثالثا فلأن هذا التوجيه اختيار للشق الأول وهو قوله إن عنى بالتوقف وجوب تأخر الموقوف الخ وهو أن قيام الصفة متوقف على الحصول توقف تأخر وقد أبطله هذا القائل بأن عدمه لا يستلزم إمكان وجود العلة بدون المعلول كما نقلناه عنه لا للشق الثاني المذكور في الكتاب
تنبيه على ما يتمسك به من أثبت الكون علة للكائنية مع الجواب عنه أما التمسك فهو أنهم قالوا الأحياز الجزئية الممكنة للمتحيز الذي هو الجوهر نسبتها إليه سواء فإن ذات الجوهر تقتضي حصوله في حيز ما أي حيز كان وإنما يقتضي حصوله في حيز ما مخصوص بحسب ما يقارنه من شرط يعينه أي يعين ذلك الحيز المخصوص وحصوله فيه فهناك أمران
أحدهما الكائنية أعني الحصول في الحيز المخصوص
وثانيهما الكون الذي هو نسبته أي المقتضى لنسبته إلى الحيز المخصوص وحصوله فيه فالفرق بين الكون الذي هو مقتضي وبين الحصول في الحيز أعني الكائنية المقتضاة ظاهر وأما الجواب فهو قوله لكن أي نحن نسلم أن نسبة الجوهر إلى الأحياز الممكنة على السوية وأنه لا بد لحصوله في حيز معين من مقتض خارج عن ذاته لكن الكلام في ثبوت ذلك المقتضى وأنه ماذا فنحن لا نسلم أن حصوله في الحيز معلل
196

بصفة أخرى قائمة به مسماة بالكون كما يزعمون فإن الحصول في الحيز المخصوص إنما يثبت له عندنا بخلق الله تعالى فلا حاجة إلى إثبات صفة أخرى له
المقصد الثاني
المتن
أنواع الكون أربعة لأن حصوله في الحيز إما أن يعتبر بالنسبة إلى جوهر آخر أو لا والثاني إن كان مسبوقا بحصوله في ذلك الحيز فسكون وإن كان مسبوقا بحصوله في حيز آخر فحركة فالسكون حصول ثان في حيز أول والحركة حصول أول في حيز ثان ويرد على الحصر الحصول في أول الحدوث فإنه غير مسبوق بكون آخر
وقال أبو هاشم إنه سكون
ثم منهم من قال الحركة مجموع سكنات فإن قيل الحركة ضد السكون فكيف تكون مركبة منه قلنا الحركة من الحيز
ضد السكون فيه وأما الحركة إلى الحيز فلا تنافي السكون فيه فإنها نفس الكون فيه وهو مماثل للكون الثاني فيه وأنه سكون فكذا هذا ويلزمهم أن يكون الكون الثاني حركة لأنه مثل الكون الأول وهو حركة إلا أن يعتبر في الحركة ألا تكون مسبوقة بالحصول في ذلك الحيز لا أن تكون مسبوقة بالحصول في حيز آخر وحينئذ لا تكون الحركة مجموع سكنات والنزاع لفظي وأما الأول فإن كان بحيث يمكن أن يتخلل بينه وبين ذلك الآخر ثالث فهو الافتراق وإلا فهو الاجتماع وإنما قلنا إمكان التخلل دون وقوع التخلل لجواز أن يكون بينهما خلاء عند المتكلمين فالاجتماع واحد والافتراق مختلف فمنه قرب وبعد متفاوت ومجاورة واعلم أن الاجتماع قائم بكل جزء بالنسبة إلى الآخر لا أنه أمر قائم بهما أو وضع أحدهما إلى الآخر فإنهم لا يثبتونه فالجوهران كل له اجتماع بالآخر فاحفظ هذا فإنه مما يذهب على كثير من عظماء الصناعة
197

الشرح
المقصد الثاني أنواع الكون أربعة هي السكون والحركة والافتراق والاجتماع وذلك لأن حصوله أي حصول الجوهر في الحيز إما أن يعتبر بالنسبة إلى جوهر آخر أو لا والثاني وهو ما لا يعتبر بالقياس إلى جوهر آخر قسمان لأنه إن كان ذلك الحصول مسبوقا بحصوله في ذلك الحيز فسكون وإن كان مسبوقا بحصوله في حيز آخر فحركة وعلى هذا فالسكون حصول ثان في حيز أول والحركة حصول أول في حيز ثان ويرد على الحصر أي على حصر القسم الثاني في الحركة والسكون الحصول في أول الحدوث أي حصول الجوهر في الحيز في أول زمان حدوثه فإنه كون غير مسبوق بكون آخر لا في ذلك الحيز ولا في حيز آخر فلا يكون سكونا ولا حركة فذهب أبو الهذيل إلى بطلان الحصر وقال الجوهر في أول زمان حدوثه كائن لا متحرك ولا ساكن وقال أبو هاشم وأتباعه أنه أي الكون في أول الحدوث سكون لأن الكون الثاني في ذلك الحيز سكون وهما متماثلان لأن كل واحد منهما يوجب اختصاص الجوهر بذلك الحيز وهو أخص صفاتهما فإذا كان أحدهما سكونا كان الآخر كذلك فهؤلاء لم يعتبروا في السكون اللبث والمسبوقية بكون آخر فيلزمهم تركب الحركة من السكنات إذ ليس فيها إلا الأكوان الأول في الأحياز المتعاقبة ثم منهم من التزم ذلك وقال الحركة مجموع سكنات في تلك الأحياز فإن قيل في إبطال ما التزمه هذا القائل الحركة لا شك أنها ضد السكون فكيف تكون الحركة مركبة منه فإن أحد الضدين لا يكون جزءا للآخر قلنا في درء هذا الإبطال ليست الحركة والسكون متضادين على الإطلاق بل الحركة من الحيز ضد السكون
198

فيه إذ لا يتصور اجتماعهما أصلا وأما الحركة إلى الحيز فلا تنافي السكون فيه فإنها أي الحركة إلى الحيز نفس الكون الأول فيه وذلك لأن الخروج عن الحيز السابق عليه عين الدخول فيه وهو أي الكون الأول فيه مماثلا للكون الثاني فيه لما مر من اشتراكهما في أخص صفات النفس وأنه أي الكون الثاني فيه سكون باتفاق فكذا هذا أي الكون الأول لأن المتماثلين لا يتخالفان
قال الآمدي ذلك الاشتراك لا يوجب التماثل لأن المتخالفين قد يشتركان في بعض الصفات ولا نسلم أن ما ذكره أخص صفاتهما وأيضا يلزمهم أن يكون الكون الثاني حركة لأنه مثل الكون الأول وهو حركة باتفاق وكذا الثاني
قال الآمدي وهذا إشكال مشكل ولعل عند غيري جوابه وأشار المصنف إلى الجواب بقوله إلا أن يعتبر أي يلزمهم أن يكون الكون الثاني حركة إلا أن يعتبر في الحركة أن تكون مسبوقة بالحصول في ذلك الحيز إلا أن تكون مسبوقة بالحصول في حيز آخر كما مر إذ على هذا لا يكون الكون الثاني حركة لأنه مسبوق بكون آخر في ذلك الحيز ويكون الكون الأول حركة عن المكان السابق مع كونه سكونا في هذا المكان والحاصل أنا لا نعتبر في السكون المسبوقية بكون آخر حتى يكون الكون في أول زمان الحدوث سكونا ونلتزم حينئذ أن تكون الحركة مركبة من السكنات لكنا نعتبر في الحركة عدم المسبوقية بالكون في ذلك الحيز ولا نكتفي بما مر من كونها مسبوقة بالكون في حيز آخر حتى لا يلزمنا أن يكون الكون الثاني حركة وإنما حملنا عبارة الكتاب على اعتبار الأمرين معا
199

في الحركة إذ لو حملت على اعتبار الأول فقط كما هو ظاهرها لزم أن يكون الكون في أول زمان الحدوث حركة ولا قائل به ثم أورد على جوابه إشكالا بقوله وحينئذ أي حين اعتبر في الحركة ما ذكر اندفع ذلك الإشكال لكن لا تكون الحركة مجموع سكنات لأن الكون الثاني سكون وليس جزءا للحركة وهو مردود بأنهم يدعون أن جميع أجزاء الحركة سكنات لأن كل سكون يجب أن يكون جزءا للحركة وهو ظاهر فإن الكون في أول الحدوث سكون عندهم وليس جزءا لحركة أصلا والنزاع في أن الكون في أول زمان الحدوث سكون أوليس بسكون لفظي فإنه إن فسر السكون بالحصول في المكان مطلقا كان ذلك الكون سكونا ولزم تركب الحركة من السكنات لأنها مركبة من الأكوان الأول في الأحيان كما عرفت وإن فسر بالكون المسبوق بكون آخر في ذلك الحيز لم يكن ذلك الكون سكونا ولا حركة بل واسطة بينهما ولم يلزم أيضا تركب الحركة من السكنات فإن الكون الأول في المكان الثاني أعني الدخول فيه هو عين الخروج من المكان الأول ولا شك أن الخروج عن الأول حركة فكذا الدخول فيه وأما الأول وهو أن يعتبر حصول الجوهر في الجوهر في الحيز بالنسبة إلى جوهر آخر فإن كان بحيث يمكن أن يتخلل بينه وبين ذلك الآخر جوهر ثالث فهو الافتراق وإلا فهو الاجتماع وإنما قلنا إمكان التخلل دون وقوع التخلل لجواز أن يكون بينهما خلاء أي مكان خال عن المتحيز عند المتكلمين فإنهم يجوزونه فالاجتماع واحد لا يتصور إلا على وجه واحد هو أن لا يمكن تخلل ثالث بينهما والافتراق مختلف على وجوه متنوعة فمنه قرب ومنه بعد متفاوت في مراتب البعد ومنه مجاورة جعلها من أقسام الافتراق وسيصرح بأن المجاورة عين الاجتماع واعلم أن الاجتماع قائم بكل جزء أي جوهر بالنسبة إلى الآخر لا أنه أمر واحد قائم بهما معا فإنه غير جائز عندهم لما مر من أن العرض الواحد لا يقوم بشيئين لا على أن يقوم بكل واحد منهما وهو ظاهر ولا أن يقوم بهما معا وإلا لم يكن واحدا حقيقة أو وضع أحدهما أي ولا أن الاجتماع
200

وضع أحد الجوهرين بالنسبة إلى الآخر فإنهم أي المتكلمين لا يثبتونه أي الوضع ويثبتون الاجتماع فالجوهران المجتمعان كل واحد منهما له اجتماع بالآخر قائم به فهناك اجتماعان متحدان بالماهية ومختلفان بالهوية فاحفظ هذا الذي ذكرناه فإنه مما يذهب على كثير من عظماء الصناعة الكلامية فمنهم من يتوهم أن اجتماعا واحدا قائم بمحلين ومنهم من يتوهم أن الاجتماع من مقولة الوضع
المقصد الثالث
المتن
الكون وجوده ضروري وكذا أنواعه الأربعة إذ حاصلها كما علمت عائد إلى الكون والمميزات أمور اعتبارية نحو كونه مسبوقا بكون آخر أو غير مسبوق به وإمكان تخلل ثالث وعدمه
وقال الحكماء السكون عدم الحركة عما من شأنه أن يكون متحركا
تنبيه إذا قلنا ليس في الخارج إلا الكون والفصول المميزة أمور اعتبارية كان تسميتها أنواعا مجازا وإنما هو نوع واحد بل إذ الكون الواحد بالشخص يعرض له أنه اجتماع بالنسبة إلى جزء وافتراق بالنسبة إلى جزء آخر ولو فرضنا جوهرا فردا خلقه الله تعالى وحده لم يتصف باجتماع ولا افتراق وإذا خلق معه غيره عرضا له والكون بحاله
الشرح
المقصد الثالث الكون أي الحصول في الحيز وجوده ضروري
201

بشهادة الحس وكذا أنواعه الأربعة على رأي المتكلمين موجودة إذ حاصلها كما علمت من التقسيم عائد إلى الكون الذي هو نوع واحد في الحقيقة والمميزات التي بها تميزت تلك الأنواع بعضها عن بعض أمور اعتبارية لا فصول حقيقية منوعة نحو كونه مسبوقا بكون آخر إما في مكان آخر كما في الحركة أو في ذلك المكان كما في السكون على رأي أو غير مسبوق به أي بكون آخر على معنى أنه لا يعتبر كونه مسبوقا بكون آخر كما في السكون على رأي آخر ونحو إمكان تخلل ثالث بينهما وعدمه كما في الافتراق والاجتماع ولا شبهة في أن هذه الأمور الاعتبارية لا وجود لها في الخارج
وقال الحكماء السكون عدم الحركة عما من شأنه أن يكون متحركا فالمجردات لا توصف بالسكون الذي هو أمر عدمي عندهم إذ ليس من شأنها الحركة
تنبيه إذا قلنا ليس في الخارج إلا الكون والفصول المميزة المذكورة أمور اعتبارية لا فصول حقيقية منوعة كان تسميتها أنواعا مجازا وإنما هو نوع واحد يعرض له صفات متخالفة لا توجب اختلافا في الماهية بل ربما لا توجب أيضا اختلافا في الهوية الشخصية إذا الكون الواحد بالشخص يعرض له أنه اجتماع بالنسبة إلى جزء وافتراق بالنسبة إلى جزء آخر ولو فرضنا جوهرا فردا خلقه الله تعالى وحده لم يتصف باجتماع ولا افتراق ما دام منفردا وإذا خلق
الله تعالى بعد ذلك معه غيره عرضا له والكون الثابت له أو لا باق بحاله لم تتغير ذاته الشخصية بل صفته
202

المقصد الرابع
المتن
فيما اختلف في كونه متحركا وذلك في صورتين
الأولى إذا تحرك الجسم فاتفقوا على حركة الجواهر الظاهرة منه واختلفوا في المتوسط الباطن فقيل متحرك إذ لو سكن لزم الانفكاك ولأنه في الكل والكل في حيز الكل فهو في حيز الكل وقد خرج عنه إلى آخر وقيل غير متحرك إذ حيزه الجواهر المحيطة به والأولون جعلوه هو البعد المفروض الذي يشغله وكذلك اختلف في المستقر في السفينة المتحركة وأنه أولى بالحركة إذ هو يفارق بعض السطح المحيطة به
الحق أنه نزاع لفظي يعود إلى تفسير الحيز كما نبهتك عليه
الثانية إذا كان الجوهر مستقرا في مكانه وتحرك عليه آخر بحيث تتبدل المحاذاة فالمستقر متحرك وألزم ما إذا تحرك عليه جوهران كل إلى جهة فيجب أن يكون متحركا إلى جهتين في حالة واحدة فيقال وذلك إنما يمتنع في حركة يزول بها المتحرك عن مكانه دون ما يزول بها المكان عنه وشدد النكير عليه ولا معنى له لأنه نزاع في التسمية
الشرح
المقصد الرابع فيما اختلف في كونه متحركا وذلك في صورتين
الأولى إذا تحرك جسم من مكان إلى آخر فاتفقوا على حركة الجواهر الظاهرة منه لأنها قد فارقت أحيازها واختلفوا في الجوهر المتوسط الباطن منه فقيل متحرك وإلا كان ساكنا إذ لا واسطة بينهما فيما هو قابل لهما بعد أول زمان حدوثه وليس بساكن إذ لو سكن مع
203

حركة باقي الأجزاء لزم الانفكاك وانفصال بعض الأجزاء عن بعض والمحسوس خلافه ولأنه أي الجوهر المتوسط داخل في الكل والكل داخل في حيز الكل فهو داخل في حيز الكل فيكون متحيزا به أيضا وقد خرج الجوهر المتوسط عنه أي عن حيز الكل إلى حيز آخر إذ المفروض أن الكل خرج بتمامه عن حيزه فيكون هو أيضا متحركا وقيل الجوهر المتوسط غير متحرك إذ حيزه الجواهر المحيطة به وأنه لم يفارقها ولم ينفصل عنها فهو مستقر في حيزه فلا يكون متحركا والأولون القائلون بكونه متحركا جعلوه أي جعلوا حيز الجوهر المتوسط هو البعد المفروض الذي يشغله الجوهر المتوسط وهو بعض من حيز الكل ولا شك أنه قد فارقه فيكون متحركا فالاختلاف راجع إلى تفسير الحيز كما سيصرح به وكذلك اختلف في المستقر في السفينة المتحركة فقيل ليس بمتحرك كالجوهر المتوسط وقيل متحرك وكيف لا وأنه أولى بالحركة من الجوهر المتوسط إذ هو يفارق بعض السطح المحيط به أعني الجواهر الهوائية التي أحاطت به من فوقه بخلاف المتوسط فإنه لا يفارق شيئا من السطح المحيط به والحق أنه نزاع لفظي يعود إلى تفسير الحيز كما نبهتك عليه آنفا فإن فسر بالبعد المفروض كان المستقر في السفينة المتحركة متحركا كالجوهر المتوسط لخروج كل منهما حينئذ من حيز إلى حيز آخر وإن فسر بالجواهر المحيطة لم يكن الجوهر الوسطاني مفارقا لحيزه أصلا وأما المستقر المذكور فإنه يفارق بعضا من الجوهر المحيطة به دون بعض وإن فسر الحيز بما اعتمد عليه ثقل الجوهر كما هو المتعارف عند الجمهور لم يكن المستقر مفارقا لمكانه أصلا
الصورة الثانية قال الأستاذ أبو إسحق إذا كان الجوهر مستقرا في
204

مكانه وتحرك عليه جوهر آخر من جهة إلى جهة بحيث تتبدل المحاذاة بينهما فالمستقر في مكانه متحرك وألزم على هذا القول ما إذا تحرك عليه أي على الجوهر المستقر جوهران كل منهما إلى جهة مخالفة لجهة الآخر فيجب أن يكون الجوهر المستقر متحركا إلى جهتين مختلفتين في حالة واحدة وهو باطل بالضرورة فيقال لدفع هذا الإلزام الحركة قسمان قسم يزول به المتحرك عن مكانه وقسم لا يزول به عنه بل يزول به مكانه عنه وذلك الذي ذكرتموه من كون الشيء الواحد في حالة واحدة متحركا إلى جهتين إنما يمتنع في حركة يزول بها المتحرك عن مكانه دون ما يزول بها المكان عنه كما في الصورة التي فرضتموها وشدد النكير عليه أي على قول الأستاذ ولا معنى له أي للإنكار وتشديده لأنه نزاع في التسمية فإن الأستاذ أطلق اسم الحركة على اختلاف المحاذيات سواء كان مبدأ الاختلاف في المتحرك أو في غيره فلزمه اجتماع الحركتين إلى جهتين فالتزمه كما أن جماعة أطلقوا اسم السكون على الكون مطلقا فلزمهم تركب الحركة من السكنات بل كون الحركة عن المكان الأول عين السكون في المكان الثاني فالتزموها والمخالفون له يطلقونه على القسم الأول ولا مشاحة في الاصطلاحات
المقصد الخامس
المتن
يجوز وجود جوهر فرد محفوف بستة جواهر من جهاته الست إلا ما نقل عن بعض المتكلمين أنه منع ذلك حذرا من لزوم تجزيه وهو مكابرة
205

للمحسوس ومانع من تأليف الأجسام من الجواهر واتفقوا على المجاورة والتأليف بين ذلك الجوهر والجواهر المحيطة به ثم اختلفوا
فقال الشيخ والمعتزلة المجاورة غير الكون لحصول حال الانفراد دونها والتأليف والمماسة غير المجاورة بل هما أمران يتبعان المجاورة والمباينة أي الافتراق ضد للمجاورة فلذلك تنافي التأليف لا لأنه ضده
ثم قال الشيخ المجاورة واحدة وأما المماسة والتأليف فيتعدد فهنا ست تأليفات وهي تغنيه عن كون سابع يخصصه بحيزه
وقالت المعتزلة المجاورة بين الرطب واليابس تولد تأليفا قائما بهما فههنا تأليف واحد وإذا جاز قيامه بالكثير فلا فرق بين الاثنين وأكثر
وقيل ست تأليفات لا سبع حذرا من انفراد كل جزء بتأليف وأبطلوا وحدة التأليف بأنه يزول بمباينة واحدة تأليف جوهر معه وتأليف الخمسة معه باق فظهر التغاير إذ ما بطل غير ما لم يبطل ضرورة
وقال الأستاذ المماسة نفس المجاورة وأنهما متعددتان ضرورة فالمباينة ضد لهما حقيقة
وقال القاضي إذا خص جوهر بحيز ثم توارد عليه مماسات ومجاورات آخر ثم زالت فالكون قبل وبعد واحد لم يتغير وإنما تعددت الأسماء بحسب اعتبارات وهذا أقرب إلى الحق بناء على عدم اشتراط البينة
فروع
الأول الجوهر الفرد له ست مماسات معينة وضدها ست مباينات
206

غير معينة هذا قبل المماسة وأما بعدها فقال في قول يضادها ست مباينات غير معينة وفي قول ست معينة هي الطارئة على المماسات هذا بناء على أن المماسة غير الكون
الثاني المتوسط بين الجوهرين كلما قرب من أحدهما بعد عن الآخر
فقال الأصحاب قربه من أحدهما عين البعد من الآخر
وقال الأستاذ غيره إذ قد يقرب من أحدهما ولا يبعد من الآخر بأن يتحرك الآخر معه إلى جهة حركته اللهم إلا أن يراد أن الكون واحد كما هو مذهب الأستاذ وليس ثمة أمر زائد هي المباينة والمجاورة فيكون النزاع لفظيا
الثالث الجوهر إذا ماس من جهة فهل يقال إنه مباين من الجهة الأخرى لعدم المماسة أم لا لأنه لا يمكن المجاورة من تلك الجهة حينئذ وهذا نزاع لفظي
الرابع يجوز المباينة والافتراق في جملة جواهر العالم
وقيل لا إذ لا تجوز المجاورة ويكفي جوازه بدلا والذي حداني على إيراد هذه الأبحاث أمران معرفة اصطلاح القوم وتحقيق ما ذهبوا إليه في حقيقة الأكوان تسلقا إليها مما قالوا به من لوازمها وأن لا تظن بكتابنا هذا إعوازه لها قصورا وإلا فلا تجدي في المطالب المهمة زيادة طائل ولولا هاتان الغايتان لم نطول الكتاب وليس من دأبي الإسهاب وأذكر هذا العذر لدي ما عسى تعثر عليه في غير هذا الموضع فتكف عني لائمتك
الشرح
المقصد الخامس اتفق القائلون بالأكوان على أنه يجوز وجود
207

جوهر فرد محفوف بستة جواهر ملاقية له من جهاته الست إلا ما نقل عن بعض المتكلمين من أنه منع ذلك ولم يجوز ملاقاة الجوهر الفرد لأكثر من جوهر واحد حذرا من لزوم تجزيه وهو مكابرة وإنكار للمحسوس فإن الحس يشهد بالتلاقي بين الجواهر من جميع الجهات وهو مانع من تأليف الأجسام من الجواهر الفردة فإنه إذا لم يمكن التلاقي من
جميع الجوانب كيف يتحصل منها الجسم الطويل العريض العميق بل لا يكون هناك إلا جواهر مبثوثة غير متلاقية ولا ممكنة التلاقي واتفقوا أيضا على المجاورة والتأليف بين ذلك الجوهر والجواهر المحيطة به ثم اختلفوا فقال الشيخ الأشعري والمعتزلة المجاورة أي الاجتماع الذي هو كون الجوهرين بحيث لا يمكن أن يتخللهما ثالث كما مر غير الكون الذي يوجب تخصيص الجوهر بحيزه بل هي أمر زائد عليه وذلك لحصوله أي حصول الكون للجوهر حال الانفراد عما عداه من الجواهر دونها أي دون المجاورة فإنها غير حاصلة للجوهر حال انفراده عن غيره فيتغايران قطعا وقال الشيخ والمعتزلة أيضا التأليف والمماسة غير المجاورة بل هما أمران زائدان على المجاورة يتبعان المجاورة ويحدثان عقيبها وقالوا أيضا المباينة أي الافتراق المفسر بما تقدم ضد للمجاورة التي هي شرط للتأليف فلذلك تنافي المباينة التأليف لأن ضد الشرط ينافي المشروط لا لأنه ضده أي لا لأن المباينة بتأويل الافتراق ضد التأليف
ثم قال الشيخ وحده المجاورة القائمة بالجوهر الفرد واحدة وإن تعدد المجاور له وأما المماسة والتأليف فيتعدد كل واحد منهما بحسب
208

تعدد المؤتلف معه والمماس له فههنا أي فيما إذا أحاط بالجوهر الفرد ستة من الجواهر في جهاته ست تأليفات وست مماسات ومجاورة واحدة وهي أي المماسات الست تغنيه عن كون سابع يخصصه بحيزه وقالت المعتزلة المجاورة بين الجوهر الرطب و الجوهر اليابس تولد تأليفا واحدا بينهما قائما بهما ثم اختلفوا فيما إذا تألف الجوهر مع ستة من الجواهر فقيل يقوم بالجواهر السبعة تأليف واحد فإنه لما لم يبعد قيامه بجوهرين لم يبعد قيامه بأكثر وإليه أشار بقوله فههنا أي فيما إذا أحاط بجوهر واحد ستة من الجواهر في جهاته تأليف واحد وإذا جاز قيامه بالكثير فلا فرق بين الاثنين وأكثر وقيل ههنا ست تأليفات لا سبع حذرا من انفراد كل جزء من الجواهر السبعة بتأليف على حدة وأبطلوا أي أبطل هؤلاء وحدة التأليف التي ذهبت إليها الطائفة الأولى بأنه قد مر أن الماهية مضادة لشرط التأليف أعني المجاورة فتكون منافية له ولا شك أنه يزول بمباينة واحدة تأليف جوهر واحد من الستة معه أي مع الجوهر المحاط بها وتأليف الخمسة معه باق بحاله فظهر التغاير إذ ما بطل غير ما لم يبطل ضرورة لاستحالة أن يبطل التأليف الواحد من وجه دون وجه
وقال الأستاذ أبو إسحاق المماسة بين الجواهر نفس المجاورة بينهما وأنهما متعددان بحسب تعدد المجاور المماس ضرورة فالمباينة على رأيه ضد لهما حقيقة وذلك لأنها ضد للمجاورة بالاتفاق والمجاورة عين المماسة والتأليف على أصله فتكون المباينة عنده ضد المماسة والتأليف حقيقة
وقال القاضي أبو بكر إذا خص جوهر بحيز أي حصل فيه ثم توارد عليه مماسات ومجاورات من جواهر أخر ثم زالت تلك المماسات والمجاورات عنه فالكون الحاصل لذلك الجوهر قبل وبعد أي قبل
209

المماسات وبعدها واحد لم يتغير ذاته ولم يتعدد وإنما تعددت الأسماء بحسب اعتبارات فإن الكون الحاصل له قبل انضمام الجواهر إليه يسمى سكونا والكون المتجدد له حال الانضمام وإن كان مماثلا للكون الأول يسمى اجتماعا وتأليفا ومجاورة ومماسة والكون المتجدد له بعد زوال الانضمام يسمى مباينة والأكوان المختلفة على أصله ليست غير الأكوان الموجبة لاختصاص الجوهر بالأحياز المختلفة على أصله ليست غير الأكوان الموجبة لاختصاص الجوهر بالأحياز المختلفة وهذا الذي ذكره القاضي أقرب إلى الحق بناء على أصول أصحابنا من عدم اشتراط البينة المخصوصة لقيام عرض من الأعراض بمحله ومن امتناع أن يكون الجوهر أو ما قام به مؤثرا في حكم جوهر آخر لأن حكم الجوهر يمتنع أن يستفاد مما ليس قائما به سواء كان مباينا له أو غير مباين واقتصر المصنف على حكاية هذه المذاهب والتنبيه على أن قول القاضي أقرب إلى الصواب ولم يتعرض لما أورده الآمدي من تزييفاتها لأنه زيادة تضييع للأوقات
فروع على أصول أصحابنا في الاجتماع والافتراق
الأول الجوهر الفرد المنفرد من غيره يتصور له ست مماسات معينه لأن ما يماسه لا يكون إلا معينا وضدها أي ضد تلك المماسات المعينة ست مباينات غير معينة لأن ما باينه من الجواهر غير معين فإن ضم إليه جوهر واحد كان فيه خمس مباينات غير معينة مضادة لخمس مماسات معينة وعلى هذا النحو إذا ضم إليه جوهر ثالث أو أكثر هذا إذا كانت المباينة قبل المماسة وأما إذا كانت بعدها فقال الشيخ في قول يضادها أي يضاد المماسات الست المعينة ست مباينات غير معينة كما في القسم الأول و قال في قول آخر يضادها ست من المباينات معينة هي المباينات الطارئة على المماسات المعينة
210

قال الآمدي هذا بناء من الشيخ على أن المماسة وكذا المباينة عرض غير الكون المخصص للجوهر بحيزه كما هو بحيز كما هو مذهبه ويرد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون ما للجوهر من الكون غير مختلف ويكون الاختلاف عائدا إلى التسميات كما ذكره القاضي
الفرع الثاني الجوهر المتوسط بين الجوهرين الكائنين في حيزين بينهما أحياز كلما قرب من أحدهما بعد عن الآخر بلا شبهة فقال الأصحاب قربه من أحدهما عين البعد من الآخر وقال الأستاذ غيره وهو الحق إذ قد يقرب من أحدهما ولا يبعده من الآخر بأن يتحرك الآخر معه إلى جهة حركته بمقدار حركته فبطل ما قاله الأصحاب اللهم إلا أن يراد أن يكون مرادهم بما قالوه أن الكون واحد أي الكون الموصوف بالقرب عين الكون الموصوف بالبعد كما هو مذهب الأستاذ وليس ثمة أمر زائد على الكون هي المباينة والمجاورة فيكون النزاع لفظيا إذ مرادهم أن نفس الكون لا يختلف إنما المختلف هو الاعتبارات ومراده أن الكون المأخوذ مع ما وصف به مختلف
قال الآمدي إذا ضم جوهر ثالث إلى أحد هذين الجوهرين فلا شك أنه قريب من المنضم إليه وبعيد من الآخر فقال الأصحاب قربه من أحدهما عين بعده من الآخر وقال الأستاذ القرب غير البعد ألا يرى أنه إذا قدر انضمام الجوهر البعيد إلى القريب زال بعد المتوسط عن ذلك البعيد ولم يزل قربه من القريب قال وما ذكره الأستاذ مبني على أن البعد هو المباينة والقرب هو المجاورة وأن كل جوهر فرد له ست مباينات لستة
211

جواهر فإذا جاور جوهرا فقد زالت مباينة واحدة وبقيت خمس مباينات على ما هو أصله والحق ما ذكره الأصحاب فإنه مبني على أن الكون القائم بالجوهر لا يختلف وإنما يختلف التسميات كما ذكره القاضي
الفرع الثالث الجوهر الفرد إذا ماس جوهرا آخر من جهة فهل يقال إنه مباين لذلك الجوهر الآخر من الجهة الأخرى كما ذهب إليه بعض المتكلمين لعدم حصول المماسة في تلك الجهة الأخرى أم لا يقال ذلك كما ذهب إليه الأستاذ لأنه لا يمكن المجاورة والمماسة من تلك الجهة الأخرى حينئذ أي حين هو مماس له من الجهة الأولى وهذا نزاع لفظي لأنه إن اعتبر في المباينة إمكان المماسات في تلك الحالة فالحق هو الثاني وإن لم يعتبر فالحق هو الأول
الفرع الرابع يجوز المباينة والافتراق في جملة جواهر العالم بحيث لا يتصف شيء منها بالاجتماع مع غيره كما إذا تبدلت وزال تركيبها بالكلية وقيل لا يجوز إذ لا تجوز المجاورة بين الكل ولا بد في المباينة من إمكان المجاورة
قال المصنف ويكفي يعني في الوصف بالمباينة جوازها أي جواز المجاورة بين الكل بدلا ولا شبهة في هذا الجواز وإنما الممتنع هو المجاورة بين الكل على الاجتماع ثم قال والذي حداني وبعثني على إيراد هذه الأبحاث أمران
أحدهما معرفة اصطلاح القوم وتحقيق ما ذهبوا إليه في حقيقة الأكوان تسلقا تعليل للتحقيق إليها أي إلى حقيقة الأكوان مما قالوا به من لوازمها وأحوالها يعني أنه إذا عرف الاصطلاح لم يقع الخبط في المسائل المبنية على الاصطلاحات المختلفة وإذا حقق ما قالوه في تفسير الأكوان وأحوالها فربما يتوصل به إلى معرفة حقيقتها
وثانيهما أن لا تظن بكتابنا هذا إعوازه لها أي لهذه الأبحاث قصورا فيه وإلا فلا تجدي المباحث المذكورة في المطالب المهمة
212

التي هي العقائد الدينية وما تتوقف هي عليها زيادة طائل وفائدة ولولا هاتان الغايتان المذكورتان لم نطول الكتاب بذكرها وليس من دأبي الإسهاب في الكلام بل تحقيق المرام بالإيجاز الضابط لما هو مقتضى المقام واذكر أي احفظ وتذكر هذا العذر الذي مهدناه لك ههنا لدى ما عسى تعثر عليه من قبيل هذه الأبحاث في غير هذا الموضع فتكف بالنصب على أنه جواب الأمر عني لائمتك أي لومك
المقصد السادس
المتن
من لم يجعل المماسة كونا أطلق القول بتضاد الأكوان لأن الكونين إما أن يوجبا تخصيص الجوهر بحيز واحد أو بحيزين والأول اجتماع المثلين والثاني يوجب حصول الجوهر في آن واحد في حيزين ومن جعلها كونا كالشيخ
والأستاذ فلم يجعلها أضدادا ولا مماثلة بل مختلفة
الشرح
المقصد السادس من لم يجعل المماسة كونا قائما بالجوهر كالقاضي وأتباعه أطلق القول بتضاد الأكوان على معنى أن كل كونين فهما متضادان لأن الكونين المجتمعين فرضا إما أن يوجبا تخصيص الجوهر بحيز واحد أو بحيزين والأول اجتماع المثلين لأن كل واحد من الكونين مثل للآخر والمثلان ضدان لا يجتمعان بل لا يتصور وجودهما في الجوهر إلا على سبيل التعاقب كما إذا كان مستقرا في حيز واحد أكثر من
213

زمان فإن الكون المتجدد في الزمن الثاني مماثل للكون الموجود في الزمن الأول لقيام كل واحد منهما مقام الآخر في تخصيص الجوهر بذلك الحيز والثاني يوجب حصول الجوهر في آن واحد في حيزين فامتنع اجتماع الكونين مطلقا فهما متضادان ومن جعلها أي المماسة كونا مخصوصا قائما بالجوهر وجوز قيام المماسات المتعددة بالجوهر الواحد كالشيخ والأستاذ فلم يجعلها أي الأكوان أضدادا ولا مماثلة بل مختلفة لجواز اجتماعها في جوهر واحد
قال الآمدي والحق هو الأول لما سبق من أن المماسة المباينة اعتبارات موجبة للاختلاف في التسمية
المقصد السابع
المتن
في اختلافات للمعتزلة بناء على أصولهم
أحدها أنهم بعد اتفاقهم على بقاء الأعراض اختلفوا في بقاء الحركة فنفاه الجبائي وأكثر المعتزلة إذ لو بقيت كانت سكونا والتالي باطل أما الملازمة فإذ لا معنى للسكون إلا الكون المستمر في حيز واحد وأما بطلان التالي فلتضاد الحركة والسكون
وبالجملة فالحاصل في الآن الثاني سكون فيجب أن يكون كونا آخر لا الكون الأول وإلا فالسكون هو الحركة بعينه والضرورة تنفيه كيف والحركة توجب الخروج عن ذلك الحيز دون السكون ويمكن الجواب بما مر من أن المنافي للسكون هو الحركة من الحيز لا إليه والحركة لا توجب الخروج عنه بل هو الخروج وأنه نفس الحصول في الحيز الثاني الذي هو السكون وبه قال أبو هاشم
214

ثانيها ذهب أبو هاشم وأكثر المعتزلة إلى بقاء السكون واستثنى الجبائي صورتين
الأولى ما إذا هوى جسم ثقيل بما فيه من الاعتمادات فأمسكه الله تعالى في الجو لأن من أصله أن الطاري الحادث أقوى من الباقي فلو كان السكون باقيا لهوى الثقيل بما يتجدد فيه من الاعتمادات
الثانية السكون المقدور للحي إذ لو بقي لم يكن مقدورا فيجب لو أمر بالحركة ولم يتحرك أن لا يأثم وهو خلاف الاجماع ولزب هذا بأبي هاشم والتزم العقاب بعدم الفعل فلقب بالذهني
ثالثها قال الجبائي الحركة والسكون مدركان لحاسة البصر واللمس فإن من نظر إلى الجوهر أو لمسه مغمضا لعينيه وهو ساكن أو متحرك أدرك التفرقة بين الحالتين ومنعه أبو هاشم بأن الكون لو كان مدركا لكان مدركا بخصوصيته إذ الإدراك عندهم لا يتعلق بمطلق الوجود بل بخصوصية المدرك واللازم باطل فإن راكب السفينة قد لا يدرك حركة السفينة ولا سكون الشط ومن نقل في النوم إلى غير حيزه فإذا استيقظ لم يدركه بخلاف ما لو لون بغير لونه
رابعها قال الجبائي التأليف ملموس ومبصر إذ نفرق بين الأشكال المختلفة وما هو إلا بالنظر إلى التأليفات المختلفة ومنعه ابنه في أحد قوليه فقال ذلك قد يكون بالنظر إلى الأكوان أو المحاذيات أو غيرها واحتج بأنه لو رؤي التأليف وهو قائم بالصفحتين من الجسم العليا وما تحتها لرؤيت الصفحتان وإنما يصح لو لم يقل إن المدرك جواهر الصفحة العليا وتأليف جواهرها بعضها مع بعض لا تأليف الصفحتين
خامسها قال الجبائي التأليف مختلف باختلاف الأشكال لما مر
215

ومنعه ابنه لأن التأليفين مشتركان في أخص صفة النفس وهو القيام بمحلين بناء على أصله وإن سلم ففيه مصادرة
سادسها قال الجبائي التأليف قد يقع مباشرا كمن يضم أصبعيه ومنعه ابنه إذ يمتنع دون المجاورة المولدة له
سابعها ذهب أكثر المعتزلة إلى أن مجاورة الرطب واليابس وإن ولدت التأليف فليست شرطا له لأنها لو كانت شرطا للابتداء لكانت شرطا في الدوام كأصل المجاورة وليس كذلك كاليواقيت الصم الصلاب وهو منقوض بالقدرة عندهم ومنهم من قال إنها للدوران ومع ضعفه فلعل ذلك عائد إلى اختلاف أجناس التأليف
الشرح
المقصد السابع في اختلافات للمعتزلة في أحكام الأكوان بناء على أصولهم
أحدها أنهم بعد اتفاقهم على بقاء الأعراض اختلفوا في بقاء الحركة فنفاه الجبائي وأكثر المعتزلة إذ لو بقيت الحركة كانت سكونا والتالي باطل أما الملازمة فإذ لا معنى للسكون إلا الكون المستمر في حيز واحد والحركة هي الكون في الحيز الأول فلو كانت باقية كانت في الزمن الثاني كونا مستمرا في الحيز الثاني فيكون عين السكون وأما بطلان
216

التالي فلتضاد الحركة والسكون ومن المستحيل أن يكون أحد الضدين عين الآخر وبالجملة فالحاصل أي فالكون الحاصل في الآن الثاني في الحيز الثاني سكون بالاتفاق فيجب أن يكون الحاصل في الآن الثاني كونا آخر متجددا لا الكون الأول الذي هو حركة وإلا فالسكون هو الحركة بعينه والضرورة تنفيه كيف والحركة التي هي الكون الأول في الحيز الثاني توجب الخروج عن ذلك الحيز أي الحيز الأول دون السكون الذي ذكرناه وهو الكون الثاني في الحيز الثاني فإنه لا يوجب ذلك الخروج فيتغايران قطعا ويمكن الجواب بمنع بطلان التالي بما مر من أن المنافي للسكون والمضاد له هو الحركة من الحيز فإنها لا تجامع السكون فيه لا الحركة إليه فإنها لا تنافي السكون فيه فجاز أن تكون الحركة إلى مكان عين السكون فيه وقولهم الحركة توجب الخروج عن الحيز الأول ليس بصحيح لأنها لا توجب الخروج عنه بل الحركة هو الخروج عن الحيز الأول وأنه نفس الحصول في الحيز الثاني الذي هو السكون
فإن قلت لا يخفى أن الكون الأول في الحيز الثاني هو عين الخروج عن الحيز الأول كما ذكرتم إلا الكون الثاني في الحيز الثاني ليس عين الخروج عن الأول فهما متغايران
قلت إنما يصح ذلك أن لو ثبت تعدد الكونين في الحيز الثاني على تقدير اتحادهما كان الثاني منهما كالأول عين الخروج عن الحيز الأول وبه قال أبو هاشم أي أنه قال ببقاء الحركة وبأن الكون الأول في الحيز الثاني هو الحركة وهو بعينه الكون الذي في الزمن الثاني المسمى بالسكون
ثانيها أي ثاني الاختلافات أنه ذهب أبو هاشم وأكثر المعتزلة إلى
217

بقاء السكون من غير تفصيل واستثنى الجبائي ومن تابعه صورتين أي قالوا ببقاء السكون إلا في صورتين
الأولى ما إذا هوى جسم ثقيل بما فيه من الاعتمادات المتجددة فأمسكه الله تعالى في الجو من غير أن يكون تحته ما يقله فلا بد ههنا من تجدد السكون فيه وإنما ذهب إلى ذلك لأن من أصله أن الطارئ الحادث أقوى من الباقي فلو كان السكون باقيا لا متجددا لهوى ذلك الجسم الثقيل بما يتجدد فيه من الاعتمادات
الصورة الثانية السكون المقدور للحي فإنه لا بد أن يكون متجددا إذ لو بقي لم يكن مقدورا لأن تأثير القدرة إنما هو الإحداث ولا يتصور الإحداث حالة البقاء فيجب حينئذ لو أمر الحي بالحركة ولم يتحرك بل استمر على ما كان عليه من السكون أن لا يأثم إذ لا إثم على أصلهم إلا على أمر مقدور والسكون المضاد للحركة إذا كان باقيا لم يكن مقدورا فلا يكون آثما به وهو خلاف الإجماع بخلاف ما إذا كان السكون متجددا ولزب هذا الذي ذكره الجبائي في إثبات الصورة الثانية بأبي هاشم فلم يجد عنه محيصا والتزم التأثم والعقاب بعدم الفعل في هذه الصورة مع انتفاء القدرة على ضده المستلزم لعدمه إذ ليس هناك شيء يتصور صدوره عنه سوى هذا الضد الذي هو السكون فلقب بالذهني إما لأنه رجع عن مقتضى أصولهم في أن الثواب والعقاب إنما يتعلقان بما يصدر عن المكلف بقدرته وستر مذهبه في الذهن وإما لأنه أثبت التأثم والعقاب بأمر يدرك بالذهن وليس صادرا عن المكلف أصلا
ثالثها قال الجبائي الحركة والسكون مدركان بحاسة البصر واللمس فإن من نظر إلى الجوهر أو لمسه مغمضا لعينه وهو أي ذلك الجوهر ساكن أو متحرك أدرك بالحاستين التفرقة بين الحالتين أي حالتي السكون
218

والحركة وعلم أنه إما ساكن أو متحرك ضرورة ومنعه أبو هاشم واحتج بأن الحركة عين الكون في الحيز بعد أن كان في غيره وذلك الكون هو السكون بعينه في الزمن الثاني كما هو مذهبه ثم إن الكون ليس مدركا بالحواس إذ لو كان مدركا لكان مدركا بخصوصيته إذ الإدراك عندهم لا يتعلق بمطلق الوجود بل بخصوصية المدرك واللازم باطل فإن خصوصية الكون في الأحياز المعينة غير مدركة ألا يرى أن راكب السفينة قد لا يدرك حركة السفينة ولا سكون
الشط فإنها إذا كانت سهلة الجري على الماء غير مضطربة عليه فإن راكبها لا يدرك تفرقة بين خصوصيات أكوانها في الأحياز الهوائية المتبدلة عليها بخرقها الهواء بل ربما توهم أنها ساكنة في حيز واحد من الهواء وأن الشط متحرك إلى خلاف جهة حركتها ومن نقل في النوم إلى غير حيزه تبدل عليه كونه بكون آخر فإذا استيقظ لم يدركه ولم يجد اختلافا في حالتيه مع القطع باختلاف الكونين المخصصين له بالحيزين ويظهر ذلك فيمن كان هاويا في الجو متبدلا أحيازه عليه فلو غلبه عيناه وهو في حيز وانتقل منه في نومه إلى حيز آخر ثم استيقظ فإنه لا يجد تفرقة بين كونيه في حيزيه بخلاف ما لو لون في نومه بغير لونه فإنه يدركه ويميزه عن لونه السابق بالضرورة
ورابعها قال الجبائي التأليف ملموس ومبصر أي مدرك بالقوة اللامسة والباصرة إذ نحن نفرق بين الأشكال المختلفة ونميز بعضها عن بعض وما هو إلا بالنظر إلى التأليفات المختلفة أو لمسها فلا بد أن تكون تلك التأليفات محسوسة بهاتين الحاستين ومنعه ابنه في أحد قوليه فقال ذلك الفرق قد يكون بالنظر إلى الأكوان أي المجاورات المختلفة المولدة للتأليفات المتفاوتة أو المحاذيات المتخالفة أو غيرها من الأمور المتعلقة بالجواهر سوى التأليف
219

واحتج أبو هاشم على سبيل المعارضة بأنه لو رؤي التأليف وهو أمر واحد قائم بالصفحتين من الجسم العليا وما تحتها لرؤيت الصفحتان معا وذلك لأن تأليفا واحدا قام بكل جزئين من الصفحتين فإذا رؤي قائما بالصفحة العليا فقد رؤي قائما بالصفحة التي تحتها ضرورة اتحاده وإنما يصح هذا الاحتجاج على أبيه لو لم يقل أن المدرك جواهر الصفحة العليا وتأليف جواهرها بعضها مع بعض لا تأليف الصفحتين يعني أنه لا يقول أن التأليف جواهر الصفحة العليا مع ما تحتها مدرك حتى ينتهض عليه هذه المعارضة بل يقول إن المرئي تأليف جواهر الصفحة العليا فيما بينها على أن لقائل أن يقول إذا جاز عندك قيام تأليف واحد بجوهرين فلم لا يجوز انقسامه بحيث يكون مدركا من أحد الطرفين دون الآخر فلا يلزم رؤية الصفحتين معا
خامسها قال الجبائي التأليف مختلف باختلاف الأشكال لما مر من أنا نفرق بين الأشكال المختلفة وما هو إلا بالنظر إلى التأليفات المختلفة فإنه لو قدر التساوي والتشابه في تأليفات الأجسام لما اختلفت أشكالها ومنعه ابنه وقال إن التأليفات متجانسة لأن التأليفين مشتركان في أخص صفة النفس وهو القيام بمحلين بناء على أصله الفاسد وإن سلم ذلك الأصل ففيه أي في هذا الاستدلال مصادرة لأنه يجوز أن تكون التأليفات مختلفة ومشتركة في عارض يلزمها وكون ما ذكره من أخص صفات التأليف إنما يثبت إذا لم تكن التأليفات مختلفة فالمقدمة المذكورة في الدليل متوقفة على ثبوت المطلوب وهو المصادرة
سادسها قال الجبائي التأليف قد يقع مباشرا بالقدرة كمن يضم إصبعيه ومنعه ابنه إذ يمتنع وقوع التأليف دون المجاورة المولدة له وهذا
220

لازم على الجبائي لاتفاق المعتزلة على أن المتولد من السبب لا يكون مباشرا بالقدر الحادثة دون توسط السبب وإن كان ذلك باطلا على أصول أصحابنا
سابعها ذهب أكثر المعتزلة إلى أن مجاورة الجوهر الرطب والجوهر اليابس وإن ولدت التأليف بينهما كما مر فليست المجاورة المذكورة شرطا له لأنها لو كانت شرطا للابتداء أي شرطا للتأليف في ابتداء حدوثه لكانت شرطا له في الدوام كأصل المجاورة فإنه شرط للتأليف ابتداء ودواما وليس الأمر كذلك وليس الأمر كذلك كاليواقيت والصخور الصم الصلاب ونحوها فإنها لا رطوبة فيها أصلا مع قوة التأليف فيما بين جواهرها وهو أي هذا الاستدلال منقوض بالقدرة فإن تعلقها بالمقدور عندهم شرط لوجوده ابتداء لا دواما
ومنهم من قال إنها أي المجاورة بين الرطب واليابس شرط للدوران فإن التأليف الذي يصعب معه الفك والتجزئة لا يتحقق بدون الرطوبة واليبوسة ويتحقق معهما فهذا التأليف دائر مع المجاورة المذكورة وجودا وعدما فهي شرط له ومع ضعفه أي ضعف الدوران وعدم دلالته على أن المدار شرط للدائر فلعل ذلك أي الاختلاف بين المتجاورات في صعوبة التفكيك والتجزئة عائد إلى اختلاف أجناس التأليف كما ذهب إليه الجبائي لا إلى رطوبة بعض الجواهر المتجاورة ويبوسة بعضها
221

الفصل الثاني في مباحث الأين
على رأي الحكماء وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
قال الحكماء الحركة كمال أول لما بالقوة من حيث هو بالقوة وذلك أن كل ما هو بالقوة فإنه لا يكون بالقوة من كل وجه وإلا فعدم محض بل بالفعل من وجه وبالقوة من وجه آخر والمتحرك له حركة بالفعل وهو أمر حصل له بعد أن لم يكن فهو كمال له إذ معنى الكمال ذلك وإنه يؤدي إلى حصول ممكن آخر له وهو الحصول في المنتهى فهذا كمال ثان وذلك كمال أول ثم إنه ما دام متحركا فشئ منه بعد بالقوة فهو لما هو بالقوة وكونه بالقوة باعتبار عارض للمتحرك وإلا فهو كمال أيضا فلذلك اعتبرنا الحيثية وفي انطباق هذا الحد على الحركة المستديرة نظر إذ لا منتهى لها إلا بالوهم فليس هناك كمالان أول وثان وهذا قريب مما قاله قدماؤهم أنها خروج من القوة إلى الفعل بالتدريج لكن عدلوا عن ذلك لأن التدريج هو وقوع الشيء في زمان بعد زمان فيقع في تعريفه الزمان وهو يعرف بأنه مقدار الحركة فيلزم الدور وبقولهم بالتدريج وقع الاحتراز عن مثل تبدل الصورة النارية بالهوائية فإنه دفعي
الشرح
الفصل الثاني في مباحث الأين على رأي الحكماء وفيه مقاصد ثلاثة عشر
222

المقصد الأول قال الحكماء الجسم إما أن يكون متحركا أو لا يكون والثاني هو الساكن لأن السكون عندهم كما مر عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك والحركة عرفها أرسطو ومن تابعه بأنها كمال أول لما بالقوة أي لمحل يكون بالقوة من حيث هو بالقوة وبيان ذلك أن كل ما هو بالقوة من الموجودات فإنه لا يكون بالقوة من كل وجه وإلا فعدم محض إذ يكون حينئذ بالقوة في كونه موجودا فلا يكون موجودا هذا خلف ويلزم أيضا أن يكون بالقوة في كونه بالقوة فتكون القوة حاصلة وغير حاصلة بل يكون بالفعل من وجه ولو في كونه موجودا ومتصفا بالقوة لا أقل من ذلك ويكون بالقوة من وجه آخر لأنا فرضناه كذلك فظهر أن الموجود يستحيل أن يكون بالقوة من جميع الوجوه فهو إما بالفعل من جميع الجهات كالعقول على رأيهم أو بالفعل في بعضها وبالقوة في بعضها والقسم الأول يستحيل عليه الحركة لأنها طلب لشيء وتوجه إليه وذلك غير متصور فيه لأن جميع ما يمكن أن يكون له فهو حاصل بالفعل فلا طلب فلا حركة بل لا تغير فيه ولا انتقال من حال إلى حال أصلا بخلاف القسم الثاني إذ يتصور فيه الحركة والانتقال الدفعي أيضا وإذا عرفت هذا فنقول المتحرك أي الموصوف بالحركة له حركة بالفعل حال اتصافه بها وهو أي الحركة أمر حصل له بعد أن لم يكن حاصلا له عند استقراره في مكانه أو على حاله فهو أي ذلك الأمر الحاصل بعد ما لم يكن كمال له أي للمتحرك إذ معنى الكمال ذلك هذا إشارة إلى المطلق
223

المذكور في ضمن المقيد أي معنى الكمال هو الحاصل بالفعل سواء كان مسبوقا بالقوة كما في حركات الحيوانات أو غير مسبوق بها كما في الكمالات الدائمة الحصول والحركات الأزلية على رأي الفلاسفة وإنما سمي الحاصل بالفعل كمالا لأن في القوة نقصانا والفعل تام بالقياس إليها وهذه التسمية لا تقتضي سبق القوة بل يكفيها تصورها وفرضها وقد يعتبر في مفهوم الكمال كونه لائقا بما حصل فيه لكنه ليس بمعتبر ههنا إذ لا يجب أن تكون الحركة لائقة بصاحبها وأنه أي ذلك الأمر الذي هو الحركة يؤدي المتحرك إلى حصول ممكن آخر له وهو الحصول في المنتهى مثلا فهذا الممكن الآخر كمال ثان إذا حصل بالفعل وذلك الأمر المؤدي إليه وهو الحركة الحاصلة كمال أول بالقياس إلى ذلك الممكن الذي يترتب عليه ويجب أن يكون ثابتا بالقوة ما دامت الحركة ثابتة بالفعل ثم إنه أي المتحرك ما دام متحركا بالفعل فشئ منه أي من الكمال الأول الذي هو الحركة بعد بالقوة فهو أي ذلك الكمال الأول إنما يثبت لما هو بالقوة من وجهين
أحدهما ذلك الكمال الثاني المترقب حال الحركة
وثانيهما نفس هذا الكمال الأول وتوضيحه أن الجسم إذا كان في مكان مثلا وأمكن حصوله في مكان آخر فله هناك إمكانان إمكان الحصول في المكان الثاني وإمكان التوجه إليه وكل ما هو ممكن الحصول له فإنه إذا حصل كان كمالا له فكل من التوجه إلى المكان الثاني والحصول فيه كمال إلا أن التوجه متقدم على الحصول لا محالة فوجب أن يكون الحصول بالقوة ما دام التوجه بالفعل فالتوجه كمال أول للجسم الذي يجب أن يكون بالقوة في كماله الثاني الذي هو
الحصول ثم إن التوجه ما دام موجودا فقد بقي منه شيء بالقوة فالحركة تفارق سائر الكمالات بخاصتين
إحديهما إنها من حيث أن حقيقتها هي التأدي إلى الغير والسلوك إليه تستلزم أن يكون هناك مطلوب ممكن الحصول غير حاصل معها بالفعل ليكون التأدي إليه وليس شيء من سائر الكمالات بهذه الصفة
224

وثانيتهما أنها تقتضي أن يكون شيء منها بالقوة فإن المتحرك إنما يكون متحركا إذا لم يصل إلى المقصد فإنه إذا وصل إليه فقد انقطعت حركته وما دام لم يصل فقد بقي من الحركة شيء بالقوة فهوية الحركة مستلزمة لأن يكون محلها حال اتصافه بها مشتملا على قوتين قوة بالقياس إليها وأخرى بالقياس إلى ما هو المقصود بها أما القوة التي بالنسبة إلى المقصود فمشتركة بلا تفاوت بين الحركة بمعنى القطع والحركة بمعنى التوسط فإن الجسم ما دام في المسافة لم يكن واصلا إلى المنتهى وإذا وصل إليه لم يبق حركة أصلا وأما القوة الأخرى ففيها تفاوت بينهما فإن الحركة بمعنى القطع حال اتصاف المتحرك بها يكون بعض أجزائها بالقوة وبعضها بالفعل فالقوة والفعل في ذات شيء واحد والحركة بمعنى التوسط إذا حصلت كانت بالفعل ولم يكن هناك قوة متعلقة بذاتها بل بنسبتها إلى حدود المسافة وتلك النسب خارجة عن ذاتها عارضة لها كما ستطلع عليه فقد انكشف لك أن الحركة كمال بالمعنى المذكور للجسم الذي هو بالقوة في ذلك الكمال وفيما يتأدى إليه ذلك الكمال وبقيد الأولية تخرج الكمالات الثانية وبقيد الحيثية المتعلقة بالأول تخرج الكمالات الأولى على الإطلاق أعني الصور النوعية لأنواع الأجسام والصور الجسمية للجسم المطلق فإنها كمالات أولى لما بالقوة لكن لا من هذه الحيثية بل مطلقا لأن تحصل هذه الأنواع والجسم المطلق في أنفسها إنما هو بهذه الصور وما عداها من أحوالها تابعة لها بخلاف الحركة فإنها كمال أول من هذه الحيثية فقط وذلك لأن الحركة في الحقيقة من الكمالات الثانية بالقياس إلى الصور النوعية والجسمية وإنما اتصف بالأولية لاستلزامها ترتب كمال
225

آخر عليها بحيث يجب كونه بالقوة معها فهي أول بالقياس إلى ذلك الكمال وكونه بالقوة معها لا مطلقا وكونه أي كون المتحرك بالقوة إنما هو باعتبار عارض للمتحرك وذلك العارض هو الكمال الثاني المقصود حصوله بالحركة ونفس الحركة أيضا فإن المتحرك موصوف بالقوة باعتبار هذين العارضين لا باعتبار ذاته بالفعل في صورته الجسمية والنوعية فلا يصح أن يقال لما بالقوة ويراد أن محل الحركة بالقوة في ذاته لأنه إذا كان بالقوة في ذاته لم يتصور اتصافه بالحركة فقوله لما بالقوة معناه لما هو بالقوة في شيء من عوارضه لا في ذاته وإلا أي وإن لم يرد له هذا المعنى فهو أي المتحرك كمال أي بحسب ذاته وصورته أيضا كمالا بحسب حركته والمقصود أنه إن لم يرد به كونه بالقوة في عارضه بل أريد كونه بالقوة في ذاته لم يصح لأنه ليس بالقوة في ذاته بل بالفعل فلذلك أي فلأن كونه بالقوة إنما هو باعتبار عارض اعتبرنا الحيثية إذ لو أريد كونه بالقوة في ذاته كما يتبادر من العبارة لم يكن لاعتبار الحيثية معنى وحاصل ما ذكره أن قيد الحيثية يفيد أن القوة بحسب العارض دون الذات وذلك لا ينافي كونه احترازا عما ذكرناه
قال المصنف وفي انطباق هذا الحد على الحركة المستديرة الأزلية الأبدية على زعمهم نظر إذ لا منتهى لها إلا بالوهم فليس هناك كمالان أول هو الحركة وثان هو الوصول إلى المنتهى نعم إذا اعتبر وضع من الأوضاع واعتبر ما قبله دون ما بعده كانت الحركة السابقة كمالا أولا بالقياس إلى ذلك الوضع إلا أن هذا منتهى بحسب الوهم دون الواقع فيكون بمنزلة ما إذا اعتبر حد من الحدود الواقعة في أثناء مسافة الحركة
226

ويجعل ذلك منتهى للحركة السابقة عليه ولا شبهة في أن المتبادر من التعريف أن تكون الحركة كمالا أولا بحسب نفس الأمر لا بمجرد التوهم فقط وفي الملخص أن تصور الحركة أسهل مما ذكر في هذا التعريف فإن كل عاقل يدرك التفرقة بين كون الجسم متحركا وبين كونه ساكنا وأما الأمور المذكورة في تعريفها فمما لا يتصورها إلا الأذكياء من الناس وقد أجيب عنه بأن ما أورده يدل على تصورها بوجه ما والتصديق بحصولها للأجسام لا على تصور حقيقتها وهذا الذي ذكره المعلم الأول وأتباعه في تحديد الحركة قريب مما قاله قدماؤهم من أنها خروج من القوة إلى الفعل بالتدريج فإنهم قالوا الخروج من القوة إلى الفعل إما أن يكون دفعة أو لا دفعة والثاني هو المسمى بالحركة فحقيقة الحركة هي الحدوث أو الحصول أو الخروج من القوة إلى الفعل إما يسيرا يسيرا أو لا دفعة أو بالتدريج وكل واحدة من هذه العبارات صالحة لإفادة تصور الحركة لكن متأخروهم عدلوا عن ذلك لأن التدريج هو وقوع الشيء في زمان بعد زمان بل نقول هو وقوع الشيء في آن بعد آن فيتوقف تصور التدريج على تصور الآن المتوقف تصوره على تصور الزمان لأنه طرفه وكذا معنى يسيرا يسيرا هو معنى التدريج وتصور اللادفعة موقوف على تصور الدفعة وهي عبارة عن الحصول في الآن فإن الأمور الواقعة في تعريف الحركة ينتهي تحليلها إلى تصور الزمان الذي هو مقدار الحركة فالتعريف دوري وإلى هذا أشار بقوله فيقع في تعريفه أي تعريف التدريج الزمان وهو يعرف بأنه مقدار الحركة فيلزم الدور
قال الإمام الرازي أجاب بعض الفضلاء عن ذلك بأن تصور الدفعة واللادفعة والتدريج ويسيرا يسيرا تصورات أوليه لإعانة الحس عليها وأما الآن
227

والزمان فهما سببان لهذه الأمور في الوجود لا في التصور فجاز أن تعرف حقيقة الحركة بهذه الأمور الأولية التصور ثم تجعل الحركة معرفة للآن والزمان اللذين هما سببا هذه الأمور في الوجود قال وهذا جواب حسن وبقولهم بالتدريج أو ما في معناه وقع الاحتراز عن مثل تبدل الصورة النارية بالهوائية فإنه انتقال دفعي ولا يسمونه حركة بل كونا فاسدا
المقصد الثاني
المتن
إن الحركة تقال لمعنيين
الأول التوجه وهو كيفية بها يكون الجسم أبدا متوسطا بين المبدأ والمنتهى لا يكون في حيز آنين وهو أمر مستمر من أول المسافة إلى آخرها وهي بهذا المعنى تنافي الاستقرار فتكون ضدا للسكون في الحيز المنتقل عنه وإليه بخلاف من جعلها الكون في الحيز الثاني واعلم أن مبناه اتصال الأحياز وعدم تفاصلها أصلا بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ وسنتكلم عليه ونستوفي القول فيه
الثاني الأمر الممتد من أول المسافة إلى آخرها ولا وجود لها إلا في التوهم إذ عند الحصول في الجزء الثاني من المسافة بطل نسبتها إلى الجزء الأول منها ضرورة نعم لما ارتسم نسبته إلى الجزء الثاني في الخيال قبل أن تزول نسبته إلى الأول عنه يتخيل أمر ممتد كما يحصل من القطرة النازلة والشعلة المدارة في الحس المشترك فيرى خطا أو دائرة وأنت تعلم من هذا أن قبولها للزيادة والنقصان والتقدر والانقسام لا يمنع أن يكون وهميا فلا يتم دليل إثبات الزمان
228

الشرح
المقصد الثاني ذهب أرسطو إلى أن الحركة تقال بالاشتراك اللفظي لمعنيين
الأول التوجه إلى المقصد وهو كيفية وصفة بها يكون الجسم أبدا متوسطا بين المبدأ والمنتهى اللذين للمسافة ولا يكون في حيز من الأحياز الواقعة فيما بين المبدأ والمنتهى آنين بل يكون في كل آن في حيز آخر ويسمى الحركة بمعنى التوسط وقد يعبر عنها بأنها كون الجسم بحيث أي حد من حدود المسافة يفرض لا يكون هو قبل آن الوصل إليه ولا بعده حاصلا فيه وبأنها كون الجسم فيما بين المبدأ والمنتهى بحيث أي آن يفرض يكون حاله في ذلك الآن مخالفا لحاله في آنين يحيطان به والاعتراض بأن تصور الآن والقبلية والبعدية يتوقف على تصور الزمان المتوقف على تصور الحركة فيلزم الدور مردود بأن هذه الأمور جلية غير محتاجة إلى تعريف كما أشرنا إليه وهو أي الحركة بهذا المعنى أمر موجود في الخارج فإنا نعلم بمعاونة الحس أن للمتحرك حالة مخصوصة ليست ثابتة له في المبدأ ولا في المنتهى بل فيما بينهما مستمر من أول المسافة إلى آخرها فإن هذه الحالة توجد دفعة وتستمر إلى المنتهى وتستلزم اختلاف نسب المتحرك إلى حدود المسافة كما عرفت فهي باعتبار ذاتها مستمرة وباعتبار نسبتها إلى تلك الحدود سيالة وبواسطة استمرارها وسيلانها تعقل في الخيال أمرا ممتدا غير قار هو الحركة بمعنى القطع كما مر
فإن قيل الحركة الممدودة لا تكون عبارة عن التوسط المطلق لأنه أمر كلي ولا وجود للكليات في الخارج فإذن الحركة الموجودة هي الحصول في حد معين وذلك الحصول أمر آني غير منقسم في امتداد
229

المسافة والذي يليه يكون مغايرا له فتكون الحركة مركبة من أمور آنية الوجود متتالية فيلزم تركب المسافة من أجزاء لا تتجزأ وهو باطل عندهم
قلنا الحركة بمعنى التوسط أمر موجود في الآن ومستمر باستمرار الزمان على معنى أنه موجود في كل آن يفرض في ذلك الزمان كالبياض الواحد الموجود في الآن مع استمراره في الزمان وهي متشخصة بوحدة الموضوع والزمان وما فيه فالحركة الواحدة بالعدد هي التوسط بين المبدأ والمنتهى الحاصل لموضوع واحد في زمان واحد في شيء واحد فإذا فرض في المسافة حدود معينة فعند وصول المتحرك إلى واحد منها يعرض لذلك التوسط آن صار حصولا في ذلك الوسط ووصولا إلى ذلك الحد وهذا أمر زائد على ذاته الشخصية عارض له فإذا خرج الجسم عن ذلك الحد فقد زال عنه عارض من عوارض ذاته المشخصة وحصل عارض آخر ثم إن تعاقب هذه العوارض بحيث لا يمكن فرض عارض ثالث بين عارضين متعاقبين منها لا يتصور إلا بتتالي النقط في المسافة إذا امتنع هذا امتنع تتالي العوارض أيضا وهي بهذا المعنى أي الحركة بمعنى التوجه والتوسط تنافي الاستقرار أي استقرار المتحرك في حيز واحد سواء كان منتقلا عنه أو منتقلا إليه أما منافاته للأول فظاهرة وأما منافاته للثاني فلأنه للثاني فلأنه لو استقر بعد المبدأ في حيز لكان حاصلا في المنتهى لا متوسطا بينه وبين المبدأ فتكون الحركة ضدا للسكون في الحيز المنتقل عنه وللسكون في الحيز المنتقل إليه أيضا بخلاف من جعلها أي الحركة الكون في الحيز الثاني فإنها إذا جعلت نفس الكون في الحيز الثاني كانت مضادة للسكون في المنتقل عنه دون السكون في المنتقل إليه كما مر واعلم أن مبناه أي مبنى ما ذكره من الحركة بمعنى التوسط ووجودها في الخارج اتصال
230

الأحياز في أنفسها وعدم تفاصلها إلى أمور لا تنقسم أصلا بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ وسنتكلم عليه ونستوفي القول فيه وذلك لأن الجسم إذا كان مركبا من الجواهر الأفراد فإذا تحرك لم يكن هناك حركة واحدة ومتحرك واحد بل هناك حركات ومتحركات بعد تلك الجواهر فالمتحرك الواحد هو الجوهر الفرد الواحد وإذا كانت المسافة مركبة من تلك الجواهر وفرضنا أن جوهرا واحدا انتقل من جوهر إلى جوهر آخر متصل به فقد حصل الحركة قطعا وليس هناك توسط بين المبدأ والمنتهى بل ليس هناك إلا الكون في الجوهر الأول وليس بحركة قطعا والكون في الجوهر الثاني وهو الحركة المعرفة بالكون الأول في الحيز الثاني وأما إذا قيل بامتناع الجوهر الفرد وتركب الجسم منه فالجسم إذا انتقل من مكان إلى آخر فلا بد أن يكون بينها امتداد منقسم في جهة الحركة هو المسافة فالمكان الأول مبدأ تلك المسافة والمكان الثاني منتهاها وتلك المسافة يمكن أن يفرض فيها حدود غير منقسمة في امتداد الحركة والمسافة نقطا كانت أو خطوطا أو سطوحا لا يمكن فرضها متتالية وإلا كانت المسافة مركبة من أجزاء لا تتجزأ إما بالفعل أو بالقوة وذلك محال فالمتحرك فيها له فيما بين مبدئها ومنتهاها حالة مخصوصة شخصية تختلف نسبتها إلى تلك الحدود بحسب الآنات المفروضة التي لا يمكن أيضا فرضها متتالية بل كل آنين مفروضين بينهما زمان يمكن أن يفرض فيه آنات أخر
المعنى الثاني للحركة هو الأمر الممتد من أول المسافة إلى آخرها وهو الحركة بمعنى القطع ولا وجود لها إلا في التوهم لاستحالة وجودها في الأعيان إذ عند الحصول في الجزء الثاني من المسافة بطل نسبتها أي نسبة الحركة والأظهر أن يقال بطل نسبته إلى نسبة المتحرك
231

إلى الجزء الأول منها ضرورة فلا يوجد هناك أمر ممتد من مبدئها إلى منتهاها وبعبارة أخرى المتحرك ما لم يصل إلى المنتهى لم توجد الحركة بتمامها وإذا وصل فقد انقطعت الحركة فلا وجود لها في الخارج أصلا
فإن قلت إذا وصل إلى المنتهى فالحركة اتصفت حال الوصول بأنها وجدت في جميع ذلك الزمان لا في شيء من أجزائه
قلت حصول الشيء الواحد في نفسه على سبيل التدريج غير معقول لأن الحاصل في الجزء الأول من الزمان لا بد أن يكون مغايرا لما يحصل في الجزء الثاني لامتناع أن يكون الموجود عين المعدوم فيكون هناك أشياء متغايرة متعاقبة لا يتصل بعضها ببعض اتصالا حقيقيا لامتناع أن يتصل المعدوم بالموجود كذلك ويكون كل واحد منها حاصلا دفعة لا تدريجا فلا وجود للحركة بمعنى القطع في الخارج نعم لها وجود في الذهن فإنه لما ارتسم نسبته أي نسبة المتحرك إلى الجزء الثاني الذي أدركه في الخيال قبل أن تزول نسبته إلى الجزء الأول الذي ترك عنه أي عن الخيال يتخيل أمر ممتد يعني أن للمتحرك نسبة إلى المكان الذي تركه ونسبة إلى المكان الذي أدركه فإذا ارتسمت في الخيال صورة كونه في المكان الأول وقبل زوالها عن الخيال ارتسمت فيه صورة كونه في المكان الثاني فقد اجتمعت الصورتان في الخيال فيشعر الذهن بالصورتين معا على أنهما شيء واحد ممتد كما يحصل من القطرة النازلة والشعلة المدارة أمر ممتد في الحس المشترك فيرى لذلك خطا أو دائرة كما مر في صدر الكتاب في مباحث أغلاط الحس وإنما لم تكن الحركة بمعنى القطع مرئية مثلهما لأن اجتماع الصور فيها إنما هو في الخيال لا في الحس المشترك
232

وأنت تعلم من هذا الذي ذكرناه في تحقيق الحركة معنى القطع وتصويرها أن قبولها للزيادة والنقصان والتقدر والانقسام لا يمنع أن يكون هي أمرا وهميا لأن قبولها لهذه الأمور إنما هو بحسب التوهم فإن الأمر الممتد الموهوم يتصف بها قطعا فلا يتم دليل إثبات الزمان وذلك إما لأن العمدة في إثباته قبوله للزيادة والنقصان والتقدر والانقسام كما مر ويجوز أن يكون قبوله لها في التوهم فقط وذلك لا يمنع كونه أمرا وهميا وإما لأن الزمان مقدار الحركة بمعنى القطع على المذهب المختار عندهم فإذا لم يكن لهذه الحركة وجود لم يكن لمقدارها أيضا وجود فيكون هذا معارضا لأدلة وجوده فلا يترتب عليها مدلولها وهو المراد بعدم تمامها وقد سلف منا في مباحث الزمان تحقيق أن الموجود من الحركة والزمان أمر لا ينقسم في امتداد المسافة وأنهما يرسمان في الخيال الحركة والزمان المنقسمين في ذلك الامتداد فارجع إليه
المقصد الثالث
المتن
فيما يقع فيه الحركة من المقولات عندهم وهي أربع
الأولى الكم وهو على أربعة أوجه
الأول التخلخل وهو ازدياد حجم الجسم من غير أن ينضم إليه جسم آخر ويثبته أن الماء إذا انجمد صغر حجمه وإذا ذاب عاد إلى حجمه الأول فبين أنه لم يكن انفصل عنه جزء ثم عاد وأيضا فالقارورة تكب على الماء فلا يدخلها فإذا مصت مصا قويا ثم كبت عليه دخلها
233

وما ذلك لخلاء حدث فيها لامتناعه بل لأن المص أحدث في الهواء تخلخلا فكبر حجمه ثم أوجد فيه البرد تكاثفا فصغر حجمه فدخل فيه الماء ضرورة امتناع الخلاء فهذا يعطي أنيته وأما لميته فهو أن الهيولى ليس لها في ذاتها مقدار فقد تكون في بعض الأشياء قابلة للمقادير المختلفة تتوارد عليها بحسب ما يعدها لذلك ولا يلزم أن يكون الكل كذلك لجواز أن يختص البعض بمقدار معين لأسباب منفصلة أو لأن مادته لا تقبل إلا ذلك كما هو رأيهم في الأفلاك
وبالجملة فهذا مصحح ولا يلزم من تحققه تحقق الأثر
الثاني التكاثف وهو ضد التخلخل واعلم أنهما غير الانفشاش وهو أن تتباعد الأجزاء ويداخلها الهواء وغير الاندماج وهو ضده وإن كان يطلق عليهما الاسم بالاشتراك اللفظي فإن هذين من مقولة الوضع وقد يطلق على الرقة وعلى الثخانة وهو من باب الكيف
الثالث النمو وهو ازدياد حجم الجسم بما ينضم إليه ويداخله في جميع الأقطار بنسبة طبيعية بخلاف السمن والورم
الرابع الذبول عكسه
الثانية الكيف وتسمى الحركة فيه استحالة كما يتسود العنب ويتسخن الماء ومن الناس من أنكر ذلك وزعم أن ذلك كمون لأجزاء كانت متصفة بالصفة الأولى وبروز لأجزاء كانت متصفة بالصفة الأخرى وهما
234

موجودان فيه دائما إلا أن ما يبرز منها يحس بها وما كمن لا يحس بها وهذا باطل وإلا لكانت الأجزاء الحارة كامنة في الماء البارد بل وفي الجمد وأنه ضروري البطلان ومع ذلك فمن أدخل يده فيه كان يجب أن يحس بحره أو يقل برده وأيضا فإن شررا إذا صادف جبلا من كبريت صير كله نارا ونعلم بالضرورة أن ذلك كله لم يكن كامنا فيه
الثالثة الوضع كحركة الفلك على نفسه فإنه لا يخرج عن مكان إلى مكان ويتبدل بها وضعه وفي حركة كل جزء منه نظر فمنهم من قال لا جزء له بالفعل فكيف يتحرك بل ذلك أمر موهوم ومنهم من قال بتبادل النصفين الأعلى والأسفل وتغير نسبة الأجزاء إلى الأمور الخارجة مع عدم حركتها غير معقول فعليك بالتأمل
الرابعة الأين وهو النقلة التي يسميها المتكلم حركة وباقي المقولات لا يقع فيها حركة وأما الجوهر فلا شك أنه تتبدل صورته ومنعه بعض المتكلمين وسلم الاستحالة وهو من قال العنصر الواحد إما النار والباقية بالتكاثف أو الأرض
والباقية بالتخلخل أو هو متوسط والبواقي بالتكاثف والتخلخل والطبيعة محفوظة في الأحوال كلها وأبطله ابن سينا بوجهين
الأول مبرهن أن كل ما يصح عليه الكون والفساد تصح عليه الحركة المستقيمة وتنعكس إلى قولنا بعض ما يصح عليه الحركة المستقيمة يصح عليه الكون والفساد
الثاني اختصاص الجزء المعين من الجسم بحيز طبعا لصورته وهذا أيضا إنما يتصور إذا كانت حادثة
وجواب الأول أن الأصل وإن أخذ حقيقيا صدق وكان العكس كذلك ولا يلزم صدقه خارجيا لأنه أخص فلا يفيد الوجود
235

والثاني منع وجوب الحدوث بل المعتمد التجربة والتعويل على المشاهدة كما سيأتي ثم نقول الصور لا تقبل الاشتداد ولا التنقص لأن في الوسط إن بقي نوعه لم يكن التغير في الصورة أيضا فمبدأ الحركة موجود والمادة وحدها لا وجود لها
وأما المضاف فطبيعة غير مستقلة بل تابعة لغيرها فإن كان متبوعها قابلا للأشد والأضعف قبلهما وإلا فلا
وأما متى فقال في النجاة إن وجوده للجسم يتبع الحركة فكيف تقع فيه الحركة وفي الشفاء الانتقال من سنة إلى سنة ومن شهر إلى شهر يكون دفعة وهو كالإضافة لأنه نسبة تابعة لمعروضها وكذا الملك
وأما أن يفعل وأن ينفعل فأثبت بعضهم فيهما الحركة وأبطل بأن المنتقل من التسخن إلى التبرد لا يكون تسخنه باقيا وإلا لزم التوجه إلى الضدين معا فبينهما زمان سكوت والحق أنهما تبع الحركة إما في القوة إرادة كانت أو طبيعة أو في الآلة وإما في القابل
الشرح
المقصد الثالث فيما يقع فيه الحركة من المقولات عندهم ذهب جماعة إلى أن معنى وقوع الحركة في مقولة هو أن تلك المقولة مع بقائها بعينها تتغير من حال إلى حال على سبيل التدريج فتكون تلك المقولة هي الموضوع الحقيقي لتلك الحركة سواء قلنا إن الجوهر الذي هو موضوع تلك المقولة موصوف بتلك الحركة بالعرض وعلى سبيل التبع أو لم نقل
236

وهو باطل لأن التسود مثلا ليس هو أن ذات السواد يشتد لأن ذلك السواد إن عدم عند الاشتداد فليس فيه اشتداد قطعا وإن بقي ولم تحدث فيه صفة زائدة فلا اشتداد فيه أيضا وإن حدثت فيه صفة زائدة فلا تبدل ولا اشتداد و لا حركة في ذات السواد بل في صفته والمفروض خلافه وذهب آخرون إلى أن معنى وقوعها في مقولة هو أن تلك المقولة جنس لتلك الحركة قالوا إن من الأين ما هو قار ومنه ما هو سيال وكذا الحال في الكم والكيف والوضع فالسيال من كل جنس من هذه الأجناس هو الحركة فتكون الحركة نوعا من ذلك الجنس وهو أيضا باطل إذ لا معنى للحركة إلا تغير الموضوع في صفاته على سبيل التدريج ولا شك أن التغير ليس من جنس المتغير والمتبدل لأن التبدل حالة نسبية إضافية والمتبدل ليس كذلك فإذا كان المتبدل في الحركة هذه المقولات لم يكن شيء منها جنسا للتبدل الواقع فيها والصواب أن معنى وقوعها فيها هو أن الموضوع يتحرك من نوع لتلك المقولة إلى نوع آخر منها أو من صنف إلى صنف أو من فرد إلى فرد وهي أي المقولات التي تقع فيها الحركة أربع كما هو المشهور
الأولى الكم وهو أي وقوع الحركة فيه على أربعة أوجه لأن الحركة في الكم إما بطريق الازدياد أو بطريق الانتقاص
والأول إما أن يكون بانضمام شيء أو لا
والثاني إما أن يكون بانفصال شيء أو لا
الأول التخلخل وهو ازدياد حجم الجسم من غير أن ينضم إليه
237

جسم آخر ويثبته أي يدل على ثبوته أن الماء إذا انجمد صغر حجمه وإذا ذاب عاد إلى حجمه الأول فبين أي ظاهر مكشوف أنه لم يكن انفصل عنه جزء حين صغر حجمه ثم عاد ذلك الجزء أو ما يساويه إليه حين عاد هو إلى حجمه الأول بل صغر حجمه بلا انفصال ثم ازداد بلا انضمام فتحقق التخلخل والتكاثف فيه وأيضا فالقارورة الضيقة الرأس تكب على الماء فلا يدخلها أصلا فإذا مصت مصا قويا وسد رأسها بالإصبع بحيث لا يتصل برأسها هواء من خارج ثم كبت عليه دخلها وبهذا الطريق يملأون الرشاشات الطويلة الأعناق الضيقة المنافذ جدا بماء الورد وما ذلك الدخول لخلاء حدث فيها بأن يخرج المص منها بعض الهواء ويبقى مكان ذلك البعض الخارج خاليا لامتناعه على رأيهم بل لأن المص أخرج بعض الهواء وأحدث في الهواء الباقي تخلخلا فكبر حجمه بحيث شغل مكان الخارج أيضا ثم أوجد فيه أي في ذلك الهواء المتخلخل البرد الذي في الماء تكاثفا فصغر حجمه أو عاد بطبعه إلى مقداره الذي كان له قبل المص فدخل فيه أي في ذلك الزجاج الماء ضرورة امتناع الخلاء فثبت ههنا التخلخل والتكاثف معا أيضا فهذا الذي ذكرناه في إثبات التخلخل يعطي ويثبت أنيته وتحققه ولا يفيد العلم بعلته وأما لميته أي لمية إمكانه وصحته كما ستعرفه فهو أن الهيولى ليس لها في ذاتها مقدار وما لا مقدار له في حد ذاته كان نسبته إلى المقادير كلها على سواء فقد تكون الهيولى في بعض الأشياء كما في العناصر قابلة للمقادير المختلفة تتوارد تلك المقادير عليها بحسب ما يعدها من الأسباب الخارجة عن ذاتها لذلك الوارد عليها من تلك المقادير المختلفة فإذا ورد عليها مقدار أكبر مما كان لها ثبت التخلخل وإذا ورد ما هو أصغر منه ثبت التكاثف ولا
238

يلزم من كون الهيولى لا مقدار لها في ذاتها أن يكون الكل كذلك أي أن يكون كل الأجسام بحيث تتوارد عليه المقادير المختلفة على سبيل البدل لجواز أن يختص البعض من الأجسام بمقدار معين لا يتعداه إلى غيره لأسباب منفصلة تقتضي اختصاصه بذلك المقدار أو يختص البعض بمقدار معين لأن مادته لا تقبل إلا ذلك المقدار المعين كما هو رأيهم في الأفلاك فإن كل واحد منها له مادة مخالفة في الحقيقة لمادة الآخر وكل مادة منها لا تقبل إلا مقدارا مخصوصا عند بعضهم ولما كان القول بأن مادة الأفلاك لا تقبل إلا مقدارا معينا ينافي القول بأن الهيولى لا مقدار لها في نفسها وما كان كذلك تساوت نسبته إلى المقادير كلها عدل عن ذلك بقوله وبالجملة فهذا الذي ذكرناه من حال الهيولى مصحح للتخلخل والتكاثف ولا يلزم من تحققه أي من تحقق المصحح تحقق الأثر حتى يلزم ثبوت التخلخل والتكاثف في جميع الأجسام بل يجوز أن يكون مع المصحح مانع يمتنع به تحقق الأثر كالصور النوعية في الأجسام الفلكية فإن كل واحدة منها تقتضي لزومها لهيولاها واختصاصها بمقدار معين وكالجزئية في الأجسام العنصرية فإن الجزء ما دام جزءا يستحيل أن يكون مقداره مساويا لمقدار كله أما إذا انفصل أمكن أن يتصف بمقدار الكل ولا يجوز الانفصال في أجزاء الفلك عندهم بخلاف العناصر فيتجه عليهم تجويز أن تكون قطرة من البحر حال انفصالها عنه قابلة لمقدار كلية البحر
الوجه الثاني التكاثف وهو ضد التخلخل يعني أنه انتقاص حجم الجسم من غير أن ينفصل عنه جزء وقد مر ما يدل على أنيته ولميته واعلم أنهما أي التخلخل والتكاثف المذكورين في الحركة الكمية غير الانفشاش وهو أن تتباعد الأجزاء بعضها عن بعض ويداخلها الهواء أو جسم آخر غريب كالقطن المنفوش وغير الاندماج وهو ضده فهو أن تتقارب الأجزاء الوحدانية الطبع بحيث يخرج عنها ما بينها من الجسم الغريب كالقطن الملفوف بعد نفشه وإن كان يطلق عليهما الاسم أي يطلق اسم التخلخل على الانفشاش واسم التكاثف على الاندماج باشتراك اللفظ فإن هذين أي
239

الانفشاش والاندماج من مقولة الوضع فإن الأجزاء بسبب حركتها الأينية إلى التباعد والتقارب تحصل لها هيئة باعتبار نسب بعضها إلى بعض وقد يطلق اسم التخلخل على الرقة رقة القوام واسم التكاثف على الثخانة وهو أي المذكور أعني التخلخل والتكاثف بمعنى الرقة والثخانة من باب الكيف فلكل واحد منهما ثلاثة معان اثنان منها من مقولتي الكيف والوضع وواحد منها حركة في مقولة الكم
الوجه الثالث النمو وهو ازدياد حجم الجسم بما ينضم إليه ويداخله في جميع الأقطار بنسبة طبيعية بخلاف السمن والورم أما السمن فإنه على ما قيل ليس في جميع الأقطار إذ لا يزداد به الطول وأما الورم فليس على نسبة طبيعية
الوجه الرابع الذبول وهو عكسه أي عكس النمو فهو انتقاص حجم الجسم بسبب ما ينفصل عنه في جميع الأقطار على نسبة طبيعية
قال الإمام الرازي قد يشتبه النمو والذبول بالسمن والهزال والفرق أن الواقف في النمو قد يسمن كما أن المتزايد في النمو قد يهزل وتحقيقه أن الزيادة إذا أحدثت المنافذ في الأجزاء الأصلية ودخلت فيها وتشبهت بطبيعتها واندفعت الأجزاء الأصلية إلى جميع الأقطار على نسبة واحدة مناسبة لطبيعة النوع فذلك النمو وأما الشيخ إذا صار سمينا فإن أجزاءه الأصلية قد جفت وصلبت فلا يقوى الغذاء على تفريقها والنفوذ فيها فلذلك لا تتحرك أعضاؤه الأصلية إلى الزيادة فلا يكون ناميا لكن لحمه يتحرك إلى الزيادة فيكون ذلك نموا في اللحم إلا أن اسم النمو مخصوص بحركة
الأعضاء الأصلية
240

قال والمشهور أن النمو والذبول من الحركات الكمية وهو بعيد عندي فإن الأجزاء الأصلية والزائدة في المغتذي باق كل واحد منها على مقداره الذي كان عليه نعم ربما تحرك كل واحد منها في أينة أو وضعه أو كيفه لكن ذلك ليس حركة في الكم
وقد أجيب عنه بأن الأجزاء الأصلية زاد مقدارها عند النمو على ما كانت عليه قبل ذلك ضرورة دخول الأجزاء الزائدة في منافذها وتشبهها بها ونقص مقدارها عند الذبول عما كانت عليه قبله وإنكار هذا مكابرة أقول إن كان اتصال الزائدة بعد المداخلة بالأصلية على وجه يصير به المجموع متصلا واحدا في نفسه فالصواب ما قاله المجيب فالقول ما قاله الإمام واعلم أنه إذا عد النمو والذبول من الحركات الكمية فالوجه أن يعد السمن والهزال منها أيضا
الثانية من المقولات التي تقع فيها الحركة الكيف وتسمى الحركة فيه بحسب الاصطلاح استحالة كما يتسود العنب ويتسخن الماء فقد انتقل الجسم من كيفية إلى أخرى على سبيل التدريج فلا بد ههنا من أمرين
أحدهما انتقال الجسم من كيفية إلى أخرى
وثانيهما أن لا يكون ذلك الانتقال دفعة بل تدريجا ومن الناس من أنكر ذلك أي انتقال الجسم من كيفية إلى أخرى فالحار عنده لا يصير باردا ولا البارد حارا وزعم أن ذلك الذي يدرك من انقلاب أحدهما إلى الآخر بشهادة الحس ليس تغيرا وانقلابا في الكيفية بل هو كمون واستنار
241

لأجزاء كانت متصفة بالصفة الأولى كالبرودة مثلا وبروز وظهور لأجزاء كانت متصفة بالصفة الأخرى كالحرارة مثلا وهما أي هذان القسمان من الأجزاء أعني المتصفة بالصفة الأولى والمتصفة بالصفة الأخرى موجودان فيه أي في ذلك الجسم دائما إلا أن ما يبرز منها أي من تلك الأجزاء يحس بها وبكيفيتها وما كمن منها لا يحس بها وبكيفيتها وهؤلاء أعني أصحاب الكمون والبروز زعموا أن الأجسام لا يوجد فيها ما هو بسيط صرف بل كل جسم فإنه مختلط من جميع الطبائع المختلفة لكنه يسمى باسم الغالب الظاهر فإذا لقيه ما يكون الغالب عليه من جنس ما كان مغلوبا فيه فإنه يبرز ذلك المغلوب من الكمون ويحاول مقاومة الغالب حتى يظهر وتوصلوا بذلك إلى إنكار الاستحالة وإنكار الكون والفساد وهذا القول باطل وإلا لكانت الأجزاء الحارة كامنة في الماء البارد جدا بل وفي الجمد أيضا وأنه ضروري البطلان ومع ذلك ننبهك على بطلانه ونقول إن صح كمون الأجزاء الحارة في الماء البارد فمن أدخل يده فيه كان يجب أن يحس بحره أي بحر باطنه أو يقل برده بحيث يدرك صاحب اليد التفاوت وهو باطل إذ ربما يجد باطنه أبرد من ظاهره وأيضا فإن شررا إذا صادف جبلا من كبريت صير كله نارا مشاهدة ونعلم بالضرورة بأن ذلك الذي نشاهده فيه من النار كله لم يكن كامنا فيه كيف ولو كان في ذلك الجبل بعض من تلك الأجزاء النارية لأحرقته فوجب أن يكون حدوث النار فيه بطريق الكون دون البروز من الكمون وذهب جماعة من القائلين بالتخليط إلى أن الحار مثلا إذا صار باردا فقد فارقه الأجزاء الحارة ومنهم من قال الجسم إنما يصير حارا بدخول أجزاء نارية فيه من خارج ومنهم من
242

قال ينقلب بعض أجزائه نارا ويختلط بالأجزاء المائية فهذه الطائفة معترفون بالكون والفساد دون الاستحالة وهذه الأقوال أيضا باطله كما لا يشتبه على ذي فطنة وحينئذ فقد صح انتقال الأجسام من كيفية إلى أخرى وأما أن ذلك الانتقال بالتدريج فكأنهم قنعوا فيه بما يحس به من انتقال الماء إلى السخونة يسيرا يسيرا
الثالثة من تلك المقولات الوضع كحركة الفلك على نفسه فإنه لا يخرج بهذه الحركة عن مكان إلى مكان لتكون حركته أينية ولكن يتبدل بها وضعه لأنه يتغير بها نسبة أجزائه إلى أمور خارجة عنه إما حاوية وإما محويه وإذا تغيرت تلك النسبة تغيرت الهيئة الحاصلة بسببها وهي الوضع وكلام ابن سينا يوهم أنه الذي وقف على الحركة الوضعية دون من قبله من الحكماء وليس الأمر كذلك فإن الفارابي قال في عيون المسائل حركات الأفلاك دورية وضعيه وفي حركة كل جزء منه أي من الفلك حركة مكانية نظر وتأمل فمنهم من قال لا جزء له بالفعل بل بالفرض فكيف يتحرك في الخارج ما لا وجود له فيه بل ذلك أي تحرك جزء الفلك مع كونه مفروضا أمر موهوم ومنهم من قال بتبادل النصفين الأعلى والأسفل وتغير نسبة الأجزاء إلى الأمور الخارجة أو المحوية مع عدم حركتها غير معقول لأن مبدأ هذا التبادل والتغير قائم بتلك الأجزاء لا بالأمور الخارجة عنها فعليك بالتأمل حتى يظهر لك ما هو الحق من هذين القولين
243

فإن قلت إذا كان كل واحد من أجزائه متحركا حركة مكانية على القول الثاني لزم أن يكون الفلك أيضا متحركا حركة مكانية
قلت ليس يلزم من تحرك الأجزاء عن أمكنتها وأينها أن يكون مجموعها كذلك وأما الكواكب فهي متحركة حركة أينية على القول بأن المكان هو البعد وتطلق الاستدارة على حركتها كما تطلق على حركة من يطوف حول شيء مع أنها حركة مكانية يتبدل بها أمكنته بلا شبهة
الرابعة من تلك المقولات الأين وهو أي التحرك في الأين النقلة التي يسميها المتكلم حركة فإن المتكلمين إذا أطلقوا الحركة أرادوا بها الحركة الأينية المسماة بالنقلة وهي المتبادرة في استعمالات أهل اللغة أيضا وقد تطلق عندهم على الوضعية دون الكمية والكيفية ثم إن في الحركة شبهة عامة وهي أن يقال المتحرك في الأين إن كان له من مبدأ المسافة إلى منتهاها أين واحد فليس متحركا في الأين بل هو ساكن مستقر على أين واحد وإن كان له أيون متعددة فإما أن يستقر على واحد من تلك الأيون في أكثر من آن واحد فقد انقطعت حركته وإما أن لا يستقر فلا يكون في كل أين إلا آن واحد ولا شك أن تلك الأيون الآنية متعاقبة متتالية إذ لو كانت متفاصلة بزمان ولم يوجد في ذلك الزمان شيء من تلك الأيون لزم انقطاع تلك الحركة الأينية وإذا كانت تلك الأيون متعاقبة كانت الآنات متتالية وهو باطل عندهم وهكذا يقال في الحركة الكمية والوضعية والكيفية ولا مخلص عنها إلا بأن يقال للمتحرك في الأين من مبدأ المسافة إلى منتهاها أين واحد مستمر هو كونه متوسطا بين المبدأ والمنتهى لكنه غير مستقر بل تختلف نسبته إلى حدود المسافة ويتعدد بحسب تعددها وكما أن حدود المسافة تتعدد بالفرض كذلك تتعدد الأيون بحسب الفرض وكما أنه لا يمكن أن يفرض في المسافة حدان متلاقيان ليس بينهما مسافة أصلا كذلك لا يمكن أن يفرض في ذلك الأين المستمر أينان متصلان بل كل أينين مفروضين في ذلك الأين المستمر يمكن أن يفرض بينهما أيون أخر كما أن نقطتين مفروضتين على خط يمكن أن يفرض بينهما نقط أخرى فلا يلزم تتالي
244

الآنات ولا انقطاع الحركة ولا كون المتحرك ساكنا وكذا نقول للمتحرك في الكيف كيفية واحدة غير قارة ففي كل آن يفرض يكون له فيه كيفية أخرى مفروضة ولا يمكن أن يفرض في تلك الكيفية غير القارة كيفيتان متصلتان بل كل كيفيتن يفرض فيها يمكن أن يفرض فيما بينهما كيفيات أخر كما أن كل آنين يفرض في الزمان يمكن أن يفرض بينهما آنات أخر فلا يلزم شيء من المحذورات وباقي المقولات لا يقع فيها حركة أما الجوهر فلا شك أنه تتبدل صورته بصورة أخرى لكن هذا التبدل دفعي لا تدريجي كما سيأتي فيكون من قبيل الكون والفساد دون الحركة في الجوهر ومنعه أي منع تبدل الصورة بعض المتكلمين وقال لا كون ولا فساد في الجواهر والتبدل الواقع فيها إنما هو في كيفياتها دون صورها فأنكر الكون وسلم الاستحالة وهو أي ذلك البعض من قال العنصر واحد وذلك الواحد أما النار والباقية من العناصر إنما حصلت من النار بالتكاثف أعني غلظ القوام على مراتب متفاوتة فإن الهواء كثيف بالقياس إلى النار والماء أكثف منه والأرض أكثف من الماء أو الأرض والباقية تكونت منها بالتخلخل أي برقة القوام أو هو أي ذلك الواحد متوسط بين العنصرين المذكورين وهذا المتوسط إما الماء أو الهواء والبواقي تكونت منه بالتكاثف والتخلخل معا فإن فرض أنه الماء كان حصول الأرض بالتكاثف وحصول الباقيين بالتخلخل وإن فرض إنه الهواء كان حصول النار بالتخلخل وحصول الباقيين بالتكاثف والطبيعة العنصرية الثابتة لذلك العنصر الذي هو الأصل محفوظة ثابتة في الأحوال كلها أي في جميع مراتب التكاثف والتخلخل فلا تبدل في الصور أصلا بل في الكيفيات وأبطله أي قول ذلك البعض ابن سينا بوجهين
245

الأول أنه مبرهن فيما بعد كما ستطلع عليه أن كل ما يصح عليه من الأجسام الكون والفساد أعني تبدل الصورة بصورة أخرى تصح عليه الحركة المستقيمة المقتضية لخروج الجسم عن مكانه وتنعكس هذه الموجبة الكلية بالعكس المستوي إلى قولنا بعض ما يصح عليه الحركة المستقيمة يصح عليه الكون والفساد فثبت صحة تبدل الصور في بعض الأجسام وبطل القول بكونه محالا
الوجه الثاني اختصاص الجزء المعين من الجسم العنصري كالماء مثلا بحيز طبعا أي بحيز معين من أجزاء الحيز الطبيعي لذلك الجسم إنما يكون لصورته أي صورة ذلك الجزء وهذا أعني استناد ذلك الاختصاص إلى صورة ذلك
الجزء أيضا إنما يتصور إذا كانت تلك الصورة حادثة فإن ذلك الاختصاص لا يجوز أن يستند إلى ذات الصورة من حيث هي لأنا نشاهد أن الأجزاء المتساوية في الصورة حاصلة في أحياز متباينة ولا يجوز أن تستند إلى ناقل نقل ذلك الجزء إلى ذلك الحيز إذ لو قدرنا عدم الناقل لكانت أجزاء العنصر حاصلة في أحيازها ولا بد لحصولها فيها حينئذ من سبب ولا سبب سوى أن الجزء المعين كان في ابتداء تكونه حاصلا في حيز تخصص به حدوثه عن الفاعل واستمر بعد ذلك فيه باقتضاء صورته وإنما كان في ابتداء التكون حاصلا في ذلك الحيز لكونه متصورا بصورة أخرى حالها على قياس هذه الصورة وهكذا إلى مالا نهاية له
وجواب الأول أن الأصل إن أخذ خارجيا منعنا صدقه لعدم وجود الموضوع عندنا فلا يلزم صدق العكس وإن أخذ حقيقيا صدق وكان العكس كذلك أي حقيقيا أيضا ولا يلزم من صدق العكس حقيقيا صدقه
246

خارجيا لأنه أي الموجب الجزئي الخارجي أخص من الموجب الجزئي الحقيقي ومن صدق الأخص لا يلزم صدق الأعم فلا يفيد الوجود أي فلا يفيد البيان المذكور أن في الخارج جسما موجودا يصح عليه الكون والفساد لجواز أن تصدق الموجبة الجزئية الحقيقية مع السالبة الكلية الخارجية التي تدعيها
وجواب الثاني منع وجوب الحدوث لجواز أن يكون مخصص الأجزاء بأحيازها أمرا مفارقا وتساوي نسبته إلى الكل ممنوع إذ يجوز أن يكون المفارق متعددا على وجه يقتضي ذلك الاختصاص في تلك الأجزاء فلا اعتماد على شيء من هذين الوجهين بل المعتمد في إبطال نفي الكون والفساد هو التجربة والتعويل على المشاهدة لدلالتهما على أن العناصر ينقلب بعضها إلى بعض كما سيأتي في الموقف الرابع ثم نقول في بيان أن تبدل الصورة بأخرى لا يجوز أن يكون تدريجيا فلا يكون حركة بل كونا وفسادا الصور لا تقبل الاشتداد بأن يتحرك محل الصورة إلى الصورة أقوى منها ولا التنقص بأن يتحرك محلها إلى صورة أضعف منها على قياس الكيفيات التي تقع فيها الحركة بل الصور لا تقبل الانتقال التدريجي مطلقا بأن ينتقل محل الصورة إلى صورة أخرى يسيرا يسيرا سواء كانت الأخرى أقوى أو أضعف أو مساوية لأن في الوسط أي في وسط الاشتداد أو التنقص بل في وسط الانتقال التدريجي إن بقي نوعه أي نوع الجوهر المنتقل منه لم يكن التغير في الصورة أي لم يكن فيها اشتداد ولا تنقص بحسب ذاتها بل في لوازمها وصفاتها ولو قيل إن بقي شخصه لكان أشمل وإن لم يبق نوعه أو شخصه كان ذلك عدم الصورة لا اشتدادها ولا تنقصها ولا الحركة فيها إذ لا بد أن يحصل عقيبها صورة أخرى فنقول
247

تلك الصور المتعاقبة إن كان فيها ما يوجد في أكثر من آن واحد فقد سكنت الحركة في الصورة وإلا كانت كلها آنية الوجود فإن تعاقبت بلا فصل تتالت الآنات وإن وجد فيما بين متعاقبين زمان خال عن تلك الصور الآنية كانت الحركة منقطعة ونقض هذا الدليل بالحركة في الكيف وغيره من المقولات
وأجيب عنه بأن بقاء الموضوع بدون الكيفيات وسائر الأعراض جائز فلا يلزم من خلوه عنها انتفاء المتحرك حال كونه متحركا كما يلزم ذلك من خلو المتحرك عن الصور المتعاقبة لأن المتحرك في الصورة إما الجسم أو المادة ولا وجود لشيء منهما خاليا عن الصورة وكون المتحرك معدوما حال كونه متحركا محال بالبديهة وفيه بحث لأنه يلزم ههنا محال آخر وهو أنه إذا خلا الموضوع في زمان عن الكيفيات المتعاقبة مثلا لم يكن له في ذلك الزمان حركة في الكيف كما ذكرنا لأن الحركة كما تنتفي بانتفاء المتحرك تنتفي بانتفاء ما فيه الحركة بل يلزم أن لا يكون هناك إلا كيفيات آنية الوجود لا يوجد شيء منها في الأزمنة الواقعة بين تلك الآنات فإن سميت مثل هذه حركة لم تكن الحركة منطبقة على الزمان منقسمة بانقسامه وقد صرحوا بأن الحركة والزمان والمسافة مطابقة بحيث ينقسم كل منها بانقسام الآخر وتكون قطعة منه واقعة بإزاء قطعة من الآخر فمثل هذه لا تكون حركة لانتفاء لازم الحركة عنها ولا محيص عن ذلك إلا ما مر من أن المتحرك في الكيف مثلا له فيما بين مبدأ حركته ومنتهاها كيفية واحدة سيالة كما عرفت ومثل هذا الحال السيال الذي يتبدل أفراده على محله مع بقاء المحل بشخصه لا بد أن يكون عرضا لتقوم محله بدونه فلا يتصور حركة في الصور المقومة لمحالها وأيضا فمبدأ الحركة أي ما تقوم به الحركة وهو المتحرك موجود لا محالة في زمان كونه متحركا والمادة وحدها لا وجود لها فإن المادة لا تتحصل ذاتا معينة موجودة إلا بالصورة المعينة فلا يمكن حركتها إلا إذا كانت من مبدأ حركتها إلى منتهاها متصورة بصورة معينة فيمتنع أن تتحرك في الصورة بالضرورة وقد
248

يقال تحصل المادة بشخصها إنما يكون بصور متعاقبة لا بصورة واحدة معينة فلا يلزم امتناع حركتها ويجاب بأنها مع إحدى تلك الصور ذات متحصلة ومع صورة أخرى ذات متحصلة مغايرة للذات الأولى وليس لشيء من تلك الذوات المتحصلة حركة وانتقال من حالة إلى حالة أخرى فلا حركة أصلا
وهذا الجواب كما ترى مبني على أو الهيولى ليست إلا شيئا بالقوة لا تتحصل موجودة إلا بصورة معينة لما ثبت عندهم من أن وحدتها وتعددها واتصالها وانفصالها تابعة للصورة فلو كانت في ذاتها متحصلة بالفعل لما كانت كذلك وللبحث فيه مجال وأما المضاف فطبيعة غير مستقلة بنفسها في المفهومة بل هي تابعة لغيرها فإن كان متبوعها قابلا للأشد والأضعف قبلهما المضاف أيضا وإلا فلا يعني أن الإضافة تابعة لمعروضها في الحركة بل في التغير مطلقا لأنها لو تغيرت بلا تغير في معروضها لكانت مستقلة بالمفهومية وعلى هذا فإن كانت الإضافة عارضة لإحدى المقولات الأربع وقعت الحركة فيها تبعا لها كما إذا فرض أن ماء أشد سخونة من ماء آخر وتحرك في الكيف حتى صارت سخونته أضعف من سخونة الآخر فإن هذا الماء قد انتقل من نوع من الإضافة أعني الأشدية إلى نوع آخر منها أعني الأضعفية انتقالا تدريجيا فقد تحرك الجسم في الإضافة تبعا لحركته في معروضها الحقيقي أعني السخونة التي هي من الكيف وكذلك إذا كان جسم في مكان أعلى ثم تحرك في الأين حتى صار في مكان أسفل أو كان أصغر مقدارا من جسم آخر ثم تحرك في الكم حتى صار أعظم مقدارا منه أو كان على أشرف أوضاعه ثم تحرك
249

منه إلى وضع هو أخس أوضاعه فقد انتقل الجسم في هذه الصور أيضا من إضافة إلى أخرى تدريجيا وتبعا لحركته في معروضها وكما لا يتصور بقاء هذه الإضافات بأعيانها مع تغير متبوعاتها في أنفسها لا يتصور أيضا انتقال الجسم وتغيره في هذه الإضافات مع بقاء متبوعاتها على حالها لما عرفت من أنها لو تغيرت في أنفسها بلا تغير في معروضها لاستقلت بالمفهومية وهذا الدليل بعينه جار في سائر الأعراض النسبية لعدم استقلالها بالمفهومية ومنقوض بالأين والوضع فإنهما من الأعراض النسبية مع وقوع الحركة فيهما بلا تبعية شيء وحينئذ نقول لم لا يجوز أن ينتقل الموضوع من مضاف إلى آخر تدريجيا فإن كونه غير مستقل بالمفهومية لا ينافي ذلك وأما متى فقال ابن سينا في النجاة إن وجوده لجسم يتبع الحركة أي ثبوته له بتوسط الحركة فإن ما لا حركة فيه ولا تغير لم يتصور له متى فكيف تقع فيه الحركة إذ لو وقعت فيه لم يكن تابعا لها واعترض عليه بأنه يجوز أن يكون ثبوته للجسم بتوسط نوع من الحركة ويقع فيه نوع آخر منها وفي النجاة أيضا إن كل حركة فهي في متى فلو كان في متى حركة لكان لمتى متى آخر وهو محال إذ يلزم أن يكون للزمان زمان واعترض بأنه يجوز أن يكون عروض متى للزمان لذاته لا لزمان آخر كعروض القبلية والبعدية وقال في الشفاء يشبه أن يكون الانتقال في متى دفعيا إذ الانتقال من سنة إلى سنة ومن شهر إلى شهر يكون دفعة وذلك لأن أجزاء الزمان متصل بعضها ببعض والفصل المشترك بينها هو الآن فإذا فرض زمانان يشتركان في آن فقبل ذلك الآن يستمر للموضوع متاه بالقياس إلى
250

الزمان الأول وبعده يستمر له متاه بالقياس إلى الزمان الثاني وذلك الآن نهاية وجود الأول وبداية حصول الثاني فلا تدريج في الانتقال ويرد عليه أن الفاصل بين أجزاء المسافة حدود غير منقسمة فيكون الانتقال من بعض تلك الأجزاء إلى بعض دفعيا أيضا ولكن إذا فرض مكانان بينهما مسافة منقسمة كان الانتقال من أحدهما إلى الآخر تدريجيا فكذا الحال في الانتقال من زمان إلى زمان آخر بينهما زمان كالفجر والمغرب مثلا فإنه يكون تدريجيا أيضا لا دفعيا ثم قال في الشفاء ويشبه أن يكون حال متى كحال الإضافة في أن الانتقال فيه يكون تبعا للانتقال في شيء آخر من كم أو كيف فيقع التغير في ذلك الشيء أو لا ويكون الزمان لازما لذلك التغير فيعرض بسببه فيه التبدل وإليه أشار بقوله وهو أي متى كالإضافة في قبول الحركة على سبيل التبعية لأنه نسبة تابعة لمعروضها فلا يستقل بالمفهومية والتبدل وقد عرفت ما فيه وكذا الملك فإنه أيضا مقولة نسبية تابعة لمعروضها في التبدل والاستقرار وأما مقولتا أن يفعل وأن ينفعل فأثبت بعضهم فيهما الحركة وأبطل قول هذا المثبت بأن المنتقل من التسخن إلى التبرد مثلا لا يكون تسخنه باقيا وإلا لزم التوجه إلى الضدين معا لأن التبرد توجه إلى البرودة والتسخن توجه إلى السخونة ومن المحال أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد متوجها إلى الضدين وإذا لم يكن التسخن باقيا فالتبرد لا يوجد إلا بعد وقوف التسخن فبينهما زمان سكون كما بين الحركتين الأينيتين المتضادتين فلا يكون هناك حركة من التسخن إلى التبرد على
الاستمرار وكذا الحال في التسخين والتبريد ولقائل أن يقول إن التسخن له مراتب مختلفة في القوة والضعف فيجوز أن ينتقل المتسخن من مرتبة إلى أضعف منها وهكذا إلى أن يصل بالتدريج إلى مرتبة من مراتب التبرد فلا
251

يلزم التوجه إلى الضدين ولا انقطاع الحركة في أثنائها بل عند انتهائها والحق أنهما أي الحركة فيهما تبع الحركة في غيرهما لأنهما أيضا حالتان نسبيتان فلا يستقلان في الثبات والتغير فالحركة فيهما تابعة للحركة إما في القوة إرادة كانت أو طبيعة أو في الآلة وإما في القابل وذلك لأن العزيمة قد تنفسخ يسيرا يسيرا والطبيعة قد تخور كذلك والآلة قد تكل هكذا ففي جميع هذه الصور يتبدل الحال أو لا إما في الإرادة أو في الطبيعة أو في الآلة على سبيل التدريج ثم يتبعه التبدل في الفاعلية كذلك وأما القابل فربما ينتقص قبوله واستعداده لتمام الفعل شيئا فشيئا فتقع الحركة فيه أو لا وتتبعها الحركة في الفاعلية وأنت خبير بأن التبدل في التأثير يستلزم التبدل في التأثر فتقع الحركة في المقولتين تبعا
المقصد الرابع
المتن
العلة للحركة الطبيعية ليست هي الجسمية وإلا دامت الحركة بدوامها وأيضا فالجسمية عامة للأجسام والحركة مختصة وأيضا فيلزم اتحادها في الجهة واللازم باطل وأيضا فلأنها إما لمطلوب فتنقطع عنده مع بقاء الجسمية فيلزم التخلف وإما لا لمطلوب فيتحرك إما إلى جميع الجهات وأنه محال وإما إلى بعضها وأنه ترجيح بلا مرجح وليست الطبيعة أيضا لأنها ثابتة فيلزم ثبات معلولها والحركة ليست ثابتة بل هي حالة غير ملائمة تترك طبعا طلبا للملائم والملائم غاية ولا تتصور إلا في الحركة الإرادية وفيه إشكال إذ ليس الحركة إلى جهة حينئذ أولى من الأخرى ويعلم من ذلك أن العلة للحركة الإرادية ليست هي النفس لثباتها وعدم اختلافها ولا أيضا هي التصور الكلي لأن نسبته إلى الحركات الجزئية سواء بل إنما هي تصورات جزئية فالماشي نحو بغداد له في كل خطوة إرادة جزئية تابعة لتصور جزئي
252

الشرح
المقصد الرابع العلة للحركة الطبيعية ليست هي الجسمية وإلا دامت الحركة بدوامها أي بدوام الجسمية وامتنع السكون على الأجسام لأن مقتضى ذات الشيء وحدها يبقى ببقائها وأيضا فالجسمية عامة للأجسام كلها والحركة مختصة ببعضها غير عامة لها فإن من الأجسام ما هو ساكن دائما وأيضا فيلزم على تقدير كون الجسمية علة اتحادها في الجهة أي اتحاد الأجسام كلها في جهة الحركة الطبيعية واللازم باطل لأن جهات الحركات الطبيعية مختلفة فبعضها إلى الفوق وبعضها إلى التحت وهذان الدليلان مبنيان على اشتراك الجسمية بين جميع الأجسام وسيأتي الكلام عليه وأيضا فلأنها أي الحركة التي علتها الجسمية إما لمطلوب فتنقطع الحركة عنده أي عند حصول ذلك المطلوب مع بقاء الجسمية التي هي علتها فيلزم التخلف أي تخلف المعلول عن علته وإما لا لمطلوب فتحرك الجسم حينئذ إما إلى جميع الجهات معا وأنه محال بالضرورة وإما إلى بعضها وأنه ترجيح بلا مرجح وليست علة الحركة الطبيعية هي الطبيعة وحدها أيضا لأنها ثابتة مستمرة فيلزم ثبات معلولها الذي تقتضيه لذاتها والحركة ليست ثابتة لما عرفت من أنها متجددة متقضية ويلزم أيضا دوام الحركة بدوام الطبيعة فيمتنع السكون على الأجسام المتحركة بالطبع فلا يكون شيء من الأمكنة طبيعيا بل هي حالة غير ملائمة أي بل العلة للحركة الطبيعية هي الطبيعة على مقارنتها لحالة غير
253

ملائمة لها فإن تلك الحالة تترك طبعا طلبا للملائم إما في الأين فكالحجر المرمي إلى فوق وأما في الكيف فكالماء المسخن قسرا وأما في الكم فكالذابل ذبولا مرضيا فإن هذه الحالة المنافرة ما دامت باقية كانت الطبيعة محركة للجسم لترده إلى الحالة الملائمة وتختلف أجزاء الحركة بحسب اختلاف القرب والبعد من تلك الحالة المطلوبة فإذا أوصلته الطبيعة إليها انقطعت الحركة الطبيعية لانتفاء أحد جزئي علتها أعني مقارنة الحالة الغير الملائمة هكذا قالوا ويتجه عليهم أن يقال الملائم غاية مطلوبة ولا تتصور الغاية إلا في الحركة الإرادية إذ لا بد من الشعور بالغاية حتى يمكن طلبها فلا تكون الحركة الطبيعية التي لا شعور معها طلبا للملائم وإذا لم يكن للطبيعة مطلوب بقي أن تكون هي مع الحالة التي لا تلائمها مقتضية للحركة وفيه إشكال إذ ليس الحركة الطبيعية إلى جهة حينئذ أولى من الجهة الأخرى وقد يجاب بأن ثبوت الغاية لا يتوقف على الشعور والإرادة وتلخيصه أن الفعل إذا ترتب عليه أمر ترتبا ذاتيا يسمى غاية له فإن كان له مدخل في إقدام الفاعل على ذلك الفعل يسمى غرضا بالقياس إليه وعلة غائية بالقياس إلى الفعل فالعلة الغائية هي المحتاجة إلى الشعور دون الغاية فإنها قد تثبت بلا شعور إذ لا بعد في أن يكون بعض الأمكنة ملائما لبعض الأجسام فإذا فرض خارجا عن مكانه الملائم له اقتضى طبيعة الحركة إليه وتكون هذه الحركة طلبا طبيعيا لذلك المكان لا إراديا موقوفا على الشعور والإرادة وكذا نقول في الكيفيات والكميات وملاءمة بعضها لبعض الأجسام ويعلم من ذلك الذي مر ذكره في الحركة الطبيعية أن العلة للحركة الإرادية ليست هي النفس لثباتها وعدم اختلافها يعني أن النفس ثابتة مستمرة فلا تكون وحدها علة للحركة التي هي متجددة غير ثابتة والنفس غير مختلفة في نوع واحد من الأجسام ذوات الأنفس مع اختلاف الحركة الإرادية في ذلك النوع بل في فرد منه ولا أيضا هي التصور الكلي الحاصل للنفس لأن نسبته إلى الحركات الجزئية سواء وكذا الإرادة الناشئة من التصور الكلي لا تكون إلا كلية متساوية النسبة إلى جزئيات الحركة فلا يصدر شيء من تلك الجزئيات عن النفس مع تصورها وإرادتها الكليين بل إنما هي أي
254

علة الحركة الإرادية تصورات جزئية يترتب عليها إرادات جزئية فالماشي نحو بغداد له في كل خطوة إرادة جزئية تابعة لتصور جزئي قالوا إن الحركة الاختيارية إلى مكان تتبع الإرادة متعلقة بمجموع تلك الحركة ثم إن المسافة التي لتلك الحركة يمكن أن يفرض فيها حدود جزئية تتجزأ بها المسافة إلى أجزائها الجزئية فالمتحرك يحتاج بعد الإرادة المتعلقة بمجموع الحركة إلى أن يتخيل حدا معينا وتنبعث عنه إرادة جزئية متعلقة بقطع ذلك الجزء من المسافة الذي انفصل بذلك الحد وهكذا تتوالى التخيلات المستتبعة للإرادة والحركة فتتصل الإرادات في النفس والحركات في المسافة ولو فرض انقطاع التخيل انقطعت الإرادة والحركة وأما علة الحركة القسرية فهي القوة التي أحدثها القاسر في المتحرك
المقصد الخامس
المتن
الحركة تقتضي أمورا ستة
الأول ما به أي سببها الفاعلي
الثاني ما له أي محلها
الثالث ما فيه أي المقولة من المقولات
الرابع ما منه أي المبدأ
الخامس ما إليه أي المنتهى وذلك في الحركة المستقيمة وأما في الفلكية فلا يكون إلا بالفرض
السادس المقدار أي الزمان فإن كل حركة في زمان بالضرورة
255

الشرح
المقصد الخامس الحركة تقتضي أمورا ستة
الأول ما به الحركة أي سببها الفاعلي فإن الحركة أمر ممكن الوجود فلا بد لها من علة فاعلية
الثاني ما له الحركة أي محلها فإنها عرض فلا بد لها من محل تقوم به
الثالث ما فيه الحركة أي المقولة من المقولات الأربع المتقدمة
الرابع ما منه الحركة أي المبدأ
الخامس ما إليه الحركة أي المنتهى وذلك أي اقتضاء ثبوت المبدأ والمنتهى بالفعل إنما يكون في الحركة المستقيمة وأما في الحركة المستدير الفلكية فلا يكون ثبوتها إلا بالفرض إذ ليس هناك وضع هو مبدأ الحركة أو منتهاها إلا بحسب الفرض كما مر
السادس المقدار أي الزمان فإن كل حركة تكون في زمان بالضرورة واقتضاء الحركة لهذه الأمور الأربعة من حيث أنها انتقال من حالة إلى أخرى تدريجا
المقصد السادس
المتن
قد علمت أن الحركة متعلقة بأمور ستة فوحدتها متعلقة بوحدتها ضرورة ووحدتها كما قد مر إما شخصية أو نوعية أو جنسية ففيه ثلاثة أبحاث
256

أحدها في وحدتها الشخصية ولا بد فيها من وحدة ما له فإن الواحد بالشخص محله واحد بالشخص ضرورة أنه لا يقوم العرض بمحلين ولا بد من وحدة ما فيه إذ الشيء قد يستحيل وينمو معا فيكون كل حركة وإن اتحد المحل من حيث اختلف ما فيه بل قد يعرض له أنواع من الاستحالة كالتسخن والتسود والتروح ويتبع ذلك وحدة ما منه وما إليه إذ لو اختلف المبدأ والمنتهى لم يكن ما فيه واحدا بالضرورة ولا يكفي في الوحدة وحدة ما منه وما إليه دون اعتبار وحدة ما فيه لجواز اتحادهما بالشخص مع تعدد الحركة بأن تكون الطرق مختلفة كما يتوجه الجسم تارة من البياض إلى الغبرة إلى العودية إلى السواد ومنه إلى الصفرة إلى الخضرة إلى النيلية إلى السواد ومنه إلى الحمرة إلى القتمة إلى السواد ولا بد من وحدة الزمان إذ الحركة في زمان غير الحركة في زمان آخر ضرورة وذلك بناء على أن المعدوم لا يعاد بعينه وأما وحدة المحرك فلا عبرة به فإن المتحرك بمحرك ما قد يحركه محرك آخر قبل انقطاع حركته والحركة واحدة متصلة ولا تميز يوجب الإثنينية غير ما يتوهم من استناد بعضها إلى محرك والبعض إلى آخر ولا تجزي فيها بالفعل ولا فصل
ثانيها في وحدتها النوعية ولا يخفى أن ما يعتبر في الوحدة النوعية بعض ما يعتبر في الوحدة الشخصية وهي ما فيه وما منه وما إليه إذ لو اختلف ما فيه كان كل نوع من الحركة كالتسود والتسخن وكذلك ما منه وما إليه وإن اتحد ما فيه كالصاعدة والهابطة وكالتسخن والتبرد ولا عبرة بوحدة المحرك لما مر وإذ لا يوجب اختلاف الشخص فالنوع أولى فحركة الحجر إلى العلو قسرا والنار إليه طبعا لا يختلف بالنوع من حيث هما كذلك ولا بوحدة ما له فإن تنوع المحل لا يوجب تنوع الحال فسواد الإنسان والحمار نوع واحد ولا بوحدة الزمان لأنه نوع
257

واحد لا تختلف حقيقته وإن قدر تنوعه فهو عارض للحركة واختلاف العوارض لا يوجب التنوع
ثالثها الجنسية وما يعتبر فيها بعض ما يعتبر في النوعية وإنما هو ما فيه فقط فالحركة الواقعة في كل جنس جنس من الحركة ويترتب بحسب ترتب الأجناس التي تقع فيها
الشرح
المقصد السادس قد علمت آنفا أن الحركة متعلقة بأمور ستة فوحدتها متعلقة بوحدتها أي بوحدة هذه الأمور الستة لا بغيرها ضرورة ووحدتها أي وحدة الحركة كما قد مر في مباحث الوحدة إما شخصية أو نوعية أو جنسية ففيه أي في بيان وحدتها ثلاثة أبحاث
أحدها في وحدتها الشخصية ولا بد فيها من وحدة لما له الحركة فإن العرض الواحد بالشخص محله واحد بالشخص أيضا ضرورة أنه لا يقوم العرض الواحد بالشخص بمحلين ولا بد أيضا في وحدتها الشخصية من وحدة ما فيه الحركة أعني المقولة إذ الشيء الواحد قد يستحيل وينمو معا في زمان كونه قاطعا لمسافة فيكون كل من الاستحالة والنمو وقطع المسافة حركة على حدة وإن اتحد المحل وإنما تعددت الحركة ههنا مع اتحاده من حيث اختلف ما فيه الحركة اختلافا جنسيا موجبا لاختلاف الحركة بالجنس كما سيأتي بل قد يعرض له أي للشيء الواحد أنواع من الاستحالة كالتسخن والتسود والتروح في الفاكهة مثلا فتتعدد الحركة لاختلاف ما فيه بحسب النوع و إن اندرجت تلك الأنواع في جنس واحد والكيف المحسوس بل نقول إذا تعددت المسافة و ما في حكمها بحسب الشخص تعددت الحركة بحسبه لأن الحركة في مسافة
258

تغاير الحركة في مسافة أخرى قطعا ويتبع ذلك أي وحدة ما فيه الحركة وحدة ما منه و ما إليه إذ لو اختلف المبدأ و المنتهى لم يكن ما فيه واحدا بالضرورة فوحدتهما تابعة لوحدة ما فيه فاشتراط وحدة ما فيه يغني عن اشتراط وحدتهما ولا يكفي في الوحدة الشخصية للحركة وحدة ما منه وما إليه دون اعتبار وحدة ما فيه لجواز اتحادهما بالشخص مع تعدد الحركة بأن تكون الطرق مختلفة فيما بين مبدأ معين ومنتهى معين كما يتوجه الجسم تارة من البياض إلى الغبرة إلى العودية إلى السواد و تارة منه أي من البياض إلى الصفرة إلى الخضرة إلى النيلية إلى السواد و تارة منه إلى الحمرة إلى القتمة إلى السواد فالحركة من البياض إلى السواد المعينين يمكن أن تفرض على هذه الوجوه فيكون المبدأ و المنتهى واحدا مع تعدد الحركة بواسطة تعدد ما فيه وكذا الحال فيما إذا سلك الجسم من مبدأ معين إلى منتهى معين تارة على الاستقامة وتارة على الاستدارة فظهر أن اعتبار وحدتهما لا يغني عن اعتبار وحده ما فيه كما كان اعتبار وحدته مغنيا عن اعتبار وحدتهما ولقائل أن يقول إذا لم يلاحظ وحدة الزمان لم تكن وحدة ما فيه مستلزمة لوحدتهما ولا اختلافهما مستلزما لاختلاف ما فيه فإن جسما واحدا قد يتحرك في مسافة واحدة تارة صاعدا وتارة هابطا وإذا لوحظ وحدة الزمان كان وحدتهما مقتضية لوحدته أيضا ولابد في وحدة الحركة من وحدة الزمان إذ الحركة في زمان غير الحركة في زمان آخر ضرورة وذلك بناء على أن المعدوم لا يعاد بعينه فإنه لو جوز إعادته كذلك لجاز أن تكون الحركة في زمان عين الحركة في زمان آخر فظهر أنه لابد للحركة في وحدتها الشخصية من وحدة الموضوع بالشخص ومن وحدة الزمان ومن وحدة ما فيه وليست وحدته لازمة لوحدتهما لما مر من وقوع الاستحالة والنمو وقطع المسافة في جسم واحد في زمان واحد وإذا اتحدت هذه الثلاثة اتحد المبدأ والمنتهى أيضا وكانت الحركة واحدة شخصية
259

قطعا ولو اعتبر وحدتهما مع وحدة المحل و الزمان لكفى ولزم وحدة ما فيه كما أشرنا إليه إلا أن اعتبار الثلاثة أولى من اعتبار الأربعة و المآل فيهما واحد وهو أنه لابد في تشخص الحركة من وحدة أمور خمسة من تلك السنة لأن اختلاف واحد منها أي واحد كان يستلزم تعدد الحركة كما لا يخفى و أما وحدة المحرك فلا عبرة به في كون الحركة واحدة شخصية فإن المتحرك بمحرك ما قد يحركه محرك آخر قبل انقطاع حركته و الحركة الصادرة عنهما واحدة شخصية متصلة اتصال المسافة و لا تميز في تلك الحركة يوجب الإثنينية فيها غير ما يتوهم من استناد بعضها إلى محرك والبعض إلى محرك آخر ولا تجزي فيها بالفعل ولا فصل بسبب اختلاف الاستناد ألا ترى أن الحركة الفلكية مع اتصالها في نفسها يعرض لها انقسامات وهمية بحسب الشروق و الغروب و المسامتات وذلك لا يبطل وحدتها الشخصية
فإن قيل المحرك الثاني إن لم يكن له أثر لم يكن محركا وإن كان له أثر فإن كان أثره عين أثر المحرك الأول لزم تحصيل الحاصل واجتماع مؤثرين على أثر واحد شخصي و أن كان غيره فقد تعدد الأثران أعني الحركتين
قلنا نختار أن الأثرين متغايران وذلك لا يبطل الوحدة الشخصية الاتصالية
وثانيها أي ثاني الأبحاث في وحدتها النوعية ولا يخفى أن ما يعتبر في الوحدة النوعية بعض ما يعتبر في الوحدة الشخصية وذلك لأن الشخص هو النوع مع قيود مشخصة له وهي أي ما يعتبر من الوحدات في الوحدة النوعية هي وحدة ما فيه و وحدة ما منه و وحدة ما إليه فإن هذه
260

الأمور الثلاثة إذا اتحدت بالنوع كانت الحركة واحدة بالنوع و إذا تنوعت كانت الحركة متنوعة إذ لو اختلف ما فيه الحركة بحسب النوع كان كل من الحركات الواقعة في تلك الأنواع المختلفة نوعان من الحركة و إن اتحد ما منه وما إليه أما في الكيف فمثل أن يأخذ الجسم في الحركة تارة من البياض إلى الصفرة إلى الحمرة إلى القتمة إلى السواد و أخرى من البياض إلى الفستقية إلى الخضرة إلى النيلية إلى السواد فإن ما فيه الحركة ههنا مختلف بالنوع وكذا الحركة مع اتحاد المبدأ والمنتهى بالنوع وأما في الأين فمثل أن يتحرك الجسم من مبدأ إلى منتهى معينين تارة على الاستقامة وأخرى على الاستدارة فإن المستدير والمستقيم مختلفان بالماهية لا بالعوارض فكذلك الحركتان الواقعتان عليهما وإذا كانت الحركة مختلفة بالنوع لاختلاف ما فيه مع اتحاد ما منه وما إليه فاختلافها بالنوع لاختلاف ما فيه منضما إلى اختلافهما كان أولى كالتسود و التسخن فإنهما مختلفان بالماهية لاختلاف الأمور الثلاثة فيهما وكذلك ما منه وما إليه فإنهما إذا اختلفا بالنوع اختلف ماهية الحركة وأن اتحد ما فيه كالصاعدة و الهابطة في الحركة الأينية وكالتسخن والتبرد في الحركة الكيفية فإن الحركتين في كل واحدة من هذين المثالين مختلفان بالماهية لاختلاف المبدأ والمنتهى فيهما بالنوع مع اتحاد ما فيه
فإن قيل تنوع المبدأ والمنتهى في المثال الثاني ظاهر فإن السخونة مخالفة بالماهية للبرودة بخلافه في المثال الأول لأن الاختلاف بين المبدأين إنما هو باعتبار إن عرض لأحدهما الفوقية و للآخر التحتية و ذلك لا يوجب اختلافا في الماهية
قلنا إنهما وإن لم يختلفا بالماهية لكنهما اختلفا بالمبدائية والمنتهائية
261

وهما متقابلان تقابل التضاد وهذا القدر كاف في اختلاف الحركة بالماهية كذا في المباحث المشرقية ولا عبرة في الوحدة النوعية للحركة بوحدة المحرك لأن الأمور المختلفة بالنوع قد تشترك في نوع واحد من الأثر ولما مر من أن تعدد المحرك ولو بحسب النوع لا يوجب تعددا في الحركة بحسب الشخص وإذ لا يوجب اختلاف المحرك بحسب النوع اختلاف الشخص في الحركة فالنوع أولى بأن لا يوجبه ذلك الاختلاف لأن ما يوجب اختلاف النوع يوجب اختلاف الشخص بالضرورة من دون عكس كلي فحركة الحجر إلى العلو قسرا وحركة النار إليه طبعا لا يختلف بالنوع من حيث هما كذلك أي من حيث استنادهما إلى محركين مختلفين بالنوع أعني القاسر والطبيعة بل هاتان الحركتان متفقتان في الماهية ولا عبرة أيضا بوحدة ما له الحركة فإن تنوع المحل لا يوجب تنوع الحال وإن كان تعدد المحل مطلقا يوجب تعدد الحال بحسب الشخص فسواد الإنسان وسواد الحمار نوع واحد وكذا حركتهما إذ لم يختلف هناك ما فيه وما منه وما إليه وذلك لأن إضافة الحركة بل العرض مطلقا إلى الموضوع أمر خارج عن ماهيتهما فلا يكون اختلاف المعروضات موجبا لاختلافهما ولا بوحدة الزمان لأنه نوع واحد لا تختلف حقيقته فلا فائدة في اعتبار وحدته النوعية في وحدة الحركة بحسب النوع بخلاف اعتبار وحدته الشخصية في وحدتها الشخصية إن قدر تنوعه واختلافه بالماهية فهو عارض للحركة ومقدار لها واختلاف العوارض بالنوع لا يوجب التنوع في المعروضات كما أن تنوع المعروضات لا يوجب تنوع عوارضها
وثالثها الوحدة الجنسية وما يعتبر فيها من الوحدات بعض ما
262

يعتبر في الوحدة النوعية لأن النوع هو الجنس مع قيود منوعة له وإنما هو وحدة ما فيه فقط فالحركة الواقعة في كل جنس جنس من الحركة فالحركات الأينية كلها متحدة في الجنس العالي وكذا الحركات الكيفية والكمية ويترتب أجناس الحركات بحسب ترتب الأجناس التي تقع تلك الحركات فيها فالحركة في الكيف جنس هو فوق الحركة في الكيفيات المحسوسة وهي جنس فوق الحركة في المبصرات وهي جنس فوق الحركة في الألوان وهكذا إلى أن تنتهي إلى الحركات النوعية المنتهية إلى الحركات الشخصية
المقصد السابع
المتن
الحركات منها ما هي متضادة وقد علمت أن لا تضاد إلا بين الأنواع الداخلة تحت جنس أخير فالحركات المختلفة بالجنس كالنقلة والاستحالة والنمو غير متضادة وإن امتنع اجتماعها حينا فلا لماهياتها وإنما التضاد بين المتجانسة منها ففي الاستحالة كالتسود والتبيض وفي الكم كالنمو والذبول والتخلخل والتكاثف وفي النقلة كالصاعدة والهابطة إذ لها في كل طرف حد محدود تتوجه إليه وبين الطرفين غاية الخلاف وأما الوضعية فلا تضاد فيها
الشرح
المقصد السابع الحركات منها ما هي غير متضادة ومنها ما هي متضادة وقد علمت في مباحث التقابل أن لا تضاد إلا بين الأنواع
263

الحقيقية الداخلة تحت جنس أخير فالحركات المختلفة بالجنس كالنقلة والاستحالة والنمو غير متضادة لأنها أجناس تجتمع في موضوع واحد في زمان واحد وإن امتنع اجتماعها حينا من الأحيان فلا لماهياتها أي ليس امتناعها من الاجتماع في ذلك الحين مستندا إلى ماهياتها بل إلى أسباب خارجية فلا تضاد بين الحركات المتخالفة الأجناس وإنما التضاد بين المتجانسة المتشاركة في الجنس الأخير منها أي من الحركات ففي الاستحالة كالتسود والتبيض فإنهما نوعان مندرجان تحت الحركة في الألوان ومتشاركان في الموضوع وبينهما من الخلاف ما هو أكثر مما بين أحدهما وبين التصفر والتحمر وغيرهما فهو غاية الخلاف ولا معنى للتضاد إلا ذلك وفي الكم كالنمو والذبول والتخلخل والتكاثف فإن لكل واحد من النمو والذبول حدا محدودا في الطبع يتوجهان إليه وبينهما غاية الخلاف فكذا بين الحركتين إليهما وكذا الحال في التخلخل والتكاثف إذ لكل واحد منهما حد لا يتجاوزه وفي النقلة كالصاعدة والهابطة فإن كل واحد من الصعود والهبوط له حد محدود وبينهما غاية الخلاف وإلى ما فصلناه أشار إجمالا بقوله إذ لها أي للحركة في هذه المقولات الثلاث في طرف حد محدود تتوجه إليه وبين الطرفين غاية الخلاف فإن السواد والبياض بينهما غاية الخلاف وكذا بين حدي النمو والذبول والتخلخل والتكاثف والصعود والهبوط فيكون بين التوجهين أيضا غاية الخلاف وأما الحركة الوضعية فلا تضاد فيها لما ستعرف عن قريب من أن الحركة المستديرة لا تضاد فيها
264

المقصد الثامن
المتن
تضاد الحركات ليس لتضاد ما فيه فإن الصاعدة والهابطة ضدان وإن اتحد ما فيه ولا لتضاد المحرك لتضاد الطبيعتين والقسريتين ولا لتضاد المتحرك لأن حركة الحجر قسرا إلى فوق وطبعا إلى تحت متضادتان ولا لتضاد الزمان فإنه لا تضاد فيه إذ لا تنوع ولا يمكن توارده على موضوع ولكونه عارضا وتضاد العوارض لا يوجب تضاد المعروضات ولا للحصول في الأطراف لأنه معدوم عند الحركة يحصل قبلها وبعدها بل للتوجه بحسب ما منه وإليه من حيث هما كذلك فإنهما قد يختلفان بالذات مع التضاد كالسواد والبياض أو دونه كالسواد والحمرة أو بالعرض كالمركز والمحيط لأنهما جزءان من جسم بسيط عرض لأحدهما أنه غاية القرب من الفلك وللآخر أنه غاية البعد عنه مع تساويهما في الحقيقة وقد لا يختلفان أصلا بل يتفق أنصار أحدهما مبدأ والآخر منتهى وذلك قد يكون بالفعل كما في الحركة المستقيمة وبمجرد الفرض كما في الحركة المستديرة فإن أي جزء فرضت يكون مبدأ للدور ومنتهى له باعتبارين ولا تمايز فيه إلا بما يعرض من موازاة أو فرض أو غير ذلك
تنبيه المبدأ والمنتهى إذا نسب أحدهما إلى الآخر فتقابلهما تقابل التضاد وإذا نسبا إلى ما له المبدأ والمنتهى وهي الحركة كانا متضايفين له فبين كل منهما وبينه تقابل التضايف وليس بين المبدأ والمنتهى تضايف فقد يعقل مبدأ لا منتهى له وبالعكس
فإن قيل قد يكون جسم مبدأ ومنتهى فكيف التضاد
قلت هما غير عارضين للجسم بلا للأطراف ولا يكون طرف مبدأ ومنتهى إلا بالفرض وفي زمانين
فرع قالوا المستقيمة لا تضاد المستديرة إذ كل مستقيمة وتر لقسي غير متناهية بالقوة إذ ضد الواحد واحد ولا المستديرة المستديرة لنحو ذلك
265

فإن طرفي مستديرة واحدة قد يكونان طرفين لدوائر غير متناهية وأما الحركة إلى التوالي وإلى خلافه فكل يفعل مثل فعل الأخرى ولكن في النصفين على التبادل ولا يخفى ما فيه من أن الحركة في النصفين مع اتحاد المسافة مختلفة
الشرح
المقصد الثامن تضاد الحركات ليس لتضاد ما فيه فإن الصاعدة والهابطة ضدان بلا شبهة وإن اتحد ما فيه هاتان الحركتان وكذلك الحركة من السواد إلى البياض ضد للحركة من البياض إلى السواد وإن فرض وحدة الطريق أعني وحدة ما فيه ولا لتضاد المحرك لتضاد الحركتين الطبيعيتين الصادرتين عن طبيعة واحدة فإن الهواء إذا حصل في حيز الأرض صعد عنه طبعا وإذا حصل في حيز النار هبط عنه كذلك فبين هذه الصاعدة والهابطة تضاد مع وحدة المحرك وهذا المثال إنما يصح إذا لم يعتبر في التضاد غاية الخلاف كما يظهر من كلام الإمام في الملخص والمذكور في السماء والعالم من كتاب الشفاء أن هاتين الحركتين ليستا متضادتين كما ظن بعضهم لأنهما تنتهيان إلى طرف واحد وتوجيهه على ما في المباحث المشرقية أن الضدين يجب أن يكون بينهما غاية التباعد ولم يوجد ذلك في هاتين الحركتين لأن البعد بين حركة النار وحركة الأرض أكثر من البعد بين صعود الهواء عن المركز وهبوطة عن المحيط وكيف يكونان متضادين والمطلوب بهما حالة واحدة هي أن تكون فوق الماء وتحت النار ويرد عليه أنه يلزم منه أن لا يكون تضاد في الحركات الأينية إلا بين الصاعدة الواصلة إلى المحيط والهابطة الواصلة إلى المركز فلا
266

تكون حركة الحجر قسرا إلى فوق وحركته طبعا إلى تحت متضادتين مع أنهم صرحوا بخلافه ولتضاد الحركتين القسريتين كالصاعدة والهابطة الصادرتين عن قاسر واحد ولا لتضاد المتحرك لأن حركة الحجر قسرا إلى فوق وطبعا إلى تحت متضادتان مع أن المتحرك واحد ولا لتضاد الزمان فإنه لا تضاد فيه أي في الزمان إذ لا تنوع فيه بل الأزمنة كلها متساوية في الماهية ولا يمكن توارده أي توارد الزمان على موضوع واحد ولا بد في المتضادين من الاختلاف بالنوع والتوارد على الموضوع الواحد ولكونه عطف على قوله فإنه كأنه قيل ولا لتضاد الزمان لأنه لا تضاد فيه ولكونه عارضا للحركة وتضاد العوارض لا يوجب تضاد المعروضات فلو فرض التضاد في الزمان لم يكن
مقتضيا لتضاد الحركات ولا للحصول أي ليس تضاد الحركات للحصول في الأطراف التي هي مبادي الحركات ونهاياتها لأنه أي الحصول في الأطراف معدوم عند وجود الحركة فإن الحصول في المبدأ يحصل قبلها ويعدم عندها والحصول في المنتهى يحصل بعدها فلو كان تضادها لأجل الحصول في الأطراف لم يكن بين الحركات الموجودة تضاد بل تضاد الحركات للتوجه من الأطراف وإليها أعني بحسب ما منه وما إليه جميعا من حيث هما كذلك أي من حيث أنهما متضادان أعني أن يكون مبدأ إحدى الحركتين ضدا لمبدأ الأخرى ومنتهاها ضدا لمنتهاها وليس يكفي لتضاد الحركة التضاد بين المبدأين فقط فإن الحركة من السواد إلى الحمرة لا تضاد
267

الحركة من إلى الحمرة ولا التضاد بين المنتهيين فقط فإن الحركة من الحمرة إلى البياض لا تضاد الحركة من الحمرة إلى السواد وذلك لانتفاء غاية الخلاف وإنما اعتبر قيد الحيثية إذ لا بد من اعتباره فإنهما أي ما منه وما إليه في الحركتين قد يختلفان بالذات والماهية مع التضاد بينهما كالسواد والبياض فالحركة من الأول إلى الثاني تضاد الحركة من الثاني إلى الأول لأن مبدأهما متضادان بالذات وكذلك منتهاهما أو دونه أي دون التضاد كالسواد والحمرة فإنهما متخالفان بالماهية بلا تضاد لعدم التباعد في الغاية فلا تضاد أيضا بين الحركة من أحدهما إلى الآخر وعكسها أو بالعرض أي يختلفان لا بالذات بل باعتبار عارض مع التضاد بحسبه أيضا كالمركز والمحيط لأنهما جزءان أي نقطتان من جسم بسيط عرض لأحدهما أنه غاية القرب من الفلك وللآخر أنه غاية البعد عنه وباعتبار هذين العارضين صارا متضادين مع تساويهما في الحقيقة وصار تضادهما بالعرض سببا لتضاد الصاعدة والهابطة بالذات فإنهما معنيان وجوديان يمتنع اجتماعهما في موضوع واحد وبينهما غاية الخلاف وكذا حال الحركتين الواقعتين في جهتين متقابلتين وقد يقال لا تضاد في الحركة المستقيمة إلا بين الصاعدة والهابطة فعليك بالتأمل وقد لا يختلفان أصلا أي لا يختلف مبدأ الحركة ومنتهاها لا بحسب الماهية ولا بحسب عارض لازم بل يتفق أن صار أحدهما مبدأ لحركة والآخر منتهى لها فإذا فرض حركة أخرى من هذا المنتهى إلى ذلك المبدأ لم تكن مضادة للأولى إذ لا تضاد بين المبدأين ولا بين المنتهيين لا بالذات ولا بالعرض
فإن قلت بين مفهومي المبدأ والمنتهى تقابل التضاد كما سننبه
268

عليه فبين ذاتيهما تضاد بحسب العارض فتكون الحركتان متضادتين على قياس ما مر في الصاعدة والهابطة
قلت لا شك أن ثبوت هذين العارضين لذاتيهما متأخر عن وجود الحركة فلا يكون تضاد هذين العارضين علة لتضاد الحركتين بخلاف القرب والبعد من المحيط فإنهما متقدمان على وجود الحركة ومقتضيان لكون الحركتين متضادتين كما عرفت وذلك أي اتصاف أحدهما بكونه مبدأ والآخر بكونه منتهى قد يكون بالفعل كما في الحركة المستقيمة فإن لها مبدأ متصفا بالمبدائية بالفعل ولها منتهى كذلك وقد يكون ذلك الاتصاف بمجرد الفرض كما في الحركة المستديرة فإن أي جزء فرضت على الجسم المتحرك بالاستدارة كالفلك مبدأ للدور ومنتهى له باعتبارين إذ الحركة عن كل جزء هي بعينها الحركة إلى ذلك الجزء فلا مبدأ ولا منتهى للمستديرة إلا بمجرد الفرض ولا تمايز فيه أي في الدائر حتى يثبت للدور ابتداء وانتهاء بالفعل لا بما يعرض من موازاة أو فرض أو غير ذلك من الشروق والغروب وليس شيء منها موجبا للتمايز الخارجي وليس من شرط وجود الحركة المستديرة أن يوجد هناك نقطة بالفعل لتكون مبدأ من وجه ومنتهى من وجه وإلا امتنع حركة الفلك بالاستدارة إذ لا وجود للنقطة بالفعل إلا بسبب القطع وهو عليه محال عندهم بل يكفي لتحقق المستديرة كون النقطة بالقوة القريبة وههنا بحث وهو أن الحركة المستديرة حركة وضعية فيكون مبدأها وكذا منتهاها وضعا مخصوصا كما أن مبدأ الحركة الكيفية ومنتهاها كيف مخصوص فإذا فرض أن جسما كان ساكنا ثم تحرك على نفسه فالوضع الذي ابتدأت الحركة منه كان مبدأ لها وإذا فرض سكونها ثانيا كان الوضع الذي انقطعت الحركة عنده منتهى لها سواء كان مماثلا للوضع الأول أو مخالفا له فقد ثبت للمستديرة مبدأ ومنتهى بالفعل كالمستقيمة نعم إذا فرض أن المستديرة أزلية أبدية كما هو مذهبهم في الحركات الفلكية لم يكن هناك مبدأ ولا منتهى بالفعل كما نبهناك عليه فيما سلف ولا يمكن مثل هذا الفرض في المستقيمة لتناهي الأبعاد
269

وانقطاع الحركة بالرجوع والانعطاف فلا بد لها دائما من مبدأ ومنتهى بالفعل نعم إذا فرض أن جسما تحرك على محيط دائرة حتى تمم دورة كان مبدأها ومنتهاها واحدا بالذات مختلفا بالاعتبار إلا أن هذه حركة أينية في الاصطلاح مستديرة بحسب اللغة
تنبيه المبدأ والمنتهى أي هذان المفهومان العارضان لا ذاتاهما إذا نسب أحدهما إلى الآخر فتقابلهما تقابل التضاد لا السلب والإيجاب والعدم والملكة لأنهما وجوديان ولا التضايف لما سنذكره وإذا نسبا إلى ما له المبدأ والمنتهى وهي الحركة كانا متضايفين له فبين كل منهما وبينه أي بين ما له المبدأ والمنتهى تقابل التضايف فإن المبدأ مبدأ لذي المبدأ وذو المبدأ ذو مبدأ للمبدأ وكذا حال المنتهى وذي المنتهى وليس بين المبدأ والمنتهى تضايف فقد يعقل مبدأ لا منتهى له وبالعكس لجواز أن يفرض حركة لها بداية بلا نهاية أو نهاية بلا بداية فلا تكافؤ بينهما في التعقل ولا في الوجود فلا تضايف
فإن قيل قد يكون جسم واحد مبدأ لحركة ومنتهى لها أيضا فكيف يتصور التضاد بينهما مع اجتماعهما في موضوع واحد
قلت هما أعني مفهومي المبدأ والمنتهى غير عارضين للجسم عروضا أوليا حتى يقال إنهما يجتمعان فيه بل هما عارضان للأطراف الحاصلة في الأجسام ولا يكون طرف واحد مبدأ ومنتهى لحركة واحدة إلا بالفرض وفي زمانين إذ لا يتصور في حركة واحدة مستقيمة أن يكون مبدأها ومنتهاها طرفا واحدا وأما المستديرة فإن مبدأها ومنتهاها نقطة واحدة مفروضة لكنها لا تتصف بهاتين الصفتين في آن واحد فهي وإن كانت واحدة بالذات إلا أنها اثنتان في الاعتبار وذلك كاف لها في كونها بداية للحركة ونهاية لها وإنما وسم الفصل بالتنبيه لأن التأمل في مفهومي المبدأ والمنتهى وما نسبا إليه كاف للتصديق بما ذكر فيه
فرع على ما مر من أن تضاد الحركات أنما يكون لتضاد المبدأ
270

والمنتهى قالوا الحركة المستقيمة لا تضاد الحركة المستديرة وإلا كان ذلك بسبب تضاد أطراف المستقيمة والمستديرة وهو باطل إذ كل مستقيمة فإنها واقعة على خط هو وتر لقسي غير متناهية بالقوة فلو كانت المستقيمة ضدا للمستديرة لكان للمستقيمة الواحدة بالشخص أضداد غير متناهية متخالفة بالنوع هي المستديرات المتوهمة من منتهى المستقيمة إلى مبدأها وذلك باطل إذ ضد الواحد واحد كما مر في مباحث التضاد وأيضا كل قوس يفرض ضدا لذلك الخط فهناك قوس أخرى أعظم تحديا من الأولى فتكون هذه بالضدية أولى فليس شيء من تلك القسي ضدا للمستقيم فلا يكون المستقيم ضدا لشيء منها لا يقال طبيعة الاستدارة واحدة في المستديرات فتكون هي من حيث طبيعتها المشتركة بينها مخالفة للمستقيمة ومضادة لها لأنا نقول لا وجود للاستدارة المجردة إنما الموجود في الخارج ما هو مستدير معين ولا شيء من المستديرات المعينة أولى بالمضادة لما عرفت ولما امتنع حصول الاستدارة المجردة في الخارج امتنع معاقبتها للمستقيم في الموضوع فلا يكون ضدا له ولا تضاد المستديرة المستديرة لنحو ذلك الذي ذكر لنفي التضاد بين المستقيمة والمستديرة فإن التضاد بين الحركات لتضاد مباديها وغاياتها فلو كان بين المستديرات تضاد لكان لمستديرة واحدة أضداد غير متناهية متخالفة بالنوع وذلك لأن طرفي مستديرة واحدة قد يكونان طرفين لدوائر أي لقسي غير متناهية فإنه يجوز اشتراك قسي غير متناهية في طرفين فلو كانت المستديرة ضدا للمستديرة لكان لمستديرة واحدة أضداد بلا نهاية هي المستديرات الموجهة من منتهى تلك المستديرة إلى مبدئها وهو باطل وأما الحركة إلى التوالي والحركة إلى خلافه فكل من هاتين الحركتين تفعل مثل فعل الأخرى ولكن في النصفين من المسافة على التبادل فإن المنحدر من
271

السرطان إلى الجدي على التوالي يكون مسافته الأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والمنحدر من السرطان إلى الجدي لا على التوالي مسافته الجوزاء والثور والحمل والحوت والدلو فقد فعل كل منهما في الانحدار مثل فعل الآخر أعني الحركة المبعدة عن السرطان الموصلة إلى الجدي لكن في النصف الآخر وقس على ذلك حال الصعود من الجدي إلى السرطان فإنه على عكس الانحدار المذكور ولما كان الفلك جسما بسيطا متشابه الأجزاء كان النصفان متساويين في الماهية وكذلك الأطراف والنهايات متساوية فيها فلا يكون شيء منها سببا لتضاد الحركات المستديرة فلا تكون متضادة
قال المصنف ولا يخفى ما فيه من أن الحركة في النصفين مع اتحاد المسافة مختلفة يعني أن ما ذكروه إنما يدل على أن الحركة إلى التوالي والحركة إلى خلافه إذا اعتبر حالهما في نصفين متبادلين كانتا متماثلتين متحدتين في المبدأ
والمنتهى فلا يتصور بهذا الاعتبار بينهما تضاد ولا شك أنه إذا اعتبر حالهما في كل واحد من النصفين معا كانتا متخالفتين بل متضادتين فإن حركة المنحدر من السرطان إلى الجدي على التوالي مضادة لحركة الصاعد من الجدي إلى السرطان على خلاف التوالي للتضاد بين المبدأين والمنتهيين وإن كانا مفروضين مع اتحاد المسافة على قياس الصاعدة والهابطة المستقيمتين وكذا الحال في الصاعدة من الجدي إلى السرطان على التوالي والمنحدرة من السرطان إلى الجدي على خلاف التوالي نعم إذا اعتبر تمام الدورة فيهما اتحدت المسافة وكانت نقطة واحدة مبدأ ومنتهى لهما معا وكان الاختلاف بينهما بحسب التوجه منها وإليها وذكر في الملخص أن أمثال هذه المباحث لفظية لأنه إن أريد
272

بالضدين كل معنيين وجوديين يمتنع اجتماعهما دفعة واحدة في محل واحد كانت الحركة المستقيمة مضادة للمستديرة وكانت المستديرات أيضا متضادة لامتناع الاجتماع وإن أريد مع ذلك أن يكون ما منه وما إليه أمورا موجودة بالفعل متضادة فلا تضاد حينئذ بين المستقيمة والمستديرة ولا بين المستقيمات والمستديرات
المقصد التاسع
المتن
الحركة ليست كما بالذات بل بالعرض ويعرض لها ثلاثة أنواع من الانقسام
الأول بحسب المسافة لانطباقها فالحركة إلى نصفها نصف الحركة إلى كلها
الثاني بحسب الزمان لأنه عارض لها فالحركة في نصف ساعة نصف الحركة في ساعة وهذا غير الذي بحسب المسافة إذ قد يختلفان كالسريعة والبطيئة
الثالث بحسب المتحرك فإن الجسم إذا تحرك تحركت أجزاؤه المفروضة فيه والحركة القائمة بكل جزء غير القائمة بالآخر فإذا عرض له انفصال حصل لكل جزء حركة بالفعل
الشرح
المقصد التاسع الحركة ليست كما بالذات فإنها من المقولات النسبية لا من مقولة الكم بل هي كم بالعرض ويعرض لها بسبب الكمية العرضية ثلاثة أنواع من الانقسام
273

الأول بحسب المسافة لانطباقها فإن الحركة الأينية منطبقة على المسافة كأنها حالة فيها والمسافة منقسمة لانتفاء الجزء الذي لا يتجزأ فتنقسم الحركة بانقسامها فالحركة إلى نصفها نصف الحركة إلى كلها
الثاني بحسب الزمان فإنه عارض لها فينقسم بانقسام عارضها فالحركة في نصف ساعة نصف الحركة في ساعة وهذا الانقسام الثابت للحركة بحسب الزمان غير الانقسام الذي بحسب المسافة إذ قد يختلفان كالسريعة والبطيئة فإنه إذا فرض اتحادهما في المسافة والانقسام بحسبها فلا بد أن يختلف زمانها والانقسام بحسبه وإذا فرض اتحادهما في الزمان والانقسام بحسبه كانتا مختلفتين في الساعة والانقسام بحسبها
الثالث بحسب المتحرك فإن الجسم هو المتحرك وهو قابل للقسمة ولا شبهة في أنه إذا تحرك الجسم تحركت أجزاؤه المفروضة فيه والحركة القائمة بكل جزء غير القائمة بالآخر فقد انقسمت الحركة أيضا انقساما فرضيا كمحلها فإذا عرض له أي للجسم انفصال خارجي حصل لكل جزء حركة بالفعل فالحركة تابعة لمحلها في الانقسام الفرضي والفعلي الخارجي كالسواد القائم بالجسم فإنه يتبعه في هذين الانقسامين وقد نبهناك على أن الانقسام بحسب المسافة إنما يتصور في الحركة الأينية وأما الانقسام بحسب الزمان فشامل للحركة كلها وكذا الانقسام بحسب المتحرك إذا جعل المكان عبارة عن البعد وأما إذا جعل عبارة عن السطح فلا شك أن أجزاء الجسم إما متصلة أو متماسكة وعلى التقديرين فهي إما أن لا تفارق أمكنتها أصلا أو تفارق أجزاء من أمكنتها هي أجزاء لمكان الكل فهي غير مفارقة أمكنتها بالكلية فلا تكون متحركة
274

المقصد العاشر
المتن
ما يوصف بالحركة إما أن تكون الحركة فيه بالحقيقة أو لا
والثاني أنه متحرك بالعرض كراكب السفينة والأول إما أن يكون مبدأ الحركة في غيره وهي الحركة القسرية أو فيه إما مع الشعور وهي الإرادية أو لا وهي الطبيعية فالحركة النباتية طبيعية وكذا حركة النبض وقد أخطأ من جعل الحركة الطبيعية هي الصاعدة والهابطة أو التي على وتيرة واحدة
الشرح
المقصد العاشر ما يوصف بالحركة إما أن تكون الحركة حاصلة فيه بالحقيقة أي تكون الحركة عارضة له بلا توسط عروضها لشيء آخر أو لا بل تكون الحركة حاصلة في شيء آخر تقارنه فيوصف هذا بالحركة تبعا لذلك الشيء والثاني يقال له إنه متحرك بالعرض وتسمى حركته حركة عرضية كراكب السفينة
قال الكاتبي في هذا المثال نظر لأن الحركة هي الانتقال من مكان إلى آخر مع التوجه والراكب منتقل كذلك فيكون متحركا بالذات اللهم إلا أن يعتبر الانتقال من مكان إلى آخر مغاير للأول بجميع أجزائه فحينئذ يكون الراكب متحركا بالعرض لأن الهواء متبدل دون سطح السفينة وجوابه ظاهر إذ لا توجه في الراكب بل إنما يوصف به تبعا للسفينة ثم إن المتحرك بالعرض قد يكون قابلا للحركة كالدرة المتحركة بحركة الحقة وقد لا يكون كالصور والأعراض الحالة في الأجسام المنتقلة وأما ما لا يكون
275

جسما ولا حالا فيه كالنفس مع البدن فإنها لا توصف بالحركة تبعا لحركة البدن والأول يقال إنه متحرك بالذات وتسمى حركته حركة ذاتية وتنقسم حركته إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن يكون مبدأ الحركة في غيره وهي الحركة القسرية أو يكون مبدأ الحركة فيه إما مع الشعور أي شعور مبدأ الحركة بتلك الحركة وهي الحركة الإرادية أو لا مع الشعور وهي الحركة الطبيعية وعلى هذا فالحركة النباتية طبيعية وكذا حركة النبض لأن مبدأ هاتين الحركتين موجود في المتحرك ولا شعور له بالحركة الصادرة عنه وقد أخطأ من جعل الحركة الطبيعية هي الصاعدة والهابطة أي حصرها فيهما إذ يخرج عنها حينئذ حركة النبض كما مر في مباحث الميل والحركة النباتية أو جعل الحركة الطبيعية هي التي على وتيرة واحدة بلا شعور إذ يخرج عنها حينئذ هاتان الحركتان أيضا ومنهم من قسم الحركة إلى عرضية وذاتية والذاتية إلى ستة أقسام لأن القوة المحركة إن كانت خارجة عن المتحرك فالحركة قسرية وإن لم تكن خارجة عنه فإما أن تكون الحركة بسيطة أي على نهج واحد وإما مركبة لا على نهج واحد والبسيطة إما أن تكون بإرادة وهي الحركة الفلكية أو لا بإرادة وهي الطبيعية والمركبة إما أن يكون مصدرها القوة الحيوانية أو لا والثانية الحركة النباتية والأولى إما أن تكون مع شعور بها وهي الحركة الإرادية الحيوانية أو لا مع شعور وهي الحركة التسخيرية كحركة النبض
المقصد الحادي عشر
المتن
الحركة إما سريعة وهي التي تقطع مسافة مساوية في زمان أقل من زمانها ويلزمها أن تقطع الأكثر في المساوي وإما بطيئة وهي التي بالعكس فتقطع المساوي في الأكثر الأقل في المساوي وليس البطء لتخلل السكنات وإلا لم يحس بحركة فرس واللازم بطلانه ظاهر بيان الملازمة أن البطء لو لم يكن إلا لتخلل السكنات كان تفاوت السرعة والبطء بحسب
276

السكنات المتخللة فإذا عدا الفرس أشد عدو كانت حركته أبطأ من حركة المحدد بنسبة غير قليلة وتكون زيادة سكناته على حركاته كزيادة حركة المحدد على حركاته وأنه ألف ألف مرة فلا تظهر تلك الحركات القليلة في تلك السكنات الكثيرة
واعلم أن دلائل إبطال الجزء المبنية على تلازم الحركتين كما ستنتهي النوبة إليه تدل على بطلان هذا
وبالجملة فهذا البحث مبني على بحث الجزء وفرع من فروعه يدور معه صحة وبطلانا منها أنا إذا غرزنا خشبة في الأرض فإذا كانت الشمس في أفقها الشرقي وقع الظل في الجانب الغربي ولا يزال يتناقص إلى أن تبلغ الشمس غاية ارتفاعها وكلما ارتفعت الشمس انوقف الظل جاز في الثاني والثالث فيجوز أن تتم الشمس الدورة والظل بحاله وإن تحرك جزء كان بإزاء كل حركة للشمس حركة للظل أقل فثبت أن السرعة والبطء بلا تخلل سكنات ويمكن المضايقة في قولهم لو جاز أن تتحرك الشمس جزء والظل بحاله لجاز في الكل وإذا كان كذلك جاز أن يتم الدورة والظل بحاله فإن ذلك جائز عندنا والعادة هي القاضية بعدمها من غير استحالة عندنا وهي تستند إلى الفاعل المختار ومنه يعلم
جواب قولهم علة الحركة مستمرة من أول المسافة إلى آخرها فكذا الحركة
تنبيه الاختلاف بالسرعة والبطء ليس اختلافا بالنوع فإن الحركة الواحدة سريعة بالنسبة إلى حركته وبطيئة إلى أخرى ولأنهما قابلان للاشتداد والتنقص
الشرح
المقصد الحادي عشر الحركة إذا قيست إلى حركة أخرى فهي إما سريعة وهي التي تقطع مسافة مساوية لمسافة أخرى في زمان أقل من زمانها ويلزمها أي الحركة السريعة أن تقطع الأكثر أي المسافة التي مقدارها أكثر في الزمان المساوي يعني أنه إذا فرض تساوي الحركتين في
277

المسافة كان زمان السريعة أقل وإذا فرض تساويهما في الزمان كانت مسافة السريعة أكثر فهذان الوصفان لازمان مساويان للسريعة ولذلك عرفت بكل واحد منهما وأما قطعها لمسافة أطول في زمان قصر فخاصة قاصرة وأما بطيئة وهي التي بالعكس فتقطع المساوي من المسافة في الزمان الأكثر أو تقطع الأقل من المسافة في الزمان المساوي وربما قطعت مسافة أقل في زمان الأكثر لكنه غير شامل لها وليس البطء أي ليس كل بطء لتخلل السكنات بين الحركات وإلا لم يحس بحركة الفرس وإن فرضت سريعة جدا واللازم بطلانه ظاهر بيان الملازمة أن البطء لو لم يكن إلا لتخلل السكنات فيما بين الحركات كان تفاوت السرعة والبطء بحسب تفاوت السكنات المتخللة في القلة والكثرة فإذا عدا فرس أشد عدو كما إذا قدر أنه عدا من أول اليوم إلى منتصفه خمسين فرسخا كان حركته هذه أبطأ من حركة المحدد بنسبة غير قليلة لأنها قطعت في المدة المذكورة ربع الدور وهو زائد على مسافة حركة الفرس بما لا يحيط الوهم به ويكون حينئذ زيادة سكناته أي سكنات الفرس على حركاته كزيادة حركة المحدد على حركاته لأن عدد سكناته يساوي عدد زيادات حركة المحدد لا محالة وأنه أي زيادة حركة المحدد على حركاته ألف ألف مرة فتكون زيادة سكناته على حركاته أيضا ألف ألف مرة فلا تظهر تلك الحركات القليلة في تلك السكنات الكثيرة مثل هذه الكثرة الغامرة لتلك القليلة فوجب أن لا يحس بهذه الحركة أصلا وهو باطل قطعا لأنا نحس بحركاته ولا نحس بشيء من سكناته
واعلم أن دلائل إبطال الجزء المبنية على تلازم الحركتين المتخالفتين بالسرعة
278

والبطء وهي ستة كما ستنتهي النوبة إليه أي إلى ذكرها تدل على بطلان هذا يعني كون البطء منحصرا في تخلل السكنات فيجوز أن يستدل بها ههنا
وبالجملة فهذا البحث وهو كون البطء للتخلل مبني على بحث الجزء وفرع من فروعه يدور معه صحة وبطلانا منها أي من تلك الدلائل الستة أنا إذا غرزنا خشبة في الأرض فإذا كانت الشمس في أفقها الشرقي وقع الظل في الجانب الغربي طويلا ولا يزال يتناقص الظل بحسب ازدياد ارتفاع الشمس إلى أن تبلغ الشمس غاية ارتفاعها وكلما ارتفع أي إذا ارتفع الشمس مقدارا إن وقف الظل ولم ينتقص أصلا جاز ذلك في الثاني والثالث فيجوز حينئذ أن تتم الشمس الدورة والظل بحاله وهو باطل وإن تحرك الظل جزءا كلما تحركت الشمس جزءا يمكن أن يكون هذان الجزءان متساويين في المقدار ولا أن يكون جزء الظل أكبر بل وجب أن يكون أصغر وحينئذ كان بإزاء كل حركة للشمس نحو الارتفاع حركة للظل نحو الانتقاص أقل من الحركة الاتفاعية في المقدار فتكون حركة الظل أبطأ بلا تخلل سكون فثبت أن السرعة والبطء بلا تخلل سكنات ويمكن المضايقة في قولهم لو جاز أن تتحرك الشمس جزءا والظل بحاله لجاز في الكل وإذا كان كذلك جاز أن يتم الدورة والظل بحاله فإن ذلك أي إتمام الدورة مع بقاء الظل على حاله جائز عندنا لأن جميع الموجودات مستندة إليه تعالى ابتداء بلا وجوب ولا إيجاب والعادة هي القاضية بعدمها أي عدم هذه الحالة أعني بقاء الظل على حاله مع إتمام الدورة من غير استحالة فيها عندنا وهي أي حركة الشمس والظل تستند إلى الفاعل المختار فيجوز أن يوجد حركة الشمس إلى تمام الدورة ولا يوجد معها
279

حركة الظل أصلا إلا أن عادته تعالى جرت بخلاف ذلك فما حكمتم باستحالته ليس بمحال بل هو معدوم بقضاء العادة ومنه أي ومما ذكرنا في دفع الاستدلال المذكور يعلم جواب قولهم علة الحركة مستمرة من أول المسافة إلى آخرها فكذا الحركة يعني أنهم استدلوا على بطلان تخلل السكنات في الحركة بأن علة حركة الحجر مثلا قسرية كانت أو طبيعية مستمرة الوجود من أول المسافة إلى آخرها والهواء قابل للانخراق بلا تفاوت فوجب أن تستمر تلك الحركة من غير أن يتخللها توقف وسكون في بعض الأحياز مع كونها أبطأ من الحركة الفلكية بلا شبهة فثبت البطء بلا تخلل السكنات
والجواب أن تلك الحركة عندنا مستندة إلى الفاعل المختار لا إلى القاسر أو الطبيعة فجاز أن يحرك الحجر في حيز ويسكنه في آخر مع تساويهما في قبول الحركة والسكون
تنبيه الاختلاف بالسرعة والبطء ليس اختلافا بالنوع فإن الحركة الواحدة سريعة بالنسبة إلى حركة وبطيئة بالنسبة إلى أخرى مع أن ماهيتهما واحدة لا اختلاف فيها ولأنهما أي السرعة والبطء قابلان للاشتداد والتنقص فإن المسافة الواحدة يمكن قطعها بحركات مختلفة في مراتب السرعة والبطء فلا يكونان فصلين للحركات لأن الفصول لا تقبل الاشتداد والتنقص
المقصد الثاني عشر
المتن
قال الحكماء علة البطء إما في الطبيعية فممانعة المخروق فكلما كان قوامه أغلظ كان أشد ممانعة كالماء مع الهواء وإما في القسرية
280

والإرادية فممانعة الطبيعة وكلما كان الجسم أكبر والطبيعة أكثر كان أشد ممانعة وإن اتحد المخروق أو مع ممانعة المخروق وربما عاوق أحدهما أكثر والآخر أقل فتعادلا
الشرح
المقصد الثاني عشر قال الحكماء علة البطء إما في الحركات الطبيعية فممانعة المخروق الذي في المسافة فكلما كان قوامه أغلظ كان أشد ممانعة للطبيعة وأقوى في اقتضاء بطء الحركة كالماء مع الهواء فنزول الحجر إلى الأرض في الماء أبطأ من نزوله إليها في الهواء وإما في الحركات القسرية والإرادية فممانعة الطبيعة إما وحدها وذلك أنه كلما كان الجسم أكبر مقدارا وكان الطبيعة السارية فيه أكبر وأعظم كان ذلك الجسم بطبيعته أشد ممانعة للقاسر والمحرك بالإرادة وأقوى في اقتضاء البطء وإن اتحد المخروق والقاسر والمحرك الإرادي ومن ثمة كان حركة الحجر الكبير أبطأ من حركة الصغير في مسافة واحدة من قاسر واحد أو ممانعة الطبيعة مع ممانعة المخروق كالسهم المرمي بقوة واحدة تارة في الماء وتارة في الهواء وكالشخص السائر فيهما بإرادته وربما عاوق أحدهما أكثر والآخر أقل فتعادلا يعني أن معاوقة طبيعة الجسم الأكبر أكثر من معاوقة طبيعة الأصغر فإذا فرض أن معاوقة مخروق الأصغر أكثر من معاوقة مخروق الأكبر على تلك النسبة انجبر التفاوت الذي بحسب الطبيعة وتعادل الجسمان في المعاوقة المركبة وتساويا في الحركة مثل أن يحرك قاسر واحد الجسم الكبير في الهواء والصغير في الماء الذي تزيد معاوقته على معاوقة الهواء بمقدار الزيادة التي في طبيعة الأكبر
المقصد الثالث عشر
المتن
ذهب بعض الحكماء والجبائي من المعتزلة إلى أن بين كل حركتين مستقيمتين كصاعدة وهابطة سكونا وإن كل حركة مستقيمة تنتهي إلى
281

سكون لأنها لا تذهب إلى غير النهاية ومنعه غيرهم وأما المثبتون فلكل من الفريقين في إثباته طريق فقال الحكماء الوصول إلى المنتهى آني فكذلك الميل الموجب له والرجوع آني فكذلك الميل الموجب له آني وآن الوصول غير آن الرجوع لامتناع اجتماعهما فلو لم يكن بينهما زمان لزم تتالي الآنات وأنه باطل فذلك الزمان لا حركة فيه فهو سكون
والجواب أن الوصول في آن هو طرف حركة والرجوع في آن هو طرف حركة فلم لا يجوز أن يكون حدا مشتركا بينهما وأما الآن بمعنى جزء زمان لا ينقسم فأنتم لا تقولون به قولكم آن الرجوع غير آن الوصول
قلنا نعم لكن باعتبار كونه منتهى لزمان الحركة الموصلة ومبدأ لزمان حركة الرجوع
وقال الجبائي لا شك أن الاعتماد المجتلب في الحجر يغلب اللازم فيصعد متدرجا في الضعف إلى أن يغلب اللازم المجتلب فينزل ولا شك أن غلبته إنما تكون بعد التعادل بينهما إذ لا ينقلب من المغلوبية إلى الغالبية دفعة وعند التعادل
يجب السكون وإلا لزم الترجيح بلا مرجح وأما المنكرون فقال الحكماء فإذا صعد الخردلة وهبط الجبل وتلاقيا وجب وقوف الخردلة وذلك يوجب وقوف الجبل بمصادمتها لامتناع التداخل واللازم ضروري البطلان
وقد يجاب بأن الخردلة لا تصادم الجبل بل ترجع بريحه فذلك فرض محال ويجوز استلزامه للمحال
وقالت المعتزلة لا سكون إذ لا يوجبه الاعتماد اللازم فإنه يقتضي الحركة النازلة ولا المجتلب فإنه يقتضي الصاعد ولا مولد للحركة والسكون إلا الاعتماد
وقد يجيب الجبائي على أصله لا نسلم أنه لا مولد غيره بل هو الحركة فالحركة الصاعدة توجب السكون بشرط تعادل الاعتمادين وقد مر في الاعتماد
282

الشرح
المقصد الثالث عشر ذهب بعض الحكماء كأرسطو وأتباعه والجبائي من المعتزلة إلى أن بين حركتين مستقيمتين كصاعدة وهابطة سكونا فالحجر إذا صعد قسرا ثم رجع فلا بد أن يسكن فيما بينهما ومحصول ما ذكروه أن كل حركة مستقيمة تنتهي البتة إلى سكون وذلك لأنها لا تذهب على الاستقامة إلى غير النهاية فإن الأبعاد متناهية فإما أن تنقطع وهو ظاهر أو ترجع على سمتها أو تنعطف على سمت آخر وعلى التقديرين لا بد من سكون بين هاتين المستقيمتين فتكون الأولى منقطعة ومنعه غيرهم كأفلاطون من الحكماء وأكثر المتكلمين من المعتزلة وأما المثبتون فلكل من الفريقين في إثباته طريق فقال الحكماء الوصول إلى المنتهى آني إذ لو كان زمانيا ففي النصف الأول من ذلك الزمان إن حصل الوصول فذلك النصف هو زمان الوصول لا كله وهو خلاف المفروض وإن لم يحصل كان حاصلا في النصف الثاني ويعود المحدور والأظهر أن يقال الحد الذي هو منتهى المسافة الممتدة لا يكون منقسما في ذلك الامتداد وإلا لم يكن بتمامه حدا فالوصول إليه آني إذ لو كان زمانيا لكان ذلك الحد منقسما لتعلق الوصول به شيئا فشيئا ثم إن للوصول علة هي الميل فوجب أن تكون هذه العلة موجودة في آن الوصول
283

لأن العلة الموجدة يجب وجودها حال وجود المعلول وهذا هو المراد بقوله فكذلك الميل الموجب له أي هو أيضا موجود في ذلك الآن مع حدوثه في آن ابتداء الحركة واستمراره إلى انتهائها والرجوع عن المنتهى أيضا آني كالوصول فكذلك الميل الموجب له آني أي حادث في آن وآن الوصول غير آن الرجوع لامتناع اجتماعهما فلو لم يكن بينهما زمان لزم تتالي الآنات وتركب الزمان منها وأنه باطل إذ يلزم حينئذ تركب الحركة من أجزاء لا تتجزأ فيلزم تركب المسافة أيضا منها فذلك الزمان لا حركة فيه لا إلى المنتهى ولا عنه فهو سكون أي زمان سكون
والجواب أن الوصول في آن هو طرف حركة متوجهة نحو المنتهى والرجوع في آن هو طرف حركة منصرفة عنه فلم لا يجوز أن يكون آن واحد حدا مشتركا بينهما أي بين الحركتين بل بين زمانيهما فإن الطرف الواحد يجوز أن يكون مشتركا بين شيئين كالنقطة الواحدة المشتركة بين خطين بخلاف الجزء ولذلك قال وأما الآن بمعنى جزء زمان لا ينقسم ذلك الجزء فأنتم لا تقولون به حتى يمتنع اشتراكه بين زماني الحركتين قولكم آن الرجوع غير آن الوصول قلنا نعم بينهما تغاير لكن لا بالذات بل باعتبار كونه منتهى لزمان الحركة الموصلة ومبدأ لزمان حركة الرجوع واعلم أن الحجة المشهورة للمثبتين من الحكماء هي أن المتحرك إلى المنتهى إنما يصل إليه في آن وإذا تحرك عنه بعد كونه واصلا إليه فلا محالة يصير مفارقا ومباينا له في آن أيضا ولا يمكن اتحاد الآنين وإلا كان واصلا إلى المنتهى ومباينا له معا فوجب تغايرهما بالذات واستحال تتاليهما بلا تخلل زمان بينهما لاستلزامه القول بالجزء وذلك الزمان زمان سكون إذ لا حركة هناك لا إلى ذلك الحد ولا عنه وأبطلها ابن سينا بأن المفارقة والمباينة هي حركة الرجوع فهناك آنان آن يقع فيه ابتداء الرجوع والمباينة
284

وآن يصدق فيه على المتحرك أنه مفارق مباين لذلك الحد الذي هو المنتهى فإن عنوا بأن المباينة طرف زمان المباينة نختار أن ذلك الآن هو بعينه آن الوصول بأن يكون حدا مشتركا بين زمان الحركتين فإن طرف الحركة يجوز أن يكون شيئا ليس فيه حركة أصلا وإن عنوا به آنا يصدق فيه على المتحرك أنه راجع مباين نختار أنه مغاير لآن الوصول وأن بين الآنين زمانا لكنه ليس زمان السكون بل زمان الحركة وهو بعض حركة الرجوع فإن كل آن يفرض في زمان وقع فيه حركة الرجوع يكون بينه وبين آن ابتداء الرجوع بعض حركة الرجوع ثم أنه أقام الحجة على وجوب تخلل السكون بأن اعتبر الميل الموصل والميل الموجب لحركة المفارقة وحكم بأن اجتماعهما في آن واحد محال إذ يستحيل أن يجتمع في جسم الإيصال إلى حد والتنحية عنه فوجب أن يكون كل منهما في آن مغاير لآن الآخر بينهما زمان سكون كما مر والمصنف قرر الحجة التي أوردها ابن سينا وأجاب عنها بما هو جواب عن الحجة المشهورة فالصواب أن يجاب بمنع استحالة اجتماع الميلين أو بتجويز تتالي الآنين أو بمنع بقاء الميل الموصل فإنه علة معدة للوصول كالحركة فلا يجب بقاؤه مع المعلول مثلها أو يمنع حدوث الميل في آن بل هو زماني كالحركة
وقال الجبائي لا شك أن الاعتماد المجتلب في الحجر يغلب الاعتماد اللازم إذ الحادث أقوى من الباقي فيصعد الاعتماد المجتلب في الحجر ويضعف بمصاكات الهواء المخروق متدرجا في الضعف إلى أن يغلب اللازم المجتلب فينزل الحجر ولا شك أن غلبته على المجتلب إنما تكون بعد التعادل بينهما إذ لا ينقلب المغلوب من المغلوبية إلى الغالبية دفعة من غير تخلل تعادل وعند التعادل يجب السكون وإلا لزم
285

الترجيح بلا مرجح إذ لو لم يسكن لكان متحركا إما بالاعتماد اللازم أو بالاعتماد المجتلب مع تعادلهما وتساويهما فيكون تحكما محضا
والجواب عنه أن الجبائي ليس قائلا بتوليد الاعتماد للحركة ولا للسكون فهذا لا يوافق مذهبه كما مر في مباحث الاعتماد مع أنه غير شامل للحركات الإرادية الصادرة عن الحيوانات وأما المنكرون لتخلل السكون بين المستقيمتين فلكل من الفريقين أيضا في إنكاره طريق فقال الحكماء إن صح وجوب السكون بينهما فإذا فرض أنه صعد الخردلة وهبط الجبل وتلاقيا في الجو بحيث يماس سطحها سطحه فلا شك أنه تنزل الخردلة راجعة وحينئذ وجب وقوف الخردلة لتوسط السكون بين حركتيهما الصاعدة والهابطة وذلك يوجب وقوف الجبل بمصادمتها لامتناع التداخل بين الأجسام اللازم ضروري البطلان إذ كل عاقل يعلم أن الجبل لا يقف في الجو بمصادمة الخردلة وقد يجاب بأن الخردلة لا تصادم الجبل ولا تماسه في الصورة المفروضة بل ترجع بريحه فإذا وصل إليها ريحه وقفت ثم رجعت قبل الوصول إلى الجبل فذلك الذي ذكرتموه من تلاقيهما فرض محال ويجوز استلزامه للمحال الذي هو وقوف الجبل وقالت المعتزلة لا سكون بين الحركتين إذ لا يوجبه الاعتماد اللازم فإنه يقتضي الحركة النازلة لا السكون ولا يوجبه الاعتماد المجتلب فإنه يقتضي الحركة الصاعدة لا السكون ولا مولد للحركة والسكون إلا الاعتماد وقد يجيب الجبائي على أصله فيقول لا نسلم أنه لا مولد غيره بل المولد هو الحركة السابقة فالحركة الصاعدة توجب حركة هابطة بشرط غلبة الاعتماد اللازم وتوجب السكون بشرط تعادل الاعتمادين وقد مر ذلك في مباحث الاعتماد
286

المرصد الخامس في الإضافة
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
الأبوة هي المعقولة بالقياس إلى الغير ولا حقيقة لها إلا ذلك وهي الإضافة التي تعد من المقولات وتسمى مضافا حقيقيا ويقال لذات الأب المعروضة لهذا العارض إضافة وكذا للمعروض مع العارض وهذان يسميان مضافا مشهوريا
تنبيه قولهم المضاف ما يعقل ماهيته بالقياس إلى الغير لا يراد به أنه يلزم من تعقله تعقل الغير فإن اللوازم البينة كذلك بل أن يكون من حقيقته تعقل الغير فلا يتم تعقله إلا بتعقل الغير وهذا يتناول المضاف الحقيقي والقسم الثاني من المشهوري أعني المركب فلو أردنا تخصيصه بالحقيقي قلنا ما لا مفهوم له إلا معقولا بالقياس إلى الغير
الشرح
المرصد الخامس في الإضافة جعل المرصد الرابع في
287

المقولات النسبية واستوفى فيه بيان أحوال الأين على مذهبي المتكلمين والحكماء وأفرد منها الإضافة في مرصد على حدة واكتفى في سائر النسب بما مضى في صدر الموقف الثالث إذ ليس فيها مزيد بحث وهو مقاصد خمسة الأول الأبوة هي المعقولة بالقياس إلى الغير ولا حقيقة لها إلا ذلك أي ليس حقيقتها سوى أنها نسبة معقولة بالقياس إلى نسبة أخرى معقولة بالقياس إلى الأولى وحاصلها النسبة المتكررة كما مر وهي الإضافة التي تعد من المقولات وتسمى مضافا حقيقيا ويقال لذات الأب المعروضة لهذا العارض إضافة أيضا وكذا يقال الإضافة للمعروض مع العارض
وهذان يسميان مضافا مشهوريا فلفظ الإضافة كلفظ المضاف يطلق على ثلاثة معان العارض وحده والمعروض وحده والمجموع المركب منهما
تنبيه قولهم المضاف ما يعقل ماهيته بالقياس إلى الغير لا يراد به أنه يلزم من تعقله تعقل الغير فإن اللوازم البينة كذلك أي هي بحيث يلزم تعقل ملزوماتها فيدخل جميع الماهيات البينة اللوازم في تعريف المضاف بل يراد به أن يكون من حقيقته تعقل الغير فلا يتم تعقله إلا بتعقل الغير أي هو في حد نفسه بحيث لا يتم تعقل ماهيته إلا بتعقل أمر خارج عنها وإذا قيد ذلك الغير بكونه نسبة يخرج سائر النسب ويبقى هذا القول يتناول المضاف الحقيقي والقسم الثاني من المشهوري أعني المركب وأما القسم الأول منه أعني المعروض وحده فليس لنا غرض يتعلق في مباحث الإضافة فلو أردنا تخصيصه بالحقيقي قلنا ما لا مفهوم له إلا معقولا بالقياس إلى
288

الغير على الوجه الذي تحققته فإن المركب مشتمل على شيء آخر كالإنسان مثلا
المقصد الثاني
المتن
للمضاف خواص
الأولى التكافؤ في الوجود والعدم بحسب الذهن والخارج فكلما وجد أحدهما في الذهن أو في الخارج وحد الآخر فيه وكلما عدم عدم
فإن قيل فما قولك في المتقدم والمتأخر قلنا لا وجود للحقيقي منهما إلا في الذهن وهما معا فيه وأما معروضاهما فقد ينفكان كالمالك والمملوك والأب والابن
الثانية وجوب التكافؤ في النسبة ويعبر به بالانعكاس وهو أن يحكم بإضافة كل إلى صاحبه من حيث كان هو مضافا إليه فكما أن الأب أبو الابن فالابن ابن الأب وإنما اعتبرنا الحيثية لأنه لم يجب الانعكاس فإنك إذا قلت هذا أب لإنسان لم يلزم أن هذا إنسان لأب وقد تصعب رعاية قاعدة الانعكاس سيما إذا لم يكن من الجانب الآخر اسم كالجناح فاعتبره من الطرف الآخر بلفظ دال على النسبة كذي الجناح
الشرح
المقصد الثاني للمضاف خواص أي خاصتان
الأولى التكافؤ في الوجود والعدم بحسب الذهن والخارج فكلما وجد أحدهما في الذهن أو في الخارج وجد الآخر فيه وكلما عدم أحدهما في أحدهما عدم الآخر فيه فإن قيل فما قولك في المتقدم والمتأخر بحسب الزمان فإنهما متضايفان مع أن المتقدم الزماني لا وجود له بالاعتبار الذي به كان متقدما مع المتأخر الزماني وكذا المتأخر لا وجود
289

له مع وجود المتقدم قلنا لا وجود للحقيقي منهما إلا في الذهن فإن التقدم والتأخر أمران اعتباريان يعتبرهما العقل إذا قاس ذات المتقدم إلى ذات المتأخر فيكون المجموع المركب منهما ومن معروضهما أيضا اعتباريا فلا وجود للمضايفين ههنا في الخارج بل في الذهن وهما معا فيه فالتكافؤ بين الحقيقيين وكذا بين المشهورين المعتبرين باق بحاله وأما معروضاهما إذا أخذا وحدهما فقد ينفكان كالمالك والمملوك والأب والابن والمتقدم والمتأخر وليس كلامنا في ذات المعروض وحده كما نبهناك عليه
الخاصة الثانية وجوب التكافؤ في النسبة ويعبر عنه أي عن التكافؤ في النسبة بالانعكاس ويقال الخاصة الثانية وجوب الانعكاس وهو أن يحكم بإضافة كل من المضافين إلى صاحبه من حيث كان هو مضافا إليه يعني أنه إذا أخذ ذات كل واحد من المضافين من حيث أنه مضايف لصاحبه ونسب أحدهما إلى الآخر وجب أن تنعكس هذه النسبة فينتسب الآخر إليه أيضا فكما أن الأب أبو الابن فالابن ابن الأب وإنما اعتبرنا الحيثية وقلنا من حيث كان مضافا إليه لأنه إذا لم يراع هذه الحيثية لم يجب الانعكاس فإنك إذا قلت هذا أب لإنسان لم يلزم أن هذا إنسان لأب والحاصل أن هذه الخاصة إنما هي للمضاف المشهوري أعني المعروض المأخوذ من حيث أنه معروض لعارضه كالأب والابن والعالم والمعلوم والعاشق والمعشوق حتى إذا نسب أحد المشهوريين إلى صاحبه وجب انعكاس هذه النسبة وأما المضاف الحقيقي فلا نسبة فيه حتى يتصور
290

الانعكاس إذ لا معنى لقولك الأبوة أبوة البنوة وفي قيد الحيثية إشارة إلى ذلك لمن كان له قلب فتذكر
وقد تصعب رعاية قاعدة الانعكاس سيما إذا لم يكن له أي للمضاف من الجانب الآخر اسم كالجناح فإنه اسم لأحد المتضايفين مأخوذا مع إضافته وليس للمضاف الآخر أعني الطير اسم كذلك فيقال الجناح جناح الطير ولا يقال الطير طير الجناح وإن شئت رعاية قاعدة الانعكاس ههنا فاعتبره أي المضاف من الطرف الآخر بلفظ دال على النسبة كذي الجناح فإنه يجب الانعكاس حينئذ والضابط في معرفة طريق الانعكاس أن تجمع أوصاف كل واحد من الطرفين وتنظر فيها فأي وصف وجدته بحيث إذا وضعته ورفعت ما عداه بقيت الإضافة بينهما وإذا رفعته ووضعت غيره مكانه لم تبق تلك الإضافة فذلك الوصف هو الإضافة الحقيقية فإذا عبرت عن كل واحد من الطرفين بما يدل عليه مأخوذا مع الإضافة الحقيقية سواء كان لفظا مفردا أو مركبا ونسبت أحدهما إلى الآخر انعكست تلك النسبة قطعا
المقصد الثالث
المتن
الإضافة لا تستقل بوجودها فيكون تحصلها تبعا لتحصل لحوقها للغير ويفهم ذلك تارة بأن يؤخذ الملحوق والإضافة معا وليس ذلك هو المقولة وتارة بأن تؤخذ الإضافة مقرونا بها اللحوق الخاص كشيء واحد مقيد وهذا
291

تنوع الإضافة وتحصلها فالمشابهة وهو الاتحاد في الكيف غير الكيف فإذا اعتبرنا الاتحاد من حيث أنه في الكيف كان نوعا من الإضافة ثم الإضافة إذا كانت في طرف محصلة كانت في الطرف الآخر محصلة ويلزمه أنها إذا كانت في طرف مطلقة ففي الآخر مطلقة فالنصف في مقابلة الضعف وهذا النصف في مقابلة هذا الضعف هذا إذا حصلنا نفس الإضافة وأما إذا حصلنا موضوعها لم يلزم تحصيل المضاف المقابل له فتحصيل الرأس حتى يصير هذا الرأس لا يوجب تعيين من له الرأس
الشرح المقصد الثالث الإضافة لا تستقل بوجدها أي ليس لها وجود منفرد ليتصور تعينها بنفسها بل وجودها أن يكون أمرا لاحقا للأشياء فيكون تحصلها وتخصصها تبعا لتحصل لحوقها للغير وتخصصه ويفهم ذلك أي تحصلها تبعا للحوق تارة بأن يؤخذ الملحوق والإضافة معا فتتعين الإضافة على حسب تعين الملحوق واللحوق وليس ذلك المأخوذ على هذا الوجه هو المقولة بل هو أمر مركب من المقولة ومن معروضها وتارة بأن تؤخذ الإضافة مقرونا بها اللحوق الخاص كشيء واحد مقيد عارض ذلك الملحوق وهذا تنوع الإضافة وتحصلها فالمشابهة وهو الاتحاد والموافقة في الكيف غير الكيف المتحد الموافق فإذا اعتبرنا الاتحاد والموافقة من حيث أنه في الكيف كان نوعا من الإضافة المطلقة متحصلا بحسب لحوقه للكيف وكذا الحال في المساواة والمماثلة ثم الإضافة إذا كانت في طرف محصلة كانت في الطرف الآخر محصلة أيضا على حسب تحصيل الطرف الأول شخصيا كان أو نوعيا ويلزمه بسبب استلزام نقيض اللازم نقيض الملزوم أنها إذا كانت في طرف مطلقة أي غير محصلة ففي الطرف
292

الآخر مطلقة أيضا فالنصف المطلق في مقابلة الضعف المطلق وهذا النصف في مقابلة هذا الضعف فظهر أن أي المضافين عرفت بالتحصيل والتعيين عرف الآخر به لكن هذا إذا حصلنا نفس الإضافة الحقيقية كالنصفية والضعفية وأما إذا حصلنا موضوعها فقط لم يلزم تحصيل المضاف المقابل له فتحصيل الرأس حتى يصير هذا الرأس لا يوجب تعيين من له رأس يعني أن الرأسية إضافة عارضة بعضو مخصوص بالقياس إلى ذي الرأي فإذا حصلنا ذلك العضو من حيث أنه جوهر معين حتى صار هذا الرأس لم يلزم تحصيل الشخص الذي هو ذو الرأس نعم إذا حصلنا الرأسية التي هي الإضافة الحقيقية حتى تصير هذه الرأسية وجب أن تتحصل الإضافة في الطرف الآخر فيكون الرأس وذو الرأس متعينين حينئذ
المقصد الرابع
المتن
تلحق الإضافة تقسيمات
الأول إما أن تتوافق من الطرفين كالجوار وإما أن تتخالف كالابن والأب والمتخالف إما محدود كالضعف والنصف أو لا كالأقل والأكثر
الثاني أنه قد تكون لصفة في كل واحد من المضافين كالعشق فإنه لإدراك العاشق وجمال المعشوق أو لصفة في
أحدهما كالعالمية فإنها لصفة في العالم وهو العلم دون المعلوم وإلا فللمعدوم بكونه معلوما صفة وقد لا تكون لصفة أصلا كاليمين واليسار
الثالث قال ابن سينا تكاد الإضافة تنحصر في أقسام في المعادلة
293

كالغالب والقاهر والمانع وفي الفعل والانفعال كالقطع والكسر وفي المحاكاة كالعلم والخبر وفي الاتحاد كالمجاورة والمشابهة
الرابع الإضافة قد تعرض للمقولات كلها فالجوهر كالأب والابن والكم كالصغير والكبير والقليل والكثير والكيف كالأحر والأبرد والمضاف كالأقرب والأبعد والأين كالأعلى والأسفل ومتى كالأقدم والأحدث والوضع كالأشد انحناء وانتصابا والملك كالأكسى والأعرى والفعل كالأقطع والانفعال كالأشد تسخنا
الخامس قد يكون لها من الطرفين اسم أو من أحدهما أو لا
السادس قد يوضع لها ولموضوعها اسم فيدل عليها بالتضمن
الشرح
المقصد الرابع يلحق الإضافة تقسيمات من وجوه
الأول إما أن تتوافق الإضافة من الطرفين كالجوار والأخوة وإما أن تتخالف كالابن والأب فإن البنوة والأبوة متخالفتان في الماهية والمتخالف إما محدود كالضعف والنصف فإن ضعفه شيء واحد تكون القياس إلى واحد آخر لا إلى أمور كثيرة وكذا النصفية أو لا محدود كالأقل والأكثر فإن أقلية شيء واحد قد تكون بالقياس إلى أشياء متعددة وكذا الأكثرية
الثاني أنه قد تكون الإضافة لصفة موجودة في كل واحدة من المضافين كالعشق فإنه لإدراك العاشق وجمال المعشوق فكل واحدة من العاشقية والمعشوقية إنما ثبت في محلها بواسطة صفة موجودة فيه أو لصفة في أحدهما فقط كالعالمية فإنها لصفة موجودة في العالم وهو العلم
294

دون المعلوم فإنه متصف بالمعلومية من غير أن يكون له صفة موجودة تقتضي اتصافه بها وإلا فللمعدوم بكونه معلوما صفة موجودة وقد لا تكون الإضافة لصفة حقيقية أصلا أي في شيء من الطرفين كاليمين واليسار إذ ليس للمتيامن صفة حقيقية بها صار متيامنا وكذلك المتياسر
الثالث قال ابن سينا تكاد الإضافة تنحصر في أقسام في المعادلة كالغالب والقاهر والمانع وفي الفعل والانفعال كالقطع والكسر وفي المحاكاة كالعلم والخبر وفي الاتحاد كالمجاورة والمشابهة والمماثلة والمساواة واعلم أن المنقول في المباحث المشرقية من كلامه هو هكذا تكاد تكون المضافات منحصرة في أقسام المعادلة والتي بالزيادة والتي بالفعل والانفعال ومصدرهما من القوة والتي بالمحاكاة فأما التي بالزيادة فإما من الكم وهو ظاهر وإما من القوة كالغالب والقاهر والمانع وإما التي بالفعل والانفعال فكالأب والابن والقاطع والمنقطع وأما التي بالمحاكاة فكالعلم والمعلوم والحس والمحسوس فإن العلم يحاكي هيئة المعلوم والحس يحاكي هيئة المحسوس على أن ذلك لا يضبط تقديره ولا يلتبس عليك أنه لو بدل في عبارة الكتاب لفظ المعادلة بلفظ الزيادة لتطابق المنقولان بحسب المعنى إذ يكون حينئذ قوله وفي الاتحاد قائما مقام المعادلة وأما وقوع الخبر موقع الحس فلا بأس به لأن الخبر أيضا حكاية هيئة المخبر عنه
الرابع الإضافة قد تعرض للمقولات كلها بل للواجب تعالى أيضا كالأول فالجوهر كالأب والابن والكم كالصغير والكبير من المقادير والقليل والكثير من الأعداد والكيف كالأحر والأبرد والمضاف كالأقرب والأبعد والأين كالأعلى والأسفل ومتى كالأقدم والأحدث والوضع
295

كالأشد انحناء وانتصابا والملك كالأكسى والأعرى والفعل كالأقطع والانفعال كالأشد تسخنا
الخامس قد يكون لها من الطرفين اسم أي يكون لها باعتبار كل واحد من طرفيهما اسم مفرد مخصوص بذلك الطرف كالأبوة والبنوة أو من أحدهما فقط كالمبدئية أو لا يكون لها اسم مخصوص بشيء من طرفيها كالأخوة
السادس قد يوضع لها ولموضوعها معا اسم فيدل ذلك الاسم عليها بالتضمن سواء كان اسما مشتقا كالعالم أو غير مشتق كالجناح
المقصد الخامس
المتن
ومن أقسام المضاف التقدم والتأخر قال الحكماء التقدم على خمسة أوجه
الأول بالعلية كتقدم المضيء على الضوء وحركة الإصبع على حركة الخاتم فإن العقل يحكم بأنه تحرك الإصبع فتحرك الخاتم ولا عكس وليس ذلك بالزمان وإلا لزم التداخل ولا بالذات فإن حركة الإصبع لها ذات منفصلة عن حركة الخاتم بل لأن وجودها أتم في نفسه فأوجب وجودها
الثاني التقدم بالذات كتقدم الواحد على الاثنين فإنه لا يعقل ذات الاثنين وهو ذات هذا الواحد وذاك الواحد ولا يتم له ذات إلا بذاتهما سواء فرضنا لهما وجودا أم لا بل ذلك حكم له باعتبار ذاته وحقيقته بخلاف الأول
296

الثالث التقدم بالزمان كتقدم موسى على عيسى عليهما السلام فإنه ليس لذات موسى ولا لشيء من عوارضه إلا الزمان فمعناه أن موسى وجد في زمان ثم انقضى ذلك الزمان وجاء زمان فيه عيسى ومغايرته للأولين بينة
الرابع التقدم بالشرف كما لأبي بكر على عمر رضي الله عنهما
الخامس التقدم بالرتبة بأن يكون أقرب إلى مبدأ معين والترتيب إما عقلي كما في الأجناس أو وضعي كما في صفوف المسجد ويختلف ذلك بما تجعله مبدأ فقد تبتدئ من المحراب وقد تبتدئ من الباب
وقال المتكلمون ههنا نوع آخر من التقدم كما لأجزاء الزمان بعضها على بعض فإنه ليس تقدما بالعلية ولا بالذات لعدم الاقتران ولا بالشرف والرتبة وهو ظاهر ولا بالزمان وإلا لزم التسلسل وقد أبطلنا ذلك وقد يجاب عنه بأن ذلك هو التقدم بالزمان وأنه لا يعرض إلا للزمان فإذا أطلقناه على غيره كان ذلك تقدما بالعرض كما أن القسمة تعرض للكم فإذا عرضت لغيره كان بواسطة الكم وذلك لا يوجب للكم كما آخر فكذلك ههنا إذا قلنا لغير الزمان أنه متقدم أردنا أن زمانه متقدم ولا يوجب ذلك أن يكون للزمان زمان وهذا مبني لأبحاث كثيرة بين الطائفتين فتأمل فيه
وربما تكلف الحكماء للحصر وجها فقالوا التقدم إما أن يكون حقيقيا أو اعتباريا
والأول لا بد فيه من توقف للمتأخر على المتقدم من غير عكس
297

فالمتوقف إما بحسب الذات وإما بحسب الوجود مع اشتراطه بالعدم الطارئ عليه أم لا
والثاني لا بد من مبدأ تعتبر إليه النسبة وذلك إما كمال أم لا
تنبيهان
الأول الماضي مقدم على المستقبل عند الجمهور نظرا إلى ذاتهما ومنهم من عكس الأمر نظرا إلى عارضيهما فإن كل زمان يكون أولا مستقبلا ثم يصير حالا ثم يصير ماضيا فكونه مستقبلا يعرض له قبل كونه ماضيا
الثاني جميع أنواع التقدم مشترك في معنى واحد
وهو أن للمتقدم أمرا زائدا ليس للمتأخر ففي الذاتي كونه مقوما وفي العلي كونه موجدا وفي الزماني كونه مضيء له زمان أكثر لم يمض للمتأخر وفي الشرفي زيادة كمال وفي الرتبي وصول إليه من المبدأ أو لا
المقصد الخامس ومن أقسام المضاف التقدم والتأخر قال الحكماء التقدم على خمسة أوجه
الأول التقدم بالعلية كتقدم المضيء على الضوء الفائض منه وتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم فإن العقل يحكم بأنه تحرك الإصبح فتحرك الخاتم ولا عكس إذ لا يصح أن يقال تحرك الخاتم فتحرك الإصبع وليس ذلك أي تقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم بالزمان وإلا لزم التداخل فإنه إذا تحرك الإصبع في زمان وكان الخاتم في ذلك الزمان باقيا في حيزه لم يتحرك أصلا لزم تداخل الجسمين ولا بالذات فإن حركة الإصبع لها ذات منفصلة عن حركة الخاتم وليست داخله في حركته دخول الواحد في الاثنين حتى يكون تقدمها عليها تقدما ذاتيا وظاهر أن هذا التقدم ليس بالشرف ولا بالرتبة بل هو بالعلية لأن
298

وجودها أي وجود حركة الإصبع أتم وأكمل في نفسه فأوجب لذلك وجودها أي وجود حركة الخاتم كما أن الضوء القوي الكامل يوجب ضوءا ضعيفا ناقصا فيما يقابله بحسب استعداده فثبت لذلك بينهما ترتب عقلي هو التقدم بالعلية
الثاني التقدم بالذات كتقدم الواحد على الاثنين فإنه لا تعقل ذات الاثنين وهو ذات هذا الواحد وذاك الواحد معا ولا يتم له أي للإثنين ذات إلا بذاتهما سواء فرضنا لهما وجودا أم لا بل ذلك حكم له باعتبار ذاته وحقيقته من حيث هي
بخلاف الأول فإنه حكم باعتبار الوجود لا باعتبار الماهية في نفسها وقد ظهر مما ذكره أن التقدم الذاتي المسمى بالتقدم الطبيعي مخصوص بجزء الشيء مقياسا إلى كله دون سائر علله الناقصة والمشهور في كتب القوم أن المحتاج إليه إن كفى في وجود المحتاج كان متقدما عليه بالعلية كالمؤثر المستجمع لشرائط التأثير وارتفاع موانعه وإن لم يكف كان متقدما عليه بالذات والطبع وعلى هذا كان التقدم الطبيعي شاملا للعلل الناقصة كلها وهم يطلقون التقدم الذاتي على القدر المشترك بين التقدم العلي والتقدم الطبيعي وهو الترتب العقلي الناشئ من الاحتياج المصحح لاستعمال الفاء بينهما داخلة على المحتاج
الثالث التقدم بالزمان كتقدم موسى على عيسى عليهما السلام فإنه ليس لذات موسى ولا شيء من عوارضها إلا الزمان فمعناه أن موسى وجد في زمان ثم انقضى ذلك الزمان وجاء زمان آخر وجد فيه عيسى فالتقدم ههنا صفة للزمان أو لا وبالذات ومغايرته للأولين بينة إذ ليس شيء منهما راجعا إلى الزمان بل الأول باعتبار الوجود والاحتياج إليه والثاني باعتبار ذات الشيء وماهيته
الرابع التقدم بالشرف كما لأبي بكر على عمر رضي الله عنهما
299

الخامس التقدم بالرتبة بأن يكون المتقدم أقرب إلى مبدأ معين والترتب إما عقلي كما في الأجناس المترتبة على سبيل التصاعد والأنواع الإضافية المترتبة على سبيل التنازل فإن كل واحد من هذه الأمور المترتبة واقع في مرتبة يحكم العقل باستحالة وقوعه في غيرها أو وضعي وهو أن يكفي وقوع المتقدم في مرتبة المتأخر كما في صفوف المسجد ويختلف ذلك أي التقدم الرتبي حيث يصير المتقدم متأخرا والمتأخر متقدما بما تجعله أنت مبدأ فقد تبتدئ من المحراب فيكون الصف الأول متقدما على الصف الأخير وقد تبتدئ من الباب فينعكس الحال وقس على ذلك حال الأجناس فإنك إذا جعلت الجوهر مبدأ كان الجسم متقدما على الحيوان وإن جعلت الإنسان مبدأ فبالعكس وقال المتكلمون ههنا نوع آخر من التقدم مغاير للوجوه الخمسة المتقدمة كما لأجزاء الزمان بعضها على بعض مثل تقدم الأمس على اليوم واليوم على الغد فإنه ليس تقدما بالعلية ولا بالذات لعدم الاقتران واستحالته فيما بين أجزاء الزمان مع أن المتقدم والمتأخر في هذين النوعين من التقدم يجوز اجتماعهما بل يجب ولا بالشرف والرتبة وهو ظاهر فإن الأمس واليوم مثلا متشابهان في الفضيلة وليس بين أجزاء الزمان ترتب عقلي ولا وضعي بل نقول امتناع الاجتماع كاف لنا في نفي هذه الأربعة ولا بالزمان وإلا لزم التسلسل في الأزمنة بأن يكون كل زمان في زمان آخر وقد أبطلنا ذلك بوجهين في مباحث الزمان وقد يجاب عنه بأن ذلك التقدم الذي بين أجزاء الزمان هو التقدم بالزمان أعني التقدم الذي لا يجامع فيه المتقدم المتأخر وأنه أي هذا التقدم الذي سميناه التقدم الزماني لا يعرض أولا وبالذات إلا للزمان فإذا أطلقناه على غيره كان ذلك تقدما بالعرض لا بالذات كما حققناه في تقدم موسى على عيسى عليهما السلام كما أن القسمة تعرض للكم عروضا ذاتيا فإذا عرضت لغيره كان بواسطة الكم وذلك لا يوجب للكم كما آخر فكذلك ههنا إذا قلنا لغير الزمان أنه متقدم هذا التقدم أردنا أن زمانه متقدم ولا يوجب ذلك أن يكون للزمان زمان وقد مر في مباحث الزمان نوع تفصيل لهذا المقام وهذا الذي ذكرناه أعني القسم السادس من التقدم
300

مبني لأبحاث كثيرة بين الطائفتين منها أن الحكماء لما جعلوه راجعا إلى التقدم الزماني ادعوا قدم الزمان المستلزم لقدم الحركة والمتحرك إذ لو كان حادثا لكان عدمه سابقا على وجوده سبقا زمانيا فيلزم وجود الزمان حال عدمه والمتكلمون لما جعلوه قسما برأسه جوزوا تقدم عدم الزمان على وجوده تقدما يستحيل معه اجتماع المتقدم مع المتأخر من غير أن يكون مع عدم الزمان زمان فتأمل فيه أي في هذا المبني وتحقق حاله كيلا تزل قدمك في تلك الأبحاث عن سنن الصواب والله الموفق وربما تكلف الحكماء للحصر أي حصر التقدم في الأنواع الخمسة وجها ليس حصرا عقليا دائرا بين النفي والإثبات بل هو نوع ضبط للحصر الاستقرائي فقالوا التقدم إما أن يكون حقيقيا أو اعتباريا والأول لا بد فيه من توقف للمتأخر على المتقدم إذ لو لم يتوقف عليه أصلا لم يكن هناك تقدم حقيقي قطعا من غير عكس لئلا يلزم الدور فالمتوقف إما أن يكون توقفه بحسب الذات وذلك بأن لا يتم ذات المتأخر إلا بذات المتقدم كما مر في الاثنين والواحد وهو التقدم بالذات وإما أن يكون توقفه بحسب الوجود دون الذات بأن يتوقف وجود المتأخر على وجود المتقدم لا ذاته على ذاته وذلك على قسمين لأنه إما أن يكون مع اشتراطه أي اشتراط وجود المتأخر بالعدم الطارئ عليه أي على المتقدم أم لا فالأول هو التقدم الزماني لأن وجود المتأخر من أجزاء الزمان متوقف على وجود المتقدم منها وعلى عدمه الطارئ عليه فإن المتقدم منها ما لم يوجد ولم يعدم بعد وجوده لم
301

يتصور وجود المتأخر منها وأما الزمانيات فقد عرفت أن تقدمها راجع إلى تقدم زمانها فلا يكون المتقدم منها من حيث هو متقدم مجامعا للمتأخر والثاني هو أن لا يشترط وجود المتأخر بالعدم الطارئ على المتقدم بل يتوقف وجوده على وجوده فقط هو التقدم بالعلية المتناول لتقدم المؤثر التام وتقدم العلل الناقصة سوى أجزاء المعلول والثاني أعني التقدم الاعتباري لا بد فيه من مبدأ تعتبر إليه النسبة وذلك المبدأ إما كمال وهو التقدم بالشرف أم لا وهو التقدم بالرتبة وقد يقال التقدم بالشرف راجع إلى التقدم بالرتبة لأن صاحب الفضيلة ربما يقدم في المراتب المكانية أو إلى التقدم بالزمان لأن الأفضل ربما كان أسبق في الشروع في الأمور وكذلك التقدم بالرتبة راجع إلى التقدم الزماني إذ معناه أن زمان الوصول إليه من المبدأ قبل زمان الوصول إلى المتأخر
تنبيهان
الأول أن التقدم إن اعتبر فيما بين أجزاء الماضي فكل ما كان أبعد من الآن الحاضر فهو المتقدم وإن اعتبر فيما بين أجزاء المستقبل فكل ما هو أقرب إلى الآن الحاضر فهو المتقدم وإن اعتبر فيما بين الماضي والمستقبل فقد قيل الماضي مقدم على المستقبل وهذا هو الصحيح عند الجمهور وإنما قالوا ذلك نظرا إلى ذاتهما فإن ذات الماضي متقدمة على ذات المستقبل ومنهم من عكس الأمر نظرا إلى عارضهما فإن كل زمان يكون أولا مستقبلا ثم يصير حالا ثم يصير ماضيا فكونه مستقبلا يعرض له قبل كونه ماضيا
الثاني جميع أنواع التقدم مشترك في معنى واحد وهو أن للمتقدم أمرا زائدا ليس للمتأخر ففي التقدم الذاتي كونه مقوما أي جزءا داخلا في
302

قوام المتأخر وفي التقدم العلي كونه موجدا وفي الزماني كونه مضى له زمان أكثر لم يمض للمتأخر وفي الشرفي زيادة كمال وفي الرتبي وصول إليه من المبدأ أو لا وإذا عرف أقسام التقدم والتأخر عرف أقسام المعية بالمقايسة فالمعية الزمانية ظاهرة وكذا المعية الشرفية كشخصين متساويين في الفضيلة والمعية بالرتبة كنوعين متقابلين تحت جنس واحد وشخصين متساويين في القرب إلى المحراب والمعية بالذات كجزئين مقومين لماهية واحدة في مرتبة واحدة والمعية بالعلية كعلتين لمعلولين شخصيين من نوع واحد وأما بيان أن إطلاق لفظ التقدم والتأخر والمعية على الأقسام الخمسة بالاشتراك المعنوي على سبيل التواطؤ أو التشكيك أو بالاشتراك اللفظي أو بطريق الحقيقة والمجاز فليس فيه كثير فائدة يعتني بشأنها والله أعلم
303

الموقف الرابع في الجواهر
وفيه مقدمة ومراصد
المرصد الأول في الجسم وفيه فصول
المرصد الثاني في عوارض الأجسام
المرصد الثالث في النفس
المرصد الرابع في العقل
305

المقدمة
المتن
أما تعريفه فقد علمته من التقسيم ومن تعريف العرض فلا نعيده
وأما تقسيمه فقال الحكماء الجوهر إن كان حالا فصورة وإن كان محلا فهيولى وإن كان مركبا منهما فجسم وإلا فإن كان متعلقا بالجسم تعلق التدبير والتصرف فنفس وإلا فعقل وهذا بناء على نفي الجوهر الفرد وإنما يتم بعد أن يبين أن الحال في الغير قد يكون جوهرا وأن غير الجسم لا يتركب من جزئين أحدهما حال في الآخر ولم يثبت شيء منهما ولو أردنا إيراده على وجه لا يتوجه عليه هذا الإشكال قلنا الجوهر إما له الأبعاد الثلاثة فجسم أو لا فأما جزؤه فإن كان به بالفعل فصورة وإلا فمادة وإن لم يكن جزءا فإن كان متصرفا فيه فنفس وإلا فعقل
وقال المتكلمون لا جوهر إلا المتحيز كما مر فإما أن يقبل القسمة وهو الجسم أو لا يقبلها وهو الجوهر الفرد
تنبيهان
الأول الجسم عند الجمهور مجموع الجزءين وعند القاضي كل واحد من الجزءين لأنه الذي قام به التأليف والتأليف عرض لا يقوم بجزءين على أصول أصحابنا لامتناع قيام الواحد بالكثير وليس ذلك بنزاع لفظي بل في أنه هل يوجد ثمة أمر غير الأجزاء هو الاتصال والتأليف كما يثبته المعتزلة
الثاني الجوهر الفرد لا شكل له لأنه هيئة إحاطة حد واحد وهو الكرة أو حدود وهو المضلع ولا يتصور ذلك إلا فيما له جزء فإن الحد هو النهاية ولا تعقل إلا بالنسبة إلى ذي نهاية ثم قال القاضي ولا يشبه شيئا
307

من الأشكال لأن المشاكلة الاتحاد في الشكل فما لا شكل له كيف يشاكل غيره وأما غيره فلهم اختلاف فيما يشبهه من الكرة إذ لا يختلف جوانبه والمربع إذ يتركب منه الجسم بلا خلو الفرج والمثلث لأنه أبسط الأشكال المضلعة
قال الآمدي واتفق الكل على أن له حظا من المساحة فله نهاية قطعا وفيه نظر لأنا لا نسلم أن له نهاية وإن سلم فلا يلزم من كونه ذا نهاية أن تحيط به النهاية وإلا انفرض محيط ومحاط فانقسم وأما قولهم له حظ من المساحة فلعلهم أرادوا به أن له حجما ما وإلا فهو القول بانقسامه وهما لا فعلا
الشرح
الموقف الرابع في الجواهر وفيه مقدمة ومراصد أربعة
المقدمة أما تعريفه أي تعريف الجوهر فقد علمته من التقسيم المذكور في صدر الموقف الثاني وهو أنه ممكن موجود لا في موضوع عند الحكماء وحادث متحيز بالذات عند المتكلمين وعلمته أيضا من تعريف العرض في صدر الموقف الثالث بطريق المقابلة وهو أنه عند الحكيم ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع وعند المتكلم موجود متحيز بالذات فلا نعيده اعتمادا على علمك به وأما تقسيمه فقال الحكماء الجوهر إن كان حالا في جوهر آخر فصورة إما جسمية أو نوعية وإن كان محلا لها أي للصورة فهيولى وإن كان مركبا منها فجسم إما مطلق أو نوع منه وإلا أي وإن لم يكن الجوهر حالا ولا محلا ولا مركبا منهما فإن كان متعلقا بالجسم تعلق التدبير والتصرف والتحريك
308

فنفس وإلا فعقل وإنما قيدوا التعلق بالتدبير والتحريك لأن للعقل عندهم تعلقا بالجسم على سبيل التأثير وهذا التقسيم الذي ذكروه بناء أي مبني على نفي الجوهر الفرد إذ على تقدير ثبوته لا صورة ولا هيولى ولا ما يتركب منهما بل هناك جسم مركب من جواهر فردة وعلى تقدير انتفاء الجوهر الفرد إنما يتم بعد أن يبين أن الحال في الغير قد يكون جوهرا وهو ممنوع فإن الظاهر هو أن الحال في غيره يكون عرضا قائما به فلا يثبت جوهر حال ولا محل ولا ما يتركب من حال ومحل جوهرين ولا جوهر هو محل لجوهر آخر وبعد أن يبين أيضا أن غير الجسم من الجواهر لا يتركب من جزءين أحدهما حال في الآخر وإلا لم يصح أن الجوهر المركب من الجوهرين حال ومحل هو الجسم ولم يثبت شيء منهما أي من هذين البيانين ببرهان مع أن الأول مخالف للظاهر كما عرفت والثاني مما لا جزم به لجواز وجود جوهر يكون محلا لجوهر آخر ولا يكون شيء منهما قابلا للإشارة الحسية فلا يكون ذلك المحل هيولى ولا الحال صورة ولا المركب منهما جسما ولو أردنا إيراده أي إيراد التقسيم على وجه لا يتوجه عليه هذا الإشكال يعني الإشكال المذكور بقوله إنما يتم إلى آخره قلنا الجوهر إما له الأبعاد الثلاثة فجسم والمراد أن الجوهر إما جسم أو لا وإذا لم يكن جسما فإما جزؤه وإما ليس كذلك فإن كان جزؤه فإن كان الجسم به أي بذلك الجزء حاصلا بالفعل فصورة وإلا فمادة وإن لم يكن جزءا منه فإن كان متصرفا فيه فنفس وإلا فعقل فهذا ترديد حاصر لم يعتبر فيه حلول الجوهر في شيء ولا تركب الجسم من جوهر حال وجوهر محل لكنه أيضا مبني على انتفاء الجوهر الفرد فإن الجسم إذا تركب منه لم يكن فيه إلا جواهر فردة مجتمعة ليس بعضها صورة وبعضها مادة وأما الهيئة الاجتماعية فخارجة عن حقيقة الجسم لازمة لها ويتجه عليه أن ما ليس جسما ولا جزءا له ولا متصرفا فيه لا يجب أن يكون عقلا بل جاز أن يكون جزءا للنفس أو العقل
وقال المتكلمون لا جوهر إلا المتحيز أي القابل بالذات للإشارة
309

الحسية كما مر من أنهم نفوا الجواهر المجردة وحكموا باستحالتها وحينئذ فإما أن يقبل المتحيز القسمة سواء كانت في جهة واحدة أو أكثر وهو الجسم عند الأشاعرة أو لا يقبلها أصلا وهو الجوهر الفرد فعندهم أن الجوهر منحصر في هذين القسمين وإن أقل ما يتركب منه الجسم جوهران من الجواهر الفردة
تنبيهان
الأول الجسم عند الجمهور من الأشاعرة مجموع الجزءين المتألفين لا كل واحد منهما وعند القاضي وأتباعه أن الجسم هو كل واحد من الجزءين لأنه أي الجسم هو الذي قام به التأليف اتفاقا منا والتأليف عرض لا يقوم بجزءين على أصول أصحابنا لامتناع قيام العرض الواحد الشخصي بالكثير فوجب أن يقوم بكل واحد من الجوهرين المؤلفين تأليف على حدة فهما جسمان لا جسم واحد وليس ذلك بنزاع لفظي راجع إلى أن الجسم يطلق على ما هو مؤلف في نفسه أي فيما بين أجزائه الداخلة فيه أو يطلق على ما هو مؤلف مع غيره كما توهمه الآمدي بل هو نزاع في أمر معنوي هو أنه هل يوجد ثمة أي في الجسم أمر موجود غير الأجزاء التي هي الجواهر الفردة هو الاتصال والتأليف كما يثبته المعتزلة أو لا يوجد فالجمهور ذهبوا إلى الأول فقالوا الجسم هو مجموع الجزئين والقاضي إلى الثاني فحكم أن كل واحد منهما جسم ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام من التعسف
الثاني من التنبيهين الجوهر الفرد لا شكل له باتفاق المتكلمين لأنه أي الشكل هيئة إحاطة حد واحد وهو الكرة أو حدود وهو المضلع ولا يتصور ذلك إلا فيما له جزء فإن الحد هو النهاية ولا تعقل
310

النهاية إلا بالنسبة إلى ذي نهاية فيكون هناك لا محالة جزءان ثم قال القاضي ولا يشبه الجوهر الفرد شيئا من الأشكال لأن المشاكلة هي الاتحاد في الشكل فما لا شكل له كيف يشاكل غيره وهذا ظاهر تفريعا على ما اتفقوا عليه وأما غيره أي غير القاضي من الذين وافقوا على نفي الشكل عن الجوهر الفرد فلهم اختلاف فيما يشبه من الكرة أي قال بعضهم هو يشبه الكرة إذ لا يختلف جوانبه كما أن الكرة لا يختلف جوانبها ولو كان مشابها للمضلع لكان له جوانب مختلفة فكان منقسما ومن المربع أي قال بعضهم يشبه المربع إذ يتركب منه الجسم بلا خلو الفرج وذلك إنما يتأتى إذا كان مشابها للمربع لأن الشكل الكروي وسائر المضلعات وما يشبهها لا يتأتى فيها ذلك إلا بفرج ومن المثلث أي قال بعضهم يشبه المثلث لأنه أبسط الأشكال المضلعة
قال الآمدي ما وقع عليه اتفاق المتكلمين من نفي الشكل عن الجوهر الفرضي منظور فيه وذلك لأنه اتفق الكل على أن له حظا من المساحة فله نهاية أي حد يحيط له قطعا فإذا له شكل لأن الحد المحيط به إن كان واحدا فهو كروي وإن كان متعددا فمضلع
قال المصنف رحمه الله تعالى وفيه نظر لأنا لا نسلم أن له أي للجوهر الفرد نهاية وإن سلم ذلك فلا يلزم من كونه ذا نهاية أن تحيط به النهاية حتى يكون كرويا أو مضلعا وإلا انفرض فيه محيط ومحاط فانقسم وأما قولهم له حظ من المساحة فلعلهم أرادوا له أن به حجما ما ولذلك يزداد حجم الجسم بازدياد الجواهر الفردة فيه وإلا أي وإن لم يحمل قولهم على هذا فهو القول بانقسامه ولو وهما لا فعلا فإن ما له مساحة أمكن أن يفرض فيه شيء غير شيء لا محالة فيكون في الجوهر الفرد انقسام وهمي وهو خلاف مذهبهم
311

المرصد الأول في الجسم وفيه فصول
الفصل الأول في حقيقته وأجزائه
وفيه مقاصد
المقصد الأول في حده
المتن
ويطلق عند الحكماء بالاشتراك على معنيين
أحدهما يسمى جسما طبيعيا لأنه يبحث عنه في العلم الطبيعي منسوبا إلى الطبيعة التي هي مبدأ الآثار وعرف بأنه جوهر يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة متقاطعة على زوايا قائمة وإنما قلنا يمكن إذ لا يجب أن يوجد فيه أبعاد بالفعل أما الخط فلا وجود له سيما في الكرة وأما السطح وإن كان لازما لوجوده لوجوب التناهي فليس لازما لماهيته إذ يمكن فرض جسم غير متناه ولا يكون ذلك مخرجا له عن حقيقة الجسمية ولا تصورا لجسم لا جسم ومعنى الزاوية القائمة أنه إذا قام خط على خط عمودا عليه لا ميل له إلى أحد الطرفين أصلا حتى حدثت من جنبتيه زاويتان متساويتان فكل واحدة منهما قائمة هكذا قائمة قائمة وإذا كان مائلا إلى أحد الطرفين كانت أحدى الزاويتين صغرى وتسمى الحادة
والأخرى كبرى وتسمى
312

المنفرجة هكذا حادة منفرجة وتصوير فرض الأبعاد أن نفرض فيه بعدا ما كيف اتفق وهو الطول ثم بعدا آخر في أي جهة شئنا مقاطعا له بقائمة وهو العرض ثم بعدا ثالثا مقاطعا لهما وهذا متعين لا يتصور غير واحد وهو العمق وهذا القيد لم يذكر لتمييز الجسم بل لتحقيق ماهيته فإن الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة لا يكون إلا كذلك والذي يقبل أبعادا لا على هذا الوجه إنما هو السطح والجوهر لا يتناوله وههنا شكوك فعلى مطلق التعريف شكان
الأول الحد صادق على الهيولى
قلنا هي تقبل الجسمية والجسمية تقبل الأبعاد
الثاني يصدق على الوهم التخييلية جسما تعليميا
قلنا المراد قبوله في الوجود الخارجي وعلى كونه حدا شكان
الأول لم تثبت جنسية الجوهر كما عرفته في المقولات وربما يقال ليس جنسا وإلا لامتازت أنواعه بفصول جوهرية لامتناع تقوم الجوهر بالعرض ولزم التسلسل في الفصول كما مر في الوجود وربما قيل الجوهر هو الموجود لا في الموضوع ففيه قيدان الوجود وأنه عارض للموجودات بل من المعقولات الثانية وكونه لا في موضوع وأنه عدم لا يصلح جزءا للموجودات الخارجية وأجيب عنه بأن ذلك رسم للجوهر لا حد
الثاني مفهوم القابل للأبعاد أمر عدمي وإلا فعرض قائم بالذات فتكون قابلة له وينقل الكلام إلى قابليتها له ويتسلسل لا يقال الممتنع هو التسلسل في المؤثرات وهذا تسلسل في الآثار لأنك قد علمت أن هذا
313

النوع من التسلسل باطل عند الحكماء والمتكلمين وقد يجاب عنه بأن القابلية نسبة وهو غير ما صدق عليه أنه قابل الذي هو ذات وهذا هو الجزء للجسم والآن أوان أن تتذكر لما قد علمناكه من كيفية تركب الجنس والفصل وأنه لا تمايز بينهما إلا في الذهن وأن الجنس أمر مبهم ويتحصل بالفصل وتصور الفصل هو تحصيل صورة المبهم نوعا والفصل ليس مبهما ليتحصل بفصل آخر فيكون للفصل فصل ولا هو نفس المفهوم الذي هو العرض لكن خصوصية الأمر الذي هو قابل
وثانيهما يسمى جسما تعليميا إذ يبحث عنه في العلوم التعليمية أي الرياضية منسوبة إلى التعليم فإنهم كانوا يبتدئون بها في تعاليمهم لأنها أسهل ودلائلها أيضا يقينية تفيد النفس ملكة أن لا تقنع دونه وعرفوه بأنه كم قابل للأبعاد الثلاثة المتقاطعة على الزوايا القائمة والقيد الأخير ههنا للتمييز ولو أردنا أن تجمعهما في رسم واحد قلنا هو القابل من غير ذكر الجوهر والكم فهذا عند الحكماء وأما المتكلمون فقد عرفت رأينا فيه
وقالت المعتزلة هو الطويل العريض العميق
قال الحكماء هذا الحد فاسد لأن الجسم ليس جسما بما فيه من الأبعاد بالفعل لما مر وأيضا فإذا أخذنا شمعة وجعلنا طولها شبرا وعرضها شبرا ثم جعلنا طولها ذراعا وعرضها إصبعين مثلا فقد زال عنها ما كان فيها من الأبعاد وجسميتها باقية وهذا بناء منهم على إثبات الكمية وأما على الجزء فلم يحدث ولم يزل شيء بل انتقلت الأجزاء من طول إلى عرض أو نقول المراد أنه يمكن أن يفرض فيه طول وعرض وعمق كما يقال الجسم هو المنقسم والمراد قبول للقسمة ثم اختلفت المعتزلة في أقل ما يتركب منه الجسم فقال النظام لا يتألف إلا من أجزاء غير متناهية وسيأتي
وقال الجبائي من ثمانية أجزاء بأن يوضع جزءان فيحصل الطول وجزءان على جنبيه فيحصل العرض وأربعة فوقها فيحصل العمق
314

وقال العلاف من ستة بأن يوضع ثلاثة على ثلاثة والحق أنه يمكن من أربعة أجزاء بأن يوضع جزءان ويجنب أحدهما جزء وفوقه آخر وعلى جميع التقادير فالمركب من جزءين أو ثلاثة ليس جوهرا فردا ولا جسما عندهم جوزوا التأليف منهما أم لا والنزاع لفظي فنعدوه إلى ما يجدي وما هو كقول الصالحية هو القائم بنفسه وبعض الكرامية هو الموجود وهشام هو الشيء باطل لأن هذه أقوال لا تساعد عليها اللغة فإنه يقال زيد أجسم من عمرو أي أكبر ضخامة وانبساط أبعاد وتأليف أجزاء
الشرح
المرصد الأول في الجسم وفيه فصول أي فصلان
الفصل الأول في بيان حقيقته وأجزائه الخارجية وفيه مقاصد ثمانية
الأول في حده ومعرفه ويطلق لفظ الجسم عند الحكماء بالاشتراك اللفظي على معنيين أحدهما يسمى جسما طبيعيا لأنه يبحث عنه في العلم الطبيعي منسوبا إلى الطبيعة التي هي مبدأ الآثار أي هي علة فاعلية لآثار ما هي فيه من الأجسام وعرف الجسم الطبيعي بأنه جوهر يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة متقاطعة على زوايا قائمة وإنما قلنا يمكن إذ لا يجب أن يوجد فيه أي في الجسم الطبيعي أبعاد بالفعل فضلا عن كونها ثلاثة متقاطعة على زوايا قوائم أما الخط فلا وجود له في كثير من الأجسام سيما في الكرة وأما السطح فإن كان لازما لوجوده لوجوب التناهي في الأبعاد فليس لازما لماهيته إذ يمكن فرض جسم غير متناه في
315

جميع الجوانب ولا يكون ذلك مخرجا له عن حقيقة الجسمية ولا تصورا لجسم لا جسم وإذ ليس لازما لماهيته لم يصح تعريفه به وتلخيص الكلام أن يقال إنما اعتبر في حده الفرض دون الوجود لأن الأبعاد المتقاطعة على الزوايا القائمة ربما لم تكن موجودة فيه بالفعل كما في الكرة أو الأسطوانة والمخروط المستديرين وإن كانت موجودة فيه كما في المكعب مثلا فليست جسميته باعتبار تلك الأبعاد الموجودة فيه لأنها قد تزول مع بقاء الجسمية الطبيعية بعينها واكتفى بإمكان الفرض لأن مناط الجسمية ليس هو فرض الأبعاد بالفعل حتى يخرج الجسم عن كونه جسما طبيعيا لعدم فرض الأبعاد فيه بل مناطها مجردا مكان الفرض سواء فرض أو لم يفرض ومعنى الزاوية القائمة أنه إذا قام خط على خط عمودا عليه لا ميل له إلى أحد الطرفين أصلا حتى حدثت من جنبتيه زاويتان متساويتان فكل واحدة منهما قائمة هكذا قائمة قائمة وإذا كان مائلا إلى أحد الطرفين كانت إحدى الزاويتين صغرى وتسمى الحادة والأخرى كبرى وتسمى المنفرجة هكذا حادة منفرجة وتصوير فرض الأبعاد الثلاثة المتقاطعة في الجسم أن نفرض فيه بعدا ما سواء كان خطا أو سطحا لكن تعريفه للقائمة يناسب فرض الخط كيف اتفق أي لا يتعين لفرضه جهة وهو الطول ثم نفرض بعدا آخر في أي جهة شئنا من الجهتين الباقيتين مقاطعا له بقائمة وهو العرض ثم نفرض بعدا ثالثا مقاطعا لهما بحيث يحصل منه بالنسبة إلى كل من الأولين أربع قوائم على زوايا قائمة وهذا البعد الثالث متعين لا يتصور غير واحد إذ قد تعين لفرضه جهة واحدة بخلاف الأول فإنه يمكن فرضه على وجوه ثلاثة والثاني إذ يمكن فرضه على وجهين كما أشار إليه
316

بقوله وهو العمق وهذا القيد أعني كون تقاطع الأبعاد الثلاثة على زوايا قائمة لم يذكر لتمييز الجسم عن غيره بل لتحقيق ماهيته فإن الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة المتقاطعة لا يكون إلا كذلك وهو أنه يمكن فيه أن يكون تقاطعها على الزوايا القائمة والذي يقبل أبعادا ثلاثة متقاطعة لا على هذا الوجه إنما هو السطح فإنه يمكن أن يفرض فيه بعدان متقاطعان على قوائم ولا يمكن أن يفرض فيه بعد ثالث مقاطع للأولين إلا على حادة ومنفرجة والجوهر لا يتناوله فلا يكون هذا القيد احترازا عنه كما توهمه بعضهم واعتذر له بأن المعتزلة ذهبوا إلى أن الجسم مركب من السطوح المركبة من الخطوط المركبة من الجواهر الفردة فيكون السطح عندهم جوهرا ولما لم يتبين بعد أن الجسم ليس كذلك وأن السطح يجب أن يكون عرضا احترز عنه على تقدير التنزل فتأمل وههنا شكوك فعلى مطلق التعريف أي على كونه معرفا شكان
الأول الحد صادق على الهيولى التي هي جزء للجسم المطلق إذ يمكن فرض الأبعاد المذكورة فيها بواسطة الصورة الجسمية وإمكان فرضها أعم من أن يكون بواسطة أو بغير واسطة قلنا ليست الهيولى في حد ذاتها بحيث يمكن فرض الأبعاد فيها بل هي تقبل الصورة الجسمية والصورة الجسمية تقبل الأبعاد المفروضة والمتبادر من عبارة الحد إمكان فرض الأبعاد نظرا إلى ذات الجوهر فلا يتناول ما يكون بواسطة فإن قلت فالحد صادق على الصورة الجسمية وحدها قلنا لا بأس بذلك لأن الجسم في بادئ الرأي هو هذا الجوهر الممتد في الجهات أعني الصورة الجسمية وأن هذا الجوهر قائم بجوهر آخر فمما لا يثبت لو ثبت إلا بأنظار دقيقة في أحوال هذا الجوهر الممتد المعلوم وجوده بالضرورة فالمقصود ههنا تعريفه الشك
الثاني هذا الحد يصدق على الوهم ولذلك تسمى الأبعاد التخييلية الموهومة جسما تعليميا فيكون الوهم الذي هو محل الجسم التعليمي قابلا لفرض الأبعاد المذكورة مع أنه ليس بجسم بل قوة من القوى
317

الجسمانية قلنا المراد بقبول الجوهر فرض الأبعاد قبوله إياه في الوجود الخارجي كما يتبادر إلى الفهم على أن هذا الشك إنما يتوجه إذا كان الوهم جوهرا ويندفع أيضا بأن إمكان فرض الأبعاد فيه ليس بالنظر إلى ذاته بل بسبب الأبعاد المتوهمة وعلى كونه حدا مقابلا للرسم شكان أيضا
الأول لم نثبت جنسية الجوهر لما تحته كما عرفته في المقولات وربما يقال ليس الجوهر جنسا لما تحته وإلا لامتازت أنواعه بفصول جوهرية لا بفصول عرضية لامتناع تقوم الجوهر بالعرض ولزم التسلسل في الفصول لأن الجوهر يكون جنسا لها لأنه المفروض فلها فصول أخرى جوهرية أيضا فيلزم امتناع تعقل كنه الأنواع الجوهرية كما مر ذلك في الوجود مع جوابه وهو أنه ليس يلزم من كون الجوهر جنسا لأنواع نفس الجواهر أن يكون جنسا لفصول تلك الأنواع كما أن سائر الأجناس كذلك وربما قيل الجوهر هو الموجود لا في موضوع ففيه قيدان ليس شيء منهما ذاتيا لشيء من الحقائق
الأول الوجود وأنه عارض للموجودات بل هو من المعقولات الثانية التي لا يمكن كونها جزءا للأمور العينية
والثاني كونه لا في موضوع وأنه عدم لا يصلح جزءا للموجودات الخارجية وأجيب عنه بأن ذلك رسم للجوهر لا حد كيف والأجناس العالية البسيطة لا يتصور لها حد أصلا فما ذكر في تعريفه أمر خارج عن ماهيته فلا يلزم من انتفاء جنسيته انتفاء جنسيتها
الشك الثاني مفهوم القابل للأبعاد وكذا مفهوم ما يمكن أن يفرض فيه الأبعاد الثلاثة على اختلاف العبارات أمر عدمي فلا يصلح أن يكون فصلا ذاتيا للجسم الذي هو من الحقائق الخارجية فلا يكون التعريف المذكور حدا له وإلا أي وإن لم يكن مفهوم القابل أمرا عدميا بل كان
318

أمرا موجودا فعرض أي فهو على ذلك التقدير عرض لكونه من قبيل النسب التي هي من الأعراض قائم بالذات أي بالذات التي صدق عليها هذا المفهوم فتكون تلك الذات قابلة له وينقل الكلام إلى قابليتها له ويتسلسل والحاصل أن مفهوم القابل إذا كان أمرا موجودا في الخارج كانت القابلية الداخلة فيه أيضا كذلك وهي نسبة لا تقوم بذاتها بل بغيرها فيكون ذلك الغير قابلا لتلك القابلية فينقل الكلام إلى القابلية الثانية وهكذا لا يقال الممتنع هو التسلسل في المؤثرات أي العلل لوجوب انتهائها إلى الواجب وهذا تسلسل في الآثار أي المعلولات لأن القابلية الثانية معلولة للقابلية الأولى ضرورة أن النسبة معلولة للمنتسبين فلا يكون ممتنعا لأنك قد علمت فيما مر أن هذا النوع من التسلسل وهو أن تكون الأمور المتسلسلة موجودة معا مترتبة ترتبا طبيعيا أو وضعيا باطل عند الحكماء والمتكلمين بلا خلاف وقد يجاب عنه أي عن الشكل الثاني بأن القابلية نسبة وهو غير ما صدق عليه أنه قابل الذي هو ذات وهذا هو الجزء للجسم يعني أن ما ذكرتم يدل على أن القابلية ليست موجودة في الخارج وكذا مفهوم القابل للأبعاد لا وجود له فيه فلا يكون فصلا للجسم وهو مسلم لكنا ندعي أن فصل الجسم هو ما صدق عليه مفهوم القابل لا مفهومه وقد رد هذا الجواب بأن المذكور في التعريف مفهوم القابل وقد اعترفتم بأنه ليس فصلا فلا يكون حدا وأيضا ما صدق عليه مفهوم القابل إما ذات الجسم فهو نفس المحدود لا فصله وأما أفراده ولا شك أنها ليست فصولا له ثم إن المصنف مهد كلاما يتحقق به اندفاع التسلسل المذكور في الشك الأول ويتضح به أيضا حقيقة الجواب عن الشك الثاني فقال والآن أوان أن تتذكر وتتنبه لما قد علمناكه من كيفية تركب الجنس والفصل وأنه لا تمايز
319

بينهما إلا في الذهن وأن الجنس أمر مبهم لا تعين ولا تحصل له في نفسه بل إنما يتعين ويتحصل في الذهن بالفصل الذي ينضم إليه وتصور الفصل هو تحصيل صورة المبهم الذي هو الجنس نوعا والفصل ليس مبهما ليتحصل بفصل آخر فيكون للفصل فصل فيلزم التسلسل في الفصول كما ذكروه ولا هو نفس المفهوم أي ليس فصل الجسم نفس مفهوم قابل الأبعاد الذي هو العرض على تقدير كونه موجودا لكن فصل الجسم هو خصوصية الأمر الذي هو القابل للأبعاد وتلك الخصوصية متحدة بجنسه في الخارج ولما لم يكن لنا اطلاع على تلك الخصوصية إلا بحسب عارضها الذي هو مفهوم القابل أقمناه مقامها كما تقام عوارض الفصول مقامها إذا جهلت حقائقها كالناطق والحساس والمتحرك بالإرادة على ما هو المشهور في كلامهم ولم نرد بقولنا ما صدق عليه أنه قابل ذات الجسم ولا أفراده بل تلك الخصوصية المجهولة هذا تصوير ما ذكره وبقي هنا شيء وهو أنه إذا أقيم العارض مقام الفصل هل يكون ذلك التعريف حدا حقيقيا
وثانيهما أي ثاني المعنيين للفظ الجسم يسمى جسما تعليميا إذ يبحث عنه في العلوم التعليمية أي الرياضية الباحثة عن أحوال الكم المتصل والمنفصل منسوبة إلى التعليم والرياضة فإنهم كانوا يبتدئون بها في تعاليمهم ورياضاتهم لنفوس الصبيان لأنها أسهل إدراكا لكونها علوما متسقة منتظمة لا ينازع الوهم فيها العقل بل يوافقه فلا يقع فيها غلط أصلا والمخالفات فيها على ندرتها إنما تكون راجعة إلى الألفاظ وعدم تعقل معانيها على ما ينبغي ولا شك أن الأحسن والأولى في التعليم أن يبتدأ بالأسهل الأقرب إلى الأذهان كيلا يعرض لها كلال بل تتقوى به على إدراك ما هو أصعب فإن الإدراك غذاء للروح ودلائلها أيضا يقينية تفيد
320

النفس إذا اعتادت بها ملكة أن لا تقنع في إدراك الأشياء دونه أي دون اليقين فإن أمكن هناك تحصيل اليقين فذاك وإن لم يكن كما في العلوم الظنية اجتهدت في تحصيل الظن الأقوى لأنه أقرب إلى ما اعتادت به وعرفوه بأنه كم قابل للأبعاد الثلاثة المتقاطعة على الزوايا القائمة والقيد الأخير ههنا للتمييز والاحتراز عن السطح لدخوله في الجنس الذي هو الكم ولو أردنا أن نجمعهما أي المعنى الأول والثاني في رسم واحد قلنا هو القابل لفرض الأبعاد المتقاطعة على الزوايا القائمة من غير ذكر الجوهر والكم فإن هذا المفهوم مشترك بين الجسم الطبيعي والتعليمي فهذا الذي ذكرناه في تعريف الجسم وتعدد معناه إنما هو عند الحكماء وأما المتكلمون فقد عرفت رأينا فيه وهو أن الجسم وهو المتحيز القابل للقسمة ولو في جهة واحدة
وقالت المعتزلة هو الطويل العريض العميق قال الحكماء هذا الحد فاسد لأن المتبادر منه أن الجسم يوجد فيه هذه الأبعاد بالفعل وأنها مناط لجسميته ولا شك في أن الجسم ليس جسما بما فيه من الأبعاد بالفعل لما مر من أن الخط قد لا يوجد في الجسم بالفعل كما في الكرة وأن السطح لازم لوجوده لا لماهيته وأيضا فإذا أخذنا شمعة وجعلنا طولها شبرا وعرضها شبرا ثم جعلنا طولها ذراعا وعرضها إصبعين مثلا فقد زال عنها ما كان فيها من الأبعاد وجسميتها باقية بعينها فلا تكون الأبعاد الموجودة بالفعل لازمة للجسمية صالحة لأن يعرف بها الجسم وهذا الذي ذكروه في الشمعة بناء منهم على إثبات الكمية المتصل وكون الجسم متصلا واحدا في نفسه لا مفصل فيه بالفعل وأما على الجزء
321

وتركب الجسم منه كما هو مذهبنا ومذهب المعتزلة فلم يحدث في الشمعة شيء لم يكن ولم يزل عنها شيء قد كان بل انتقلت الأجزاء الموجودة فيها من طول إلى عرض أو بالعكس أو نقول المراد بقولهم الطويل العريض العميق أنه يمكن أن يفرض فيه طول وعرض وعمق كما يقال الجسم هو المنقسم والمراد قبوله للقسمة لا وقوع القسمة فيه بالفعل وحينئذ يرجع إلى الحد الذي ذكره الحكماء ويندفع عنه الفساد الذي أوردوه عليه ثم اختلف المعتزلة بعد اتفاقهم على ذلك الحد في أقل ما يتركب منه الجسم من الجواهر الفردة فقال النظام لا يتألف الجسم إلا من أجزاء غير متناهية وسيأتي تقرير مذهبه وإبطاله أيضا وقال الجبائي يتألف الجسم ويتحصل من ثمانية أجزاء لا من أقل منها وذلك بأن يوضع جزءآن فيحصل الطول ويوضع جزءان آخران على جنبيه فيحصل العرض ويوضع أربعة أخرى فوقها أي فوق الأربعة الأولى فيحصل العمق
وقال العلاف يتحصل الجسم من ستة لا من أقل منها وذلك بأن يوضع ثلاثة على ثلاثة والحق أنه يمكن تحصل الجسم من أربعة أجزاء بأن يوضع جزءان ويجنب أحدهما جزء ثالث وفوقه جزء آخر وبذلك يتحصل الأبعاد الثلاثة وعلى جميع التقادير فالمركب من جزءين أو ثلاثة ليس جوهرا فردا ولا جسما عندهم سواء جوزوا التأليف منهما أي من جزئين منفردين أو من ثلاثة منفردة أم لا وبالجملة فالمنقسم في جهة واحدة يسمونه خطا وفي جهتين سطحا وهما واسطتان بين الجوهر الفرد والجسم عندهم وداخلتان في الجسم عندنا والنزاع لفظي راجع إلى إطلاق لفظ الجسم على المؤلف المنقسم ولو في جهة واحدة أو على المؤلف المنقسم في الجهات الثلاث فنعدوه إلى ما يجدي من المباحث المعنوية
322

ثم أنه أشار إلى بطلان تعريفات منقولة عن بعض المتكلمين فقال وما هو كقول الصالحية من المعتزلة في تعريف الجسم هو القائم بنفسه وقول بعض الكرامية هو الموجود وقول هشام هو الشيء باطل لانتقاض الأول بالباري تعالى والجوهر الفرد وانتقاض الثاني بهما وبالعرض أيضا وانتقاض الثالث بالثلاثة على أن في هذه التعريفات فسادا آخر لأن هذه أقوال لا تساعد عليها باللغة بل تخالفها فإنه يقال زيد أجسم من عمرو أي أكبر ضخامة وانبساط أبعاد وتأليف
أجزاء فلفظ الجسم بحسب اللغة ينبئ عن التركيب والتأليف وليس في هذه الأقوال أنباء عن ذلك
المقصد الثاني
المتن
ليس الجسم مجموع أعراض مجتمعة خلافا للنظام والنجار من المعتزلة لما علمت أن العرض لا يقوم بذاته بالغا ما بلغ فلا بد من انتهائه إلى جوهر يقوم به وبالجملة فبطلانه ضروري
احتجا بوجهين
الأول أن الجواهر من حيث هي جواهر متجانسة والأجسام مختلفة فليست عبارة عن جواهر قلنا بل الجواهر مختلفة بذواتها ولذلك قلنا إن الأعراض لا تبقى والجواهر باقية لما سيأتي
واعلم أنه لا محيص لمن اعترف بتجانس الجواهر عن جعل الأعراض
323

داخلة في حقيقة الجسم فيكون الجسم حينئذ جوهرا مع جملة من الأعراض
الثاني أنه إذا وجد الجسم وجدت الأعراض وإذا انتفى انتفت وبالعكس
قلنا التلازم لا يفيد الوحدة
الشرح
المقصد الثاني ليس الجسم مجموع أعراض مجتمعة خلافا للنظام والنجار من المعتزلة فإنهما ذهبا إلى أن الجواهر مطلقا أعراض مجتمعة وهذا باطل لما علمت أن العرض لا يقوم بذاته سواء كان واحدا أو متعددا بالغا ما بلغ فلا بد من انتهائه إلى جوهر يقوم به فلا يكون الجوهر القائم بذاته مجموع أعراض وحدها وبالجملة فبطلانه ضروري إذ كل عاقل يعلم أن الأمر المجتمع من أمور يجتمع قيامها بنفسها لا يكون قائما بذاته بل محتاجا إلى أمر آخر يقوم به وما ذكرناه تنبيه على الحكم البديهي فلا يتجه عليه أن الكل من حيث هو كل قد يخالف حكمه حكم كل واحد منه وقد يستدل على امتناع تركب الجوهر من العرض بأن الجوهر الفرد متحيز بالاتفاق فلو كان مركبا من الأعراض فكل واحد من تلك الأعراض إما أن يكون متحيزا بالذات فهو جوهر ويلزم منه أن يكون الجوهر الفرد مركبا من جواهر فلا يكون جوهرا فردا ولا يكون متحيزا بالذات ومن المعلوم أن ضم ما لا يتحيز إلى ما لا يتحيز لا يوجب التحيز وزيفه الآمدي بجواز كون الانضمام شرطا للتحيز احتجا بوجهين
الأول أن الجواهر من حيث هي جواهر متجانسة لاشتراكها في
324

صفات نفس الجوهر وهي التحيز والقياس بالنفس وقبول الأعراض والأجسام كالنار والهواء والماء مختلفة بالضرورة فليست الأجسام عبارة عن جواهر مؤتلفة وإلا كانت متماثلة فتكون أعراضا مجتمعة قلنا لا نسلم أن الجواهر متجانسة بل الجواهر عندنا مختلفة بذواتها وما ذكر من اشتراك الجواهر في الصفات المذكورة لا يدل على تماثلها في الحقيقة لجواز أن تكون تلك الصفات أعراضا عامة مشتركة بين حقائقها المتخالفة فلا حاجة بنا حينئذ إلى دخول الأعراض في حقائق الجواهر ولذلك أي ولعدم دخولها فيها عندنا قلنا إن الأعراض لا تبقى لما مر والجواهر باقية لما سيأتي ولا يخفى أنه يمكن أن تجعل معارضة بأن يقال الأعراض غير باقية فلا تكون داخلة في الجواهر الباقية لأن انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكل
واعلم أنه لا محيص لمن اعترف بتجانس الجواهر الأفراد وتماثلها في الحقيقية كالأشاعرة قاطبة وأكثر المعتزلة عن جعل الأعراض داخلة في حقيقة الجسم فيكون الجسم حينئذ جوهرا مع جملة من الأعراض منضمة إلى ذلك الجوهر إذا لو كانت مؤتلفة من الجواهر المتجانسة وحدها لكانت الأجسام كلها متماثلة في الحقيقة وأنه باطل بالضرورة وأما النظام والنجار فقالا إن الجواهر إذا تركبت من أعراض مختلفة فهي مختلفة وإذا تركبت من أعراض متجانسة فهي متجانسة
قالا ولذلك اتصفت الأجسام المؤلفة منها تارة بالتخالف وأخرى بالتماثل
الوجه الثاني أنه إذا وجد الجسم بل الجوهر وجدت الأعراض
325

وإذا انتفى الجوهر انتفت وبالعكس أي إذا وجدت الأعراض وجد الجوهر وإذا انتفت انتفى
قلنا التلازم بينهما وجودا وعدما لا يفيد الوحدة ولا دخول أحدهما في الآخر كالمتضايفين
المقصد الثالث
المتن
الجسم البسيط يقبل القسمة فإما أن الأجزاء توجد بالفعل أو لا وأيا ما كان فإما متناهية أو غير متناهية فالاحتمالات أربعة
الأول الأجزاء بالفعل ومتناهية وهو مذهب المتكلمين وهو القول بتركبه من الأجزاء التي لا تتجزأ إذ لو كانت الأجزاء متجزئة لم تكن الانقسامات الممكنة كلها حاصلة بالفعل
وحاصلة أن قولنا كل ما يمكن من الانقسامات حاصل بالفعل يلزمه كل ما ليس بحاصل بالفعل فليس بممكن
الثاني الأجزاء بالفعل وغير متناهية وهو قول النظام
الثالث الأجزاء بالقوة ومتناهية وينسب إلى محمد الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل
الرابع بالقوة وغير متناهية وهو مذهب الحكماء
الشرح
المقصد الثالث الجسم إما مركب من أجسام مختلفة الحقائق فلا
326

شك أن أجزاء المختلفة موجودة فيه بالفعل ومتناهية كالحيوان وأما بسيط وهو ما لا يكون كذلك كالماء مثلا والنزاع إنما وقع فيه فنقول الجسم البسيط لا شك أنه يقبل القسمة والتجزئة بأن يفرض فيه شيء غير شيء فأما أن الأجزاء التي يمكن فرضها توجد كلها بالفعل أو لا توجد كذلك وأيا ما كان فإما متناهية أو غير متناهية فالاحتمالات العقلية أربعة
الأول الأجزاء التي يمكن فرضها كلها موجودة بالفعل ومتناهية وهو مذهب جمهور المتكلمين وهو القول بتركبه من الأجزاء التي لا تتجزأ أصلا لا قطعا لصغرها ولا كسرا لصلابتها ولا وهما لعجز الوهم عن تمييز طرف منها عن طرف آخر ولا فرضا عقليا أيضا وإنما قلنا إنه القول بتركبه من تلك الأجزاء إذ لو كانت الأجزاء متجزئة أي قابلة للانقسام ولو فرضا لم تكن الانقسامات الممكنة كلها حاصلة بالفعل فلم تكن الأجزاء التي يمكن فرضها موجودة بأسرها فيه بالفعل وهو خلاف المقدر
وحاصله أن قولنا كل ما يمكن من الانقسامات حاصل بالفعل وهو معنى قولنا جميع الأجزاء الممكنة بحسب الفرض موجودة بالفعل يلزمه قولنا كل ما ليس بحاصل بالفعل من الانقسام فليس بممكن فتكون الأجزاء الموجودة بالفعل ممتنعة الانقسام من جميع الوجوه
الثاني الأجزاء كلها بالفعل وغير متناهية مع امتناع الانقسام عليها لما عرفت وهو قول النظام من المعتزلة وانكسافراطيس من الأوائل
الثالث الأجزاء كلها بالقوة ومتناهية وينسب إلى محمد الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل
327

الرابع الأجزاء كلها بالقوة وغير متناهية وهو مذهب الحكماء
واعلم أن المذهبين الأولين يقتضيان خروج جميع الانقسامات الممكنة إلى الفعل إما متناهية أو غير متناهية والمذهبين الأخيرين يقتضيان أن لا يكون هناك انقسام بالفعل بل يكون الجسم البسيط متصلا في نفسه لا مفصل فيه أصلا إلا أنه يقبل انقساما إما متناهيا أي واصلا إلى حد يقف عنده ولا يمكن تجاوزه إياه فيكون الانقسام منتهيا إلى أجزاء لا تتجزأ وقد تركب الجسم منها بالقوة كما ذهب إليه الشهرستاني ويقرب منه ما نقل عن أفلاطون من أن الجسم بالتجزئة ينتهي إلى أن ينمحق فيعود هيولى وإما غير متناه لا بمعنى أن تلك الانقسامات يمكن أن تخرج من القوة إلى الفعل بل بمعنى أن الجسم من شأنه أن يقبل الانقسام دائما ولا ينتهي انقسامه إلى جزء لا يمكن فرض انقسامه وهذا مثل ما ذهب إليه المتكلمون من أنه تعالى قادر على ما لا يتناهى مع أنهم يحيلون اتصاف أمور غير متناهية بالوجود سواء كانت مجتمعة أو متعاقبة فليس مرادهم إلا أن قدرته تعالى لا تنتهي إلى حد لا يمكن مجاوزتها إياه فقس حال القابلية على حال الفاعلية وإذا تمهد هذا فنقول ههنا مذهب خامس وهو مذهب ديمقراطيس فإنه ذهب إلى أن الجسم البسيط مركب من أجسام صغار لا تنقسم بالفعل بل بالفرض فلا تكون الاحتمالات المذكورة منحصرة في المذاهب الأربعة وذلك لأنه
إذا لم تكن جميع الانقسامات حاصلة بالفعل جاز أن لا يكون شيء منها
328

بالفعل وأن يكون بعضها بالفعل دون بعض كما هو مذهبه نعم إذا جعل المبحث هو الجسم المفرد وهو الذي لا يتركب من أجزاء هي أجسام كان مذهبه خارجا عنه فإن قلت إذا كان بعض الانقسامات حاصلا دون بعض احتمل أن تكون أجزاء الجسم الموجودة فيه بالفعل المتصلة في أنفسها قابلة للانقسام في الجهات كلها أو في جهتين أو في جهة واحدة أو مختلطة منها فهذه احتمالات سبعة خارجة عن المذاهب الأربعة قلت هذا صحيح إلا أن ستة منها لم يذهب إليها أحد فهي احتمالات عقلية لا مذاهب
المقصد الرابع
المتن
في حجة المتكلمين وهي نوعان
النوع الأول أن نبين أولا أن كل منقسم له أجزاء بالفعل ثم نبين أنها متناهية أما الأول فلوجوه
الأول القابل للقسمة لو كان واحدا لزم انقسام الوحدة والتالي باطل فالشرطية لأنه يلزم قيام الوحدة بما يقبل القسمة وانقسام المحل يوجب انقسام الحال فيه ضرورة أن الحال في أحد الجزءين غير الحال في الآخر والاستثنائية بينة إذ لا معنى للوحدة إلا كونها لا تنقسم
الثاني لو كان القابل للانقسام واحدا كان التفريق إعداما له والتالي باطل أما الملازمة فلأن التفريق حينئذ إعدام لهوية وإحداث لهويتين فإن من المحال أن الشيء المعين يكون تارة هوية وتارة هويتين وأما بطلان اللازم فلأنه يوجب أن يكون شق البعوض بإبرته للبحر المحيط إعداما لذلك البحر وإيجادا لبحرين آخرين وبديهة العقل تنفيه
329

الثالث أن مقاطع الأجزاء متمايزة بالفعل فإن مقطع النصف غير مقطع الثلث ضرورة وكذا الربع والخمس بالغا ما بلغ وذلك يوجب التمايز بالفعل وأما الثاني فلوجوه
الأول لو كانت المسافة مركبة من أجزاء غير متناهية لامتنع قطعها في زمان متناه ولم يلحق السريع البطيء وبطلان اللازم دليل بطلان الملزوم
الثاني أنه محصور بين الطرفين وانحصار ما يتناهى بين الحاصرين محال
الثالث أن التأليف لا بد أن يفيد زيادة حجم وإلا لكان حجم الاثنين كحجم الواحد وكذا الثلاثة والأربعة إلى غير النهاية فلا يحصل من تأليف الأجزاء حجم والمفروض خلافه وإذا كان التأليف يفيد زيادة حجم فليجعل التأليف من أجزاء متناه في جميع الجهات فيحصل حجم في الجهات وهو الجسم فليس كل جسم مركبا من أجزاء لا تتناهى ثم نقول وهذا الجسم له حجم متناه وأجزاء متناهية والجسم الذي فيه البحث ما له حجم متناه وأجزاء غير متناهية ولا شك أن بحسب ازدياد الأجزاء يزداد الحجم فتكون نسبة الحجم إلى الحجم نسبة الأجزاء إلى الأجزاء لكن نسبة الحجم إلى الحجم نسبة متناه إلى متناه ونسبة الأجزاء إلى الأجزاء نسبة متناه إلى غير متناه فتكون نسبة المتناهي إلى المتناهي كنسبة المتناهي إلى غير المتناهي هذا خلف
النوع الثاني أن نبين تركب الجسم منها ابتداء وهو وجوه
الأول النقطة موجودة إذ بها تماس الخطوط والخطوط بها تماس
330

السطوح والسطوح بها تماس الأجسام وتماس الموجودين بالمعدوم ضروري البطلان وأيضا فإنها طرف للخط وهو للسطح وطرف الموجود موجود ثم أنها لا تنقسم
قلنا في الجسم الموجود ذو وضع لا ينقسم فإن كان جوهرا فهو المطلوب وإلا لكان له محل لا ينقسم وإلا انقسم الحال فيه لما مر مرارا ولا يتسلسل بل ينتهي إلى جوهر كذلك وهو الجزء الذي لا يتجزأ
الثاني الحركة موجودة وأنها تنقسم إلى حاضرة وماضية ومستقبلة فنقول إن الحاضرة منها موجودة وإلا لم يوجد الماضي ولا المستقبل لأن الماضي ما كان حاضرا والمستقبل ما سيحضر وأنها لا تنقسم وإلا لكان بعض أجزائها قبل وبعضها بعد لأنها غير قار الذات ضرورة فلا يكون كلها حاضرا هذا خلف وكذا جميع أجزائها إذ ما من جزء إلا وكان حاضرا حينا ما فثبت أن الحركة مركبة من أجزاء لا تتجزأ فكذا المسافة لانطباقها عليها أو نقول لأنه لو انقسمت المسافة لانقسمت الحركة عليها فإن الحركة إلى نصفها نصف الحركة إليها
الثالث برهن إقليدس على وجود زاوية هي أصغر الزوايا وهي ما تحصل من مماسة خط مستقيم لا تنقسم ولا تتصور إلا بإثبات الجزء
الرابع نفرض كرة تماس سطحا مستويا لإمكان الكرة والسطح وتماسهما ضرورة فما به المماسة لا ينقسم وإلا فإما في جهة فهو خط أو أكثر فهو سطح ولانطباقه على السطح المستوي فهو مستوي فلا تكون
331

الكرة كرة هذا خلف ثم نفرض تدحرجها على السطح بحيث تماسه بجميع أجزائها فتكون جميع الأجزاء غير منقسمة وهو المطلوب
الخامس نفرض خطا قائما على خط ويمر عليه فإنه يماس في مروره جميع أجزاء ذلك والمماسة إنما تكون بنقطة فالخط الممرور عليه مركب من نقط والسطح من خطوط والجسم من سطوح وهو المطلوب
السادس لولا انتهاء الأجسام إلى الأجزاء لا تتجزأ لكان الانقسام في السماء والخردلة ذاهبا إلى غير النهاية فتكون أجزاؤهما الممكنة سواء وهو بهت
السابع لولا الجزء لكان يمكن أن تقسم الخردلة إلى صفائح غير متناهية فتغمر وجه الأرض وتفضل عليها بما لا يتناهى وأنه ضروري البطلان ونقد ذلك وإن كان يمكن الجواب عنه جدلا ففيه للمصنف إقناع
الشرح
المقصد الرابع في حجة جمهور المتكلمين على مذهبهم وهي نوعان
النوع الأول أن نبين أولا أن كل منقسم أي قابل للانقسام له أجزاء بالفعل أي يكون جميع ما يقبل الانقسام إليه من الأجزاء حاصلة بالفعل ثم نبين أنها أي تلك الانقسامات والأجزاء الحاصلة بالفعل متناهية فيعلم من الأول أن أجزاء الجسم البسيط حاصلة بالفعل غير قابلة للانقسام ومن الثاني تناهيها أما الأول وهو أن كل ما يقبل القسمة فهو منقسم بالفعل فلوجوه ثلاثة
332

الأول القابل للقسمة لو كان واحدا في نفسه غير منقسم بالفعل لزم انقسام الوحدة والتالي باطل فالشرطية أي استلزام المقدم للتالي لأنه يلزم على ذلك التقدير قيام الوحدة الحقيقية بما يقبل القسمة وانقسام المحل يوجب انقسام الحال في ضرورة أن الحال في أحد الجزءين غير الحال في الجزء الآخر والاستثنائية أي بطلان التالي بينة إذ لا معنى للوحدة إلا كونها لا تنقسم يعني أن وحدة الشيء عبارة عن عدم انقسامه فلا بد أن يكون مفهوم عدم الانقسام الحال فيه غير منقسم إذ لو انقسم لم يكن وحدة بل اثنينية حالة في ذلك الشيء وهذا الوجه مبني على أن الوحدة صفة وجودية سارية في محلها لكن الظاهر أنها صفة اعتبارية متعلقة بمجموع الأمر المنقسم من حيث هو مجموع فإذا ورد عليه القسمة زالت الوحدة
الوجه الثاني لو كان القابل للانقسام واحدا في نفسه متصلا في حد ذاته كان التفريق الوارد على ذلك القابل إعداما له وإيجادا لغيره والتالي باطل أما الملازمة فلأن التفريق حينئذ إعدام لهوية هي متصلة في حد ذاتها وإحداث لهويتين منفصلتين لم تكونا موجودتين في تلك الهوية الاتصالية وإلا كانت منقسمة بالفعل والمفروض خلافه وقد وجب كون التفريق على ذلك التقدير إعداما وإحداثا فإن من المحال أن الشيء المعين يكون تارة هوية واحدة لا انفصال فيها أصلا وتارة هويتين متفاصلتين وأما بطلان اللازم فلأنه أي اللازم يوجب أن يكون شق البعوض بإبرته للبحر المحيط إعداما لذلك البحر وإيجادا لبحرين آخرين وبديهة العقل تنفيه وقد أجيب عنه بأنه استبعاد لا يفيد اليقين ودعوى الضرورة في محل الخلاف غير مسموعة
الوجه الثالث أن مقاطعة الأجزاء في الأمر القابل للانقسام إليها متمايزة بالفعل فإن مقطع النصف غير مقطع الثلث ضرورة وكذا الربع
333

والخمس وغيرهما من الأجزاء بالغا ما بلغ فإن مقاطعها متمايزة بأسرها وذلك أي تمايز مقاطع الأجزاء التي يمكن فرضها يوجب التمايز في تلك الأجزاء بالفعل إذ لو لم تكن الأجزاء متمايزة في الوجود لم تختلف بتلك الخواص المتمايزة وأجيب عنه بأن مفهومات المقاطع أوصاف اعتبارية يعتبرها العقل عند فرض التجزئة وذلك لا يوجب تمايز محالها إلا بحسب الفرض أيضا
وأما الثاني وهو أن تلك الأجزاء الحاصلة بالفعل من الانقسامات الفعلية متناهية فلوجوه ثلاثة أيضا
الأول لو كانت المسافة المتناهية المقدار مركبة من أجزاء غير متناهية موجودة فيها بالفعل كما ذهب إليه النظام لامتنع قطعها في زمان متناه إذ لا يمكن قطعها إلا بعد قطع نصفها ولا قطع نصفها إلا بعد قطع نصف نصفها وهكذا إلى مالا نهاية له فامتنع قطعها إلا في زمان غير متناه ولم يلحق السريع البطيء إذا توسط بينهما مسافة قليلة فإن تلك المسافة مركبة من أجزاء غير متناهية لا يمكن للسريع قطعها في زمان متناه فلا يلحق البطيء قطعا وبطلان اللازم وهو امتناع قطع المسافة المتناهية في زمان متناه وعدم لحوق السريع للبطيء دليل بطلان الملزوم وهو كون تلك المسافة مركبة من أجزاء موجودة بالفعل غير متناهية ويحكى أن العلاف لما أورد هذا الإلزام على النظام التجأ إلى القول بالطفرة فقال إن المتحرك قد يقطع المسافة بأن يحاذي بعض أجزائها دون بعض ولا حاجة له إلى هذه المكابرة بل يكفيه أن يقول كما أن المسافة المتناهية مركبة من أجزاء
334

موجودة غير متناهية كذلك الزمان المتناهي مشتمل على أجزاء غير متناهية فيتقابل أجزاء المسافة والزمان معا فيمكن قطعها فيه واعلم أن النظام لم يكن قائلا بالجزء الذي لا يتجزأ وتركب الجسم منه إلا أنه لزمه ذلك من حيث لا يدري فإنه لما وقف على أدلة نفاة الجزء ولم يقدر على ردها أذعن لها وحكم بأن الجسم ينقسم انقسامات لا تتناهى لكنه لم يفرق بين ما هو موجود في الشيء بالقوة وبين ما هو موجود فيه بالفعل فظن أن جميع الانقسامات التي لا تتناهى حاصلة في الجسم بالفعل فصرح بأن في الجسم أجزاء غير متناهية موجودة بالفعل ولزمه القول بالجزء فإنه إذا كان كل انقسام ممكن في الجسم حاصلا فيه بالفعل فما لا يكون من الانقسامات حاصلا في الجسم امتنع حصوله فيه فتكون أجزاؤه غير قابلة للانقسام فقد وقع فيما كان هاربا عنه نافيا له غير معترف به ومن ثمة نقل عنه أنه لما عيره مثبتو الجزء على القول بالطفرة أجاب بأنها ليست أبعد مما لزمكم من القول بتفكك الرحى فالتزموه
الوجه الثاني إنه أي الجسم الذي نحن بصدده متناه بالحجم والمقدار فهو محصور بين الطرفين المحيطين به وكذا أجزاؤه محصورة بينهما وانحصار ما لا يتناهى بين الحاصرين محال فاستحال أن تكون أجزاؤه الموجودة فيه بالفعل غير متناهية إلا أن يلتزم التداخل فيما بين تلك الأجزاء لكنه مما تشهد البديهة ببطلانه
الوجه الثالث إن التأليف هو ضم بعض الأجزاء الموجودة في الجسم إلى بعض لا بد أن يفيد زيادة حجم وإلا لكان حجم الاثنين كحجم الواحد وكذا الثلاثة والأربعة إلى غير النهاية فلا يحصل من تأليف الأجزاء وإن كانت غير متناهية حجم أصلا والمفروض خلافه لأن الجسم له حجم ممتد في الجهات ولا شك أن هذا الحجم إنما حصل له من تأليف أجزائه بعضها إلى بعض وإذا كان التأليف يفيد زيادة حجم فليجعل التأليف من أجزاء متناهية في جميع الجهات فيحصل حجم في الجهات كلها وهو الجسم وتوضيحه أن كل عدد سواء كان متناهيا أو غير متناه فإنه يشتمل
335

على آحاد حقيقية أي غير منقسمة بالفعل لأن حقيقة العدد مركبة من الآحاد قطعا والمنقسم بالفعل عدد لا واحد فلو لم يوجد في العدد إلا ما هو منقسم بالفعل لم يوجد فيه الواحد أصلا فلا يكون عددا قطعا فإذا فرض أن أجزاء الجسم عدد غير متناه فلا شك أن فيها آحادا متناهية فإذا أخذت تلك الآحاد وضم بعضها إلى بعض حصل جسم مركب من أجزاء متناهية فليس كل جسم مركبا من أجزاء لا تتناهى فبطل الكلية التي ادعاها النظام
فإن قلت هذا جسم مصنوع وما ذهب إليه إنما هو في الأجسام المخلوقة
قلت ما ذكرناه تصوير له مع كونه موجودا في ضمن تلك الأجسام إذ لا بد أن ينضم فيها أجزاء متناهية بعضها إلى بعض ثم إذا شئنا أن نبطل قوله بالكلية نقول وهذا الجسم له حجم متناه وأجزاء متناهية والجسم الذي فيه البحث ما له حجم متناه لتناهي الأبعاد وأجزاء غير متناهية على زعمه ولا شك أن بحسب ازدياد الأجزاء يزداد الحجم لأن حجم المؤلف من الأجزاء هو حجم الأجزاء المؤلفة المقتضية لازدياد حجمه فتكون نسبة الحجم إلى الحجم نسبة الأجزاء إلى الأجزاء لكن نسبة الحجم إلى الحجم نسبة متناه إلى متناه ونسبة الأجزاء إلى الأجزاء إلى الأجزاء نسبة متناه إلى غير متناه فتكون نسبة المتناهي إلى المتناهي كنسبة المتناهي إلى غير المتناهي هذا خلف فلا يكون شيء من الأجسام المتناهية المقدار مؤلفا من أجزاء غير متناهية ولا مهرب له عن ذلك أيضا سوى تجويز التداخل إذ لا يجب حينئذ أن تكون نسبة الحجم إلى الحجم نسبة الأجزاء إلى الأجزاء لكنه باطل كما عرفت وهذه الوجوه الثلاثة لا تبطل القول بكون الجسم متصلا واحدا قابلا لانقسامات غير متناهية على معنى أنها لا تقف على حد لا تتجاوزه لأن
336

الجسم ليس حينئذ مشتملا على أجزاء غير متناهية بالفعل بل بالقوة التي يستحيل خروجها بكليتها إلى الفعل كما مر
النوع الثاني من حجة جمهور المتكلمين على ما ذهبوا إليه أن نبين تركب الجسم منها أي من الأجزاء التي لا تتجزأ ابتداء أي من غير استعانة بأن كل قابل للانقسام فهو منقسم بالفعل كما في النوع الأول وأما كون تلك الأجزاء متناهية فهو ظاهر أو معلوم مما مر آنفا وهو وجوه سبعة
الأول النقطة وهي ذات وضع لا تنقسم موجودة إذ بها تماس الخطوط والخطوط بها تماس السطوح والسطوح بها تماس الأجسام وتماس الموجودين بالمعدوم ضروري البطلان يعني أنه لا شبهة في أن الأجسام موجودة وأنها تتماس بأمور موجودة منقسمة في الطول والعرض دون العمق وإلا لزم التداخل بين المنقسمين في العمق أو كون التماس بجزئين منهما لا بهما فينقل الكلام إلى ذينك الجزئين وعدم انقسامهما ولا يتسلسل بل ينتهي إلى ما لا ينقسم في العمق وذلك هو السطح فثبت وجوده ثم إن السطحين الموجودين يتماسان على أمر منقسم في الطول دون العرض وإلا لزم أحد الأمرين كما عرفت وذلك هو الخط فثبت وجوده أيضا ثم إن الخطين الموجودين يتماسان على أمر ذي وضع لا ينقسم أصلا وهو النقطة وأيضا فإنها أي النقطة طرف للخط وهو للسطح وهو للجسم وطرف الموجود موجود فتكون النقطة موجودة ثم إنها لا تنقسم أصلا قلنا في الجسم موجود ذو وضع لا ينقسم فإن كان جوهرا فهو المطلوب لأن ذلك الجوهر الذي لا يقبل الانقسام بوجه من الوجوه جزء للجسم وإلا أي وإن لم يكن جوهرا بل عرضا لكان له محل لا ينقسم
337

وإلا انقسم الحال فيه لما مر مرارا وذلك المحل إن كان جوهرا فذاك وإن كان عرضا كان له محل آخر ولا يتسلسل بل ينتهي إلى جوهر كذلك أي غير منقسم وهو الجزء الذي لا يتجزأ وقد وقع جزءا للجسم ثم إذا أخرجناه عن الجسم واعتبرنا التماس بالقياس إلى ما كان مجاورا له وهكذا ظهر أن أجزاءه كلها جواهر غير قابلة للانقسام كما هو مطلوبنا وقد أجابوا عن ذلك بأن النقطة عرض غير سار في محله فلا يلزم من انقسام محلها انقسامها بل الأطراف كلها أعراض لكن الخط سار في محله في جهة واحدة فينقسم في هذه فقط والسطح سار في جهتين فينقسم فيهما فقط والنقطة لا سريان لها فلا انقسام فيها
الوجه الثاني الحركة موجودة بالضرورة وأنها تنقسم إلى حاضرة وماضية ومستقبلة فنقول إن الحاضرة منها موجودة وإلا لم يوجد الماضي منها ولا المستقبل لأن الماضي ما كان حاضرا والمستقبل ما سيحضر ولا شك أن الماضي منها لا وجود له حال كونه ماضيا ولا المستقبل حال كونه مستقبلا فإذا لم يوجد الحاضر لم يوجد شيء منهما قطعا فلا وجود للحركة أصلا وهو باطل بالضرورة فوجب أن تكون الحاضرة منها موجودة وأنها لا تنقسم بوجه ولو فرضا وإلا لكان بعض أجزائها المفروضة قبل وبعضها بعد لأنها أي الحركة غير قار الذات ضرورة فإذا فرض فيها جزءان امتنع أن يكونا مجتمعين فلا يكون كلها حاضرا بل بعضها هذا خلف لأن المقدر خلافه وكذا جميع أجزائها غير قابلة للانقسام إذ ما من جزء من أجزائها إلا وكان حاضرا حينا ما فثبت أن الحركة مركبة من أجزاء لا تتجزأ فكذا المسافة التي هي الجسم مركبة منها أيضا لانطباقها أي انطباق الحركة عليها بحيث إذا فرض في إحديهما جزء يفرض بإزائه من
338

الأخرى جزء فإذا كانت أجزاء الحركة غير قابلة للانقسام كانت أجزاء المسافة كذلك أو نقول يجب أن تكون أجزاء المسافة غير منقسمة لأنه لو انقسمت المسافة التي يقع عليها جزء من أجزاء الحركة لانقسمت الحركة عليها أعني ذلك الجزء من الحركة فإن الحركة إلى نصفها أي نصف المسافة نصف الحركة إليها
قال الإمام الرازي هذا أقوى ما احتج به مثبتو الجزء ويرد عليه أن الحركة بمعنى القطع لا وجود لها أصلا كما مر والحركة بمعنى التوسط موجودة في الآن الحاضر لكنها ليست منطبقة على المسافة إذ لا جزء لها في امتداد المسافة بل هي موجودة في كل حد من الحدود المفروضة فيها فليس لنا حركة مركبة من أجزاء لا تتجزأ نعم يرتسم من هذه الحركة الموجودة في الخارج أمر ممتد في الخيال منطبق على المسافة منقسم مثلها إلى أجزاء لا تقف على حد لا يقبل الانقسام
الوجه الثالث برهن إقليدس في الشكل الخامس عشر من المقالة الثالثة من كتاب الأصول على وجود زاوية هي أصغر
الزوايا وهي ما تحصل من مماسة خط مستقيم لمحيط دائرة فهي لا تنقسم إذ لو انقسمت لم تكن أصغر الزوايا ولا تتصور الزاوية التي لا تنقسم إلا بإثبات الجزء لأن تلك الزاوية إن كانت جوهرا كانت جزءا وإن كانت عرضا فلا بد لها من محل هو جوهر غير منقسم والجواب أن المبرهن في كتابه هو أن الزاوية الحادة الحادثة من حدبة الدائرة والخط المماس لها أصغر من كل زاوية حادة مستقيمة الخطين لا أنها أصغر من جميع الحواد
الوجه الرابع نفرض كرة حقيقية تماس سطحا مستويا حقيقيا لامكان الكرة والسطح المذكورين وتماسها ضرورة على تقدير انتفاء
339

الجزء كما هو مذهب الخصم فما به المماسة بينهما لا ينقسم وإلا فإما أن ينقسم في جهة واحدة فهو خط أو في أكثر يعني في جهتين فهو سطح ولانطباقه أي ولانطباق ما به المماسة من الكرة على السطح المستوي فهو مستو سواء كان خطا أو سطحا فلا تكون الكرة المفروضة كرة حقيقية لاستحالة أن يوجد على محيطها خط مستقيم أو سطح مستو بالضرورة هذا خلف فتعين أن يكون ما به المماسة فيهما أمرا غير منقسم ثم نفرض تدحرجها على السطح المستوي بحيث تماسه بجميع أجزئها فتكون جميع الأجزاء من ظاهر الكرة ومن ذلك السطح غير منقسمة وكذا الحال في الأجزاء التي في أعماقها وهو المطلوب
وأجاب ابن سينا عن ذلك بأن الكرة إذا ماست السطح على نقطة فإنها لا تماسه على نقطة أخرى إلا بحركة منقسمة في زمان منقسم ثم إن النقطة الأخرى ليست مجاورة للأولى متصلة بها وإلا كانت منطبقة عليها إذ لا يمكن أن يتصور اتصال بين أمرين غير منقسمين إلا بطريق الانطباق بينهما بكليتهما فلا بد أن يكون بين النقطتين خط وكذا الحال في سائر النقط التي يقع بها التماس بينها فلا يكون محيط الكرة ولا السطح المستوي مركبا من نقط متتالية لا يقال فعلى ما ذكرت لا تحصل المماسة على النقطة الأخرى إلا بعد الحركة ففي حال الحركة لا بد من المماسة فإن كانت المماسة على النقطة الأولى كانت الكرة ساكنة حال كونها متحركة وإن كانت على نقطة متوسطة بينهما لزم خلاف المقدر على أنا ننقل الكلام إلى تلك المتوسطة فوجب إذن أن لا يكون بين نقطتي التماس واسطة فيلزم تتالي النقط لأنا نقول المماسة على النقطة الأولى وإن كانت حاصلة في
340

آن لكنها باقية في زمان حركة الدحرجة المؤدية إلى المماسة على النقطة الأخرى ففي آن حصول هذه المماسة الثانية نزول المماسة الأولى وهكذا كل مماسة على نقطة تحصل في آن أو تبقى زمانا ولا ينافي ذلك استمرار حركة الكرة كما يظهر ذلك بالتخيل الصادق لحركة الدحرجة فلا يلزم تتالي النقط والآنات
الوجه الخامس نفرض خطا قائما على خط ويمر الخط الأول عليه أي على الخط الثاني فإنه يماس الخط المار في مروره جميع أجزاء ذلك الخط الممرور عليه أو المماسة بينهما إنما تكون بنقطة لأن المماس من الخط القائم المار هو طرفه الذي هو النقطة وممسوس النقطة لا يكون إلا نقطة فالخط الممرور عليه مركب من نقط متتالية وكذلك السطح مركب من خطوط متلاقية والجسم مركب من سطوح مجتمعة وهو المطلوب ويتجه عليه أن المتحرك هو المتحيز بالذات فلا بد أن يكون منقسما في جميع الجهات كما سيأتي فالسطح والخط والنقطة لا تكون إلا أعراضا فكيف يتصور حركة خط عرضي على آخر مثله
الوجه السادس لولا انتهاء الأجسام إلى أجزاء لا تتجزأ لكان الانقسام في السماء والخردلة ذاهبا إلى غير النهاية فتكون أجزاؤهما الممكنة سواء لأن أجزاء كل واحدة منهما غير متناهية حينئذ وهو بديهي البطلان ويرد عليه أن الأجزاء فيهما وإن كانت غير متناهية بالمعنى الذي عرفت إلا أن مقادير أجزاء السماء ليست كمقادير أجزاء الخردلة فلا استحالة
الوجه السابع لولا الجزء وانتهاء تقسيم الجسم إليه لكان يمكن أن تقسم الخردلة إلى صفائح غير متناهية فتغمر تلك الصفائح وجه الأرض وتستر وجوه السماوات وتفضل عليها بما لا يتناهى وأنه ضروري البطلان
341

ورد هذا بما عرفت من معنى لا تناهي الانقسام وامتناع خروج جميع الأقسام إلى الفعل وجوبا بل فرضا أيضا
قال المصنف وبعض ذلك الذي ذكرناه من حجج المتكلمين على إثبات الجزء وتركب الجسم منه وإن كان يمكن الجواب عنه جدلا ففيه للمصنف إقناع وطمأنينة باطن فارجع أنت إلى إنصافك في الأجوبة التي مر ذكرها
المقصد الخامس
المتن
حجة الحكماء على أن الجسم واحد متصل قابل للقسمة إلى غير النهاية لا أنه مركب من أجزاء لا تتجزأ أنواع
النوع الأول ما يتعلق بالمحاذاة وذلك وجهان
الأول كل متحيز يمينه غير يساره ضرورة
الثاني أنا إذا ركبنا صفحة من أجزاء لا تتجزأ ثم قابلنا بها الشمس فإن الوجه المضيء أي الذي إلى الشمس غير المظلم أي الذي إلينا وهذا أيضا ضروري
النوع الثاني ما يتعلق بالمماسة وهو وجهان
الأول لو تركب الجسم من أجزاء لا تتجزأ فليست لا تتجزأ هذا خلف بيانه أن الواقع في وسط الترتيب يحجب الطرفين عن التماس فما به يماس أحد الطرفين غير ما به يماس الآخر فينقسم لا يقال لا نسلم ذلك
342

لجواز التداخل لأنا نقول بطلانه ضروري وإن سلم جدلا فيكون حيزهما واحدا وكذا إذا انضم إليهما رابع وخامس بالغا ما بلغ فلا يكون ثمة ترتيب ولا وسط ولا طرف ولا يحصل من تأليفها حجم وذلك خلاف المفروض ومع هذا فالمداخلة بعد المماسة فلا شك أن الملاقي عند المماسة غير الملاقي عند المداخلة التامة فيلزم انقسام
الثاني لو جاز جزء عن ملتقى اثنين لم يكن لا يتجزأ والملزوم حق فاللازم حق واللزوم بين فإنه يكون مماسا لهما لا بالكلية ولا معنى للانقسام إلا ذلك وأما حقية الملزوم فلوجوه
الأول لا شك أنه يتحرك من جزء إلى آخر فاتصافه بالحركة إما عند كونه بتمامه في الجزء الأول أو الثاني أو على الملتقى والأولان باطلان لأنه إما قبل الحركة أو بعد الفراع منها وفي الثالث المطلوب
الثاني نفرض خطا من أجزاء شفع كستة ونفرض فوق أحد طرفيه جزءا وتحت الآخر جزءا ثم تحركا على السوية فلا بد أن يتحاذيا قبل أن يتجاوزا وذلك على المنتصف إذا فرضنا الحركتين سواء وهو ملتقى الثالث والرابع
الثالث نفرض خطا من أجزاء وتر ونفرض ذينك الجزءين كليهما من فوق كلا من طرف ثم يتحركان سواء فيلتقيان في الوسط وهو الجزء الثالث فيكون هو على ملتقاهما وربما يمنع هذا بأنهما يقعان قبل الثالث إذ شرط انتقالهما فراغ ما يسع الجزءين
النوع الثالث ما يتعلق بالسرعة والبطء وحاصله أحد الأمرين لازم إما انتفاء تفاوت الحركات بالسرعة والبطء وإما تجزؤ الأجزاء والأول منتف فثبت الثاني بيان لزوم أحد الأمرين من طريقين
343

أحدهما إنه إذا قطع السريع جزءا فالبطيء لا يقف لما بينا أن البطء ليس لتخلخل السكنات فهو إذا يتحرك فإما أن يتحرك جزء أيضا فالسريع كالبطيء وهو الأول أو أقل من جزء فيتجزأ وهو الثاني
وثانيهما أن نبين أن ثمة حركة سريعة وبطيئة متلازمتين فيستغني عن الاستعانة بأن البطء ليس لتخلل السكنات بل يكون ذلك دليلا على ذلك مستأنفا فعندما تقطع السريعة جزءا إن قطعت البطيئة مثلها لزم تساوي السريعة والبطيئة أو أقل لزم التجزؤ وذلك في صور
الأولى الدائرة الطوقية من الرحى مع الدائرة القطبية منها إذ لو تحركت الطوقية ووقفت القطبية لزم التفكك وانقسام الرحى إلى دوائر بحسب أجزائها ولو كانت من حديد أو ما هو أشد منه ثم انتصافها عند الوقوف بحيث لا يمكن أن يتفكك منها جزء بأبلغ السعي وذلك وإن كان مما لا يمتنع في قدرة الله تعالى فالعقل جازم بعدمه كسائر العاديات ومعلوم أن الله تعالى لم يخلق في الرحى كل هذه العجائب ليثبت مذهبكم
الثانية فرجار له شعب ثلاث فتثبت واحدة وتدور اثنتان حتى يرسما دائرتين الداخلية صغيرة والخارجية كبيرة يتممان وهما متلازمتان ضرورة والانفكاك ههنا مع عدم التناثر أبعد
الثالثة من وضع عقبة على الأرض ويدور على عقبه فإنه يرسم دائرتين إحداهما بعقبه والأخرى بأطرافه وإن شئت فافرضه مادا باعه فرأس إصبعه يرسم دائرة أكبر بكثير ونحن نعلم بالضرورة أنه لا ينقطع جزءا جزءا وإن شئت فافرضه في الفلك في كوكبين يدور أحدهما قريبا من القطب والآخر على المنطقة
الرابعة الشمس في ظل الخشبة المغروزة حذاءها فإن الظل يقطع من
344

الصباح إلى الظهر قدرا من الأرض محدودا والشمس تقطع ربع فلكها من غير وقوف الظل لأن الشعاع إنما يقع بخط مستقيم ووقوف الظل يبطل الاستقامة
الخامسة دلو على رأس حبل مشدود طرفه الآخر في وسط البئر مع كلاب يجعل في ذلك الحبل ويمد به فالدلو والكلاب يصلان إلى رأس البئر معا فالدلو قطع مسافة البئر حين ما قطع الكلاب نصفه من غير وقوف ضرورة
السادسة جزء يتحرك جزءا على متحرك جزء آخر ولنفرض أ ب ج خطا ونفرض ء ه خطا على أ و ز جزءا على د فإذا تحرك ء من أ إلى ب فقد تحرك ه بتلك الحركة من ب إلى ج وفرضنا تحرك ز من ء وكان مقابلا ل أ إلى ه وهو الآن مقابل ل ج فقد تحرك ز جزئين حين تحرك ء جزءا فحين تحرك ز جزءا يكون ء تحرك أقل من جزء وفيه المراد
النوع الرابع ما يتعلق بالأشكال الهندسية وهو وجوه
الأول أنا نفرض مربعا من أربعة خطوط كل خط من أربعة أجزاء فذلك ستة عشر جزءا فيكون كل ضلع من المربع أربعة أجزاء والقطر أيضا أربعة أجزاء فالقطر كالضلع وأنه محال بشهادة الحس والبراهين الهندسية لا يقال لم لا يجوز أن يكون القطر أطول وبينهما خلاء لأنا نقول الخلاء الذي بين كل جزئين إن وسع جزءا كان القطر مثل الضلعين لأنه سبعة أجزاء وإن كان أقل لزم الانقسام
الثاني مثلث قائم الزاوية كل من الضلعين المحيطين بالقائمة منه عشرة أجزاء فنقول قام البرهان على أن مربع وتره كمجموع مربعي الضلعين ولكن مربع كل ضلع مائة فمجموعهما مائتان فالوتر جذر مائتين وأنه فوق أربعة عشر وأقل من خمسة عشر فيلزم انقسام الجزء حينئذ
345

الثالث هذا المثلث إذا طبقنا رأس وتره على ضلع ومددنا رجله من الطرف الآخر فلا شك أنه كلما ينحط من هذا الضلع شيء يخرج من ذلك الضلع شيء فإن كان مثله لزم أن يكون الوتر مثل المنطبق على ضلع والفاضل عليه وهو مثل الآخر فيكون كمجموع الضلعين ويكذبه الحس والبرهان وهذا يليق بالنوع الثالث من وجه
الرابع بينا وجود الدائرة فإذا فرضنا دائرة فلو كان محيطها من أجزاء لا تتجزأ فإن كان ظاهر الأجزاء أكبر من باطنها انقسم الجزء وإلا فبين كل جزئين إما خلاء فإن كان بقدر ما يسع جزءا كان ظاهرها ضعف باطنها والحس يكذبه وإن كان ذلك الخلاء أقل لزم الانقسام وإما لا خلاء فيكون باطنها كظاهرها وهو كظاهر أخرى محاطة بها وظاهر المحاطة أيضا كباطنها وهي كثالثة ورابعة بالغة ما بلغت فتكون أجزاء طوقية الرحى مثلا كالقطبية وبطلانه لا يخفى
الخامس برهن إقليدس أن الزاوية المستقيمة الخطين تنقسم إلى غير النهاية وأنه ينفي الجزء
السادس برهن على أن كل خط قابل للتنصيف فإذا فرض من أجزاء وتر لزم تجزؤ الوسطاني
الشرح
المقصد الخامس حجة الحكماء على أن الجسم البسيط واحد متصل في نفسه قابل للقسمة إلى غير النهاية لا أنه مركب أي وليس بمركب من أجزاء لا تتجزأ أنواع أربعة
346

النوع الأول ما يتعلق بالمحاذاة وذلك وجهان
الأول كل متحيز بالذات يمينه غير يساره ضرورة وكذا سائر جهاته المتقابلة متغايرة فظهر أن المتحيز بالذات يجب أن يكون منقسما في جميع الجهات فاستحال وجود الجزء الذي لا يتجزأ وكذا وجود الخط والسطح الجوهريين فضلا عن تركب الجسم منها بخلاف النقطة والخط والسطح العرضيين فإنها ليست بمتحيزة بذواتها حتى يتصور لها جهات مقتضية لانقسامها
الوجه الثاني أنا إذا ركبنا صفحة من أجزاء لا تتجزأ ثم قابلنا بها الشمس فإن الوجه المضيء من تلك الصفحة أي الوجه الذي إلى الشمس غير الوجه المظلم أي الذي إلينا وهذا أيضا ضروري فوجب أن تكون تلك الأجزاء منقسمة وقد أجيب عن هذين الوجهين بأن اللازم منهما تعدد الأطراف ويجوز أن يكون لشيء واحد غير منقسم في ذاته أطراف هي أعراض حالة فيه ودفع هذا الجواب بأن الطرفين المحاذيين لليمين واليسار مثلا إن كانا جوهرين فهما جزءان للذي فرض غير منقسم وإن كانا عرضين فإما أن يكونا حالين في محل واحد بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر فيلزم أن يكون ما حاذى منه يمينه عين ما حاذى منه يساره وهو بديهي البطلان وإما أن يكونا حالين في محلين متمايزين في الإشارة فيلزم الانقسام ولو فرضا إذ يمكن حينئذ أن يفرض فيه شيء كما تشهد به البديهة
النوع الثاني ما يتعلق بالمماسة وهو أيضا وجهان
الأول لو تركب الجسم من أجزاء لا تتجزأ فليست تلك الأجزاء أجزاء لا تتجزأ هذا خلف لكونه اجتماعا للنقيضين بيانه أنه إذا تركب الجسم منها فلا بد لها من أن تكون مجتمعة مترتبة متلاصقة وإلا لم يكن هناك تركب حقيقة وحينئذ فلا شك أن الواقع من تلك الأجزاء في وسط الترتيب يحجب الطرفين عن التماس فما به يماس
347

الوسط أحد الطرفين غير ما به يماس الطرف الآخر إذ لو كانا متحدين لم يكن الوسط حاجبا للطرفين بل كانا متماسين وإذا كان الأمر كذلك فينقسم الجزء الوسط مع كونه غير منقسم لا يقال لا نسلم ذلك أي حجب الوسط للطرفين حتى يلزم انقسامه لجواز التداخل بين تلك الأجزاء لأنا نقول بطلانه ضروري فإن بديهة العقل شاهدة بأن المتحيز بذاته يمتنع أن يداخل مثله بحيث يصير حجمهما معا كحجم واحد منهما وإن سلم جواز التداخل جدلا فيكون حيزهما أي حيز المتداخلين واحدا ولا يزداد بانضمام أحدهما إلى الآخر مقدار وكذا إذا انضم إليهما رابع وخامس وغيرهما من الأجزاء بالغا ما بلغ فلا يكون ثمة ترتيب بين الأجزاء ولا وسط ولا طرف ولا يحصل من تأليفها حجم زائد على حجم كل واحد منها وذلك كله خلاف المفروض لأنا فرضنا تركب الجسم الذي هو حجم ممتد في الجهات الثلاث من تلك الأجزاء فلا بد أن يكون بينها ترتيب وأن يكون هناك وسط وطرف ومع هذا الذي ذكرناه من لزوم خلاف المفروض على تقدير التداخل نقول فالمداخلة بين جزئين إنما تكون بعد المماسة بينهما فلا شك أن الملاقي من أحد الجزئين عند المماسة غير الملاقي منه عند المداخلة التامة فيلزم الانقسام في كل واحد من الجزئين ولا يذهب عليك أن لزوم الانقسام من التداخل إنما يتم إذا كان التداخل حادثا بعد وجود الأجزاء وانضمام بعضها إلى بعض أما إذا كانت الأجزاء متداخلة في ابتداء الخلقة بأن خلقت كذلك فلا
الوجه الثاني لو جاز أن يقع جزء لا يتجزأ على ملتقى اثنين من الأجزاء لم يكن ذلك الجزء جزءا لا يتجزأ بل كان منقسما والملزوم
348

حق فاللازم أيضا حق واللزوم بين فإنه يكون الجزء الواقع على ملتقاهما مماسا لهما لا بالكلية أي يجوز أن يكون بكليته مماسا لشيء منهما وألا لم يكن واقعا على الملتقى بل على أحدهما فوجب أن يكون ببعضه مماسا لأحدهما وببعضه مماسا للآخر ولا معنى للانقسام إلا ذلك وأما حقية الملزوم أعني وقوعه على ملتقى جزئين فلوجوه ثلاثة
الأول لا شك أنه أي الجزء الذي لا يتجزأ على تقدير وجوده يتحرك من جزء مثله إلى جزء آخر كذلك فاتصافه بالحركة إما عند كونه بتمامه في الجزء الأول أو في الجزء الثاني أو عند كونه على الملتقى والأولان باطلان لأنه أي كونه في أحد الجزئين حاصل إما قبل الحركة وهو كونه في الجزء الأول أو بعد الفراغ منها وهو كونه في الجزء الثاني فلا يتصور اتصافه بالحركة حال كونه في أحدهما وفي الثالث أعني اتصافه بالحركة حال كونه على ملتقاهما المطلوب
الثاني من هذه الوجوه نفرض خطا مركبا من أجزاء شفع كستة مثلا ونفرض فوق أحد طرفيه جزءا وتحت الطرف الآخر من الخط جزءا آخر ثم نفرض أنهما تحركا أي تحرك كل منهما إلى صوب الآخر على التبادل حركة على السوية فلا بد أن يتحاذيا قبل أن يتجاوزا وذلك التحاذي إنما يكون على المنتصف من الخط إذا قد فرضنا الحركتين سواء في السرعة والبطء وهو أي منتصف الخط ملتقى الثالث والرابع من تلك الأجزاء بالقياس إلى كل واحد من طرفي الخط كما يلوح بأدنى تأمل صادق
الثالث منها نفرض خطا من أجزاء وتر كالخمسة مثلا ونفرض ذينك الجزئين كليهما من فوق كلا منهما من طرف من طرفي الخط ثم نفرض أنهما يتحركان أي كل منهما إلى صاحبه حركة سواء فيلتقيان لا
349

محالة في الوسط وهو الجزء الثالث من كل واحد من الطرفين فيكون هو أي الجزء الثالث على ملتقاهما لأنهما معا عليه وربما يمنع هذا بأنهما أي الجزئين المتحركين يقعان قبل الجزء الثالث إذ شرط انتقالهما إلى الثالث فراغ ما يسع الجزئين معا ولا شك أن الثالث لا يسعهما بل يسع واحدا منهما
النوع الثالث ما يتعلق بالسرعة والبطء وحاصله أحد الأمرين لازم أي ثابت في الواقع على سبيل منع الخلو إما انتفاء تفاوت الحركات بالسرعة والبطء وإما تجزؤ الأجزاء التي لا تتجزأ فإنهما لا يجتمعان في الكذب لأن عدم التجزؤ يستلزم انتفاء التفاوت وعدم الانتفاء أعني وجود التفاوت يستلزم المتجزئ والأول وهو انتفاء تفاوت الحركات منتف ضرورة أن الحركات متفاوتة في السرعة والبطء فثبت الثاني وهو تجزؤ الأجزاء بيان لزوم أحد الأمرين من طريقين
أحدهما أنه إذا تركبت المسافة من أجزاء لا تتجزأ فإذا قطع السريع جزءا منها فالبطيء لا يقف لما بينا من قبل أن البطء ليس لتخلل السكنات فهو أي البطيء إذن يتحرك فإما أن يتحرك جزءا أيضا فالسريع كالبطيء وهو الأول أعني انتفاء التفاوت فيما بين الحركات أو أقل من جزء إذ لا مجال لتوهم حركته أكثر من جزء فتجزؤ الجزء الذي لا يتجزأ لثبوت ما هو أقل منه وهو الثاني من الأمرين اللذين ادعينا لزوم أحدهما
وثانيهما أي ثاني الطرفين المذكورين أن نبين أن ثمة حركة سريعة وبطيئة متلازمتين بحيث يستحيل انفكاك إحديهما عن الأخرى فيستغني حينئذ عن الاستعانة بأن البطء ليس لتخلل السكنات بل يكون ذلك أي
350

تلازم هاتين الحركتين دليلا على ذلك أي على أن البطء ليس للتخلل مستأنفا كما نبهت عليه فيما مر وإذا كانت الحركتان متلازمتين فعندما تقطع السريعة جزءا إن قطعت البطيئة مثلها لزم تساوي السريعة والبطيئة وهو الأمر الأول أو أقل لزم التجزؤ وهو الأمر الثاني وذلك أي تلازم السريعة والبطيئة حاصل في صور ست
الأولى الدائرة الطوقية من الرحى مع الدائرة القطبية منها فإن حركة الأولى سريعة لطول مسافتها وحركة الثانية بطيئة لقصر مسافتها وهما متلازمتان إذ لو تحركت الطوقية مثلا ووقفت القطبية لزم التفكك وانقسام الرحى إلى دوائر متعددة بحسب أجزائها وإنما يتضح ذلك بإخراج خطوط متلاصقة من مركز الرحى إلى الطوق العظيم منها في جميع الجهات فإن تلك الخطوط تكون مركبة من أجزاء لا تتجزأ وتتركب من أجزاء تلك الخطوط أطواق متداخلة متفاوتة في الكبر والصغر والطوق العظيم منها مركب من أطراف هذه الخطوط فإذا تحرك هذا الطوق ولم يتحرك الطوق الذي يلاصقه فقد انفك أحدهما عن الآخر وكذا إذا تحرك الطوق الثاني ولم يتحرك الثالث وهكذا إلى الطوق الذي هو أصغرها فلزوم تفكك الرحى عند تحركها على مثال دوائر محيطة بعضها ببعض ولو كانت الرحى من حديد أو ما هو أشد منه ثم التصاقها عند الوقوف بحيث لا يمكن أن يتفكك منها جزء بأبلغ السعي وذلك الذي ذكرناه من تفكك الرحى حال تحركها والتصاقها حال سكونها وإن كان مما لا يمتنع في قدرة الله تعالى فالعقل جازم بعدمه كسائر العاديات ومعلوم لكل عاقل أن الله تعالى لم يخلق في الرحى كل هذه الغرائب والعجائب ليثبت مذهبكم
351

الصورة الثانية فرجار له شعب ثلاث فتثبت واحدة منها وتدور اثنتان حتى يرسما دائرتين الداخلية صغيرة والخارجية كبيرة ولا شك أن هاتين الشعبتين يتممان الدائرتين معا بحركتيهما وهما متلازمان ضرورة والانفكاك بين الشعبتين ههنا مع عدم التناثر والتساقط أبعد من الانفكاك بين أجزاء الرحى
الصورة الثالثة من وضع عقبة على الأرض ويدور على عقبه فإنه يرسم دائرتين إحداهما بعقبه وهي أصغر والأخرى بأطرافه وهي أكبر وإن شئت فافرضه أي الدائر على عقبه مادا باعه فرأس إصبعه يرسم دائرة أكبر بكثير من الدائرة التي يرسمها عقبه وحركتاهما متلازمتان لأنه إذا تحرك رأس إصبعه جزءا لم يقف عقبه أصلا وإلا لزم تقطع ذلك الشخص على قياس ما مر ونحن نعلم بالضرورة أنه لا ينقطع جزءا جزءا كيف وتفرق الاتصال يوجب الألم مع أنه لا يجد ألما أصلا وإن شئت فافرضه أي رسم الدائرة الصغيرة والكبيرة في الفلك في كوكبين يدور أحدهما قريبا من القطب والآخر على المنطقة فإن حركتهما في رسم الدائرتين متلازمتان وإلا لزم الانخراق في الأفلاك وأن لا تكون موصوفة بالشدة والإحكام
الصورة الرابعة الشمس مع ظل الخشبة المغروزة حذاءها فإن الظل يقطع بالانتقاص من الصباح إلى الظهر قدرا من الأرض محدودا كذارع أو ذراعين مثلا والشمس في هذه المدة تقطع ربع فلكها فحركتها أسرع من حركة الظل بكثير من غير وقوف الظل عن الحركة لأن الشعاع الخارج من الشمس المار برأس الخشبة الواصل إلى طرف الظل إنما يقع بخط مستقيم كما تشهد به التجربة الصحيحة ووقوف الظل عن الحركة مع تحرك الشمس يبطل الاستقامة في الخط الشعاعي لأن الشمس إذا كانت في ارتفاع وقد وصل منها خط شعاعي مار برأس الخشبة إلى طرف الظل على الاستقامة فإذا انتقلت إلى ارتفاع أعلى ولم ينتقص الظل أصلا كان القدر الواقع من ذلك الخط فيما بين رأس الخشبة وطرف الظل باقيا على حاله وقد تغير ما كان منه بين الشمس والخشبة عن وضعه فلا يكون ذلك القدر
352

الذي كان متصلا به على الاستقامة في وضعه الأول متصلا به كذلك في وضعه الثاني وإلا كان خط واحد مستقيم متصلا على الاستقامة بخطين ليسا في سمت واحد وهو باطل بالضرورة
الصورة الخامسة دلو على رأس حبل مشدود طرفه الآخر بوتد في وسط البئر مع كلاب يجعل في ذلك الحبل عند الوتد ويمد به فالدلو والكلاب يصلان إلى رأس البئر معا فالدلو قطع مسافة البئر حين ما قطع الكلاب نصفه من غير وقوف للكلاب ضرورة فقد تلازمت حركة سريعة وبطيئة وقد توهم النظام تساوي هاتين الحركتين في السرعة فاستدل بذلك على الطفرة
الصورة السادسة جزء يتحرك جزءا على خط متحرك جزء آخر في جهة حركة ذلك الجزء ولنفرض أ ب ج خطا ساكنا مركبا من أجزاء ثلاثة ونفرض أيضا د ه خطا مركبا من جزئين على أ ب بحيث يكون د واقعا بإزاء أ و ه واقعا بإزاء ب ونفرض ز جزءا كائنا على د من خط د ه على خط أ ب ج من أ إلى ب فقد تحرك ه د ه أ ب ج بتلك الحركة من ب إلى ج وفرضنا مع ذلك تحرك ز على خط د ه من د وكان أي د مقابلا ل أ في ابتداء الفرض إلى ه أي تحرك ز من د إلى ه وهو أي ه وإن كان مقابلا ل ب ابتداء لكنه الآن مقابل ل ج فيكون ز حينئذ مقابلا ل ج أيضا فقد تحرك ز بمجموع حركته الذاتية والعرضية جزئين حين تحرك د بحركة واحدة جزءا واحدا فإن زود كانا معا محاذيين ل أ من خط أ ب ج قبل الحركة والآن قد صار ز محاذيا ل ج و د محاذيا ل ب فقد ثبت حركتان متلازمتان سريعة وبطيئة وهو المطلوب وإن شئت قلت فحين تحرك ز بمجموع حركته جزءا واحدا يكون د تحرك أقل من جزء وفيه المراد الذي هو انقسام الجزء
353

النوع الرابع ما يتعلق بالأشكال الهندسية وهو وجوه ستة
الأول أنا نفرض مربعا من أربعة خطوط كل خط منها من أربعة أجزاء ونجتهد في ضم الخطوط بعضها إلى بعض غاية الاجتهاد فذلك المربع ستة عشر جزءا هكذا فيكون كل ضلع من المربع أربعة أجزاء والقطر الواصل بين طرفي ضلعين محيطين بزاوية أيضا أربعة أجزاء لأنه إنما يحصل من الجزء الأول من الخط الأول والثاني من الثاني والثالث من الثالث والرابع من الرابع فالقطر كالضلع في المقدار وأنه محال بشهادة الحس والبراهين الهندسية الدالة على أن وتر الزاوية القائمة أطول من كل واحد من ضلعيها لأن مربعه يساوي مربعيهما كما بين في الشكل المسمى بالعروس وأيضا إذا كان إحدى زوايا المثلث قائمة كانت الباقيتان حادتين والزاوية العظمى بوترها الضلع الأطول لا يقال لم لا يجوز في المربع المذكور أن يكون القطر أطول وذلك بأن يقع بينها أي بين أجزاء القطر خلاء دون أجزاء الضلع لأنا نقول الخلاء الذي بين كل جزئين من أجزاء القطر إن وسع جزءا كان القطر مثل مجموع الضلعين لأنه حينئذ سبعة أجزاء هي الأربعة المذكورة والثلاثة الواقعة في الفرج الثلاث بين جميع تلك الأربعة لأن وقوع الفرجة في بعض دون بعض تحكم محض ولا شك أن مجموع الضلعين سبعة أيضا لاشتراكهما في جزء واحد ومساواة القطر لهما معا باطلة حسا وبرهانا وإن كان الخلاء الواقع بين جميع الأجزاء أو بعضها أقل من أن يسع جزءا لزم الانقسام في الجزء لثبوت ما هو أقل منه
الوجه الثاني مثلث قائم الزاوية كل من الضلعين المحيطين بالقائمة
354

منه عشرة أجزاء فنقول قام البرهان في شكل العروس على أن مربع وتره أي وتر قائمة المثلث كمجموع مربعي الضلعين ولكن مجموع مربع كل ضلع في المثلث المذكور مائة فمجموعهما مائتان فالوتر جذر مائتين وأنه فوق أربعة عشر جزءا وأقل من خمسة عشر جزءا وذلك لأن الحاصل من ضرب أربعة عشر في نفسها مائة وستة وتسعون والحاصل من ضرب خمسة عشر في نفسها مائتان وخمسة وعشرون فلا بد أن يكون جذر المائتين فيما بينهما فيلزم انقسام الجزء حينئذ أي الكسر الذي به يتمم الجذر المذكور
الوجه الثالث هذا المثلث القائم الزاوية إذا طبقنا رأس وتره أي وتر قائمته على ضلع من ضلعي القائمة منصوب نحو السماء ومددنا رجله أي رجل الوتر من الطرف الآخر كسلم موضوع على جدار قائم على سطح الأرض يمد أسفله عن موضعه إلى خلاف جهة الجدار فلا شك أنه كلما ينحط من هذا الضلع المنصوب شيء والمقصود أنه كلما ينحط
رأس الوتر عن شيء من هذا الضلع يخرج من ذلك الضلع شيء أي يخرج رجله عن ذلك الضلع بشيء وهكذا إلى أن يصل رأسه إلى أسفل الضلع المنصوب فإن كان ما يخرج به أسفله مثله أي مثل ما ينحط عنه أعلاه لزم أن يكون الوتر مثل المنطبق على ضلع وهو الضلع الذي جر من طرفه أسفله لأن بعض الوتر منطبق على هذا الضلع و مثل الفاضل عليه أي على هذا الضلع أعني مقدار الانجرار وهو أي هذا الفاضل مثل الضلع الآخر إذ المفروض أن مقدار الانحطاط كمقدار الانجرار فيكون الوتر كمجموع الضلعين ويكذبه الحس والبرهان فوجب أن يكون مقدار ما ينجر
355

إليه أقل مما ينحط عنه فإذا انحط جزءا انجر أقل من جزء وهذا الوجه يليق بالنوع الثالث من وجه وهو أن حركة الانحطاط أسرع من حركة الانجرار مع تلازمهما
الوجه الرابع بينا فيما تقدم وجود الدائرة وإمكانها مناف لوجود الجزء الذي لا يتجزأ كما يتبين من قوله فإذا فرضنا دائرة فلو كان محيطها مركبا من أجزاء لا تتجزأ فإن كان ظاهر تلك الأجزاء أكبر من باطنها حتى إذا تلاقت بظواهرها وبواطنها كان محدب المحيط المركب منها أكبر من مقعرة انقسم الجزء لاشتماله على ظاهر أكبر وباطن أصغر وإلا أي وإن لم يكن ظاهرها أكبر من باطنها فبين كل جزئين من أجزاء المحيط في جهة محدبة إما خلاء بأن تكون بواطن الأجزاء متلاقية دون ظواهرها فيلزم الانقسام في الجزء أيضا لأن ما كان منه ملاقيا مغاير لما ليس بملاق على أنا نقول فإن كان الخلاء الواقع بين كل جزئين بقدر ما يسع جزءا كان ظاهرها أي ظاهر محيط الدائرة ضعف باطنها على ذلك التقدير والحس يكذبه فإن محدب المحيط وإن كان أكبر من مقعره إلا أنه يستحيل أن يكون ضعفه وإن كان ذلك الخلاء أي كل واحد منه أو بعضه أقل من قدر يسع جزءا لزم الانقسام في الجزء لثبوت ما هو أقل منه وإما لا خلاء بأن تكون ظواهرها متلاقية كبواطنها مع أنه لا تفاوت بينهما فيكون حينئذ باطنها أي باطن محيط الدائرة أو باطن الدائرة فإنها قد تطلق على محيطها كظاهرها في المقدار وهو أي باطنها كظاهر دائرة أخرى محاطة بها لانطباقها عليه وظاهر المحاطة أيضا كباطنها لما عرفت في المحيطة وهي أي الدائرة المحاطة كثالثة ورابعة إلى دوائر أخرى بالغة ما بلغت فتكون أجزاء طوقية الرحى مثلا كالقطبية منها وبطلانه لا يخفى والأظهر في تقرير هذا الوجه ما ذكر في الملخص من أنه يمتنع جعل
356

الخط المركب من الأجزاء التي لا تتجزأ دائرة لأنا إذا جعلنا دائرة فإما أن تتلاقى ظواهر أجزائه كما تلاقت بواطنها فيلزم أن تكون مساحة ظاهرها كمساحة باطنها فإذا أحاطت بهذه الدائرة دائرة أخرى كان حكمها مثل حكم الأولى فيكون ظاهر المحيطة كباطنها وباطنها كظاهر المحاطة بها لانطباقه عليه وظاهر المحاطة به كباطنها فيكون ظاهر المحيطة كباطن المحاطة بها ثم هكذا تجعل الدوائر محيطا بعضها ببعض بلا فرجة بينهما إلى أن تبلغ دائرة طوقها مثل طوق الفلك الأعظم فلا تزيد أجزاء هذه الدائرة العظيمة جدا على أجزاء الدائرة المفروضة أولا مع كونها صغيرة جدا وأما أن لا غير الجوانب تتلاقى ظواهرها مع تلاقي بواطنها فيلزم الانقسام لأن الجوانب المتلاقية غير الجوانب التي لم تتلاق فظهر أن إمكن الدائرة ينافي وجود الجزء
الوجه الخامس برهن إقليدس في المقالة الأولى من كتاب الأصول أن الزاوية المستقيمة الخطين قابلة للتنصيف بخط مستقيم فيكون نصفها زاوية مستقيمة الخطين قابلة للتنصيف أيضا وهكذا فالزاوية المستقيمة الخطين تنقسم إلى غير النهاية وأنه ينفي الجزء
الوجه السادس برهن إقليدس في تلك المقالة على أن كل خط قابل للتنصيف فإذا فرض الخط مركبا من أجزاء وتر كخمسة مثلا لزم تجزؤ الجزء الوسطاني
المقصد السادس
المتن
في تحرير مذهب الحكماء قالوا لما تقرر أن الجسم لا ينفصل إلى أجزاء لا تتجزأ فقط فقد ثبت أنه متصل واحد في الحقيقة كما هو عند
357

الحس وقابل للقسمة إلى غير النهاية إما بالفك وإما باختلاف عرضين قارين كالسواد والبياض أو غير قارين كمماستين ومحاذاتين نعم قد يمنع عن الانفكاكية مانع كصورة نوعية أو صلابة أو فقد آلة أو صغر وأما الفرضية فلا تقف أبدا
المقصد السادس في تحرير مذهب الحكماء في الأجسام البسيطة الطباع قالوا لما تقرر بالبرهان أن الجسم البسيط كالماء مثلا لا ينفصل إلى أجزاء لا تتجزأ وما في حكمها من الجواهر المنقسمة في جهة واحدة أو في جهتين فقط فقد ثبت أنه متصل واحد في الحقيقة لا مفصل فيه أصلا كما هو عند الحس وقابل للقسمة إلى غير النهاية أي لا تصل قسمته إلى حد تقف عنده كما مر وإلا لزم وجود الجزء عند انتهاء القسمة والحاصل أن ذلك الجسم ليس مركبا بالفعل من إجزاء لا تتجزأ وما في حكمها فيكون متصلا في نفسه ولا تنتهي قسمته إليها فيكون قابلا لانقسامات غير متناهية والقسمة إما بالفك كسرا أو قطعا والفرق بينهما أن القطع يحتاج إلى آلة نفاذة فاصلة بالنفوذ دون الكسر وأيضا للقطع نوع اختصاص بالأجسام اللينة والكسر بالأجسام الصلبة وإما باختلاف عرضين قارين في محلهما لا بالقياس إلى غيره كالسواد والبياض أو غير قارين في المحل باعتبار نفسه بل بالإضافة إلى غيره كمماستين ومحاذاتين وإما بالوهم والفرض فهذه الثلاثة وجوه القسمة في الجسم نعم قد يمنع عن القسمة الانفكاكية مانع كصورة نوعية كما في الأفلاك أو صلابة شديدة في بعض الأجسام العنصرية أو فقد آلة يحتاج إليها في القطع أو الصغر متبالغ لا يتيسر معه القطع ولا الكسر وإما القسمة الفرضية فلا تقف أبدا وقد بين انحصار القسمة في الثلاثة المذكورة بأنها إما مؤدية إلى الافتراق وهي الفكية أو لا وحينئذ إما أن تكون موجبة للانفصال في الخارج وهي
358

التي باختلاف عرضين أو في الذهن وهي الوهمية وإنما ذكر الفرض العقلي مع الوهم لأن الوهم ربما لم يقدر على تمييز طرف عن طرف لغاية الصغر فيقف بخلاف العقل فإنه لا يقف لإحاطته بالكليات المشتملة على الكبير والصغير والصواب أن اختلاف الأعراض لا يوجب انفصالا خارجيا لأنا نعلم قطعا أن الجسم المتصل في نفسه إذا وقع ضوء على بعضه لم ينفصل في الخارج حتى إذا زال الضوء عنه عاد إلى اتصاله بل هذا الاختلاف باعث للوهم على فرض الأجزاء وحينئذ يقال الانفصال إما في الخارج كما بالقطع والكسر وإما في الوهم فإما بتوسط أمر باعث كما باختلاف الأعراض أو لا بتوسطه كما بالوهم والفرض فظهر أن القسمة اثنتان انفكاكية وهي قسمة خارجية منقسمة إلى قسميها وغير انفكاكية وهي قسمة ذهنية وتسمى وهمية وفرضية أيضا وتنقسم إلى القسمين المذكورين هذا هو الضبط وقد يفرق بين الفرضية والوهمية كما أشرنا إليه ويجعل ما باختلاف الأعراض قسيما للوهمية المجردة كما في الكتاب فعليك بالتثبت في موارد الاستعمال
المقصد السابع
المتن
في دليلهم على إثبات الهيولى والصورة قالوا فالجسم متصل وهو قابل للانفصال فثم اتصال نسميه الصورة الجسمية وندعي أنه ليس تمام حقيقة الجسم بل ثمة أخر آخر يقوم به الاتصال فإن ثمة أمرا قابلا للاتصال تارة والانفصال أخرى والقابل لهما ليس نفس الاتصال ضرورة أن الثابت للشيئين غير كل واحد من المتزايلين أو نقول قابل الاتصال باق مع الانفصال والاتصال لا يبقى مع الانفصال فهو غيره فهذا الأمر هو الذي نسميه بالهيولى
359

وتلخيصه أنهم كما أثبتوا بتوارد المقادير مع بقاء صورة اتصالية قابلة للكميات كون الكم غير الاتصال أثبتوا بتوارد اتصالات مختلفة بالشخص على أمر باق بالضرورة كون الاتصال غير ما يقبله وسموا الاتصال صورة والقابل له مادة
وربما يقال في المعارضة الهيولى إذا كانت واحدة كانت متصلة وإذا كانت كثيرة كانت منفصلة فهي قابلة للاتصال والانفصال فلو اقتضى قبولهما إثبات هيولى لزم أن يكون للهيولي هيولى ويلزم التسلسل وهو مندفع بما ذكرنا من التلخيص فإنا أثبتنا كون الاتصال غير القابل فلا يلزم للهيولي هيولى إلا بإثبات أمرين
أحدهما أن لها اتصالا مغايرا لهذا
والثاني أنه يزول عنها ويعود إليها وذلك مما لا سبيل إليه فإن وحدتها وكثرتها بحسب ما يعرض لها من الاتصال ويقارنها من الصورة وإلا فهي لا واحدة ولا كثيرة ولا متصلة ولا منفصلة إنما هي استعداد محض لا فعل لها إلا بالصورة
واعلم أن هذا البرهان لا يتم إلا بإبطال قوله من يقول مبادئ الأجسام أجزاء متجزئة في الوهم غير قابلة للتجزئة بالفعل واتصال الجسم عبارة عن اجتماع تلك الأجزاء وانفصاله عن افتراقها وكل جزء منها متصل بالحقيقة وغير قابل للانفصال والجسم الذي يقبل الانفصال غير متصل بالحقيقة فليس ثمة أمر قابل الاتصال والانفصال
وأبطله ابن سينا بما حاصله أن كل جزء منها تحدث فيه القسمة الوهمية اثنينية فتكون طباع كل منهما طباع الآخر الخارج الموافق لها في الماهية فيجوز على المتصلين ما يجوز على المنفصلين من الانفصال وعلى
360

المنفصلين ما يجوز على المتصلين من الاتصال اللهم إلا لمانع وذلك المانع لا يكون لازما لماهيته وإلا انحصر نوعه في شخصه فيمكن مفارقته وعند فرض زواله يكون قابلا للاتصال والانفصال ويحصل المطلوب ومبناه كون الأجزاء متوافقة في الماهية وهو ممنوع
ثم نقول قد يكون تشخص أحدهما مانعا أو الآخر شرطا له وربما يقال الاتصال الوحدة والانفصال الكثرة وهما عارضان للجسم فعليكم ببيان كون الاتصال جزءا من الجسم فإنا من وراء المنع وهذا فيه التزام لثبوت أمر غير الاتصال قابل له ويصير النزاع في كون الجسم ذلك القابل أو مع هذا الاتصال ولا شك أن الصورة الاتصالية أول ما يدرك من جوهرية الجسم والذي يحتاج إلى الإثبات هو المادة فيصير النزاع لفظيا
وههنا سؤال يستصعبه بعض وهو أن الاتصال إذا كان جزءا للجسم فبزواله تعدم هوية الجسم فلا يكون الجسم قابلا له وإذا كان الجسم يبقى مع زواله فليس هو جزءا للجسم وظن أن ذلك مغالطة وقعت من الاشتراك اللفظي فإن الاتصال يقال للصورة التي بها قبول الامتدادات الثلاثة وهو أمر لا يزول عن الجسم ولنفس الامتدادات وهو كم وليس جزءا لجسم بل عارضا له
وجوابه إن قولنا الجسم قابل للاتصال ليس معناه أن شخصا من الجسم باقيا يتوارد عليه اتصال تارة واتصالان أخرى وكيف يكون الواحد بالشخص واحدا تارة واثنين أخرى بل مرادنا أن ثمة أمرا يستحفظ الماهية الجسمية معلوم البقاء في الأحوال وتتوارد عليه الهويات فذلك المستحفظ هو القابل بالحقيقة ومغاير للهويات التي تتجدد بالاتصال والانفصال
فإنا نعلم بالضرورة أن الماء الذي في الجرة إذا جعل في الكيزان فقد زالت هويته الشخصية حتى صار شخص واحد أشخاصا متعددة وثمة أمر باق
361

في الحالين هو معروض تارة لاتصال وتارة لاتصالات متعددة وليس نسبة هذه الأشخاص إلى ذلك الشخص كنسبة سائر الأشخاص من مياه لم تكن في تلك الجرة ولو كان زوال الهوية لا بزوال جزء وبقاء جزء بل بانتفاء الأجزاء بالمرة لما كان كذلك
تنبيه وربما قالوا الجسم له قوة وفعل والبسيط لا يكون كذلك وربما استعانوا بالتخلخل والتكاثف والكون الفساد والمعتمد في نفي الهيولى أنها إما لها حصول في الحيز أو لا فإن كان فإما على سبيل الاستقلال فجسم أو لا فالهيولى صفة حالة في الجسمية وإلا فلا تختص الجسمية بها لأنه أمر معقول محض وقد يقال لو كان الجسم مركبا من جزئين لزم من تعقله تعقلهما واللازم باطل والجواب منع تعقل حقيقته
الشرح
المقصد السابع في دليلهم على إثبات الهيولى والصورة وكون الجسم مركبا منهما قالوا فالجسم البسيط متصل واحد في حد ذاته كما عرفت وهو قابل للانفصال الانفكاكي كما إذا صب ماء الجرة في إنائين فثمة اتصال أي جوهر ممتد في الجهات متصل في نفسه نسميه الصورة الجسمية وندعي أنه أي ذلك الجوهر المتصل ليس بتمام حقيقة الجسم بل ثمة أمر آخر يقوم به الاتصال أي الجوهر المتصل على معنى أنه يختص به اختصاصا ناعتا له فيكون حالا فيه وبيانه أن الجسم المتصل إذا طرأ عليه الانفصال زال اتصاله وصار منفصلا وحينئذ نقول فإن ثمة أمرا قابلا
362

للاتصال تارة والانفصال أخرى وذلك القابل لهما ليس نفس الاتصال ضرورة أن القابل الثابت للشيئين اللذين يزول كل منهما مع حصول الآخر غير كل واحد من الشيئين المتزايلين فالقابل للاتصال والانفصال يغاير كلا منهما أو نقول قابل الاتصال والانفصال باق مع الانفصال والاتصال لا يبقى مع الانفصال فهو غيره أي قابل الاتصال والانفصال غير الاتصال وكيف لا والشيء لا يكون قابلا لنفسه ولا لما ينافيه فهذا الأمر الذي هو قابل للانفصال ومغاير للاتصال هو الذي نسميه بالهيولى الأولى التي تحل فيها الصورة الجسمية فإن كان قبل طريان الانفصال متصفا بالاتصال الواحد حيث كان متصلا واحدا وبعده متصفا بانفصال بل باتصافين حادثين عنده حيث كان حينئذ متصلين وتلخيصه أنهم كما أثبتوا بتوارد المقادير المختلفة على الجسم مع بقاء صورة جوهرية اتصالية قابلة للكميات المتواردة كم الكون المتغير غير الاتصال الباقي بحاله أثبتوا أيضا بتوارد اتصالات مختلفة بالشخص على أمر باق على حاله بالضرورة كون الاتصال المتبدل غير ما يقابله وسموا الاتصال صورة والقابل له مادة والمركب منهما جسما وربما يقال في المعارضة لدليلهم الهيولى على تقدير وجودها إذا كانت واحدة كما قبل الانقسام كانت متصلة لا منفصل فيها وإذا كانت كثيرة بورود الانقسام كانت منفصلة فهي قابلة للاتصال والانفصال فلو اقتضى قبولهما إثبات هيولى كما ذكرتم في الجسم لزم أن يكون للهيولي هيولى أخرى فننقل الكلام إليها ويلزم التسلسل في أمور مرتبة موجودة معا وهو أي هذا الذي ذكر في المعارضة مندفع عنهم بما
363

ذكرنا من التلخيص فإنا أثبتنا كون الاتصال غير القابل للاتصال والانفصال المتعاقبين عليه فلا يلزم للهيولي هيولى أخرى إلا بإثبات أمرين أحدهما أن لها اتصالا مغايرا لهذا الاتصال الذي هو حال فيها حتى تكون هي متصلة في حد ذاتها والثاني أنه أي ذلك الاتصال المغاير يزول عنها ويعود إليها حتى يثبت في ذات الهيولى شيئان الاتصال المغاير وما هو قابل له فيكون للهيولي هيولى أخرى وذلك مما لا سبيل إليه فإن وحدتها أي وحدة الهيولى وكثرتها بحسب ما يعرض لها من الاتصال ويقارنها من الصورة فهي قبل ورود الانفصال واحدة متصلة بالصورة الواحدة الحالة فيها وبعده متكثرة منفصلة بالصور المتعددة الحالة فيها وإلا فهي في نفسها لا واحدة ولا كثيرة ولا متصلة ولا منفصلة إنما هي في ذاتها استعداد محض لا فعل لها في الصفات المذكورة إلا بالصورة فهي متصفة بها تبعا لها لا في حد ذاتها
واعلم أن هذا البرهان الذي ذكر على إثبات الهيولى لا يتم إلا بإبطال قول من يقول كديمقراطيس وأتباعه مبادئ الأجسام البسيطة أجزاء هي أجسام صغار صلبة متجزئة في الوهم بحسب الجهات الثلاث لكنها غير قابلة للتجزئة الموجبة للانفصال بالفعل في الخارج واتصال الجسم البسيط عبارة عن اجتماع تلك الأجزاء وانفصاله عن افتراقها وكل جزء منها متصل في نفسه بالحقيقة وغير قابل للانفصال الانفكاكي بل للانفصال الوهمي والجسم الذي يقبل الانفصال الفكي كالماء مثلا غير متصل في نفسه بالحقيقة بل بحسب الحس لعجزه عن إدراك المفاصل التي بين تلك الأجزاء فليس ثمة أمر قابل للاتصال والانفصال بل هناك أجسام صغار تجتمع وتفترق ومحصول ما ذكره المصنف أن انتفاء الجزء الذي لا يتجزأ وما فيه حكمه يستلزم أن الجسم إما أن يكون متصلا في نفسه فيكون جسما مفردا أو يكون في تركيبه منتهيا إلى أجسام مفردة فلم لا يجوز أن يكون الجسم البسيط الذي نحن بصدده مركبا من أجسام مفردة قابلة للانقسام الوهمي دون الفكي فلا تثبت الهيولى بالبرهان المذكور
364

لابتنائه على أن الجسم المتصل في نفسه يرد عليه الانفصال الخارجي بل ولا يثبت أيضا الجسم التعليمي لأن تلك الأجسام المفردة لا تتغير أشكالها ومقاديرها وأبطله أي قول هذا القائل ابن سينا بما حاصله أن كل جزء منها أي من تلك الأجزاء القابلة للانقسام الوهمي تحدث فيه القسمة الوهمية إثنينية يكون طباع كل منهما طباع الآخر وطباع الجملة وهو ظاهر وطباع الجزء الآخر الخارج الموافق لها في الماهية بناء على ما ذهب إليه ذلك القائل من أن تلك الأجسام المفردة الصغار متوافقة في الماهية النوعية فيجوز حينئذ على الجزئين المتصلين المفروضين في جزء واحد ما يجوز على الجزئين المنفصلين أعني الجزء الذي قسم والجزء الآخر من الانفصال الرافع للاتحاد والاتصال ويجوز أيضا على المنفصلين ما يجوز على المتصلين من الاتصال الرافع للإثنينية والانفكاكية وذلك لأن هذه الأربعة متوافقة في الماهية فتكون متشاركة إما في الامتناع عن قبول الانفصال والاتصال أو في جواز قبولهما والأول باطل قطعا فتعين الثاني فكل واحد من تلك الأجسام الصغار قابل للاتصال والانفصال اللهم إلا لمانع خارج عنه وذلك المانع لا يكون لازما لماهيته وإلا انحصر نوعه في شخصه وإذا لم يكون لازما فيمكن مفارقته وعند فرض زواله يكون قابلا للانفصال والاتصال بالفعل ويحصل المطلوب الذي هو إثبات الهيولى ومبناه أي مبنى ما ذكره ابن سينا كون الأجزاء التي هي تلك الأجسام الصغار متوافقة في الماهية كما أشرنا إليه وهو ممنوع لجواز أن تكون متخالفة في الماهية بحيث لا يوجد فيها جزءان متوافقان في النوع واستبعاد تركب الماء المتشابه في الحس من أجزاء متخالفة الحقائق بأسرها مما لا يجدي في أمثال هذه المباحث وإن بنى الدليل على تسليم الخصم كان جدليا لا برهانيا ثم نقول وعلى تقدير تماثلها قد يكون تشخص أحدهما مانعا من ذلك القبول أو تشخص الآخر شرطا له فلا يكون الجزء الواحد
365

قابلا للانفصال بين جزئيه المفروضين فيه إما لوجود المانع أو فقدان الشرط وهذا مدفوع بما مر من أن المانع من القبول لا يكون لازما وإلا انحصر النوع في الشخص وإذا لم يكن لازما أمكن الانفصال بالنظر إلى الطبيعة المشتركة
وذلك كاف في إثبات المطلوب وربما يعترض على برهان الهيولى ويقال الاتصال هو الوحدة والانفصال هو الكثرة وهما عرضان للجسم خارجان عنه فعليكم ببيان كون الاتصال جزءا من الجسم حتى يثبت تركبه من الاتصال والأمر القابل له فإنا من وراء المنع أي نمنع كونه جزءا منه وهذا الذي يقال فيه التزام لثبوت أمر غير الاتصال قابل له وللانفصال أيضا ويصير النزاع حينئذ في كون الجسم ذلك القابل وحده أو مع هذا الاتصال المقبول ولا شك أن الصورة الاتصالية أي الجوهر الممتد في الجهات الذي تبين بنفي الجزء اتصاله في نفسه أول ما يدرك من جوهرية الجسم أي حقيقته بل هو الجسم في بادئ الرأي المعلوم وجوده بالضرورة والذي يحتاج إلى الإثبات بالدليل هو المادة المتصفة بذلك الجوهر المتصل فإذا سلم ثبوتها وأن هناك جوهرين أحدهما قابل والآخر مقبول فيصير النزاع في أن الجسم ماذا نزاعا لفظيا لا فائدة فيه وأنت تعلم أن هذا إنما يصح إذا سلم ذلك القائل أن هناك جوهرا وراء هذا الجوهر المتصل لكن المشهور أنه يقول إن هذا الجوهر المتصل قائم بنفسه وهو حقيقة الجسم ومحل للاتصال الذي هو الوحدة والانفصال الذي هو الكثرة على معنى أنهما عرضان يحلان فيه على التعاقب كما ذهب إليه أفلاطون من أن آخر ما تنحل إليه الأجسام هو هذا الجوهر المتصل الممتد في الجهات كلها فطريق الرد عليه أنه يلزم من ذلك أن يكون التفريق إعداما
366

للجسم بالكلية وإيجادا لقسمين آخرين من كتم العدم وهو باطل كما سيأتي تحقيقه
وههنا سؤال يستصعبه بعض وذلك السؤال هو أن الاتصال إذا كان جزءا للجسم كما زعمتم فبزواله الذي هو الانفصال تعدم هوية الجسم لانتفاء الكل بانتفاء جزئه فلا يكون الجسم قابلا له أي لزواله أعني الانفصال وإذا كان الجسم قابلا لزواله كما أيضا فلا بد أن يبقى مع زواله وإذا بقي معه فليس هو أي الاتصال جزءا للجسم والحاصل أن كون الجسم قابلا للانفصال الذي هو زوال الاتصال ينافي كون الاتصال جزءا له فقد لزمكم فيما ذهبتم إليه القول باجتماع المتنا فيين وظن المستصعب أن ذلك السؤال مغالطة وقعت من الاشتراك اللفظي فإن الاتصال أي لفظه يقال للصورة الجوهرية التي بها للجسم قبول الامتدادات الثلاثة وهو أمر لا يزول عن الجسم بحال من الأحوال إذ لا يتصور بقاء جسم مع زوال هذه الصورة عنه ويقال أيضا لنفس الامتدادات وهو كم وليس جزءا للجسم لأنه عرض فلا يكون مقوما للجوهر بل عارضا له فلا يلزم من زواله زوال الجسم كما إذا شكل الجسم بأشكال مختلفة المقادير مع بقاء صورته الجسمية بعينها وهو منظور فيه لأن الانفصال كما ينافي الاتصال العرضي ينافي الاتصال الجوهري إذ لا يبقى معه الصورة الجوهرية المخصوصة كما لا تبقى الكمية المعينة وأيضا إذا اقتصر على أن الجسم قابل للكم المتصل وزواله جاز أن يقال ذلك القابل لهما هو الصورة الجوهرية فلا يثبت في الجسم جوهر مغاير لها متصف بهما فلا تثبت
367

الهيولى فما ذكره ليس جوابا للسؤال وجوابه الحق أن قولنا الجسم قابل للاتصال ليس معناه أن شخصا من الجسم باقيا على هويته الشخصية الاتصالية يتوارد عليه اتصال واحد تارة واتصالان آخران تارة أخرى فإنه غير معقول كما ترى وكيف يكون الواحد بالشخص واحدا تارة واثنين أخرى بل مرادنا أن ثمة أمرا يستحفظ الماهية الجسمية دون الهوية الشخصية معلوم البقاء في الأحوال الطارئة على الجسم من الاتصال والانفصال المتعاقبين عليه وتتوارد عليه الهويات الشخصية فتارة تكون معه هوية واحدة اتصالية وتارة هويتان أو أكثر فذلك المستحفظ هو القابل بالحقيقة للاتصال والانفصال وهو مغاير للهويات التي تتجدد بالاتصال والانفصال فإنا نعلم بالضرورة أن الماء الذي في الجرة على تقدير كونه واحدا متصلا في نفسه إذا جعل في الكيزان فقد زالت هويته الشخصية الاتصالية التي لم يكن فيها مفصل أصلا حتى صار شخص واحد أشخاصا متعددة أي زال شخص كان متصلا اتصالا وحدانيا وحصلت أشخاص هي متصلات متعددة لم تكن موجودة في تلك الهوية الاتصالية على ذلك التقدير وثمة أمر باق في الحالين هو معروض تارة لاتصال واحد وتارة لاتصالات متعددة والدليل على أن ثمة أمرا باقيا هو أنه ليس نسبة هذه الأشخاص التي في الكيزان إلى ذلك الشخص الذي كان في الجرة كنسبة سائر الأشخاص من مياه لم تكن في تلك الجرة ولو كان زوال تلك الهوية الشخصية لا بزوال جزء وبقاء جزء آخر بل بانتفاء الأجزاء بالمرة لما كان الأمر كذلك بل كان نسبة هذه الأشخاص كنسبة سائر المياه ولا شك أن الجوهر المتصل الوحداني ليس باقيا فالباقي جوهر آخر يجب أن لا يكون في نفسه متصلا ولا منفصلا ولا واحدا ولا كثيرا كما مر حتى يمكن اتصافه بهذه الأمور كلها فظهر من ذلك أن الجوهر المتصل
368

لو كان قائما بذاته لكان التفريق إعداما له بالكلية وهذا الذي قرره في إثبات الهيولى هو مسلك الانفصال ثم شرع في مسلك الانفصال فقال تنبيه
وربما قالوا في إثبات الهيولى الجسم له قوة وفعل وذلك لأن كل جسم فهو من حيث جسميته موجودة بالفعل ومن حيث أنه مستعد لأعراض كثيرة متصف بالقوة والبسيط لا يكون كذلك لأن الواحد من حيث هو واحد لا يقتضي قوة وفعلا لامتناع اجتماعهما فيه وهو مردود لجواز أن يتصف الواحد بهما بالنسبة إلى شيئين إنما الممتنع اجتماعها بالنسبة إلى شيء واحد ألا ترى أن الهيولى موجودة بالفعل وقابلة للصور المتعددة فهي بالقوة في بعضها قطعا وربما استعانوا في إثبات الهيولى بالتخلخل والتكاثف الحقيقيين فإنه إذا لم يكن في الجسم أمر غير متقدر بذاته حتى يتصور قبوله للمقادير المختلفة امتنع ازدياد حجمه وانتقاصه من غير انضمار شيء إليه وانفصاله عنه وجوابه أن الصورة الجسمية وإن كانت مستلزمة في الوجود والتعقل للمقدار إلا أنها لا تستلزم مقدارا مخصوصا فجاز أن تكون هي قابلة لتلك المقادير المختلفة فلا يثبت وجود أمر آخر والكون والفساد أي وربما استعانوا بهما أيضا إذ لا بد فيهما من أمر يخلع صورة ويلبس أخرى وهو الهيولى وفساده ظاهر لأن المتبدل في الكون الفساد هو الصور النوعية فجاز أن يكون القابل لها خلعا ولبسا هو الصورة الجسمية على أنا نقول وجود هذه الأمور التي استعين بها مبني على وجود الهيولى فيلزم الدور المعتمد عند المتكلمين في نفي الهيولى أنها على تقدير وجودها إما أن يكون لها حصول في الحيز أو لا يكون فإن كان لها حصول فيه فإما أن يكون ذلك الحصول على سبيل الاستقلال فجسم أي فالهيولى جسم لأن المتحيز بالذات لا بد أن يكون جوهرا ممتدا في الجهات ولا معنى للجسم إلا ذلك وأيضا فالصورة الجسمية حينئذ مثل لها
369

فكيف تحل فيها وأيضا إن احتاجت الهيولى إلى محل لزم التسلسل وإلا كانت الجسمية مستغنية عن المحل لأنها مثلها أو لا يكون ذلك الحصول على سبيل الاستقلال بل على سبيل التبعية للصورة الجسمية فالهيولى حينئذ صفة حالة في الجسمية تابعة لها في التحيز لا جوهر هو محل لها كما هو مطلوبكم وإلا أي وإن لم يكن لها حصول في الحيز لا استقلالا ولا تبعا فلا تختص الجسمية بها اختصاصا ناعتا لها لأنه أي لأن ما لا تحيز له أصلا أمر معقول محض لا تعلق ولا اختصاص له بحيز قطعا فكيف يتصور حلول الجسمية المتحيزة بالذات فيه وقد يجاب بأنا لا نسلم أنها لو كانت متحيزة بالتبعية لكانت صفة للجسمية فإن تحيز الشيء بالتبعية قد يكون باعتبار حلوله في الغير كما في الأعراض الحالة في الأجسام وقد يكون باعتبار حلول الغير فيه فيلس يلزم من تحيز الهيولى لا بالاستقلال أن يكون تحيزها على سبيل حلولها في الجسمية بل يجوز أن يكون تحيزها بشرط حلول الجسمية فيها فتكون موصوفة بها لا صفة لها وقد يقال في نفي الهيولى وإبطال تركب الجسم منها لو كان الجسم مركبا من جزئين كما ذكرتم لزم من تعقله تعقلهما ولم يحتج في ثبوت شيء منهما له إلى برهان واللازم باطل فإنا نعقل الجسم ولا نعقل الهيولى ونحتاج في إثباتها إلى البرهان
والجواب منع تعقل حقيقته يعني أن ما ذكرتم إنما يلزم إذا كان حقيقة الجسم معقولة بالكنه وهو ممنوع
المقصد الثامن
المتن
في تفريعات لهم على الهيولى
370

أحدها إثبات الهيولى لكل جسم إذ تلك الحجة لا نثبتها إلا لما يقبل الاتصال والانفصال بالفعل ولعل بعض الأجسام لا يقبلهما كالفلكيات
فقال ابن سينا طبيعة الاتصال للجميع واحدة فإذا ثبت احتياجه إلى المادة امتنع قيامه بنفسه وإلا كان في حد ذاته غنيا عن المحل والغنى عن المحل لا يحل فيه
وبالجملة فالحقيقة الواحدة لا تختلف لوازمها فتكون قائمة بذاتها تارة وبالغير أخرى كما لا تكون جوهرا مرة وعرضا أخرى
والجواب منع اتحاد الاتصال الجسمي وذلك مما لا سبيل إلى إثباته وإن سلم فقد لا يكون الشيء محتاجا لذاته ولا غنيا لذاته بل يعرض كل منهما له عن عله وأما النقض بالطبيعة الجنسية فقد عرفت جوابه
ثانيها أن الهيولى لا تخلو عن الصورة لوجوه
الأول الهيولى المجردة إما إليها إشارة فتكون جسما أو في جسم لامتناع الجوهر الفرد وإلا فإذا حصلت فيها الصورة فإما في جميع الأحياز والمظاهر أو لا في شيء منها أو في بعضها والثلاثة باطلة فالأولان ضرورة والأخير لعدم المخصص
فإن قيل لعل صورة نوعية تخصصها وأيضا ينتقض بالجزء المعين من الأرض واختصاصه بحيزه بلا مخصص
قلنا الصورة النوعية نسبتها إلى جميع أجزاء حيز الكل واحدة فالكلام في تخصيصه بحيزه والجزء من الأرض إنما اختص بحيزه لكون مادته قبل تلك الصورة لها صورة مخصصة بذلك الحيز أو بحيز آخر انتقل منه بالاستقامة إلى ذلك الحيز
والجواب أنه فرع عدم القادر المختار وأنه لا مخصص إلا الصورة
371

الثاني أنه يلزم له فعل وقبول
الثالث مادة الجزء والكل إن تجردتا فإن كانتا واحدة فالشيء مع غيره كهو لا معه وإلا كان المجموع زائدا فثم مقدار وصورة كما مر وقد عرفت ما فيهما فلا نكررها
ثالثها أن الصورة لا تخلو عن الهيولى لوجوده
الأول لو فرضنا صورة بلا هيولى فإن كانت مشارا إليها كان متناهيا ومشكلا إما لنفس الجسمية فكل جسم له ذلك الشكل فيتساوى حينئذ الكل والجزء أو لا فتكون قابلة لغيره وما هو إلا بالفصل والوصل فالصورة بدون الهيولى قابلة للفصل والوصل وقد أبطلناه وإن كانت غير مشار إليها فليست صورة جسمية لأن الصورة الجسمية ليست عبارة إلا عن هذا الامتداد ويمتنع أن يتصور بلا حيز ولا إشارة وأيضا فتكون أمرا عقليا محضا فيمتنع مقارنته للمادة لا يقال هذا ينتقض بالفلك إذ شكله مقتضى ذاته وجزؤه ككله ولا يلزم تساويهما في المقدار والشكل لأنا نقول لولا مانع اقترن بجزء الفلك لكان شكل جزئه ككله لكن ثمة مانع وهو أن الكل حصل له ذلك الشكل فامتنع أن يكون للجزء ذلك الشكل وإلا لم يكن جزءا وأما في الصورة فلو تجردت فلا تكون إلا الطبيعة المشتركة فلا يكون ثمة كل ولا جزء فضلا عن اختلافهما بالشكل ولكن لمانع أن يمنع أن الشكل إنما يكون بالاتصال والانفصال كما في الشمعة تشكل بأشكال مختلفة من غير فصل ولا يجاب بأن ذلك يقتضي القسمة الوهمية وتفضي إلى الانفكاكية ويلزم المحال المذكور لأنا نقول لو كفى ذلك لاستقل بالدلالة فكأن هذه المقدمات كلها ضائعة ويمكن الجواب بأنه لا ينفي حقية الكلام
372

الثاني الجسمية لو قامت بذاتها لاستغنت عن المحل فلا تحل فيه
الثالث نفرض الكل يفارقه صورته قبل التجزئة وبعدها فإن كان لا تميز ثمة فالشيء مع غير كهو لا معه وإن كان تميز وقد عرفت أنه لا تميز بين الأمثال إلا بالمادة فهي مقارنة بالمادة حين ما فرضت مجردة عنها هذا خلف وقد عرفت ما فيه فلا نكرره
رابعها قد علمت أنه لا بد من احتياج أحد الجزئين إلى الآخر فاعلم أن الهيولى ليست علة للصورة وإلا لتم لها وجود قبل وجود الصورة ولاجتمع فيها القبول والفعل ولأنها تقبل صورا لا نهاية لها فلا تكون علة للمعينة ولا الصورة للهيولي لأنها حالة فيها فتحتاج في وجودها إليها ولأنها لا توجد إلا مع التناهي والتشكل والهيولى متقدمة عليهما وللزوم انتفائها عند عدم الصورة المعينة فحاجة الهيولى إلى الصورة في بقائها لأن الصورة تستحفطها بتواردها إذ لو فرضنا زوال صورة وعدم اقتران أخرى عدمت المادة فهي كالدعائم تزال واحدة وتقام مقامها أخرى وحاجة الصورة في التشخص إذ قد علمت أن تشخصها لمادة وما يكتنفها من الأعراض
خامسها لكل جسم صورة نوعية لأنها مختلفة في اللوازم كقبول الانقسام بسهولة أو عسر أو عدمه وليس ذلك للجسمية المشتركة بل لأمر مختص فإن كان مقوما للجسم فهو المطلوب وإلا عاد الكلام فيه ويتسلسل
قال الإمام الرازي الظاهر أنها من الأعراض ونقول لما لم يمتنع تعاقب صور بلا نهاية فلم يمتنع تعاقب أعراض بلا نهاية وربما يستدل بأن الماء إذا سخن يعود بالطبع باردا فثمة أمر هو مبدأ للكيفية باق
373

قلنا ومن أين يلزم كونه من مقومات الجسم ولم قلتم إنه ليس بفعل الفاعل المختار وهذا مع ضعفه أصل له فروع كثيرة فتحققه ولا تنس
سادسها كل جسم له حيز طبيعي ضرورة أنه لو خلي وطبعه لكان له مكان ضرورة
قلنا ممنوع بل لو خلي لكان كالمحدد لامكان له أو تكون نسبته إلى الأحياز سواء حتى يخصصه المختار ولو فرضت الأحياز خالية ثم خلق الأرض كان نسبتها إلى الأحياز كلها سواء إذ ليس ثمة مركز ولا محيط كما قال ثابت بن قرة وإذا رمينا مدرة فإنما تعود إلى مركز الأرض لأن الجزء مائل إلى كله
وبالجملة فلم لا يجوز أن يكون كل جسم لو خلي وطبعه لكان يقتضي حيزا مبهما ككل جزء من الأرض ويكون المخصص أمرا من خارج
فرعان
الأول لا يكون لجسم حيزان طبيعيان فإنه إذا كان في أحدهما فإن طلب الآخر فهذا ليس طبيعيا له وإلا فالآخر ليس طبيعيا له وإذا كان خارجا عنهما فإما أن يتوجه إليهما وهو محال أو لا إلى واحد منهما فليس شيء منهما طبيعيا أو إلى أحدهما فالآخر ليس طبيعيا
الثاني مكان المركب مكان البسيط الغالب فيه وإن تساوت البسائط فيه فالمكان هو الذي اتفق وجوده فيه لعدم أولوية الغير وفيه نظر لأنه لو أخرج عنه لم يعد إليه طبعا لعدم المرجح والمتساويان في المقدار قد يختلفان في القوة فالمعتبر هو التساوي في القوة
الشرح
المقصد الثامن في تفريعات لهم على وجود الهيولى
374

أحدهما إثبات الهيولى لكل جسم وإنما احتج إلى هذا الإثبات إذ تلك الحجة التي هي المعول عليها في إثباتها أعني مسلك الانفصال كما عرفت لا تثبتها إلا لما يقبل الاتصال والانفصال بالفعل كالعنصريات ولعل بعض الأجسام لا يقبلهما كالفلكيات على رأيهم فلا بد لإثبات الهيولى فيها من بيان آخر فقال ابن سينا طبيعة الاتصال أي الصورة الجسمية المتصلة في نفسها للجميع أي لجميع الأجسام طبيعة واحدة نوعية لأن جسمية إذا خالفت جسمية أخرى كان ذلك لأجل أن هذه حارة وتلك باردة أو هذه لها طبيعة عنصرية وتلك لها طبيعة فلكية إلى غير ذلك من الأمور التي تلحق الجسمية من خارج فإن الجسمية أمر موجود في الخارج والطبيعة الفلكية مثلا موجود آخر قد انضاف هذه الطبيعة في الخارج إلى الطبيعة الجسمية الممتازة عنها في الوجود بخلاف المقدار فإنه أمر مبهم لا يوجد في الخارج ما لم يتنوع بفصول ذاتية بأن يكون خطا أو سطحا مثلا وكل ما كان اختلافه بالخارجات دون الفصول كان طبيعة نوعية ومقتضى الطبيعة النوعية لا يختلف فإذا ثبت احتياجه أي احتياج الاتصال الذي هو الصورة الجسمية إلى المادة في الأجسام العنصرية لكونه حالا فيها امتنع قيامه بنفسها في شيء من الأجسام وإلا أي وإن لم يمتنع قيامه بنفسه بل قام بذاته في الفلك مثلا كان ذلك الاتصال الجوهري في حد ذاته غنيا عن المحل والغنى عن المحل لا يحل فيه أصلا
وبالجملة فالحقيقة الواحدة النوعية لا تختلف لوازمها ومقتضياتها فتكون بالنصب على أنه جواب النفي قائمة بذاتها تارة وبالغير تارة أخرى كما
375

لا تكون جوهرا مرة وعرضا أخرى أي كما أن انقلاب الحقائق محال كذلك اختلاف لوازم حقيقة واحدة محال لاستلزامه أن لا تكون تلك الحقيقة تلك الحقيقة بل حقيقة أخرى
والجواب منع اتحاد الاتصال الجسمي أي لا نسلم أن الطبيعة الجسمية طبيعة واحدة نوعية وذلك مما لا سبيل إلى إثباته فإن ما ذكرتموه من اختلافها بالأمور الخارجة عنها مسلم لكن انحصار اختلافها فيه ممنوع فإن الطبيعة الجسمية مطلقا أمر مبهم كالمقدار فلا يتصور وجودها إلا بأن يتنوع بفصول مقومة لها أو بعد تنوعها ينضم إليها أمور خارجة عنها فلم قلتم إنها ليس كذلك وإن سلم أن الاتصال الجسمي حقيقة واحدة نوعية فقد يجوز أن يقوم بالمادة تارة ويقوم بنفسه أخرى ولا محذور في ذلك وقد لا يكون الشيء محتاجا لذاته إلى محل ولا غنيا لذاته عنه بل يعرض كل منهما له عن علة فلا يلزم أن يكون الغنى بذاته عن شيء حالا فيه ويمكن أن يدفع هذا بأنه لا واسطة بين الحاجة والغنى الذاتيين فإن الشيء إما أن يكون لذاته محتاجا إلى محل أو لا وإذا لم يكن محتاجا إليه لذاته كان مستغنيا عنه في حد ذاته إذا لا معنى للغنى سوى عدم الحاجة والمستغني في حد ذاته عن محل يستحيل حلوله فيه وأما النقض بالطبيعة
الجنسية بأن يقال الحيوانية مثلا طبيعة واحدة مع أن لوازمها ومقتضياتها مختلفة فقد تقتضي في الإنسان ما لا تقتضيه في الفرس فقد عرفت جوابه حيث نبهناك على أن الجنس أمر مبهم لا يدخل في الوجود إلا بعد تحصله بفصل بعينه وهما متحدان بحسب الخارج في الجعل والوجود فالطبيعة الجنسية في الخارج حقيقة مختلفة بحسب فصولها المنوعة فجاز اختلافها في الاقتضاء واللوازم بخلاف الطبيعة النوعية فإنها حقيقة متحصلة لا يتصور اختلاف لوازمها
ثانيها أي ثاني تفريعات الهيولى أن الهيولى لا تخلو
376

عن الصورة أي لا توجد خالية عن الصورة الجسمية مطلقا وذلك لوجوه
الأول الهيولى المجردة بالفرض عن الصورة إما إليها إشارة فتكون الهيولى حينئذ جسما أو أمرا حالا في جسم لامتناع الجوهر الفرد وذلك لأنها إذا كانت ذات وضع أي قابلة للإشارة الحسية فإن انقسمت في جميع الجهات كانت جسما أي صورة جسمية لأنها الجسم في بادئ النظر كما مر وإن لم تنقسم أصلا كانت جوهرا فردا وإن انقسمت في جهة واحدة أو في جهتين فقط كانت خطا أو سطحا لا جوهريا لأنهما في حكم الجوهر الفرد كما عرفته بل عرضيا فتكون الهيولى حينئذ أمرا حالا في الجسم لا محلا للصورة الجسمية هذا خلف وإلا أي وإن لم يكن إليها إشارة بأن لا تكون متحيزة لا أصالة ولا تبعا ولا شك أنها قابلة للصورة الجسمية إذ الكلام في هيولى الأجسام فإذا حصلت فيها الصورة الجسمية فإما أن تحصل معها في جميع الأحياز والمظاهر أو لا تحصل في شيء منها أو تحصل في بعضها دون بعض والأقسام الثلاثة باطلة فالأولان باطلان ضرورة لأن الهيولى المنضمة إلى الجسمية الحالة فيها جسم وكل جسم لا بد له من حيز ولا يمكن أن يكون جسم واحد في زمان واحد في مكانين أو أكثر والأخير باطل لعدم المخصص بالنسبة إلى ذلك البعض لأن الهيولى على ذلك التقدير نسبتها إلى جميع الأحياز على السوية وكذا نسبة الصورة الجسمية فإنها تقتضي حيزا مطلقا لا معينا فإن قيل لعل صورة نوعية تحل في الهيولى مع حلول الصورة الجسمية فيها فهي تخصصها بحيز معين وأيضا ينتقض ما ذكرتم بالجزء المعين من الأرض
377

ومن سائر العناصر الكلية واختصاصه بحيزه المعين بلا مخصص يقتضيه فإن نسبة أجزاء العنصر الكلي إلى أجزاء حيزه على السواء مع أن كل واحد من أجزائه حاصل في حيز معين قلنا الصورة النوعية وإن عينت موضعا كليا لكن نسبتها إلى جميع أجزاء حيز الكل واحدة فالكلام في تخصيصه بحيزه المعين من أجزاء حيز الكل فإن الهيولى المجسمة مع تلك الصورة النوعية إما أن تحصل في كل واحد من تلك الأجزاء أو في بعضها أو لا تحصل في شيء منها والكل باطل وقد يقال جاز أن يقارن الهيولى صورة أخرى أو حالة من الأحوال تعين لها بعض أجزاء المكان الكلي وأيضا قد تكون الهيولى المجردة هيولى عنصر كلي فلا حاجة في التخصيص إلى غير الصورة النوعية
فإن قلت ننقل الكلام إلى اختصاص أجزاء ذلك العنصر بأمكنتها الجزئية
قلنا تلك الأجزاء مفروضة فيه لا موجودة في الخارج فلا تقتضي مكانا وأيضا جاز أن يفرض هناك حالة مخصصة للأجزاء بوضع معين والجزء من الأرض إنما اختص بحيزه المعين الذي هو فيه لكون مادته قبل تلك الصورة الأرضية كانت لها صورة أخرى مخصصة لذلك الجزء بذلك الحيز أو مخصصة له بحيز آخر انتقل ذلك الجزء منه بالاستقامة إلى ذلك الحيز والحاصل أن مخصص ذلك الجزء من الأرض بحيزه المعين هو الوضع السابق الحاصل لمادته بسبب صورة سابقة إما في ذلك الحيز أو في حيز آخر انتقل ذلك الجزء بعد حصول صورته الأرضية منه إلى حيزه على أقرب الطرق وتلك الصورة السابقة مسبوقة بصورة ثالثة وهكذا إلى ما لا نهاية له كما هو مذهبهم
378

والجواب عن هذا الوجه من الاستدلال أنه فرع عدم القادر المختار وأنه لا مخصص بالحيز المعين إلا الصورة وما يتبعها من الأوضاع لكنا نقول إن الجسمية إذا حلت في الهيولى تخصصت بحيز معين لإرادة الفاعل المختار الذي أوجد الجسمية فيها باختياره
الوجه الثاني أنه يلزم له أي للمجرد الذي هو الهيولى فعل وقبول يعني أن الهيولى لو تجردت عن الصورة لكان لها حال تجردها وجود بالفعل واستعداد لقبول الصورة وقد تبين أن الشيء الأحدي الذات يمتنع أن يتصف بالقوة والفعل معا فوجب أن تكون المادة المجردة مجتمعة مع الصورة هذا خلف
الوجه الثالث لو جاز تجرد هيولى جسم عن صورته لجاز تجردها بعد انقسامه إلى جزئين مثلا وحينئذ نقول مادة الجزء ومادة الكل إن تجردتا معا فإن كانتا واحدة بأن لا تزيد مادة الكل على مادة الجزء فالشيء مع غيره كهو لا معه وذلك محال وإلا أي وإن لم يكونا واحدة كان المحمول المركب من مادتي الجزئين أعني مادة الكل زائدا على مادة الجزء فثم مقدار باعتباره صارت المادة متصفة بالزيادة والنقصان وصورة جسمية لأن الجوهر الممتد في الجهات هو الجسمية كما مر فلا تكون الهيولى مجردة وقد عرفت ما فيهما أي هذين الوجهين من الفساد أما في الثاني فلجواز اتصاف الواحد بالقوة والفعل بالنسبة إلى شيئين وأما في الثالث فلأن الهيولى في نفسها لا توصف بمساواة ولا بزيادة ونقصان إنما تتصف بهذه الأوصاف حال اقترانها بالصورة الجسمية فلا نكررهما
379

ثالثها أي ثالث التفاريع أن الصورة الجسمية أيضا لا تخلو عن الهيولى لوجوه ثلاثة
الأول لو فرضنا صورة بلا هيولى كانت إما مشارا إليها أو غير مشار إليها فإن كانت مشارا إليها كان ذلك المشار إليه متناهيا في جميع الجهات لتناهي الأبعاد وكان أيضا مشكلا بشكل مخصوص لأن الشكل كما عرفت هيئة شيء تحيط به نهاية واحدة أو أكثر من جهة إحاطتها به فكل شيء متناه يلزمه أن يكون ذا شكل فذلك الشكل الثابت للصورة المجردة إما لنفس الجسمية ولوازمها فكل جسم يجب أن يكون له ذلك الشكل العارض لمقدار مخصوص لاشتراك الأجسام كلها في الجسمية المقتضية له فيتساوى حينئذ الكل والجزء في الشكل والمقدار المخصوصين وهو محال أو لا لنفس الجسمية بل لسبب آخر فتكون الصورة المجردة قابلة لغيره أي لغير ذلك الشكل من الأشكال المخالفة له وما هو أي ليس قبول شكل آخر إلا بالفصل والوصل فالصورة بدون الهيولى قابلة للفصل والوصل وقد أبطلناه بما مر من أن القابل لهما لا بد أن يكون مقارنا للهيولي وإن كانت الصورة المجردة غير مشار إليها فليست صورة جسمية لأن الصورة الجسمية ليست عبارة إلا عن هذا الامتداد الجوهري الممتد في الجهات الملزوم للامتداد العرضي ذهنا وخارجا ويمتنع أن يتصور هذا الامتداد بلا حيز ولا إشارة وأيضا فتكون الصورة المجردة على تقدير كونها غير قابلة للإشارة أمرا عقليا محضا لا تعلق له بحيز أصلا فيمتنع مقارنته للمادة المتحيزة ولو تبعا كسائر المجردات واعلم أن هذا الاستدلال يتم بأن يقال لو تجردت الصورة لكانت متناهية ومتشكلة فذلك الشكل إما للجسمية وحدها أو لسبب آخر فلا حاجة
380

إلى التعرض لكونها قابلة للإشارة أو غير قابلة لها بل هذا الترديد مما جعل في الملخص دليلا مستقلا هكذا الصورة المفارقة إن قبلت الإشارة فهي لا محالة في جهة ومختصة بمادة وإن لم تقبل فهي غير الصورة التي تشير إليها حال كونها مادية لا يقال هذا الذي ذكرتموه من أن الجسمية المشتركة إذا اقتضت وحدها شكلا مخصوصا على مقدار معين وجب تساوي الأجسام حتى الجزء والكل في ذلك الشكل على ذلك المقدار ينتقض بالفلك إذ شكله مقتضى ذاته التي هي صورته النوعية وجزؤه ككله في تلك الصورة النوعية ولا يلزم تساويهما في المقدار والشكل المخصوصين معا بل لا يجوز ذلك فإن الأفلاك الخارجة والتداوير أجزاء للأفلاك الكلية مع امتناع التساوي في المقدار وإن كانت مساوية لها في الشكل الكروي لأنا نقول لولا مانع اقترن بجزء الفلك لكان شكل جزئه ومقداره ككله بسبب الاشتراك فيما يقتضيهما لكن ثمة مانع يمنع من التساوي في الشكل والمقدار جميعا وهو أن الكل حصل له ذلك الشكل مع المقدار المخصوص بأن حلت الصورة الجسمية في المادة الفلكية فاقتضى لها صورته النوعية الحالة معها في تلك المادة مقدارا وشكلا مخصوصين فامتنع أن يكون للجزء من الفلك ذلك الشكل والمقدار وإلا لم يكن جزءا وكذا الكلام في سائر الأجسام البسيطة إذا كان لها أجزاء موجودة بالفعل ومنهم من وجه النقض بالأجزاء المفروضة في الفلك وغيره من البسائط فإنها قد تفرض مضلعة لا مستديرة وزعم أن المانع حصول
381

الجزء المفروض بعد وجود الكل ورد بأن الشكل من لوازم الوجود دون الماهية فإذا اقتضاه طبيعة لم يكن اقتضاؤها إياه إلا في الخارج فلا يلزم ثبوته للأجزاء المفروضة فلا يتجه السؤال وأيضا الجزئية مطلقا مانعة من المساواة في الشكل والمقدار معا فلا مدخل لتأخر الجزء في الوجود عن الكل في المانعية وأما الصورة الجسمية فلو تجردت عن المادة فلا تكون هناك إلا الطبيعة الجسمية المشتركة ولم يكن هناك سبب يقتضي كلية وجزئية سوى تلك الطبيعة المشتركة فلا يتصور حينئذ اختلاف في أمر من الأمور حتى في الكلية والجزئية فلا يكون ثمة كل ولا جزء فضلا عن اختلافهما بالشكل فقد اندفع عن الدليل النقض المذكور ولكن لمانع أن يمنع أن الشكل وتبدله إنما يكون بالاتصال والانفصال كما ترى في الشمعة فإنها تتشكل بأشكال مختلفة من غير فصل ووصل فليس يلزم من استناد الشكل
العارض للصورة المجردة إلى سبب مغاير لنفس الجسمية وكونها قابلة لشكل آخر استقلالها بقبول الفصل والوصل كما زعمتم ولا يجاب عن هذا المنع بأن ذلك أي قبول تبدل الأشكال يقتضي لا محالة القسمة الوهمية إذ لا يتصور تبدل شكل فيما لا يمكن أن يفرض فيه شيء غير شيء وتفضي القسمة الوهمية كما مر إلى القسمة الانفكاكية ويلزم المحال المذكور لأنا نقول لو كفى ذلك في دفع المنع لاستقل بالدلالة على المطلوب بأن يقال لو فارقت الصورة المادة لكانت قابلة للقسمة الوهمية المفضية إلى الانفكاكية فيلزم استقلال الجسمية بقبول الفصل والوصل وقد أبطلناه وعلى هذا فكأن هذه المقدمات المذكورة في دليلكم كلها ضائعة لا حاجة إليها ويمكن الجواب عن هذا الذي قلناه بأنه لا ينافي حقية الكلام وصحة الدليل بمقدماته بل هو من قبيل تعيين الطريق الذي هو أقصر
الثاني من الوجوه الثلاثة الصورة الجسمية لو خلت عن الهيولى وقامت بذاتها لاستغنت في نفسها عن المحل فلا تحل فيه أصلا لكنها حالة فيه فلا يجوز حلولها عنه وقد عرفت جوابه
الثالث من تلك الوجوه أن يقول على تقدير أن يجوز خلو الصورة
382

عن المادة نفرض الكل تفارقه صورته قبل التجزئة وبعدها فإن كان لا تميز ثمة بين صورة الكل وصورة الجزء فالشيء مع غيره كهو لا معه وإن كان بينهما تميز وقد عرفت في مباحث التعين أنه لا تميز ولا تعدد بين الأمثال أي بين أفراد ماهية نوعية إلا بالمادة وعوارضها فهي أي الصورة الجسمية مقارنة بالمادة حين ما فرضت مجردة عنها هذا خلف وقد عرفت ما فيه من أنه مبني على عدم القادر المختار وأن تمايز الأمثال معلل بالمادة وكلاهما ممنوعان فلا نكرره
رابعها أي رابع تفريعات الهيولى وتركب الجسم منها ومن الصورة قد علمت في مباحث الماهية أنه لا بد في الماهية الحقيقية المركبة من احتياج أحد الجزئين إلى الآخر فقط أو احتياج كل منهما إلى صاحبه على وجه لا يلزم منه دور وحينئذ فلا بد بين جزئي الجسم من حاجة وأما كيفية تلك الحاجة فاعلم أن الهيولى ليست علة للصورة وإلا لتم لها أي للهيولي وجود قبل وجود الصورة لأن العلة متقدمة بالوجود على معلولها لكنا قد بينا أن المادة لا تكون بالفعل إلا بسبب الصورة لأن الشيء الواحد لا يكون متصفا بالقوة والفعل معا وقد عرفت فساده فلا نعيده وأيضا لو كانت الهيولى علة للصورة لاجتمع فيها أي في الهيولى القبول والفعل بالنسبة إلى شيء واحد فإنها حينئذ فاعلة للصورة وقابلة لها وهو باطل وجوابه أنه مبني على أن البسيط لا يكون قابلا وفاعلا معا وقد علمت ما فيه وأيضا لا يجوز أن تكون الهيولى علة للصورة لأنها في حد ذاتها تقبل صورا لا نهاية لها فلا تكون علة للمعينة أي لا تكون علة لمعينة من تلك الصور حتى يكون حصولها في الهيولى أولى من حصول غيرها دفعا للتحكم بل ليس للمادة إلا مجرد القبول وأما سبب حصول الصورة المعينة فيها فأمر آخر ولا الصورة أي وليس الصورة أيضا علة للهيولي لأنها حالة فيها
383

فتحتاج الصورة في وجودها إليها ويتجه على هذه العبارة أنه يلزم حينئذ كون الهيولى علة للصورة فالأولى أن يقال فلا تكون علة لوجود محلها وأيضا ليست الصورة علة للهيولي لأنها أي الصورة لا توجد إلا مع التناهي والتشكل لما مر والهيولى متقدمة عليهما لأنهما من توابع المادة المتأخرة عنها وما مع المتأخر متأخر كما أن ما مع المتقدم متقدم فتكون الصورة متأخرة عن الهيولى فلا تكون علة لها ولا يخفى عليك أن الحكم بتأخر ما مع المتأخر إنما تظهر صحته في المعية والتأخر الزمانيين دون غيرهما وأيضا ليست الصورة علة للمادة للزوم انتفائها أي انتقاء المادة عند عدم الصورة المعينة يعني لو كانت الصورة علة لها لانتفت عند انتفاء الصورة المعينة لوجوب انتفاء المعلول عند انتفاء علته لكن الصورة الجسمية تتبدل وتزول عند ورود الانفصال والهيولى باقية على حالها
فإن قيل ما ذكرتم إنما يدل على أن الصورة المعينة ليست علة لها ولا يلزم من عدم علية الصورة المعينة عدم علية الصورة المطلقة
قلنا الواحد بالشخص لا بد أن تكون علته الفاعلية واحدة بالشخص والصورة المطلقة ليست كذلك إذا تمهد هذا فنقول التلازم وامتناع الانفكاك بينهما دل على الاحتياج من الجانبين فحاجة الهيولى إلى الصورة في بقائها لأن الصورة تستحفظها بتواردها عليها إذا لو فرضنا زوال صورة عنها وعدم اقتران صورة أخرى بها عدمت المادة لما مر من امتناع بقائها خالية عن الصور كلها فهي أي تلك الصور المتواردة عليها كالدعائم تزال واحدة منها عن السقف وتقام مقامها دعامة أخرى فيكون السقف باقيا على حاله بتعاقب تلك الدعائم وحاجة الصورة إلى الهيولى في التشخص والعوارض
384

اللازمة لتشخصها إذ قد علمت أن تشخصها وتعددها بالمادة وما يكتنفها من الأعراض وعلمت أيضا أن تناهيها وتشكلها لأجل المادة فقد ثبت الاحتياج من الطرفين على وجه لم يلزم منه الدور
خامسها كما أن الهيولى لا تخلو عن الصورة الجسمية كذلك لا تخلو عن صورة أخرى بل لكل جسم من الأجسام صورة نوعية بحسبها يتنوع الجسم أنواعا كثيرة من البسائط والمركبات وذلك لأنها أي الأجسام مختلفة في اللوازم كقبول الانقسام الانفكاكي وقبول الالتئام والتشكل التابع لهما بسهولة كما في العنصريات الرطبة مثل الماء والهواء أو عسر كما في العنصريات اليابسة مثل الحجر والحديد أو عدمه أي عدم قبول ذلك الانقسام والالتئام والتشكل كما في الفلكيات وليس ذلك الاختلاف في تلك اللوازم للجسمية المشتركة بين جميع الأجسام لأن الأمور المختلفة لا يجوز أن تكون معللة بأمر مشترك ولا للهيولي لأنها قابلة فلا تكون فاعلة وأيضا هيولى العناصر مشتركة فلا تكون مبدأ لأمور مختلفة ولا للمفارق لأن نسبته إلى الأجسام كلها على السوية بل لا بد أن يكون ذلك لأمر مختص أي ثابت لبعض من الأجسام دون بعض ويجب أن يكون ذلك الأمر المختص لازما ليمكن استناد ما هو لازم إليه فإن كان ذلك الأمر المختص اللازم مقوما للجسم فهو المطلوب إذ لا بد حينئذ من أن يكون جوهرا فقد ثبت في الأجسام جواهر مختصة هي مباد لآثارها ولوازمها المختلفة ولا معنى للصورة النوعية إلا ذلك وإلا أي وإن لم يكن مقوما للجسم بل كان خارجا لازما عاد الكلام فيه لاحتياجه حينئذ إلى أمر آخر
385

مختص يستند هو إليه ويتسلسل قال الإمام الرازي الذي حصل لنا بالدليل هو أن هذه اللوازم من الكيفيات والأيون وغيرهما مستندة إلى قوى موجودة في الأجسام وإما أن تلك القوى أسباب لوجود الجسمية حتى تكون صورا مقومة فلا بل الأقرب الظاهر عندنا أنها من قبيل الأعراض وما ذكروه من لزوم التسلسل وارد عليهم في الصور فإن اختصاص الأجسام بصورها النوعية ليس للجسمية المشتركة ولا للهيولي ولا للمفارق لما مر بعينه فلا بد من استنادها إلى صور أخر مختصة وقد أجابوا عن ذلك بأن هيوليات الأفلاك متخالفة بالماهية وكل واحدة منها لا تقبل إلا صورة معينة وأما اختصاص العناصر بصورها فلأن المادة قبل هذه الصورة كانت متصفة بصورة أخرى لأجلها استعدت لقبول الصورة اللاحقة وهكذا إلى ما لا يتناهى وحينئذ نقول لهم لما لم يمتنع تعاقب صور بلا نهاية فلم أي فلأي شيء يمتنع تعاقب أعراض بلا نهاية بل هذا أيضا جائز فلا حاجة إلى إثبات الصورة النوعية في العناصر لذلك ولا في الأفلاك لأن موادها لا تقبل إلا ما هو عارض لها
وأجاب بعضهم عن ذلك بأنا نعلم بديهة أن حقيقة النار مخالفة لحقيقة الماء فلا بد من اختلافهما بأمر جوهري مختص وربما يستدل على إثبات الصورة النوعية بأن الماء إذا سخن ثم ترك يعود بالطبع باردا فثمة أمر هو مبدأ للكيفية باق يرد الماء إلى الكيفية الزائلة بعد زوال القاسر قلنا إن سلم أن في الجسم أمرا هو مبدأ للكيفية فلا يجديكم ومن أين يلزم كونه من مقومات الجسم حتى يكون صورة نوعية على أنا لا نسلم ذلك ونقول لم قلتم أنه أي عود الماء إلى البرودة ليس بفعل الفاعل المختار على طريقة جري العادة وهذا الفرع الخامس أعني ثبوت الصورة النوعية مع ضعفه لعدم صحة أدلته أصل كبير له فروع كثيرة من المباحث الفكلية والعنصرية فتحققه ولا تنس كيلا تحتاج إلى التنبيه على ضعف ما يتفرع عليه من تلك المباحث
قال الإمام الرازي لما فرغنا من بيان ذاتيات الجسم ومقوماته فلنذكر
386

أحكامه ثم شرع في إثبات الحيز الطبيعي إلا أن المصنف جعله من تفاريع الهيولى فقال
سادسها كل جسم له حيز طبيعي تقتضي طبيعته حصوله فيه ضرورة أنه لو خلي الجسم وطبعه أي فرض بعد وجود خاليا عن جميع ما يمكن خلوه عنه من التأثيرات الغريبة لكان له مكان ضرورة إذ لا يمكن جسم لا في مكان ولا يتصور حصوله في جميع الأمكنة معا بل لا بد أن يحصل في حيز معين ولا يكون حصوله في ذلك الحيز مستندا إلى أمر خارج إذ المفروض خلوه عنه ولا إلى الجسمية المشتركة لأن نسبتها إلى الأحياز كلها على السوية ولا إلى الهيولى لأنها تابعة للجسمية في اقتضاء حيز ما على الإطلاق بل إلى أمر آخر داخل فيه مختص به وهو المراد بالطبيعة
قلنا ما ذكرتم ممنوع بل لو خلي الجسم وطبعه لكان كالمحدد لامكان له كما هو مذهب أرسطو ومن تابعه أو نقول إذا خلي وطبعه تكون نسبته إلى الأحياز كلها سواء حتى يخصصه الفاعل المختار بحيز معين ولا نسلم إمكان خلوه في نفس الأمر عن تأثير المختار وتخصيصه ونقول لو فرضت الأحياز كلها خالية عن الأجسام ثم فرض أنه خلق الأرض وحدها كان نسبتها إلى الأحياز كلها سواء إذ ليس ثمة مركز ولا محيط وإذا جعلت الأرض بأسرها في أي حيز اتفق وجب أن تقف فيه ولا تنتقل منه إلى غيره لاستحالة الترجيح بلا مرجح فما يتوهم
387

من أن الأرض طالبة للمكان الذي هي فيه باطل كما قال به ثابت بن قرة فإنه قال ليس لشيء من الأمكنة حال يخص به دون غيره حتى يتصور أن جسما معينا طالب له بطبعه دون ما عداه وإذا رمينا مدرة إلى فوق فإنما تعود المدرة إلى مركز الأرض لا لأن الطبيعة الأرضية طالبة له كما توهم بل لأن الجزء مائل إلى كله الذي يجذبه بعلة الجنسية ولو جعل الأرض نصفين وجعل كل نصف في جانب آخر لكان طلب كل منهما مساويا لطلب صاحبه حتى يلتقيا في وسط المسافة التي بينهما ولو فرض أن الأرض كلها رفعت إلى فلك الشمس ثم أطلق من المكان الذي هي فيه الآن حجر لارتفع ذلك الحجر إليها لطلبه للأمر العظيم الذي هو شبيهه ولو فرض أنها تقطعت وتفرقت في جوانب العالم ثم أطلقت أجزاؤها لكان يتوجه بعضها إلى بعض ويقف حيث يتهيأ تلاقيها
قال ولأن كل جزء يطلب جميع الأجزاء طلبا واحدا ومن المحال أن يلقى الجزء الواحد كل جزء لا جرم طلب أن يكون قربه من جميع الأجزاء قربا متساويا وهذا هو طلب الوسط ثم إن جميع الأجزاء شأنه هذا فلزم من ذلك استدارة الأرض وكرويتها وأن يكون كل جزء منها طالبا للمركز هكذا نقل عنه في المباحث المشرقية
وبالجملة فلم لا يجوز أن يكون كل جسم بحيث لو خلي وطبعه لكان يقتضي حيزا مبهما ككل جزء من الأرض فإنه يطلب حيزا مبهما من
388

أجزاء حيز الأرض ويكون المخصص لذلك الجسم بحيز معين أمرا من خارج كما أن مخصص جزء الأرض بحيز معين أمر خارج عنه وقد يجاب بأن الكلام فيما إذا خلي الجسم وطبعه وجرد عن جميع الأمور الخارجية عنه وأما جزء الأرض فإنه لو خلي وطبعه لا تصل بكله فلم يبق موجودا منفردا مقتضيا للمكان وما دام موجودا على حدة فإنه لا يخلو عن قاسر
فرعان
على أن لكل جسم مكانا طبيعيا
الأول لا يكون لجسم واحد حيزان طبيعيان فإنه إذا كان في أحدهما فإن طلب الآخر فهذا المكان الذي هو فيه الآن ليس طبيعيا له لأنه هارب عنه طالب لغيره وإلا أي وإن لم يطلب الآخر حال كونه في أحدهما فالآخر ليس طبيعا له لأنه ليس طالبا له حين ما خلي وطبعه وأيضا إذا كان الجسم خارجا عنهما بالقسر ثم خلي وطبعه فإما أن يتوجه إليهما معا وهو محال ظاهر فيما إذا لم يكونا من المكان القسري في جهة واحدة أو لا يتوجه إلى واحد منهما فليس شيء منهما طبيعيا أو يتوجه إلى أحدهما فقط فالآخر ليس طبيعيا له والكل محال فالمكان الطبيعي واحد
الثاني من الفرعين الجسم البسيط له مكان طبيعي كما عرفت ومكان المركب أي مكانه الطبيعي مكان البسيط الغالب فيه فإنه يقهر ما عداه ويجذبه إلى حيزه فيكون الكل إذا خلي وطبعه طالبا لذلك الحيز وإن تساوت البسائط كلها فيه فالمكان الطبيعي له هو الذي اتفق وجوده فيه
389

لعدم أولوية الغير وفيه نظر لأنه لو أخرج المركب المتساوي البسائط عنه أي عن ذلك المكان الذي اتفق وجوده فيه لم يعد إليه طبعا بل سكن أينما أخرج لعدم المرجح فلا يكون ذلك المكان طبيعيا والبسيطان المتساويان في الحجم والمقدار قد يختلفان في القوة فإنه إذا أخذ مقداران متساويان من الأرض والنار فربما كان اقتضاء الأرضية للميل السافل أقوى من اقتضاء النارية للميل الصاعد أو بالعكس بل ربما كان الناقص في المقدار أقوى في القوة فالمعتبر من التساوي في بسائط المركب هو التساوي في القوة دون الحجم والمقدار وقد يفصل ههنا ويقال المركب إن تركب من بسيطين فإن كان أحدهما غالبا في القوة وكان هناك ما يحفظ الامتزاج فالمركب ينجذب بالطبع إلى مكان الغالب وإن تساويا فإما أن يكون كل منهما ممانعا للآخر في حركته أو لا فإن لم يتمانعا افترقا ولم يجتمعا إلا بقاسر وإن تمانعا مثل أن تكون النار من تحت والأرض من فوق فإما أن يكون بعد كل منهما عن حيزه مساويا لبعد الآخر أو لا فعلى الأول يتقاومان فيحتبس المركب في ذلك المكان لا سيما إذا كان في الحد المشترك بين حيزيهما وعلى الثاني ينجذب المركب إلى حيز ما هو أقرب إلى حيزه لأن الحركات الطبيعية تشتد عند القرب من أحيازها وتفتر عند البعد وإن تركب من ثلاثة فإن غلب أحدها حصل المركب بطبعه في حيز الغالب كما مر وإن تساوت فإن كانت الثلاثة متجاورة كالأرض والماء والهواء حصل المركب في حيز العنصر الوسط كالماء وإن كانت متباينة كالأرض والماء والنار حصل المركب في الوسط أيضا لتساوي الجذب من الجانبين ولأن الأرض والماء وإن اختلفا في الماهية لكنهما يشتركان في الميل إلى أسفل فهما يغلبان النار بهذا الاعتبار وإن تركب من أربعة فإن كانت مساوية حصل المركب في الوسط وإلا ففي حيز الغالب هذا كله بالنظر إلى ما يقتضيه التركيب إذا خلا عن مقتضى آخر يمنع العناصر عن أفعالها فإنه يجوز أن يحصل للمركب صورة نوعية تعين له مكان البسيط المغلوب والله أعلم
390

الفصل الثاني في أقسامه وأحكام كل جسم منها
وفيه مقدمة وأقسام
المقدمة
المتن
الجسم ينقسم إلى بسيط ومركب والبسيط له رسمان
الأول ما جزؤه مساو لكله في الاسم والحد والمراد هو الجزء المقداري وإلا ورد الهيولى والصورة
الثاني ما لا يتركب من أجسام مختلفة الطبائع وكل منها قد يعتبر بحسب الحقيقة أو الحس فهذه أربعة اعتبارات فاعتبر ذلك في الأعضاء المتشابهة كاللحم والعظم وفي الفلك يظهر لك الفرق والمركب بخلافه ولكل جسم شكل طبيعي لوجوب تناهيه فلو خلي الجسم وطبعه يحيط به حد أو حدود والشكل الطبيعي للبسيط هو الكرة لأن له قوة واحدة والقوة الواحدة لا تفعل في المادة الواحدة إلا فعلا واحدا وكل شكل سوى الكرة ففيه أفعال مختلفة وشكك بوجوه
الأول الأرض بسيطة وليست كروية وقولهم تضاريس الأرض وخشوناتها ولا قدر لها بالنسبة إليها فهي كجاورسة على كرة كبيرة فلا تخرجها عن كونها كروية بجملتها لا يغني إذا الكروية لا تقبل الأشد والأضعف
391

الثاني الأفلاك المكوكبة فيها نقر مختلفة بالقدر والموضع
الثالث الفاعل لأشكال الأعضاء قوة بسيطة مع اختلاف فعلها وقد يجاب بأن فعلها في مركب
الرابع الأفلاك الخارجة المراكز كل من متمميها يختلف جانباه بالرقة والثخانة
فرع فالإناء كلما كان أقرب إلى المركز كان أكثر احتمالا للماء وذلك لأن ظاهر سطحه قطعة من دائرة مركزها مركز العالم وكلما كانت الدائرة أصغر كان التقعير فيها أكبر بالنسبة إلى وتر واحد ثم الجسم البسيط ينقسم إلى فلكي وعنصري فالفلكي الأفلاك والكواكب والعنصري العناصر الأربعة والمركب ينقسم إلى ما له مزاج وإلى ما لا مزاج له فهذه خمسة أقسام
الشرح
الفصل الثاني من فصلي المرصد الأول في أقسامه أي أقسام الطبيعي الذي تبين في الفصل الأول حقيقته وأجزاؤه وأحكام كل قسم منها أي من تلك الأقسام وفيه أي في هذا الفصل الثاني مقدمة وأقسام خمسة
المقدمة الجسم ينقسم إلى بسيط ومركب ويظهر لك وجه الانحصار فيهما من بيان مفهوميهما والجسم البسيط له رسمان مشهوران
الأول ما جزؤه أي كل جزء منه مساو لكله في الاسم والحد كالماء مثلا
قال الإمام الرازي هذا إنما يستقيم إذا قلنا بأن الجسم غير مركب من
392

الهيولى والصورة بل هو جوهر متصل قائم بذاته لا بمادة وأما إذا قيل إنه مركب منهما فإنه لا يستقيم لأن جزءه المادي وحده أو الصوري وحده لا يساويه في الاسم والحد بل لا بد حينئذ من أن يقيد الجزء بكونه جسميا أي مقداريا وإلى ذلك أشار المصنف بقوله والمراد بالجزء المذكور في رسم البسيط هو الجزء المقداري وإلا ورد الهيولى والصورة فإنهما جزءان من الجسم البسيط ولا يساويانه فيما ذكر فلا ينطبق هذا الرسم عل شيء من الأجسام البسيطة
وإذا أريد الجزء المقداري كان منطبقا عليها سواء تركبت منهما أو لا
الثاني من رسمي الجسم البسيط ما لا يتركب من أجسام مختلفة الطبائع وكل منهما أي من هذين الرسمين قد يعتبر بحسب الحقيقة أو الحس فهذه أربعة اعتبارات في رسم البسيط
الأول ماجزؤه المقداري بحسب الحقيقة مساو لكله في الاسم والحد فيندرج فيه العناصر الأربعة لأن كل جزء مقداري يفرض فيها يساوي كله في اسمه وحده دون الفلك إذ ليس أجزاؤه المقدارية المفروضة فيه كذلك ودون الأعضاء المتشابهة الحيوانية كالعظم واللحم مثلا إذ فيها أجزاء مقدارية هي العناصر ولا تشاركها في أسمائها وحدودها
الثاني ما يكون جزؤه المقداري بحسب الحس مساويا له فيما ذكر فيتناول مع العناصر الأعضاء المتشابهة فإن كل جزء محسوس منها يساويها في الاسم والحد دون الفلك
الثالث ما لا يتركب بحسب الحقيقة من أجسام مختلفة الطبائع فيشمل العناصر والفلك دون شيء من أعضاء الحيوان
الرابع ما لا يتركب بحسب الحس من أجسام مختلفة الطبائع فيتناول الكل فهو أعم الاعتبارات وأولها أخصها وبين الثاني والثالث عموم من وجه وتلخيصه أن ما لا يتركب من أجسام محسوسة مختلفة الطبائع إما أن لا يتركب من أجسام مختلفة ويتركب منها لكنها غير محسوسة وعلى الأول
393

إما أن لا يكون اسمه موضوعا له بشرط كونه موصوفا بصفة مخصوصة كالماء والأرض والهواء والنار فيشاركه أجزاؤه في اسمه وحده وإما أن يكون مشروطا به فلا يطلق اسمه على أجزائه كالفلك إذ قد اعتبر في اسمه شكل معين وعلى الثاني أيضا إما أن لا يعتبر في الاسم صفة كاللحم والعظم فيطلق اسمه على جزئه أو يعتبر فلا يطلق كالشريان والوريد إذ قد اعتبر فيهما التجويف والهيئة المخصوصة فالاعتبار الرابع يعم هذه الأربعة بأسرها والأول يتناول واحدا منها ولا يخفى عليك حال الآخرين وإلى ما فصلناه لك أشار مجملا بقوله فاعتبر ذلك أي الذي ذكرناه من اعتبار كل واحد من رسمي البسيط بحسب الحقيقة أو الحس في الأعضاء المتشابهة الحيوانية كاللحم والعظم ونظائرهما وفي الفلك يظهر لك الفرق بين الاعتبارات الأربعة كما عرفت والجسم المركب بخلافه فهو على الرسم الأول ما لا يكون جزؤه المقداري بحسب الحقيقة مساويا له في الاسم والحد فيخرج عنه من البسائط المذكورة العناصر دون الفلك والأعضاء المتشابهة وإن اعتبر الجزء المقداري بحسب الحس خرجت تلك الأعضاء أيضا وعلى الرسم الثاني هو ما يتركب بحسب الحقيقة من أجسام مختلفة الطبائع فيخرج عنه العناصر والفلك دون الأعضاء المذكورة وإن اعتبر التركيب بحسب الحس خرجت هذه الأعضاء أيضا ففي رسم المركب اعتبارات أربعة أيضا إلا أن أولها أعمق ورابعها أخصها على عكس ما تقدم وبين الباقيين عموم من وجه كما هناك واعلم أن المراد بالجسم البسيط في هذا الموضع ما لا يتركب حقيقته في نفس الأمر من أجسام مختلفة الطبائع وبالمركب ما يقابله ثم إن المصنف ذكر ههنا حكما عاما للأجسام البسيطة والمركبة وهو أن لها شكلا طبيعيا وبين أن الشكل الطبيعي للبسيط ماذا فقال ولكل جسم بسيطا كان أو مركبا شكل طبيعي وذلك لوجوب تناهيه لما سيرد عليك من استحالة لا تناهي الأبعاد فلو خلي الجسم أي
394

جسم كان وطبعه بأن يفرض بعد وجوده خاليا عن جميع ما يمكن خلوه عنه من التأثيرات الخارجية يحيط به حد أي طرف واحد فيكون كرة أو حدود أكثر من واحد فيكون مضلعا وعلى التقديرين كان ذلك الشكل طبيعيا له لاستناده إلى طبيعته من غير أن يكون هناك تأثير غريب ثم إن الأشكال الطبيعية للأجسام المركبة غير منضبطة لاختلافها بحسب اختلاف أجزائها في طبائعها ومقاديرها وبحسب صورها النوعية فلذلك لم يتعرض لها وقال الشكل الطبيعي للبسيط من الأجسام هو الكرة وذلك لأن له أي للجسم البسيط بالمعنى المراد في هذا المقام قوة أي طبيعة واحدة والقوة الواحدة لا تفعل في المادة الواحدة التي للبسيط إلا فعلا واحدا أي غير مختلف بالنوع وكل شكل سوى الكرة ففيه أفعال مختلفة أنواعها فإن المضلع من الأشكال يكون جانبا منه خطا وآخر زاوية أو سطحا أو نقطة وهي أمور متخالفة الحقائق فيلزم التحكم لأن القابل والفاعل في الكل متحدان وشكك فيما ذكر من أن الشكل الطبيعي للبسيط هو الكرة بوجوه أربعة
الأول الأرض بسيطة على رأيهم وليست كروية لما عليها وفيها من الجبال والتلال والأغوار والوهاد وقولهم في دفع هذا السؤال إن ما ذكرتموه تضاريس الأرض وخشوناتها الواقعة على ظاهرها ولا قدرة لها بالنسبة إليها فهي أي تلك الخشونات على الأرض كجاورسة على كرة كبيرة إذ قد بينوا أن الجبل إذا كان ارتفاعه نصف فرسخ يكون نسبة طوله إلى قطر الأرض كنسبة خمس سبع عرض شعيرة معتدلة إلى كرة قطرها ذراع وعلى هذا تكون نسبة طول أعظم جبل عليها وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث كنسبة سبع عرض تلك الشعيرة إلى الذراع تقريبا فلا تخرجها تلك
395

الخشونات التي لا قدر لها بالنسبة إليها عن كونها كروية بجملتها لا يغني أي لا يفيد قولهم المذكور اندفاع ذلك السؤال إذ الكروية الحقيقية لا تقبل الأشد والأضعف حتى يتصور وجود الكروية الضعيفة في الأرض مع تلك الخشونات القادحة في كمال الكروية فإذن حقيقة الكروية منتفية عنها قطعا بل وجه دفعة أن يقال شكلها الطبيعي هو الكرة إلا أنه وقعت هناك أسباب خارجة عنها كالرياح والأمطار والسيول فانثلم بها جزء من الأرض ثم إن اليبوسة التي فيها حافظة لما حصل لها من الأشكال فلا جرم ففي شكل الأرض على ذلك الانثلام المقتضي لتلك الخشونات فيكون خروجها عن شكلها الطبيعي بتلك الأسباب وذلك لا يقدح في اقتضاء طبيعتها الشكل الكروي كما ادعيناه
فإن قيل كون اليبوسة المستندة إلى طبيعة الأرض حافظة للشكل القسري المانع عن الشكل الطبيعي يقتضي كون الطبيعة الواحدة مقتضية لشيء ولما لم يمنع من حصول ذلك الشيء وذلك باطل قطعا
أجيب بأن الطبيعة اقتضت شكلا مخصوصا واقتضت أيضا كيفية حافظة للشكل مطلقا فهذا الاقتضاء لا يخالف الاقتضاء الأول بل يؤكده لو خليت وطبيعتها لكن لما أزال القاسر الشكل ولم يزل الكيفية صارت الكيفية حافظة للشكل القسري ومانعة بالعرض عن العود إلى الشكل الطبيعي ولا استحالة في ذلك
الوجه الثاني الأفلاك المكوكبة فيها نقر أي حفر ترتكز الكواكب فيها مختلفة بالقدر وأنها مساوية لمقادير الكواكب المختلفة الأقدار المالئة لتلك النقر والوضع أي مختلفة بالوضع أيضا لأن تلك النقر موجودة في
396

موضع من الفلك أي جانب منه دون آخر فقد اختلف فعل الطبيعة الواحدة في مادة واحدة وقد أجاب بعضهم عن هذا بأن الاختلاف المذكور ليس مستندا إلى طبيعة واحدة بل إلى صور متعددة فإن الفلك قد حصل له صورة نوعية تقتضي كروية شكله لكن اتصلت به صورة أخرى أفرزت عنها كرة أخرى تختص بها هي كوكب أو تدوير أو خارج مركز فلزم من ذلك أن يبقى في الفلك الأول نقرة أو متمم متصور بالصورة الأولى فقط لا يقال حلول الصور المختلفة لا يكون إلا لاختلاف المواد أو لاختلاف استعدادات مادة واحدة ولا يتصور ذلك في الفلك لأنا نقول له أن يمنع الحصر إذ من الجائز أن يكون اختلاف الصور في بعض البسائط مستندا إلى أسباب تعود إلى الفواعل كما جاز استناده إلى أمور تعود إلى القوابل لكن يبقى عليه أنه يلزم اجتماع صورتين نوعيتين في الكواكب والتدوير والخارج المركز وهو محال وأنه إذا كان في الفلك صورتان كان فيه تركيب قوي وطبائع فلا يكون بسيطا وأنه إذا جاز أن يتصل بالفلك صور متعددة وهي مبادئ أفعال مختلفة جاز في سائر البسائط فلا يلزم أن يكون شكلها مستديرا وربما يندفع الأول بمنع استحالته فإن صور العناصر باقية في المركب وقد حل فيه صورة أخرى نوعية سارية في جميع أجزائه وهي العناصر فيكون في كل عنصر هناك صورتان نوعيتان والثاني بأن معنى التركيب القوي أن يكون لجزء من الجسم قوة ولجزء آخر منه قوة أخرى حتى إذا كان له جزءان قويان كان له قوتان وليس الأمر في الفلك كذلك إذ الصورة الأولى سارية في الكل والثانية مختصة ببعضه والثالث بأن كل صورة تفرض في البسيط قوة واحدة تؤثر في مادة واحدة فلا تقتضي إلا شكلا مستديرا
397

الوجه الثالث الفاعل عندهم لأشكال الأعضاء في الحيوان والنبات ومقاديرها في العظم والصغر وصفاتها في الملاسة والخشونة هي القوة المصورة وهي قوة واحدة بسيطة مع اختلاف فعلها ألا ترى أنها لم تفد موادها شكل الكرة بل أشكالا مختلفة
وقد يجاب عن هذا من قبلهم بأن فعلها أي فعل تلك القوة البسيطة في مركب هو المادة التي يتخلق منها الحيوان أو النبات واختلاف آثار القوة البسيطة في مادة مركبة من قوابل متعددة جائز لا في مادة بسيطة
الوجه الرابع الأفلاك الخارجة المراكز كل من متمميها يختلف جانباه بالرقة والثخانة فقد فعلت الطبيعة الواحدة في كل من المتممين أفعالا مختلفة في الثخن فيجوز أيضا أن تختلف أفعالها في الشكل وأجيب عن ذلك بأن المراد بالفعل الواحد كما أومأنا إليه أن يكون متشابها غير مختلف بالنوع كالسطح والخط والنقطة لا أنه لا يختلف أصلا واختلاف
الثخن والنقر أيضا لا يوجب خروج فعل الطبيعة عن أن يكون نوعا واحدا
فرع على القول بأن الشكل الطبيعي للبسيط هو الكرة فالإناء كلما كان أقرب إلى المركز أي مركز العالم الذي هو وسط الكل كما إذا كان في قعر بئر مثلا كان أكثر احتمالا للماء مما إذا كان أبعد عنه كرأس جبل وذلك لأن ظاهر سطحه أي سطح الماء إذا خلي وطبعه في أي موضع فرض قطعة من دائرة بل من سطح كرة مركزها مركز العالم لأنه بسيط سيال تقتضي طبيعته تساوي بعد سطحه الظاهر عن المركز حتى يكون قطعه من سطح كروي وإنما ذكر الدائرة لأنها أسهل في التصور ولما كان مقدار رأس الإناء شيئا واحدا يمر بطرفيه دائرتان مركزهما واحد وإحديهما أكبر من الأخرى كانت القوس الواقعة على طرفيه من الدائرة الصغرى أكثر تحدبا وتقعرا من القوس الواقعة عليهما من الدائرة الكبرى كما يشهد بها التخيل من كل ذي فطرة سليمة وكانت القوسان محيطتين بشكل هلالي يملأه الماء إذا كان الإناء أقرب ويخلو عنه إذا كان أبعد فيزيد الأول على الثاني بذلك القدر من الماء أعني بما ماء يملأ بين قطعتين من سطحين
398

كرويين يرتسمان على رأس الإناء من توهم حركتي القوسين عليه يمنة ويسرة وإلى ما لخصناه أشار بقوله وكلما كانت الدائرة أصغر كان التقعير فيها أكبر بالنسبة إلى وتر واحد هو امتداد رأس الإناء ثم الجسم البسيط أي الذي لا تتركب حقيقته من أجسام مختلفة الطبائع كما نبهناك عليه ينقسم إلى فلكي وعنصري فالفلكي الأفلاك والكواكب فهو قسمان والعنصري العناصر الأربعة وهذا قسم واحد والمركب ينقسم إلى ما له مزاج وإلى ما لا مزاج له فهذه خمسة أقسام ثلاثة للبسيط واثنان للمركب
399

القسم الأول في الأفلاك
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
زعموا أن الأفلاك الثابتة بالرصد تسعة تشتمل على أربعة وعشرين فلكا فلك الأفلاك وهو المسمى بالفلك الأطلس لأنه غير مكوكب وبالعرش المجيد في لسان الشرع وتحته فلك الثوابت ثم فلك زحل ثم فلك المشتري ثم فلك المريخ ثم فلك الشمس ثم فلك الزهرة ثم فلك عطارد ثم فلك القمر وهو السماء الدنيا دل على وجودها الحركات المختلفة فإنه لا بد لها من محال متعددة ودل على ترتيبها الحجب فما هو أسفل يحجب ما هو أعلى وهو على ما ذكرنا من الترتيب وقد زعم بعض المهندسين أن فلك الزهرة فوق فلك الشمس وكذب ابن سينا فيما زعم أنه رأى الزهرة في وجه الشمس كالشامة فهذه التسعة هي الأفلاك الكلية ولكل من السيارة عدة أفلاك يتركب منها فلكه الكلي وسنعدها عليك عدا إن شاء الله تعالى
ومبناه أن الأفلاك لا تنخرق وإلا جاز أن يكون الحركة للكوكب نفسه كالسابح في الماء وإن سلم ذلك فلم لا يجوز أن تكون الكواكب على
400

نطاقات تتحرك إما بنفسها أو باعتماد الكواكب عليها وليس ذلك أبعد من الخارج ومتمميه ثم لم لا يجوز أن يكون للكل حركة غير حركة كل واحد وتكون هي الحركة اليومية فيغني عن إثبات التاسع ولم لا يجوز أن تكون الثوابت كل واحد منها على فلك وبقاء نسبها لا يصلح للتعويل لجواز اتفاقها في الحركة ثم لم لا يجوز أن يكون بعضها تحت الأفلاك السيارة وحكاية الكسف إن سلم ففبم يقع في مداراتها فكيف السبيل إلى الجزم في غيرها
الشرح
القسم الأول في الأفلاك وفيه مقاصد ستة
المقصد الأول إن الحكماء زعموا أن الأفلاك الكلية الثابتة بالرصد تسعة تشتمل هذه التسعة على أربعة وعشرين فلكا أي هي مع ما في ضمنها من الأفلاك الجزئية هذا العدد فتسعة من الأفلاك كما سيتلى عليك كلية وستة تداوير وثمانية خارجة المراكز وللقمر فلك آخر موافق المركز يسمى بالجوزهر أما التسعة الكلية فهي فلك الأفلاك سمي به لاشتماله على جميع ما عداه من الأفلاك وهو المسمى أيضا عندهم بالفلك الأطلس لأنه غير مكوكب على رأيهم والمسمى بالعرش المجيد في لسان الشرع وتحته فلك الثوابت وهو الكرسي ثم فلك زحل ثم فلك المشتري ثم فلك المريخ ثم فلك الشمس ثم فلك الزهرة ثم فلك عطارد ثم فلك القمر وهو السماء الدنيا لأنه أقرب إلينا من سائر الأفلاك
401

قالوا دل على وجودها الحركات المختلفة في الجهة أو السرعة والبطء أو فيهما معا فإنه لا بد لها أي لتلك الحركات من محال متعددة إذ يستحيل أن يتحرك جسم واحد حركتين ذاتيتين بل لا بد لكل حركة ذاتية من متحرك على حدة ودل على ترتيبها الحجب فما هو أسفل يحجب ما هو أعلى أي يصير ساترا له عنا إذا وقع على محاذاته وهو أي الحجب على ما ذكرنا من الترتيب فإنهم وجدوا القمر يحجب سائر السيارة ومن الثوابت ما هو على طريقته فعلم أنه تحت الجميع ووجدوا عطاردا يكسف الزهرة والزهرة المريخ والمريخ المشتري والمشتري زحل وزحل بعض الثوابت وأما الشمس فإنها لا تنكسف إلا بالقمر ولا يتصور كسفها بشيء من الكواكب لأنها تستتر بشعاعها إذا قربت منها لكن لها اختلاف المنظر دون العلوية فهي تحتها وفوق القمر وبقي الاشتباه في أنها فوق الزهرة وعطارد أو تحتها إذ لا سبيل إلى معرفة ذلك من الكسف لما عرفت من احتراقهما تحت الشعاع عند القران ولا من اختلاف المنظر لأنهما لا يبعدان عن الشمس كثيرا بعد فلا يظهران عند كونهما على نصف النهار ليعلم بذات الشعبتين المنصوبة في سطح نصف النهار أن لها اختلاف منظر أو لا فلذلك عدل بطليموس إلى طريقة الاستحسان فقال هي كسمة القلادة متوسطة بين السبعة السيارة أعني بين العلوية وبين السفليتين والقمر وقد تأكد هذا الرأي بما ذكره بعض المتأخرين كابن سينا ومن تقدمه من مقدمي هذه الصناعة أنه رأى عند اجتماعها مع الشمس كشامة على صفحتها ومنهم من ادعى أنه رآها وعطاردا كشامتين عليها وقد زعم بعض المهندسين أن فلك الزهرة دون فلك عطارد فوق فلك الشمس وكذب ذلك البعض ابن سينا فيما زعم أنه رأى الزهرة في وجه الشمس كالشامة فإنه قد زعم بعض الناس أن في وجه الشمس نقطة سوداء فوق مركزها بقليل كالمحو في وجه القمر فهذه النقطة هي الشامة وأما الشامتان فجاز أن تكون أحدهما هذه النقطة
402

والأخرى عطاردا فهذه التسعة التي ذكرناها هي الأفلاك الكلية ثم إن كل واحد من فلك الأفلاك وفلك الثوابت كرة واحدة ولكل من السيارة عدة أفلاك يتركب منها فلكه الكلي وسنعدها عليك عدا إن شاء الله تعالى ومبناه أي مبنى ما ذكر من الدليل على تعدد الأفلاك هو أن الأفلاك لا تنخرق أصلا وإلا جاز أن يكون هناك فلك واحد ساكن ويكون الحركة للكوكب نفسه كالسابح في الماء وإن سلم ذلك أي امتناع الانخراق فلم لا يجوز أن تكون الكواكب على نطاقات أي أجسام شبيهة بحلق يكون تحتها مساويا لأقطار الكواكب المركوزة فيها تتحرك تلك النطاقات إما بنفسها أو باعتماد الكواكب عليها وتكون تلك النطاقات بأسرها مغرقة في كرة واحدة على أوضاع مختلفة وليس ذلك أي إثبات النطاقات والحركة عليها بأبعد من إثبات الخارج المركز ومتمميه المختلفي الثخن والوضع ثم إن سلمنا أن ذلك غير جائز قلنا لم لا يجوز أن يكون للكل من حيث هو كل حركة غير حركة كل واحد وتكون هي أي حركة الكل الحركة اليومية الشاملة لجميع الكواكب فيغني هذا الذي ذكرناه عن إثبات الفلك التاسع وذلك بأن تتعلق نفس واحدة بمجموع الأفلاك الثمانية وتحركه هذه الحركة السريعة وتتعلق بكل واحد منها نفس على حدة وتحركه حركة أخرى فينتظم حال الحركات المرصودة بلا حاجة إلى فلك تاسع وقد زاد بعضهم على ذلك وقال لا حاجة حينئذ إلى الثامن أيضا لجواز فرض الثوابت ودوائر البروج على ممثل زحل فتكون الأفلاك الكلية سبعة فقط لا تسعة كما زعموه ولنا أن نقول بعد تسليم ما تقدم لم لا يجوز أن تكون الثوابت كل واحد منها على فلك فيتضاعف عدد الأفلاك على ما ذكروه أضعافا مضاعفة وقولهم بقاء نسبها أي نسب بعض الثوابت إلى بعض في القرب والبعد والمحاذاة يدل على أنها مرتكزة في كرة واحدة لا يصلح للتعويل لجواز اتفاقها أي اتفاق تلك الأفلاك المتعددة التي عليها الثوابت في الحركة سرعة و بطءا وجهة فلا يتغير بتلك الحركات نسبها وأوضاعها ثم لم لا يجوز أن يكون بعضها أي بعض الثوابت على أفلاك تحت الأفلاك السيارة فلا يصح ما ذكروه من
403

الترتيب وحكاية الكسف أي كسف السيارات للثوابت على ما ذكروه غير مسلم وإن سلم ففيما يقع من الثوابت في مداراتها أي محاذيا لمدارات السيارات حتى يتصور كونها كاسفة لها حاجبة لنا عن رؤيتها فيعلم كون السيارات تحتها فكيف السبيل إلى الجزم في غيرها أي في الثوابت القريبة من القطبين إذ لا يتصور هناك كسف فلا يعلم أنها تحت السيارات أو فوقها ولا يمكن التمسك في ذلك باختلاف المنظر وعدمه إما بالقياس إلى العلوية فظاهر وإما بالقياس إلى
غيرها فلأن من الثوابت ما ليست مرصودة لصغرها فلا يعلم أن لها اختلاف منظر أو لا
المقصد الثاني في المحدد
المتن
قالوا الجهة منتهى الإشارة ومقصد المتحرك بالحصول فيه فهي موجودة لامتناع أن يكون العدم المحض كذلك لا يقال الجسم يتحرك من البياض الموجود إلى السواد المعدوم لأنا نقول لا بالحصول فيه بل بتحصيله والضرورة تحكم بوجود ما يراد الحصول فيه وعدم ما يراد تحصيله ولا شك أنها شيء ذو وضع لأن المفارق تمتنع الإشارة إليه والحصول فيه وأنها لا تنقسم وإلا فالجهة أحد جزئيها فإنا إذا فرضنا الإشارة أو الحركة أيفعت إلى جزئها الأقرب فإن انتهت فهو الجهة دون ما وراءه وإلا فالجهة ما وراءه دونه فهي نهايات وحدود وإلا لكانت متحيزا بالاستقلال فكان منقسما وأيضا فلو لم تكن حدودا فإما الخلاء وأنه محال أو الملأ المتشابه فلا يكون أحد جزئية مطلوبا بالطبع والآخر متروكا بالطبع وقد علمت أن الجهات على كثرتها اعتبارية ما عدا العلو والسفل فإنهما
404

جهتان حقيقتان فإذا لا بد من جسم يحددهما ويكون كرويا ليتحدد القرب بمحيطه وهو العلو والبعد بمركزه وهو السفل لأن غير الكروي لا يحدد إلا القرب منه وأما البعد منه فغير محدود ويكون واحدا وإلا فإما أن يحيط بعضها ببعض فيكون المحيط هو النهاية ويكون كافيا لتحدد الجهتين به أو لا يحيط بل يكون كل منهما في جهة من الآخر فتكون الجهة متحددة قبلهما لأيهما والمفروض خلافه فقد ثبت وجود كرة بها تتحدد الجهات محيطة بالكل وهو المطلوب
ثم له أحكام منها أنه بسيط وإلا جاز انحلاله واللازم باطل أما اللزومية فلأن البسيط يمكنه أن يلاقي بأحد طرفيه ما يلاقيه بالآخر لتساويهما وأما بطلان اللازم فلأن ذلك لا يكون إلا بالحركة المستقيمة وهي لا يتكون إلا من جهة إلى جهة فتكون الجمعة متحددة قبله لا به هذا خلف ومنها أنه شفاف وكذلك سائر الأفلاك لأنها لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها
واعلم أن هذا لا يتمشى في المحدد إذ ليس له وراء إلا أن يقال لو كان ملونا لوجب رؤيته فنقول ولم لا يجوز أن تكون هذه الزرقة المرئية لونه لا يقال ذلك أمر يحس به في الشفاف إذا بعد عمقه كما في ماء البحر لأنا نقول قد تكون لونا حقيقيا وما الدليل على أنه لا يحدث إلا بذلك الطريق التخيلي
ومنها أنه لا ثقيل ولا خفيف لأنهما مبدأ الميل الصاعد والهابط وهما بالاستقامة فيقتضي تحدد الجهة قبل ولا يعم الأفلاك والحجة العامة أنها متحركة بالاستدارة بدلالة الأرصاد ففيها مبدأ ميل مستدير فلا يكون فيها مبدأ ميل مستقيم لتنافيهما وقد يمنع التنافي إذ قد يجتمعان ويحصل
405

باجتماعهما حركة مركبة كالدحرجة وكما في العجلة وليست حركة الاستدارة صارفة ومنها أنه لا حار ولا بارد
قال ابن سينا لتلازم الثقل مع البرودة والخفة مع الحرارة ولمانع بأن يمنع التلازم مطلقا بل في العناصر فإن قال الحرارة علة الخفة فيمتنع التخلف قلنا قد يتخلف الأثر لعدم القابل كالحركة فإنها توجب الحرارة والأفلاك متحركة وغير حارة لأنها مادتها غير قابلة
وقال الإمام الرازي لو كانت هي حارة لكانت في غاية الحرارة لوجود الفاعل والقابل من غير عائق والتالي باطل وإلا كان الأقرب أسخن كرؤوس الجبال الشامخة ولاستحالة أن تسخن الشمس وحدها دون السماوات مع أنها أضعاف أضعافها قلنا مراتب السخونة مختلفة بالنوع فربما لا تقبل مادة الفلك إلا مرتبة ما ضعيفة ثم أثر التسخين قد لا يصل إلينا وهو منقوض بتسخين الشمس والقياس عليها ضعيف لأنها لا تسخن بل أشعتها ولذلك إذا انعكست أحرقت كما في المرايا المحرقة وما ذكره منقوض بكرة النار لثبوتها عندهم ومنها أنه لا رطب ولا يابس لأن الرطوبة سهولة قبول التشكل وتركه واليبوسة عسره ولا يتصور ذلك إلا بالحركة المستقيمة ومنها أنه لا يقبل الكون والفساد لأن كل جسم له حيز طبيعي فللصورتين الكائنة والفاسدة لكل حيز طبيعي فإن اتحد حيزهما كان لجسمين حيز واحد طبيعي وأنه محال لأنهما لا يحصلان فيه لامتناع التداخل فلا بد من خروج الجسمين أو أحدهما عنه وهو بالحركة المستقيمة
والجواب أن الصورتين قد يقتضيان حيزا واحدا إذ قولك لأنهما لا يحصلان فيه إلى آخره فرع اجتماع الصورتين وأنه محالد بل تعدم واحدة عندما توجد الأخرى ومما يحققه أن الصورتين مع اختلافهما لا يمتنع اشتركهما في لازم واحد وهو اقتضاء ذلك الحيز ومنها أنه لا يتحرك في
406

الكم أما محدبة فإذا لو ازداد لكان ثمة مكان خال ينتقل إليه وقد علمت أن ما وراء عدم محض ولو انتقض لزم خلو مكانه إذ ليس ثمة شيء ينتقل إليه بدله وأما مقعره فلأنه مثل المحدب للبساطة فيمتنع عليه ما يمتنع على المحدب لأن حكم الشيء حكم مثله فكذا محدب المحوى لعدم المكان وامتناع الخلاء فكذا مقعره إلى أن يستوعب الأفلاك ولا يخفى عليك أن امتناع حركة المحدب ليس له لذاته فلا يجب مشاركة المقعر له وأنه لا يتأتى في سائر الأفلاك وأما على رأينا فالمنع ظاهر لجواز الخلاء ولجواز خلق الله تعالى جسما في مكانه ومنها أن فيه مبدأ ميل مستدير لأن أجزاءه متساوية للبساطة فلا يكون اختصاص البعض بحيزه دون الآخر أولى من عكسه فإما أن لا يحصل كل جزء في حيز ما وأنه محال أو يحصل الكل في الكل إما معا وأنه محال وإما بدلا وذلك يقتضي كونه متحركا بالاستدارة والإشكال عليه أنه بناء على البساطة ولم تثبت لغير المحدد من الأفلاك وإن سلم فإما أن يتحرك إلى جميع الجهات وأنه محال أو إلى بعضها وأنه ترجيح بلا مرجح وأيضا فلا بد من قطبين ساكنين ودوائر ترسمها الأجزاء حولهما بحركات مختلفة بالسرعة والبطء مع استواء جميع النقط فيه وصلاحيتها للقطبية وأنه ترجيح بلا مرجح ولا يمكن إسناد ذلك إلى موجب بالذات لأنه لا تخصيص إلا لمرجح معد للقابل ونسبته إلى جميع الأجزاء سواء بل إلى مختار وإذا وجب الرجوع بالآخرة إلى فعل المختار فليعترفوا به أولا فإنه يخفف عنهم كثيرا من المؤنات ومنها أنه ليس فيه مبدأ ميل مستقيم لمنافاته للميل المستدير وقد عرفت ما فيه ومنها أنه قيل هو المتحرك بالحركة اليومية وهو المحرك لجميع الأفلاك معه في اليوم بليلته دورة تامة تقريبا وهو الفلك الأعظم وحركته تسمى الحركة الأولى قطباها قطبا العالم ومنطقته
407

تسمى معدل النهار لسبب ستقف عليه وهي حيث لجميع الكواكب فيه طلوع وغروب تكون ملازمة لسمت الرأس بخلاف الشمس فإنها تميل هناك تارة إلى الشمال متباعدة عن سمت الرأس قليلا قليلا إلى غاية ما ثم ترجع متقاربة إليه قليلا قليلا حتى تسامت ثم تميل إلى الجنوب كذلك هكذا دائما فعلم أن مدار الشمس مائل عن معدل النهار ليس في سطحه والشمس إذا قارنت كوكبا ما من الثابتة خلفته إلى المغرب فعلم أن لها حركة إلى المشرق أسرع من حركة الثوابت بها تدرك الثوابت التي تكون في جهة المشرق منها ثم تتجاوزها مخلفة إياها إلى المغرب وتفرض دائرة موازية لمدارها في الفلك الأعظم قاطعة لجميع ما تحتها كأنها مدار الشمس انبسطت وتسمى منطقة البروج وفلك البروج ومنطقة الحركة الثانية وأنها تقطع معدل النهار بنصفين وكذلك كل دائرتين عظيمتين تفرضان في كرة والتقاطع يكون على نقطتين مشتركتين وتسميان نقطتي الاعتدال فما تتجاوزه الشمس إلى الشمال هو الاعتدال الربيعي وما تتجاوزه إلى الجنوب هو الاعتدال الخريفي ويفرض على منتصفها في كل جانب نقطة وهو حيث تكون غاية البعد بين المنطقتين تسميان نقطتي الانقلابين فالتي في طرف الشمال الانقلاب الصيفي والتي في طرف الجنوب الانقلاب الشتوي وبهذا النقط الأربع تنقسم منطقة البروج أربعة أقسام متساوية ثم قسموا كل قسم ثلاثة أقسام متساوية فيكون المجموع اثني عشر قسما يفصل بين كل قسمين نصف دائرة فيحيط بها ست دوائر وسموا كل قسم برجا ثم قسموا كل برج ثلاثين قسما سواء وسموها درجا وقسموا كل درجة ستين قسما سواء وسموها دقائق والدقائق ستين قسما وسموها ثواني وهكذا ثوالث وروابع فما زاد وأخذوا أسماء البروج من صور تخيلوها من كواكب كانت موازية لها حين التسمية
408

وأنها تزول بالحركة البطيئة التي للثوابت والأسماء بحالها فإن البروج أقسام للفلك التاسع وابتدأوا بما يلي الاعتدال الربيعي من جانب الشمال إلى أن يتم الدور بما يليه من جانب الجنوب فصارت ثلاثة منها بين نقطتي الاعتدال الربيعي والانقلاب الصيفي هي الحمل والثور والجوزاء وتسمى بروجا ربيعية لأن الربيع عبارة عن زمان كون الشمس فيها وثلاثة بين الانقلاب الصيفي والاعتدال الخريفي هي السرطان والأسد والسنبلة وتسمى بروجا صيفية لمثل ما مر وثلاثة بين الاعتدال الخريفي والانقلاب الشتوي هي الميزان والعقرب والقوس وتسمى بروجا خريفية وثلاثة بين الانقلاب الشتوي والاعتدال الربيعي وهي الجدي والدلو والحوت وتسمى بروجا شتوية وهذا الترتيب يسمى التوالي وهو من المغرب إلى المشرق وعكسه يسمى خلاف التوالي وهو من المشرق إلى المغرب ثم توهموا دائرة مارة بالأقطاب الأربعة أعني قطبي معدل النهار وقطبي فلك البروج وسموها بهذا الاسم ولا بد أن تمر بغاية البعد بين المنطقتين فمن المعدل بالانقلابين ومن المنطقة بنظيريهما وقطبا هذه الدائرة الاعتدالان إذا يجب أن يقعا في الدائرتين
فإنها مقاطعة لهما على قوائم وكل دائرة تقاطع أخرى على قوائم فيكون قطب كل نقطة من الأخرى والواقع فيهما هو موضع تقاطعهما وهما الاعتدالان وتوهموا دائرة أخرى تمر بقطبي معدل النهار وجزء ما من منطقة البروج أو بكوكب وسميت دائرة الميل والقوس الواقعة من هذه الدائرة بين المعدل وبين ذلك الجزء من المنطقة ميل ذلك الجزء والواقعة بينه وبين الكوكب بعده وتوهموا دائرة أخرى مارة بقطبي منقطة البروج وبجزء ما من معدل النهار أو بكوكب ما وسموها دائرة العرض والقوس
409

الواقعة منها بين المنطقة وبين ذلك الجزء أو ذلك الكوكب عرض ذلك الجزء أو الكوكب فهي خمس دوائر توهموها لا بالنسبة إلى السفليات ثلاثة متحدة بالشخص هي معدل النهار والمنطقة والمارة بالأقطاب الأربعة وثنتان متحدتان بالنوع لا يتناهى أشخاصهما وهما دائرتا الميل والعرض وكل واحد منهما قد تنطبق بالمارة بالأقطاب إذا كان الكوكب أو الجزء عليها وتوهموا خمس دوائر أخر بالنسبة إلى السفليات إحداها الدائرة الفاصلة بين النصف الظاهر والنصف الخفي من الفلك وتسمى دائرة الأفق وتختلف بحسب البقاع وقطباها سمت الرأس والقدم وأربعة تمر بقطبيها فالثانية تمر بقطبي الأفق وبقطبي معدل النهار وهي دائرة وسط السماء وتفصل بين الصاعد والهابط من الفلك وبين النصف الشرقي والغربي منه وقطباها نقطتا المشرق والمغرب من الأفق والثالثة تمر بقطبي الأفق وبقطبي هذه أعني وسط السماء وتسمى دائرة أول السماوات وتفصل بين النصف الشمالي والنصف الجنوبي من الفلك وقطباها نقطتا الشمال والجنوبي من الأفق والرابعة تمر بقطبي الأفق وبقطبي المنطقة وتسمى دائرة السمت وعرض إقليم الرؤية ووسط سماء الرؤية لأنها تفصل بين نصفي فلك الثوابت وفيه كواكب مرئية والخامسة تمر بقطبي الأفق وبكوكب ما وتسمى دائرة الارتفاع إذ قوس منها بين الأفق وبين الكوكب من جانب المشرق ارتفاعه ومن جانب المغرب إغطاطه وهذه الدائرة عند غاية ارتفاع الكوكب تنطبق بدائرة وسط السماء إن لم يكن على دائرة أول السماوات وعليها إن كان عليها وهذه الدوائر ثلاث منها لا تتغير في كل بقعة وهي دائرة الأفق ووسط السماء وأول السماوات وثنتان منها تتخيران آنا فآنا وهي دائرة الارتفاع بحركة الكواكب ودائرة وسط سماء الرؤية بحركة قطبي منطقة البروج بتحريك المعدل لهما بالحركة اليومية فهذه أمور موهومة ولا وجود لها في الخارج ولا حجر في مثلها ولا تتعلق باعتقاد ولا يتوجه نحوها إثبات وإبطال إلا أنا أوردناها لتقف على مقصدهم وإذا رأيته محض تخيلات أوهن من بيت العنكبوت لم يهلك سماع هذه الألفاظ ذوات القعاقع
410

الشرح
المقصد الثاني في المحدد أي في إثبات جسم يحدد الجهات ويعين وضعها وفي بيان أحكامه قالوا أي الحكماء الجهة منتهى الإشارة الحسية ومقصد المتحرك الأيني بالحصول فيه أي بالقرب منه والحصول عنده وذلك أن العقلاء يشيرون إشارة حسية إلى الجهات ويقولون تحرك كذا في جهة كذا فقد تعلق الإشارة الحسية بالجهة وصارت أيضا مقصدا للحركة المستقيمة فهي موجودة لامتناع أن يكون العدم المحض كذلك أي متعلق الإشارة الحسية ومقصد المتحرك بالوصول إليه أو القرب منه لا يقال الجسم يتحرك في الكيف من البياض الموجود إلى السواد المعدوم فقد جاز أن يكون المعدوم مقصدا المتحرك فلا يمكن الاستدلال على وجود الجهة بكونها مقصدا للحركة وأيضا الإشارة الحسية امتداد موهوم فلا يكون منتهاها موجودا لأنا نقول في الجواب عن الأول إن السواد المعدوم مقصد المتحرك ولكن لا بالحصول فيه أو بالقرب منه بل بتحصيله بهذه الحركة والضرورة العقلية تحكم بوجود ما يراد بالحركة الحصول فيه وعدم ما يراد بالحركة تحصيله أي تحكم بأنه يجب أن يكون الأول موجودا حال الحركة لامتناع أن يطلب بها القرب من المعدوم والثاني يجب أن يكون حال الحركة معدوما لاستحالة تحصيل الحاصل وفي الجواب عن الثاني أن الإشارة الحسية وإن كانت امتدادا موهوما لكنا نعلم بالضرورة أن منتهى هذا الامتداد مشار إليه وموجود في الخارج ولا شك في أنها أي الجهة شيء ذو وضع أي مادي لا مجرد لأن المفارق المجرد عن المادة تمتنع الإشارة الحسية إليه ويمتنع أيضا الحصول فيه أي حصول
411

الجسم في المفارق والوصول إلى القرب منه ولا شك أيضا في أنها أي الجهة لا تنقسم في مأخذ الإشارة وامتداد الحركة وإلا أي وإن انقسمت في ذلك المأخذ والامتداد فالجهة أحد جزئيها لا هي بتمامها فإنا إذا فرضنا الإشارة أو الحركة اتفقت أي وصلت إلى جزئها الأقرب فإن انتهت هناك الإشارة أو الحركة إلى تلك الجهة فهو أي ذلك الجزء الأقرب وحده هو الجهة دون ما وراءه أي لا مدخل له في تلك الجهة وإلا أي وإن لم تنته هناك الإشارة أو الحركة إلى تلك الجهة فالجهة ما وراءه دونه
فإن قيل ليس يلزم من عدم الانتهاء عند الجزء الأقرب أن لا يكون هو جزءا من الجهة لجواز أن تكون تلك الإشارة أو الحركة الباقية في الجهة لا إليها أجيب بأن هذا ينافي ماهية الجهة لأنها ما إليها الإشارة والحركة فلو كانتا في الجهة كانت الجهة مسافة لا جهة وأنه محال وإذا ثبت أن الجهة موجودة في الخارج وأنها ذات وضع وغير منقسمة في امتداد الإشارة واستقامة الحركة فهي أي الجهة نهايات وحدود أي أطراف هي أعراض قائمة بالأجسام لأنها إن لم تنقسم أصلا كانت نقطا وإن انقسمت في امتداد واحد كانت خطوطا أو في امتدادين كانت سطوحا وإلا أي وإن لم تكن نهايات وأطرافا بل كانت أجساما لكانت الجهة أمرا متحيزا بالاستقلال فكان منقسما في الامتدادات كلها لما مر من امتناع الجزء الذي لا يتجزأ وما في حكمه وقد بان بطلانه بما عرفت من استحالة انقسامها في مأخذ الإشارة وامتداد الحركة وأيضا فلو لم تكن الجهة حدودا مختلفة الحقائق قائمة بأجسام متناهية فأما الخلاء أي فهي إما في الخلاء الذي هو
412

البعد الموجود أو الموهوم وأنه أي الخلاء بكلا معنييه محال فكيف يتصور وجود الجهة فيه أو الملأ المتشابه أي أو هي في الملأ الذي لا يوجد فيه حدود مختلفة الحقائق وهو الجسم الذي لا يتناهى فلا يكون هناك جهات متخالفة الماهية إذ لا يكون أحد جزئيه أي جزئي الملأ متشابه مطلوبا بالطبع والآخر متروكا بالطبع لأنهما متشابهان في الماهية وكذلك الحدود المفروضة فيه لا تكون جهات موجودة متخالفة فلا يتصور طلب بعض الأجسام بالطبع لبعضها وهربه عن بعض آخر منها وقد علمت في مباحث الاعتمادات أن الجهات على كثرتها اعتبارية متبدلة بحسب الأحوال المتغيرة فلا تدخل تحت الضبط ما عدا العلو والسفل فإنهما جهتان حقيقيتان لا تتبدلان أصلا وإحداهما في غاية البعد عن الأخرى فإذن لا بد من جسم يحددهما ويعين وضعهما ويكون ذلك الجسم المحدد كرويا ليتحدد القرب بمحيطه وهو العلو ويتحدد البعد بمركزه وهو السفل لأن المركز هو أبعد نقطة عن المحيط بحيث يستحيل أن يفرض في داخله ما هو أبعد منها لأن غير الكروي من الأجسام لا يحدد إلا القرب منه وأما البعد منه فغير محدود لا به وهو ظاهر ولا بغيره من أجسام أخر إذ يمكن فرضه بحيث يكون البعد أكثر فلا ينضبط بهما جهتان إحداهما في غاية البعد عن الأخرى ويكون ذلك الجسم المحدد الكروي واحدا وإلا فإما أن يحيط بعضها ببعض فيكون المحيط هو النهاية الحقيقية التي تنتهي الإشارات الحسية بسطحه الأعلى وقد يكون هو وحده كافيا لتحدد الجهتين به باعتبار مركزه ومحيطه فيكون المحاط حينئذ حشوا لا مدخل له في تحديد الجهة أصلا فظهر فساد ما قيل من أن فلك القمر يحدد جهات الأقسام القابلة
413

للحركة المستقيمة أو لا يحيط بعضها ببعض بل يكون كل منهما خارجا واقعا في جهة من الآخر فتكون الجهة متحدة قبلهما حتى يمكن وقوعهما فيها لا متحددة بهما والمفروض خلافه وأيضا فلا يتحدد بشيء منهما إلا جهة القرب دون البعد كما مر فإن البعد عن الجسم إذا كان خارجا عنه فالبعد عنه إلى أين فقد ثبت بما قررناه وجود كرة بها تتحدد الجهات الحقيقية محيطة بالكل أي بجميع الأجسام ليكون سطحه الأعلى منتهى الإشارات وجهة الفوق ومركزه الذي يتساوى بعده عنه وتنتهي به الإشارة النازلة عنه جهة التحت وهو المطلوب ثم له أي للمحدد أحكام منها أنه بسيط لا مركب من بسائط متعددة وإلا جاز انحلاله واللازم باطل فالملزوم مثله أما الملزومية فلأن المحدد إذا كان مركبا من بسائط متعددة كان كل واحد من أجزائه ملاقيا بأحد جانبيه شيئا غير ما يلاقيه بجانبه الآخر ولا شك أن البسيط يمكنه أن يلاقي بأحد طرفيه ما يلاقيه بالآخر لتساويهما أي تساوي الطرفين في الماهية فإذا لاقى أحدهما شيئا جاز أن يلاقيه الآخر وذلك إنما يتصور بالانحلال وأما بطلان اللازم فلأن ذلك أي الانحلال لا يكون إلا بالحركة المستقيمة وتباعد بعض الأجزاء عن بعض وقد يقال جاز أن تكون الملاقاة بالحركة المستديرة فلا يلزم الانحلال المستلزم للحركة المستقيمة وهي أعني الحركة المستقيمة لا تكون إلا من جهة إلى جهة أخرى فتكون الجهة متحددة قبله أي قبل المحدد حتى يمكن حركة أجزائه إليها لا متحددة به هذا خلف ومنها أي ومن أحكام المحدد أنه شفاف لا لون له وكذلك سائر الأفلاك شفافه غير ملونة وذلك لأنها لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها من الكواكب وكل ملون فإنه يحجب عن
ذلك
414

قال الإمام الرازي لا نسلم أن كل ملون حاجب فإن الماء والزجاج ملونان لأنهما مرئيان ومع ذلك لا يحجبان فلئن قيل فيهما حجب عن الأبصار الكامل قلنا وكيف عرفتم أنكم أدركتم هذه الكواكب إدراكا تاما واعلم أن هذا الذي ذكروه لا يتمشى في المحدد إذ ليس له وراء حتى يرى ولا في فلك الثوابت أيضا إذ ليس فوقه كوكب مرئي إلا أن يقال لو كان المحدد أو فلك الثوابت ملونا لوجب رؤيته فنقول جاز أن يكون لونه ضعيفا كلون الزجاج فلا يرى من بعيد ولئن سلمنا وجوب رؤية لونه قلنا ولم لا يجوز أن تكون هذه الزرقة الصافية المرئية لونه لا يقال ذلك أي لون الزرقة أمر يحس به في الشفاف إذا بعد عمقه كما في ماء البحر فإنه يرى أزرق متفاوت الزرقة بتفاوت قعره قربا وبعدا فالزرقة المذكورة لون يتخيل في الجو الذي بين السماء والأرض لأنه شفاف بعد عمقه لأنا نقول الزرقة قد تكون لونا متخيلا كما ذكرتم وقد تكون أيضا لونا حقيقيا قائما بالأجسام وأما الدليل القائم على أنه لا يحدث إلا بذلك الطريق التخيلي أي لا دليل على ذلك فجاز أن تكون تلك الزرقة المرئية لونا حقيقيا لأحد الفلكين ومنها أنه أعني المحدد لا ثقيل ولا خفيف لأنهما أي الخفة والثقل مبدأ الميل الصاعد والهابط أو نفس هذين الميلين على اختلاف التفسيرين وهما يصححان حركة محلهما بالاستقامة فيقتضي وجود الثقل أو الخفة في المحدد جواز الحركة المستقيمة عليه وذلك يستلزم تحدد الجهة قبل أي قبله لا به وهذا الدليل لابتنائه على تحديد الجهة يختص بالمحدد ولا يعم الأفلاك الباقية والحجة العامة للكل أنها متحركة بالاستدارة بدلالة الأرصاد ففيها مبدأ ميل مستدير بل ميل مستدير أيضا لأنه المقتضى القريب للحركة المستديرة فلا يكون فيهما مبدأ ميل مستقيم لتنافيهما أي تنافي المبدأين باعتبار تنافي الميلين لأن الميل المستقيم يقتضي توجه الجسم إلى جهة والمستدير يقتضي صرفه عنها وقد يمنع التنافي بين الميلين إذ قد يجتمعان في جسم واحد ويحصل باجتماعهما
415

فيه حركة مركبة كالدحرجة في الكرة وكما في العجلة فإنها تتحرك على الاستقامة والاستدارة معا وليست حركة الاستدارة صارفة عن الجهة بل هي غير مقتضية للتوجه إليها وإن سلم التنافي بين الميلين فلا تنافي بين المبدأين ولا بين أحدهما ومبدأ الآخر فإن الحجر المرمي إلى فوق فيه مبدأ الميل الهابط مع الميل الصاعد ومبدأه كما مر ومنها أنه أي المحدد وكذا غير من الأفلاك لا حار ولا بارد قال ابن سينا وذلك لتلازم الثقل مع البرودة فإن المادة إذا اشتد بردها ثقلت وإذا ثقلت بردت وتلازم الخفة مع الحرارة فإن المادة إذا أمعن فيها التسخين خفت وإذا خفت سخنت فحيث لا ثقل ولا خفة فلا برودة ولا حرارة وقد وقع في بعض النسخ لفظ اليبوسة بدل الحرارة وهو سهو من القلم ولمانع أن يمنع التلازم بين الثقل والبرودة وبين الخفة والحرارة مطلقا بل ذلك التلازم في العناصر فقط دون الأفلاك فجاز أن يكون فيها حرارة أو برودة بلا خفة وثقل فإن قال ابن سينا الحرارة علة الخفة كما أن البرودة علة الثقل فيمتنع التخلف فلو وجدنا في الأفلاك لترتب المعلولان عليهما قلنا قد يتخلف الأثر عن العلة الفاعلية لعدم القابل كالحركة فإنها توجب الحرارة في العناصر القابلة لها والأفلاك متحركة وغير حارة لأن مادتها غير قابلة للحرارة عندكم فيجوز أن تتخلف الخفة والثقل عن الحرارة والبرودة لأن مادة الفلك لا تقبلهما وإن كانتا مقتضيتين لهما
وقال الإمام الرازي في المباحث المشرقية المعتمد في أن الفلك ليس بحار ولا بارد أن يقال لو كانت هي أي الأفلاك حارة لكانت في غاية الحرارة لوجود الفاعل الذي هو طبيعة الفلك والقابل الذي هو مادته
416

من غير عائق هناك لكونها بسيطة والتالي باطل وإلا كان الأقرب من الفلك أسخن كرؤوس الجبال الشامخة ولاستحالة أي التالي باطل لما ذكر ولاستحالة أن تسخن الشمس وحدها حال طلوعها دون السماوات التي هي في غاية الحرارة مع أنها أعني السماوات أضعاف أضعافها إذ هي فيها كقطرة في بحر لجي قلنا في الجواب عن هذا المعتمد مراتب السخونة مختلفة بالنوع فربما لا تقبل مادة الفلك إلا مرتبة ما ضعيفة من الحرارة فلا تؤثر حرارته في عالمنا هذا ثم إن سلمنا قوة حرارتها قلنا أثر التسخين منها قد لا يصل إلينا لأن الطبقة الزمهريرية مانعة له وهو أي الدليل المذكور منقوض بتسخين الشمس فإنها حارة يصل أثر تسخينها إلى العناصر كما اعترف المستدل به مع أن الأقرب منها ليس أسخن ثم اعترض المصنف على المعتمد اعتراضا رابعا وهو قوله والقياس عليها أي قياس الأفلاك على تقدير كونها حارة على الشمس في التسخين ضعيف لأنها لا تسخن بل أشعتها هي المسخنة إذا انعكست من سطوح الأجسام الكثيفة ولذلك إذا انعكست أشعتها من أمور ثقيلة جدا أحرقت الأشياء المنعكس إليها كما في المرايا المحرقة وليس للأفلاك الحارة بالفرض أشعة تقتضي تسخينا واعتراضا خامسا أعني قوله وما ذكره منقوض بكرة النار لثبوتها عندهم وإحاطتها بسائر العناصر فلو صح الدليل المعتمد لزم أن لا تكون كرة النار حارة وقد يقال الطبقة الزمهريرية تقاومها ولا يتصور مقاومتها للأفلاك المتسخنة جدا إذ لا قدر لها بالقياس إليها كما لا يخفى ومنها أنه لا رطب ولا يابس لأن الرطوبة سهولة قبول التشكل بالأشكال الغريبة وتركه بل هي كيفية مقتضية لهذه السهولة واليبوسة عسره أي كيفية مقتضية لعسر القبول والترك ولا يتصور ذلك القبول والترك سواء كان بعسر أو يسر إلا بالحركة المستقيمة في أجزاء القابل فوجود الرطوبة أو اليبوسة
417

في جسم يوجب صحة الحركة المستقيمة عليه وقد عرفت امتناعها على المحدد وسائر الأفلاك وإنما لم يجب عنه لأن فساده معلوم مما مر ومنها أنه لا يقبل الكون والفساد يعني أن مادة المحدد وغيره من الأفلاك لا يصح عليها أن تخلع صورة نوعية وتلبس أخرى بل يجب أن تكون دائما متصورة بالصورة النوعية التي هي فيها وذلك لأن كل جسم له حيز طبيعي كما مر فللصورتين الكائنة والفاسدة لكل منهما إذا حلت في المادة وصارت جسما مخصوصا حيز طبيعي فإن اتحد حيزهما الطبيعي كان لجسمين حيز واحد طبيعي وأنه محال لأنهما أي الجسمين اللذين أحد تحيزهما الطبيعي لا يحصلان معا فيه لامتناع التداخل بين الأجسام وإذا امتنع حصولها فيه معا فلا بد من خروج ذينك الجسمين أو أحدهما عنه أي عن ذلك المكان الواحد الطبيعي وهو أي الخروج عنه بالحركة المستقيمة إن كان بعد الحصول فيه وإن كان قبل الحصول فإذا خلي الجسم وطبيعته تحرك بالاستقامة إلى حيزه الطبيعي فيلزم على التقديرين صحة الحركة المستقيمة على الفلك وإن تعدد حيزهما الطبيعي لزم أيضا صحة الحركة المستقيمة عليه وذلك لأن المادة إنما تلبس الصورة الكائنة حيث تخلع الصورة الفاسدة فإن كانت الفاسدة في مكانها جاز أن تتحرك الكائنة إلى مكان آخر طبيعي لها وإن كانت الفاسدة في مكان الكائنة جاز تحركها حين كانت باقية إلى مكان نفسها وإن كانت في مكان ثالث جازت الحركة المستقيمة على كل منهما
والجواب بعد تسليم ما مر من امتناع الحركة المستقيمة أن الصورتين أعني الكائنة والفاسدة قد تقتضيان حيزا واحدا وليس يلزم من
418

ذلك صحة التداخل أو الحركة المستقيمة كما ذكرته إذ قولك لأنهما لا يحصلان فيه إلى آخره فرع اجتماع الصورتين في المادة الفلكية حتى يتحصل هناك جسمان يقتضيان مكانا واحدا فيقال حينئذ هما معا في ذلك المكان فيلزم التداخل أوليس شيء منهما أو أحدهما فيه فيلزم صحة الحركة وأنه أي اجتماع الصورتين في المادة وتحصل جسمين منهما معا محال بل تعدم واحدة من الصورتين عندما توجد الأخرى منهما فلا يكون هناك إلا جسم واحد حاصل في ذلك المكان الطبيعي في المادة قبل الفساد كانت فيه مع الفاسدة ومعه وبعده مع الكائنة فلا يلزم شيء من المحذورين ومما يحققه أي يحقق ما ذكرناه من جواز اقتضاء الصورتين حيزا واحدا أن الصورتين مع اختلافهما في الماهية النوعية لا يمتنع اشتراكهما في لازم واحد وهو اقتضاء ذلك الحيز فإن الحقائق المختلفة يجوز اشتراكها في اللوازم وإن فرض أن الصورتين متفقتان في الماهية كان ذلك الجواز أظهر ومنها أنه لا يتحرك في الكم أي لا يزداد مقدار المحدد أو غيره من الأفلاك لا بالنمو ولا بالتخلخل ولا ينتقص أيضا لا بالذبول ولا بالتكاثف أما محدبة فإذا لو ازداد لكان ثمة مكان خال ينتقل محدب المحدد إليه ويملأه ذلك الزائد وقد علمت أن ما وراءه عدم محض فلا يتصور هناك مكان خال ولو انتقص محدب المحدد لزم خلو مكانه إذ ليس ثمة شيء ينتقل إليه بدله ليشغله فيبقى خاليا وأما مقعره فلأنه مثل المحدب في الماهية للبسائط أي بساطة الفلك المحدد فيمتنع عليه ما يمتنع على المحدب من الازدياد والانتقاص لأن حكم الشيء حكم مثله فكذا محدب المحوى المماس لمقعر المحدد لا يزداد ولا ينتقص
419

لعدم المكان فلا يتصور ازدياده وامتناع الخلاء فلا يتصور انتقاصه فكذا مقعره المساوي لمحدبه وهكذا مسوق الكلام إلى أن يستوعب الأفلاك ولا يخفى عليك أن امتناع حركة المحدب أي محدب المحدد بالزيادة أو النقصان ليس له لذاته حتى يجب مشاركة مقعره له في ذلك بل لأنه ليس وراءه مكان ولا شيء يملأ مكانه فلا يجب حينئذ مشاركة مقعره له في امتناع الحركة بل يجوز أن يزداد مقعره وينتقص محدب المحوى بمقدار ازدياده وأن ينتقص ويزداد محدب المحوى بحيث يملأ مكانه ولا يخفى أيضا أنه أي لدليل المذكور لا يتأتى في سائر الأفلاك لابتنائه على البساطة ولم
تثبت إلا في المحدد فلو امتنع ازدياد محدب الثامن وانتقاصه مثلا لم يلزم مثل ذلك في مقعره لجواز تركبه من بسائط مختلفة الحقائق والأحكام
فإن قلت يلزم من ازدياد مقعره التداخل ومن انتقاصه الخلاء
قلت هذا اللزوم ممنوع لجواز انتقاص محدب السابع وازدياده وهذا الذي أوردناه من الاعتراض إنما هو على رأيهم وأما على رأينا فالمنع على دليلهم ظاهر لجواز الخلاء وراء العالم بل مطلقا فيجوز ازدياد محدب الفلك الحاوي للكل إذ هناك مكان يشغله ويجوز انتقاصه وخلو مكانه وعلى تقدير امتناع الخلاء نقول لجواز خلق الله تعالى جسما في مكانه على تقدير انتقاصه فلا يلزم خلاء ومنها أن فيه أي في المحدد وكذا في سائر الأفلاك مبدأ ميل مستدير اعلم أن أصحاب الأرصاد لما رأوا حركة الكواكب واعتقدوا أن تلك الحركة لا يجوز أن تكون للكواكب أنفسها حكموا بأن الأفلاك متحركة على الاستدارة وأن فيها مبدأ ميل مستدير قصعا كما مرت إليه الإشارة وكان ذلك طريقا آنيا وأما الطبيعيون فإنهم ذكروا طريقا لميا فقالوا في الفلك مبدأ ميل مستدير لأن أجزاءه المفروضة فيه متساوية في تمام الماهية للبساطة الموجبة لذلك التساوي فلا يكون اختصاص البعض من تلك الأجزاء بحيزه المعين دون الآخر أي دون الحيز الآخر الذي فيه البعض الآخر أولى من
420

عكسه وكذا الكلام في وضعه المخصوص مقيسا إلى الوضع الآخر الذي عليه البعض الآخر والحاصل أن نسبة كل جزء إلى جمع أحياز الأجزاء وأوضاعها على السواء وحينئذ فإما أن لا يحصل كل جزء أي شيء من الأجزاء في حيز ما من تلك الأحياز ولا على وضع ما من تلك الأوضاع وأنه محال أو يحصل الكل في الكل أي كل جزء من الأجزاء في كل واحد من الأحياز وعلى كل واحد من الأوضاع إما معا وأنه محال لاستحالة أن يكون جزء واحد في حالة واحدة في أحياز متعددة وعلى أوضاع متقابلة وإما بدلا وذلك أي الحصول على سبيل البدل وهو أن ينتقل جزء إلى مكان جزء آخر ووضعه يقتضي كونه أي كون الفلك متحركا بالاستدارة ويستلزم أن يكون فيه مبدأ ميل مستدير وربما قالوا اختصاص كل جزء من الفلك بوضع وحيز معينين إما أن يكون واجبا أن جائزا لا سبيل إلى الأول لأن الأمور المتساوية في الماهية يستحيل أن يجب لبعضها ما لا يجب لبعض آخر منها فتعين الثاني وهو يقتضي صحة انتقال كل واحد من تلك الأجزاء إلى وضع الأخر وحيزه وذلك بالحركة المستديرة فهي على الفلك جائزة ففيه مبدأ ميل مستدير وإلا امتنعت حركة المستديرة وكل ما فيه مبدأ ميل مستدير فهو متحرك على الاستدارة لوجوب وجود الأثر عند وجود المؤثر والإشكال عليه أي على الوجه الأول المذكور في الكتاب فإنه بناء على البساطة ولم تثبت البساطة بما ذكرتموه لغير المحدد من الأفلاك فيقصر دليلكم هنا عن مدعاكم
421

وإن سلم ثبوت البساطة في الكل قلنا هي لا تقتضي الحركة بالاستدارة بل تقتضي عدمها لأن البسيط إذا تحرك كذلك فإما أن يتحرك إلى جميع الجهات أي الجوانب دفعة واحدة وأنه محال أو إلى بعضها دون بعض وأنه ترجيح بلا مرجح كما أن سكونه كذلك عندكم وأيضا إذا تحرك البسيط على الاستدارة فلا بد هناك من قطبين معينين ساكنين ومن دوائر مخصوصة متفاوتة جدا في الصغر والكبر ترسمها الأجزاء والنقط المفروضة فيما بينهما حولهما بحركات مختلفة اختلافا عظيما بالسرعة والبطء مع استواء جميع النقط المفروضة فيه أي في البسيط وصلاحيتها للقطبية والسكون ورسم الدائرة الصغيرة أو الكبيرة بالحركة البطيئة أو السريعة وأنه ترجيح بلا مرجح كما لا يخفى على ذي بصيرة فلا يمكن إسناد ذلك أي تعيين بعض النقط للقطبية وبعضها لرسم الدائرة إلى فاعل موجب بالذات لأنه لا تخصيص من الموجب إلا لمرجح معد للقابل فينتقل الكلام إليه وأيضا نسبته إلى جميع الأجزاء سواء فلا يتصور منه تخصيص وتعيين فيما بينها بل إلى مختار يفعل ما يشاء بمجرد إراداته من غير احتياج إلى داع مرجح كما مر وإذا وجب الرجوع بالآخرة إلى فعل المختار فليعترفوا به أو لا فإنه يخفف عنهم كثيرا من المؤنات التي تلزمهم لإثبات قواعدهم الحكمية خصوصا في أحكام الأفلاك فإن تلك المؤنات مبنية على كون الواجب موجبا بالذات
فإذا قيل إنه مختار سقطت وأما الإشكال على الوجه الثاني فهو أنه أيضا مبني على البساطة فيرد عليه ما ورد على الأول مع شيء زائد هو أن صحة الحركة المستديرة تستلزم صحة وجود مبدأ الميل المستدير لا وجوده بالفعل وأن وجود المؤثر قد يتخلف عنه الأثر لوجود المانع
ومنها أنه ليس فيه مبدأ ميل مستقيم لمنافاته للميل المستدير كما مر وقد عرفت ما فيه وهو أنه لا منافاة بينهما لاجتماعهما في الكرة المدحرجة والعجلة
ومنها أنه قيل هو أي المحدد وحده هو المتحرك بالحركة اليومية
422

حركة ذاتية وهو المحرك لجميع الأفلاك الباقية معه على سبيل التبعية في اليوم بليلته دورة تامة تقريبا لا تحقيقا لأن دورته تتم قبل تمام اليوم بليلته بزمان قليل فإن الشمس إذا كانت محاذية لجزء من المحدد وتحرك ذلك الجزء نحو المغرب وتحركت الشمس بحركتها الخاصة نحو المشرق فإذا عاد ذلك الجزء إلى مكانه فقد تم الدور ولم تعد الشمس حينئذ بحركة الكل إلى محاذاة ذلك المكان لأنها قطعت قوسا نحو المشرق فإذا دار المحدد ريثما عادت الشمس إلى وضعها الأول فقد تم اليوم بليلته وهو الفلك الأعظم المحيط بجميع الأجسام لتحديده الجهات وحركته السريعة اليومية تسمى الحركة الأولى فإنها تشاهد أولا من حركات الأفلاك لأنها أظهرها إذ بها الليل والنهار وطلوع الكواكب وغروبها ولذلك لا تخفى على الحيوانات وكل كرة تحركت في مكانها على الاستدارة فلا بد لها من قطبين ساكنين ومن منطقة يكون حركتها أسرع فلذلك قال وقطباها أي قطبا هذه الحركة أو الكرة قطبا العالم لأن العالم الجسماني هو المحدد وما في ضمنه ومنطقته أعني أعظم دائرة تفرض في منتصف القطبين بحيث يتساوى بعدها عنهما تسمى معدل النهار لسبب ستقف عليه في مباحث الأرض وهي أي المنطقة المسماة بالمعدل حيث يكون لجميع الكواكب فيه طلوع وغروب ولا يكون هناك شيء منها أبدي الظهور ولا أبدي الخفاء تكون ملازمة لسمت الرأس مارة به وهو دويرة تامة من الأرض تسمى خط الاستواء كما ستعرفه بخلاف الشمس فإنها لا تلازم سمت الرأس في خط الاستواء بل تميل هناك تارة إلى الشمال متباعدة عن سمت الرأس في تلك المواضع قليلا قليلا إلى غاية ما ثم
423

ترجع من تلك الغاية متقاربة إليه قليلا حتى تسامت ثم تميل إلى الجنوب كذلك أي متباعدة عن سمت الرأس إلى غاية ما مساوية للغاية الأولى ثم ترجع منها متقاربة إليه قليلا قليلا حتى تسامته هكذا حال دائما إذ تميل تارة أخرى إلى الشمال إلى تلك الغاية ثم ترجع وتميل إلى الجنوب وتعود أبدا إلى مثل الحالة الأولى فعلم من ذلك أن مدار الشمس مائل عن معدل النهار ليس واقعا في سطحه وإلا لم يمل عن المعدل شمالا وجنوبا والشمس إذا قارنت كوكبا ما من الكواكب الثابتة خلفته إلى المغرب فعلم من هذا أن لها حركة خاصة من المغرب إلى المشرق أسرع من حركة الثوابت يعني حركتها الخاصة كما ستعرفها بها تدرك الشمس الثوابت التي تكون في جهة المشرق منها ثم تتجاوزها مخلفة إياها إلى المغرب وتفرض دائرة موازية لمدارها في الفلك الأعظم قاطعة لجميع ما تحتها من الأفلاك وغيرها كأنها أي كأن تلك الدائرة الموازية القاطعة مدار الشمس التي يتحرك عليها مركزها انبسطت إلى سطح الفلك الأعلى وانقبضت إلى ما تحتها وتسمى الدائرة المذكورة منطقة البروج لمرورها بأوساط البروج وفلك البروج إطلاقا لاسم الفلك على الدائرة ومنطقة الحركة الثانية لأن منطقة الفلك الثامن المتحرك بالحركة الثانية في سطح هذه الدائرة وأنها أي الدائرة الموازية تقطع معدل النهار بنصفين على نقطتين متقابلتين لأنهما دائرتان عظيمتان وكذلك كل دائرتين عظيمتين تفرضان في كرة فإنه يجب تقاطعهما على التناصف لما بين في الأكر والتقاطع بين منطقة البروج ومعدل النهار يكون على نقطتين مشتركتين بينهما وتسميان نقطتي الاعتدال لاستواء الليل والنهار في جميع نواحي الأرض إذا حلت الشمس فيهما سوى موضعين هما تحت القطبين فما تتجاوزه الشمس من هاتين النقطتين إلى الشمال من المعدل هو الاعتدال
424

الربيعي لأنه مبدأ الربيع في معظم المعمورة وما تتجاوزه إلى الجنوب من المعدل هو الاعتدال الخريفي لأنه مبدأه في معظم المعمورة أيضا ويفرض على منتصفها أي منتصف منطقة البروج فيما بين الاعتدالين في كل جانب من الشمال والجنوب نقطة وهي حيث تكون غاية البعد بين المنطقتين تسميان أي هاتان النقطتان المفروضتان على المنتصفين نقطتي الانقلابين فالتي في طرف الشمال من المعدل هي الانقلاب الصيفي لأن الشمس إذا حلت فيها انقلب الزمان صيفا في أكثر المواضع المعمورة والتي في طرف الجنوب من المعدل هي الانقلاب الشتوي لانقلاب الزمان إلى الشتاء في تلك المواضع وبهذه النقط الأربع أعني الاعتدالين والانقلابين تنقسم منطقة البروج أربعة أقسام متساوية تكون مدة قطع الشمس واحدا منها فصلا من الفصول الأربعة التي للسنة في معظم المعمورة ثم قسموا كل قسم من الأقسام الأربعة ثلاثة أقسام متساوية فيكون المجموع أي مجموع منطقة البروج منقسما إلى اثني عشر قسما وتوهموا
ست دوائر عظام تتقاطع على قطبي البروج وتمر كل واحدة منها برأسي قسمين متقابلين من تلك الأقسام وحينئذ يفصل بين كل قسمين منها نصف دائرة من تلك الدوائر فيحيط بها أي الأقسام كلها ست دوائر كما عرفت وسموا كل قسم من الاثني عشر برجا ثم قسموا كل برج ثلاثين قسما سواء وسموها درجا وقسموا كل درجة ستين قسما سواء وسموها دقائق وقسموا الدقائق أي كل واحدة منها ستين قسما متساوية وسموها ثواني وهكذا قسموا الثواني وسموها ثوالث وقسموا الثوالث وسموها روابع فما زاد مما يمكن اعتباره من الكسور وكما أن كل قطعة من منطقة البروج واقعة بين نصفي دائرتين تسمى برجا كذلك القطع الواقعة من سطح الفلك الأعلى بين أنصاف تلك الدوائر على هيئة جراب البطيخ تسمى بروجا فعلى هذا يكون طول كل
425

برج فيما بين المغرب والمشرق ثلاثين درجة وعرضه مائة وثمانين درجة وأخذوا أسماء البروج الاثني عشر المشهورة من صور تخيلوها من وصل الخطوط بين كواكب من الثوابت كانت موازية لها حين التسمية وأنها أي تلك الصور المتخيلة تزول عن موازاة البروج بالحركة البطيئة التي للثوابت والأسماء بحالها فإن البروج أقسام للفلك التاسع ولا شك أن تلك الصور على الفلك الثامن فلا بد من خروجها عن الموازاة بحركته البطيئة فكان المناسب تغيير الأسماء إلا أنهم لم يغيروها كيلا يؤدي إلى الالتباس وابتدأوا في اعتبار البروج وافتتاح الدور بما يلي الاعتدال الربيعي من جانب الشمال لأن الشمس إذا وصلت إلى هذا الاعتدال ظهر في المركبات من أنواع النباتات نشوء ونماء وبدا فيها مبادئ الثمار فهو أولى بالاعتبار إلى أن يتم الدور بما يليه من جانب الجنوب فصارت ثلاثة منها أي من البروج بين نقطتي الاعتدال الربيعي والانقلاب الصيفي هي الحمل والثور والجوزاء وتسمى بروجا ربيعية لأن الربيع في معظم المعمورة عبارة عن زمان كون الشمس فيها وثلاثة منها بين الانقلاب الصيفي والاعتدال الخريفي هي السرطان والأسد والسنبلة وتسمى بروجا صيفية لمثل ما مر وثلاثة منها بين الاعتدال الخريفي والانقلاب الشتوي هي الميزان والعقرب والقوس وتسمى بروجا خريفية وثلاثة منها بين الانقلاب الشتوي والاعتدال الربيعي وهي الجدي والدلو والحوت وتسمى بروجا شتوية وهذا الترتيب الذي ذكرناه فيما بين البروج يسمى التوالي وهو من المغرب إلى المشرق وإنما اعتبروه كذلك إذ المقصود ضبط حركات الكواكب أعني حركاتها الخاصة وهي من المغرب إلى المشرق وعكسه يسمى خلاف التوالي وهو من المشرق إلى المغرب ثم توهموا دائرة مارة بالأقطاب الأربعة أعني قطبي معدل النهار وقطبي فلك البروج وسموها بهذا الاسم ولا بد أن تمر
426

هذه الدائرة بغاية البعد بين المنطقتين كما بين في الأكر فمن المعدل تمر بالانقلابين ومن المنطقة بنظيرهما والصحيح عكس ذلك لأن الانقلابين على منطقة البروج كما صرح به فنظيراهما على المعدل ولا يخفى عليك أن هذه الدائرة هي إحدى الدوائر الست المذكورة في قسمة البروج إلا أنها امتازت عن سائرها بمرورها بالأقطاب وغايتي البعدين فصارت بعد المنطقتين ثالثة للدوائر العظام وقطبا هذه الدائرة الاعتدالان إذ يجب أن يقعا أي قطباها في الدائرتين أي المنطقتين لأنها مقاطعة لهما على قوائم لمرورها بأقطابهما وكل دائرة تقاطع أخرى على قوائم فيكون قطب كل منهما نقطة من الأخرى فإذا قاطعت كذلك دائرتين كالمارة وجب أن يكون قطباها واقعين في كل منهما والواقع فيهما أي في منطقتي المعدل وفلك البروج وهو موضع تقاطعهما وهما الاعتدالان فيكونان قطبين للمارة بالأقطاب الأربعة وتوهموا دائرة أخرى من العظام تمر بقطبي معدل النهار وجزء ما من منطقة البروج أو بكوكب من الكواكب وسميت هذه الدائرة دائرة الميل إذ يعرف بها ميل أجزاء منطقة البروج عن المعدل الذي ينسب إليه الاستقامة كما قال والقوس الواقعة من هذه الدائرة بين المعدل وبين ذلك الجزء من المنطقة ميل ذلك الجزء عن المعدل وأعظم ميول أجزائها هو ميل الانقلابين والقوس الواقعة منها بينه أي بين المعدل وبين الكواكب يعني وبين طرف خط يخرج من مركز العالم إلى سطح الفلك الأعلى مارا بمركز الكواكب بعده أي بعد الكوكب عن المعدل وهذه الدائرة أعم مطلقا من الدائرة المارة بالأقطاب وتوهموا دائرة أخرى من العظام مارة بقطبي منطقة البروج وبجزء ما من أجزاء معدل النهار أيضا أو بكوكب ما وسموها دائرة العرض والقوس الواقعة منها بين المنطقة وبين ذلك الجزء من المعدل أو ذلك الكوكب عرض ذلك الجزء أو الكوكب أما إن تلك القوس هي
427

عرض الكواكب عن منطقة البروج فصحيح بلا شبهة وأما كونها عرض ذلك الجزء من المعدل عنها ففيه أنه وإن كان صحيحا بحسب المعنى إلا أن الاستقامة كما أشرنا إليها منسوبة إلى المعدل فلا يقال أنه مائل عن منطقة البروج ولا يقال لأجزائه أنها ذوات ميول أو عروض عنها ومن ثمة تراهم يسمون تلك القوس عرض جزء من المنطقة عن المعدل ويسمونها أيضا الميل الثاني له عن المعدل وهذه الدائرة أيضا أعم مطلقا من المارة بالأقطاب فهي أي الدوائر المذكورة خمس دوائر عظام توهموها على الفلك لا بالنسبة إلى السفليات ثلاثة منها متحدة بالشخص هي معدل النهار والمنطقة والمارة بالأقطاب الأربعة أما وحدة الأوليين بالشخص فظاهرة وأما وحدة الثالثة كذلك فلما بين في الأكر من أنه يستحيل أن تتقاطع دائرتان عظيمتان على نقطتين بينهما أقل من نصف الدور فلا يتصور أن تمر دائرتان بالأقطاب الأربعة لأن البعد بين القطبين اللذين في جهة واحدة أقل من أربعة وعشرين جزءا فلا يجوز تقاطعهما عليهما وأما توهم الانطباق فيما بينهما ثم الافتراق فالتخيل الصحيح شاهد ببطلانه وثنتان منها متحدتان بالنوع لا يتناهى أشخاصهما وهما دائرتا الميل والعرض فإنهما يتحددان بحسب النقط المفروضة على منطقة البروج وسطح الفلك وتلك النقط غير متناهية لامتناع الجزء الذي لا يتجزأ وكل واحدة منهما قد تنطبق وتتحد بالمارة بالأقطاب وذلك إذا كان الكوكب الذي له بعد عن المعدل أو عرض عن المنطقة أو الجزء الذي له ميل أول أو ميل ثان واقعا عليها أي على المارة وقد نبهناك على أن المارة داخلة في كل واحد من إحدى دائرتي الميل والعرض وهموا على الفلك أيضا خمس دوائر أخر بالنسبة إلى السفليات إحداها الدائرة الفاصلة بين النصف الظاهر والنصف الخفي من
428

الفلك وتسمى هذه الدائرة دائرة الأفق ولا شك أن الظهور والخفاء أمران بالإضافة إلى سكان بقعة من بقاع الأرض فيكون الأفق بملاحظة السفليات وتختلف بحسب اختلاف البقاع فإن كل بقعة على الأرض لها أفق على حدة وقطباها سمت الرأس والقدم في تلك البقعة وأربعة من هذه الخمس تمر بقطبيها أي بقطبي الأفق فتكون هي أيضا بملاحظة السفليات
فالثانية منها تمر بقطبي الأفق وبقطبي معدل النهار وهي دائرة وسط السماء وتسمى دائرة نصف النهار لأن منتصف النهار هو حين وصول الشمس إليها فوق الأفق كما أن منتصف الليل هو حين وصولها إليها تحته وتفصل هذه الدائرة بين الصاعد والهابط من الفلك وبين النصف الشرقي والغربي منه فإن الكوكب إذا طلع من الأفق يتزايد ارتفاعه شيئا فشيئا إلى أن يبلغ نصف النهار فهناك غاية ارتفاعه عن الأفق وإذا انحط منها يتناقص ارتفاعه إلى غروبه وإذا غرب ينحط عن الأفق متزايدا انحطاطه إلى أن يبلغ نصف النهار تحت الأرض فهناك غاية انحطاطه عنه ثم أنه يأخذ في التقارب منه متناقصا انحطاطه عنه إلى أن يبلغ الأفق من جهة الشرق ثانيا فمن غاية الانحطاط تحت الأفق إلى غاية الارتفاع فوقه على خلاف توالي البروج هو النصف الصاعد من الفلك بالقياس إلى الحركة الأولى ويسمى النصف الشرقي أيضا ومن غاية الارتفاع إلى غاية الانحطاط هو النصف لهابط منه والنصف الغربي أيضا وقطباها نقطتا المشرق والمغرب من الأفق أعني نقطتي تقاطعه مع المعدل وذلك لمرورها بأقطابهما فيما يمران بقطبيهما لما مر
والثالثة منها تمر بقطبي الأفق وتمر أيضا بقطبي هذه الدائرة
429

أعني وسط السماء المسماة في المشهور بنصف النهار فتكون مارة بسمتي الرأس والقدم وبنقطتي المشرق والمغرب وتسمى هذه الدائرة الثالثة دائرة أول السماوات لأن الكوكب إذا كان على هذه الدائرة لم يكن له سمت كما ستعرفه وتسمى أيضا دائرة المشرق والمغرب لمرورها بنقطتيهما وتفصل هذه الدائرة بين النصف الشمالي والنصف الجنوبي من الفلك وقطباها نقطتا الشمال والجنوب من الأفق أعني نقطتي تقاطعه مع نصف النهار
والرابعة من هذه الخمس تمر بقطبي الأفق وبقطبي المنطقة فتكون أبدا مقاطعة لهما على قوائم بخلاف نصف النهار فإنها قد تقطع المنطقة لا على زوايا قوائم وتسمى هذه الدائرة دائرة السمت ودائرة عرض إقليم الرؤية لأن القوس الواقعة منها بين الأفق وقطب منطقة البروج أو بين قطب الأفق ومنطقة البروج تسمى عرض إقليم الرؤية وتسمى أيضا دائرة وسط سماء الرؤية لأنها تفصل بين نصفي فلك الثوابت وفيه كواكب كثيرة مرئية فهو سماء الرؤية وهذه الدائرة في وسطها
والخامسة منها تمر بقطبي الأفق وبكوكب ما أي وبرأس خط خارج من مركز العالم إلى سطح الفلك مارا بمركزه وتسمى دائرة الاتفاع والانحطاط إذا قوس منها واقعة بين الأفق وبين الكوكب من جانب المشرق ارتفاعه ومن جانب المغرب انحطاطه والصواب أن القوس الأولى ارتفاعه الشرقي والثانية ارتفاعه الغربي وأما الانحطاط فهو قوس منها
تحته الأفق إما
430

في جانب الغرب أو الشرق والقوس الواقعة من الأفق بين تقاطعه مع دائرة الارتفاع وبين إحدى نقطتي الشرق والغرب تسمى بالسمت فإذا انطبقت دائرة ارتفاع الكوكب على دائرة أول السماوات لم تكن له قوس سمت لمرورها حينئذ بنقطتي المشرق والمغرب وهذه الدائرة عند غاية ارتفاع الكوكب تنطبق بدائرة وسط السماء أعني نصف النهار وكذا الحال عند غاية انحطاطه ففي كل دورة بالحركة الأولى تنطبق دائرة الارتفاع على نصف النهار مرتين وانطباقها عليها إنما يكون إن لم يكن الكوكب على دائرة أول السماوات وتنطبق هذه الدائرة عليها أي على أول السماوات إن كان الكوكب عليها وحينئذ لم يكن للكوكب سمت كما عرفت وهذا الانطباق إنما يظهر إذا لم يكن الكوكب في أحدى الغايتين وأما إذا فرض أنه في إحديهما مع كونه على دائرة أول السماوات كما إذا كان على سمت الرأس أو القدم فإنه يجوز اعتبار انطباقها على كل واحدة من نصف النهار وأول السماوات وهذه الدوائر الخمس الأخيرة وحدتها نوعية ولكل واحدة منها أشخاص كثيرة غير محصورة لكن ثلاث منها لا تتغير في كل بقعة بل كل واحدة منها لا تكون في بقعة واحدة متعددة بل شخصا واحدا وهي دائرة الأفق ووسط السماء وأول السماوات وثنتان منها تتغيران في بقعة واحدة آنا فآنا وهي دائرة الارتفاع فإنها تتغير لحركة الكواكب ودائرة وسط سماء الرؤية فإنها تتغير لحركة قطبي منطقة البروج بتحريك المعدل لهما حول قطبيه بالحركة اليومية فهذه الدوائر العشر العظام وغيرها وما يبتنى عليها أمور موهومة لا وجود لها في الخارج ولا حجر من جهة الشرع في مثلها ولا تتعلق باعتقاد ولا يتوجه نحوها إثبات وإبطال فلم
431

يكن بنا حاجة إلى ذكرها في كتابنا هذا إلا أنا أوردناها فيه لتقف على مقصدهم في علم الهيئة وإذا رأيته محض تخيلات أوهن من بيت العنكبوت لم يهلك أي لم يفزعك سماع هذه الألفاظ ذوات القعاقع القعقعة صوت السلاح ونحوه من الأمور اليابسة وفي المثل ما يقعقع لي بالشنان يعني أن هذه الألفاظ أصوات لا طائل تحتها كأصوات الأسلحة ونحوها من الجمادات هذا ما ذكره ولقائل أن يقول لا شك أن الكرة إذا تحركت على مركزها من غير أن تخرج عن مكانها فلا بد أن ينفرض فيه نقطتان لا حركة لهما أصلا وهما القطبان وأن ينفرض فيما بينهما دائرة عظيمة هي في حلق الوسط بينهما وتكون الحركة عليها سريعة وهي المنطقة وأن ينفرض من جنبتيها دوائر صغار موازية لها تكون الحركة عليها بطيئة بالقياس إليها بطءا متفاوتا جدا فما هو أقرب إلى القطب يكون أبطأ مما هو أقرب إلى المنطقة ولا شبهة أيضا في أن الكرات إذا أحاط بعضها ببعض أمكن أن تكون حركاتها بحيث تتقاطع مناطقها إذا اعتبرت في كرة واحدة منها وحينئذ ينفرض هناك بين المنطقتين نقطتا تقاطع ونقطتا غاية البعد بينهما فهذه وأمثالها وإن لم تكن موجودة في الخارج لكنها أمور موهومة متخيلة تخيلا صحيحا مطابقا لما في نفس الأمر كما تشهد به الفطرة السليمة وليست من المتخيلات الفاسدة كأنياب الأغوال وجبال الياقوت والإنسان ذي الرأسين وينضبط بهذه الأمور أحوال الحركات في السرعة والبطء والجهة على الوجه المحسوس والمرصود بالآلات وينكشف بها أحكام الأفلاك والأرض وما فيها من دقائق الحكمة وعجائب الفطرة بحيث يتحير الواقف عليها في عظمة مبدعها قائلا * (ربنا ما خلقت هذا باطلا) *
وهذه فائدة جليلة تحت تلك الألفاظ يجب أن يعتنى بشأنها ولا يلتفت إلى من يزدريها بمجرد العصبية الباعثة على ذلك والله المستعان على كل حال
432

المقصد الثالث
المتن
في فلك الثوابت قد زعموا أن لها حركة بطيئة وأنها تتم الدورة في ثلاثين ألف سنة وقيل في ستة وثلاثين إذ قد أحس منها بحركة بطيئة بالرصد واعتقادهم أنها تتم الدورة فقدروا بالحساب تمام الدور في هذه المدة وإنما سميت بالثوابت إما لبطء حركتها فلا تحس وإما لثبات أوضاعها بعضها من بعض ولنختم هذا البحث بفائدتين تنفعانك فيما بعد
الأولى الفلك الموافق المركز ما مركزه مركز العالم وهو مركز الأرض ويكون له سطحان محيطان به من داخل وخارج هما محدبة ومقعره والخارج المركز فلك محيط بالأرض ليس مركزه مركزها بل يقع إلى جانب منها ويكون في ثخن فلك آخر ويسمى المائل وينقسم إلى قسمين ويسميان بالمتممين وهما آخذان من غلط بقدر خروج مركزه عن مركز العالم يتدرج إلى دقة حتى ينتهي بنقطة مماسة للخارج من أحدهما لمحدبه ومن الآخر لمقعره متبادلين في الغلظ والدقة فيكون غلظ كل في مقابلة الدقة من الآخر بحيث يكون حجم مجموع الداخل والخارج في جميع الأجزاء سواء ويكون في الوسط منهما حجمهما سواء ويكون مقعر الداخلاني موازيا لمحدب الخارجاني ومركزهما واحدا هو مركز العالم
والتدوير عبارة عن كرة مركوزة في ثخن فلك بحيث يماس محدبة بنقطة ومقعره بأخرى ويكون قطره بقدر ثخن الفلك ولا يتصور له مقعر
433

ويتحرك مركزه بحركة الفلك دائرا حول مركز العالم ويرسم بمركزه دائرة مركزها مركز الحامل إن كان موافقا وإن كان خارجا
الثانية الموافق المركز يقطع عند مركز الأرض في أزمنة متساوية قسيا متساوية ويحدث زوايا متشابهة ولا يختلف منه قربا وبعدا فلا يحس فيه بسرعة وبطء وأما الخارج المركز فإنه لا يختلف قربا وبعدا وأنه يقطع حول مركز نفسه قسيا وزوايا متشابهة لكنها تختلف بالنسبة إلى مركز العالم لأن أحد نصفيه وهو الذي فيه مركز العالم أقرب إلينا وغاية القرب عند نقطة في وسطه بها يماس محدب المائل وتسمى الأوج فيرسم وهو في النصف الأوجي قوسا وزواية أصغر فيرى أبطأ وفي النصف الحضيضي قوسا وزاوية أكبر فيرى المتحرك أسرع وأما التدوير فتكون حركته في أحد نصفيه إلى التوالي من حامله فيكون المحسوس مجموع حركته وحركة حامله فيرى أسرع وفي النصف الآخر إلى خلاف التوالي فيكون المحسوس فضل حركة حامله فضل حركة حامله على حركته فيرى أبطأ بل ربما ساواه في الحس فيرى واقفا وربما زاد عليه فيرى راجعا ولأنه يتدرج من سرعة إلى بطء فتكون بينهما حركة وسطى ولأنه يرجع بعد الاستقامة وليستقيم بعد الرجوع فيكون كل منهما محفوفا بوقوفين وأيضا أحد نصفي التدوير أبعد منا فيرى القوس المقطوع منه أسرع ومنتصفه هو البعد الأبعد ويسمى ذروة والنصف الآخر منه أقرب ومنتصفه هو البعد الأقرب ويسمى الحضيض
الشرح
المقصد الثالث في فلك الثوابت قد زعموا أن لها أي للثوابت مع كونها متحركة بالحركة اليومية تبعا لفلك الأفلاك حركة خاصة بها بطيئة جدا وأنها تتم الدورة في ثلاثين ألف سنة هذا قول قد اشتهر فيما بين العامة ولا أصل له عند أصحاب الأرصاد
434

وقيل إنها تتم الدورة في ستة وثلاثين ألف سنة بناء على أن بطليموس وجد بالرصد أنها تقطع في كل مائة سنة جزءا واحدا
وقيل تتم الدورة في ثلاثة وعشرين ألف سنة وسبعمائة وستين سنة بناء على ما وجده المتأخرون من أنها تقطع درجة واحدة في كل ست وستين سنة
وقيل تتمها في خمسة وعشرين ألف سنة ومائتي سنة بناء على أن جماعة من محققي المتأخرين وجدوها تقطع جزءا واحدا في كل سبعين سنة وهذا هو الموافق للرصد الجديد الذي بمراغة
وإنما حكموا بإتمام الدورة فيما ذكر من المدد إذ قد أحس منها بحركة بطيئة بالرصد على وجوه مختلفة كما عرفتها واعتقادهم أنها تتم الدورة لدوامها على زعمهم فقدروا بالحساب تمام الدور في هذه المدة المختلف فيها كما لخصناه وإنما سميت ما عدا السبعة السيارة من الكواكب بالثوابت إما لبطء حركتها فلا تحس إلا بتدقيق النظر في أحوالها المعلومة بأرصاد بينها مدد طويلة ولذلك اختفت على الأوائل حتى زعموا أن
435

الأفلاك ثمانية وأن الحركة اليومية لكرة الثوابت وإما أثبات أوضاعها بعضها من بعض في القرب والبعد والمحاذاة
ولنختم هذا البحث بفائدتين تنفعانك فيما سيأتيك بعد من اختلاف حركات السيارات في الرؤية سرعة وبطءا واستقامة ورجوعا إذ لا بد لهذا الاختلاف من أصل يستند إليه
الأولى الفلك الموافق المركز ما مركزه مركز العالم وهو مركز الأرض ويكون له أي للموافق المركز سطحان محيطان به من داخل وخارج هما محدبة وهو المحيط به من خارج ومقعره وهو الذي يقابله والفلك الخارج المركز فلك محيط بالأرض ليس مركزه مركزها بل يقع أي يميل مركزه إلى جانب منها أي من مركز الأرض ويكون الفلك
الخارج المركز في ثخن فلك آخر ويسمى ذلك الفلك الآخر المائل هذا إنما يصح في خارج القمر فإنه في ثخن فلك موافق المركز مسمى بالمائل وما عداه من السيارات سوى عطارد خوارجها في ثخن أفلاك موافقة المراكز مسماة بالممثلات وأما عطارد فله خارجان أحدهما في ثخن الممثل والآخر في ثخن الخارج الأول كما ستعرفه وينقسم ذلك الفلك الآخر بواسطة كون الخارج في ثخنه إلى قسمين أحدهما حاو للخارج والآخر محوله ويسميان بالمتممين إذا بانضمامهما إلى الخارج يتم الفلك الكلي الذي ذلك الخارج جزء منه هما ليسا متساويين في الثخن بل هما آخذان من غلظ هو بقدر خروج مركزه عن مركز العالم يتدرج ذلك الغلظ إلى دقة أي ينتقص شيئا فشيئا ويدق حتى ينتهي بنقطة مماسة للخارج المركز من أحدهما وهو المتمم الحاوي لمحدبه أي محدب الخارج ومن الآخر وهو المتمم المحوي لمقعره أو مقعر الخارج متبادلين حال من المستتر آخذان أي هما يأخذان في ذلك الغلظ المتدرج المنتهي إلى ما ذكر حال كونهما متبادلين في الغلظ والدقة فيكون غلظ كل من المتممين في مقابلة الدقة من الآخر بحيث يكون حجم مجموع المحوي الداخل في الخارج والحاوي الخارج عنه معا في جميع الأجزاء سواء لأن دقة
436

أحدهما تنجبر بغلظ الآخر ويكون في الوسط منهما أي من المتممين حجمهما سواء أي يكون حجم وسط كل منهما مساويا لحجم وسط الآخر كما أن غلظ كل منهما ودقته تساوي غلظ الآخر ودقته ويكون مقعر الداخلاني المحوي موازيا لمحدب الخارجاني الحاوي ويكون مركزهما أي مركز المقعر والمحدب المتوازيين واحدا هو مركز العالم وهذا إنما يصح إذا كان الخارج في ثخن فلك موافق المركز وأما إذا كان في ثخن خارج آخر كأحد خارجي عطارد فإن مركز السطحين المتوازيين يكون حينئذ مركز الخارج الآخر وهذه الأحكام المتعلقة بالمتممين كلها صحيحة سوى الحكم بأن غلظ كل منهما يساوي مقدار خروج المركز إذ الصواب أن غلظ كل منهما ضعف ذلك المقدار كما قام عليه البرهان ويشهد له أيضا التخيل الصحيح ممن له أدنى مسكة والتدوير عبارة عن كرة سوى الكوكب غير شاملة للأرض بل مركوزة في ثخن فلك بحيث يماس محدبة بنقطة ومقعره بأخرى وحينئذ يكون قطره بقدر ثخن ذلك الفلك ولا يتصور له أي للتدوير مقعر إذ لا حاجة بنا إلى مقعره فيفرض أنه كرة مصمتة ويتحرك مركزه بحركة الفلك الذي هو في ثخنه دائرا حول مركز العالم ويرسم التدوير بمركزه المتحرك بتلك الحركة دائرة مركزها مركز الفلك الحامل للتدوير إن كان الحامل موافقا في المركز لمركز العالم كانت تلك الدائرة كذلك وإن كان الحامل خارجا كانت الدائرة أيضا خارجة المركز
الفائدة الثانية الفلك الموافق المركز يقطع هو بل المتحرك بحركته عند مركز الأرض الذي هو مركزه في أزمنة متساوية قسيا متساوية من محيط الدائرة التي يتحرك عليها ذلك المتحرك ويحدث عند مركز الأرض
437

زوايا متشابهة أي متساوية لأن الحركة البسيطة الواقعة على نهج واحد تقتضي ذلك ولا يختلف المتحرك على الموافق منه أي من مركز الأرض قربا وبعدا بل يكون دائما متساوي البعد عنه لأنه مركز الدائرة التي تتحرك عليها فلا يحس فيه أي في المتحرك على الموافق بسرعة وبطء لا في مركز الأرض إن فرض هناك إحساس ولا فيما هو في حكمه كوجه الأرض بالقياس إلى الأفلاك العالية إذ لا قدر لنصف قطر الأرض بالنسبة إليها وأما الخارج من المركز فإنه لا يختلف منه أي من مركز نفسه قربا وبعدا وأنه يقطع حول مركز نفسه قسيا وزوايا متشابهة لما عرفت في الموافق لكنها أي حركة الخارج تختلف بالنسبة إلى مركز العالم لأن أحد نصفيه أي نصفي الخارج وهو الذي فيه مركز العالم أقرب إلينا وغاية القرب منا عند نقطة في وسطه أي وسط هذا النصف بها أي بتلك النقطة يماس هذا النصف أو الخارج مقعر المائل أراد به الفلك الذي يكون الخارج في ثخنه كما مر وتسمى هذه النقطة الحضيض والنصف الآخر من الخارج أبعد منه أي من النصف الأول بالقياس إلينا وغاية البعد بيننا وبينه عند نقطة في وسطه بها يماس محدب المائل وتسمى هذه النقطة الأوج فيرسم الخارج والمتحرك بحركته في مقدار من الزمان وهو في النصف الأوجي قوسا وزاوية أصغر أما القوس فبحسب الرؤية وأما الزاوية فبحسب نفس الأمر فيرى ذلك المتحرك أبطأ ويرسم في ذلك المقدار من الزمان في النصف الحضيضي قوسا وزاوية أكبر على قياس ما تقدم فيرى المتحرك أسرع لأنه إذا اتحد زمان حركتين واختلفت مسافتهما كانت الحركة التي مسافتها أطول لا محالة أسرع وأما التدوير فيحث لم يكن شاملا للأرض فتكون حركته في أحد نصفيه إلى التوالي من حامله أي موافقة لحركته في الجهة فإذا تحرك متحرك بحركة التدوير في ذلك النصف وتحرك مركز التدوير أيضا بحركة الحامل كانت الحركتان
438

إلى جهة واحدة فيكون المحسوس في ذلك المتحرك مجموع حركته أي حركة التدوير وحركة حامله فيرى أسرع وتكون حركته في النصف الآخر إلى خلاف التوالي من حامله فيكون المحسوس في ذلك المتحرك فضل حركة حامله على حركته فيرى إبطاء بل ربما ساواه أي ساوى التدوير حامله في الحركة بحسب الحس فلا يبقى لحركة الحامل فضل فيرى ذلك المتحرك واقفا في جزء من أجزاء منطقة البروج غير خارج عن محاذاته مدة وربما زاد التدوير عليه أي على حامله في الحركة فيرى ذلك المتحرك راجعا عن الجهة التي كان متحركا إليها إلى جهة مقابلة لها ولأنه أي التدوير يتدرج المتحرك عليه من سرعة في النصف الموافق للحامل إلى بطء في النصف الآخر وذلك على التقدير الأول وهو أن لا يكون هناك مساواة ولا زيادة لحركة التدوير فتكون بينهما أي بين السرعة والبطء حركة وسطى لأنه يرجع إلى خلاف التوالي بعد الاستقامة إلى التوالي ويستقيم أيضا بعد الرجوع وذلك على تقدير زيادة حركة التدوير فيكون كل منهما أي من الاستقامة والرجوع محفوفا بوقوفين أحدهما منتهى الاستقامة ومبدأ الرجوع والآخر بالعكس وأيضا فأحد نصفي التدوير أبعد منا فيرى القوس المقطوع منه أي من النصف الأبعد الأبطأ أسرع كما زعمه لأن مقتضى البعد في نفسه هو الأبطأ دون الأسرع ومنتصفه أي منتصف النصف المذكور هو البعد الأبعد بالقياس إلى مركز العالم ويسمى ذلك المنتصف دورة والنصف الآخر منه أقرب إلينا فتكون القوس المقطوعة منه أسرع لا أبطأ ومنتصفه أي منتصف النصف الآخر هو البعد الأقرب بالقياس إلى مركز العالم ويسمى الحضيض وقد ظهر بما ذكر أن الإسراع والإبطاء ينضبطان بكل واحد من أصلي الخارج وفلك
439

التدوير وأن الرجوع والاستقامة والوقوف فيما بينهما ينضبط بأصل التدوير
المقصد الرابع
المتن
في فلك الشمس وهي إما على فلك مركزه خارج عن مركز العالم أو على تدوير يحمله فلك موافق المركز وإلا لم تختلف بعدا وقربا فلا تختلف سرعة وبطءا كما علمت والتالي باطل بالرصد وكيف كان فله فلكان إما خارج مركز ومائل وإما تدوير وحامل وله حركتان واختلاف واحد هو سرعته في نصف من فلكه وبطؤه في نصف بعينه لا يتغير ذلك فلنفرض التدوير بحيث يتم دوره مع دورة حاملة وقطره بقدر بعد مركز الخارج عن مركز العالم لتكون الدائرة التي يرسمها مجموع الحركتين بعينها كالتي يرسمها خارج المركز سواء
الشرح
المقصد الرابع في فلك الشمس قدمه على أفلاك سائر السيارة لأن الشمس أشهرها وأنورها وعليها مدار الأيام والليالي وما يتركب منهما مع أن اختلافاتها أقل من اختلافات غيرها فيكون أقرب إلى التعليم وهي إما على فلك شامل للأرض مركزه خارج عن مركز العالم أو على فلك تدوير يحمله فلك موافق المركز وإلا أي وإن لم تكن الشمس على أحد الفلكين المذكورين لم تختلف بعدا وقربا بالنسبة إلى مركز العالم وما يليه من وجه الأرض فلا تختلف سرعة وبطءا كما علمت والتالي باطل بالرصد إذا قد وجدوا به أن الزمان المتخلل بين حلول الشمس الاعتدال الربيعي ثم الخريفي وهو نصف من فلك البروج أكثر من نصف السنة والمتخلل بين حلولها الخريفي ثم الربيعي وهو النصف الباقي منه أقل من نصف السنة فلا
440

محالة تكون الشمس في النصف الأول أبطأ منها في النصف الثاني وكيف كان الحال فله أي للكوكب الذي هو الشمس فلكان إما خارج مركز ومائل أراد به الممثل الذي يكون الخارج في ثخنه وإما تدوير وحامل وله أيضا حركتان وهذا إنما يصح على أصل التدوير إذ لا بد هناك من حركتي التدوير وحامله على وجه يحصل به الإبطاء والإسراع المذكوران وإما على أصل الخارج فلا حاجة فيهما إلى حركتين بل يكفيهما حركة الخارج فلذلك قالوا أصل الخارج المركز يتم بحركة واحدة وأصل التدوير يتم بحركتين
فإن قلت لا بد لتحريك أوجها من حركة أخرى وهي حركة ممثلها فيكون لها على أصل الخارج أيضا حركتان قلت كلامنا في مجرد السرعة والبطء ولا حاجة لهما إلى حركة أخرى وأيضا إذا اعتبر تحريك الأوج فلا بد في أصل التدوير من حركة ثالثة مستندة إلى تحريك فلك البروج كما ذكروه وللشمس اختلاف واحد هو سرعته في نصف من
فلكه بل في نصف بعينه من فلك البروج وبطؤه في نصف آخر بعينه لا يتغير ذلك بل هي أبدا بطيئة في البروج الشمالية وسريعة في الجنوبية وذلك ظاهر على أصل الخارج بأن يكون الأوج في البروج الشمالية فتكون الشمس هناك أبعد من الأرض وأبطأ حركة وفيما يقابلها أقرب وأسرع وإذا أريد الإبطاء والإسراع على هذا الوجه بعينه من أصل التدوير احتيج إلى قيود أشار إليها بقوله فلنفرض التدوير بحيث يتم دورة مع دورة حامله وبحيث يكون قطره بل نصف قطره بقدر بعد مركز الخارج عن مركز العالم ولا بد مع ذلك أن نفرض حركة الحامل شبيهة بحركة الخارج في جهتها بحيث يتممان الدورتين معا وأن نفرض حركة التدوير شبيهة بهما على وجه تكون
441

في القطعة البعيدة إلى خلاف جهة حركة الحامل وفي القطعة القريبة إلى جهتها لتكون الدائرة التي ترسمها مجموع الحركتين بل يرسمها مركز الشمس بمجموعهما بعينهما كالتي ترسمها خارج المركز سواء ويكون الاختلاف المحسوس من الأصلين شيئا فشيئا واحدا بلا تفاوت إلا أن بطليموس اختار الخارج لكونه أبسط لما عرفت من أنه يتم بحركة واحدة ومن أن التدوير يستلزم مدارا خارج المركز
المقصد الخامس
المتن
في أفلاك القمر وهو وجد لا كالشمس حيث تسرع في نصف بعينه وتبطئ في نصف بل يسرع ويبطئ في جميع الأجزاء فعلم أنه على تدوير يتم دوره قبل دورة حامله ثم إذا قيس سرعة إلى سرعة وبطء إلى بطء لم يكن مثله بل أسرع أو أبطأ فعلم أن تدويره مركوز في ثخن فلك خارج المركز ثم وجد غاية سرعته في تربيعي الشمس فهو في حضيض الخارج والأوج يقابله ضرورة فله فلك آخر يخرج أوجه إلى خلاف جهة حركته وهو الذي الخارج المركز في ثخنه وسميناه المائل فيجتمع القمر والأوج عند المقابلة ثم يتقابلان في التربيع الثاني ثم يجتمعان عند الاجتماع وفي غير الاجتماع والمقابلة تكون لشمس متوسطة بينهما يتباعدان عنها بعد الاجتماع إلى المقابلة ثم يتقاربان منها بعد المقابلة إلى أن يجتمعا وليس منطقة المائل في سطح فلك البروج وإلا كان القمر ملازما له لا يتعداه إلى الشمال ولا إلا الجنوب فيكون ينخسف في كل مقابلة لتوسط الأرض بينه وبين الشمس واللازم منتف بل تقاطعه وتقطعه بنصفين على نقطتين تسميان العقدتين والجوزهرين
إحداهما هي التي إذا جاوزها حصل في الشمال وتسمى الرأس
442

والأخرى مقابلتها التي إذا جاوزها حصل في الجنوب وتسمى الذنب ثم إذا رصدنا كسوفا في إحدى العقدتين ثم كسوفا آخر فيها بعد زمان طويل رأينا الثاني متأخرا عن الأول إلى جهة المغرب فعلمنا أن للعقدتين حركة إلى خلاف التوالي فله فلك آخر يحركهما ولظهور حركته في الجوزهرين سميناه فلك الجوزهر فالقمر إذا وصل إلى الرأس كان على منطقة البروج فلم يكن له عرض ثم إذا جاوزه كان له عرض في الشمال يتزايد قليلا قليلا إلى أن يصل إلى منتصف ما بين العقدتين وعنده يكون غاية العرض ثم يتناقص قليلا قليلا إلى أن يحصل في الذنب فيكون عديم العرض ثم يصير ذا عرض في الجنوب كما وصفناه وغاية العرض في الجانبين سواء ثابت لا يزيد ولا ينقص والتزايد والتناقص بنسبة واحدة فهي متساوية في الأجزاء المتقابلة فقد تلخص مما ذكرناه أن له أربعة أفلاك تدوير هو في حامل هو في ثخن مائل يحيط به موافق وله أربع حركات فللتدوير إلى التوالي في نصف وإلى خلافه في نصف وللخارج إلى التوالي وللآخرين إلى خلاف التوالي وله في الطول اختلافات ثلاثة الذي بسبب التدوير والذي بسبب الخارج والذي بسبب تفاوت قطر التدوير في قربه وبعده بسبب حامله الخارج وفي العرض واحد
تنبيه هذه الأصول يلزمها أن يكون القمر تشابه حركته حول مركز الخارج محاذاة قطر تدويره المار بالذروة والحضيض له وأن يكون تساوي قربه وبعده عند مركز الخارج دون مركز العالم ثم أنهم وجدوه بخلافه فتشابه حركته حول مركز العالم والمحاذاة لنقطة غير مركزهما من جانب الأوج لتوسط مركز الخارج بينها وبين مركز العالم وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم كيف وما ذكروه استدلال بوجود اللازم على وجود الملزوم وإنما يصح إذا علم المساواة ولم تعلم إذ يجوز أن يكون ثمة وضع آخر يستلزم
443

هذه الحركات لجواز اشتراك الأمور المختلفة في اللوازم وليس انتفاؤه ضروريا ولا مبرهنا
الشرح
المقصد الخامس في أفلاك القمر لما كان القمر تلو الشمس في الشهرة والإنارة عقبها به وهو وجد لا كالشمس حيث تسرع الشمس في نصفه بعينه من فلك البروج وتبطئ في نصف آخر منه وليس القمر كذلك بل هو يسرع ويبطئ في جميع الأجزاء من فلك البروج لا يختص إسراعه وإبطاؤه بجزء معين منه دون آخر فعلم بذلك أنه أي القمر على تدوير يتم دوره قبل دورة حامله فإذا فرض القمر في موضع من التدوير والتدوير في موضع من الحامل وكان هناك للقمر بواسطة التدوير حالة مخصوصة من الإسراع والإبطاء فإذا عاد القمر إلى موضعه بحركة التدوير قبل دورة حامله عادت تلك الحالة المخصوصة إليه في جزء آخر من فلك البروج وتنتقل تلك الحالة في دورة أخرى إلى جزء ثالث منه وهكذا ثم إن هذا التصوير وإن كان كافيا لعدم اختصاص السرعة والبطء بأجزاء معينه من البروج إلا أنه يقتضي أن يكون عود القمر إلى الحالة المخصوصة قبل العود إلى جزء بعينه من البروج وذلك باطل لأن المعلوم بالرصد أن عوده إليها بعد العود إلى جزء بعينه من البروج بزمان قليل فالصحيح أن يقال يتم دوره بعد دروة حامله ثم إذا قيس سرعة إلى سرعة وبطء إلى بطء لم يكن مثله بل أسرع أو أبطأ يعني أن اختلاف القمر إذا عاد لم يعد إلى ما هو مثله حقيقة بل إلى ما يشبهه مع تفاوت قليل فعلم بذلك أن تدويره مركوز في ثخن فلك خارج المركز إذ حينئذ تكون القسي المفروضة في التدوير المتساوية في أنفسها متفاوتة في الصغر والكبر بحسب الرؤية فيقع التفاوت في الحالة العائدة مقيسة إلى نظيرتها ثم وجد غاية سرعته في تربيعي الشمس فهو أي
444

القمر يجب أن يكون في كل واحد من تربيعهما في حضيض الخارج المقتضي لغاية السرعة والأوج يقابله ضرورة فإذا كان القمر في تربيع الشمس إلى التوالي كان أوجه في تربيعها إلى خلاف التوالي وإذا كان في تربيعها الثاني على التوالي كان الأوج في تربيعها الثاني إلى خلافه فله فلك آخر سوى التدوير وحامله يخرج ذلك الفلك ويحرك أوجه إلى خلاف جهة حركته وهو الفلك الذي يكون الخارج المركز في ثخنه وسميناه المائل فيجتمع القمر والأوج عند المقابلة مع الشمس ثم يتقابلان في التربيع الثاني كما كانا متقابلين في التربيع الأول ثم يجتمعان عند الاجتماع ففي الاجتماع والمقابلة يكون القمر في الأوج وفي غير الاجتماع والمقابلة تكون الشمس متوسطة بينهما أي بين القمر وأوجه أبدا يتباعدان عنها أي عن الشمس بعد الاجتماع إلى المقابلة فيبعد القمر عنها إلى التوالي والأوج إلى خلافه حتى يتلاقيا في المقابلة ثم يتقاربان منها أي من الشمس بعد المقابلة إلى أن يجتمعا معا ثانيا ثم إن منطقة التدوير يتحرك عليها مركز القمر في سطح منطقة الخارج التي يتحرك عليها مركز التدوير وهي في سطح منطقة المائل وليس منطقة المائل في سطح فلك البروج وإلا كان القمر ملازما له لا يتعداه إلى الشمال ولا إلى الجنوب كما أن الشمس كذلك دائما فيكون القمر ينخسف في كل مقابلة لتوسط الأرض على هذا التقدير بينه وبين الشمس في المقابلات كلها فيقع القمر في ظل الأرض في كل منها واللازم منتف بل تقاطعه أي تقاطع منطقة المائل فلك البروج وتقطعه بنصفين عل نقطتين تسميان العقدتين والجوزهرين
445

إحديهما هي التي إذا جاوزها القمر حصل في الشمال من منطقة البروج وتسمى هذه النقطة الرأس
والنقطة الأخرى منهما هي مقابلتها التي إذا جاوزها القمر حصل في الجنوب من فلك البروج وتسمى الذنب بناء على تشبيه الشكل الحادث من نصفي الدائرتين المتقاطعتين بالتنين وتشبيه طرفيه برأسه وذنبه ثم إذا رصدنا كسوفا في إحدى العقدتين كالرأس مثلا ثم كسوفا آخر فيها بعد زمان طويل رأينا في الثاني من الكسوفين متأخرا عن الأول إلى جهة المغرب من أجزاء فلك البروج فعلمنا بذلك أن للعقدتين حركة إلى خلاف التوالي فله أي للقمر فلك آخر سوى الثلاثة المذكورة يحركهما أي يحرك ذلك الفلك الآخر العقدتين إلى خلاف التوالي ولظهور حركته في الجوزهرين سميناه فلك الجوزهر فالقمر إذا وصل إلى الرأس كان على منطقة البروج فلم يكن له حينئذ عرض ثم إذا جاوزه كان له عرض عن المنطقة في الشمال يتزايد ذلك العرض قليلا قليلا إلى أن يصل القمر إلى المنتصف ما بين العقدتين وعنده يكون غاية العرض الشمالي ثم يتناقص ذلك العرض قليلا قليلا إلى أن يحصل القمر في الذنب فيكون حينئذ عديم العرض أيضا ثم يصير ذا عرض في الجنوب كما وصفناه فيتزايد أولا إلى أن يصل إلى المنتصف الآخر فيكون هناك غاية العرض الجنوبي ويتناقص ثانيا وغاية العرض في الجانبين أي الشمال والجنوب سواء ثابت لا يزيد ولا ينقص ومقدارها كما علم بالرصد خمسة أجزاء والتزايد في العرض بعد مجاوزة العقدتين والتناقص فيه بعد مجاوزة
446

المنتصفين بنسبة واحدة فهي أي العروض المتزايدة والمتناقصة متساوية في الأجزاء المتقابلة فالعرض المتزايد الشمالي للجزء العاشر من الرأس مثلا يساوي العرض المتزايد الجنوبي للعاشر من الذنب وكذا العرض المتناقص الشمال للجزء الخامس من منتصف النصف الشمالي يساوي العرض المتناقص الجنوبي للجزء الخامس من المنتصف الآخر فقد تلخص مما ذكرناه أن له أي للقمر أربعة أفلاك تدوير هو مركوز حامل خارج المركوز هو في ثخن مائل أي ذلك الحامل فيما بين سطحي فلك الموافق المركز مسمى بالمائل لميلان منطقته عن منطقة البروج يحيط به أي بذلك المائل فلك آخر موافق مركزه أيضا لمركز العالم وله أربع حركات فللتدوير حركة إلى التوالي في نصف هو الأسفل وإلى خلافه في نصف هو الأعلى وللخارج حركة إلى التوالي وللآخرين أي المائل والجوزهر حركتان إلى خلاف التوالي وله وللقمر في الطول وهو ما بين المغرب والمشرق اختلافات ثلاثة
فأحدها هو الاختلاف الذي يكون بسبب التدوير فإن القمر إذا كان على ذروة التدوير أو حضيضه كان الخط الخارج من مركز العالم المار بمركز التدوير المنتهى إلى سطح الفلك الأعلى منطبقا على الخط الخارج عنه المار بمركز القمر المنتهى إليه فلا اختلاف حينئذ بسببه وإذا تحرك القمر بحركة التدوير نازلا من الذروة أو صاعدا من الحضيض إلى جزء آخر من التدوير لم ينطبق أحد الخطين على الآخر بل حصل فيما بينها زاوية على مركز العالم فهذه الزاوية هي الاختلاف الناشئ من التدوير فيحتاج تارة إلى أن تنقص هذه الزاوية عن وسط القمر أعني حركة مركز تدويره وتارة إلى أن تزداد عليه حتى يتحصل تقويمه أعني حركة مركز نفسه وغاية هذا الاختلاف هو نصف قطر التدوير
وثانيها الاختلاف الذي يكون بسبب الخارج فإن مركز التدوير إذا كان في الأوج أو الحضيض كان قطر منه بعينه منطبقا على الخط المار بمركز العالم والخارج والتدوير وبالأوج والحضيض والطرف الأعلى من هذا القطر هو ذروة التدوير التي هي مبدأ حركته الخاصة والطرف الآخر منه
447

حضيضة المقابل لها فهما محاذيان في هاتين الحالتين لمركز العالم ومركز الخارج أيضا وإذا فارق مركز التدوير الأوج والحضيض لم يكن ذلك القطر منه منطبقا على الخط الخارج من مركز العالم إلى مركز التدوير واصلا إلى أعلاه ولا على الخط الخارج من مركز الخارج إلى مركز كذلك فلا تكون الذروة المذكورة ومقابلها محاذيين لشيء من مركزي العالم والخارج بل هما محاذيان أبدا لنقطة أخرى كما ستعرفه ويسميان ذروة وسطى وحضيضا أوسط يخالفان الذروة والحضيض المرئيين في غير الأوج والحضيض
واعلم أن هذا الاختلاف ليس بسبب كون حامل التدوير خارج المركز بل هو اختلاف واقع بين الذروتين علم أنيته ولم تعلم لميته
وثالثها الاختلاف الذي يكون بسبب تفاوت قطر التدوير بالعظم والصغر في قربه وبعده بسبب حامله الخارج المركز فإنا إذا فرضنا أن الاختلاف الأول واصل إلى غايته التي هي نصف قطر التدوير كما مر فإن كان مركز التدوير حينئذ في الأوج كان لنصف قطره مقدار في الرؤية وإن كان في الحضيض كان له مقدار أعظم من ذلك المقدار وكذا الحال في الاختلاف الأول إذا لم يكن في الغاية فإنه يقع فيه أيضا تفاوت بحسب القرب والبعد فهذا الاختلاف هو الزيادة اللاحقة بالاختلاف الأول ولذلك جعل اختلافا ثانيا تابعا للأول وللقمر في العرض وهو فيما بين الشمال والجنوب اختلاف واحد كما نبين
تنبيه لا يخفى على ذي فطرة سليمة أن كرة كالتدوير مثلا إذا تحركت على محيط دائرة كمنطقة الخارج حركة متشابهة على نهج واحد بلا تفاوت لزم هناك أمور ثلاثة
448

الأول أن تكون حركة الكرة متشابهة حول مركز تلك الدائرة
الثاني أن يكون قطر منها بعينه محاذيا لذلك المركز كأن خطا خرج من مركز الدائرة وانطبق على قطر من الكرة وأدارها حول المركز
الثالث أن يتساوى بعد تلك الكرة عن مركز الدائرة وحينئذ نقول هذه الأصول التي قدروها في أفلاك القمر وحركاته يلزمها أن يكون القمر بل تشابه حركته أي حركة مركز تدويره حول مركز الخارج وأن يكون محاذاة قطر تدويره المار بالذروة والحضيض له أي لمركز الخارج أيضا وأن يكون تساوي قربه وبعده أيضا عند مركز الخارج دون مركز العالم وغيره من النقط ثم أنهم وجدوه بخلافه فتشابه حركته أي حركة مركز تدويره حول مركز العالم والمحاذاة أي محاذاة قطر تدويره المار بالذروة والحضيض الأوسطين لنقطة من ذلك الخط المار بالمراكز والأوج والحضيض غير مركزهما أي مركز العالم والخارج وتلك النقطة واقعة من جانب الأوج لتوسط مركز الخارج بينهما وبين مركز العالم والصواب أن يقال هي من جانب الحضيض لتوسط مركز العالم بينها وبين مركز الخارج كما هو المشهور وأما تساوي بعد مركز التدوير عن مركز الخارج فهو باق على حاله وانتفاء اللازم الذي هو تشابه الحركة حول مركز الخارج ومحاذاة القطر المذكور له يوجب انتفاء الملزوم الذي هو الأصول التي ذكروها في القمر ثم أنه أورد على كلامهم اعتراضا آخر فقال كيف أي كيف يصح كلامهم وما ذكروه من أن القمر لما علم له بالرصد أحوال مخصوصة وجب أن يكون له أفلاك كذا وكذا متحركة على الوجوه المذكورة المقتضية لتحقق تلك الأحوال استدلال بوجود اللازم الذي هو
449

تلك الأحوال على وجود الملزوم الذي هو تلك الأفلاك المتحركة على تلك الوجوه وإنما يصح هذا الاستدلال إذا علم المساواة بين اللازم والملزوم ولم تعلم المساواة ههنا إذ يجوز أن يكون ثمة وضع آخر مغاير لما ذكروه يستلزم ذلك الوضع الآخر هذه الحركات المقتضية للأحوال المعلومة كما أن الوضع الذي بينوه يستلزمها أيضا لجواز اشتراك الأمور المختلفة في اللوازم وليس انتفاؤه أي انتفاء الوضع الآخر ضروريا ولا مبرهنا عليه
المقصد السادس
المتن
في الأفلاك الخمسة الباقية إنها تكون سريعة فتأخذ في بطء يتزايد إلى أن تقف أياما ثم تأخذ في الرجوع متدرجا في السرعة في رجوعها إلى حد ما ثم تأخذ في البطء إلى أن تقف ثانيا ثم تستقيم متدرجا في السرعة إلى غاية ويعرض ذلك لها في جميع الأجزاء فعلم أنها في تدوير ثم إنها تكون غريبة الثوابت فتلحقها مقارنة ثم تفارقها مخلفة لها إلى المغرب فعلم أن حامل تدويرها متحرك إلى المشرق والزهرة وعطارد يقارنان الشمس ثم يتفرقان فيطلعان بعدها متباعدين عنها إلى حد ما ثم يرجعان متقاربين منها حتى يقارناها ثانية ثم يغربان فيغربان لا بعدها ويطلعان قبلها متباعدين عنها إلى حد ما ثم يرجعان حتى يقارباها فعلم أن مركز تدويرهما خاصة ملازم لمركز الشمس والبواقي ليست كذلك فإن رجوعها إنما يكون وهي في مقابلة الشمس فهي في الحضيض حينئذ والخمسة يختلف بعدها الصباحي والمسائي عن الشمس ولا يتصور ذلك إلا بقرب تدويرها من الأرض تارة وبعده أخرى فإذا حامل تدويرها فلك خارج المركز والبعد المذكور يكون لعطارد في الجوزاء والجدي أعظم مما له في سواهما فهو أقرب إلى
450

الأرض فهو في الحضيض والأوج مقابلة فهو إذا متحرك إلى المغرب إذ لو كان ثابتا لم يصل إلى الحضيض في الدورة إلا مرة ولو تحرك إلى المشرق لزم أن يتحرك في نصف الدورة ثلاثة بروج وفي نصفها تسعة فيقابله في الميزان وفي الحمل فمركز التدوير له محرك ويسمى المدير ثم هذا البعد في الميزان أعظم منه في الحمل فهو أقرب إلى الأرض فعلم أن المدير خارج مركز ثم يختلف بعد الشمس عن الثوابت وهي في الاعتدالين وإذا رصدنا كسوفين وهي فيهما يظهر ذلك في الدهور الطويلة فهي متحركة والأوجات توافقها فهو إما لاتحاد المحرك وإما لتوافقها في الحركة جهة وكما ثم إن عرض الزهرة وعطارد ليس ثابتا كما للقمر بل عرض زهرة شمالي أبدا وعرض عطارد جنوبي أبدا كأن النصفين يتبادلان فإذا كانت الزهرة على الرأس كان مدارها منطبقا على سطح منطقة البروج ثم إذا جاوزت وحصل في النصف صار ذلك النصف شماليا ويتباعد عنها إلى غاية العرض ثم يقرب منها حتى ينطبق عليها وهي في الذنب ثم تصير في النصف الآخر وقد صار هو شماليا والآخر جنوبيا ويتباعد إلى غاية ما ثم يتقارب وأما عطارد فبالعكس من ذلك فيكون عند الانطباق في الذنب ويتجاوزه إلى النصف الجنوبي متباعدا ثم ينطبق وهو يتجاوزه إلى النصف الآخر وقد صار جنوبيا ثم لهما عرضان آخران فإن القطر المار بالذروة والحضيض ينطبق تارة على المنطقة وكذلك القطر المار بالبعدين الأوسطين وكيفيته مسطورة في كتبهم
واعلم أنهم لما اعتقدوا أن حركة الأفلاك يجب أن تكون دورية تحيروا في مبدأ هذه الاختلافات ولم ينبسوا فيه بذات شفة والذي ينحي بالهدم على قاعدتهم أفلاك عطارد بعد ما قدمناه أنها تستلزم تشابه حركة مركز التدوير حول مركز الحامل والمدرك بالرصد خلافه فإنها وجدت لنقطة تسمى مركز معدل المسير وهي بين مركز العالم ومركز الخارج
وفي الكل إن حركات الأفلاك إرادية فماذا يمنع أن تختلف بحسب ما يتعاقب عليها من إرادات جزئية إذ قد
451

علمت أنها لا يكفي في الحركة الجزئية التعقل الكلي وإلحق إحالة ذلك كله إلى القادر المختار
الشرح
المقصد السادس في الأفلاك الخمسة الباقية المسماة بالمتحيرة أنها تكون سريعة في الحركة إلى توالي البروج فتأخذ في بطء يتزايد ذلك البطء إلى أن تقف هذه الكواكب في جزء من أجزاء البروج أياما ثم تأخذ في الرجوع إلى خلاف التوالي متدرجا أي كل واحد منها في السرعة في رجوعها إلى حد ما ثم تأخذ في البطء في رجوعها إلى أن تقف ثانيا ثم تسقيم أي تتحرك إلى التوالي متدرجا في السرعة في استقامتها إلى غاية ويعرض ذلك الذي ذكرناه من أحوالها لها في جميع الأجزاء من فلك البروج أي ليس شيء من استقامتها ورجوعها ووقوفها وسرعتها وبطئها مخصوصا بجزء معين من أجزائه بل يوجد في كل منها فعلم بما ذكر من أحوالها أنها في تدوير تزيد حركته في نصفه المخالف على حركة حامله كما مر في الفائدة الثانية ثم إنها أي الكواكب الخمسة تكون غريبة من الثوابت فتلحقها مقارنة إياها ثم تفارقها مخلفة لها إلى المغرب فعلم بذلك أن حامل تدويرها متحرك من المغرب إلى المشرق والزهرة وعطارد يقارنان الشمس مستقيمين ثم يتفرقان عن الشمس حتى يصيرا شرقيين عنها فيطلعان بعدها ويغربان كذلك متباعدين في هذا التفرق عنها إلى حد ما فغاية بعد الزهرة عن الشمس سبعة وأربعون جزءا وغاية بعد عطارد عنها سبعة وعشرون جزءا ثم يرجعان إلى خلاف التوالي متقاربين منها حتى يقارناها راجعين مقارنة ثانية ثم يغربان أي يصيران غربيين عنها فيغربان حينئذ قبلها لا بعدها كما ذكره و كذا يطلعان قبلها متباعدين في التغريب عنها إلى حد ما ثم
452

يرجعان عن صوب الرجوع إلى سمت الاستقامة حتى يقارباها في الاستقامة كما ذكرناه أولا فعلم بذلك أن مركز تدويرهما خاصة ملازم لمركز الشمس وأن بعدهما عنها شرقا أو غربا إنما هو بحركة تدويرهما فقط فالبواقي من المتحيرة وهي العلوية ليست كذلك فإن رجوعها بل أواسطه إنما يكون وهي في مقابلة الشمس فهي في الحضيض حينئذ كما أن أواسطه استقامتها إنما تكون في مقارنة الشمس إياها وهي حينئذ في الدورة والكواكب الخمسة يختلف بعدها الصباحي والمسائي كأنه أراد به نصف قطر تدويرها وحينئذ يلغو قوله عن الشمس إلا في الزهرة وعطارد فإن غاية بعدهما عنها صباحا ومساء إنما هي بحسب نصف قطريهما والمسطور في كتب الفن أن القسي التدويرية إبطائية كانت أو إسراعية رجوعية أو استقامية لم توجد متشابهة بل وجدت في بعض أجزاء البروج أكثر قدرا وزمانا وفي بعضها أقل قدرا وزمانا ولا يتصور ذلك إلا بقرب تدويرها من الأرض تارة فتكون قسية ونصف قطره حينئذ أعظم في الرؤية وبعده عنها أخرى فإذن حامل تدويرها فلك خارج المركز ثم أنه أراد أن يبين أن لعطارد خارجا آخر يكون حامله في ثخنه فقال والبعد المذكور أي البعد الصباحي والمسائي عن الشمس الذي غايته نصف قطر التدوير كما عرفت يكون لعطارد في آخر الجوزاء وأول الجدي أعظم مما له في سواهما أي نصف قطر تدويره فيهما أعظم منه في سائر أجزاء البروج فهو أي تدويره حينئذ أقرب إلى الأرض فهو في هذين الموضعين في الحضيض من حامله فقد وصل في دورة واحدة إلى حضيض حاملي مرتين والأوج لا محالة مقابلة فهو أي
453

الأوج إذا متحرك إلى المغرب أي إلى خلاف التوالي إذ لو كان الأوج ثابتا غير متحرك لم يصل مركز تدويره عطارد إلى الحضيض في الدورة الواحدة إلا مرة واحدة وقد بان بطلانه ولو تحرك الأوج إلى المشرق أي إلى التوالي كما أن مركز التدوير كذلك لزم أن يتحرك الأوج في نصف الدورة ثلاثة بروج وفي نصفها تسعة وذلك لأنا إذا فرضنا أن مركز التدوير تحرك من أول الحمل إلى آخر الجوزاء فقد حصل في الحضيض فلو كان الأوج الذي هو مجتمع معه في أول الحمل متحركا إلى التوالي أيضا لزم أن يكون الأوج قد تحرك من أول الحمل إلى أول الجدي بل إلى آخر القوس فقد تحرك حينئذ المركز ثلاثة بروج والأوج تسعة ثم أنهما يجتمعان في الحمل ثانيا فيتحرك المركز من آخر الجوزاء إلى الحمل والأوج من أول الجدي إلى الحمل فانعكس الأمر بينهما فلا تكون حركة شيء منهما بل متشابهة إحداهما أسرع من الأخرى تارة وأبطأ تارة وهو باطل فتعين أن الأوج يتحرك إلى خلاف التوالي حتى إذا وصل المركز تربيع الحمل على التوالي وهو آخر الجوزاء وصل الأوج إلى تربيعه على خلاف التوالي وهو أول الجدي فيكون المركز حينئذ في الحضيض وإذا وصل المركز إلى تربيعه الثاني وهو أول الجدي وصل الأوج أيضا إلى تربيعه الثاني وهو آخر الجوزاء فيكون المركز أيضا في الحضيض ولا شك أنهما يتلاقيان فيما بين التربيعين قوله فيقابله سهو من القلم والصواب فيقارنه أي يقارن الأوج مركز التدوير في الميزان وفي الحمل وقوله فمركز التدوير أيضا سهو والتصحيح فأوج الحامل أو مركز الحامل له
454

محرك بحركة إلى خلاف التوالي ويسمى ذلك المحرك المدير لإدارته مركز الحامل حول مركزه ثم هذا البعد الصباحي والمسائي في الميزان أعظم منه والصواب أصغر منه في الحمل فهو أي تدوير عطارد في الحمل أقرب إلى الأرض منه في الميزان فعلم أن المدير خارج مركز وأن أوجه في الميزان فهناك يجتمع الأوجان ويكون نصف قطر التدوير أصغر ما يكون وأما في الحمل فيجتمع مركز التدوير وأوج الحامل مع حضيض المدير فلا يكون نصف قطره في ذلك الصغر ثم يختلف بعد الشمس عن الثوابت وهي أي الشمس في اعتدالين ويعلم هذا الاختلاف إذا رصدنا كسوفين وهي فيهما يظهر ذلك في التدهور الطويلة فهي أي الثوابت متحركة حركة بطيئة جدا كما سلف والأوجات سوى أوج القمر وأوج حامل عطارد توافقها أي توافق الثوابت في تلك الحركة قدرا وجهة فهو أي ذلك التوافق إما لاتحاد المحرك وهو كرة الثوابت مثلا وإما لتوافقها أي توافق المحركات المتعددة في الحركة بأن توافق الحركة الصادرة من بعضها الحركة الصادرة من بعض آخر جهة وكما كما إذا فرض أن محركات تلك الأوجات هي الممثلات ثم أن عرض الزهرة وعطارد ليس ثابتا كما ثبت للقمر بل عرض مركز تدوير زهرة شمالي أبدا وعرض مركز تدوير عطارد جنوبي أبدا وأما عرض مركز جرميهما فقد يكون في الزهرة جنوبيا وعطارد شماليا ثم أنه صور كيفية ما ذكره بقوله كأن النصفين من مداري مركزي تدويرهما يتبادلان من جهتي الشمال والجنوب فإذا كانت الزهرة بل مركز تدويرها على الرأس كان مدارها منطبقا على سطح منطقة البروج ثم إذا جاوزت الرأس وحصل الكواكب بل مركز تدويره في النصف الذي يتحرك عليه صار
455

ذلك النصف شماليا عن المنطقة والنصف الآخر جنوبيا عنها ويتباعد المدار عنها شيئا فشيئا إلى أن يصل مركز تدويرها إلى غاية العرض وهي منتصف ما بين العقدتين ثم يقرب مدارها منها شيئا فشيئا حتى ينطبق عليها وهي أي الزهرة بل مركز تدويرها في الذنب ثم تصير في النصف الآخر الذي كان جنوبيا وقد صار هو الآن شماليا وصار النصف الأخر الذي قد تحرك عليه في الشمال جنوبيا ويتباعد المدار عنها في الجانبين إلى غاية ما هي منتصف هذا النصف ثم يتقارب إليها حتى ينطبق عليها ويتناول نصفاه في الجهة وهكذا دائما فيكون مركز تدوير الزهرة دائما إما على المنطقة وإما في الشمال عنها وأما عطارد فبالعكس من ذلك فيكون عند الانطباق في الذنب ويتجاوزه إلى النصف الجنوبي متباعدا ثم ينطبق وهو يتجاوزه إلى النصف الآخر الذي كان شماليا وقد صار الآن جنوبيا فمركز تدويره دائما إما على المنطقة وإما في الجنوب عنها ثم لهما أي للزهرة وعطارد عرضان آخران مغايران لعرضهما بسبب مدار مركز تدويرهما على الوجه الذي صورناه فإن القطر من تدويرهما المار بالذروة والحضيض ينطبق تارة على المنطقة وينفصل عنه آخرى كأنه أراد بالمنطقة مدار مركز تدويرهما فإن انطباق ذلك القطر إنما هو عليه في منتصف ما بين العقدتين دون منطقة البروج في العقدتين إذ هو هناك في غاية الميل عن المدار ومنطقة البروج المتطابقين ولذلك أمكن لجرم الزهرة عرض جنوبي ولجرم عطارد عرض شمالي كما أشرنا إليه وكذلك القطر المار بالبعدين الأوسطين من تدويرهما المقاطع للقطر المار بالذروة والحضيض منه له أيضا ميل يقتضي عرضا وكيفيته مسطورة في كتبهم ولقد أحسن في هذه الحوالة ولو عممها في أكثر المباحث السالفة وترك تفاصيلها لكان أحسن وأحسن لأن التعرض لها على الوجه الذي أورده أوجب انتشار الكلام وصعوبة الفهم وتزييلها بمباحث أخرى يوجب زيادة في الصعوبة فلذلك أعرضنا عن الإطناب واقتصرنا على ما ذكر في الكتاب والله الموفق للصواب واعلم أنهم لما اعتقدوا أن حركة الأفلاك يجب أن تكون دورية متشابهة تحيروا في مبدأ هذه
456

الاختلافات المعلومة بالمشاهدة أو الرصد في هذه الكواكب ولم ينبسوا أي لم يتكلموا فيه أي في ذلك المبدأ بذات شفة أي بكلمة كافية شافية والذي ينحى بالهدم على قاعدتهم في هيئة أفلاك عطارد بعدما قدمناه من أن ما ذكروه استدلال باللازم على وجود الملزوم مع عدم العلم بالمساواة أنها أي تلك القاعدة تستلزم تشابه حركة مركز التدوير حول مركز الحامل لما نبهنا عليه والمدرك بالرصد خلافه فإنها وجدت لنقطة أي أن حركة مركز تدويره وجدت متشابهة حول نقطة أخرى تسمى تلك النقطة مركز معدل المسير وهي بين مركز العالم ومركز الخارج الذي هو المدير ومثل هذا
الإشكال وارد على أفلاك العلوية والزهرة أيضا والذي ينحى بالهدم على قاعدتهم في الكل أن حركات الأفلاك إرادية على رأيهم فماذا يمنع أن تختلف تلك الحركات بحسب اختلاف ما يتعاقب عليها أي على الأفلاك من إرادات جزئية لا بد منها في تلك الحركات إذا قد علمت فيما سبق أنها أي أن القصة لا تكفي في الحركة الجزئية التعقل الكلي والحق إحالة ذلك كله إلى القادر المختار فإنها منجاة عن هذه الإشكالات وأمثالها كما نبهت عليه
457

القسم الثاني في الكواكب
المتن
وكلها شفافة مضيئة إلا القمر فإنه كمد بل نوره من الشمس لاختلاف أشكاله بحسب قربه وبعده منه وفيه مقاصد
المقصد الأول
في الهلال والبدر والقمر لما كان يستضيء من الشمس فنصفه المقابل لها أبدا مضيء ونصفه الآخر مظلم ولما كان تحت الشمس فإذا كان القمر مقارنا لها كان وجهه المضيء إليها دوننا فلا نرى له ضوءا وكانت دائرة الرؤية منطبقة على دائرة الضوء وهي الفاصلة بين المضيء والمظلم منه ونفرض دائرة الرؤية ثابتة ودائرة الضوء تزول بزواله عن المسامتة فبعد الانفراج بينهما نرى قوسا من الوجه المضيء ولا يزال ذلك يكبر حتى يصير الوجه المضيء إلينا وينطبق الدائرتان مرة أخرى فنراه بدرا ثم يتقاربان فتتقاطع الدائرتان وينحرف عنا المضيء حتى يخفى بالكلية وهو المحاق وإنما لا يرى يوما وأكثر بعد المقارنة وقبلها لضعف ضوئه ودقته وقربه من الشمس مع ضوئها فيمتنع من إبصاره
الشرح
القسم الثاني من الأقسام الخمسة في الكواكب كلها شفافة لا لون لها مضيئة بذواتها إلا القمر فإنه كمد في نفسه تظهر كمودته أعني قتمته القريبة من السواد عند الخسوف وليس منيرا بذاته بل نوره من الشمس لاختلافه أشكاله النورية بحسب قربه وبعده عنها فيحدث من ذلك أن نوره
458

مستفاد من ضوئها فقيل هو على سبيل الانعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيرا كما في المرآة وقيل يستنير جوهره
قال الإمام الرازي والأشبه هو الأخير إذ على الوجه الأول لا يكون جميع أجزائه مستنيرا لكنه كذلك كما يظهر من اعتبار حاله عند الطلوع والغروب ومنهم من قال كسف بعض الكواكب لبعضها يدل على أن لها لونا وإن كان ضعيفا فالعطارد صفرة وللزهر درية أي بياض صاف وللمريخ حمرة وللمشتري بياض غير خالص ولزحل قتمة مع كدورة وفيه أي في هذا القسم مقاصد خمسة
الأول في الهلال والبدر والقمر لما كان يستضيء من الشمس فنصفه المقابل لها أبدا مضيء ونصفه الآخر مظلم ولما كان تحت الشمس فإذا كان القمر مقارنا لها كان وجهه المضيء إليها دوننا فلا نرى له ضوءا أصلا وكانت حينئذ دائرة الرؤية وهي الدائرة الفاصلة بين المرئي وغير المرئي منه منطبقة على دائرة الضوء وهي الدائرة الفاصلة بين المضيء والمظلم منه ونفرض دائرة الرؤية ثابتة و نقول دائرة الضوء تزول لا محالة بزواله أي تزول بزوال القمر عن المسامتة أي المقارنة للشمس فبعد الانفراج بينهما أي بعد زوال الانطباق وحصول الانكشاف والتقاطع بين الدائرتين يقع شيء من الوجه المضيء مستدق بين نصفيهما وحينئذ نرى قوسا من الوجه المضيء إلينا فهذا المرئي هو الهلال ولا يزال ذلك يكبر بالبعد عن الشمس ويزداد المرئي من الوجه المضيء عظما حتى يصير الوجه المضيء بتمامه إلينا وذلك عند المقابلة التي هي غاية البعد بينهما وحينئذ تنطبق الدائرتان مرة أخرى فنراه بدرا كاملا كدائرة تامة ثم إن
459

النيرين بعد غاية البعد بينهما يتقاربان من الجانب الآخر فتتقاطع حينئذ الدائرتان مرة أخرى وينحرف عنا شيء مستدق من الوجه المضيء فينتقص كمال البدرية وهكذا ينحرف المضيء شيئا فشيئا حتى نرى منه شكلا هلاليا في جانب المشرق ثم يخفى بالكلية وهو المحاق وإنما لا نرى القمر يوما وأكثر بعد المقارنة وقبلها لضعف ضوئه ودقته وقربه من الشمس مع ضوئها الغالب السائر لم يقرب منها فيمتنع القمر لهذه الأسباب من إبصاره وأما إذا كان بعيدا عنها في أحد جانبيها بمقدار اثنتي عشرة درجة فإنه يرى عادة مستمرة وربما نرى بأقل منها فإن ذلك مما يختلف بحسب عرض القمر وصفاء الأفق وقوة الباصرة
المقصد الثاني
المتن
في خسوف القمر وهو أنه قد يكون بقرب العقدتين فتكون الأرض بينه وبين الشمس فتمنع ضوؤها عنه فيرى كمدا كما هو لونه الأصلي ولأن جرم الأرض أصغر من جرم الشمس فيقع الظل مخروطا فإن لم يكن للقمر عرض انخسف كله لأنه أصغر من الأرض وإن كان له عرض فإن كان بقدر نصف قطر القمر ونصف قطر الظل لم ينخسف وإن كان أقل انخسف بعضه وذلك بقدر تقاطع القطرين
الشرح
المقصد الثاني في خسوف القمر وهو أنه قد يكون مقابلا للشمس بقرب العقدتين فتكون الأرض حينئذ واقعة بينه وبين الشمس فتمنع الأرض ضوؤها عنه فيرى كمدا كما هو لونه الأصلي ولأن جرم الأرض أصغر كثيرا من جرم الشمس فيقع الظل الناشئ من الأرض مخروطا قاعدته
460

دائرة صغيرة على الأرض ورأسه على محاذاة جزء من أجزاء فلك البروج مقابل لجزء منه حل فيه الشمس فإن لم يكن للقمر في حالة المقابلة عرض بأن يكون في إحدى العقدتين انخسف بالكلية لأنه أصغر من الأرض بل من غلظ الظل حيث وصل إليه فيقع كله في داخله ومكث فيه زمانا وإن كان له عرض فإن كان ذلك العرض بقدر نصف قطر صفحة القمر ونصف قطر دائرة الظل وهي الدائرة الحادثة على مخروط الظل من توهم سطح جرم القمر الذي يرى كدائرة خارجا إلى أن ينقطع المخروط لم ينخسف القمر حينئذ بل ماس الظل من خارج كحدبتي دائرتين وإن كان ذلك العرض أقل من مجموع النصفين المذكورين انخسف بعضه وذلك بقدر تقاطع القطرين أي تلاقيهما وتداخلهما فإن فرض أن هذا العرض الأقل يساوي فضل نصف قطر الظل على نصف قطر القمر انخسف كله وماس سطحه دائرة الظل من داخل ولم يكن له مكث وأن كان أقل من ذلك الفضل انخسف بتمامه ومكث بحسب وقوعه في الظل
المقصد الثالث
المتن
في كسوف الشمس عند اجتماع القمر بالشمس إن لم يكن للقمر عرض حجب بيننا وبين الشمس فلم نر ضوء الشمس بل نرى لون القمر الكمد في وجه الشمس فنظن أن الشمس ذهب ضوؤها وهو الكسوف ويكون ذلك بقدر صفحة القمر فربما كسف الشمس كلها وأن كان أصغر
461

منها لأنه أقرب إلينا فيوتر قطره الزاوية التي توترها الشمس كمدا وربما تكون الشمس في حضيضها فلقربها ترى أكبر والقمر في أوجه فلبعده يرى أصغر فلا يكسف جميع صفحتها بل يبقى منها حلقة نور محيطة به وقد روي أنها رؤيت وإن كان للقمر عرض فإن كان بقدر مجموع نصف قطرهما لم يكسفها وإن كان أقل منهما كسفها بقدر ذلك واعلم أن ابن الهيثم قال في اختلاف تشكلات القمر أنه يجوز أن يكون ذلك لأن القمر كرة مضيئة نصفها دون نصف وأنها تدور على نفسها بحركة مساوية لحركة فلكها فإذا كان نصفه المضيء إلينا فبدر أو المظلم فمحاق وفيما بينهما يختلف قدر ما نراه من المضيء ويبطله ما ذكرناه من أمر الخسوف والكسوف والاعتراض بعد تسليم الأصول أن نفي هذا الاحتمال لا ينفي جميع الاحتمالات فلعل ثمة سببا آخر ثم ما ذكرتم يجوز أن يكون لخلق الفاعل المختار النور في الشمس والكواكب أو استضاءتها بكواكب أخر مستورة عنا كيف ولا يلزم كون تلك الكواكب نيرة بل ربما تكون مقابلتها توجب ذلك
الشرح
المقصد الثالث في كسوف الشمس فنقول عند اجتماع القمر بالشمس في النهار اجتماعا مرئيا لا حقيقيا إن لم يكن للقمر عرض مرئي حجب بيننا وبين الشمس لوقوعه على الخط الخارج من أبصارنا إليها فلم نر ضوء الشمس بل نرى لون القمر الكمد في وجه الشمس فنظن أن الشمس ذهب ضوؤها وهو الكسوف فليس الكسوف بغير حال في ذات الشمس كالخسوف في ذات القمر ولذلك أمكن أن يقع كسوف بالقياس إلى قوم دون قوم ويكون ذلك بقدر صفحة القمر
فربما كسف الشمس كلها وإن كان أصغر منها وذلك لأنه أقرب إلينا فيوتر قطره الزاوية التي توترها الشمس كمدا فتحجب به عنا بتمامها وربما تكون الشمس وقت انكسافها في حضيضها فلقربها منا ترى أكبر ويكون القمر حينئذ في أوجه فلبعده عنا يرى أصغر فلا يكسف جميع صفحتها بل تبقى منها حلقة نور محيطة به وقد روي أنها أي الحلقة النورانية رؤيت على وجهها
462

في بعض الكسوفات مع ندرته وإن كان للقمر في ذلك الاجتماع عرض مرئي فإن كان ذلك العرض بقدر مجموع نصف قطرهما لم يكسفها وإن كان أكثر منهما فبالطريق الأولى وإن كان أقل منهما كسفها بقدر ذلك كما لا يخفى واعلم أن ابن الهيثم قال في اختلاف تشكلات القمر إنه يجوز أن يكون ذلك الاختلاف لأن القمر كرة مضيئة نصفها دون نصف وأنها أي تلك الكرة تدور على مركز نفسها بحركة مساوية لحركة فلكها فإذا كان نصفه المضيء إلينا كما في حال المقابلة فبدر أو المظلم كما في حال المقارنة فمحاق وفيما بينهما يختلف قدر ما نراه من المضيء هلاليا ونصف دائرة وإهليلجيا ويبطله أي يبطل قول ابن الهيثم ما ذكرناه من أمر الخسوف فإن كان الاحتمال يقتضي أن لا ينخسف القمر أصلا والكسوف وقع هذا اللفظ في نسخة الأصل ولذلك أخر المصنف كلام ابن الهيثم إلى هذا الموضع لكنه ضرب عليه بالقلم أخرا إذ لا وجه لصحته والاعتراض على ما ذكروه بعد تسليم الأصول التي ينوه عليها أن نفي هذا الاحتمال الذي أبداه ابن الهيثم في تشكلات القمر بمنافاته الخسوف لا ينفي جميع الاحتمالات العقلية في تلك التشكلات فلعل ثمة سببا آخر لاختلاف نور القمر مخالفا لما ذكره وما ذكرتموه لكنا لا نعلمه كأن يكون مثلا كوكب كمد تحت فلك القمر فينخسف به في بعض استقبالاته غير ما ذكرتم من الخسوف والكسوف ودوام نور باقي الكواكب يجوز أن يكون لخلق الفاعل المختار النور في الشمس والقمر في أكثر
463

الأوقات وعدم خلقه النور فيهما أحيانا وخلقه إياه في باقي الكواكب دائما أو استضاءتها أي أو لاستضاءة الشمس والقمر والكواكب المحسوسة مطلقا بكواكب أخر مستورة عنا لا نشاهدها أصلا وإن كانت مضيئة جدا إما لبعدها أو لكونها محجوبة ببعض الأجرام السماوية المظلمة ثم يتغير الحال فيهما دون باقي الكواكب كيف لا يجوز هذا الاحتمال والحال أن هناك احتمالا آخر أبعد منه وهو أنه لا يلزم كون تلك الكواكب المستورة عنا نيرة في أنفسها بل ربما تكون مقابلتها للكواكب المحسوسة توجب ذلك النور فيها كما في تقابل الأجسام الكمدة الثقيلة جدا
المقصد الرابع
المتن
في محو القمر وفيه آراء
الأول قيل خيال قلنا فيختلف الناظرون فيه
الثاني قيل شبح ما ينطبع فيه من السفليات من الجبال والبحار قلنا فيختلف باختلاف القمر في قربه وبعده وانحرافه عما ينطبع فيه
الثالث السواد الكائن في الوجه الآخر قلنا فلا يرى متفرقا
الرابع تسخين النار قلنا لا هو مماس للنار ولا قابل للتسخن عندكم
الخامس جزء منه لا يقبل النور قلنا فإذا لا يطرد القول ببساطة الفلكيات ويبطل جميع قواعدهم
السادس وجه القمر فإنه مصور بصورة إنسان قلنا فيتعطل فعل الطبيعة عندكم لأن لكل عضو طلب نفع أو دفع ضر
السابع أجسام سماوية حافظة لوضعها معه وهذا أقرب لكن لا يصح للتعويل
464

الشرح
المقصد الرابع في محو القمر المشاهد في صفحته وفيه آراء
الأول قيل خيال لا حقيقة له قلنا فيختلف الناظرون فيه لاستحالة توافقهم كلهم في خيال واحد
الثاني قيل هو شبح ما ينطبع فيه من السفليات من الجبال والبحار وغيرها قلنا فيختلف باختلاف القمر في قربه وبعده وانحرافه عما ينطبع فيه
الثالث هو السواد الكائن في الوجه الآخر قلنا فلا يرى متفرقا
الرابع هو تسخين النار للقمر قلنا لا هو مماس للنار لأنه مركوز في تدوير هو في ثخن حامل فبينه وبين النار بعد بعيد ولو فرض أنه في حضيض التدوير مع كونه في حضيض الحامل لم يتصور هنا مماسة لا بنقطة واحدة ولا هو قابل للتسخن عندكم فكيف يتسخن بها
الخامس هو جزء منه لا يقبل النور كسائر أجزائه القابلة له قلنا فإذن لا يطرد القول ببساطة الفلكيات إذ القمر حينئذ مركب من أجزاء متخالفة الحقائق ويبطل على هذا التقدير جميع قواعدكم المبنية على بساطتها
السادس هو وجه القمر فإنه مصور بصورة إنسان أي بصورة وجه الإنسان فله عينان وحاجبان وأنف وفم قلنا فيتعطل فعل الطبيعة عندكم لأن لكل عضو طلب نفع أو دفع ضر فإن الفم لدخول الغذاء والأنف لفائدة الشم والحاجبين لدفع العرق عن العينين وليس القمر قابلا لشيء من ذلك فيلزم التعطيل الدائم فيما زعمتم أنه أحسن النظام وأبلغه
465

السابع هو أجسام سماوية مختلفة معه في تدويره غير قابلة للإنارة بالتساوي حافظة لوضعها معه دائما وهذا أقرب ما قيل لكن لا يصلح للتعويل
المقصد الخامس
المتن
في المجرة قيل احتراق حدث من الشمس في تلك الدائرة في بعض الأزمان وقيل بخار دخاني وقيل كواكب صغار لا تتمايز حسا والغرض من نقل هذه الاختلافات إبداء ما ذكروه من الخرافات ليتحقق للعاقل الفطن أنه لا ثبت لهم فيما يقولونه ولا معول على ما ينقلونه وإنما هي خيالات فاسدة وتمويهات باردة يظهر ضعفها بأوائل النظر ثم البعض بالبعض يعتبر
الشرح
المقصد الخامس في المجرة وهي الدائرة التبنية المسماة عند العوام بسبيل التبانين قيل احتراق حدث من الشمس في تلك الدائرة في بعض الأزمان السالفة وإنما يصح إذا كانت الشمس موصوفة بالحرارة والإحراق وكان الفلك قابلا للتأثر والاحتراق وقيل بخار دخاني واقع في الهواء ويرد عليه أنه يلزم منه اختلافها في الصيف والشتاء لقلة المدد في أحدهما وكثرته في الآخر وقيل كواكب صغار مقاربة متشابكة لا تتمايز حسا بل هي لشدة تكاثفها وصغرها صارت كأنها لطخات سحابية
قال الآمدي والغرض من نقل هذه الاختلافات إبداء ما ذكروه من
466

الخرافات ليتحقق ويتبين للعاقل الفطن إنه لا ثبت أي لا حجة لهم فيما يقولونه ويعتقدونه ولا معول على ما ينقلونه من أوائلهم ويعتمدونه وإنما هي خيالات فاسدة وتمويهات باردة يظهر ضعفها بأوائل النظر ثم البعض بالبعض يعتبر
467

القسم الثالث في العناصر
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
المتأخرون على أنها أربعة أقسام
خفيف مطلق يطلب المحيط في جميع الأحياز وهي النار وهي حارة بالحس ويابسة لأنها تفني الرطوبات
فإن قيل ألست فسرت اليبوسة بعسر قبول الأشكال وتركها والنار بخلافه سهلة التشكل والترك
قلنا ذلك فيما عندنا من النيران وهي مغلوبة بالهواء فلم قلت إن النار بسيطة كذلك
وخفيف مضاف يقتضي أن يكون تحت النار وفوق الآخرين وهذا خو خفته المضافة وهو الهواء حار رطب بالطبع أي لو خلي وطبعه لأحس منه بالكيفيتين وكذلك في سائر العناصر وما يعرض له من البرد لمجاورة الأرض وثقيل مطلق يطلب المركز وهي الأرض باردة يابسة ويحققهما الحس
وثقيل مضاف يقتضي أن يكون فوق الأرض وتحت الآخرين وهذا
468

ثقله المضاف وهو الماء بارد رطب بالطبع وطبيعته الجمود لأن طبيعته البرد وأنه يوجب جموده لكن الشمس تذيبها
المناقضة لم لا يجوز أن لا تكون أربعة بل الحق أحد الأقوال التي نذكرها إذ قيل واحدة على خمسة أقوال
الأول إنما هي النار لشدة بساطتها إذ الحرارة مدبرة للكائنات ولأنها تحيل الغير إلى طبعها وحصلت البواقي بالتكاثف
الثاني الهواء لرطوبته ومطاوعته للانفعالات ويحصل النار بالحرارة الملطفة والباقيان بالبرودة المكثفة
الثالث الماء إذ قبوله التخلخل والتكاثف محسوس
الرابع الأرض وحصلت البواقي بالتلطيف
الخامس بخار لتوسطه بين الأربعة
وقيل لا بد من التعدد فاثنان على ثلاثة أقوال
الأول النار لأنها في غاية الخفة والحرارة والأرض لأنها في غاية الثقل والبرودة والهواء نار مفترة والماء أرض متخلخلة بالمزج
الثاني الماء والأرض لافتقار الكائنات إلى الرطب للانفعال واليابس للحفظ
الثالث الأرض والهواء لمثل ذلك
وقيل ثلاثة هي الأرض والماء والهواء لما مر والنار للحرارة المدبرة
وقيل أجسام صلبة غير متجزئة لا نهاية لها
وقيل السطوح ولا يكفي إبطال بعضها بالحجة بل لا بد من إبطال الجميع وهو مما لا سبيل إليه سلمنا لكن لم قلتم إن الأجسام ليست
469

متجانسة ويكون الاختلاف في الصفات للفاعل المختار سلمنا أنها أربعة فلم لا يجوز أن تكون خفيفة طالبة للمحيط أو ثقيلة طالبة للمركز ويكون ما فيها من التفاوت لتفاوتها في الثقل والخفة ثم لم يقم دليل على وجود كرة النار عند المحيط وإنما المشاهد استحالات تحدث لبعض الأجسام كما عند الإبراد والإحراق وإن سلم فما الدليل على أن البسيط منها يصعب تشكله وهل إلى ذلك الطريق إلا التجربة وكيف التجربة فيها وإفناؤها الرطوبات إفناء للأجزاء المائية ولا دليل فيه على اليبوسة فإن الهواء أيضا يعمل ذلك
فإن قلت ذلك لما فيه من أجزاء نارية
قلنا فيجب أن لا يكون الهواء البارد فاعلا لذلك
وبالجملة فلا يمكن القطع به وعليكم الدليل وكيف وشعاع الشمس يفعل ذلك مع أنه لا يوصف بحر ولا يبوسة ولا غيرهما من الكيفيات ثم لا نسلم أن الهواء حار وإنما يستفيد الحر من أشعة الشمس فلذلك كلما كان أرفع كان أقل حرا حتى يصير زمهريرا فلم قلتم أن ذلك ليس له بالطبع ولا نسلم أنه رطب فإنكم اتفقتم على أن مخالطة الرطب باليابس تفيد استمساكا والهواء ليس كذلك ثم لا نسلم أن طبيعة الماء الجمود ولو كان كذلك كان باطن الماء بالانجماد أحرى من ظاهره فظاهر أن جموده يبرد بالهواء فالبارد بالطبع الهواء والماء بطبعه لا بارد ولا حار وكيف تجمعون بين قولكم طبيعته الجمود مع القول برطوبته فإن قلتم لأنه سهل التشكل إذا يكفي في ذوبانه أدنى سبب قلنا فلم قلتم إن سائر العناصر ليس كذلك غاية ما في الباب أن تلك الأسباب لما قل وقوعها أو لم تقع لم نقف عليها وعليها الوجدان لا يدل على العدم
470

الشرح
القسم الثالث في العناصر وفيه مقاصد ثلاثة عشر المقصد الأول المتأخرون من الحكماء على أنها أربعة أقسام
خفيف مطلق يطلب المحيط في جميع الأحياز أي إذا ترك وطبعه في أي حيز كان من أحياز العناصر المغايرة له كان طالبا للمحيط وهي النار وهي حارة بالحس حرارة شديدة في الغاية ولذلك كانت طالبة المقعر الفلك ويابسة لأنها تفني الرطوبات عن الأجسام الملاقية لها فإن قيل ألست فسرت اليبوسة بعسر قبول الأشكال وتركها والنار بخلافه لأنها سهلة التشكل والترك قلنا ذلك الذي ذكرته إنما هو فيما عندنا من النيران وهي مغلوبة بالهواء فلذلك كانت سهلة القبول والترك فلم قلت إن النار البسيطة التي عند المحيط كذلك
وخفيف مضاف يقتضي أن يكون تحت النار وفوق الآخرين وهذا الاقتضاء هو خفته المضافة إلى العنصرين الآخرين وإن كان ثقيلا بالنسبة إلى النار وحدها وهو الهواء وأنه حار رطب بالطبع أي لو خلي وطبعه لأحس منه بالكيفيتين وكذلك الحال في الكيفيات المنسوبة إلى سائر العناصر وما يعرض له أي للهواء من البرد إنما هو لمجاورة الأرض والماء وثقيل مطلق يطلب المركز على معنى أنه يقتضي انطباق مركز ثقله على مركز العالم فهو إذا ترك وطبعه في أي حيز كان من أحياز العناصر المغايرة له طلبه وهي الأرض باردة يابسة ويحققهما الحس وثقيل مضاف يقتضي أن يكون فوق الأرض وتحت الآخرين وهذا الذي ذكرناه هو ثقلته
471

المضافة إلى العنصرين الآخرين وإن كان خفيفا بالنسبة إلى الأرض وحدها وهو الماء بارد رطب بالطبع على ما مر من التفسير وطبيعته الجمود لأن طبيعته البرد وأنه يوجب جموده لكن الشمس تذيبها قالوا وعلى الترتيب المذكور تكون العناصر المتناسبة متجاورة والمتضادة كالنار والماء وكالهواء والأرض متباعدة وما كان منها ألطف فهو إلى الفلك أقرب وما كان أكثف فهو أبعد فهذا هو النصف المحكم الذي عليه الوجود
قال المصنف المناقضة لما ذكروه أن يقال لم لا يجوز أن لا تكون أربعة بل الحق أحد الأقوال التي نذكرها الآن إذ قيل هي واحدة واختلفوا في تلك الواحدة على خمسة أقوال
الأول إنما هي النار لشدة بساطتها إذ لا جسم أصرف في طبيعته من النار إذ الحرارة المفرطة التي فيها مديرة للكائنات ولأنها تحيل الغير إلى طبعها وحصلت البواقي من النار بالتكاثف فهي نار متكاثفة على وجوه متفاوتة
الثاني هي الهواء لرطوبته ومطاوعته للانفعالات ولا شك أن الأصل يجب أن يكون مطاوعا للتغيرات ويحصل من الهواء النار بالحرارة المطلقة فهي هواء لطفته الحرارة والباقيان بالبرودة المكثفة فهما هواء متكاثف تكاثفا متفاوتا
الثالث هي الماء إذ قبوله التخلخل بالحرارة والتكاثف بالبرودة محسوس فحصل من تخلخله الهواء والنار ومن تكاثفه الأرض
الرابع هي الأرض وحصلت البواقي بالتلطيف الواقع على مراتب مختلفة
472

الخامس هي البخار لتوسطه بين الأربعة في اللطافة والكثافة فبازدياد لطافته يصير هواء ونار وبازدياد كثافته ماء وأرضا
وقيل ليست واحدة بل لا بد من التعدد فيها لأن التركيب في الكائنات يستدعي تعدد ما منه تركيبها فاثنان على ثلاثة أقوال
الأول هما النار لأنها في غاية الخفة والحرارة والأرض لأنها في غاية الثقل والبرودة والهواء نار مفترة والماء أرض متخلخلة بالمزج مع أجزاء نارية
الثاني هما الماء والأرض لافتقار الكائنات إلى الرطب للانفعال وحصول الأشكال وإلى اليابس للحفظ على الأشكال الحاصلة
الثالث هما الأرض والهواء لمثل ذلك فإن الهواء رطب قابل للأشكال بسهولة والأرض يابسة حافظة لها فالماء هواء اشتد تكاثفه والنار هواء اشتد حرارته
وقيل العناصر ثلاثة هي الأرض والماء والهواء لما مر من افتقار الكائنات إلى رطب ويابس والنار للحرارة المدبرة وقد وقع في كلام الآمدي الهواء بدل الماء ولذلك قال فالماء هواء متكاثف وفي كلام بعضهم أن الثلاثة هي ما عدا النار
وقيل أصول المركبات ليست أربعة أو ما دونها على ما مر بل هي أجسام وفي كلام الآمدي جواهر صلبة غير متجزئة لا نهاية لها
وقيل أصول المركبات هي السطوح لأن التركيب إنما يكون بالتلاقي والتماس وأول ما يكون ذلك بين السطوح المستقيمة ولا يكفي في إثبات كون العناصر أربعة إبطال بعضها أي بعض هذه الأقوال الخمسة المنافية له بالحجة بل لا بد في إثباته من إبطال الجميع وهو مما لا سبيل إليه سلمنا بطلان هذه الأقوال بأسرها لكن ليس يلزم من ذلك كونها أربعة إذ لقائل أن يقول لم قلتم أن الأجسام ليست متجانسة
473

فيكون الاختلاف حينئذ فيما بينها لا في الصور المقومة والطبائع الجوهرية بل في الصفات للفاعل المختار سلمنا أنها أربعة لكن لا نسلم ما ذكر من أحوالها بل نقول فلم لا يجوز أن تكون كلها خفيفة طالبة للمحيط أو تكون كلها ثقيلة طالبة للمركز ويكون ما فيها من التفاوت في الأحياز لتفاوتها في الثقل والخفة فالأثقل أسبق إلى المركز من الثقيل الطالب له أيضا والأخف أسبق إلى المحيط من الخفيف الذي يطلبه ألا ترى أن الأجسام الأرضية المتشاركة في أصل
الثقل تتفاوت أحوالها بتفاوتها في مراتبه فبعضها يرسب في الماء إلى تحت وبعضها يغوص فيه ولا يرسب وبعضها يطفو عليه ثم نقول بعد تسليم وجود النار في الجملة لم يقم دليل على وجود كرة النار عند المحيط كما زعمتم وإنما المشاهد استحالات تحدث لبعض الأجسام إلى النار كما عند الإبراد والإحراق لا يقال الشهب دالة على وجودها لأنا نقول جاز أن يكون هناك هواء حار يقتضي استحالة الأدخنة المرتفعة إلى النار فلا يثبت وجود كرتها وإن سلم وجود كرة النار فما الدليل على أن البسيط منها يصعب تشكله حتى نثبت يبوسة النار وهل إلى ذلك طريق إلى التجربة وكيف تتصور التجربة فيها وأما إفناؤها الرطوبات عن الأجسام فلا يدل على كونها يابسة في جوهرها لأنه إفناء للأجزاء المائية التي هي رطوبة بمعنى البلة ولا دليل فيه على اليبوسة الطبيعة فإن الهواء أيضا يعمل ذلك الإفناء مع أنه رطب الجوهر فإن قلت
474

ذلك أي إفناء الهواء للرطوبات عن الأجسام إنما هو لما فيه من أجزاء نارية
قلنا فيجب أن لا يكون الهواء البارد فاعلا لذلك إذ لا يتصور فيه الأجزاء النارية مع أنه يفني الرطوبة ويجفف الثوب المبلول
وبالجملة فلا يمكن القطع به أي بأن إفناء الرطوبة بمعنى البلة يدل على يبوسة المفني في ذاته لأنه موجود بدونها كما في الهواء وعليكم الدليل الموجب للقطع به وكيف يقطع به وشعاع الشمس يفعل ذلك مع أنه لا يوصف في نفسه بحر ولا يبوسة ولا غيرهما من الكيفيات ثم لا نسلم أن الهواء حار بل هو بارد بطبعه وإنما يستفاد الحر من أشعة الشمس المنعكسة إليه من الأرض فلذلك كلما كان الهواء أرفع وأبعد عن الأرض كان أقل حرا لضعف الانعكاس إليه وهكذا كلما زاد ارتفاعه قل حره وظهر برده حتى يصير زمهريرا في غاية البرودة فلم قلتم إن ذلك البرد الشديد في الهواء ليس له بالطبع بل لمخالطة الأجزاء الرشية المائية التي عادت إلى برودتها الطبيعية ولم يصل إليها أثر الانعكاس ولا نسلم أيضا أنه رطب فإنكم اتفقتم على أن مخالطة الرطب اليابس تفيده استمساكا عن التشتت والهواء ليس كذلك فإن الأجزاء الترابية لا تستمسك بمخالطته ثم لا نسلم أن طبيعة الماء الجمود ولو كان كذلك كان باطن الماء بالانجماد أحرى من ظاهره فظاهر عند العاقل أن جموده ببرد الهواء المجاور له فالبرد بالطبع هو الهواء وأما الماء فإنه بطبعه لا بارد ولا حار وكيف تجمعون بين قولكم طبيعته الجمود مع القول برطوبته فإن قلتم لا منافاة بين القولين لأنه سهل التشكل في نفسه إذ
475

يكفي في ذوبانه الذي تظهر معه السهولة أدنى سبب من الحرارة فمثل هذا الجمود لا ينافي الرطوبة الجوهرية قلنا هذا باطل قطعا إذ مع الجمود الذي هو مقتضى طبعه لا سهولة له وذوبانه المستلزم لها مستندا إلى أمر خارج لئن نزلنا عن هذا المقام قلنا فلم قلتم إن سائر العناصر كالأرض ليس كذلك أي قابلا للذوبان بأدنى سبب من الأسباب غاية ما في الباب أن تلك الأسباب لما قل وقوعها أو لم تقع أصلا لم نقف عليها وعدم الوجدان لا يدل على العدم وحينئذ جاز أن تكون الأرض رطبة
المقصد الثاني
زعموا أن الأرض كروية أما في الطول فلأن البلاد كلما كانت أقرب إلى الغرب كان طلوع الشمس عليها متأخرا بنسبة واحدة ولا يعقل ذلك إلا في الكرة وإنما قلنا بذلك لأنا لما رصدنا خسوفا بعينه في وقت من الليل وجدناه في بلاد شرقيه مثلا آخر الليل وفي بلاد غربية عنها بمسافة معينة قبله بساعة وفي بلاد غربية عنها بتلك المسافة بعينها قبل الأول بساعتين وقبل الثاني بساعة وعلى هذا فعلمنا أن طلوعها على الغربية متأخر وأما في العرض فلأن السالك في الشمال كلما أوغل فيه ازداد القطب ارتفاعا عليه حتى يصير بحيث يراه قريبا من سمت رأسه ولذلك تظهر له الكواكب الشمالية وتخفى عنه الجنوبية والسالك في الجنوب بالعكس من ذلك وأما فيما بينهما فلتركب الأمرين وأورد عليهم الاختلاف الذي في سطحها فأجابوا بأنه كتضاريس صغيرة على كرة كبيرة فلا يقدح في أصل الكروية فإن أعظم جبل على وجه الأرض نسبته إليها كخمس سبع عرض شعيرة على كرة قطرها ذراع والاعتراض هب أن ما ذكرتم كذلك فما قولكم فيما هو مغمور بالماء
فإن قيل إذا كان الظاهر كرويا فالباقي كذلك لأنها طبيعة واحدة
قلنا فالمرجع إلى البساطة واقتضائها الكرة ويمنعها التضاريس وإن لم تظهر للحس
476

الشرح
المقصد الثاني زعموا أن الأرض كروية أما في الطول أي فيما بين المشرق والمغرب فلأن البلاد المتوافقة في العرض أو التي لا عرض لها كلما كانت أقرب إلى الغرب كان طلوع الشمس وسائر الكواكب عليها متأخرا بنسبة واحدة وكذا الحال في الغروب ولا يعقل ذلك التأخر في الطلوع والغروب بتلك النسبة إلا في الكرة وإنما قلنا بذلك التأخر لأنا لما رصدنا خسوفا بعينه في وقت من الليل وجدناه في بلاد شرقية مثلا آخر الليل ووجدناه في بلاد غربية عنها أي عن البلاد الأولى بمسافة معينة هي ألف ميل قبله أي قبل آخر الليل بساعة ووجدناه في بلاد أخرى غريبة عنها أي عن البلاد الثانية بتلك المسافة بعينها قبل الأول بساعتين وقبل الثاني بساعة والحاصل أنه يوجد في هذه البلاد الأخرى قبل آخر الليل بساعتين وعلى هذا القياس فعلمنا أن طلوعها أي طلوع الشمس على الغربية متأخر بنسبة واحدة لأن الخسوف المعين كان في البلاد الأولى عند طلوع الشمس وفي الثانية قبله بساعة وفي الثالثة قبله بساعتين وأما في العرض أي فيما بين الشمال والجنوب فلأن السالك في الشمال كلما أوغل فيه ازداد القطب ارتفاعا عليه بحسب إيغاله فيه على نسبة واحدة حتى يصير بحيث يراه قريبا من سمت رأسه ولذلك تظهر له الكواكب الشمالية التي كانت مختفية عنه وتخفى عنه الكواكب الجنوبية التي كانت ظاهرة عليه والسالك الواغل في الجنوب بالعكس من ذلك وأما فيما بينهما أي بين الطول والعرض فلتركب الأمرين فإن السالك فيما بين المشرق والشمال يتقدم عليه الطلوع بمقدار قربه من المشرق ويزداد ارتفاع القطب عليه بمقدار وغوله في الشمال وقس على هذا حال السالك فيما بين المغرب والشمال وحال السالك في السمتين المقابلين لهما وأورد عليهم الاختلاف الذي في سطحها فأجابوا عنه بأنه كتضاريس صغيرة على كرة كبيرة فلا يقدح في أصل الكرية الحسية المعلومة بما ذكر فإن أعظم جبل
477

على وجه الأرض نسبته إليها كخمس سبع عرض شعيرة على كرة قطرها ذراع والصحيح كما مر أن يقال فإن جبل يرتفع نصف فرسخ إلى آخره أو يحذف لفظ الخمس والاعتراض على هذا الجواب أن يقال هب أن ما ذكرتم كذلك فما قولكم فيما هو مغمور بالماء إذ لا يتأتى فيه ذلك
فإن قيل إذا كان الظاهر كرويا فالباقي كذلك لأنها طبيعة واحدة قلنا فالمرجع حينئذ إلى البساطة واقتضائها الكرة الحقيقية ولا شك أنه يمنعها التضاريس وإن لم تظهر تلك التضاريس للحس بسبب كونها في غاية الصغر واعلم أن أرباب التعاليم يكتفون بالكرية الحسية في السطح الظاهر من الأرض والماء فلا يتجه عليهم السؤال عن المغمور ولا يليق بهم الجواب بالرجوع إلى البساطة
المقصد الثالث
المتن
والماء كري لوجوه
الأول أن السائر في البحر يرى رأس الجبل قبل أسفله وما هو إلا لستر تقبيب الماء له لا يقال الماء شفاف فلا يستره لأنا نقول ذلك في الماء البسيط وهذا يخالطه من الأرضية ولذلك ملوحته
الثاني الماء المرمي إلى فوق يعود كريا وإنما يتم ذلك إذا بين كونه كرة حقيقية والحس لا يعتمد عليه في مثله وإن ذلك لطبعه لا لمصادمة الهواء أو بدحرجة في الطريق أو بسبب آخر ثم أنهم يزعمون أن الماء أينما كان فهو قطعة من كرة مركزها مركز العالم الذي هو المركز الطبيعي للماء وعليه بنو حكاية الطاس في قلة الجبل وقعر البئر كما سبق وهذا لا يعطيه
478

الثالث مثل ما تقدم في الأرض من طلوع الكواكب وظهور القطب والكواكب
الشرح
المقصد الثالث قالوا والماء أيضا كري لوجوه ثلاثة
الأول أن السائر في البحر يرى رأس الجبل قبل أسفله يعني أنه يظهر عليه رأي الجبل أولا ثم ما يليه شيئا فشيئا إلى أسفله كأنه يطلع من الماء متدرجا على نسبة واحدة وما هو إلا لستر تقبيب الماء على هيئة حدبة الاستدارة له عن الرؤية لا يقال الماء شفاف لا لون له فلا يستره كالهواء لأنا نقول ذلك الذي ذكرتموه إنما هو في الماء البسيط الصرف
وهذا الماء الساتر يخالطه أجزاء من الأرضية ولذلك ملوحته فله لون ماء كسائر المياه المرئية لنا
الوجه الثاني الماء المرمي إلى فوق يعود كريا وكذلك الماء المصبوب على تراب لطيف جدا فإن قطراته تتشكل بشكل الكرة فدل على أن طبيعته تقتضي الكرية وإنما يتم ذلك إذا بين كونه كرة حقيقة والحس لا يعتمد عليه في مثله وبين أيضا أن ذلك لطبعه لا لمصادمة الهواء إياه من جوانبه أو بدحرجة في الطريق أو بسبب آخر لا نعلمه ثم أنهم أي المتمسكين بالوجه الثاني وهم الطبيعيون يزعمون أن الماء أينما كان فهو قطعة من كرة الماء مركزها مركز العالم الذي هو المركز الطبيعي للماء وعليه بنوا حكاية الطاس في قلة الجبل وقعر البئر كما سبق وهذا المبني عليه لا يقطعه أي لا يفيد الفرع الذي بنوه عليه لجواز أن يكون هناك مانع يمنع الماء في الطاس عن مقتضى طبعه الذي هو الاستدارة
479

الوجه الثالث مثل ما تقدم في الأرض من تقدم طلوع الكواكب وظهور القطب وارتفاعه وظهور الكواكب واختفائه
المقصد الرابع
المتن
الأرض في وسط الكل لأن الكواكب في جميع الجهات ترى بقدر واحد لا تفاوت فيه ولولا أنه في الوسط لكان في بعض الجوانب أقرب فترى أكبر وفي بعض الجوانب أبعد فترى أصغر ونقول لم لا يجوز أن يكون خروجها عن الوسط بقدر لا يكون التفاوت الموجب له محسوسا وهو مقدار غير قليل في نفسه
الشرح
المقصد الرابع الأرض في وسط الكل أي مركز حجمها منطبق على مركز العالم لأن الكواكب في جميع الجهات والجوانب من الأرض ترى بقدر واحد لا تفاوت فيه ولولا أنه أي الثقيل المطلق الذي هو الأرض في الوسط لكان في بعض الجوانب أقرب إلى السماء فترى الكواكب هناك أكبر وفي بعض الجوانب أبعد منها فترى الكواكب فيه أصغر ونقول نحن في رد ما ذكروه لم لا يجوز أن يكون خروجها عن الوسط بقدر لا يكون التفاوت الموجب بفتح الجيم له أي لذلك القدر محسوسا وهو أي قدر الخروج مع كونه موجبا لتفاوت غير محسوس في الكواكب مقدار غير قليل في نفسه بل هو كثير
480

المقصد الخامس
المتن
ليس للأرض عند الأفلاك قدر محسوس فالخط الخارج من مركزها إلى نقطة ما والخارج من الباصرة وإن كانا يتقاطعان ضرورة بزاوية حادة لكن موقعهما لا يتفاوت في الحس ولذلك كان الظاهر والخفي من الفلك متساويين يدل على ذلك طلوع كل جزء مع غروب نظيره لا قبل ولا بعد وهذا بالنسبة إلى غير فلك القمر وأما فلك القمر فللأرض عنده قدر محسوس ولذلك يختلف موضع الخطين المذكورين فيكون الموضع الحقيقي للقمر وهو ما ينتهي إليه الخط الخارج من مركز الأرض غير الموضع المرئي وهو ما ينتهي إليه الخط الخارج من الباصرة لأجل التقاطع المذكور وذلك الاختلاف بحسب زاوية التقاطع وهذا التفاوت يسمى اختلاف المنظر ولا شك أن الخطين المتقاطعين ما كان مبدؤه فوق يقع منتهاه تحت فالخط الخارج من الباصرة أقرب إلى الأفق دائما فموضعه الحقيقي فوق المرئي أبدا فإذا اعتبر نازلا كان المرئي زائدا على ما نزل بذلك القدر فيزداد على الحقيقي فيكون المرئي أو ينتقص من المرئي فيكون الحقيقي وإذا اعتبر صاعدا كان الأمر بالعكس وليس لشيء من الكواكب الباقية اختلاف منظر وربما يستخرج بالحساب شيء يسير للشمس
الشرح
المقصد الخامس ليس للأرض عند الأفلاك قدر محسوس فالخط الخارج من مركزها إلى نقطة ما على الفلك كمركز كوكب من الكواكب
481

والخط الخارج من الباصرة التي هي في حكم سطح الأرض وإن كانا يتقاطعان على تلك النقطة ضرورة بزاوية حادة من جانب الأرض ثم يتفارقان على زاوية أخرى مساوية للأولى ذاهبين إلى سطح الفلك الأعلى فلا شك أنهما يقعان منه على موضعين بينهما بعد بحسب نفس الأمر لكن موقعهما لا يتفاوت في الحس كأن أحدهما انطبق على الآخر وصار موقعهما واحدا ولذلك أي ولأن الأرض ليس لها قدر محسوس بالنسبة إلى الأفلاك كان الظاهر والخفي من الفلك متساويين وكان الأفق الحقيقي المار بمركز العالم والحس المار بظاهر الأرض في حكم دائرتين متطابقتين مع أن مقدار نصف قطر الأرض واقع بينهما يدل على ذلك التساوي طلوع كل جزء مع غروب نظيره لا قبل حتى يكون الظاهر أكبر ولا بعد حتى يكون الخفي أكبر وهذا الذي ذكرناه إنما هو بالنسبة إلى غير فلك القمر وأما فلك القمر فللأرض بل لنصف قطرها عنده قدر محسوس ولذلك يختلف في الحس موضع الخطين المذكورين في دائرة الارتفاع على سطح الفلك الأعلى فيكون الموضع الحقيقي للقمر في تلك الدائرة وهو ما ينتهي إليه الخط الخارج من مركز الأرض مارا بمركز القمر غير الوضع المرئي له فيها وهو ما ينتهي إليه الخط الخارج من الباصرة مارا بمركزه وإنما اختلف الموضعان في الحس لأجل التقاطع المذكور وهو تقاطعهما على مركز القمر بزاوية حادة من الجانبين على ما مر لكنها معتبرة في الحس ههنا لقرب القمر الموجب لكبر الزاوية وذلك الاختلاف في دائرة الارتفاع بحسب زاوية التقاطع فكلما كانت الزاوية أكبر كان الاختلاف بين الموضعين أكثر وكلما كانت أصغر كان أقل وهذا التفاوت
482

يسمى اختلاف المنظر ولا شك أن الخطين المتقاطعين ما كان مبدؤه فوق يقع منتهاه تحت فالخط الخارج من الباصرة منتهاه أقرب إلى الأفق دائما فموضعه الحقيقي فوق المرئي أبدا فلو فرض أن القمر على سمت الرأس لم يكن له اختلاف منظر لاتحاد الخطين حينئذ وإذا لم يكن عليه كان له ذلك ويكون موضعه الحقيقي أبعد عن الأفق وأقرب إلى سمت الرأس لما عرفت ثم أن هذا الاختلاف الواقع في دائرة الارتفاع قد يقتضي اختلافا في طول الكوكب وعرضه فإنا إذا فرضنا دائرتي عرض تمران بطرفي الخطين المذكورين فهما إذا وقعتا على نقطتين من فلك البروج كان ما بينهما اختلافا يبن الطولين الحقيقي والمرئي وإذا اختلفت القوسان الواقعتان منهما بين طرفي الخطين وبين فلك البروج كان مقدار التفاضل بينهما اختلاف العرضين الحقيقي والمرئي وإذا كان الكوكب على وسط سماء الرؤية لم يكن له باختلاف منظره اختلاف في الطول لأن الدائرتين متحدتان حينئذ فتتحد النقطتان على فلك البروج ويكون حينئذ اختلاف منظره هو اختلاف العرض بعينه وإذا لم يكن الكوكب عليها كان له اختلاف في الطول على ما أشار أليه بقوله فإذا اعتبر أي القمر نازلا والصواب أن يقال صاعدا بأن يكون في الربع الشرقي من وسط سماء الرؤية كان الطول المرئي زائدا على ما ينزل والصحيح أن يقال على الحقيقي بذلك القدر من فلك البروج الذي يقتضيه اختلاف منظره من دائرة الارتفاع على ما صورناه فيزداد ذلك القدر على الطول الحقيقي فيكون الحاصل بالزيادة الطول المرئي أو ينتقص ذلك القدر من الطول المرئي فيكون الباقي بعد النقصان الطول الحقيقي وإذا اعتبر صاعدا بل نازلا بأن يكون القمر في الربع الغربي من وسط سماء الرؤية كان الأمر بالعكس مما ذكر أي يزداد ذلك القدر على المرئي ليحصل الحقيقي أو ينقص من الحقيقي ليحصل المرئي والسبب في الزيادة والنقصان على الوجه المذكور في كل واحد من الأصل والعكس هو أن الموضع المرئي أقرب إلى الأفق دائما مع أن توالي البروج من المغرب إلى المشرق وليس لشيء من الكواكب الباقية اختلاف منظر فالثوابت والعلوية ليس لها ذلك الاختلاف أصلا وربما يستخرج
483

بالحساب شيء يسير غير محسوس من اختلاف المنظر للشمس وأما السفليتان فقد مر أنه لم يعلم حالهما في اختلاف المنظر
المقصد السادس
المتن
الأرض ساكنة وقيل هاوية إلى أسفل أبدا فلا تزال تنزل في خلاء غير متناه لما في طبيعتها من الاعتماد الهابط ويبطله بيان تناهي الأبعاد سيما عند من يبطل الخلاء وقيل إنها تدور على نفسها من المغرب إلى المشرق خلاف الحركة اليومية والحركة اليومية لا توجد وإنما تتخيل بسبب حركة الأرض إذ يتبدل الوضع من الفلك دون أجزاء الأرض فيظن أن الأرض ساكنة والمتحرك هو الفلك بل ليس ثمة فلك أطلس وذلك كراكب السفينة يرى السفينة ساكنة مع حركتها حيث لا يتبدل وضع أجزائها منه والشط متحركا مع سكونه حيث يتبدل وضعه منه مع ظن أنه ساكن وكذلك يرى القمر سائرا إلى الغيم حين يسير الغيم إليه وغيره من أمور قدمناها في غلط الحس وأبطلوا ذلك بوجوه
الأول أن الأرض لو كانت متحركة في اليوم بليلته دورة واحدة لكان ينبغي أن السهم إذا رمي إلى جهة حركة الأرض أن لا يسبق موضعه الذي رمي منه بل تسبقه الأرض وإذا رمي إلى خلاف حركتها أن يمر بقدر
484

حركته وحركة الأرض جميعا واللازم باطل لاستواء المسافة من الجانبين بالتجربة
الثاني الحجر يرمى إلى فوق فيعود إلى موضعه راجعا بخط مستقيم ولو كانت الأرض متحركة إلى المشرق لكان ينزل من مكانه إلى جانب المغرب بقدر حركة الأرض في ذلك الزمان والوجهان ضعيفان لجواز أن يشايعها الهواء في الحركة كما يقولون بمشايعة النار للفلك فلا يلزم شيء من ذلك وعمدتهم في بيان ذلك أن الأرض فيها مبدأ ميل مستقيم فلا يكون فيها مبدأ ميل مستدير
والاعتراض عليه منع وجود ذلك المبدأ فيها وهو مبني على أن ما لا ميل له لا يتحرك قسرا وقد عرفت ضعفه ثم لا نسلم تنافيهما لما بينا من اجتماعهما في العجلة والدحرجة
الشرح
المقصد السادس الأرض ساكنة وقيل صاعدة وقيل هاوية أي متحركة إلى أسفل أبدا فلا تزال الأرض تنزل في خلاء غير متناه لما في طبيعتها من الاعتماد والثقل الهابط ويبطله بيان تناهي الأبعاد التي يتصور حركة الجسم فيها سيما عند من يبطل الخلاء وأيضا لو كانت هابطة لوجب أن تصغر أجرام الكواكب في كل يوم حسنا ولو فرضت صاعدة دائما لكنا كل يوم أقرب إلى الفلك فكان يزداد عظم الكواكب في الرؤية وقيل إنها تدور متحركة على مركز نفسها من المغرب إلى المشرق خلاف الحركة اليومية التي اعتقدها الجمهور والحركة اليومية لا توجد
485

على هذا التقدير وإنما تتخيل بسبب حركة الأرض إذ يتبدل الوضع من الفلك بالقياس إلينا دون أجزاء الأرض إذ لا يتغير الوضع بيننا وبينها فإنا على جزء معين منها فإذا تحركت من المغرب إلى المشرق ظهر علينا من جانب المشرق كواكب كانت مختفية عنا بحدبة الأرض وخفي عنا بحدبتها من جانب المغرب كواكب كانت ظاهرة علينا فيظن لذلك أن الأرض ساكنة في مكانها والمتحرك هو الفلك فيكون حينئذ متحركا من المشرق إلى المغرب بل ليس ثمة فلك أطلس حتى يتحرك بالحركة اليومية على خلاف التوالي وذلك كراكب السفينة فإنه يرى السفينة ساكنه مع حركتها حيث لا يتبدل وضع أجزائها منه ويرى الشط متحركا مع سكونه حيث يتبدل وضعه منه مع ظن أنه ساكن في مكانه أي ليس متحركا أصلا لا بالذات ولا بالعرض وكذلك يرى القمر سائرا إلى الغيم حين يسير الغيم إليه وكذا يرى غيره متحركا مع سكونه أو ساكنا مع حركته من أمور قدمناها في غلط الحس وأبطلوا ذلك أي تحركها على الاستدارة كما زعمه هذا القائل بوجوه ثلاثة
الأول أن الأرض لو كانت متحركة في اليوم بليلته دورة واحدة لكان ينبغي أن السهم إذا رمي إلى جهة حركة الأرض وهي الشرق أن لا يسبق موضعه الذي رمي منه بل تسبقه الأرض وذلك لأن الأرض على ذلك التقدير تقطع في ساعة واحدة ألف ميل وفي عشر ساعة مائة ميل ولا يتصور في السهم وغيره من المتحركات السفلية حركة بهذه السرعة فيجب تخلفها عن الأرض وينبغي للسهم إذا رمي إلى خلاف جهة حركتها أن يمر عن الموضع الذي رمي منه ويتجاوزه بقدر حركته وحركة الأرض جميعا واللازم باطل لاستواء المسافة التي يقطعها السهم من الجانبين بالتجربة
الوجه الثاني الحجر يرمى إلى فوق فيعود إلى موضعه الذي رمي منه راجعا بخط مستقيم ولو كانت الأرض متحركة إلى المشرق لكان الحجر ينزل من مكانه إلى جانب المغرب بقدر حركة الأرض في ذلك الزمان الذي وقع فيه حركة الحجر صاعدا وهابطا والوجهان ضعيفان لجواز
486

أن يشايعها الهواء المتصل بها مع ما يتصل به من السهم والحجر وغيرهما في الحركة كما يقولون بمشايعة النار للفلك فلا يلزم شيء من ذلك فإن السهم حينئذ يتحرك بحركة الأرض تبعا للهواء التابع لها فلا يتجاوز موضعه الذي رمي منه في الجانبين إلا بحركة نفسه فتتساوى المسافتان وكذلك الحجر يتحرك بحركتها فلا يتجاوز موضعه الذي رمي منه بل ينزل راجعا إليه
الوجه الثالث وعمدتهم في بيان ذلك وهو الوجه الثالث أن الأرض فيها مبدأ ميل مستقيم بالطبع فلا يكون فيها مبدأ ميل مستدير فلا تكون متحركة على الاستدارة حركة طبيعية والاعتراض عليه منع وجود ذلك المبدأ فيها وهو أي وجوده فيها مبني على أن ما لا ميل له أصلا لا يتحرك قسرا وإلا كانت الحركة مع العائق الطبيعي كهي لا معه وقد عرفت ضعفه في مباحث الخلاء كما أشير إليه في مباحث الميل ثم لا نسلم تنافيهما أي تنافي الميلين حتى يلزم المنافاة بين المبدأين لما بينا من اجتماعهما في العجلة والدحرجة
المقصد السابع
المتن
ما يوازي من الأرض معدل النهار يسمى خط الاستواء والأفق يقطع المعدل وجميع المدارات اليومية فيه بنصفين فيكون الليل والنهار في جميع السنة سواء وأما في غير ذلك الموضع فيقطع المعدل بنصفين فعند كون الشمس على المعدل وهو حين ما يكون في أحد الاعتدالين في أول الليل أو النهار يتساوى الليل والنهار ويقطع سائر المدارات اليومية بنصفين مختلفين
487

أعظمهما الذي في جهة القطب الظاهر فالشمس في أي جانب كانت كان نهارهم أطول من ليلهم وفي الآخر بالعكس وفي خط الاستواء تكون الحركة اليومية دولابية وتسامت الشمس رأس أهل البلاد التي هي عليه في السنة مرتين وهي عند كونها في الاعتدالين فلهم صيفان ويكون غاية بعده عند كونها على الانقلابين فلهم شتاءان وبين كل شتاء وصيف ربيع وبين كل صيف وشتاء خريف فلهم ثمانية فصول كل فصل شهر ونصف وكذلك في المواضع التي بين خط الاستواء ومدار الانقلابين إلا أن الفصول لا تكون متساوية وفي المواضع التي تحت الانقلابين تسامت رؤوسهم مرة واحدة وفيما جاوز ذلك لا تسامت رؤوسهم بل تقرب منها وتبعد وفي المواضع التي المدار الصيفي أبدي الظهور فيها لا تغرب الشمس دورة يومية فيكون النهار أربعا وعشرين ساعة وهي حيث ما تكون الشمس في الانقلاب الصيفي وفي المواضع التي المدار الصيفي أبدي الخفاء فيها لا تطلع الشمس فيها دورة فيكون الليل أربعا وعشرين ساعة وفي المواضع التي يمر قطب البروج على سمت رؤوسهم فإذا كان على سمت الرأس تنطبق المنطقة على الأفق إذ يتحد قطبها وقطب الأفق فإذا مال القطب إلى الانحطاط ارتفع نصف المنطقة الشرقي وانحط النصف الغربي دفعة وفي المواضع التي تجاوز هذه المواضع إلى قطب العالم يكون قوس من المنطقة أبدي الظهور وقوس أبدي الخفاء وبينهما قوسان
إحداهما تطلع مستقيمة وتغرب معوجة أي تطلع أوائل البروج قبل أواخرها وتغرب أواخرها قبل أوائلها والأخرى بالعكس وفي هذه المواضع الثلاثة تكون الحركة اليومية حمائلية وحيث يكون قطب العالم على سمت الرأس ينطبق المعدل على الأفق لاتحاد قطبيهما ولكون محوره قائما على
488

الأفق تكون الحركة اليومية فيه رحوية ويكون النصف من منطقة البروج فوق الأرض دائما والنصف تحته دائما فتكون السنة كلها يوما وليلة إلا أن الشمس تدور في أربع وعشرين ساعة من موازاة نقطة معينة من الأفق إلى أن تعود إلى مثلها وتزداد ارتفاعا في ثلاثة أشهر وانحطاطا في ثلاثة أشهر حتى تغرب وتكون تحت الأرض ستة أشهر كذلك
الشرح
المقصد السابع ما يوازي من الأرض معدل النهار أي الدائرة العظيمة على سطح الأرض الكائنة في سطح معدل النهار الموازية لمحيطه يسمى خط الاستواء والأفق يقطع المعدل وجميع المدارات اليومية فيه بنصفين على قوائم لمروره بقطبي المعدل وتلك المدارات فيكون الليل والنهار هناك في جميع السنة سواء لتساوي قوسيهما الواقعة إحداهما تحت الأفق والأخرى فوقه فلا يقع بيهما تفاوت إلا باختلاف حركة الشمس في السرعة والبطء بواسطة الأوج والحضيض وذلك مما لا يحس به ولا يلتفت إليه وأما في غير ذلك الموضع الذي هو تحت المعدل فيقطع الأفق المعدل بنصفين لكن لا على قوائم لأنهما دائرتان عظيمتان لم تمر إحداهما بقطب الأخرى فعند كون الشمس على المعدل وهو حين ما يكون في أحد الاعتدالين في أول الليل والنهار يتساوى الليل والنهار ويقطع الأفق هناك سائر المدارات اليومية بنصفين أي بقسمين مختلفين أعظمهما أي أعظم القسمين هو الظاهر الذي يكون في جهة القطب الظاهر والخفي الذي يكون في جهة القطب الخفي فالشمس في أي جانب كانت من جانبي الشمال والجنوب كان نهارهم أي نهار الذين في ذلك الجانب الذي فيه الشمس أطول من ليلهم وفي الجانب الآخر يكون
489

الأمر بالعكس فإذا كانت في جانب الشمال كان ليل الجنوبيين أطول وإذا كانت في الجنوب كان ليل الشماليين أطول
وفي خط الاستواء تكون الحركة اليومية دولابية أي منتصبة غير مائلة فالكوكب المتحرك بها يرتفع عن الأفق منتصبا لا يميل إلى شمال أو جنوب ويسمى أفقه مستقيما وتسامت الشمس رأس أهل البلاد التي هي عليه أي على خط الاستواء في السنة مرتين وهي أي المسامتة مرتين عند كونها في الاعتدالين فلهم صيفان مبدأهما الاعتدالان وتكون غاية بعده أي بعد رأسهم عن الشمس عند كونها على الانقلابين فلهم شتاءان مبدأهما الانقلابان وبين كل شتاء وصيف ربيع وبين كل صيف وشتاء خريف فلهم ثمانية فصول كل فصل منها شهر ونصف وكذلك الحال في المواضع التي بين خط الاستواء ومدار الانقلابين من الجانبين فإن الشمس تسامت رؤوسهم مرتين وهي عند كونها في نقطتين من فلك البروج يساوي ميلهما في جهة البلد انحطاط المعدل من سمت رأسه وكذا فصولهم ثمانية إلا أن الفصول لا تكون متساوية في المدة وربما كانت النقطتان قريبتين جدا من أحد الانقلابين فتكونان في حكمه فيقل هناك عدد الفصول ويطول صيفهم وفي المواضع التي تحت الانقلابين تسامت رؤوسهم في السنة مرة واحدة وتكون فصولهم أربعة متساوية وفيما جاوز ذلك لا تسامت رؤوسهم بل تقرب منها في أحد الانقلابين وتبعد عنها في الآخر وفصولهم تلك الأربعة وفي المواضع التي المدار الصيفي أبدي الظهور فيها لا تغرب الشمس هناك دورة يومية فيكون النهار أربعا وعشرين ساعة وهي أي هذه الدورة حيث ما تكون الشمس في الانقلاب الصيفي ولا يخفى عليك أن في هذه المواضع أيضا يكون المدار الشتوي أبدي الخفاء فلا تطلع الشمس فيها دورة واحدة بل تكون مدتها ليلا على عكس المدار الأول فلا حاجة في ذلك إلى اعتبار
490

مواضع أخرى كما ذكره بقوله وفي المواضع التي المدار الصيفي أبدي الخفاء فيها لا تطلع الشمس فيها دورة واحدة فيكون الليل حينئذ أربعا وعشرين ساعة على أن المدار الأبدي الخفاء في موضع لا يكون مدارا صيفيا بالقياس إليه بل مدارا شتويا واعتبار كونه مدارا صيفيا في موضع آخر لا يخلو عن ركاكة وفي المواضع التي يمر قطب البروج على سمت رؤوسهم فإذا كان قطبها على سمت الرأس تنطبق المنطقة على الأفق إذ يتحد حينئذ قطبها وقطب الأفق وهما عظيمتان على كرة واحدة فإذا مال القطب أي قطب البروج بحركة الكل إلى الانحطاط نحو الغرب ارتفع عن الأفق نصف المنطقة الشرقي وانحط عنه النصف الغربي دفعة واحدة إذ حال افتراق القطبين تتقاطع العظيمتان على التناصف واعلم أن المواضع التي يكون المدار الصيفي فيها أبدي الظهور والمدار الشتوي أبدي الخفاء هي بعينها المواضع التي يمر فيها قطب البروج على سمت رؤوسها وفي المواضع التي تجاوز هذه المواضع المذكورة ولم تصل إلى قطب العالم يكون قوس من المنطقة يتوسطها الانقلاب الصيفي أبدي الظهور لا يغرب وقوس أخرى منها يتوسطها الانقلاب الشتوي أبدي الخفاء لا يطلع وبينهما من الجانبين قوسان أخريان يتوسطهما الاعتدالان إحداهما وهي التي يتوسطها أول الميزان إن كان القطب الظاهر شماليا والتي يتوسطها أول الحمل إن كان القطب الظاهر جنوبيا تطلع مستقيمة وتغرب معوجة أي تطلع أوائل البروج قبل أواخرها على الاستقامة وتغرب أواخرها قبل أوائلها على الاعوجاج والقوس الأخرى بالعكس أي تطلع معوجة وتغرب مستقيمة وفي هذه المواضع الثلاثة لفظة الثلاثة إما زائدة أو أراد بها ما بين خط الاستواء ومدار
491

الانقلابين وما تحت الانقلابين وما جاوز ذلك ولم يبلغ القطب تكون الحركة اليومية حمائلية وتسمى آفاقها مائلة وحيث يكون قطب العالم على سمت الرأس وذلك موضعان معينان على وجه الأرض ينطبق المعدل على الأفق لاتحاد قطبيهما ولكون محوره أي محور المعدل وهوالخط المستقيم الواصل بين قطبيه مارا بمركزه قائما على سطح الأفق هناك تكون الحركة اليومية فيه رحويه ويكون النصف من منطقة البروج وهو الواقع من المعدل في جهة القطب الظاهر فوق الأرض دائما والنصف والآخر منها تحته دائما ولا تكون هناك للكواكب ولا لشيء من النقط المفروضة على الفلك طلوع ولا غروب بحركة الكل بل بحركاتها الخاصة فتكون السنة كلها يوما وليلة لأن مدة قطع الشمس بحركتها النصف الظاهر من البروج نهار ومدة قطعها النصف الخفي ليل وهاتان المدتان تتفاوتان بسبب الأوج والحضيض فالنهار تحت القطب الشمالي أطول من الليل وتحت القطب الجنوبي أقصر إلا أن الشمس تدور بحركة الكل في أربع وعشرين ساعة من موازاة نقطة معينة من الأفق الذي هو المعدل إلى أن تعود إلى مثلها أي مثل تلك الموازاة لتلك النقطة وتزداد الشمس ارتفاعا عن الأفق في ثلاثة أشهر ويكون غاية ارتفاعها بمقدار الميل الكلي وتزداد انحطاطا عن غاية الارتفاع نحو الأفق في ثلاثة أشهر أخرى أيضا حتى تغرب وتكون تحت الأرض ستة أشهر كذلك أي يزداد انحطاطها عن الأفق في ثلاثة أشهر إلى غاية الانحطاط التي هي الميل الكلي ثم ترتفع عنها في ثلاثة أشهر أخرى حتى تصل إلى الأفق
المقصد الثامن
المتن
سبب الصبح كرة البخار تتكيف بالضوء لأنها تقبل نور الشمس كما تقدم والشفق مثله والحمرة التي توجد في أول الشفق وأخر الصبح
492

لتكاثف الأبخرة في الأفق وزيادة سمكها بالنسبة إلى الباصرة لأنها بقدر ربع دور الأرض وتنقص في غيرها حتى يكون بقدر غلظ البخار وقد ذكر أنه اعتبرها المهندسون فوجدوها ستة عشر فرسخا
الشرح
المقصد الثامن سبب الصبح كرة البخار تتكيف بالضور لأنها تقبل نور الشمس كما تقدم في آخر مباحث المبصرات فإذا قربت الشمس من الأفق في جانب الشرق ولم يبق من قوس انحطاطها إلا مقدار ثماني عشرة درجة على ما عرف بالتجربة استنار بضوئها البخار الكثيف الواقع في ذلك الجانب فيرى ذلك النور المتزايد بزيادة قرب الشمس وهو الصبح والشفق مثله لكنه عكسه في أن أوله كآخر الصبح وآخره كأوله هذا ما يليق بالكتاب وأما تصويرهما على ما ينبغي فليطلب من موضع آخر والحمرة التي توجد في أول الشفق وآخر الصبح إنما هي لتكاثف الأبخرة في الأفق وزيادة سمكها بالنسبة إلى الباصرة لأنها أي تلك الزيادة في غلظ الأبخرة بقدر ربع دور الأرض كما يظهر بالتخيل الصادق وتنقص تلك الزيادة في غيرها أي غير دائرة الأفق شيئا فشيئا حتى يكون تكاثف الأبخرة بقدر غلظ البخار كما بالنسبة إلى سمت الرأس وقد ذكر أنه اعتبرها أي كرة البخار المهندسون فوجدوها أي غلظها ستة عشر فرسخا أو سبعة عشر
المقصد التاسع
المتن
في الأرض تلال ووهاد لأسباب خارجية ومعدات متلاحقة لا بداية
493

لها فسال الماء بالطبع إلى الوهاد فانكشفت التلال معاشا للنبات والحيوان ولم يذكر له سبب إلا عناية الله تعالى بالحيوانات والنباتات إذ كان لا يمكن تكونها وبقاؤها إلا بذلك وهذا رجوع إلى القادر المختار فإن اختصاص جزء من البسيط باستعداد دون جزء مع استواء نسبة المعدات إليها مما لا سبيل للعقل إليه وإذا كان كذلك فمن طرح هذه المؤنات ووفق للاسترواح إليه واستناد الجميع إلى قدرته واختياره فأولئك هم المفلحون
الشرح
المقصد التاسع في الأرض تلال ووهاد لأسباب خارجية ومعدات متلاحقة لا بداية لها مستندة إلى الاتصالات الفلكية التي لا تتناهى فسال الماء بالطبع إلى الوهاد والمواضع الغائرة فانكشفت عن الماء التلال والمواضع العالية كجزيرة بارزة من وسط البحر معاشا للنبات والحيوان الذي لا يمكن أن يعيش إلا باستنشاق الهواء وهذا المنكشف هو المعمور من الأرض الذي كان حقه بمقتضى طبيعة الأرض والماء أن يكون مغمورا فيه كسائر أجزائها ولم يذكر له سبب إلا عناية الله تعالى بالحيوانات والنباتات إذ كان لا يمكن تكونها وبقاؤها إلا بذلك الانكشاف والخروج من الماء إلى الهواء وهذا الذي ذكروه رجوع إلى القادر المختار وإسناد الفعل إلى مجرد مشيئته فإن اختصاص جزء من البسيط الذي هو الأرض باستعداد دون جزء آخر منه مع استواء نسبة المعدات إليها أي إلى أجزائه مما لا سبيل للعقل إليه في معرفة سببه وإذا كان الشأن كذلك وهو أنه لا بد في الآخرة من الرجوع إلى استناد الأشياء إليه فمن طرح هذه المؤنات التي تكلفوها ووفق للاسترواح إليه واستناد الجميع إلى قدرته واختياره فأولئك هم المفلحون عن الحيرة التي ربما تؤدي إلى الضلالة
494

المقصد العاشر
المتن
قالوا في سبب تكون الجبال أن الحر الشديد يعقد الطين اللزج حجرا وتحققه التجربة وما يرى له من نموذج له في كير الخزافين ثم بتواتر السيول الحادثة من الأمطار والرياح العواصف تنحفر الأجزاء الرخوة فيظهر الحجر قليلا قليلا حتى يصير جبلا شامخا ولا يخفى أن اختصاص بعض بالصلابة وبعض بالرخاوة مع استواء النسبة إلى الفلكيات قطعا للمجاورة والملاصقة يستدعي سببا وعنده يقف العقل ويحيله على سبب من خارج فليت شعري لم لا نفعل ذلك أو لا نعم لا يبعد أن يكون ذلك بإرادة الله تعالى عند من يقول بالوسائط لا عندنا
الشرح
المقصد العاشر قالوا في سبب تكون الجبال أن الحر الشديد يعقد الطين اللزج حجرا وتحققه التجربة وما يرى له من نموذج أي نموذج له في كير الخزافين ثم تتواتر السيول الحادثة من الأمطار وتواتر الرياح العواصف تنحفر الأجزاء الرخوة فيظهر الحجر قليلا قليلا بتزايد الانحفار من جوانبه شيئا فشيئا حتى يصير جبلا شامخا
قال الإمام الرازي الأشبه أن هذه المعمورة كانت في سالف الزمان مغمورة في البحار وحصل فيها طين لزج كثير فتحجر بعد الانكشاف وحصل الشهوق بحفر السيول والرياح ولذلك كثرت فيها الجبال ومما يؤكد
495

هذا الظن أنا نجد في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف والحيات ولا يخفى أن اختصاص بعض من أجزاء الأرض بالصلابة وبعض آخر منها بالرخاوة مع استواء النسبة أي نسبة تلك الأجزاء كلها إلى الفلكيات التي زعموا أنها المعدات لها قطعا أي جزما لا يشوبه شبهة للمجاورة والملاصقة الحاصلة بين الأجزاء الصلبة والرخوة يستدعي سببا مخصصا وعنده أي عند هذا الاستدعاء يقف العقل ويحيله أي يحيل ذلك الاختصاص على سبب من خارج هو الفاعل المختار فليت شعري لم لا نفعل ذلك أو لا حذفا للمؤنة نعم لا يبعد أن يكون ذلك أي تكون الجبال ونظائرها من أسباب تكونها بإرادة الله تعالى عند من يقول من المليين وغيرهم بالوسائط لا عندنا إذ الكل مستند إليه ابتداء فلا يتصور واسطة حقيقة على رأينا
المقصد الحادي عشر
المتن
العناصر الأربعة تقبل الكون والفساد أي تخلع صورة ذلك العنصر وتلبس صورة عنصر آخر فينقلب كل إلى الآخر بعضها بلا وسط وهو كل عنصر يشارك آخر في كيفية ويخالفه في كيفية فينقلب الأرض والماء كل إلى الآخر ابتداء لاشتراكهما في البرد وذلك كما يجعل أهل الحيل الأحجار مياها سيالة وينقلب في بعض المواضع الماء حجرا صلبا كعين
496

سيهكوه وكذلك الماء والهواء لاشتراكهما في الرطوبة كما يصير الماء هواء بالتسخين وهو معنى النشف والهواء ماء بالتبريد كفي ظاهر كوز لا مسام له يوضع في الجمد حيث لا يلاقيه الجمد قطرات من الماء وكظاهر الطاس يكب على الجمد مع عدم الملاقاة وليس ذلك لأن الماء ينتقل إليه لأنه لا يصعد بالطبع وإذا لو كان كذلك كان باطن الطاس أولى به من ظاهره وكذلك النار والهواء لاشتراكهما في الحرارة كما يصير الهواء نارا في كير الحدادين ثم تنطفي فتصير هواء وبعضها بواسطة وهو حيث يختلفان في الكيفيتين كالماء والنار والهواء والأرض فإنه لا ينقلب الماء نارا ابتداء نعم قد ينقلب هواء ثم نارا وعليه فقس
وهذا كله يدل على أن هيولى العناصر مشتركة وقابلة لجميع الصور وإنما بعدها للصور المختلفة والكيفيات الأربع المتنافية ما عرض لها من القرب والبعد بالنسبة إلى الفلك وكل ما كان أقرب إليه كان أسخن وألطف وكل ما كان أبعد كان أبرد وأكثف وقد تكلمنا على مثله مرارا فلا نعيده
الشرح
المقصد الحادي عشر العناصر الأربعة تقبل الكون والفساد أي تخلع صورة ذلك العنصر وهو معنى الفساد وتلبس صورة عنصر آخر وهي معنى الكون فينقلب كل من الأربعة إلى الآخر الذي هو أحد الثلاثة الباقية فتكون الانقلابات اثنتي عشرة لكن بعضها ينقلب إلى بعض آخر بلا وسط وهو كل عنصر يشارك عنصر آخر في كيفية واحدة من كيفيتيه
497

اللتين هما من الكيفيات الأربع ويخالفه في كيفية أخرى منهما فينقلب الأرض والماء كل منهما إلى الآخر ابتداء لاشتراكهما في البرد وإن اختلفا في اليبوسة وذلك كما يجعل بعض أهل الحيل من طلاب الإكسير الأحجار مياها سيالة فإنهم يتخذون مياها حارة ويجعلون فيها أجسادا صلبة حجرية حتى تصير مياها جارية وينقلب الماء في بعض المواضع حجرا صلبا كعين سيهكوه وهي قريبة من بلدة مراغة وماؤها ينقلب حجرا مرمرا وعين غيره من المواضع وكذلك الماء والهواء ينقلب كل منهما إلى الآخر بلا وسط لاشتراكهما في الرطوبة وإن كانا متخالفين في الحرارة كما يصير الماء هواء بالتسخين وهو معنى النشف في الثياب المبلولة المطروحة في الشمس وكما يصير الهواء ماء بالتبريد كما في ظاهر كوز لا مسام له يوضع في الجمد فإنه يحدث على ظاهره حيث لا يلاقيه الجمد قطرات من الماء وكظاهر الطاس يكب على الجمد مع عدم الملاقاة بينهما فإنه تركب قطرات منه وليس ذلك لأن الماء ينتقل إليه بالرشح لأنه لا يصعد بالطبع وإذ لو كان كذلك كان باطن الطاس أولى به من ظاهره وأيضا الترشح على سبيل التصاعد أنسب بالماء الحار وكذلك النار والهواء ينقلب كل منهما إلى الآخر بلا وسط لاشتراكهما في الحرارة وإن اختلفا في اليبوسة كما يصير الهواء نارا في كير الحدادين بالإلحاح في النفخ مع سد المنافذ ثم تنطفئ النار فتصير هواء فهذه ست انقلابات بلا وسط بين المتشاركين في كيفية واحدة من كيفيتهما وبعضها ينقلب إلى بعض آخر بواسطة وهو حيث يختلفان في الكيفيتين معا كالماء والنار والهواء
498

والأرض فإنه لا ينقلب الماء نارا ابتداء لشدة تخالفهما نعم قد ينقلب هواء ثم نارا بأن ينقلب ذلك الهواء إلى النار وعليه فقس انقلاب النار ماء وانقلاب الهواء أرضا وعكسه وأنت خبير بأن ما ذكروه يقتضي أن تنقلب كل واحدة من الأرض والنار إلى الأخرى بلا واسطة لاشتراكهما في اليبوسة والمشهور أنه بواسطتين فالأولى أن يقال إن كان العنصران متجاورين كان الانقلاب بغير وسط وأن كان بينهما عنصر ثالث كان بواسطة واحدة وإن توسط بينهما اثنان فلا بد من واسطتين وهذا كله يدل على أن هيولى العناصر الأربعة واحدة مشتركة بينها وقابلة لجميع الصور العنصرية وإنما يعدها للصور المختلفة التي هي النارية والهوائية والمائية والأرضية والكيفيات الأربع المتنافية ما عرض لها من القرب والبعد بالنسبة إلى الفلك وكل ما كان أقرب إليه كان أسخن وألطف وكل ما كان أبعد كان أبرد وأكثف وقد تكلمنا على مثله مرارا فلا نعيده أي يمكن أن يقال إن اختصاص بعض من الهيولى المشتركة بالقرب وبعضها بالبعد يحتاج إلى سبب من خارج فلا بد من الرجوع إلى المختار على أنا لا نسلم تركب الأجسام من الهيولى والصورة ولا نسلم الانقلاب بين العناصر وما ذكروه من الأمثلة الدالة عليه يتطرق إليها احتمالات كثيرة
المقصد الثاني عشر
المتن
زعموا أن هذه هي الأركان التي تتركب منها المركبات ويثبتونه بطريق التحليل تارة والتركيب أخرى
فالأول أنا إذا جعلنا مركبا في القرع والأنبيق انفصل عنه أجزاء مائية وأرضية ولا شك أن ثمة أجزاء هوائية بها تخلخل الأجزاء وإلا لكان في
499

غاية الاندماج والرصانة وكان ما يحصل بالتفريق حجمه كالذي عند التركيب ولا شك أنها مختلفة بالطبع يطلب كل حيزه وذلك يوجب التفرق فلا بد من جامع يفيد طبخا ونضجا يوجب حصول مزاج يستتبع له صورة نوعية مانعة من التفرق وما هو إلا الحرارة قلنا الحرارة لا تجمع المختلفات بل تفرقها وتجمع المتماثلات ثم الحرارة القائمة بجزء لا تؤثر في الجزء الآخر إلا بمجاورة وله دوام وذلك لا بد له من سبب فلم لا يجوز أن يكون ذلك السبب سببا للاجتماع ومانعا من التفرق ابتداء ووجود الأجزاء الهوائية مما لم يتحقق وكون تلك الأجزاء ماء أو ترابا بالحقيقة غير معلوم
والثاني أنه يتكون من اجتماع الماء والأرض النبات ولا بد من هواء يتخلل وحرارة طابخة إذ لو فقد أحدهما أو لم يكن على ما ينبغي فسد الزرع ومن النبات يحصل بعض الحيوان لأنه غذاؤه ومنهما يحصل الإنسان وبعض الحيوان فالكل آيل إلى حصولها من العناصر وأنت تعلم أن ذلك استدلال بالدوران وأنه لا يفيد العلية فلم لا يجوز أن يكون بإجراء العادة
الشرح
المقصد الثاني عشر زعموا أن هذه العناصر الأربعة هي الأركان التي تتركب منها المركبات ويثبتونه بطريق التحليل
تارة والتركيب أخرى فالأول أنا إذا جعلنا مركبا في القرع والأنبيق انفصل عنه أجزاء مائية وأجزاء
500

أرضية فدل ذلك على أن هذين العنصرين كانا موجودين فيه مختلطين ففرقتهما الحرارة ولا شك أن ثمة أي في ذلك المركب أجزاء هوائية بها تخلخل الأجزاء الأرضية والمائية التي فيه وإلا لكان ذلك المركب في غاية الاندماج والرصانة ولكان ما يحصل بالتفريق من العنصرين حجمه إذا ضم بعضه إلى بعض كالذي كان للمركب عند التركيب فيثبت وجود الهواء فيه ولا شك أنها أي الأركان المذكورة الموجودة في المركب مختلفة بالطبع يطلب كل منها حيزه الطبيعي وذلك يوجب التفرق في المركب وعدم بقائه فلا بد فيه من جامع يفيده طبخا ونضجا يوجب حصول مزاج يستتبع له صورة نوعية مانعة من التفرق وما هو أي ذلك الجامع الذي يطبخ وينضج إلا الحرارة الشديدة القائمة بالنار فلا بد من وجودها فيه قلنا الحرارة لا تجمع المختلفات بل تفرقها وتجمع المتماثلات كما مر ثم الحرارة القائمة بجزء لا تؤثر في الجزء الآخر إلا بمجاورة وله أي وللجوار بينهما دوام وذلك الجوار الدائم لا بد له من سبب فلم لا يجوز أن يكون ذلك السبب سببا للاجتماع في حال بقاء المركب ومانعا من التفرق ابتداء أي بلا توسط شيء فلا يحتاج حينئذ إلى الجزء الناري وحرارته الطابخة المؤدية إلى المزاج المستتبع للصورة النوعية الحافظة للتركيب على أن اختلاط الرطب باليابس يفيده استمساكا عن التفرق فلا حاجة إلى جامع آخر وقد يقال الهواء حار فجاز أن يكون منضجا ووجود الأجزاء الهوائية في المركب مما لم يتحقق إذ يجوز أن يكون تخلخل أجزاء المركب بوقوع الخلاء فيما بينها وكون تلك الأجزاء الباقية بعد التحليل ماءا أو ترابا بالحقيقة غير معلوم لجواز أن يكون التشابه في الصورة المحسوسة دون الحقيقة
والثاني وهو التركيب أنه يتكون من اجتماع الماء والأرض والنبات وذلك ظاهر ولا بد في النبات من هواء يتخلل بين أجزائه ومن حرارة
501

طابخة إذ لو فقد أحدهما أو لم يكن على ما ينبغي فسد الزرع كما إذا ألقينا البذر في موضع لا يصل إليه الهواء وحر الشمس أو لا يكونان على ما ينبغي فإنه يفسد ولا ينبت فدل ذلك على أن النبات مركب من الأربعة ومن النبات يحصل بعض الحيوان لأنه غذاؤه ومنهما يحصل الإنسان لأنه متولد من المني المتكون من الدم المتكون من الغذاء الذي هو نبات أو حيوان وكذا يحصل منهما بعض الحيوان الذي غذاؤه منهما كالجوارح فالكل أي جميع المركبات حتى المعادن فإنها في حكم النبات آيل أي راجع إلى حصولها من العناصر الأربعة وأنت تعلم أن ذلك الذي استدلوا به على أن تكون النبات من اجتماع هذه الأربعة استدلال بالدوران وأنه لا يفيد العلية حتى يعلم أن اجتماعها سبب لتكونه منها فلم لا يجوز أن يكون تكونه في حال اجتماعها لا منها بل يخلق الله إياه من العدم في تلك الحال بإجراء العادة
المقصد الثالث عشر
المتن
طبقات العناصر سبع أعلاها النارية الصرفة ومحدبها مماس لمقعر فلك القمر وتحته نارية مخلوطة من الصرفة والهوائية ثم الزمهريرية وهي الهواء الصرف ثم البخارية وهي الهوائية المخلوطة مع المائية ثم الترية وهو ما فيه أرضية وهوائية ثم الطينية وهي أرضية مع مائية ثم الأرضية الصرفة
الشرح
المقصد الثالث عشر طبقات العناصر سبع أعلاها الطبقة النارية الصرفة ومحدبها مماس لمقعر فلك القمر وتحته أي تحت الأعلى المذكور طبقة نارية مخلوطة من النار الصرفة والأجزاء الهوائية الحارة تتلاشى
502

في هذه الطبقة الأدخنة المرتفعة وتتكون فيها الكواكب ذوات الأذناب والنيازك وما يشبهها ثم الطبقة الزمهريرية وهي الهواء الصرف الذي يرد بمجاورة الأرض والماء ولم يصل إليه أثر انعكاس الأشعة والمشهور أن هذه الطبقة منشأ السحب والرعد والبرق والصواعق فلا تكون هواء صرفا ثم الطبقة البخارية وهي الهوائية المخلوطة مع المائية ثم الطبقة الترية وهي ما فيه أرضية وهوائية ثم الطبقة الطينية وهي أرضية مع مائية ثم الطبقة الأرضية الصرفة التي هي قريبة من المركز ولم يعد الماء طبقة على حدة لأنه مع الأرض ككرة واحدة وفي طبقات العناصر أقوال مختلفة لا فائدة في الاستقصاء عنها
503

القسم الرابع في المركبات التي لها مزاج وهي الأكثر
وهو ينقسم إلى ما له نفس وإلى ما لا نفس له وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في المزاج
وفيه مقاصد
المقصد الأول
قالوا الصورة الجسمية تفعل أولا في مادتها ثم في مادة ما يجاورها فالمجاورة شرط للتفاعل وأبلغ من ذلك ما كان بالمماسة والمماسة إنما تكون بالسطح وكلما كان السطوح أكثر كانت المماسة أتم وذلك إنما هو بحسب تصغر الأجزاء والعناصر المختلفة الكيفية إذا تصغرت أجزاؤها جدا واختلطت حتى حصل التماس بين أجزائها فعل صورة كل في مادة الآخر فكثرت منه صورة كيفيته حتى نقص من حر الحار فتزول تلك الكيفية ويحصل كيفية حر أقل تستبرد بالنسبة إلى الحار وتستحر بالنسبة إلى البارد فإنها كيفية متوسطة بينهما وكذلك ينقص من برد البارد فيحصل برد أقل كما قررنا فإذا اشتد التأثير حتى حصل في جميع الأجزاء كيفية متشابهة متوسطة هي في درجة واحدة من الدرجات الغير المتناهية بالقوة التي هي بين غاية الحر وغاية البرد وحصل التشابه بينها في نفس الأمر لا أنها للمجاوزة يحس منها بكيفية متوسطة وإن كان كل واحد منها باقيا على صرافته فهذه
504

الكيفية المتشابهة تسمى مزاجا وما قبل ذلك الاجتماع يسمى امتزاجا فحد المزاج بأنه كيفية متشابهة تحصل من تفاعل عناصر متصغرة الأجزاء بحيث تكثر صورة كل صورة كيفية الآخر والإشكال عليه من وجوه
الأول لا نسلم أن التفاعل لا يكون إلا بالتماس كما تؤثر الشمس فيما يقابلها ولا تماس والمبصر ليس في الباصرة قطعا لا يقال المدعي نفي التفاعل وفيما ذكرتم من صورة النقض الفعل من جانب واحد لأنا نقول الغرض أنه لا مانع في العقل من تفاعل من غير ملاقاة كما نراه من جانب واحد وأنه يفيد هذا القدر وهو يكفينا
الثاني لم قلتم إن ثمة صورا غير الكيفيات هي الفاعلة ولم لا يجوز أن تكون الأجسام متجانسة والاختلاف بالأعراض دون الصور
فإن قلت الكيفيات كالحرارة والبرودة تشتد وتضعف دون الصور فإن كون الشيء ماء ونارا لا يقبل ذلك
قلنا مراتب الحرارة والبرودة متخالفة بالنوع فلم لا يجوز أن يقال ثمة مرتبة معينة هي النارية وما دون ذلك هوائية
الثالث الصورة إنما تفعل بواسطة الكيفية فتكون الكيفية شرطا في التأثير فيلزم اجتماع الكيفية الكاسرة مع الحادثة المنكسرة وأنه محال
الرابع الماء الحار إذا أخلط بالماء البارد كسر من برده ومن المحال أن يقال للماء صورة توجب الحرارة فعلم أن الفاعل هي الكيفية
فإن قيل نحن نطلق عليها الفاعل مجازا وإنما ذلك أعداد والكيفية المتوسطة تفيض عن مفيض هو المبدأ الفياض والمعد قد ينافي الأثر كالحركة والحصول في الطرف
505

قلنا فالنزاع عائد إلى أن المبدا فاعل مختار أو موجب بالذات وسنقيم الدلالة على أنه فاعل مختار
تنبيه على مذاهب في المزاج
الأول أنه يخلع صورة ويلبس صورة متوسطة بل يلبس صورة نوعية للمركب ويبطله ما حكيناه من حكايات القرع والأنبيق لأن اختلاف ما يظهر فيه من الأجزاء يدل على اختلاف الاستعداد فيها وهو دليل اختلاف الماهية
فإن قيل فليجز في النار الصرفة أن تحدث لها الكيفية المتوسطة فتصير لحما
قلنا المزاج شرط فيه
الثاني القول بالخليط وهو أن المركبات موجودة بالفعل وقد يجتمع أجزاء منها فيحس لها قدر وإلا فلا يحس
الشرح
القسم الرابع في المركبات التي لها مزاج وهي الأكثر من المركبات لأن ما لا مزاج له منها قليل بالقياس إلى ماله مزاج وهو أي هذا الأكثر ينقسم إلى ما له نفس إما نباتية أو حيوانية وإلى ما لا نفس له وهو المعدنيات وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في المزاج وفيه مقاصد
أي مقصدان
الأول قالوا الصورة الجسمية أي الصورة الحالة في الجسم التي هي مبدأ الآثار وهي الصورة النوعية تفعل أولا في مادتها التي حلت هي فيها ثم في مادة ما يجاورها فالصورة النارية تسخن مادتها ثم مادة ما
506

يجاورها وكذا الحال في سائر الكيفيات وباقي العناصر فالمجاورة شرط للتفاعل الواقع بين الأجسام ألا ترى أن النار لا تسخن إلا ما له وضع مخصوص وقرب معين بالنسبة إليها فإذا حصلت المجاورة بلا مماسة أمكن التفاعل بين الجسمين وأبلغ من ذلك التفاعل الحاصل بمجرد المجاورة ما كان أي التفاعل الذي كان بالمماسة التي هي الغاية في المجاورة والمماسة إنما تكون بالسطوح ولا شك في أنه كلما كان السطوح أكثر كانت المماسة بها أتم وذلك أي تكثر السطوح إنما هو بحسب تصغر الأجزاء وإذا تحققت ما صورناه لك فنقول العناصر المختلفة الكيفية التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة إذا تصغرت أجزاؤها جدا واختلطت اختلاطا تاما حتى حصل التماس الكامل بين أجزائها فعل صورة كل منها في مادة الآخر فكسرت منه صورة كيفيته المضادة لكيفيتها حتى نقص العنصر البارد بفعل صورته من حر العنصر الحار فتزول تلك الكيفية التي هي الحرارة الشديدة عن ذلك الحار ويحصل له كيفية حر أقل تستبرد هذه الكيفية الحاصلة بل محلها بالنسبة إلى الحار وتستسخن بالنسبة إلى البارد فإنه كيفية متوسطة بينهما أي بين الحرارة الصرفة والبرودة الصرفة فإذا قيست إلى إحديهما عدت من الأخرى وكذلك لا ينقص العنصر الحار بفعل صورته من برد لعنصر البارد فيحصل له برد أقل مما كان كما قررنا فإذا اشتد التأثير من الجانبين حتى حصل في جمع الأجزاء من العنصر الحار والبارد كيفية متشابهة متوسطة هي في درجة واحدة من الدرجات الغير المتناهية بالقوة لا بالفعل أعني الدرجات التي هي بين غاية الحر وغاية البرد أي هي واقعة بين هاتين الغايتين وحصل التشابه بينها أي بين الأجزاء المذكورة في نفس الأمر بأن تكون أجزاء
507

العنصر البارد موافقة في الكيفية لأجزاء العنصر الحار بلا تفاوت في الواقع فلا يكون التشابه حينئذ بحسب إدراك الحس فقط كما أشار إليه بقوله لا إنها للمجاورة يحس منها بكيفية متوسطة وإن كان كل واحد منها باقيا على صرافته في كيفيته كما يقول به أصحاب الخليط وقس على ذلك حال الأجزاء الرطبة واليابسة فإذا استقر الكل على كيفية واحدة متوسطة توسطا ما بين الكيفيات الأربع فهذه الكيفية المتشابهة تسمى مزاجا وما قبل ذلك الاجتماع المؤدي إلى الكيفية المذكورة يسمى امتزاجا واختلاطا لا مزاجا فحد المزاج بناء على ما تقرر بأنه كيفية متشابهة تحصل من تفاعل عناصر متصغرة الأجزاء المتماسة بحيث تكسر صورة كل منها صورة كيفية الآخر
قال الإمام الرازي لا شبهة في أن الشيء لا يوصف بكونه مشابها لنفسه وإنما قلنا للكيفية المزاجية أنها متشابهة لأن كل جزء من أجزاء المركب ممتاز بحقيقته عن الآخر فتكون الكيفية القائمة به غير الكيفية القائمة بالآخر إلا أن تلك الكيفيات القائمة بتلك الأجزاء متساوية في النوع وهذا معنى تشابهها وقال أيضا الكاسر ليس هو الكيفية لأن انكسار الكيفيتين المتضادتين إما معا أو على التعاقب فإن حصل الإنكساران معا والعلة واجبة الحصول مع المعلول لزم أن تكون الكيفيتان الكاسرتان موجودتين على صرافتهما عند حصول انكساريهما وهو محال وإن كان انكسار إحديهما متقدما على انكسار الأخرى لزم أن يعود المكسور المغلوب كاسرا غالبا وهو أيضا باطل فوجب أن يكون الكاسر هو الصورة التي هي مبادئ الكيفيات وأما المنكسر فليس أيضا الكيفية لأن الكيفية الواحدة بالذات لا يعرض لها الاشتداد والتنقص بل هما يعرضان لمحلها فالانكسار
508

عبارة عن زوال الكيفيات الصرفة عن تلك البسائط والإشكال عليه أي على ما قالوه من وجوه أربعة
الأول لا نسلم أن التفاعل بين الأجسام لا يكون إلا بالتماس بل قد يكون بلا تماس كما تؤثر الشمس فيما يقابلها من الأرض بالتسخين والإضاءة ولا تماس بينهما مع أنها لا تؤثر بذلك في الأجسام القريبة منها المتوسطة بينهما والمبصر ليس في الباصرة قطعا مع أنه يؤثر فيها ولا يؤثر فيما بينهما فكيف يجزم بأن الفعل والانفعال بين الأجسام لا يوجدان إلا بالتلاقي والتماس لا يقال المدعي نفي التفاعل بلا تجاوز وتماس وما ذكرتم من صورة النقض لا تفاعل إذ الفعل من جانب واحد فقط لأن الشمس وإن أفادت الأرض سخونة وضوءا لكنها لم تؤثر في الشمس شيئا أصلا وكذا المرئي أثر في العين ولم تؤثر هي فيه قطعا لأنا نقول الغرض مما ذكرناه أنه لا مانع في العقل من تفاعل من غير ملاقاة كما نراه من جانب واحد وأنه أي ما ذكرناه يفيد هذا القدر وهو يكفينا وفي المباحث المشرقية الصواب أن يترك ههنا الاحتجاج ويعول على المشاهدة فيقال الكلام إنما وقع في أجزاء الممتزج وهي لا محالة متلاقية ويشاهد أيضا أن بعضها لا يؤثر في بعض ولا يتأثر عنه إلا بالتلاقي والتماس فلا يتجه أن يقال لم لا يجوز في العقل تأثير عنصر في آخر من غير ملاقاة ومماسة فإن ذلك غير محتاج إليه فيما نحن بصدده بل الحق إن التأثير بينهما بلا تلاق محتمل وإن كان نادرا
الوجه الثاني لم قلتم إن ثمة صورا غير الكيفيات هي الفاعلة ولم لا يجوز أن تكون الأجسام متجانسة أي متماثلة في الحقيقة ويكون الاختلاف بينها بالأعراض الخارجة عن حقيقتها دون الصور المقومة
509

لها فلا تكون لها صور سوى هذه الكيفيات المتضادة فتكون هي الفاعلة لا أمرا مغايرا لها فإن قلت الكيفيات كالحرارة والبرودة تشتد وتضعف دون الصور فإن كون الشيء ماء أو نارا لا يقبل ذلك أي الاشتداد والضعف فلا يجوز أن تكون كيفيات الأجسام صورها قلنا مراتب الحرارة والبرودة متخالفة بالنوع فلم لا يجوز أن يقال ثمة مرتبة معينة من تلك المراتب هي النارية وما دون ذلك أي مرتبة أخرى معينة دون الأولى هوائية
الوجه الثالث أن يقال المحذور الذي يلزم من جعل الكيفية فاعلة لازم أيضا من نسبة الفعل إلى الصور إذ الصورة إنما تفعل أي تكسر كيفية غير مادتها بواسطة الكيفية القائمة بها فإن الصورة النارية لا تؤثر بذاتها في كسر البرودة بل بواسطة حرارتها فتكون الكيفية شرطا في التأثير فيلزم اجتماع الكيفية الكاسرة مع الحادثة المنكسرة وذلك لأن الانكسارين لا يجوز أن يكونا متعاقبين وإلا انقلب المغلوب غالبا كما مر بل يكونان معا والشرط يجب أن يكون مع المشروط فتوجد الكيفيتان الصرفتان مع الانكسارين فيلزم وجود الصرافة مع الانكسار وأنه محال لا يقال المنكسر هو المادة لا الكيفية فلا محذور لأنا نقول انكسار المادة ليس في ذاتها بل في كيفيتها
الوجه الرابع الماء الحار إذا خلط بالماء البارد يكسر الحار من برده ومن المحال أن يقال للماء صورة توجب الحرارة وتكسر البرودة بل ليس للمائين إلا صورة واحدة فعلم أن الفاعل لكسر البرودة هي الكيفية دون الصورة
فإن قيل نحن نطلق عليها أي على الصورة الفاعل مجازا لا حقيقة فإنها ليست موجدة للكيفية المنكسرة وإنما ذلك أي الحاصل من الصورة إعداد لمادة المجاور لقبول الكيفية المنكسرة وأما الكيفية
510

المنكسرة المتوسطة فإنها تفيض على المركب عن مفيض هو المبدأ الفياض المسمى عندهم بالعقل الفعال والمعد قد ينافي الأثر الصادر من الفاعل بتوسط أعداده كالحركة والحصول في الطرف من المسافة فإن الحركة معدة لذلك الحصول مع امتناع اجتماعهما وحينئذ نقول الصورة المائية بتوسط الحرارة العارضة تعد مادة الماء البارد لقبول الحرارة وإن لم تكن تقتضيها بالذات فإن هذا أهون من المنافاة بل إن جعل الكيفيات أنفسها معدة لمواد ما يضادها لم يلزم منه محال مما ذكر إذ المعد قد لا يجامع الأثر قلنا فالنزاع على هذا التقدير عائد إلى أن المبدأ فاعل مختار فلا حاجة إلى إعداد أو موجب بالذات فيتوقف تأثيره على الإعداد وسنقيم الدلالة على أنه فاعل مختار فيبطل القول بأن الصورة أو الكيفية معدة لصدور المزاج عن المبدأ
تنبيه على مذاهب في المزاج مخالفة لما مر
الأول أنه يخلع صورة ويلبس صورة متوسطة يعني أن العناصر إذا امتزجت وانفعل بعضها عن بعض أدى ذلك بها إلى أن يخلع صورها فلا يبقى لشيء منها صورته المخصوصة به ويلبس الكل حينئذ صورة واحدة هي حالة في مادة واحدة وتلك الصورة متوسطة بين الصورة المتضادة التي للبسائط
المذهب الثاني بل يلبس صورة نوعية للمركب أي ليست الصورة الملبوسة صورة متوسطة بل هي صورة أخرى نوعية فالقائل بأحد هذين القولين يوافق الجمهور بحسب الظاهر في المزاج بالمعنى المذكور سابقا لكنه يخالفهم في بقاء صور البسائط في المركبات ذوات الأمزجة ويرد عليه أن ما ذكره فساد ما وكون لا مزاج لأنه إنما يكون عند بقاء الممتزجات
511

بأعيانها ويبطله أيضا ما حكيناه من حكايات القرع والأنبيق لأن اختلافها ما يظهر فيه أي في المركب من الأجزاء يدل على اختلاف الاستعداد فيها أي في تلك الأجزاء يعني أنا إذا وضعنا فيهما المركب كقطعة لحم مثلا يميز إلى جسم مائي متقاطر وإلى كلس أرضي لا يتقاطر فدل ذلك على أن الأجزاء التي في المركب مختلفة في استعداد التقطير
وعدمه إذ لو كانت متفقة فيه لكان الكل قاطرا أو غير قاطر وهو أي اختلاف الاستعداد دليل اختلاف الماهية لأن القابلية من لوازمها واختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات وإنما لم نقل أن تلك الحكاية تدل على وجود صور البسائط في المركبات وإلا لم تنحل إليها احترازا عن أن يقال إنها تكونت بتأثير الحرارة إلا أنها كانت فيه
فإن قيل إذا كان جوهر البسائط باقيا في المركب كانت النارية موجودة فيه لكنها مفترة في حرارتها والصورة النوعية للمركب كاللحمية مثلا حاصلة في جميع أجزائه فتكون النارية التي عرض لها فتور في المركب قد صارت لحما وإذا جاز ذلك فليجز في النار الصرفة المنفردة عن أخواتها أن نحدث لها الكيفية المتوسطة أي الحرارة المفترة فتصير لحما فلا يكون إلى التركيب والمزاج حاجة في حدوث الصور النوعية التي للمركبات قلنا المزاج أي التركيب شرط فيه أي ليس مجرد الاستحالة إلى الحرارة المفترة كافيا في حصول تلك الصورة النوعية بل لا بد مع الاستحالة من التركيب على أن هذه الشبهة واردة عليكم أيضا لأن خلع البسائط صورها ولبسها صورا أخرى إنما يكون عند انتهاء كيفياتها إلى حد معين فمن الجائز أن تنتهي كيفية كل واحدة منها حال انفرادها إلى ذلك الحد حتى يفسد عنها صورتها وتحدث فيها الصورة المزاجية ولا مفر لكم أيضا سوى ما ذكرناه من اشتراط التركيب
512

المذهب الثالث وقد يجعل هذا مذهبا ثالثا نظرا إلى تفصيل المذهب الأول كما أشرنا إليه القول بالخليط وهو أن المركبات موجودة بالفعل وقد يجتمع أجزاء منها فيحس لها قدر وإلا فلا يحس فإن القائل بالخليط يزعم أن في الأجسام أجزاء على طبيعة اللحم وأجزاء على طبيعة الحنطة وأجزاء على طبيعة الذرة وهكذا وهي متصغرة مختلطة جدا فإذا اجتمع أجزاء كثيرة متجانسة أحس بها على تلك الطبيعة فليس هناك تغير في الطبيعة وكذا لا تغير في الكيفيات فالماء إذا تسخن لم يستحل في كيفيته بل كان فيه أجزاء نارية كامنة فبرزت بملاقاة النار وذهب جماعة إلى أن الأجزاء النارية لم تكن كامنة بل نفذت في الماء من خارج فهؤلاء أصحاب الغشو والنفوذ والأولون أصحاب الكمون والبروز وكلاهما ينكران الاستحالة والكون والقول بالمزاج مبني على القول بهما أما على الأول فلأن حصول المزاج باستحالة الأرقام كما عرفت وأما على الثاني فلأن النار لا تهبط على الأثير بل تتكون ههنا
المقصد الثاني
المتن
في أقسام المزاج قد علمت أن الكيفيات التي يمكن بينها الفعل والانفعال أربع الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فالمقادير منها الحاصلة في المركب إن كانت متساوية متقاومة حتى يحصل منها كيفية عديمة الميل إلى الطرفين فتكون على حاق الوسط بينهما فهو المعتدل الحقيقي
قالوا وإنه لا يوجد إذ أجزاؤه متساوية فلا يقسر بعضها بعضا على الاجتماع وطبائعها داعية إلى الافتراق فيحصل الافتراق قبل حصول الفعل والانفعال فإنه حادث يستدعي مدة فلا يحصل بينها مزاج
513

والجواب أنه ربما تقع الأجزاء بحيث تكون المائلة إلى العلو في جهة السفل وبالعكس فتتمانع فيحصل المزاج نعم يندر ذلك وأما الامتناع فلا كيف وبقاء الاجتماع قد يكون لمنفصل كأصل الاجتماع إذ السبب غير منحصر في غلبة عنصر ثم قالوا وما ليس معتدلا حقيقيا إن غلب عليه من الأجزاء والكيفيات ما ينبغي له فهو المعتدل بحسب الطب وإلا فغير المعتدل وكل من القسمين ينقسم إلى ثمانية أقسام فالمعتدل لأنه قد يعتبر بالنسبة إلى النوع والصنف والشخص والعضو وكل بالنسبة إلى الداخل والخارج فلكل نوع مزاج لا يمكن أن توجد صورته النوعية إلا معه بل له عرض ذو طرفين إذا خرج عنه لم يكن ذلك النوع فهو اعتداله وأليق أمزجته بالنسبة إلى الأنواع الخارجة عنه وله أيضا مزاج واقع فيما بين ذلك العرض هو أليق الأمزجة الواقعة به وبه يكون حاله فيما خلق له أجود وذلك اعتداله بالنسبة إلى ما يدخل فيه من صنف أو شخص وعليه قس الثلاثة الباقية
وأما غير المعتدل فلأنه إما أن يكون خارجا في كيفية ويسمى البسيط وهو أربعة حار وبارد ورطب ويابس أو في كيفيتين غير متضادتين ويسمى المركب وهو أربعة حار رطب وحار يابس وبارد رطب وبارد يابس وأما الحار البارد مثلا أو الرطب اليابس أو اجتماع ثلاث فلا يتصور لا يقال إذا كان يجب للمركب عشرة أجزاء حارة وخمسة باردة فوجد اثنا عشر حارة وستة باردة فهو أحر مما ينبغي وأبرد منه لأنا نقول الاعتبار بالكيفية المتوسطة وميلها إلى أحد الطرفين وذلك لا يكون إلا إلى طرف واحد ضرورة وأما الأجزاء فلا عبرة بعددها ومقدارها وإذا كانت الحارة ضعف الباردة أي عدد كان فالمزاج واحد
تنبيه اتفقوا على أن أعدل أنواع المركبات أي أقربها إلى الاعتدال
514

الحقيقي نوع الإنسان واختلفوا في أعدل الأصناف فقال ابن سينا سكان خط الاستواء لتشابه أحوالهم في الحر والبرد
وقال الإمام الرازي هم سكان الإقليم الرابع لأنا نرى أهله أحسن ألونا وأطول قدودا وأجود أذهانا وأكرم أخلاقا وكل ذلك يتبع المزاج
قلنا تابع للاعتدال بمعنى آخر ثم قال إنا نرى بلادا عرضها بقدر الميل الكلي مرتين يكون صيفهم كشتاء خط الاستواء ثم صيفهم في غاية الحر فكذا شتاء خط الاستواء فما ظنك بصيفهم
والجواب إن ذلك قد يكون بواسطة أوضاع أرضية فإنها تؤثر بأنواع
الأول المنخفض أحر لأنعكاس الأشعة وقلة هبوب الرياح بخلاف المرتفع
الثاني الجبل قد يعين الشعاع بعكسه وقد يمنعه وقد يعكس الريح وقد يمنعه
الثالث البحر فإن مجاورته ترطب ثم قد يسخن بصقالته وانعكاس الأشعة وقد يبرد إذا كان شماليا إذ قد يكتسب الشمال منه بردا
الرابع التربة والسبخة والكبريتية والزاجية تسخن والصخرية والرملية تحفظ الحر والبرد
الخامس الرياح فالشمال تبرد والجنوب تسخن والقبول والدبور بين بين
السادس مجاورة الآجام والأشجار والمباقل وغيرها تؤثر
515

السابع الأوضاع الواقعة في طالع البقعة والحادثة في كل وقت وإذا كان ذلك محتملا بطل الاستدلال ثم لا مانع أن يوجب بعض هذه الأمور إما مفردة أو مركبة ما هو أعدل من الاثنين
وتعرف أن أعدل الأشخاص أعدل شخص من أعدل صنف وأعدل الأعضاء عندهم الجلد سيما للأنملة سيما للسبابة ولذلك حكم طبعا في الفرق بين الملموسات والحكم ينبغي أن يكون متساوي الميل إلى الطرفين ولا يخفى أن شيئا من ذلك غير يقين
واعلم أن كلا من الثمانية قد يكون ماديا وقد يكون ساذجا وقد يكون جبليا وعرضيا
الشرح
المقصد الثاني في أقسام المزاج قد علمت أن الكيفيات التي يمكن بينها الفعل والانفعال أربع الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهذه الأربع تسمى بالكيفيات الأول لأن كل واحد من البسائط العنصرية لا يخلو عن اثنين منها كما مر وهي متضادة فيقع بين كل متضادين منها كسر وانكسار عند الامتزاج فالمقادير منها أي من الكيفيات الأربع الحاصلة في المركب إن كانت متساوية بحسب أحجام محالها متقاومة في أنفسها بحسب الشدة والضعف حتى يحصل منها كيفية عديمة الميل إلى الطرفين المتضادين فتكون حينئذ على حاق الوسط بينهما فهو المعتدل الحقيقي فقد اعتبر فيه تساوي البسائط كما وكيفا وذلك لأن امتناع وجوده كما ذهبوا إليه مبني على تساوي ميول بسائطه ولا بد فيه من تساوي كمياتها لأن الغالب في الكل الكم يشبه أن يكون غالبا في الميل وليس هذا وحده
516

كافيا في ذلك التساوي لأن الميول قد تختلف باختلاف الكيفيات مع الاتحاد في الحجم كما في الماء المغلي بالنار والمبرد بالثلج فإن ميل الثاني بسبب الكثافة والثقل اللازمين من التبريد أشد وأقوى من ميل الأول وربما يكتفي فيه باعتبار تساوي الكيفيات وحدها في قوتها وضعفها لأن ذلك هو الموجب لتوسط الكيفية الحادثة من تفاعلها في حاق الوسط بينها قالوا وأنه لا يوجد في الخارج إذ اجزاؤه متساوية في الميل إلى أحيازها متقاومة فلا يقسر بعضها بعضا على الاجتماع لامتناع أن يغلب بعض من الأمور المتساوية المتقاومة بعضا آخر منها وطبائعها داعية إلى الافتراق بالتوجه إلى أحيازها الطبيعية المختلفة فيحصل الافتراق قبل حصول الفعل والانفعال فإنه حادث يستدعي مدة معتدا لها لأنه حركة من كيفية إلى أخرى بعيدة عنها بخلاف الافتراق الذي يكفيه أدنى حركة مع كونه موجودا في كل آن من زمانها فلا يحصل بينها مزاج لتوقفه على حصول تلك الحركة وحدوثه عند انقطاعها
والجواب أنه ربما تقع الأجزاء لأسباب خارجية بحيث تكون المائلة إلى العلو كالنار والهواء في جهة السفل وبالعكس
أي وتقع الأجزاء المائلة إلى السفل كالأرض والماء في جهة العلو فتتمانع الأجزاء وتتقاوم لتساوي قواها في الميول وتبقى مجتمعة فيحصل المزاج بتفاعلها نعم يندر وجود ذلك المعتدل ولا يكون باقيا مستمرا إما لسرعة التحلل أو لسرعة غلبة بعض أجزائه على بعض وأما الامتناع فلا كيف وبقاء الاجتماع قد يكون لمنفصل كأصل الاجتماع الذي لا بد له من مقتض سوى الأجزاء إذ السبب لبقاء الاجتماع غير منحصر في غلبة عنصر وهو ظاهر ثم قالوا وما ليس معتدلا حقيقيا إن غلب عليه من الأجزاء في الكمية ومن الكيفيات في الشدة ما ينبغي له ويليق به في خواصه وآثاره كالحرارة الغالبة في الأسد لشجاعته والبرودة الغالبة في الأرنب لجبنه فهو المعتدل بحسب الطلب وهو موجود وليس مشتقا من التعادل الذي هو التساوي بل من العدل في القسمة على معنى أنه قد توفر على الممتزج من العناصر القسط
517

اللائق به في مزاجه وإلا أي وإن لم يغلب عليه ذلك بل غلب ما لا ينبغي فغير المعتدل وكل من القسمين أي المعتدل الطبي وقسيمه ينقسم إلى ثمانية أقسام فالمعتدل لأنه قد يعتبر بالنسبة إلى أمور أربعة النوع والصنف والشخص والعضو ويعتبر كل من هذه الأربعة بالنسبة إلى الداخل تارة وإلى الخارج أخرى فلكل نوع من المركبات المزاجية مزاج لا يمكن أن توجد فيه الصورة النوعية إلا معه وليس ذلك المزاج على حد واحد لا يتعداه وإلا كان جميع أفراد النوع الواحد كالإنسان مثلا متوافقة في المزاج وما يتبعه من الخلق والخلق بل له عرض فيما بين الحرارة والبرودة وبين الرطوبة واليبوسة ذو طرفين إفراط وتفريط إذا خرج عنه لم يكن ذلك النوع فهو اعتداله النوعي وأليق أمزجته بالنسبة إلى الأنواع الخارجة عنه فالمزاج الحاصل لبدن من أبدان الناس هو اللائق به من حيث أنه إنسان دون مزاج الفرس والحمار وغيرهما وذلك لأنه المناسب لآثاره المطلوبة منه حتى إذا خرج إلى شيء من هذه الأمزجة مات وله أي ولكل نوع أيضا مزاج واقع فيما بين ذلك العرض أي يكون في حاق الوسط فيما بين طرفي المزاج العرضي النوعي هو أليق الأمزجة الواقعة في ذلك العرض به وبه يكون حاله فيما خلق له من صفاته وآثاره المختصة به أجود ما يتصور منه وذلك اعتداله النوعي بالنسبة إلى ما يدخل فيه من صنف أو شخص فالاعتدال النوعي المقيس إلى الخارج يحتاج إلى النوع في وجوده ويكون حاصلا لكل فرد من أفراده على تفاوت مراتبه والمقيس إلى الداخل يحتاج إليه النوع في أجودية كمالاته ولا يكون حاصلا إلا لأعدل شخص من أعدل صنف من ذلك النوع ولا يكون أيضا حاصلا له إلا في أعدل حالاته وعليه أي على ما ذكرنا من حال الاعتدال النوعي قس الثلاثة الباقية
518

فالاعتدال الصنفي بالقياس إلى الخارج هو الذي يكون لائقا بصنف من نوع مقيسا إلى أمزجة سائر أصنافه وله عرض ذو طرفين هو أقل من العرض النوعي إذ هو بعض منه وإذا خرج عنه لم يكن ذلك الصنف وبالقياس إلى الداخل هو المزاج الواقع في حاق وسط هذا العرض وهو أليق الأمزجة الواقعة فيما بين طرفيه بالصنف إذ به يكون حاله أجود فيما خلق لأجله ولا يكون حاصلا إلا عدل شخص منه في أعدل حالاته سواء كان هذا الصنف أعدل الأصناف أو لا والاعتدال الشخصي بالنسبة إلى الخارج هو الذي يحتاج إليه الشخص في بقائه موجودا سليما وهو اللائق به مقيسا إلى أمزجة الأشخاص الآخرين من صنفه وله أيضا عرض هو بعض من العرض الصنفي وبالنسبة إلى الداخل هو الذي يكون به الشخص على أفضل حالاته والاعتدال العضوي مقيسا إلى الخارج ما يتعلق به وجود العضو سالما وهو اللائق به دون أمزجة سائر الأعضاء وله أيضا عرض إلا أنه ليس بعضا من العرض الشخصي ومقيسا إلى الداخل وهو الذي ينبغي للعضو حتى يكون على أحسن أحواله وأكمل أزمانه وأما غير المعتدل فلأنه إما أن يكون خارجا عما ينبغي في كيفية واحدة ويسمى البسيط وهو أربعة حار وبارد ورطب ويابس أو يكون خارجا عنه في كيفيتين غير متضادتين ويسمى المركب وهو أيضا أربعة حار رطب وحار يابس وبارد رطب وبارد يابس وأما الحار البارد مثلا أو الرطب اليابس أي خروج المركب عما هو حقه في كيفيتين متضادتين أو اجتماع ثلاث أو أربع من تلك الكيفيات فلا يتصور إذ يلزم اجتماع المتضادين لا يقال إذا كان يجب أن للمركب عشرة أجزاء حارة وخمسة باردة فوجد اثنا عشر حارة وستة باردة فهو أحر مما ينبغي وأبرد منه وقس على ذلك الأجزاء الرطبة واليابسة والازدواجات العقلية لأنا نقول الاعتبار فيما ليس معتدلا طبيا إنما هو بالكيفية المتوسطة وميلها إلى أحد الطرفين المتضادين وذلك أي ميلها لا يكون
519

إلا إلى طرف واحد منهما ضرورة أي إذا مالت الكيفية المتوسطة عما ينبغي فإما أن تميل عنه إلى جانب الحرارة فقط أو إلى جانب البرودة فقط إذ ميلانها إليها معا محال بديهة وكذا الحال في الرطوبة واليبوسة وأما الأجزاء فلا عبرة فيما نحن فيه بعددها ومقدارها بل مداره على النسبة بينهما وإذا كانت الأجزاء الحارة ضعف الباردة أي عدد كان فالمزاج واحد فإذا فرض أن الاعتدال الطبي مبني على هذه النسبة فالأجزاء الحارة إذا كانت عشرة إلى غير ذلك من الأعداد التي توجد فيها هذه النسبة وما قيل من أن المعتدل هو الذي وفر عليه قسطه الذي ينبغي له من العناصر بكمياتها وكيفياتها معناه رعاية النسبة بين كمياتها في العدد وكيفياتها في القوة والضعف وحينئذ بطل ما توهمه الكاتبي من أن الخارج عن المعتدل بحسب الطب لا ينحصر في ثمانية ثم أنه ادعى ان الخروج إذا قيس إلى الاعتدال الحقيقي انحصر أقسامه في الثمانية وفيه أيضا بحث لأن الحقيقي اعتبر فيه تساوي الكميات والكيفيات معا على ما عرفت فالخارج عنه في الكيفية وحدها ثمانية وتبقى هناك أقسام أخر بحسب الكمية وحدها أو بحسبهما معا نعم إذا اكتفى في المعتدل الحقيقي باعتبار التساوي في الكيفيات فقط انحصر ما يقابله في ثمانية أيضا
تنبيه اتفقوا على أن أعدل أنواع المركبات أي أقربها بحسب المزاج إلى الاعتدال الحقيقي نوع الإنسان لأن النفس الإنسانية أشرف وأكمل ولا يخل في إفاضة المبدأ بل هي بحسب استعدادات القوابل فاستعداد الإنسان بحسب مزاجه أشد وأقوى فيكون إلى الاعتدال الحقيقي أقرب واختلفوا في أعدل الأصناف من نوع الإنسان فقال ابن سينا أعدل أصنافه سكان خط الاستواء لتشابه أحوالهم في الحر والبرد وذلك
520

لتساوي ليلهم ونهارهم أبدا فتكسر كل واحدة من هاتين الكيفيتين الحادثتين منهما بالأخرى ولأن الشمس تلبث على سمت رؤوسهم كثيرا بل تمر به حال اجتيازها عن إحدى الجهتين إلى الأخرى وهناك حركتها في الميل عن المعدل أسرع ما يكون فلا تشتد حرارة صيفهم ولا تبعد الشمس عن سمت رؤوسهم إلا بمقدار الميل الكلي فلا يكون بردهم أيضا شديدا فيكون مزاجهم أقرب إلى الاعتدال الحقيقي إذا لم تعرض هناك أسباب أرضية مضادة كالجبال والبحار
وقال الإمام الرازي هم سكان الإقليم الرابع لأنا ترى أهله أحسن ألوانا وأطول قدودا وأجود أذهانا وأكرم أخلاقا وكل ذلك المذكور من الكمالات البدنية والنفسية يتبع المزاج واعتداله فيكون مزاجهم أعدل قلنا ما ذكرته تابع للاعتدال بمعنى آخر هو الاعتدال الطبي لا الاعتدال الحقيقي الذي كلامنا فيه وليس هذا الجواب بشيء لأن مزاج الإنسان كما مر أقرب إلى الاعتدال الحقيقي فإذا كان مزاج هؤلاء أكبر توفرا لما ينبغي للمزاج الإنساني كان أقرب إليه وأعدل لا محالة
ثم قال الإمام إنا نرى بلادا عرضنا بقدر الميل الكلي مرتين يكون صيفهم كشتاء خط الاستواء في بعد الشمس عن سمت الرأس ثم صيفهم في غاية الحر فكذا شتاء خط الاستواء يكون في غاية الحر فما ظنك بصيفهم وشدة حره فيكون مزاجهم مائلا إلى الحرارة ويدل عليه شدة سواد سكانها من أهل الزنج والحبشة وشدة جعودة شعورهم
والجواب أن ذلك الحر في صيف تلك البلاد قد يكون بسبب طول
521

نهارهم ومكث الشمس فوق أفقهم كثيرا وقد يكون بواسطة أوضاع وأحوال أرضية فإنها تؤثر في التسخين والتبريد بأنواع
الأول المنخفض من الأرض أحر من المرتفع لانعكاس الأشعة وقلة هبوب الرياح فيه بخلاف المرتفع
الثاني الجبل المجاور للبلد قد يعين الشعاع بعكسه كما إذا كان في المغرب أو في أحد جانبي الشمال والجنوب وقد يمنعه كما إذا كان في جانب المشرق وقد يعكس الجبل الريح وقد يمنعه فيختلف بذلك حال الحر والبرد
الثالث البحر فإن مجاورته ترطب قطعا ثم قد يسخن البحر بصقالته وانعكاس الأشعة منه وقد يبرد إذا كان شماليا إذ قد يكتسب الشمال منه بردا
الرابع الترية والسبخة والكبريتية والزاجية تسخن والصخرية والرملية تحفظ الحر والبرد
الخامس الرياح فالشمال تبرد لمرورها على بلاد باردة فيها ثلوج ومياه متجمدة وتجفف أيضا ليونتها إذ لا تمر بالمياه لأن أكثر البحور في جانب الجنوب لا تخالطها الأبخرة الكثيرة والجنوب تسخن وترطب بعكس ما مر والقبول والدبور بين بين
السادس مجاورة الآجام والأشجار والمباقل وغيرها من المعادن تؤثر في الهواء تأثيرا يناسبها
السابع الأوضاع الواقعة في طالع البقعة من اجتماع كواكب فيه تقتضي سخونتها أو برودتها والأوضاع الحادثة في كل
وقت بالقياس إلى
522

تلك البقعة كمرور بعض الكواكب بسمت رأسها وذكر في كليات القانون أن من التغيرات التابعة للأمور السماوية مثل أن يجتمع كثير من الدراري في جزء واحد من الفلك إما وحدها أو مع الشمس فيوجب ذلك إفراط التسخين فيما تسامته من الرؤوس أو تقرب منه وإذا كان ذلك الذي ذكرناه محتملا بطل الاستدلال لجواز أن يكون الحر في صيف تلك البلاد لبعض هذه الأسباب لا لمجرد قرب الشمس من سمت رؤوسها فلا يلزم أن يكون شتاء خط الاستواء مثله في الحرارة إذا كان خاليا عن الأسباب المذكورة ثم لا مانع من جهة العقل أن يوجب في بعض المواضع التي ليس من خط الاستواء ولا من الإقليم الرابع بعض هذه الأمور أي في بعض الأوضاع الأرضية إما مفردة أو مركبة ما هو أي مزاجا صنفيا هو أعدل من الاثنين أي مزاجي سكان الاستواء والإقليم الرابع ولما ذكر أعدل الأنواع وأعدل الأصناف أشار إلى أعدل الأشخاص وأعدل الأعضاء بقوله وتعرف أنت على قياس أعدل الأصناف أن أعدل الأشخاص النوعية أعدل شخص من أعدل صنف وأما أعدل الأعضاء فهو عندهم الجلد سيما الجلد الذي للأنملة سيما الذي للسبابة ولذلك حكم جلد الأنملة السبابة أو جلد الأنامل طبعا في الفرق بين الملموسات والحاكم ينبغي أن يكون متساوي الميل إلى الطرفين ليحكم بالعدل ولا يخفى على الفطن أن شيئا من ذلك الذي ذكروه من حال الجلد غير يقيني إذ لا دلالة قاطعة عليه وحديث التحكيم إقناعي
واعلم أن كلا من الأمزجة الثمانية الخارجة عن الاعتدال قد يكون ماديا بأن يغلب على البدن خلط يغلب عليه كيفية فتخرجه عن
523

الاعتدال الذي هو حقه إلى تلك الكيفية كأن يغلب مثلا عليه البلغم فيخرجه إلى البرودة أو الصفراء فتخرجه إلى الحرارة وقد يكون ساذجا بأن يخرج عن الاعتدال لا بمجاورة خلط نافذ فيه بل بأسباب خارجية أوجبت ذلك كالمبرد بالثلج والمسخن بالشمس وقد يكون كل واحد منها جبليا خلق البدن عليه وعرضيا عرض له بعد اعتداله في جبلته
524

الفصل الثاني فيما لا نفس له من المركبات
المتن
وتسمى المعادن وتنقسم إلى قسمين منطرقة وغير منطرقة
القسم الأول المنطرقة وهي الأجساد السبعة المتكونة من اختلاط الزيبق والكبريت المتكونين من الأبخرة والأدخنة وتختلف باختلاطهما على مزاج معد لذلك الاختلاف فإنهما إن كانا صافيين وتم الطبخ فإن كان الكبريت الأبيض فالحاصل الفضة وأن كان أحمر وفيه قوة صباغة فهو الذهب وإن عقده البرد قبل تمام الطبخ فهو الخارصيني وكأنه ذهب فج وإن كان صافيا والكبريت رديئا محرقا فهو النحاس وإن كانا غير جيدي المخالطة فالرصاص وإن كانا رديئين فإن قوي التركيب بينهما والالتئام فهو الحديد وإلا فهو الأسرب وأنت خبير بأن القسمة غير حاصرة وإن التكون على هذا الوجه لا سبيل فيه إلى اليقين ولا يرجى فيه إلا الحدس
525

والتخمين وإن سلم فتكونها على غير هذا الوجه مما لم يقم على امتناعه دليل كيف والمهوسون بالكيمياء لهم في الأجساد والأرواح تفنن والكل عندنا للفاعل المختار
القسم الثاني غير المنطرقة وعدم انطراقها إما للين كالزيبق أو لا وحينئذ إما أن تنحل بالرطوبات كالأملاح والزاجات أو لا كالطلق والزرنيخ
الشرح
فيما لا نفس له من المركبات المزاجية وتسمى المعادن وتنقسم إلى قسمين منطرقة أي قابلة لضرب المطرقة بحيث لا تنكسر ولا تتفرق بل تلين وتندفع إلى عمقها فتنبسط وغير منطرقة أي لا تقبل ذلك
القسم الأول المنطرقة وهي الأجساد السبعة الذهب والفضة والرصاص والأسرب والحديد والنحاس والخارصيني المتكونة من اختلاط الزيبق والكبريت المتكونين من الأبخرة والأدخنة فإن الزيبق بخارية أي مائية صافية جدا خالطها دخانية كبريتية لطيفة مخالطة شديدة بحيث لا ينفصل منه سطح إلا ويغشاه من تلك اليبوسة شيء فلذلك لا يعلق باليد ولا ينحصر انحصاره بشكل ما يحويه ومثاله قطرات الماء الواقعة على تراب في غاية اللطافة فإنه يحيط بالقطرة سطح ترابي حاصر للماء كالغلاف له بحيث يبقى القطرة على شكلها في وجه التراب وإذا تلاقى قطرتان منها فربما ينخرق الغلافان ويصير الماءان في غلاف واحد وبياض الزيبق لصفاء المائية وبياض الأرضية وممازجة الهوائية والكبريت دخانية تخمر بها بخارية تخمر شديدا بالحر حتى حصل فيها دهنية ثم انعقدت بالبرد وتختلف هذه السبعة باختلاطهما على
526

مزاج معد لذلك الاختلاف فإنهما إن كانا صافيين وتم الطبخ أي انطباخ الزيبق بالكبريت فإن كان الكبريت مع صفائه ونقائه أبيض فالحاصل الفضة وإن كان أحمر وفيه قوة صباغة لطيفة غير محرقة فهو أي الحاصل الذهب وإن كانا نقيين وفي الكبريت الأحمر قوة صباغة لكن عقده البرد قبل تمام الطبخ فهو الخارصيني وكأنه ذهب فج أين نيئ لم يبلغ تمام النضج وإن كان الزيبق صافيا والكبريت رديئا محرقا فهو النحاس وإن كانا أي الزيبق النقي والكبريت الردئ غير جيدي المخالطة فالرصاص وإن كانا رديئين فإن قوي التركيب بينهما والالتئام فهو الحديد وإلا أي وإن لم يقو التركيب بينهما مع ردائتهما فهو الأسرب ويسمى الرصاص الأسود وأنت خبير بأن القسمة غير حاصرة لجواز أن يكونا صافيين مع بياض الكبريت ويعقده البرد قبل تمام النضج وأن يكون الكبريت صافيا والزيبق رديئا أو بالعكس ولا يكون الكبريت محرقا إلى غير ذلك من الاحتمالات العقلية وإن التكون أي تكون الأجساد منهما على هذا الوجه لا سبيل فيه إلى اليقين ولا يرجى فيه إلا الحدس والتخمين بإمارات ضعيفة مثل قولهم يدل على أن الزيبق عنصر المنطرقات أنها عند الذوبان تكون مثل الزيبق أما الرصاص فظاهر وأما غيره فلأنه عند الذوب زيبق أحمر ويدل عليه أيضا أن الزيبق يعلق بهذه الأجساد وأنه يمكن أن يعقد برائحة الكبريت حتى يكون مثل الرصاص فإن أصحاب الإكسير يعقدون الزيبق بالكباريت انعقادات محسوسة فيحصل لهم ظن بأن الأمور الطبيعية مقارنة للأحوال الصناعية وإن سلم تكونها منهما وأنه على هذا الوجه فتكونها من غيرهما أو منهما على غير هذا الوجه مما لم يقم على امتناعه دليل كيف والمهوسون بالكيمياء لهم في الأجساد السبعة والأرواح التي تفيد الصورة الذهبية والفضية تفنن لأنهم لا يقتصرون على اختلاط الكبريت والزيبق والكل عندنا للفاعل المختار بلا إحالة على شيء مما ذكروه كما مر مرارا
527

القسم الثاني غير المنطرقة من المعادن وعدم انطراقها إما للين وفرط الرطوبة كالزيبق أو لا وحينئذ إما أن تنحل بالرطوبات كالأملاح والزاجات أو لا تنحل كالطلق والزرنيخ وفي المباحث المشرقية لأن أجسام المعدنية إما قوية التركيب وحينئذ إما أن يكون منطرقا وهو الأجساد السبعة أو غير منطرق إما لغاية رطوبته كالزيبق أو لغاية يبوسته كالياقوت ونظائره إما ضعيفة التركيب فإما أن تنحل بالرطوبة وهو الذي يكون ملحي الجوهر كالزاج والنوشادر والشب أو لا تنحل وهو الذي يكون دهني التركيب كالكبريت والزرنيخ وفيه أيضا أن الأجساد السبعة متشاركة في أنها أجسام ذائبة صابرة منطرقة فالذائب يميزها عن الأكلاس والأحجار التي لا تذوب والصابر عما يذوب ويتنجز كالشمع والقير والمنطرق عما ليس بمنطرق كالزجاج والميناء
فإن قيل الحديد لا يذوب وإن كان يلين قلنا يمكن إذابته بالحيلة ويمتاز الذهب عن أخواته بالصفرة والرزانة والفضة بالبياض والرزانة بالقياس إلى ما سوى الذهب
528

الفصل الثالث في المركبات التي لها نفس
وفيه مقدمة وثلاثة أقسام
المقدمة
في تعريف النفس وهي ثلاث
الأولى النباتية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من حيث يتغذى وينمو فالكمال جنس وبأول يخرج الكمالات الثانية كتوابع الأول من العلم والقدرة وبالجسم يخرج كمال المجردات وبالطبيعي يخرج الصناعي كالسرير والكرسي وبالآلي العناصر إذ لا يصدر عنها أفعالها بواسطة الآلات ومنهم من رفع طبيعي صفة للكمال احترازا عن الكمال الصناعي وبالحيثية كل كمال لا يلحق من هاتين الحيثيتين
الثانية الحيوانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يحس ويتحرك بالإرادة
الثالثة الإنسانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من حيث يعقل الكليات ويستنبط بالرأي
وإن أردنا تعريف النفس مطلقا قلنا كمال أول الجسم طبيعي آلي من جهة ما يتغذى وينمو أو يحس ويتحرك بالإرادة أو
يعقل الكليات ويستنبط بالرأي وقد يعبر عنها بلازم واحد وهو من حيث أنه ذو حياة بالقوة
529

تنبيهات
الأول أنا نشاهد أجساما يصدر عنها آثار لا على نهج واحد كما ذكرنا وليس ذلك للجسمية المشتركة للتخلف فهي لمباد غير جسميتها وتسمى نفسا فالنفس من حيث هي مبدأ الآثار قوة وبالقياس إلى المادة التي تحملها صورة وإلى طبيعة الجنس التي بها يتحصل كمال وتعريفها بالكمال أولى من الصورة إذ هي المنطبعة في المادة والناطقة ليست كذلك لكنها كمال للبدن كما أن الملك كمال للمدينة ولأنه مقيس إلى النوع وهو أقرب إلى طبيعة الجنس من المادة التي يقاس إليها الصورة كيف والمادة يتضمنها النوع من غير عكس وكذا من القوة لأنها للانفعال ولقوة الفعل ليست بمعنى واحد ولأن القوة اسم لها من حيث هي مبدأ الآثار وهو بعض جهاته والكمال اسم لها من حيث يتم بها الحقيقة فتعرفه من جميع جهاته
الثاني النفس في بعض الأشياء قد تتبرأ عن البدن لكن لا يتناوله اسم النفس إلا باعتبار تعلقها به وقد يكون للشيء باعتبار ذاته اسم وباعتبار تعلقه اسم آخر فإذا أردنا تعريفه من الجهة الثانية فلا بد أن نأخذ فيه المضاف إليه وهي وإن لم تكن ذاتية لها في جوهرها فهي ذاتية من جهة التسمية
الثالث هذا الحد لا يتناول النفوس الفلكية لما عرفت أنا أعطيناها اسم النفس من حيث تختلف أفعالها والفلكية ليست كذلك ولا نعلم رسما يتناولها فإنا لو قلنا مبدأ للأفعال كان كل قوة كالطبيعة نفسا ولو شرطنا القصد خرجت النباتية
530

الشرح
الفصل الثالث في المركبات التي لها نفس وفيه مقدمة وثلاثة أقسام
المقدمة في تعريف النفس وهي ثلاث
الأولى النفس النباتية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من حيث يتغذى وينمو فالكمال جنس يتناول المحدود وغيره لأنه عبارة عما يتم به النوع إما في ذاته ويسمى كمالا أولا ومنوعا كصورة السرير مثلا فإنها كمال للخشب السريري لا يتم السرير في حد ذاته إلا بها وأما في صفاته كالبياض فإنه كمال للجسم الأبيض لا يكمل في صفته إلا به ويسمى كمالا ثانيا وبأول يخرج عن الحد الكمالات الثانية المتأخرة عن تحصل النوع في نفسه كتوابع الكمال الأول المحصل للنوع من العلم والقدرة وغيرهما من الصفات المتفرعة على تحصل الأنواع في ذواتها وبالجسم يخرج عنه كمال المجردات أي منوعها وبالطبيعي يخرج الجسم الصناعي أي يخرج صور الأجسام الصناعية كالسرير والكرسي فإن صورتهما لا تسمى نفسا وبالآلي يخرج العناصر أي صورها إذ لا يصدر عنها أفعالها بواسطة الآلات وكذلك الصور المعدنية فلفظ آلي يجوز رفعه على أنه صفة لكمال أول أي كمال ذو آلة ويجوز جره على أنه صفة لجسم أي جسم مشتمل على الآلة وهذا أظهر وعلى التقديرين فليس المراد بالآلي أن يكون الجسم ذا أجزاء متخالفة فقط بل وأن يكون أيضا ذا قوى مختلفة كالغاذية والنامية وغيرهما فإن آلات النفس بالذات هي القوى ويتوسطها الأعضاء ومنهم من رفع طبيعي صفة للكمال احترازا عن الكمال
531

الصناعي فإن الكمال الأول قد يكون صناعيا يحصل بصنع الإنسان كما في السرير والصندوق وقد يكون طبيعيا لا مدخل لصنعه فيه
قال الإمام الرازي وقد جعل بعض المتأخرين الطبيعي صفة للكمال الأول هكذا النفس كمال أول طبيعي لجسم آلي وزعم أن الكمال الأول قد يكون طبيعيا كالقوى التي هي مبادي الآثار وقد لا يكون كالتشكيلات الصناعية وهذا أقرب وبالحيثية يخرج كل كمال لا يلحق من هاتين الحيثيتين يعني أن قوله من حيث يتغذى وينمو يدل على أن النفس النباتية ليست كمالا أول للجسم المذكور مطلقا بل من الحيثية المذكورة فيخرج به عن الحد كل كمال لا يلحقه من هذه الحيثية كالنفس الحيوانية والإنسانية
الثانية النفس الحيوانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يحس ويتحرك بالإرادة
الثالثة النفس الإنسانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من حيث يعقل الكليات ويستنبط بالرأي وفوائد القيود في هذين الحدين قد ظهرت مما مر هذا إذا عرفنا كل واحدة من النفوس الثلاث على حدة وإن أردنا تعريف النفس مطلقا أي بحيث يتناول جميع ما ذكرناه قلنا النفس كمال أول لجسم طبيعي آلي ما يتغذى وينمو ويحس ويتحرك بالإرادة أو يعقل الكليات ويستنبط بالرأي فإن هذا الترديد راجع إلى أقسام المعرف ومتناول إياها والتحقيق أنه بحسب المعنى تعريفات ثلاثة لتلك الأقسام مع وجازة في العبارة وقد يعبر عنها أي عن الحيثيات المذكورة على سبيل الترديد بلازم واحد شامل لها وهو من حيث أنه ذو حياة بالقوة
532

فيقال النفس كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة فقيد آلي احتراز عن صور العناصر والمعادن فإنها وإن كانت كمالات أولية أجسام طبيعية إلا أنها غير آلية كما مر ويخرج به أيضا النفوس الفلكية على رأي من ذهب إلى أن لكل فلك من الأفلاك نفسا وأما على رأي من ذهب إلى أن النفوس للأفلاك الكلية فقط والأفلاك الجزئية كالخارج والتدوير بمنزلة آلات لها فلا تخرج به فاحتيج إلى القيد الأخير لتخرج عن التعريف على المذهبين وذلك لأن النفوس الفلكية وإن كانت كمالات أولية أجسام طبيعية آلية لكنها ليس يصدر عنها أفاعيل الحياة بالقوة بل يصدر عنها ما يصدر من أفاعيل الحياة كالحركة الإرادية مثلا دائما بخلاف النفوس الحيوانية فإن أفعالها قد تكون بالقوة إذ ليس الحيوان في التغذية والتنمية وتوليد المثل والإدراك والحركة دائما بل قد يكون كل واحد من هذه الأفعال فيه بالقوة وكذا حال النفس الإنسانية بالقياس إلى تعقل الكليات والاستنباط بالآراء وحال النفس النباتية بالنسبة إلى ما يصدر عنها فمعنى قوله ذي حياة أنه يصدر عنه بعض أفاعيل الحياة ومعنى قوله بالقوة أن ذلك الصدور لا يكون بالفعل دائما وفسرهما الإمام الرازي بقوله أي من شأنه أن يحيا بالنشو ويبقى بالغذاء وربما يحيا بالإحساس والتحريك
تنبيهات على فوائد يتحقق بها المرام في هذا المقام
الأول أنا نشاهد أجساما يصدر عنها آثار لا على نهج واحد كما ذكرنا من الحس والحركة والتغذي والنمو وتوليد المثل وليس ذلك الصدور عنها للجسمية المشتركة بين الأجسام كلها للتخلف أي تخلف تلك الآثار عن الأجسام الأخر المشاركة إياها في الجسمية فهي أي تلك الآثار لمباد في تلك الأجسام غير جسميتها وليست هذه المبادي أجساما وإلا عاد الكلام فيها بل هي قوى متعلقة بالأجسام وتسمى نفسا فالنفس لها اعتبارات ثلاثة وأسماء بحسبها فإنها من حيث هي مبدأ الآثار المذكورة قوة وبالقياس إلى المادة التي تحملها صورة وبالقياس إلى طبيعة الجنس التي بها يتحصل ويتكمل كمال وتعريفها أي تعريف النفس
533

بالكمال أولى من الصورة إذ هي أي الصورة هي المنطبعة الحالة في المادة والنفس الناطقة ليست كذلك لأنها مجردة فلا يتناولها اسم الصورة إلا مجازا من حيث أنها متعلقة بالبدن ويقوم به إمكانها قبل وجودها لكنها مع تجردها في ذاتها كمال للبدن كما أن الملك كمال للمدينة باعتبار التدبير والتصرف وإن لم يكن فيها ولأنه أي الكمال مقيس إلى النوع وهو أي النوع أقرب إلى طبيعة الجنس لصحة الحمل بينهما من المادة التي تقاس إليها الصورة إذ لا حمل بينهما ولا شك أن وضع المنسوب إلى ما هو أقرب إلى الجنس مكانه أولى من وضع المنسوب إلى ما ليس أقرب كيف أي كيف لا يكون تعريفها بالكمال أولى والمادة يتضمنها النوع من غير عكس فإذا دل بالكمال على النوع فقد دل ضمنا على المادة بخلاف ما إذا دل بالصورة على المادة إذ لا دلالة حينئذ على النوع فالدلالة الأولى أكمل من الثانية وكذا تعريف النفس بالكمال أولى من القوة لأنها للانفعال وللقوة الفعل ليست بمعنى واحد يعني أن لفظة القوة تطلق بالاشتراك اللفظي على معنيين قوة الفعل وقوة الانفعال وللنفس قوة الادراك وهي انفعالية وهو التحريك وهي فعلية وليس اعتبار إحديهما أولى من اعتبار الأخرى ولا يجوز اعتبارها معا فيفسد الحد بخلاف لفظ الكمال فإنه يتناولهما بمعنى واحد فلا محذور فيه ولأن القوة اسم لها أي للنفس من حيث هي مبدأ الآثار وهو بعض جهاته أي جهات هذا المعرف فتعرفه من هذه الجهة فقط والكمال اسم لها من حيث يتم بها الحقيقة النوعية المستتبعة لآثارها فتعرفها من جميع جهاته ولا ريب في أن تعريف الشيء بجميع جهاته أولى من تعريفه ببعضها
التنبيه الثاني النفس في بعض الأشياء كالإنسان قد تتبرأ عن البدن بأن تكون مجردة غير حالة فيه لكن لا يتناوله اسم النفس إلا باعتبار تعلقها به حتى إذا انقطع ذلك التعلق أو قطع النظر عنه لم يتناوله اسم النفس إلا
534

باشتراك اللفظ بل الاسم الخاص بها حينئذ هو العقل وقد يكون للشيء باعتبار ذاته وجوهره اسم وباعتبار تعلقه وإضافته إلى غيره اسم آخر فإذا أردنا تعريفه من الجهة الثانية فلا بد أن يأخذ فيه المضاف إليه وهي أي الأمور المضاف إليها وإن لم تكن ذاتية لها أي للأشياء التي أريد تعريفها في جوهرها فهي ذاتية لها من جهة التسمية
وتوضيحه ما في المباحث المشرقية من أن الشيء قد يكون له في ذاته وجوهره اسم يخصه وباعتبار إضافته إلى غيره اسم آخر كالفاعل والمنفعل والأب والابن وقد لا يكون له اسم إلا باعتبار إضافته إلى غيره كالرأس واليد والجناح فمتى أردنا أن نعطيها حدودها من جهة أسمائها بما هي مضافة أخذنا الأشياء الخارجة عن جواهرها في حدودها لأنها ذاتيات لها بحسب الأسماء التي لها تلك الحدود
التنبيه الثالث هذا الحد الذي ذكروه للنفس على الإطلاق لا يتناول النفوس الفلكية لأن أفعالها إن لم تكن بالآلات كما هو المشهور فقد خرجت عن التعريف بقيد الآلي وإن كانت بالآلات كما ذهب إليه جمع فقد خرجت عنه بقيد ذي حياة بالقوة على ما مر وكذا لا يتناولها الحد المستفاد مما ذكرناه في التنبيه الأول لما عرفت أنا أعطيناها اسم النفس من حيث يختلف أفعالها والنفوس الفلكية ليست كذلك فإن أفعالها غير مختلفة بل هي على نهج واحد والاختلافات المشاهدة فيها مستندة إلى تركب حركات كل واحدة منها على وتيرة واحدة ولا نعلم رسما يتناولها أي ويتناول النفوس الثلاث معا عن النباتية والحيوانية والفلكية فإنا لو قلنا النفس ما يكون مبدأ للأفعال أي ما يصدر عنه فعل كان كل قوة كالطبيعة العنصرية والصورة المعدنية نفسا ولو شرطنا مع صدور الفعل القصد خرجت النفس النباتية والحاصل أن الاكتفاء بصدور الفعل يبطل طرد الحد واعتبار اختلاف الأفعال يخرج النفوس الفلكية واعتبار القصد يخرج النباتية فلم يتحقق عندنا رسم صحيح يتناول النفوس الثلاث فإطلاق النفس على النفوس الأرضية والسماوية ليس إلا بحسب الاشتراك اللفظي
وهذا وقد صرح ابن سينا في الشفاء بأن كل ما يكون مبدأ لصدور
535

أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة فإنا نسميه نفسا وهذا المعنى مشترك بين النفوس كلها لأن ما يكون مبدأ لأفاعيل موصوفة بما ذكر إما أن يكون مبدأ لأفاعيل مختلفة وهو النفس الأرضية أعني النباتية والحيوانية أو يكون مبدأ لأفاعيل على وتيرة واحدة لكن لا تكون عادمة للإرادة بل واجدة لها وهي النفس الفلكية فقد علمنا رسما يتناولها بأسرها
536

القيء وجد آخر ما يخرج بالقيء الحلو وليس إلا لجذب المعدة له إلى قعرها وإذا تناول مرا كريها فالمريء والمعدة يرومان نفضه ولفظه ولا يزدردانه إلا بعسر فربما اندفع بالقيء لا اختياره
الثالث قد تصعد المعدة لجذب الغذاء في بعض الحيوان كالتمساح حتى تخرج
الرابع الرحم بعد الطمث إذا خلا عن الفضول يشتد شوقه إلى المني حتى يحس كأنه يجذب الإحليل إلى داخل جذب المحجمة الدم
الخامس الدم يكون في الكبد مخلوطا بالفضلات الثلاث ثم تتمايز وينصب إلى كل عضو نوع من الرطوبة يليق به فلولا أن في كل عضو قوة جاذبة لتلك الرطوبة لامتنع ذلك
الثانية الهاضمة وهي تعد الغذاء لأن يصير جزءا بالفعل فهي غير الغاذية أعني صيرورتها جزءا بالفعل وهي استحالات ما بين تمام فعل الجاذبة وابتداء حصول فعل الغاذية التي هي كون ما ويمكن أن يقال المحرك إلى مشابهه العضو هو القوة الموصلة إليه كيف والمراد بالقوة هنا المعدة والمفيض واهب الصور والهاضمة هي المفيدة للاستعدادات المختلفة بالقوة والضعف التي من جملتها ما يعد لفيضان الصورة العضوية وتلك مغنية عن قوة أخرى في الأعضاء ولذلك لم يذكر جالينوس الغاذية وقال ابن سينا الغاذية أربع الأربع منها
واعلم أن الهاضمة كما تعد الغذاء الصالح للجزئية تعد الفضل منه للدفع بترقيق الغليظ وتغليظ الرقيق وتقطيع اللزج إما بذاتها كما في
538

الجوارح أو بمخالطة رطوبة كما في الآدمي وأكثر الحيوانات ثم للهضم مراتب أربع
الأولى في المعدة بأن تجعل الغذاء كيلوسا وهو جوهر كماء الكشك الثخين في بياضه وقوامه وهذه المرتبة تبتدئ في الفم لاتصال سطحه بسطح المعدة ولذلك تفعل الحنطة الممضوغة في إنضاج الدماميل ما لا تفعله المطبوخة منها
الثانية في الكبد فإن الغذاء إذا اندفع كثيفة إلى الأمعاء للدفع انجذب لطيفه من المعدة ومنها إلى الكبد بطريق ماسا ريقا وهي عروق صلبة ضيقة كالمصفاة فينطبخ فيها وتتميز الأخلاط الأربعة وذلك لأن الأجزاء اللطيفة النارية منه تتجاوز نضجه ولخفته يعلوها كالرغوة وهي الصفراء فيها حرافة والكثيفة الأرضية إما لطبعها وإما لشدة احتراقها وصيرورتها إلى طبيعة الرماد يرسب فيها كالعكر وهي السوداء وفيها حموضة وما يبقى بينهما منه ما قد تم نضجه وهو الدم وهو حلو ومنه ما هو فج يعد كأنه دم غير تام النضج وهو البلغم وفيه حلاوة ما وكلما كان أقرب إلى النضج كان أحلى وكل واحد من هذه الأربعة إما طبيعي وإما غير طبيعي وذلك إما لتغير مزاجه في نفسه ولها أسماء يعرفها الأطباء لسنا لبيانها
الثالثة في العروق فإن الأخلاط الأربعة تندفع في العروق مختلطة وفيها يتميز ما يصلح غذاء لكل عضو فيصير مستعدا لأن تجذبه جاذبة العضو
الرابعة في الأعضاء فإن الغذاء إذا سلك في العروق الكبار إلى الجداول ثم إلى السواقي ثم إلى الرواضع ثم إلى العروق الليفية ترشح من
539

فوهاتها على الأعضاء وحصل لها في الأعضاء كل عضو التشبه به التصاقا وقد يخل به كفي الذبول ولونا وقد يخل به كفي البرص والبهق وفي القوام وقد يخل به كفي الاستسقاء اللحمي
تنبيهان
الأول أن لكل مرتبة من مراتب الهضم فضلا فللأولى الثقل وللثانية البول والمرتان السوداء والصفراء وللثالثة الرطوبة المائية المندفعة بالبول والأبخرة التي تصير عرقا وللرابعة المني ولذلك يضعف استفراغ القليل منه ما لا يضعف مثله استفراغ أضعافه من الدم
الثاني الغذاء ما يقوم بدل ما يتحلل من الشيء بالاستحالة إلى نوعه ويقال لما هو غذاء بالفعل وبالقوة القريبة والبعيدة والمشهور أن البسيط لا يصير غذاء ولا برهان عليه
الثالثة الماسكة وهي التي تمسك الغذاء ريثما تفعل فيه الهاضمة فعلها ويثبتها في المعدة احتواؤها على الغذاء من كل الجوانب وإن قل الغذاء بحيث ليس بينهما فضاء وإذا ضعفت المعدة لم يحصل وإن كثر الغذاء حصلت القراقر وبالتشريح نشاهده وفي الرحم احتواؤها على الزرع بحيث لا ينزل وكذلك في الأعضاء
وبالجملة فلما رأينا الرقيق والثقيل الذي من شأنه النزول لا ينزل وخلافه الذي ليس من شأنه النزول ينزل علمنا أن ثمة قوة ماسكة
الرابعة الدافعة إما للغذاء المهيأ للعضوي إليه وإما للفضل عنه ويجده كل أحد من نفسه عند التبرز كأن معدته وأمعاءه تنتزع ويدل عليه القيء من غير اختيار وما نراه في المعدة من الانتزاع عن موضعها وسائر الاستفراغات البحرانية وغيرها
540

تنبيه إثبات تعدد القوى وتغايرها بناء على أصلهم من أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وإلا جاز أن يستند الكل إلى قوة واحدة وقد ثبت ضعفه ثم شرطه عدم تعدد الآلات والقوابل وأنه غير معلوم وما يقال إنا نرى العضو قويا في إحداها وضعيفا في الأخرى فهما متغايران ضعيف لجواز أن يكون ذلك لضعف الآلة واختلاف فيها ثم من تأمل في عجائب الأفعال الحادثة في عالم الطبيعة البالغة من الإتقان أقصى الغاية وكان راجعا إلى فطنة وإنصاف باقيا على فطرة الله التي فطر الناس عليها لم يعم بصيرته التقليد ولم يكن أسيرا في مطمورة الوهم علم بالضرورة أنها لا يمكن أن تستند إلى قوى بسيطة عديمة الشعور سيما ما يحدث من الصور في الرحم وما يفاض من الصور والقوى على تلك المادة المتشابهة الأجزاء وما يراعى فيها من مصالح قد تحيرت فيها الأوهام وعجزت عن إدراكها الأفهام قد بلغ المدون منها كما علم خمسة آلاف وما لا يعلم أكثر وعلم علما ضروريا لا يشوبه ريبة ولا يحتمل النقيض بوجه أنها لا تصدر إلا عن عليم خبير حكيم قدير كما نطق به الكتاب في عدة مواضع في معرض الاستدلال على أن في الاعتراف بالفاعل المختار لمندوحة عن كثير من هذه التمحلات التي يكذبها العقل الصريح ويأباها الذهن الصحيح ولا يقبلها طبع سليم ولا يذعن لها ذهن مستقيم * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) *
تنبيهان
الأول قالوا وهذه الأربع تخدمها الكيفيات الأربع فأشد القوى حاجة إلى الحرارة الهاضمة ثم الجاذبة ثم الدافعة ثم الماسكة وأشد القوى حاجة إلى اليبوسة الماسكة ثم الجاذبة ثم الدافعة والهاضمة لا حاجة لها إلى اليبس بل إلى
الرطوبة
541

الثاني قد تتضاعف هذه القوى في بعض الأعضاء فالمعدة فيها جاذبة إليها ما يصلح لها وجاذبة لغذاء البدن من خارج
وبالجملة فقد تفعل تارة للإعداد وتارة للاغتذاء وكذا كثير من الأعضاء
الشرح
القسم الأول في النفس النباتية سلك في ذكر النفوس أولا وبيان قواها ثانيا طريقة الترقي من الأدنى إلى الأعلى فقدم النفوس النباتية وقواها تسمى طبيعية بناء على أن الطبيعة تطلق على ما يفعل بغير إرادة وهذه القوى تشترك فيها النباتات والحيوانات كلها وهي أربع مخدومة لأربع أخرى خادمة لها منها أي من الأربع المخدمة اثنتان يحتاج إليهما البقاء الشخصي وتكميله في ذاته وهي أي القوة المحتاج إليها لأجل الشخص الغاذية والنامية والقياس المنمية إلا أنه روعي المزاوجة فأسند الفعل إلى السبب فالغاذية التي لا بد منها في بقاء الشخص مدة حياته تشبه الغذاء بالمتغذي أي تحيل جسما آخر إلى مشاكلة الجسم الذي تغذوه بدلا لما يتحلل عنه فيتم فعلها بأمور ثلاثة
الأول تحصيل الخلط الذي هو بالقوة القريبة من الفعل شبيه بالعضو وقد يخل به عند عدم الغذاء في نفسه أو لضعف الجاذبة
الثاني الألزق وهو أن يلصق ذلك الحاصل بالعضو ويجعله جزءا منه بالفعل وقد يخل به كما في الاستسقاء اللحمي فإن الغذاء فيه منبري عن العضو ولذلك يصير البدن مترهلا أي مسترخيا
الثالث أن يجعله بعد الإلصاق شبيها به من كل جهة حتى في قوامه
542

ولونه وقد يخل به كما في البرص والبهق وقد يثبت وقوفها أي وقوف الغاذية عن فعلها ضرورة الموت وحينئذ لفساد المزاج بأن القوى الجسمانية متناهية في آثارها كما تقدم وفي بعض النسخ وقد يثبت وقوفها بضرورة الموت وبأن القوى الجسمانية يعني أن ضرورة الموت تدل على وقوفها أيضا وإنما كان ضروريا لأن الرطوبة الغريزية تنتقص بعد بنفس الوقوف وذلك أن الحرارة الغريزية والحرارة الخارجة والحركات النفسانية والبدنية تتعاضد في تحليلها حتى تنحل بالكلية فتغلب اليبوسة والرطوبة الغريبة وتنطفئ الحرارة الغريزية كانطفاء المصباح عند انتفاء الدهن وغلبة الماء ويحل الموت والنامية التي لا بد منها في وصول الشخص إلى كماله تداخل الغذاء بين الأجزاء فتضمه إليها فتزيد في الأقطار الثلاثة بنسبة طبيعية أي تزيد في تلك الأقطار بنسبة تقتضيها طبيعة ذلك الشخص الذي له تلك القوة إلى غاية ما هي غاية النشو في ذلك الشخص ثم تقف عن فعلها لا كالورم فإنه ليس على النسبة الطبيعية بل خارج عن المجرى الطبيعي والسمن فإنه قد يكون بعد حال النشو أيضا كالورم وقد مر ما قيل من أن السمن لا يكون إلا في قطرين ومن أنه مخصوص باللحم وما في حكمه دون الأعضاء الأصلية كالعظم ونظائره وذلك أي بيان وقوف النامية أنه لما كان البدن متولدا من الدم والمني فهو في الأول رطب في الغاية فيتأتى حينئذ نفوذ الغذاء بين أجزائه بسهولة ثم يجف يسيرا يسيرا ويتعسر النفوذ قليلا ونفوذ الغذاء لا يكون إلا بتمدد الأعضاء فإذا جفت الأعضاء جفافا كاملا لم تقبل ذلك التمدد فلم يتصور نفوذ الغذاء فيها فوقفت النامية عن فعلها ضرورة وهل تبطل حينئذ بالكلية أو تبقى ذاتها فيه تردد والغاذية عدم النامية بتحصيل ما يتعلق به وهو ما زاد من الغذاء على بدل ما يتحلل فإذا ساواه الغذاء أو نقص عنه فات محل فعل النامية قالوا والغاذية في الأعضاء متخالفة الماهية فإن غاذية العظم تحيل الغذاء إلى ما يشبهه وكذا غاذية اللحم وسائر الأعضاء فلو اتحدت طبائعها لاتحدت افعالها ومنها أي من الأربع المخدومة اثنتان يحتاج إليهما لبقاء النوع فقط مع كون بقائه محتاجا إلى الأوليين أيضا بتوسط الشخص وهما المولدة والمصورة فالمولدة تفصل من
543

الغذاء بعد الهضم الأخير ما يصلح أن يكون مادة للمثل أي لمثل ذلك الشخص الذي فصلت منه البذر وهي في كل البدن كما ذهب إليه أبقراط وأتباعه فإن المني عندهم يخرج من جميع الأعضاء فيخرج من العظم مثله ومن اللحم مثله وعلى هذا فالمني متخالف الحقيقة متشابه الامتزاج لأن الحس لا يميز بين تلك الأجزاء وعند أرسطو أن تلك القوة لا تفارق الأنثيين فيكون المني المتولد هناك متشابه الحقيقة وفي كليات القانون أن المولدة نوعان نوع يولد المني في الذكر والأنثى ونوع يفصل القوى التي في المني أي الكيفيات المزاجية لأن أجزاءه متخالفة الأمزجة فيمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو فيخص للعصب مزاجا خاصا وكذا للعظم والشريان وغيرهما وذلك من مني متشابه الأجزاء أو متشابه الامتزاج ومصورة وهي توجد في المني عند كونه في الرحم خاصة تفيد تلك الأجزاء أي الأجزاء المتخالفة الحقيقة أو الاستعداد التي في المني الصور والقوى والأشكال والمقادير التي بها تصير مثلا بالفعل بعد ما كانت مثلا بالقوة وهاتان القوتان أعني المولدة والمصورة تخدمهما الغاذية وهو ظاهر والنامية أيضا وذلك بأن تعظم الأعضاء وتوسع مجاريها حتى تصير إلى الهيئة الصالحة للتوليد ولذلك لا يتكون المني إلا بعد عظم الأعضاء وهذه الأربع تخدمها أربع أخرى جعلها خادمة للأربع السابقة كلها لأنها تخدم الغاذية الخادمة للنامية مع كونهما خادمتين للباقيتين كما مر
الأولى الجاذبة وهي التي تجدب المحتاج إليه من الغذاء وتدل على وجودها وجوه خمسة
544

الأول حركة الغذاء من الفم إلى المعدة ليست طبيعية وإلا لامتنع تحركه إلى جهة العلو بل كان يجب أن يتحرك إلى السفل وحده لكونه ثقيلا والتالي باطل إذ قد يزدرد أي يبتلع المنتكس الغذاء ابتلاعا تاما وحينئذ تكون حركته إلى علو ولا إرادية أما من الغذاء فإذ لا شعور له فلا يتصور منه إرادة وأما من المغتذي فإذ قد ينقلب الغذاء من الفم إلى المعدة عند شدة الحاجة إليه بلا إرادة من المغتذي بل قد يريد الإنسان منعه ليمضغه فيغلبه الغذاء وينجذب إلى داخل فوجب أن تكون قسرية فلا بد من قاسر وهو إما دفع من فوق بأن يقال الحيوان يدفعه باختياره وقد ظهر بطلانه وأما جذب من تحت وهو أن تجذبه المعدة بقوة جاذبة فيها وهو المطلوب
الوجه الثاني أنه متى تغذى الإنسان بغذاء ثم يتناول بعده شيئا حلوا واستعمل القيء وجد آخر ما يخرج بالقيء الحلو وليس ذلك إلا لجذب المعدة له أي للحلو إلى قعرها بواسطة محبتها إياه طبعا وإذا تناول الإنسان دواء مرا كريها فالمري والمعدة يرومان نفضه ولفظه ولا يزدردانه إلا بعسر فربما اندفع بالقيء بلا اختياره
الوجه الثالث قد تصعد المعدة لجذب الغذاء في بعض الحيوان القصير المري كالتمساح حتى تخرج عند الاغتذاء بحيث تلاقي فمه لكونه واسعا وما ذلك إلا لشوقها إلى اجتذاب الغذاء فدلت هذه الوجوه الثلاثة على أن في المعدة قوة جاذبة
الوجه الرابع الرحم بعد انقطاع الطمث عن قريب إذا خلا عن
545

الفضول يشتد شوقه إلى المني حتى يحس كأنه يجذب الإحليل إلى داخله جذب المحجمة الدم إلى داخلها وقد سمى بعضهم الرحم حيوانا مشتاقا المني فثبت بهذا الوجه وجود الجاذبة في الرحم
الوجه الخامس الدم يكون في الكبد مخلوطا بالفضلات الثلاث أعني البلغم والصفراء والسوداء ثم تتمايز تلك الأمور المختلطة وينصب إلى كل عضو نوع من الرطوبة يليق به فلولا أن في كل عضو قوة جاذبة لتلك الرطوبة اللائقة به لامتنع ذلك التمايز وانصباب كل رطوبة إلى عضو على حدة دائما أو أكثريا وهذه حجة واضحة على وجود القوة الجاذبة في جملة الأعضاء
الثانية من الأربع الخادمة الهاضمة وهي تعد الغذاء إلى أن يصير جزءا بالفعل من العضو فهي غير الغاذية أعني صيرورتها أي أعني القوة التي تقتضي صيرورة الأغذية جزءا بالفعل من الأعضاء وفي كليات القانون وأما الهاضمة فهي التي تحيل ما جذبته الجاذبة وأمسكته الماسكة إلى قوام مهيئا لفعل القوة المغيرة فيه وإلى مزاج صالح للاستحالة إلى الغذائية بالفعل
قال الإمام الرازي هذا الكلام نص في أن القوة الهاضمة غير القوة الغاذية ويؤيده أنه جعل الغاذية مخدومة للقوى الأربع التي منها الهاضمة فلنتكلم في الفرق فنقول إذا جذبت جاذبة عضو شيئا من الدم وأمسكته ماسكته فللدم صورة نوعية وإذا صار شبيها بالعضو فقد بطلت عنه هذه الصورة وحدثت صورة أخرى عضوية فهناك كون للصورة العضوية وفساد للصورة الدموية وإنما يحصلان إذا كان هناك من الطبخ ما لأجله ينتقص استعداد المادة للصورة الدموية ويشتد استعدادها للصورة العضوية إلى أن تزول عنها الأولى وتحدث فيها الأخرى فههنا حالتان إحداهما سابقة وهي تزايد استعداد قبول الصورة العضوية والأخرى لاحقة وهي حصول هذه الصورة فالحالة الأولى فعل القوة الهاضمة والثانية فعل القوة الغاذية وهذا معنى قوله وهي أي الهضم الذي هو فعل الهاضمة استحالات ما واقعة بين تمام فعل الجاذبة وابتداء حصول فعل الغاذية التي هي كون ما أعني حصول الصورة العضوية
546

ثم اعترض الإمام عليه أولا بما أشار إليه المصنف بقوله ويمكن أن يقال المحرك إلى مشابه العضو هو القوة الموصلة إليه وتقريره على ما في المباحث المشرقية أن القوة الهاضمة محركة للغذاء في الكيف إلى الصورة المشابهة لصورة
العضو وكل ما حرك شيئا إلى شيء آخر فهو الموصل إلى ذلك الآخر فيكون الفاعل للفعلين قوة واحدة أما الصغرى فظاهرة إذ لا معنى للهضم إلا التحريك عن الصورة الغذائية إلى الصورة العضوية وأما الكبرى فظاهرة أيضا لأن ما حرك شيئا إلى شيء كان المتوجه إليه غاية للمحرك والمعنى بكونه غاية أن المقصود الأصلي هو فعل ذلك الشيء وقد اعترف ابن سينا بذلك حيث احتج على أن بين كل حركتين سكونا فقال محال أن يكون الواصل إلى حد ما واصلا إليه بلا علة موجودة موصولة ومحال أن تكون هذه العلة غير التي أزالت عن المستقر الأول هذا كلامه وهو يقتضي أنه لما كان المزيل عن الصورة الدموية هو الهاضمة وجب أن يكون الموصول إلى العضوية أيضا الهاضمة فهي الغاذية لا غير واعترض ثانيا بما ذكره المصنف بقوله كيف والمراد بالقوة هنا المعدة للمادة لفيضان الصورة عليها والمفيض لها وهو واهب الصور والقوة الهاضمة هي المفيدة بطبخها ونضجها للاستعدادات المختلفة بالقوة أي الشدة والضعف التي من جملتها ما يعد المادة لفيضان الصورة العضوية وتلك القوة المفيدة لهذه الاستعدادات مغنية عن قوى أخرى في الأعضاء لأنه إذا تم الإعداد وكمل الاستعداد فاضت الصورة وتمت التغذية فإذن لا فرق بين الهاضمة والغاذية ولذلك لم يذكر جالينوس في شيء من كتبه الغاذية سوى هذه الأربع التي سميناها الخوادم
وقال ابن سينا بل المسيحي على ما في المباحث الغاذية أربع وعد
547

هذه الأربع منها والأظهر أن يقال وعد الهاضمة منها حيث قال في باب القوى والأفعال والأرواح من كتاب المائة الغاذية أربع الجاذبة والماسكة والهاضمة وهي التي تغير الغذاء وتجعله شبيها بالعضو المغتذي والرابعة الدافعة
واعلم أن الغذاء مركب من جوهرين أحدهما صالح لأن يشبه بالمغتذي والثاني غير صالح له وإن الهاضمة كما تعد الغذاء الصالح للجزئية على ما مر تعد الفضل الذي لا يصلح للتشبيه منه أي من الغذاء للدفع بترقيق الغليظ حتى يندفع وتغليظ الرقيق فإنه قد ينتشر به جرم العضو لرقته فلا تندفع تلك الأجزاء المتشربة فيه فإذا غلظ لم يتشربه العضو واندفع بالكلية وتقطيع اللزج فإنه يلتزق بالعضو فلا يندفع إلا إذا قطع والإعداد الصادر من الهاضمة إما بذاتها كما في الجوارح مثل البازي فإن حرارتها تذيب الغذاء الوارد عليها بلا احتياج إلى ماء وفي الحية فإنها ربما تأكل التراب وتجعله كيلوسا من غير استعانة بماء وفي الجمل فإنه يأكل أياما نباتا يابسا ولا يشرب ماء أو بمخالطة رطوبة مائية كما في الآدمي وأكثر الحيوانات ثم للهضم الذي هو فعل الهاضمة مراتب أربع
الأولى في المعدة بأن تجعل الغذاء كيلوسا وهو جوهر كماء الكشك الثخين في بياضه وقوامه وهذه المرتبة تبتدئ في الفم لاتصال سطحه بسطح المعدة حتى كأنهما سطح واحد على طريقة السطح الباطن من القرع الذي له عنق طويل ورأس مدور ولذلك تفعل الحنطة الممضوغة في إنضاج الدماميل ما لا تفعله المطبوخة منها ولا المدقوقة المخلوطة بالريق فدل ذلك على استحالة كيفيتها بالمضع
المتربة الثانية في الكبد فإن الغذاء بعد ما صار كيلوسا إذا اندفع
548

كثيفة إلى الأمعاء للدفع انجذب لطيفه من المعدة ومنها أي ومن تلك الأمعاء التي اندفع إليها الكثيف مختلطا باللطيف إلى الكبد بطريق ماساريقا وهي عروق دقاق صلبة ضيقة تجاويفها واصلة بين الكبد وآخر المعدة وجميع الأمعاء كالمصفاة قالوا وإذا اندفع إلى ماساريقا صار إلى العرق المسمى باب الكبد وهو عرق كبير يتشعب كل واحد من طرفيه إلى شعب كثيرة دقيقة فشعب طرفه الخارجي يتصل فوهاتها بفوهات الماساريقا وشعب طرفه الآخر تتصغر وتتضاءل وتدق جدا في الانشعاب والانقسام وتنفذ في الكبد بحيث لا يخلو شيء من أجزائه عن شعب هذا العرق فإذا نفذ لطيف الكيلوس فيها صار كل الكبد ملاقيا لكله فينطبخ فيها أي في الكبد انطباخا تاما ويصير كيموسا وتتميز الأخلاط الأربعة المتولدة هناك بعضها عن بعض وذلك لأن الأجزاء اللطيفة النارية منه أي ما كان من أجزائه لطيفا فيه نارية أي حرارة ويبس تتجاوز نضجه وتميل إلى الاحتراق ولخفته يعلوها أي ولخفة ما يجاوز نضجه يعلو سائر الأجزاء الغذائية كالرغوة وهي الصفراء فيها حرافة لما مر من أن فاعل الحرافة الحرارة المفرطة وحاملها الجسم اللطيف قالوا والطبيعي من الصفراء رغوة الدم وسببه الفاعلي هو الحرارة المعتدلة وأما المحترق منها ففاعله الحرارة النارية في الغاذية والأجزاء الكثيفة الأرضية أي التي فيها برودة ويبس إما لطبعها وإما لشدة احتراقها وصيرورتها إلى طبيعة الرماد يرسب فيها أي في الأجزاء الغذائية كالعكر وهي السوداء وفيها حموضة قالوا والطبيعي من السوداء عكر الدم وطعمه بين الحلاوة والعفوصة وما ينصب منها إلى فم المعدة ليدغدغها وينبه على الجوع حامض أعفص وسببه الفاعلي حرارة معتدلة وأما المحترق فيها ففاعله حرارة مجاوزة عن الاعتدال والسبب المادي للسوداء هو الشديد
549

الغليظ القليل الرطوبة من الأغذية وما يبقى بينهما أي بين الرغوة والعكر منه ما قد تم نضجه وهو الدم وهو حلو أي مائل إلى الحلاوة فيكون حلوا بالقياس إلى المرتين ومنه ما هو فج أي نيئ لم يطبخ انطباخا تاما بعد كأنه دم غير تام النضج وهو البلغم وفيه حلاوة ما لكونه دما غير نضيج وكلما كان البلغم أقرب إلى النضج كان أحلى لزيادة قربه حينئذ من الدم وكل واحد من هذه الأربعة إما طبيعي وإما غير طبيعي وذلك أعني كونه غير طبيعي إما لتغير مزاجه في نفسه عن الاعتدال الواجب له الذي به يصلح لأن يصير جزءا من الأعضاء وإما لمخالطة مخالط إياه من أخلاط أخر غير طبيعية أو رطوبة غريبة ترد عليه من خارج ولها أي للأخلاط الغير الطبيعية أسماء يعرفها الأطباء لسنا ههنا لبيانها فإن اشتبهت أن تعرف تفاصيلها فارجع إلى الكتب الطبية
المرتبة الثالثة في العروق فإن الأخلاط الأربعة بعد تولدها في الكبد تنصب إلى العرق الثابت من جانبه المحدب المسمى بالأجوف المقابل للعرق الثابت من مقعره المسمى بالباب ثم تندفع الأخلاط في العروق المتشعبة من الأجوف مختلطة بعضها بعض وفيها تنهضم الأخلاط انهضاما تاما فوق ما كان لها في الكبد وهناك يتميز ما يصلح غذاء لكل عضو عضو فيصير مستعدا لأن تجذبه جاذبة العضو
المرتبة الرابعة في الأعضاء فإن الغذاء إذا سلك في العروق الكبار إلى الجداول ثم منها إلى السواقي ثم إلى الرواضع ثم إلى العروق الليفية ترشح الغذاء من فوهاتها أي فوهات الليفية الشعرية على الأعضاء وحصل لها في الأعضاء كل عضو أي حصل غاذية كل عضو للأغذية المترشحة عليها التشبه به التصاقا وقد يخل به كفي الذبول ولونا وقد يخل به كفي البرص والبهق وفي القوام وقد يخل به كفي الاستسقاء
550

اللحمي والصواب الموافق للمباحث المشرقية ما قدمناه من أن الإخلال في الاستسقاء اللحمي بالالتصاق وفي الذبول في تحصيل بدل ما يتحلل وفي البرص والبهق في التشبه من حيث القوام والماهية
تنبيهان
الأول أن لكل مرتبة من مراتب الهضم فضلا لا يصلح أن يصير جزءا من المغتذي فيحتاج إلى دفعة فللأولى التي في المعدة الثفل الذي يندفع من طريق الأمعاء وللثانية التي في الكبد البول وهو الأكثر والباقي المرتان السوداء والصفراء المندفعتان من الطحال والمرارة وللثالثة التي في العروق الرطوبة المائية المندفعة بالبول والأبخرة التي تصير عرقا وجعل البول فضلة للمرتبة الثالثة مخالف لما في المباحث المشرقية والمشهور فيما بين الأطباء وللرابعة المني ولذلك أي ولكونه فضلا للهضم الأخير المعد لصيرورة الغذاء جزءا من المغتذي بالفعل بل من أعضائه الأصلية المتكونة من المني يضعف استفراغ القليل منه ما لا يضعف مثله أي مثل ذلك الإضعاف استفراغ أضعافه من الدم أو سائر الأخلاط وذلك لأن استفراغه يورث وهنا في جواهر الأعضاء الأصلية المتولدة من المني دون غيره من الأخلاط
التنبيه الثاني الغذاء ما يقوم بدل ما يتحلل من الشيء بالاستحالة إلى نوعه ويقال لما هو غذاء بالفعل وبالقوة القريبة والبعيدة هذه العبارة توهم أن للغذاء معاني أربعة وعبارة الإمام الرازي في كتابيه هكذا الغذاء هو الذي يقوم بدل ما يتحلل عن الشيء بالاستحالة إلى نوعه وقد يقال له غذاء وهو يعد بالقوة غذاء كالحنطة ويقال له غذاء إذا لم يحتج إلى غير الالتصاق في الانعقاد ويقال له غذاء عندما صار جزءا من المغتذي تشبيها به بالفعل فقوله وقد يقال له تفصيل لما قبله بلا شبهة فلو كان بالفاء لكان أظهر ولم يشتبه على أحد أن معانيه ثلاثة والمشهور فيما بين
551

الأطباء أن البسيط لا يصير غذاء للحيوان ولا برهان عليه بل فيه إشكال إذ لا شك أن النبات يجذب الماء إلى نفسه ويصير ذلك الماء جزءا منه فلم لا يجوز مثله في الحيوان
الثالثة من الأربع الخادمة الماسكة وهي القوة التي تمسك الغذاء ريثما تفعل فيه الهاضمة فعلها فالأنسب أن يقدم ذكرها على الهاضمة كما فعله الإمام الرازي وابن سينا وكأنه إنما أخرها لأخذه الهاضمة في تفسيرها ويثبتها أي يثبت وجود الماسكة في المعدة احتواؤها على الغذاء من كل الجوانب وليس ذلك لامتلاء المعدة فإنها تحتوي وإن قل الغذاء بحيث ليس بينهما فضاء أصلا وإذا ضعفت المعدة لم يحصل ذلك الاحتواء المذكور فلا يحسن الهضم وإن كثر الغذاء مع
ضعف المعدة حصلت القراقر والنفخ ببطء الاستمرار وبالترشيح نشاهده هذا موجود في بعض النسخ ومعناه ما ذكره الإمام في المباحث المشرقية من أنا إذا أعطينا حيوانا غذاء رطبا كالأشربة والإحساء الرقيقة وشرحنا في ذلك الوقت بطنه وجدنا معدته محتوية عليه من كل جانب قال ووجدنا البواب منطبقا بحيث لا يمكن أن يسيل منه شيء من ذلك الغذاء الرطب ولو أن حيوانا تناول عظما أعظم من سعة البواب فإنه يندفع فلما رأينا الرقيق الذي من شأنه النزول غير نازل والكثيف الذي ليس من شأنه النزول نازلا علمنا أن هناك قوة تمسك شيئا غير شيء ويثبتها في الرحم احتواؤها على الزرع الذي هو الولد وأطواره بحيث لا ينزل ولو شق الحيوان الحامل من أسفل السرة إلى الجانب الفرد وكشف عن الرحم برفق لوجد الرحم منضمة من جميع الجوانب منطبقة الفم بحيث لا يمكن أن يدخل فيه الميل فلو لم يكن في جواهر الرحم قوة تمسكه لما كان الأمر كذلك وأيضا جرم المني يقتضي بطبعه الحركة إلى الأسفل فلولا أن في الرحم قوة تمسكه لما وقف وكذلك يثبت بهذا الطريق القوة الماسكة في الأعضاء كلها فإنها تمسك الرطوبات التي هي أغذيتها
وبالجملة فما رأينا الرقيق والثقيل أي الجسم الجامع بين الرقة
552

والثقل كالمشروبات والإحساء الرقيقة في المعدة على ما مر والمني في الرحم والأخلاط في الأعضاء الذي من شأنه النزول لا ينزل ورأينا خلافه أي الغليظ الخفيف الذي ليس من شأنه النزول كالعظم الكبير الحجم الخفيف الوزن على ما تقدم ينزل علمنا أن ثمة أي في كل واحد من المعدة والرحم والأعضاء قوة ماسكة
الرابعة من القوة الخادمة الدافعة إما للغذاء المهيأ للعضو إليه فتعين بدفعها جاذبة العضو في جذب الغذاء وإما للفضل عنه فإن الدم الوارد على الأعضاء مخلوط بالأخلاط الثلاثة فيأخذ كل عضو ما يلائمه ويدفع ما ينافيه ولولا دفعه إياه لم يخل شيء من الأعضاء عن الأخلاط التي تفسده وأيضا يجده ترك هذه الكناية أولى أي يجد كل أحد من نفسه عند التبرز إذا كان البراز معتقلا وكان في الأمعاء فضل لداغ كأن معدته وأمعاءه وسائر أحشائه تنتزع من موضعها وتتحرك إلى أسفل لدفع الفضل حتى أنه ربما انخلع المعاء المستقيم عن موضعه لقوة الحركة الدافعة بمنزلة ما يعرض له في الزحير ويدل عليه أيضا القيء من غير اختيار وما نراه حينئذ في المعدة من الانتزاع عن موضعها إلى فوق بحيث يتحرك معها عامة الأحشاء وكذا يدل عليه سائر الاستفراغات البحرانية وغيرها إذ لا بد لها من دافع يدفعها
تنبيه
إثبات تعدد القوى وتغايرها بالذوات على رأي الحكماء بناء أي مبني على أصلهم إلى من الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ولا جاز أن يستند الكل أي جمع الأفعال المذكورة إلى قوة واحدة بالذات وقد ثبت
553

فيما مر ضعفه أي ضعف هذا الأصل وفساده فلا يصح ما بني عليه من تعدد القوى وتغايرها ثم إن سلمنا صحته قلنا شرطه عدم تعدد الآلات والقوابل إذ مع تعددها يجوز أن يصدر عن الواحد أشياء متكثرة اتفاقا وأنه أي عدم تعدد الآلة والقابل فيما نحن بصدده غير معلوم فجاز حينئذ أن لا يكون هناك إلا قوة واحدة تجذب الطعام بآلة وتمسكه بأخرى وتهضمه بثالثة وتدفع الفضل بآلة رابعة وتورد الغذاء تارة أكثر من المتحلل وتارة أنقص أو مساويا فلا تعدد في هذه القوى إلا بالاعتبار وما يقال في بيان تعدد القوى أنا نرى العضو قويا في إحديها أي إحدى القوى وضعيفا في الأخرى منها فهما أمران متغايران قطعا لامتناع اجتماع المتنافيين في ذات واحدة ضعيف لجواز أن يكون ذلك الاختلاف في العضو لضعف الآلة واختلاف فيها لا لضعف وقوة في ذات القوة ثم نقول في إبطال القوى لا سيما القوة المصورة كما زعموه أن من تأمل في عجائب الأفعال الحادثة في علم الطبيعة من النباتات المتخالفة الأنواع والحيوانات المتباينة الحقائق البالغة تلك الأفعال العجيبة من الإتقان والأحكام أقصى الغاية وكان ذلك التأمل راجعا إلى فطنة وإنصاف باقيا على فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها من الذكاء والميل إلى الصواب لم يعم بصيرته التقليد من أهل الأهواء ولم يكن أسيرا في مطمورة الوهم أي في سجنه بأن لا يغلب وهمه على عقله علم ذلك المتأمل بالضرورة أنها أي تلك الأفعال العجيبة البالغة تلك الدرجة العالية لا يمكن أن تستند إلى قوى بسيطة أو مركبة عديمة الشعور بما يفرض صادرا عنها سيما ما يحدث في الحيوانات من الصور والأشكال والتخطيطات المقدارية والأوضاع المتلائمة في الرحم وما يفاض فيه من الصور النوعية والقوى التابعة لها على تلك المادة المتشابهة الأجزاء على الرأي الأصوب وما يراعى
554

فيها أي في تلك الأمور الحادثة والمفاضة من حكم ومصالح قد تحيرت فيها الأوهام وعجزت عن إدراكها العقول والأفهام قد بلغ المدون منها أي من تلك الحكم والمصالح مما علم في الكتب التي دون فيها منافع أعضاء الحيوانات وأشكالها ومقاديرها وأوضاعها خمسة آلاف وما لا يعلم منها أكثر مما علم كما لا يخفى على ذي حدس كامل وعلم ذلك المتأمل أيضا علما ضروريا لا يشوبه ريبة ولا يحتمل النقيض بوجه من الوجوه أنها أي تلك الأفعال المذكورة لا تصدر إلا عن عليم كامل علمه خبير ببواطن الأشياء وما يخفى منها حكيم يتقن أفعاله مطابقة للمنافع التي يتصور ترتبها عليها قدير على كل ما تعلقت به مشيئته بعد علمه المحيط كما نطق به الكتاب الكريم في عدة مواضع في معرض الاستدلال على عظمة الصانع وكماله منها قوله تعالى * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) *
فدل إيراده في معرضه على أنه علم ضروري يستدل به على غيره هذا هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه على أن الاعتراف بالفاعل المختار وإسناد الأشياء إليه ابتداء كما مرت إليه الإشارة مرة بعد أخرى فائدة جليلة هي أن فيه لمندوحة عن كثير من أمثال هذه التمحلات التي يكذبها العقل الصريح ويأباها الذهن الصحيح ولا يقبلها طبع سليم ولا يذعن لها ذهن مستقيم * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) *
منك المبدأ وإليك المآب
تنبيهان آخران على أمرين متفرعين على ثبوت القوى وتعددها
555

الأول قالوا وهذه القوى الأربع الخادمة للأربع الأول تخدمها الكيفيات الأربع فأشد القوى حاجة إلى الحرارة الهاضمة لأن الهضم عبارة عن إحالة الغذاء في الكيف وهي لا تحصل إلا بتفريق الأجزاء الغليظة وجمع الأجزاء الرقيقة ولا يحصلان إلا بحركة مكانية ففعل الهاضمة حركتان كيفية وأينية وكل واحد من الجذب والدفع حركة واحدة أينية والإمساك وإن لم يكن في نفسه حركة بل هو منع عن الحركة إلا أنه لا يحصل إلا بتحريك الليف المورب إلى هيئة الاشتمال فلا بد فيه أيضا من الحركة الأينية وإذا ثبت أن أفعال هذه القوى لا تتم إلا بالحركة ولا شك أن البرودة مميتة مخدرة فلا ينفع بالذات شيئا من القوى بل هي محتاجة في أفعالها وحركاتها إلى الحرارة التي تعاونها فما كانت الحركة فيها أكثر كالهاضمة كانت حاجتها إلى الحرارة أشد ثم الجاذبة لأنها تحتاج إلى حركات في الأين كثيرة قوية قالوا والاجتذاب إما بفعل القوة كما في المغناطيس وإما باضطرار الخلاء كانجذاب الماء في الزراقات وإما بالحرارة كما في السراج وإن كان هذا الأخير راجعا في الحقيقة إلى ذلك الاضطرار فإذا كان مع الجاذبة معاونة حرارة كان الجذب أقوى ثم الدافعة لأن فعلها تحريك محض ثم الماسكة لما مر من أن فعلها لا يحصل إلا بتحريك الليف لكن لما كانت مدة تسكين الماسكة للغذاء أكثر من مدة تحريكها لليف كان احتياجها أقل وأشد القوى حاجة إلى اليبوسة الماسكة لأن فعلها بالذات هو الإمساك والتسكين واليبوسة نافعة في ذلك جدا ثم الجاذبة لأن حاجتها إلى التحريك أمس من حاجتها إلى تسكين أجزاء آلتها
556

وتقبيضها باليبوسة لتتمكن من التحريك ثم الدافعة وذلك لأن فعلها أيضا التحريك واليبوسة تفيد زيادة تمكن للروح وآلتها من الاعتماد الذي لا بد منه في الحركة ولو كان في جوهر الروح أو الآلة استرخاء بسبب الرطوبة لتعسر الحركة وحيث كانت الحركة في الجاذبة أقوى كانت حاجتها إلى اليبوسة أشد والهاضمة لا حاجة لها إلى اليبس بل إلى الرطوبة المعينة إياه في التفريق والجمع والطبخ والإنضاج والبرودة مع كونها منافية بالذات لأفعال هذه تخدم بالعرض الماسكة بإعانتها على حبس الليف المورب على هيئة الاشتمال الصالح للإمساك وتخدم كذلك الدافعة بأنها تمنع تحليل الريح المعينة على الدفع وأيضا تغلظها وكلما كانت الريح أغلظ كانت أعون وأيضا تجمع الليف العاصر وتكثفه فتكون أقوى في الدفع فظهر مما ذكر أن الحرارة تخدم جميع هذه القوى والبرودة لا تخدم إلا الماسكة والدافعة وأن اليبوسة تخدم ما سوى الهاضمة والرطوبة تخدمها فقط
التنبيه الثاني قد تتضاعف هذه القوى في بعض الأعضاء فالمعدة فيها جاذبة إليها ما يصلح لها وجاذبة أيضا لغذاء البدن من خارج وبالجملة فقد تفعل المعدة تارة للإعداد وتهيئة الغذاء لسائر الأعضاء وتارة للاغتذاء وكذا كثير من الأعضاء كالكبد وسائر أدوات الغذاء
وفي المباحث المشرقية قال بعض الحكماء إن هذه القوى الأربع توجد في المعدة مضاعفة أحدهما التي تجذب غذاء البدن من خارج إلى تجويف المعدة والتي تمسكه هناك والتي تغيره إلى ما يصلح أن يكون دما والتي تدفعه إلى الكبد والثانية التي تجذب إلى المعدة غذاءها على الخصوص وتمسكه هناك وتغيره إلى جوهرها وتدفع الفضلات عنها وكذا الحال في الكبد لأن التغيير إلى الدم غير التغيير إلى جوهر الكبد كما أن
557

التغيير إلى العصارة غير التغيير إلى جوهر المعدة وهذه الثانية موجودة بأجزائها الأربعة في جميع أعضاء البدن على اختلاف جواهرها وأما في المعدة والكبد فيوجد معها أيضا الأولى بأجزائها الأربعة
ثم قال الإمام الرازي إن كان هذا حقا وجب أن يحكم به في الفم اللسان والمري والأمعاء والعروق المسماة بماساريقا وبالجملة في جميع أعضاء الغذاء
558

القسم الثاني في النفس الحيوانية
وتسمى قواها نفسانية وهي إما مدركة وإما محركة والمدركة إما ظاهرة وإما باطنة
النوع الأول
القوى المدركة الظاهرة وهي المشاعر الخمس المشعر الأول البصر وللحكماء فيه قولان
القول الأول وهو مذهب أرسطو أنه إنما يحصل بانعكاس صورة المرئي بتوسط الهواء المشف إلى الرطوبة الجليدية وانطباعها في جزء منها وذلك الجزء زاوية مخروط قاعدته سطح المرئي ولذلك يرى القريب أعظم لأن الوتر الواحد كلما قرب كان أقصر ساقا فأوتر زاوية أعظم وكلما بعد كان أطول ساقا فأوتر زاوية أصغر والنفس إنما تدرك الصغر والكبر باعتبار تلك الزاوية ومن نظر إلى الشمس نظرا طويلا ثم أعرض عنها فإنها تبقى صورتها في العين مدة ما وله أسوة بسائر الحواس إذ ليس إدراكها بأن يخرج منها شيء ويتصل بالمحسوس بل لأن المحسوس يأتيها ويمكن أن يقال
559

على الأول لعله لسبب آخر وعلى الثاني أن الصورة إنما تبقى في الخيال وعلى الثالث أنه تمثيل بلا جامع احتج النفاة بوجوه والعمدة ما ذكره جالينوس وهو أن الجسم لا ينطبع فيه من الأشكال إلا ما يساويه فوجب ألا يبصر إلا قدر نقطة الناظر منا لكنا نبصر نصف كرة العالم
والجواب أنه لا يمتنع حصول شبح الكبير في الصغير إنما المحال حصول ذلك الشكل بعينه والحاصل أن هذا إنما يرد على من يرى أن المبصر نفس الشبح وأما من يزعم أن حصول الشبح شرط للإبصار فلا يرد عليه ذلك وهذا هو الحق
القول الثاني أنه يخرج من العين جسم شعاعي على هيئة مخروط رأسه يلي العين وقاعدته تلي المبصر والإدراك التام إنما يحصل من الموضع الذي هو موضع سهم المخروط ويبطله أنه إذا كان ريح أو اضطراب في الهواء وجب أن تتشوش تلك الشعاعات وتتصل بالأشياء الغير المقابلة للوجه فوجب أن يرى الإنسان ما لا يقابله لاتصال شعاعه به كما أنه لما كان الصوت عبارة عن الكيفية التي يحملها الهواء المتموج لا جرم أنه يضطرب عند هبوب الرياح ويميل من جهة إلى جهة وأيضا فنعلم ضرورة أن النور الذي يخرج من عين العصفور يستحيل أن يؤثر فيما بينه وبين الكواكب الثابتة بل نقول ذلك العصفور أو الإنسان أو الفيل إن كان كله نورا لما امتد ولا أحال من الهواء عشرة فراسخ وإن لم يكن هذا جليا في العقل فلا جلي عنده
تنبيه سواء قلنا الأول الإبصار بالانطباع أو بخروج الشعاع فإنه ينفذ في الجسم الشفاف مستقيما وينفذ في الشفاف الذي شفيفه مخالف لشفيف الهواء كالماء والبخار منعطفا بزاوية أصغر من زاوية الرؤيا بكثير ومن تصور أنها مثل زاوية الرؤية فقد أخطأ وموضع بيانه غير هذا الموضع
560

ولهذا لوازم من رؤية الشجر على الشط منتكسا والعنبة في الماء كالإجاصة ونحوهما لسنا الآن بصدد بيانها فإنه خروج عن الصناعة
المشعر الثاني السمع وإنما يحصل بوصول الهواء المنضغط بين القارع والمقروع إلى الصماخ لقوة حاصلة في العصبة المفروشة في مؤخره التي فيها هواء محتقن كالطبل فإذا انحرفت تلك العصبة أو بطل حسها بطل السمع
المشعر الثالث الشم وهو قوة مستودعة في زائدتين في مقدم الدماغ كحلمتي الثدي وزعم بعضهم أن الرائحة تتأدى إليه بتحلل أجزاء من الجسم ذي الرائحة وتبخره ومخالطته للمتوسط وزعم آخرون أن الهواء يتكيف بتلك الكيفية من غير أن يخالطه شيء من أجزاء ذي الرائحة وهذا هو الحق لأن المسك يعطر مواضع كثيرة ويدوم ذلك مدة بقائه ولا يقل وزنه ولو كان ذلك يتحلل منه لامتنع ذلك احتج الأولون بوجهين
الأول إن الحرارة تهيج الروائح والبرد يكثفها قلنا بل تعدها لقبول الرائحة لتأثيرها في الهواء أو في الآلة
الثاني التفاحة تذبل من كثرة الشم قلنا بل من وصول النفس إليها وكثرة اللمس وأما مجرد الرائحة فلا وإلا لم يتفاوت الشم وعدمه
المشعر الرابع الذوق وهو قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان وإنما تدرك بواسطة الرطوبة العذبة المخالطة للمذوق فإذا كانت الرطوبة عديمة الطعم أدت الطعوم بصحة وإن خالطها طعم لم تؤدها بصحة كما للمرضى ولذلك كان الممرور يجد الماء والسكر مرا ومن ثمة قال بعضهم الطعوم لا وجود لها في ذي طعم وإنما توجد في القوة الذائقة وكذلك سائر الكيفيات فالحرارة إنما يعلم وجودها بالحس عند مماسة النار
561

وأما وجودها في النار فوهم مستفاد من أنها لا تعمل إلا بالتشبيه ولو لم تكن النار حارة لما سخنت وهو يضمحل بالتأمل في تسخين الحركة مع عدم حرارتها
والجواب أنه إنكار للمحسوسات وسفسطة لا تستحق الجواب
المشعر الخامس اللمس وهو قوة مبثوثة في العصب المخالط لأكثر البدن سيما الجلد ومن الأعضاء ما ليس فيه قوة لامسة كالكلية فإنها ممر الفضلات الحادة فاقتضت الحكمة أن لا يكون لها حس لئلا تتأذى بمرورها عليها وكذلك العظم لأنه أساس البدن وعليه أثقاله
تنبيهان
الأول منهم من قال إن القوة اللامسة أربع الحاكمة بين الحار والبارد وبين الرطب واليابس وبين الصلب واللين وبين الأملس والخشن ومنهم من أثبت خامسة تحكم بين الثقيل والخفيف ولا يبعد كون الآلة واحدة كما أن الرطوبة الجليدية فيها قوة باصرة ولامسة وكله بناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد وليت شعري لم لا يجعلون الذائقة أيضا متعددة لتعدد المذوقات
الثاني قوة الذوق مشروطة باللمس ولا شك أنها غيرها إذ لا يكفي فيها اللمس بل يضاده لأن الذوق خلق للشعور بما يلائم ليجتلب واللمس خلق للشعور بما لا يلائم ليجتنب وههنا أبحاث نختم بها هذا النوع
أحدهما أن الحواس الظاهرة مختلفة بالقوة والضعف وتفاوتها بحسب القوة الممانعة وضعفها وذلك لغلظ الآلة ورقتها وأضعفها البصر إذ آلتها
562

النور وهو ألطف ثم السمع وآلتها الهواء ثم الشم وآلتها البخار ثم الذوق وآلتها الماء ثم اللمس وآلتها الأعضاء الصلبة الأرضية
ثانيها ههنا محسوسات مشتركة كالمقادير والأعداد والأوضاع والحركة والسكون والقرب والبعد والمماسة فلو وجب لكل نوع محسوس قوة لوجب إثبات قوى أخرى وقد يجاب عنه بأنها محسوسة بالعرض لا بالذات فإنها إنما تحس بواسطة اللون والضوء والحرارة والبرودة ونحوها وقد يستعان فيه بالعقل ولذلك قد لا يدرك في بعض الأوقات كراكب السفينة يراها ساكنة والشط متحركا وقد يقال المحسوس بالعرض لما لا يحس به أصلا لكن يقارن المحسوس بالحقيقة كإبصارنا أبا عمرو فإن المحسوس ذلك الشخص وليس كونه أبا عمرو محسوسا أصلا
الشرح
القسم الثاني في النفس الحيوانية وتسمى قواها التي لا توجد في النبات نفسانية وهي إما مدركة وإما محركة لأن امتياز الحيوان عن مشاركاته في القوة الطبيعية بهاتين القوتين والمدركة إما ظاهرة وإما باطنة فهذه أنواع ثلاثة
النوع الأول القوى المدركة الظاهرة قدم المدركة على المحركة لأن تحريكها إنما هو بالإرادة المتوقفة على الإدراك وقدم الظاهرة على الباطنة لظهورها وهي المشاعر أي الحواس الخمس
المشعر الأول البصر وللحكماء فيه أي في الإبصار قولان بل أقوال ثلاثة مشهورة إلا أن الثالث قريب من الثاني
فذكره المصنف في قرنه وعدهما قولا واحد
563

الأول وهو مذهب أرسطو وأتباعه من الطبيعيين أنه إنما يحصل الإبصار بانعكاس صورة المرئي بتوسط الهواء المشف الذي لا لون له فلا يستر ما وراءه إلى الرطوبة الجليدية التي في العين وانطباعها في جزء منها أي من تلك الجليدية وذلك الجزء الذي تنطبع فيه الصورة زاوية رأس مخروط متوهم لا وجود له أصلا قاعدته سطح المرئي ورأسه عند الباصرة ولذلك أي ولأن الإبصار بالانطباع على الوجه المذكور دون خروج الشعاع يرى القريب أعظم من البعيد مع تساويهما في المقدار بحسب نفس الأمر بل مع اتحاد المرئي في حالتي القرب والبعد وذلك لأن الوتر الواحد الذي هو امتداد سطح المرئي كلما قرب من النقطة التي خرج منها إليه خطان مستقيمان محيطان بزاوية كان أقصر ساقا فأوتر عند تلك النقطة زاوية أعظم وكلما بعد عنها كان أطول ساقا فأوتر عندها زاوية أصغر كما تشهد به الفطرة السليمة والنفس إنما تدرك الصغر والكبر في المرئي باعتبار تلك الزاوية فإنها إذا كانت صغيرة كان الجزء الواقع من الجليدية فيها صغيرا فترتسم صورة المرئي فيه فيرى صغيرا وإذا كانت كبيرة كان الجزء الواقع فيها كبيرا فترتسم صورته فيه فيرى كبيرا ومن المعلوم أن هذا إنما يستقيم إذا جعلت الزاوية موضعا للإبصار كما ذهبنا إليه وأما إذا جعل موضع الإبصار قاعدة المخروط كما يقتضيه القول بخروج الشعاع فيجب أن يرى الجسم كما هو سواء خرجت الخطوط الشعاعية من زاوية ضيقة أو غير ضيقة هكذا قالوا وفيه بحث لأن الإبصار ليس حاصلا بمجرد القاعدة بل لرأس المخروط فيه مدخل أيضا فجاز أن يتفاوت حال المرئي صغرا وكبرا بتفاوت رأسه دقة
564

وغلظا ألا ترى أن الإبصار إن كان بالانطباع كما زعموه كان الظاهر أن لا يتفاوت حال المرئي في الصغر والكبر بالقرب والبعد لكن لما كان الانطباع على ما صوروه من توهم المخروط جاز أن يظهر التفاوت فيه بحسبهما ويدل على صحة القول الأول أن من نظر إلى الشمس بتحديق وإمعان نظرا طويلا ثم أعرض عنها وغمض عينيه فإنها تبقى صورتها في العين مدة ما حتى كأنه بعد التغميض ينظر إليها وكذا من نظر إلى الروضة المخضرة جدا ساعة طويلة نظرا بتدقيق فإن عينيه يتكيفان بتلك الخضرة حتى إذا نظر إلى لون آخر لا يبصره خالصا بل مخلوطا بالخضرة أو غمض عينيه فإنه يجده كأنه ناظر إليها فلولا أن الإبصار بانطباع صورة المرئي لما كان الأمر كذلك ومما يدل على صحته أيضا أن يقال له أي للبصر في إدراكه أسوة بسائر الحواس الظاهرة إذ ليس إدراكها لمدركاتها بأن يخرج منها شيء ويتصل ذلك الشيء بالمحسوس بل إدراكها إياها إنما هو لأن المحسوس يأتيها فوجب أن لا يكون الإحساس بالبصر لخروج شيء منه إلى المبصر بل لأن صورته تأتيه فدل ذلك على صحة الانطباع وفساد الشعاع ويمكن أن يقال على الدليل الأول لعله أي لعل ما ذكرتموه من تفاوت المرئي الواحد في الكبر والصغر بالقرب والبعد لسبب آخر لا لانطباعه في جزء أكبر أو أصغر فإن عدم العلم به لا يوجب عدمه وأن يقال على الثاني أن الصورة أي صورة الشمس أو الروضة إنما تبقى في الخيال دون الجليدية ألا ترى أنه لا يتفاوت الحال بالتغميض والإبصار في هذه الحالة قطعا وأن يقال على الثالث أنه تمثيل وقياس للبصر على الحواس الأخر بلا جامع معتبر إذ من الجائز أن يكون إدراك هذه الحاسة بخروج شيء منها إلى مدركها دون باقي الحواس الظاهرة احتج النفاة للانطباع بوجوه
565

والعمدة في الاحتجاج عليه ما ذكره جالينوس وهو أن الجسم لا ينطبع فيه من الأشكال إلا ما يساويه في المقدار فوجب على تقدير كون الإبصار نفس الانطباع أو مشروطا به أن لا يبصر من الأشياء إلا قدر نقطة الناظر منها وهو السواد الأصغر الذي فيه إنسان العين لكنا نبصر نصف كرة العالم
والجواب إنه لا يمتنع حصول شبح الكبير في الصغير إنما المحال حصول ذلك الشكل الكبير بعينه في الصغير والحاصل مما ذكرناه في الجواب أن هذا الذي أورده جالينوس إنما يرد على من يرى ويعتقد أن المبصر نفس الشبح المنطبع في الجليدية كما توهمه المتأخرون من كلام المعلم الأول وحكوه عنه وأما من يزعم أن حصول الشبح شرط للإبصار وأن المبصر هو ذلك الأمر الخارجي فلا يرد عليه ذلك الذي أورده فإن شبح الشيء قد لا يساويه في المقدار وإن كان موجبا لإبصاره على ما هو عليه وهذا الأخير هو الحق على القول بالانطباع وفي الملخص أن المتأخرين لم يفهموا كلامه فحكوه على ما لا ينبغي فتارة قالوا إن هذه الصورة نفس الإبصار وأخرى قالوا إنها الإبصار والمبصر معا وأما الموجود الخارجي فغير المرئي أصلا ثم إنهم تعصبوا بهذه الخرافات وعرضوا معلمهم لطعن الطاعنين فهم كالرواة السوء للشاعر الجيد
القول الثاني إنه يخرج من العين جسم شعاعي على هيئة مخروط متحقق رأسه يلي العين وقاعدته تلي المبصر والإدراك التام إنما يحصل من الموضع الذي هو موضع سهم المخروط وهو مذهب جمهور الرياضيين ثم إنهم اختلفوا فيه على وجوه ثلاثة
566

الأول أن ذلك المخروط مصمت
الثاني أنه ملتئم من خطوط مستقيمة شعاعية هي أجسام دقاق قد اجتمع أطرافها عند مركز البصر وامتدت متفرقة إلى المبصر فما وقع عليه أطراف تلك الخطوط أدركه البصر وما وقع بين أطرافها لم يدركه ولذلك يخفى على البصر الأجزاء التي في غاية الصغر
الثالث أنه يخرج من العين جسم شعاعي رفيع كأنه خط واحد مستقيم ينتهي إلى المبصر ثم يتحرك على سطحه حركة سريعة جدا في طول المرئي وعرضه فيحصل الإدراك به واحتجوا على مذهبهم بأن الإنسان إذا رأى وجهه في المرآة فليس ذلك لانطباع صورته فيها وإلا كانت منطبعة في موضع معين منها ولم تختلف باختلاف أمكنة الرائي من الجوانب بل لأن الشعاع خرج من العين إلى المرآة ثم انعكس منها لصقالتها إلى الوجه ألا يرى أنه إذا قرب الوجه منها تخيل أن صورته مرتسمة في سطحها وإذا بعد عنها توهم أنها غائرة فيها مع علمنا بأن المرآة ليس لها غور بذلك المقدار وههنا مذهب ثالث هو أنه ليس يخرج من العين شعاع لكن الهواء الذي بينها وبين المرئي يتكيف بكيفية الشعاع الذي فيها ويصير ذلك آلة في الإبصار ولما كان هذا أيضا مبنيا على الشعاع كان في حكم المذهب الثاني كما مر ويبطله أي المذهب أنه إذا كان هناك ريح عاصفة أو اضطراب في الهواء وجب أن تتشوش تلك الشعاعات الخارجة من العين وتتصل بالأشياء غير المقابلة للوجه فوجب أن يرى الإنسان ما لا يقابله لاتصال شعاعه به كما أنه لما كان الصوت عبارة عن الكيفية التي يحملها الهواء المتموج لا جرم أنه يضطرب عند هبوب الرياح ويميل من جهة إلى جهة وأشار إلى إبطاله وإبطال المذهب الثالث معا بقوله وأيضا
567

فنعلم ضرورة أن النور الذي يخرج من عين العصفور يستحيل أن يؤثر فيما بينه وبين الكواكب الثابتة أي يستحيل أن يقوي ذلك النور على خرق الهواء والأفلاك بحيث يصل إلى الثوابت ويتصل بنصف كرة العالم ويستحيل أيضا أن يقوى نور عينه على إحالة ما بينهما إلى كيفيته بل نقول ذلك العصفور أو الإنسان أو الفيل إن كان كله نورا لما امتد ولا أحال إلى كيفيته من الهواء عشرة فراسخ وإن لم يكن هذا جليا في العقل فلا جلى عنده وإذا كان الأمر كذلك لم يتصور امتداده إلى الثوابت ولا إحالة الشعاع الذي في العين ما بينهما إلى جوهره فبطل القول بالشعاع وتوسطه في الإبصار مطلقا
قال الإمام الرازي في المباحث المشرقية حاصل الكلام في هذا المقام أن نقول إنا نعلم علما ضروريا بأن العين على صغرها لا يمكن أن تحيل نصف كرة العالم إلى كيفيتها ولا أن يخرج منها ما يتصل بنصف كرته ولا أن يدخل فيها صورة نصفه فالمذاهب الثلاثة ظاهرة الفساد بتأمل قليل في هذا الذي ذكرناه وإني لأتعجب من اشتهارها فيما بين الناس وإقبالهم على قبولها قال ومن المحتمل أن يقال الإبصار شعور مخصوص وذلك الشعور حالة إضافية فمتى كانت الحاسة سليمة وسائر الشرائط حاصلة والموانع مرتفعة حصلت للمبصر هذه الإضافة من غير أن يخرج من عينه جسم أو ينطبع فيها صورة فليس يلزم من إبطال الشعاع أو الانطباع صحة الآخر إذ ليسا على طرفي النقيض
تنبيه سواء قلنا الإبصار بالانطباع أو بخروج الشعاع فإنه ينفذ في الجسم الشفاف المتوسط فيما بين الرائي والمرئي كالهواء مستقيما وينفذ
568

في الشفاف الذي شفيفه مخالف لشفيف الهواء كالماء والبخار منعطفا هذا إنما يظهر على القول بخروج الشعاع فإن الخطوط الشعاعية التي على سطح المخروط كما مرت إليه إشارة في صدر الكتاب تنفذ إلى المرئي على الاستقامة إلى طرفيه إذا كان الشفاف المتوسط متشابه الغلظ والرقة فإن فرض هناك تفاوت بأن يكون ما يلي الرائي هواء وما يلي المرئي ماء مثلا فإن تلك الخطوط إذا وصلت إلى ذلك الماء انعطفت ومالت إلى سهم المخروط ثم وصلت إلى طرفي المرئي فتكون زاوية رأس المخروط ههنا أكبر منها في الصورة الأولى فلذلك يرى المرئي أعظم ولو انعكس الفرض مالت الخطوط إلى خلاف جانب السهم فترى أصغر وأما على القول بالانطباع فليس هناك مخروط ولا
خطوط مستقيمة نافذة في الشفاف على الاستقامة أو الانعطاف إلا على سبيل التوهم المحض والتخيل الصرف فيختلف حال زاوية رأس المخروط والجزء الواقع فيها من الجليدية فيفاوت أيضا المرئي الواحد صغرا وكبرا ثم إن الانعطاف إلى جهة السهم أو خلافها إنما يكون بزاوية أصغر من زاوية الرؤية بكثير ومن تصور أنها مثل زاوية الرؤية فقد أخطأ وموضع بيانه غير هذا الموضع وقد بينه بعض من عاصره المصنف من محققي صناعة المناظر أنه ينعكس الشعاع البصري وغيره من السطح الصقيل كالمرآة والماء إلى ما يقابله بزاوية مساوية لزاوية الرؤية يعني زاوية الشعاع وليكن لتصوير انعكاس الحدقة و ح ك سطح الماء و ح ب هو المرئي من سطحه و ه مقابل المرئي بحيث يكون وضعه منه كوضعه من الحدقة ف أ ب هو الخط الشعاعي النافذ إلى المرئي وه ب الشعاع المنعكس وزاوية أ ب ج زاوية الشعاع على سطح المرئي من جانب ح وزاوية ه ب ك زاوية الانعكاس عليه وهي مساوية للزاوية الأولى ولما تساويا وجب ان يتساوى أيضا زاويتا أ ب ك ه ب ح وأما زاوية أ ب ه فهي الواقعة بين خطي الشعاع النافذ والمنعكس وقد تنتفي هذه الزاوية كما إذا كان الخط النافذ قائما على سطح المرئي فينطبق عليه الخط المنعكس وأما
569

تصوير الانعطاف فهو أن تفرض ه الحدقة وأ ب المرئي فإذا كان الشفاف المتوسط على قوام واحد فالواصل إلى طرفي المرئي الخطان الأحمران المستقيمان وإذا كان مختلفا بحيث يكون ما يلي المبصر أغلظ فالواصل إليهما الخطان الأسودان المنعطفان عن الاستقامة إلى سهم المخروط وزاوية الانعطاف هي الزاوية المتوهمة من الخط المنعطف مفروضا على الاستقامة والانعطاف كزاوية ح ك أ ولهذا الذي ذكرناه من الانعطاف والانعكاس على زاوية مساوية لزاوية الشعاع لوازم كثيرة من رؤية الشجر على الشط منتكسا ورؤية العنبة في الماء كالإجاصة ونحوهما لسنا الآن بصدد بيانها فإنه خروج عن الصناعة الكلامية بالكلية أما رؤية العنبة كذلك فمن لوازم الانعطاف لأن زاوية الخطين الأسودين عند الحدقة أكبر من زاوية الأحمرين كما مر ذلك في المرصد الرابع من من الموقف الأول وأما رؤية الشجر منتكسا فمن لوازم تساوي زاويتي الشعاع والانعكاس ولنشر إليه ههنا إشارة خفية وهي أن نفرض خط أ ب عرض النهر وخط ح ب الشجر القائم على شطه و ه الحدقة ونفرض على أ ب نقطتي ك و وعلى ح ب نقطتي ح ط فإذا خرج من ه خط شعاعي إلى و وآخر إلى ك وجب أن ينعكس الأول إلى نقطة ط مثلا فتكون الزاوية الشعاعية أعني زاوية ه و أ كالزاوية الانعكاسية أعني زاوية ط و ب وأن ينعكس الآخر إلى نقطة ح فيتساوى أيضا شعاعية ه و م وانعكاسية ح ك ب حتى تكون الخطوط المنعكسة من سطح الماء إلى الشجر كأوتار الآلة الحدباء المسماة بجنك على ما مر في ذلك المرصد فيكون المنعكس إلى رأس الشجر أطول من المنعكس إلى ما تحته ولا شعور للنفس بالانعكاس لاعتيادها الرؤية بخروج الأشعة على الاستقامة فيكون رأس الشجر عندها أدخل في عمق الماء وهكذا إلى أسفله فتراه منتكسا رأسه أبعد من سطح الماء غائر فيه جدا ولا
570

يجوز أن ينعكس الخط من ك إلى ط ومن و إلى ح وإلا كانت شعاعية ه و أ كانعكاسية ط و ب وهذه الانعكاسية أصغر من زاوية ح و ب الخارجة عن مثلث د ك و فشعاعية ه و أ أصغر أيضا من هذه الخارجة ثم نقول زاوية ه ك أ أكبر للعلة المذكورة من زاوية ه و أ المساوية لزاوية ح ب و فتكون أكبر منها أيضا فيلزم أن يكون كل من زاويتي ه ك أ ح و ب أكبر من الأخرى هذا خلف وأما أنه لا يجوز أن ينكس من نقطة واحدة ك ك مثلا خطان إلى نقطتين من الشجر كنقطتي ح ط فلاستلزامه مساواة الكل والجزء لشيء واحد كما لا يخفى
المشعر الثاني السمع أي القوة السامعة وإنما يحصل الإدراك السمعي كما سلف بوصول الهواء المنضغط بين القارع والمقروع إلى الصماخ لقوة حاصلة في العصبة المفروشة في مؤخره التي فيها هواء محتقن كالطبل فإذا وصل الهواء الحامل للصوت إلى تلك العصبة وقرعها أدركته القوة المودعة فيها فإذا انحرفت تلك العصبة أو بطل حسها بطل السمع
المشعر الثالث الشم وهو قوة مستودعة في زائدتين في مقدم الدماغ كحلمتي الثدي وزعم بعضهم أن الرائحة تتأدى إليه أي إلى هذا المشعر بتحلل أجزاء من الجسم ذي الرائحة وتبخره ومخالطته للمتوسط من الهواء بين القوة الشامة وذلك الجسم وزعم آخرون أن الهواء المتوسط يتكيف بتلك الكيفية الأقرب فالأقرب إلى أن يصل إلى ما يجاور محل هذه القوة فيدركها من غير أن يخالطه شيء من أجزاء ذي الرائحة وأيد ذلك بأن ذا الرائحة كلما كان أبعد كانت الرائحة المدركة أضعف لأن كل جزء من الهواء إنما ينفعل بالرائحة من مجاوره ولا شك أن كيفية المتأثر
571

أضعف من كيفية المؤثر وهذا هو الحق لأن المسك القليل يعطر مواضع كثيرة ويدوم ذلك مدة بقائه ولا يقل وزنه مما كان ولو كان ذلك يتحلل منه لامتنع ذلك وأنت تعلم أن هذا إنما يبطل انحصار الشم في الوجه الأول ولا ينافي حصوله على كل واحد من الوجهين تارة معا وتارة بدلا عن الآخر كما ذكره بعض المحققين احتج الأولون بوجهين
الأول إن الحرارة تهيج الروائح وتثيرها وكذلك كل من الدلك والتبخير يذكيها وينشرها والبرد يكثفها ويخفيها فدل ذلك على أن الشم بالتحلل قلنا لا نسلم ما ذكرتم بل الحرارة وأخواتها تعدها أي تعد الشامة والأهوية المتوسطة بينها وبين ذي الرائحة لقبول الرائحة إدراكا واتصافا وذلك إما لتأثيرها في الهواء وإعدادها إياه للاتصاف بالرائحة أو تأثيرها في الآلة وإعدادها للشم
الثاني التفاحة تذبل من كثرة الشم فلولا أنه يتحلل شيء منها لم يكن كذلك
قلنا ليس ذبولها من كثرته بل من وصول النفس إليها وكثرة اللمس فإنهما يحللانها وأما مجرد انتشار الرائحة منها فلا يحللها وإلا لم يتفاوت مع الانتشار الشم وعدمه وهو باطل قطعا
المشعر الرابع الذوق وهو قوة منبثة أي منتشرة من بثه إذا نشره في العصب المغروس على جرم اللسان وإنما تدرك هذه القوة الطعوم بواسطة الرطوبة المنبعثة عن الآلة المسماة بالملعبة العذبة أي الخالية في نفسها عن الطعوم كلها المخالطة للمذوق فيحتمل أن يكون توسطها بأن ينتشر فيها أجزاء من ذي الطعم ثم يغوص في اللسان فتدرك الذائقة طعمها فلا فائدة حينئذ في تلك الرطوبة إلا تسهيل وصول المحسوس الحامل للطعوم
572

إلى القوة الحاسة ويكون الإحساس بملامسة المحسوس من غير واسطة وأن يكون توسطها بأن تتكيف تلك الرطوبة بالطعوم من غير مخالطة فالمحسوس بالحقيقة حينئذ هو الرطوبة المحسوسة بلا واسطة فإذا كانت الرطوبة اللعابية عديمة الطعم كما هو حالها في ذاتها أدت الطعوم من الأجسام إلى الذائقة بصحة فتدركها كما هي وإن خالطها طعم إما بأن تتكيف به أو يخالطها أجزاء من حامله لم تؤدها بصحة بل مخلوطة بذلك الطعم كما للمرضى الذين تغير لعابهم على أحد الوجهين ولذلك كان المرور الذي غلبت عليه المرة الصفراء يجد الماء النفه والسكر الحلو مرا ومن ثمة أي ومن أجل أنها إذا خالطها طعم لم تؤد الطعوم بصحة بل مخلوطة بما خالطها
قال بعضهم الطعوم لا وجود لها في ذي الطعم أي فيما اشتهر بأنه ذو طعم كالعسل مثلا وإنما توجد الطعوم في القوة الذائقة والآلة الحاملة لها وكذلك سائر الكيفيات فالحرارة إنما يعلم وجودها بالحس والذي يعطيه الحس ويشهد بها وجودها في العضو الذي فيه القوة اللامسة عند مماسة النار وأما وجودها في النار فوهم مستفاد من أنها أي النار لا تعمل ولا تؤثر في غيرها غلا بالتشبيه أي إحداث شبيه هو موجود فيها وعلى هذا لو لم تكن النار حارة في نفسها لما سخنت غيرها وهو أي هذا الوهم يضمحل ويتلاشى بالتأمل في تسخين الحركة للمتحرك مع عدم حرارتها في نفسها
والجواب أنه إنكار للمحسوسات التي علم وجودها في محالها بلا شبهة وسفسطة ظاهرة البطلان لا تستحق الجواب بإظهار الخلل في مقدماتها لأن متصادمتها للضرورة كافية في ذلك
573

المشعر الخامس اللمس وهو قوة مبثوثة في العصب المخالط لأكثر البدن سيما الجلد فإن العصب يخالطه كله ليدرك به أن الهواء المجاور للبدن محرق أو مجمد فيحترز عنه كيلا يفسد المزاج الذي به الحياة ومن الأعضاء ما ليس فيه قوة لامسة كالكلية فإنها ممر الفضلات الحادة فاقتضت الحكمة الإلهية أن لا يكون لها حس لئلا تتأذى بمرورها عليها وكالكبد إذ يتولد فيه الأخلاط الحادة وكالطحال فإنه مفرغة للسوداء وكالرئة فإنها دائمة الحركة لترويح القلب فلا حس في شيء من هذه الأعضاء بل في أغشيتها ليدرك بها ما يعرض لها من الآفات وكذلك العظم ليس فيه قوة لامسة لأنه أساس البدن وعموده وعليه أثقاله فلو كان له حس لتأذى بالحمل وقد يقال إن له حسا إلا أن في حسه كلالا ولذلك كان إحساسه بالألم إذا أحس شديدا جدا
تنبيهان
الأول منهم من قال إن القوة اللامسة أربع متغايرة بالذوات الحاكمة بين الحار والبارد والحاكمة بين الرطب واليابس والحاكمة بين الصلب واللين والحاكمة بين الأملس والخشن ومنهم من أثبت قوة خامسة تحكم بين الثقيل والخفيف ولا
يبعد كون الآلة الحاملة للقوة واحدة مع تعدد القوى اللامسة الحالة فيها فلا يلزم من سريان اللامسة في البدن وانتشارها فيه كونها قوة واحدة كما أن الرطوبة الجليدية فيها قوة باصرة وقوة لامسة وإذا جاز اجتماعهما في محل واحد جاز اجتماع اللامستين فيه أيضا إذ ليستا متماثلتين وكله بناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحدفلا بد من قوى متعددة إما أربع أو خمس لإدراك تلك الملموسات وليت شعري لم لا يجعلون الذائقة أيضا قوى متعددة لتعدد المذوقات كما يجعلون اللامسة متعددة لتعدد الملموسات
قال الإمام الرازي لهم أن يجيبوا عن هذا بأنا إنما أوجبنا أن يكون الحاكم على نوع واحد من التضاد قوة واحدة على حدة ليتم الشعور بهما والتميز بينهما ولا شك أن بين الحرارة والبرودة نوعا من المضادة مغايرا للنوع
574

الذي بين الرطوبة واليبوسة وكذا الحال في بواقي الملموسات بخلاف الطعوم فإنها مع كثرتها ليس بينها إلا نوع واحد من التضاد فيكفيها قوة واحدة ولم يلتفت إليه المصنف لظهور ضعفه
الثاني من التنبيهين قوة الذوق في إدراكها مشروطة باللمس إذ لا يتصور إدراك ذوقي بلا ملامسة بين اللسان والمذوق فربما يتوهم من ذلك اتحاد الذائقة باللامسة فدفعه بقوله ولا شك أنها غيرها إذ لا يكفي فيها أي في إدراك الذائقة اللمس وحده بل يحتاج معه إلى توسط الرطوبة اللعابية واختلاطها على ما مر فلا بد من التغاير وكيف لا والذوق يضاده أي اللمس باعتبار الغاية لأن الذوق إنما خلق للشعور بما يلائم من المطعومات التي تستبقي بها الحياة ليجتلب واللمس خلق للشعور بما لا يلائم ليجتنب
وتلخيصه أن الحيوان مركب من العناصر الأربعة فصلاحه باعتدالها وفساده بغلبة بعضها على بعض فلا بد له من قوة يدرك بها ما ينافي مزاجه ويخرجه عن اعتداله وهي اللامسة الدافعة للمضرة كما لا بد له من قوة جاذبة للمنفعة فبهذا الاعتبار كان بينهما تضاد وتخالف ولما كان الاجتناب عن جميع المنافيات واجبا دون اجتلاب جميع الملائمات عمت اللامسة البدن
قال الحكماء لا يمكن وجود حاسة سادسة لأن الطبيعة لا تنتقل من درجة الحيوانية إلى درجة فوقها إلا وقد استكملت ما في الدرجة الأولى فلو كان في الإمكان حس آخر لكان حاصلا للإنسان وههنا أبحاث أي بحثان نختم بها هذا النوع أي الأول من الأنواع الثلاثة
أحدها إن الحواس الظاهرة مختلفة بالقوة والضعف في إدراكاتها
575

وتفاوتها في ذلك إنما هو بحسب القوة الممانعة وضعفها فكل ما كان أقوى ممانعة لمدركه كان أقوى إحساسا به وذلك أي التفاوت في الممانعة قوة وضعفا إنما هو لغلظ الآلة ورقتها فما هو أغلظ آلة كان أشد ممانعة وعلى هذا أضعفها في الإحساس البصر إذ آلتها النور وهو ألطف من آلات سائر الحواس ثم السمع وآلتها الهواء ثم الشم وآلتها البخار ثم الذوق وآلتها الماء ثم اللمس وآلتها الأعضاء الصلبة الأرضية فلذلك كانت ملائماته ألذ ومنافراته أشد إيلاما
ثانيها ههنا محسوسات مشتركة أي يشترك في إدراكها الحواس الظاهرة فلا يحتاج في الإحساس بها إلى قوى أخرى كالمقادير والأعداد والأوضاع والأشكال والحركة والسكون والقرب والبعد والمماسة فلو وجب لكل نوع محسوس قوة على حدة كما ذهب إليه جمع لوجب إثبات قوى أخرى لإدراك هذه الأمور لأنها أنواع متخالفة وقد يجاب عنها بأنها محسوسة بالعرض لا بالذات أي بالتبعية لا بالأصالة فلا حاجة فيها إلى قوة أخرى كما أشرنا إليه إنما ذاك فيما هو محسوس بالذات وقد بين كونها محسوسة بالعرض بقوله وإنها إنما تحس بواسطة اللون والضوء والحرارة والبرودة ونحوها وتفصيله أن يقال إن البصر يحس بالعظم والعدد والوضع والشكل والحركة والسكون والمماسة بتوسط الضوء واللون واللمس يدرك جميعها بتوسط حر أو برد وصلابة أو لين والذوق يدرك العظم بأن يذوق طعما كثيرا والعدد بأن يجد طعوما مختلفة والشم يدرك العدد بضرب من القياس وهو أن يعلم أن الذي انقطعت رائحته غير الذي حصلت رائحته ثانيا ويدرك الحركة والسكون بواسطة اللمس إدراكا ضعيفا وأما السمع فإنه لا يدرك العظم ولكنه قد يدل عليه أحيانا من جهة أن
576

الأصوات العظيمة إنما تحصل في الأغلب من أجسام عظيمة وقد يستعان فيه أي في إدراك بعضها بالعقل كما في إدراك الحركة والسكون لأن الجسم المتحرك لا بد أن تختلف نسبته إلى أجسام أخرى كأن يصير قريبا من جسم كان بعيدا عنه وبالعكس فإذا حصل الإحساس بذلك الاختلاف من جهته حصل الشعور بكونه متحركا ولذلك قد لا يدرك في بعض الأوقات كراكب السفينة يراها ساكنة مع كونها متحركة حركة سريعة ويرى الشط متحركا مع كونه ساكنا فإنه لما لم يشعر بأن اختلاف نسبتها إلى الشط إنما هو من جهتها لم يشعر بحركتها بل أسنده إلى الشط فتوهمه متحركا وقد مر استعانة الشم والسمع بالعقل في العدد والعظم ثم أشار إلى معنى آخر للمحسوس بالعرض بقوله وقد يقال المحسوس بالعرض ما لا يحس به أصلا لكن يقارن المحسوس بالحقيقة كإبصارنا أبا عمرو فإن المحسوس ذلك الشخص وليس كونه أبا عمرو محسوسا أصلا لا أصالة ولا تبعا بخلاف الأمور السابقة فإنها محسوسة بالتبعية فإطلاق المحسوس بالعرض على هذين المعنيين بالاشتراك اللفظي وبهذا خرج الجواب عما ذكره في المباحث المشرقية من أن هذه الأمور ليست محسوسة بالعرض لأن المحسوس بالعرض ما لا يحس به حقيقة لكنه مقارن للمحسوس الحقيقي وإن شئت حقيقة الحال فاستمع لهذا المقال ألست قد سمعت أن البياض مثلا قائم بالسطح أولا وبالذات وقائم بالجسم ثانيا وبالعرض ولا شبهة في أنه ليس معنى ذلك أن للبياض قيامين أحدهما بالسطح والآخر بالجسم بل معناه أن له قياما واحدا بالسطح لكن لما قام السطح بالجسم صار ذلك القيام منسوبا إلى السطح أولا وبالذات وإلى الجسم ثانيا وبالعرض فقس على ذلك معنى كون الشيء مثلا مرئيا بالذات وبالعرض فإذا قلنا اللون مرئي
577

بالذات كان معناه أن الرؤية متعلقة به بلا توسط تعلق تلك الرؤية بغيره وذلك لا ينافي كون رؤيته مشروطة برؤية أخرى متعلقة بالضوء فيكون كلا منها مرئيين بالذات لكن رؤية أحدهما مشروطة برؤية الآخر وإذا قلنا المقدار مرئي بالعرض بواسطة اللون كان معناه أن هناك رؤية واحدة متعلقة باللون أولا وبالذات وبالمقدار ثانيا وبالعرض وهكذا الحال في سائر الأمور التي سماها مشتركة بين الحواس فهي محسوسة تبعا قطعا وأما كون الشخص أبا عمرو فلا تعلق للإحساس به البتة والمصنف إذا رجع إلى نفسه وجد تفرقة ضرورية بينهما وعلم أن المقدار مثلا له انكشاف في الحس ليس ذلك الانكشاف للأبوة فاتضح الفرق بين معنى المحسوس بالعرض واندفع ما ذكره الإمام بل نقول إطلاق هذا الاسم على المعنى الأول أولى كما أشار إليه المصنف بإيراد كلمة قد في المعنى الآخر
578

النوع الثاني القوة المدركة الباطنة
المتن
وهي أيضا خمس
الأولى الحس المشترك وهي القوة التي ترتسم فيها صور الجزئيات المحسوسة بالحواس الخمس فتطالعها النفس ثمة فتدركها ويثبتها ثلاثة أوجه
الأول لولا أن فينا قوة مدركة للمحسوسات كلها لما أمكننا أن نحكم بأن هذا الملموس هو هذا الملون فإن القاضي لا بد أن يحضره الخصمان فإن قيل الحاكم هو العقل قلنا سنبين أن الجزئيات لا يدركها إلا قوى جسمانية ولقائل أن يقول فما قولك في أن حكمنا بأن زيدا إنسان إن كان المدرك لهما واحدا فالمدرك للجزئي هو المدرك للكلي أعني العقل وإلا بطل أصل الدليل
الثاني القطرة النازلة نراها خطا والشعلة التي تدار بسرعة نراها كالدائرة وليستا في الخارج خطا ودائرة فهو في الحس المشترك وليس في الباصرة لأنها إنما تدرك الشيء حيث هو فهو لارتسامها في قوة أخرى
579

وليست هي النفس فهي قوة جسمانية ولقائل أن يقول يجوز أن يكون ذلك لارتسامه في القوة الباصرة
الثالث ما يراه النائم والمبرسم والكاهن موجود وليس في الخارج وإلا رآها كل سليم الحس فهو في المدرك وهو جسماني لما مر ولقائل أن يقول لعل المدرك لها النفس كما مر واحتج الخصم بوجهين
الأول أن حصول جبل من ياقوت وبحر من زئبق في جزء من بدن النائم ضروري البطلان قلنا قد ينطبع شبح الكبير في الصغير كما مر
الثاني كما نعلم أنا لا نشم ولا نذوق ولا نسمع ولا نبصر بالأيدي والأرجل نعلم أنا لا نذوق ولا نلمس بالدماغ ومنكره مكابر قلنا عدم توسط الدماغ فيه ممنوع وأما أنه ليس آلة جرمية فنعم
الثانية الخيال وهو يحفظ الصور المرتسمة في الحس المشترك كالخزانة له وبه يعرف من يرى ثم يغيب ثم يحضر ولولا هذه القوة لامتنع معرفته واختل النظام وأثبت بوجوه ثلاثة
الأول قوة القبول غير قوة الحفظ
قلنا هو فرع قولكم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وإن سلم فالحفظ مشروط بالقبول فكيف تقول القابل غير الحافظ
الثاني الحس المشترك حاكم دونها
قلنا تحكم تارة ولا تحكم أخرى
580

الثالث الصور إذا كانت في الحس المشترك فهي مشاهدة بخلاف ما إذا كانت في الخيال
قلنا قد يعود إلى ملاحظة النفس وعدمها
الثالثة القوة الوهمية وهي التي تدرك لمعاني الجزئية كالعداوة التي تدركها الشاة من الذئب والمحبة التي تدركها السخلة من أمها وهي التي تحكم بأن هذا الأصغر هذا الحلو
الرابعة القوة الحافظة وهي الحافظة للمعاني التي تدركها الوهمية كالخزانة لها ونسبتها إلى الوهمية نسبة الخيال إلى الحس المشترك فاستغنى بما ذكرنا
ثم المتخيلة وهي التي تتصرف في الصور المحسوسة والمعاني بالتركيب والتفصيل مثل إنسان ذي رأسين وإنسان عديم الرأس وحيوان نصفه إنسان ونصفه فرس وهذه القوة إذا استعملها العقل سميت مفكرة ولنختم هذا النوع بأبحاث
الأول عرف وجود هذه القوى بتعدد الأفعال لما اعتقدوا أنه لم يصدر عن الواحد إلا الواحد وقد عرفت ما فيه ثم لا يجوز أن تكون القوة واحدة والآلات متعددة أو الشرائط
الثاني محل الحس المشترك والخيال البطن الأول من الدماغ فالحس المشترك في مقدمه لتصادفه المحسوسات أولا والخيال في مؤخره ومحل الوهمية والحافظة البطن الأخير منه والوهمية في مقدمه والحافظة في مؤخره ومحل المتخيلة الدودة الحاصلة في وسط الدماغ الموضوعة بين البطنين لتأخذ من هذه وهذه فتتصرف فيما فيهما وإنما عرف محالها بالآفة فإنه إذا تطرق آفة إلى محل من هذه المحال اختل فعل القوة المخصوصة به دون غيرها ولولا اختصاص كل بمحله لما كان كذلك
خاتمة أكثر الكلام في هذه القوى بعد نفي القادر المختار على أن
581

النفس ليست مدركة للجزئيات كما أشرنا إليه فلنتكلم في ذلك فنقول المدرك لجميع أصناف الإدراكات النفس لوجوه
الأول ما ذكرناه من الحكم بالكلي على الجزئي وبكل جزئي على أنه غير الآخر
الثاني وجداني إني واجد أسمع وأبصر وأجوع وأشبع
الثالث أن النفس مدبرة للبدن فهو فاعل للجزئيات ولا بد له فيه من إدراك الجزئيات إذ الرأي الكلي نسبته إلى الكل واحدة فلا يصلح لكونه مصدرا للبعض دون البعض وللخصم وجوه
الأول نعلم ضرورة أن إدراك المبصرات حاصل للبصر والأصوات للسمع وعلى هذا وإنكار ذلك مكابرة
الثاني آفة كل عضو توجب آفة فعله
الثالث إذا أدركنا الكرة فلا بد له أن ترتسم في المدرك صورتها ومن المحال ارتسام ما له وضع وحيز فيما لا وضع ولا حيز له
الرابع إذا تصورنا مربعا مجنحا بمربعين هكذا فإنا نميز بين المربعات الثلاثة ونشير إلى وضع كل من الآخر على معنى أين هو من صاحبه فلو كان محله النفس لزم كونه منقسما انقساما في الكم وأنه باطل لأنها مجردة عن المادة
والجواب أن شيئا من ذلك لا ينفي كون الحواس آلات والنفس هي المدركة وهذا القدر كاف في إثبات القوى المذكورة إذ لولا اختصاص كل عضو بقوة لما اختص بكونه آلة لنوع من المدركات دون الآخر
582

النوع الثالث القوى الفاعلة وتنقسم إلى باعثة ومحركة أما الباعثة فإما لجلب النفع وتسمى شهوية وإما لدفع الضر وتسمى غضبية وأما المحركة فهي التي تمدد الأعصاب فتقرب الأعضاء إلى مباديها كما في قبضة اليد وترخيها فتبعد الأعضاء عن مباديها كما في البسط وهذه القوة هي المبدأ القريب للحركة والمبدأ البعيد التصور وبينهما الشوق والإرادة فإن النفس تتصور الحركة فتشتاق إليها فتريدها إرادة قصدة وإيجاد فتحصل
الشرح
النوع الثاني القوة المدركة الباطنة أي القوى التي يكمل بها الإدراك الباطني سواء كان مدركة أو معينة في الإدراك وهي أيضا خمس
الأولى الحس المشترك وهي القوة التي ترتسم فيها صور الجزيئات المحسوسة بالحواس الخمس الظاهرة التي هي الجواسيس لها فتطالعها النفس من ثمة فتدركها ولما كانت هذه القوى آلة للنفس في إدراكها سميت مدركة لها ويثبتها أي يدل على ثبوت الحس المشترك ثلاثة أوجه
الأول لولا أن فينا قوة واحدة مدركة للمحسوسات كلها بحيث ترتسم فيها بأسرها لما أمكننا الحكم ببعض المحسوسات على بعضها إيجابا ولا سلبا مثل أن نحكم بأن هذا الملموس هو هذا الملون أوليس هذا الملون فإن القاضي الحاكم بالنسبة لا بد أن يحضره الخصمان أي
583

المحكوم عليه والمحكوم به حتى يمكنه ملاحظة النسبة بينهما وإيقاع أحد طرفيها وليس شيء من القوى الظاهرة كذلك فلا بد من قوة باطنة فإن قيل الحاكم هو العقل فلا حاجة إلى قوة أخرى قلنا سنبين أن الجزئيات لا يدركها إلا قوى جسمانية فلا يدركها العقل فلا يحكم عليها بل لا بد من قوة جسمانية تدركها برمتها وتحكم فيما بينها ولقائل أن يقول فما قولك في أن حكمنا بأن زيدا إنسان إن كان المدرك لهما واحدا فالمدرك للجزئي هو المدرك للكلي أعني العقل إذ لا يمكن للقوى الجسمانية إدراك الكليات وحينئذ فقد جاز أن يكون الحاكم بين الجزئيات المحسوسة هو العقل وإلا أي وإن لم يكن مدركهما واحدا بطل أصل الدليل وهو أن الحاكم لا بد أن يحضره الطرفان فإن قيل الحاكم هو العقل كما أشرتم إليه أولا لكنه يمتنع ارتسام صور المحسوسات فيه فوجب أن يكون هناك قوة جسمانية ترتسم فيها صورها كلها حتى يتصور حضورها عنده أجيب بأن الحضور عند العقل لا يجب أن يكون باجتماعها في قوة واحدة بل ربما يكفيه ارتسامها في آلات متعددة للعقل كالحواس الظاهرة
الوجه الثاني القطرة النازلة نراها خطا مستقيما والشعلة التي تدار بسرعة شديدة نراها كالدائرة وليستا أي القطرة والشعلة في الخارج عن القوى المدركة خطا ودائرة فهو أي كونهما كذلك إنما يكون في الحس المشترك وليس في الباصرة لأنها إنما تدرك الشيء حيث هو حتى إذا زال عن مكانه لم تدركه فيه بل في مكان آخر فقط فهو لارتسامهما
584

على الوجه المذكور في قوة أخرى سوى الباصرة وليست تلك القوة هي النفس الناطقة لاستحالة اتصافها بما له مقدار فهي قوة جسمانية باطنة ترتسم فيها صور المحسوسات ولقائل أن يقول يجوز أن يكون ذلك لارتسامه في القوة الباصرة وما ذكرتموه من أن الباصرة لا تدرك الشيء إلا حيث هو ممنوع إذ لا دليل عليه سوى الاستقراء الذي لا يفيد اليقين فنقول لم لا يجوز أن ينطبع في الباصرة صورة الجسم في حيز وقبل أن تنمحي هذه الصورة عنها تنطبع فيها صورته في حيز آخر وإذا اجتمعت الصورتان في الباصرة شعرت بهما معا على أنهما صورة واحدة لشيء واحد ممتد على الاستقامة أو الاستدارة ويؤيد ذلك أن ابن سينا يسلم أن البصر يدرك الحركة ويستحيل إدراكها إلا على الوجه الذي صورناه وأيضا ارتسام ما له امتداد في النفس إنما يستحيل إذا كان حلول الصور فيها كحلول الأعراض في محالها وهو مما ينازع فيه لأن الأعراض متمانعة دون الصور
الوجه الثالث ما يراه النائم والمبرسم والكاهن موجود فإن كل واحد منهم يشاهد صورا محسوسة ويدرك أصواتا مسموعة بحيث لا يرتاب فيها ويميز بينها وبين غيرها فلا بد أن يكون لتلك الصور والأصوات وجود إذ العدم المحض يستحيل أن يتميز عن غيره ويشاهد على حسب ما تشاهد الأمور الموجودة وليس وجودها في الخارج وإلا رآها كل سليم الحس فهو في المدرك وهو أي ذلك المدرك جسماني لا عقلي لما مر من أن الجزئيات لا تدركها إلا قوى جسمانية وليس حسا ظاهرا لتعطله في النوم ولأن الرائي ربما كان مغموض العينين فوجب أن يكون حسا باطنا ولقائل أن يقول لعل المدرك لها النفس كما مر من أنها تدرك الكلي والجزئي
585

أيضا وامتناع ارتسام الصور التي لها مقدار فيها غير مسلم عندنا لما عرفت آنفا
واحتج الخصم النافي للحس المشترك بوجهين
الأول أن حصول جبل من ياقوت وبحر من زئبق كما يرى في النوم في جزء من بدن النائم ضروري البطلان قلنا قد ينطبع شبح الكبير في الصغير إنما الممتنع إن يرتسم عين الكبير في الصغير كما مر
الثاني كما نعلم أنا لا نشم الروائح ولا نذوق الطعوم ولا نسمع الأصوات ولا نبصر الألوان بالأيدي والأرجل كذلك
نعلم أنا لا نذوق ولا نلمس ولا نعقل شيئا مما ذكرناه بالدماغ ومنكره مكابر لإنكار ما يجده كل عاقل من نفسه قلنا عدم توسط الدماغ فيه أي في الإدراك الحسي ممنوع وما ذكرتموه لا يدل عليه وأما أنه أي الدماغ ليس آلة جرمية أي ليس جرمة آلة للإحساسات المذكورة كما اقتضاه دليلكم فنعم إذ لا نزاع لنا فيه
الثانية من القوى المدركة الباطنة الخيال وهو يحفظ الصور المرتسمة في الحس المشترك إذا غابت المحسوسات عن الحواس الظاهرة فهو كالخزانة له وبه يعرف من يرى في زمان ثم يغيب ثم يحضر ولولا هذه القوة وحفظها لصور المحسوسات الغائبة لامتنع معرفته أي لامتنع أن يعرف من شيء أنه الذي رؤي فيما سبق من الزمان واختل النظام إذ يحتاج الإنسان حينئذ في كل ما يحس به أن يتعرف حاله في المرة الثانية وما بعدها كما في المرة الأولى فلا يتميز عنده الضار من النافع والصديق من العدو ويختل أمر المعاش والمعاد وأثبت وجود الخيال بوجوه ثلاثة
الأول قوة القبول غير قوة الحفظ فمدرك الصور القابل لها أعني الحس المشترك غير حافظها الذي هو الخيال قلنا ما تمسكتم به هو فرع قولكم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وقد مر بطلانه وإن سلم ذلك فالحفظ مشروط بالقبول بديهة فلا بد أن يجتمع القبول مع الحفظ فكيف
586

تقول القابل غير الحافظ البتة حتى يثبت أن مدرك المحسوسات يجب أن يكون مغايرا لما يحفظها
الثاني الحس المشترك حاكم على المحسوسات كما سلف دونها أي دون القوة الخيالية لأن فعلها الحفظ ولا شك أن ما ليس بحاكم مغاير لما هو حاكم قلنا يجوز أن يكون هناك قوة واحدة قد تحكم تارة ولا تحكم أخرى فلا يلزم إلا التغاير بالاعتبار دون الذات
الثالث الصور المحسوسة إذا كانت مرتسمة في الحس المشترك فهي مشاهدة كما في المحسوسات الحاضرة عندنا بخلاف ما إذا كانت مرتسمة في الخيال فإنها ليست كذلك كما إذا غابت المحسوسات عنا فلا بد من تغير القوتين بحسب الذات قلنا قد يعود ما ذكرتم من الاختلاف بالمشاهدة وعدمها إلى ملاحظة النفس وعدمها بأن تكون الصور مرتسمة في قوة واحدة فتارة تلتفت النفس إليها فتشاهدها وتارة تعرض عنها فلا تشاهدها
الثالثة من تلك القوى هي القوة الوهمية وهي التي تدرك المعاني الجزئية المتعلقة بالصور المحسوسة كالعداوة الجزئية التي تدركها الشاة من الذئب فتهرب منه والمحبة الجزئية التي تدركها السخلة من أمها فتميل إليها فإن هذه المعاني لا بد لها من قوة مدركة سوى الناطقة
قالوا وهي التي تحكم بأن هذا الأصغر هو هذا الحلو ويتجه عليه أن النسبة التي بينهما وإن كانت معنى جزئيا مدركا للقوة الوهمية إلا أن طرفيها محسوسان ومدركان بالحس المشترك والحاكم لا بد أن يدرك
587

الطرفين والنسبة حتى يتمكن من الحكم عليها فلا يجوز أن يكون الحكم المذكور للقوة الوهمية ولا للحس المشترك
الرابعة منها القوة الحافظة وهي الحافظة للمعاني التي تدركها القوة الوهمية كالخزانة لها ونسبتها إلى الوهمية نسبة الخيال إلى الحس المشترك فاستغنى في إثباتها بما ذكرناه ثم الخامسة القوة المتخيلة وهي القوة التي تتصرف في الصور المحسوسة والمعاني الجزئية المنتزعة منها وتصرفها فيها بالتركيب تارة والتفصيل أخرى مثل إنسان ذي رأسين وإنسان عديم الرأس وحيوان نصفه إنسان ونصفه فرس وهذا التصرف غير ثابت لسائر الحواس والقوى فهو لقوة أخرى وهذه القوة إذا استعملها العقل في مدركاته بضم بعضها إلى بعض أو فصله عنه سميت مفكرة كما أنها إذا استعملها الوهم في المحسوسات مطلقا سميت متخيلة
فإن قيل كيف يستعملها الوهم في الصور المحسوسة مع أنه ليس مدركا لها
أجيب بأن القوى الباطنة كالمرايا المتقابلة فينعكس إلى كل منها ما ارتسم في الأخرى والوهمية هي سلطان تلك القوى فلها تصرف في مدركاتها واستعمال ما هو آلة فيها بل لها تسلط على مدركات العاقلة فتنازعها فيها وتحكم عليها بخلاف أحكامها فمن سخرها للقوة العقلية بحيث صارت مطاوعة لها فقد فاز فوزا عظيما ولنختم هذا النوع الثاني بأبحاث
الأول عرف وجود هذه القوى الخمس الباطنة بتعدد الأفعال
588

الخمسة التي هي إدراك المحسوسات وإدراك المعاني الجزئية المتعلقة بها وحفظهما والتصرف فيها لما اعتقدوا أنه لا يصدر عن الواحد إلا الواحد وقد عرفت ما فيه من الفساد ثم إن سلمنا صحته قلنا لم لا يجوز أن تكون القوة واحدة والآلات متعددة أو الشرائط فتصدر تلك الأفعال عنها بحسب تعددها كما جوزتموه في مواضع أخرى
الثاني محل الحس المشترك والخيال هو البطن الأول من الدماغ المنقسم إلى بطون ثلاثة أعظمها الأول ثم الثالث وأما الثاني فهو كمنفد فيما بينهما منفرد على شكل الدودة فالحس المشترك في مقدمه أي مقدم البطن الأول لتصادفه المحسوسات بالحواس الظاهرة أولا والخيال في مؤخره لأنه خزانتها التي تحفظها ومحل الوهمية والحافظة هو البطن الأخير منه والوهمية في مقدمه والحافظة في مؤخره على قياس حال الحس المشترك والخيال في البطن الأول ومحل المتخيلة هو الدودة الحاصلة في وسط الدماغ الموضوعة بين البطنين لتأخذ من هذه المحسوسات التي في أحد جانبها و من هذه المعاني الجزئية التي في الجانب الآخر فتتصرف بالتركيب والتفصيل فيما فيهما أي في البطنين الأول والأخير من الصور والمعاني والمشهور في الكتب المعول عليها أن المتخيلة في مقدم الدودة والوهمية في مؤخرها والحافظة في مقدم البطن الأخير وليس في مؤخره شيء من هذه القوى إذ لا حارس هناك من الحواس فتكثر مصادماته المؤدية إلى الاختلال وإنما عرف محالها المذكورة بالآفة فإنه إذا تطرق آفة إلى محل من هذه المحال اختل فعل القوة المخصوصة به دون غيرها أي دون فعل غيرها من أفعال سائر القوى ولولا اختصاص كل من هذه القوى بمحله لما كان الأمر كذلك
589

خاتمة لأبحاث النوع الثاني وهي البحث الثالث أكثر الكلام الذي نقلناه عنهم في إثبات هذه القوى وتعددها بعد بنائه على نفي القادر المختار الموجد لجميع الأشياء ابتداء بمجرد إرادته مبني على أن النفس الناطقة ليست مدركة للجزئيات كما أشرنا إليه في أثناء الكلام المنقول فلنتكلم في ذلك فنقول المدرك لجميع أصناف الإدراكات هو النفس لوجوه
الأول ما ذكرناه من الحكم بالكلي على الجزئي في مثل قولنا زيد إنسان وبكل جزئي على أنه غير الآخر أي والحكم بسبب أحد الجزئين عن الآخر كما في قولك زيد ليس بعمرو فلا بد من قوة تدرك الكليات وجميع أنواع الجزئيات من المحسوسات مشاهدة ومتخيلة والمعاني الجزئية متوهمة ومحفوظة ولا يجوز أن تكون هذه القوى جسمانية اتفاقا فهي القوة العاقلة
الثاني وجداني بلا شبهة إني واجد أسمع وأبصر وأجوع وأشبع وأدرك المعقولات فالمدرك للكل واحد وليس إلا النفس
الثالث أن النفس مدبرة للبدن المعين فهو أي النفس بتأويل الإنسان فاعل للجزئيات من الأفعال التدبيرية ولا بد له فيه أي في كونه فاعلا للأفعال الجزئية من إدراك الجزئيات الصادرة عنه إذ الرأي الكلي نسبته إلى الكل من آحاد ذلك الكلي واحد فلا يصلح الرأي الكلي لكونه مصدرا للبعض دون البعض فالنفس مدركة للجزئيات وفي المباحث المشرقية هي مدبرة لبدن شخص وتدبير الشيء للشخص من حيث هو ذلك الشخص يستحيل إلا بعد العلم به من حيث هو هو فإذن هي مدركة للبدن الجزئي وللخصم القائل بأن النفس لا تدرك الجزئيات وجوه
590

الأول نعلم ضرورة أن إدراك المبصرات حاصل للبصر وإدراك الأصوات للسمع وعلى هذا إدراك سائر المحسوسات فإنه حاصل للحواس المخصوصة وإنكار ذلك مكابرة مصادمة للبديهة فلا يلتفت إليه
الثاني آفة كل عضو هو محل لقوة توجب آفة فعله الذي نسب إليه فلولا أنه فعله حقيقة لما كان كذلك وهذا إنما يظهر في الحواس الظاهرة وأما في الباطنة فيستعان بالتجارب الطبية من أن الآفة متى حدثت في مقدم البطن الأول اختل الإحساس دون تخيل المحسوسات السابقة ومتى حدثت في مؤخره اختل التخيل دون الإحساس وهكذا الحال في سائر القوى الباطنة
الثالث إذا أدركنا الكرة الشخصية مثلا فلا بد له أي لإدراكنا إياها أن ترتسم في المدرك منا صورتها المتصفة بمقدار مخصوص ووضع معين وحيز لازم لهما ومن المحال ارتسام ما له وضع وحيز فيما لا وضع ولا حيز له أعني النفس المجردة بل لا بد أن يكون ارتسامه في قوة جسمانية
الرابع إذا تصورنا مربعا مشخصا على مقدار مخصوص مجنحا بمربعين مشخصين على وضع معين هكذا فإنا نميز بين المربعات الثلاثة ونشير إلى وضع كل من الآخر على معنى أين هو صاحبه وأحد الجناحين عن يمين المجنح والآخر عن يساره فلو كان محله أي محل ارتسام هذا المتصور هو النفس لزم كونه أي كون هذا المحل الذي هو النفس منقسما انقساما في الكم وأنه باطل لأنها مجردة عن المادة فلا تقبل الانقسام المقداري
والجواب عن وجوه الخصم أن شيئا من ذلك الذي ذكره لا
591

ينفي كون الحواس آلات والنفس هي المدركة فترتسم الجزئيات في تلك الآلات وتدركها النفس لملاحظتها في آلاتها فلا يلزم انقسام النفس ولا كونها ذات وضع وحيز وتكون آفة الفعل باختلال الآلات دون المدرك ويصح إسناد الإدراك إلى تلك الآلات وإن لم تكن مدركة حقيقة وهذا القدر الذي لا ينفيه شبه الخصم كاف للمستدل في إثبات القوى المذكورة إذ يعلم بالضرورة أنه لولا اختصاص كل عضو من تلك الأعضاء بقوة مخصوصة لما اختص بكونه آلة لنوع من المدركات دون الآخر وبذلك يثبت وجود القوى وتعددها وهو المطلوب
النوع الثالث القوى الفاعلة هي التي عبر عنها فيما سبق بالمحركة على معنى أن لها مدخلا في الحركة إما بالتحريك أو الإعانة على قياس ما مر في المدركة وفائدة العدول ظاهرة وتنقسم إلى قوة باعثة على الحركة وقوة محركة مباشرة للتحريك أما الباعثة وتسمى شوقية ونزوعية فإما لجلب النفع وتسمى شهوية وإما لدفع الضرر وتسمى غضبية وأما المحركة فهي التي تمدد الأعصاب بتشنيج العضلات فتقرب الأعضاء إلى مباديها كما في قبض اليد مثلا وترخيها أي ترخي الأعصاب بإرخاء العضلات فتبعد الأعضاء عن مباديها كما في البسط أي بسط اليد وهذه القوة المثبتة في العضلات هي المبدأ القريب للحركة والمبدأ البعيد وهو التصور وبينها الشوق والإرادة فهذه مباد أربعة مترتبة للأفعال الاختيارية الصادرة عن الحيوان فإن النفس تتصور الحركة أولا فتشتاق إليها ثانيا بناء على اعتقاد نفع فيها فتريدها ثالثا إرادة قصد إليها وإيجاد لها فتحصل الحركة بتمديد الأعصاب وإرخائها رابعا وقال بعضهم الشوق إنما يوجد فيمن ليس قدرته تامة فتردد وتشتاق وأما الذي يثق بقدرته فلا شوق له
592

القسم الثالث في النفس الإنسانية
المتن
وقواها تسمى القوة العقلية فباعتبار إدراكها للكليات والحكم بينها بالنسبة الإيجابية أو السلبية تسمى القوة النظرية وباعتبار استنباطها للصناعات الفكرية ومزاولتها للرأي والمشورة تسمى القوة العملية ويحدث فيها من القوة هيئات انفعالية هي الضحك والخجل والحياء وأخواتها
الشرح
القسم الثالث من الأقسام الثلاثة التي في الفصل الثالث المعقود لبيان المركبات التي لها نفس في النفس الإنسانية أي في بيان قواها ولذلك قال وقواها يعني المخصوصة بها تسمى القوة العقلية فباعتبار إدراكها للكليات والحكم بينها بالنسبة الإيجابية أو السلبية تسمى القوة النظرية والعقل النظري وباعتبار استنباطها للصناعات الفكرية ومزاولتها للرأي والمشورة في الأمور الجزئية مما ينبغي أن تفعل أو تترك تسمى القوة العملية والعقل العملي فهاتان قوتان متغايرتان إما بالذات أو بالاعتبار اختص بهما الإنسان من بين سائر الحيوان فالأولى للأحكام الكلية صادقة
593

كانت أو كاذبة والثانية للأحكام المتعلقة بأفعال جزئية سواء كانت خيرات أو شرورا جميلة أو قبيحة وهذه القوة مستمدة من القوة النظرية لأن استخراج الآراء الجزئية إنما يكون بضرب من التأمل والقياس فلا بد هناك من مقدمة كلية كأن يقال مثلا هذا الفعل كذا وكذا وكل ما هو كذا فهو جميل ينبغي أن يفعل أو قبيح ينبغي أن يترك فتكون صغرى القياس شخصية وكبراه كلية فيحصل منهما رأي في أمر جزئي مستقبل من الأمور الممكنة فإن الواجبات والممتنعات لا تروى في كيفية إيجادها وإعدامها وكذا الماضي والحاضر لا تروى فيهما أيضا للإيجاد أو الإعدام بل ذلك مخصوص بالأمور المستقبلة وإذا حكمت هذه القوة بهذا الرأي الجزئي تبع حكمها حركة القوة الاجتماعية إلى تحريك البدن ويحدث فيها أي في النفس الإنسانية من القوة العملية الشوقية هيئات انفعالية تتبعها أحوال بدنية هي الضحك التابع للتعجب الحادث في النفس من إدراك الأمور الغريبة الخفية لأسباب والخجل والحياء وأخواتها من الخوف والحزن والحقد وغيرها من الانفعالات المختصة بالإنسان فظهر أن النفس تتأثر من قواها كما أنه يؤثر فيها
594

القسم الرابع في المركبات التي لا مزاج لها
المتن
اعلم أن حر الشمس يصعد أجزاء إما هوائية ومائية وهو البخار وإما نارية وأرضية وهو الدخان ومنهما يتكون جميع الآثار العلوية أما البخار فإن اشتد الحر حلل المائية وبقي الهواء الصرف وإلا فإن وصل إلى الزمهريرية عقده ببرده فصار سحابا وتقاطرت الأجزاء المائية إما بلا جمود وهو المطر وإما مع جمود فإن كان كان الجمود قيل الاجتماع فهو الثلج وإن كان بعده فهو البرد وإنما يستدير بالحركة وإن لم يصل إلى الزمهريرية فهو الضباب وقليله قد يتكاثف ببرد الليل فينزل إما بلا جمود وهو الطل أو معه وهو الصقيع وأما الدخان فربما يخالط السحاب فيخرقه إما في صعوده بالطبع أو عند هبوطه للتكاثف بالبرد فيحدث من خرقه له ومصاكته إياه صوت هو الرعد وقد يشتعل بقوة التسخين الحاصل من الحركة والمصاكة فلطيفه ينطفئ سريعا وهو البرق وكثيفه لا ينطفئ حتى يصل إلى الأرض وهو الصاعقة وأنه أعني الدخان قد يصل إلى كرة النار فيخترق كالشمعة التي تطفأ ويحاذي بها من تحت شمعة مشتعلة فيشتعل الدخان وتتصل بالشمعة السفلانية فتشتعل فما كان منه لطيفا صار مشتعلا ونفذ فيه النار بسرعة فيرى ذلك كأنه كوكب ينقض وهو الشهاب وما كان منه
595

كثيفا تعلق به النار تعلقا تاما من غير اشتعال ودام متصلا لا ينطفئ وهو الذؤابات والأذناب والنيازك وذوات القرون وما كان غيلظا تعلق به النار تعلقا ما فيحدث في الجو علامات سود أو حمر وقد تقف الذؤابات ونحوها بجنب كوكب فيديرها الفلك معه مشايعة إياه فترى كأن لذلك الكوكب ذؤابة أو ذنبا أو قرنا أو أكثر وهذه الأقسام إذا اتصلت بالأرض أحرقت ما عليها ويسمى الحريق وأيضا فالدخان قد ينكسر حره عند الوصول إلى الكرة الزمهريرية فيرجع بطبعها أو يصعد ويصادم الفلك فيرجع وعلى التقديرين فيتموج الهواء وهو الريح ولذلك كان أكثر مبادي الرياح فوقانية كما تشهد به التجربة والريح كما يحدث بهذا الطريق فقد يحدث بأن يتخلخل الهواء فيندفع فيدافع ما يجاوره فيطاوعه وتضعف المدافعة إلى غاية ما فيقف وقد يحدث رياح مختلفة الجهة دفعة فتدافع الأجزاء الأرضية فتنضغط بينها مرتفعة كأنها تلتوي على نفسها وهي الزوابع والإعصار وأيضا فقد يحدث في الجو أجزاء رشية صقيلة كدائرة تحيط بغيم رقيق لا يحجب ما وراءه فينعكس منها ضوء البصر لصقالتها إلى القمر فيرى ضوؤه دون شكله فإن الصقيل إذا صغر جدا أدى الضوء واللون دون الشكل والتخطيط كما في المرآة الصغيرة فيرى جميع تلك الدائرة كأنها منورة بنور ضعيف وتسمى الهالة وقد يحدث مثل ذلك في خلاف جهة الشمس وهي قوس قزح وتختلف ألوانها بحسب أجزاء السحاب وما وراءها وما ينعكس منها الضوء من الأجرام الكثيفة ورأيت بعض فضلاء زماننا ممن له في علم المناظر كعب عال يدعي بطلان ذلك لكنه رأي الجمهور فذكرناه متابعة لهم
وأيضا فالبخار المحتقن في الأرض يخرج القليل من مسامها وينقلب
596

الكثير بمعونة البرد ماء ويشفها ومنه العيون إذا كان البخار كثيرا فحصل المدد بعد المدد كأن الفائض يحدث الثاني ضرورة امتناع الخلاء
وأيضا فالبخار والدخان اللذان في الأرض قد يكثران ويريدان الخروج منها ومسامها متكاثفة فيزلزلانها بحركتيهما ومنه تتكون الزلازل وقد يخرج البخار والدخان وقد صار نارا لشدة الحركة وأيضا فيحدث في الأرض قوة كبريتية وفي الهواء رطوبة يختلط بخار الكبريت بأجزاء الهواء الرطب فيفيد مزاجا فيصير دهنا وربما يشتعل بأنوار الكواكب وبغيرها
ملخص ما ذكرناه كله آراء الفلاسفة حيث نفوا القادر المختار فأحالوا اختلاف الأجسام بالصور إلى استعداد واختلاف آثارها إلى صورها المتباينة وأمزجتها وكل ذلك إلى حركات الأفلاك وأوضاعها
وأما المتكلمون فقالوا الأجسام متجانسة بالذات لتركبها من الجواهر الأفراد وأنها متماثلة لا اختلاف فيها وإنما يعرض الاختلاف للأجسام لا في ذواتها بل بما يحصل فيها من الأعراض بفعل القادر المختار هذا ما قد أجمعوا عليه إلا النظام فإنه يجعل الأجسام نفس الأعراض والأعراض مختلفة بالحقيقة فتكون الأجسام كذلك
القسم الخامس من الأقسام الخمسة التي ينطوي عليها الفصل الثاني من فصول المرصد الأول من موقف الجواهر فلا يستعبد ورود الخامس عقيب الثالث في المركبات التي لا مزاج لها
إعلم أن حر الشمس وغيرها يصعد إلى الجو أجزاء إما هوائية
597

ومائية مختلطتين وهو البخار وصعوده ثقيل وإما نارية وأرضية وهو الدخان وصعوده خفيف وليس ينحصر الدخان كما تعورف في الجسم الأسود الذي يرتفع مما يحترق بالنار وقلما يصعد البخار والدخان ساذجا بل يتصاعدان في
الأغلب ممتزجين ومنهما يتكون جميع الآثار العلوية أما البخار فإن قل واشتد الحر في الهواء حلل الأجزاء المائية وقلبها إلى الهوائية وبقي الهواء الصرف وإلا أي وإن لم يكن الأمر كذلك بل كان البخار كثيرا ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فإن وصل ذلك البخار بصعوده إلى الطبقة الزمهريرية التي هي الهواء البارد كما عرفت عقده ببرده وتكاثف فصار سحابا وتقاطرت الأجزاء المائية إما بلا جمود إذا لم يكن البرد شديدا وهو المطر وإما مع جمود إذا كان البرد شديدا فإن كان الجمود قبل الاجتماع والتقاطر وصيرورته حباب كبارا فهو الثلج وإن كان الجمود بعده فهو البرد وإنما يستدير ويصير كالكرة بالحركة السريعة الخارقة للهواء بمصادمته فتنمحي الزوايا عن جوانب القطرات المنجمدة وإن لم يصل البخار بالتصاعد إلى الزمهريرية فإما أن يكون كثيرا أو قليلا فالكثيرة قد تنعقد سحابا ماطرا كما حكى ابن سينا أنه شاهد البخار قد صعد من أسافل بعض الجبال صعودا يسيرا وتكاثف حتى كأنه مكبة موضوعة على وهدة فكان هو فوق تلك الغمامة في الشمس وكان من تحتها من أهل القرية التي كانت هناك يمطرون وقد لا ينعقد فهو أي هذا البخار الكثير المتكاثف الذي لم ينعقد سحابا ماطرا الضباب المجاور لوجه الأرض وأما قليله أي قليل البخار الذي لم يصل إلى تلك الطبقة فإنه قد يتكاثف ببرد الليل فينزل نزولا ثقيلا في أجزاء صغار لا يحس بنزولها إلا عند اجتماع شيء يعتد به أما بلا جمود بعد النزول وهو الطل أو معه وهو الصقيع ونسبته إلى الطل كنسبة الثلج إلى المطر وقد
598

يتكون السحاب من إنقباض الهواء بالبرد الشديد فيحصل حينئذ منه الأقسام المذكورة
قال الإمام الرازي أن تكون هذه الأشياء في الأكثر من تكاثف البخار وفي الأقل من تكاثف الهواء وأما الدخان فربما يخالط السحاب بأن ترفع أبخرة وأدخنة كثيرة مختلطة إلى الطبقة الزمهريرية فيتكاثف البخار وينعقد سحابا فينحبس ذلك الدخان في جوف السحاب فيخرقه إما في صعوده بالطبع لبقائه على حرارته المقتضية لتصعيده أو عند هبوطه للتكاثف أي لتكاثفه بالبرد الشديد الواصل إليه فيحدث من خرقه له أي خرق الدخان وتمزيقه للسحاب صاعدا أو هابطا ومصاكته إياه صوت هو الرعد وقد يشتعل الدخان بقوة التسخين وذلك لأنه شيء لطيف وفيه مائية وأرضية عمل فيهما الحرارة والحركة والخلخلة المازجة عملا قرب مزاجه من الدهنية فصار بحيث يشتعل بأدنى سبب مشتعل فكيف لا يشتعل بالتسخين القوي الحاصل من الحركة الشديدة والمصاكة العنيفة وإذا اشتعل فلطيفه ينطفئ سريعا وهو البرق وكثيفه لا ينطفئ إلى أن يصل إلى الأرض وهو الصاعقة وإذا وصل إليها فربما صار لطيفا ينفذ في المتخلخل ولا يحرقه ويذيب الأجسام المندمجة فيذيب الذهب والفضة في الصرة مثلا وألا يحرقها إلا ما احترق من الذوب وقد أخبرنا أهل التواتر بأن الصاعقة وقعت بشيراز على قبة الشيخ الكبير أبي عبد الله بن خفيف قدس سرة فأذاب قنديلا فيها ولم يحرق شيئا منها وربما كان كثيفا غليظا جدا فيحرق كل شيء
599

أصابه وكثيرا ما يقع على الجبل فيدكه دكا ويحكى أن صبيا كان في صحراء فأصاب ساقيه صاعقة فسقط رجلاه ولم يخرج منه دم لحصول الكي بحرارتها وأنه أعني الدخان قد يصل إلى كرة النار وذلك لأنه أجزاء أرضية يابسة جدا فيحفظ الحرارة التي يصعدها بخلاف البخار فيحترق الدخان حينئذ كالشمعة التي تطفأ ويحاذى بها من تحت شمعة مشتعلة فيشتعل الدخان الواصل إلى الشمعة الفوقانية وتتصل النار التي وقعت في ذلك الدخان بالشمعة السفلانية فتشتعل بهذه النار فما كان منه أي من الدخان لطيفا صار مشتعلا ونفذ فيه النار بسرعة فيرى ذلك المشتعل كأنه كوكب ينقض وهو الشهاب وما كان منه كثيفا لا في الغاية تعلق به النار تعلقا تاما من غير اشتعال بل ثبت فيه الاحتراق ودام متصلا لا ينطفئ أياما وشهورا ويكون على صورة ذؤابة أو ذنب أو رمح أو حيوان له قرون كما أشار إليه بقوله وهو الذؤابات والأذناب والنيازك وذوات القرون وما كان من البخار غليظا أي كثيفا جدا تعلق به النار تعلقا ما لا تعلقا تاما فيحدث في الجو علامات سود أو حمر على حسب غلظ المادة فإذا كانت غليظة ظهرت الحمرة وإذا كانت أغلظ ظهر السواد وقد تقف الذؤابات ونحوها بجنب كوكب فيديرها الفلك معه مشايعة إياه فترى كأن لذلك الكوكب ذؤابة أو ذنبا أو قرنا واحدا أو أكثر من واحد وهذه الأقسام التي ذكرناها للدخان الواصل إلى كرة النار إذا اتصلت بالأرض أحرقت ما عليها وتسمى الحريق
وفي المباحث المشرقية إذا ارتفع بخار دخاني لزج دهني وتصاعد
600

حتى وصل إلى حيز النار من غير أن ينقطع اتصاله عن الأرض اشتعلت النار فيه نازلة فيرى كأن تنينا ينزل من السماء إلى الأرض فإذا وصلت إلى الأرض أحرقت تلك المادة بالكلية وما يقرب منها وسبيل ذلك سبيل السراج المطفى إذا وضع تحت السراج المشتعل فاتصل الدخان من الأول إلى الثاني فانحدر اللهب إلى فتيلته وأيضا نقول فالدخان قد ينكسر حره عند الوصول إلى الكرة الزمهريرية فيثقل فيرجع بطبعها إلى الأرض أو لا ينكسر وحينئذ يصعد ويصادم كرة النار لا الفلك على ما وقع في النسخ لأن نفوذه في النار البسيطة العالية على الإحالة إلى طبيعتها غير معقول بحسب الظاهر فيرجع ويرتد بمصادمته كرة النار المتحركة بحركة الفلك رجوعا على جهات مختلفة كما يرد بعصا دائرة سهام على جهات شتى وعلى التقديرين فيتموج الهواء ويضطرب وهو الريح
قيل قد وقع في كلام أرسطو أن الريح يحد بأنه متحرك وهو هواء لا بأنه هواء متحرك
قال الإمام الرازي والذي يمكن أن يقال فيه أن الهواء مادة الريح وموضعها فلا يجوز وضعها موضع الجنس ولذلك الذي ذكرناه من حال الدخان في توليد الريح كان أكثر مبادي الرياح فوقانية كما تشهد به التجربة والريح كما يحدث بهذا الطريق في الأغلب فقد يحدث أيضا بأن يتخلخل الهواء فيندفع عن مكانه بواسطة عظم مقداره فيدافع ما يجاوره فيطاوعه ويدافع ذلك المجاور أيضا مجاوره فيتموج الهواء
601

وتضعف تلك المدافعة شيئا فشيئا إلى غاية ما فيقف وقد يحدث رياح مختلفة الجهة دفعة فتدافع تلك الرياح الأجزاء الأرضية فتنضغط الأجزاء الأرضية بينها مرتفعة كأنها تلتوي على نفسها وهي الزوابع جمع زوبعة وهي الريح المستديرة على نفسها والإعصار المسمى في الفارسية بكرد باد هذا وقد قيل بين الريح والمطر تمانع وتعاون أما التمانع فلأن الريح في الأكثر تلطف مادة السحاب بحرارتها وتفرقها بتحريكها والمطر يبل الأدخنة ويصل بعضها ببعض فيثقل حينئذ ولا يتمكن من الصعود فكل سنة يكثر فيها المطر تقل فيها الريح وبالعكس وأما التعاون فلأن المطر يبل الأرض فيعيدها لأن يصعد منها دخان إذ الرطوبة تعين على تحلل اليابس وتصعده والريح تجمع السحاب وتهرب برودة السحاب إلى باطنه فيشتد البرد المكثف وأما مهاب الرياح فغير منحصرة حقيقة في عدد إلا أنهم جعلوا أصولها أربعة هي نقط المشرق والمغرب والشمال والجنوب والعرب تسمى الرياح التي تهب منها بالقبول والدبور والشمال والجنوب وتسمى التي تهب مما بينها نكباء وأيضا نقول فقد يحدث في الجو أجزاء رطبة رشية صقيلة كدائرة تحيط تلك الأجزاء بغيم رقيق لطيف لا يحجب ما وراءه عن الإبصار فينعكس منها أي من تلك الأجزاء الواقعة على ذلك الوضع ضوء البصر لصقالتها إلى القمر فيرى في تلك الأجزاء ضوؤه دون شكله فإن الصقيل الذي ينعكس منه شعاع البصر إذا صغر جدا بحيث لا ينقسم في الحس أدى الضوء واللون دون الشكل والتخطيط كما في المرآة الصغيرة وتلك الأجزاء الرشية مرايا صغار متراصة على هيئة الدائرة فيرى جميع تلك الدائرة كأنها منورة بنور ضعيف وتسمى الهالة وإنما لا يرى الجزء الذي يقابل القمر من ذلك الغيم لأن قوة الشعاع تخفي حجم السحاب الذي لا يستره فلا يرى فيه خيال القمر كيف والشيء إنما يرى على الاستقامة نفسه لا شبحه بخلاف أجزائه التي لا تقابله فإنها تؤدي خيال ضوئه كما عرفت قبل وأكثر ما تتولد الهالة عند عدم الريح فإن تمزقت من جميع الجهات دلت على الصحو وإن سخن السحاب حتى بطلت دلت على المطر لأن الأجزاء المائية قد كثرت وإن انحرفت من جهة دلت على
602

ريح تأتي من تلك الجهة وإذا اتفق أن توجد سحابتان على الصفة المذكورة إحداهما تحت الأخرى حدثت هناك هالة تحت هالة وتكون التحتانية أعظم لأنها أقرب إلينا وزعم بعضهم أنه رأى سبع هالات معا واعلم أن هالة الشمس وتسمى الطفاوة بضم الطاء نادرة جدا لأن الشمس تحلل السحب الرقيقة ومع ذلك فقد زعم ابن سينا أنه رأى حول الشمس هالة تامة في ألوان قوس قزح ورأى بعد ذلك هالة فيها قوسية قليلة وإنما تنفرج هالة الشمس إذ كثف السحاب وأظلم وحكى أيضا أنه رأى حول القمر هالة قوسية اللون لأن السحاب كان غليظا فتقوس في أجزاء الضوء وعرض ما يعرض للقوس وقد يحدث مثل ذلك الذي ذكرناه من الأجزاء الرشية الصقيلة على هيئة الاستدارة في خلاف جهة الشمس وهو قوس قزح وتفصيله أنه إذا وجد في خلاف جهة الشمس أجزاء رشية لطيفة صافية على تلك الهيئة وكان وراءها جسم كثيف إما جبل أو سحاب كدر وكانت الشمس قريبة من الأفق فإذا أدبر على الشمس ونظر إلى تلك الأجزاء انعكس شعاع البصر عنها إلى الشمس ولما كانت صغيرة جدا لم يؤد الشكل بل اللون الذي يكون مركبا من ضوء الشمس ولون المرآة وتختلف ألوانها أي ألوان قوس قزح بحسب اختلاف أجزاء السحاب في ألوانها وبحسب
ألوان ما وراءها من الجبار و أوان ما ينعكس منها الضوء من الأجرام الكثيفة ورأيت بعض فضلاء زماننا ممن له في علم المناظر كسب عال وهو المولى الفاضل كمال الملة والدين الحسن الفارسي برد الله
603

مضجعه يدعي بطلان ذلك الذي ذكرناه من أسباب الهالة وقوس قزح لكنه أي ما ذكرناه فيها رأي الجمهور قد ذكرناه متابعة لهم وفي المباحث المشرقية زعم بعضهم أن السبب في حدوث أمثال هذه الحوادث اتصالات فلكية وقوى روحانية اقتضت وجودها وحينئذ لا تكون من قبيل الخيالات وهو أن يرى صورة شيء مع صورة شيء آخر مظهر له كالمرآة فيظن أن الصورة الأولى حاصلة في الشيء الثاني ولا يكون فيه بحسب نفس الأمر
قال الإمام الرازي وهذا الذي ذكره لا ينافي ما ذكرناه فإن الصحة والمرض قد يستندان إلى أسباب عنصرية تارة وإلى اتصالات فلكية وتأثيرات نفسانية أخرى لكن هذا الوجه يؤيده أن أصحاب التحارب شهدوا بأن أمثال هذه الحوادث في الجو تدل على حدوث حوادث في الأرض فلولا أنها موجودات مستندة إلى تلك الاتصالات والأوضاع لم يستمر هذا الاستدلال وأيضا نقول فالبخار المحتقن في الأرض يخرج القليل من مسامها وينقلب الكثير بمعونة البرد الذي في باطن الأرض ماء ويشفها فيخرج منها ومنه العيون السيالة إذا كان البخار كثيرا فحصل المدد بعد المدد كان الفائض يحدث الثاني ضرورة امتناع الخلاء فإن البخار الذي انقلب ماء وفاض إلى وجه الأرض وجب أن ينجذب إلى مكانه ما يقوم مقامه لئلا يكون خلاء فينقلب هو أيضا ماء ويفيض وهكذا يستنبع كل جزء منه جزءا آخر
قال الإمام الرازي ومياه العيون الراكدة تحدث من أبخرة بلغت من قوتها أن اندفعت إلى وجه الأرض ولكن لم تبلغ من كثرة مددها وقوتها أن يطرد تاليها سابقها وهذا الكلام ينافي ما ذكره المصنف من التعليل بامتناع
604

الخلاء ويقتضي أن يعلل السيلان بكثرة الأبخرة المقتضية للاندفاع إلى فوق والركود بقلتها فتأمل
قال ومياه القنى والآبار متولدة من أبخرة ناقصة القوة عن أن تشق الأرض فإذا أزيل ثقل الأرض عن وجهها صادفت منفذا تندفع إليه بأدنى حركة فإن لم يحصل هناك مسيل فهو البئر وإن حصل فهو القناة ونسبة القنى إلى الآبار كنسبة العيون السيالة إلى الراكدة واعلم أن النزح من الآبار والعيون الراكدة سبب لنبوع الماء فيها لأن ثقل الماء الظاهر يمنع سائر الأبخرة عن الظهور فإذا نزح قويت تلك الأبخرة واندفعت إلى خارج وقد اختلفوا في أن هذه المياه متولدة من أجزاء مائية متفرقة في عمق الأرض إذا اجتمعت أو من الهواء البخاري الذي ينقلب ماء وهذا الثاني وإن كان ممكنا إلا أن الأول أولى لأن مياه العيون والقنوات والآبار تزيد بزيادة الثلوج والأمطار وأيضا نقول فالبخار والدخان اللذان في الأرض قد يكثران ويزيدان الخروج منها بقوة ومسامها متكاثفة فيزلزلانها بحركتيهما ومنه تتكون الزلازل وإذا كانا قليلين أو كان مسامها مفتوحة لم يكن زلزلة ولذلك قلت الزلازل في الأراضي الرخوة وإذا كثرت الآبار والقنى في أرض صلبة قلت زلزلتها وقد يخرج البخار والدخان الممتزجان امتزاجا مقربا إلى الدهنية وقد صار نارا لشدة الحركة المقتضية للاشتعال والانقلاب إلى النارية وربما قويت المادة على شق الأرض فتحدث أصوات هائلة ثم إن وقع هذا الشق في بلدة جعل عاليها سافلها وربما كان في موضع الانشقاق وهدأت فيسقط ما فوق الأرض في تلك الوهدات قليلا ما تتزلزل الأرض بسقوط تلك الجبال عليها بتواتر المطر وشدته وأيضا نقول فيحدث في الأرض قوة كبريتية وفي الهواء رطوبة يختلط بخار الكبريت بأجزاء الهواء الرطب فيفيد مزاجا فيصير دهنا أي في طبيعة الدهن وربما يشتعل بأنوار الكواكب وبغيرها فيرى بالليل في ذلك الموضع شعلة مضيئة غير محترقة إحتراقا يعتد به وذلك للطفها
ملخص بعبارة جامعة وافية ما ذكرناه في الفصل الثاني أو في
605

المرصد الأول كله آراء الفلاسفة حيث نفوا القادر المختار كما سبقت إليه الإشارة في إسناده الكلام مرة بعد أخرى فأحالوا اختلاف الأجسام بالصور إلى استعدادها في موادها يقتضي اختلاف الصور الحالة فيها وأحالوا اختلاف آثارها إلى صورها المتباينة وأمزجتها المتخالفة وأحالوا كل ذلك في الأجسام العنصرية وأسندوه بالآخرة إلى حركات الأفلاك وأوضاعها وأما المتكلمون فقالوا الأجسام متجانسة بالذات أي متوافقة الحقيقة لتركبها من الجواهر الأفراد وأنها متماثلة لا اختلاف فيها وإنما يعرض الاختلاف للأجسام لا في ذواتها بل بما يحصل فيها من الأعراض بفعل القادر المختار فالأجسام على رأيهم متوافقة في الحقيقة متخالفة بالأمور الخارجية عن ذواتها هذا ما قد أجمعوا عليه إلا النظام فإنه يجعل الأجسام نفس الأعراض الملتئمة منها الأجسام والأعراض التي تركب منها الجسم مختلفة بالحقيقة قطعا فتكون الأجسام أيضا كذلك أي مختلفة بالحقيقة وقد سبق في المقصد الثاني من الفصل الأول من هذا المرصد أنه لا محيص لمن يذهب إلى تجانس الجواهر الأفراد من جعل الأعراض داخلة في حقيقة الجسم وهو مبني على أن الأجسام متخالفة الحقائق بالضرورة فيكون منافيا لما قد أجمعوا عليه من تماثلها في الحقيقة وتخالفها بالأمور الخارجة الحالة فيها
606

المرصد الثاني في عوارض الأجسام
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
في أن الأجسام محدثة إنها إما أن تكون محدثة بذواتها وصفاتها أو قديمة بذواتها وصفاتها أو قديمة بذواتها محدثة بصفاتها أو بالعكس فهذه أربعة أقسام ثم إما أن تقول بواحد منها أو لا تقول فهذه خمسة احتمالات
الأول أنها محدثة بذواتها وصفاتها وهو الحق وبه قال المليون من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس
الثاني أنها قديمة بذواتها وصفاتها وإليه ذهب أرسطو ومن تبعه من متأخري الفلاسفة وتفصيل مذهبهم أنهم قالوا الأجسام تنقسم كما علمت إلى فلكيات وعنصريات أما الفلكيات فإنها قديمة بموادها وصورها وأعراضها إلا الحركات والأوضاع المشخصة فإنها حادثة وأما العنصريات
607

فقديمة بموادها وبصورها الجسمية بنوعها وبصورها النوعية بجنسها نعم الصور المشخصة فيهما والأعراض المختصة محدثة ولا امتناع في حدوث بعض الصور النوعية
الثالث قديمة بذواتها محدثة بصفاتها وهو قول من تقدم أرسطو من الحكماء وهؤلاء قد اختلفوا في تلك الذوات فمنهم من قال إنه جسم واختلف في ذلك الجسم أي الأجسام هو ففي التوراة إن الله تعالى خلق جوهرة ونظر إليها نظر الهيبة فذابت فحصل البخار ومن زبدها الأرض ومن دخانها السماء وقيل الأرض وحصلت البواقي بالتلطيف وقيل النار وحصلت البواقي بالتكثيف وقيل البخار وحصلت العناصر بالتلطيف وبالتكثيف وقيل الخليط من كل شيء لحم وخبز وغير ذلك فإذا اجتمع من جنس منها شيء له قدر محسوس ظن أنه قد حدث ولم يحدث إنما تحدث الصورة التي أوجبها الاجتماع
ومنهم من قال إنه ليس بجسم واختلف فيما هو فقالت الثنوية النور والظلمة والحرنانيون النفس والهيولى عشقت النفس بالهيولى لتوقف كمالاتها عليها فحصل من اختلاطهما أنواع المكونات
وقيل هي الوحدة فإنها تجزأت فصارت نقطا واجتمعت النقط خطا والخطوط سطحا والسطوح جسما
الرابع إنها حادثة بذواتها قديمة بذواتها وهذا لم يقل به أحد لأنه ضروري البطلان
608

الخامس التوقف في الكل وهو مذهب جالينوس لنا في حدوث الأجسام مسالك
المسلك الأول وهو المشهور الأجسام لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وأما المقدمة الأولى فلوجهين
الأول إن الأجسام لا تخلو عن الأعراض لما مر وإذ لا توجد بدون التمايز وقد بينا أن التمايز بالأعراض ثم الأعراض حادثة لأنها لا تبقى زمانين وقد مر بيانهما
الثاني الجسم لا يخلو عن الحركة السكون وهما حادثان إنما قلنا إن الجسم لا يخلو عنهما لأنه لا يخلو عن الكون في حيز فإن كان مسبوقا بالكون في ذلك الحيز فهو ساكن وإلا فهو متحرك لا يقال منقوض بالجسم في أول حدوثه لأنا نقول الكلام في الجسم الباقي وإنما قلنا إن الحركة حادثة لوجوه
الأول ماهية الحركة هي المسبوقية بالغير وماهية الأزلية عدم المسبوقية بالغير وبينهما منافاة بالذات فلا تكون الحركة أزلية وذلك معنى الحادث
الثاني الماهية لا توجد إلا في ضمن الجزئيات ولا شك أن شيئا من جزئيات الحركة لا يوجد في الأزل فلا توجد ماهيتها فيه
الثالث كل حركة من الحركات الجزئية مسبوقة بعدم أزلي فتجتمع العدمات في الأزل وحينئذ فلا يوجد في الأزل
حركة وإلا جامعت عدمها هذا خلف وقد يذكر ههنا وجوه أخر مآلها إلى ما ذكرنا وإنما تختلف العبارة فتركناها
الرابع طريقة التطبيق وقد عرفتها وتقريرها ههنا أن نفرض من
609

حركة ما إلى ما لا بداية له جملة وحركة قبلها بمقدار متناه جملة أخرى ثم نطبق الجملتين الجزء الأول بالأول والثاني بالثاني لا إلى نهايته فإن كان بإزاء كل من أجزاء الجملة الزائدة جزء من أجزاء الجملة الناقصة كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره هذا خلف وإلا وجد في أجزاء الزائدة ما لا يوجد بإزائه من الناقصة جزء فتنقطع الناقصة ضرورة فتكون متناهية والزائدة إنما تزيد عليها بمتناه والزائد على المتناهي متناه فتكون الزائدة أيضا متناهية فيلزم تناهيهما وهو خلاف المفروض وقد عرفت الكلام عليه في إبطال التسلسل سؤالا وجوابا فلا نعيده
الخامس طريقة التضايف وتقريرها هنا أن الحركات تتألف من أجزاء بعضها سابقة وبعضها مسبوقة ولنجعلها أياما مثلا فلو كانت تلك الأيام غير متناهية أمكن لنا أن نجعل من يوم ما وهو اليوم الذي نحن فيه جزءا أخيرا فنقول هذا الجزء في هذه السلسلة مسبوق وليس بسابق وكل جزء من أجزائها الأخر سابق ومسبوق بحسب الفرض فكل سابق مسبوق من غير عكس كلي كالأخير المذكور فيكون عدد المسبوق أزيد من عدد السابق بواحد وانه محال لأنهما متضايفان يجب تكافؤهما في الوجود وتساويهما في العدد وأن يكون بإزاء كل واحد واحد
وإنما قلنا السكون حادث لأنه لو كان قديما لامتنع زواله واللازم باطل أما الملازمة فلأنه وجودي لما تقدم وكل وجودي قديم يمتنع زواله لأنه إن كان واجبا فظاهر وإن كان ممكنا كان مستندا إلى واجب لما سيأتي ولا يكون ذلك الواجب مختارا لما مر أن القديم لا يستند إلى المختار بل موجبا فإن لم يتوقف تأثيره على شرط أصلا لزم من عدمه عدم الواجب وإن توقف فلا يكون ذلك الشرط حادثا وإلا لكان القديم المشروط به أولى بالحدوث بل قديما ويعود الكلام فيه ويلزم الانتهاء إلى
610

ما يجب صدوره عن الواجب بغير شرط دفعا للتسلسل فلو عدم عدم الواجب هذا خلف وأما بطلان اللازم فبالاتفاق والدليل أما الاتفاق فلأن الأجسام عند الحكماء منحصرة في الفلكيات وحركاتها واجبة وفي العنصريات وحركاتها جائزة فلا شيء من الأجسام يمتنع عليه الحركة وأما الدليل فلأن الأجسام متساوية فيصح على كل من الحيز ما صح على الآخر وما ذلك إلا بخروجه من حيزه أو نقول الأجسام إما بسيطة ويجوز على كل جزء منه ما يصح على الآخر فيصح أن يماس بيساره ما يماسه بيمينه وبالعكس وما هو إلا بالحركة وإما مركبة من البسائط فيصح على بسائطها أن يماسها الآخر وما هو إلا بالحركة
وبالجملة فنعلم بالضرورة أن مقولة الوضع غير واجبة للبسائط فكذا للمركبات وأنه ما من جسم إلا ويمكن للقادر المختار أن يغير وضعه فيجعل يمينه يساره وبالعكس وإنكاره مكابرة
المسلك الثاني وهو لبعض المتأخرين كالاختصار للمسلك الأول أنه لو وجد جسم قديم لزم إما كون قديم وإما أن يكون قبل كل كون كون لا إلى نهاية والتالي باطل بقسميه أما الملازمة فلأنه لا بد للجسم من كون فإن وجد له كون غير مسبوق بآخر لزم القسم الأول وإلا لزم القسم الثاني إذ على ذلك التقدير لو وجد كون لا كون قبله لزم خلو الجسم عن الكون وأما بطلان التالي فأما القسم الأول فبمثل ما بينا به حدوث السكون وأما القسم الثاني فبالتطبيق وطريقة التضايف وغيرهما ولا يخفى عليك أن في هذا المسلك طرحا لمؤنات كثيرة من بيان كون السكون وجوديا فإن الكون لا شك في أنه وجودي ومن بيان أن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون فإن لقائل أن يقول هو في الأزل لا متحرك ولا ساكن لأن كل منهما يقتضي المسبوقية بالغير ومن سقوط قولهم السابقية والمسبوقية في
611

الحركة بالفرض إذ لا أجزاء لها إلا بالوهم وفي الخارج هو كون واحد مستمر
المسلك الثالث للإمام الرازي وهو أيضا مأخوذ من المسلك الأول والمؤنات بحالها وتقريره أنه لو وجد جسم قديم لكان في الأزل إما متحركا أو ساكنا والتالي باطل بقسميه وأنت بمعرفة بيانه بعدما قررناه في المسلكين السابقين خبير
المسلك الرابع له أيضا كل جسم ممكن لأنه مركب وكثير وسيأتي أن الواجب واحد وغير مركب وكل ممكن هو موجد فله موجد ولا يتصور إلا عن عدم وهو مبني على ما ذكرنا في مباحث القدم من أنه لا يجوز استناد القديم إلى السبب الموجب ونبهناك على مأخذه فتذكره
المسلك الخامس الأجسام فعل الفاعل المختار لما سيأتي في الصفات فتكون حادثة لما بينا أن القديم لا يستند إلى المختار وهذان الوجهان يثبتان حدوث العالم من الأجسام والمجردات وصفاتهما بخلاف الأولين فإنهما لا يعطيان إلا حدوث الأجسام ويحتاج في تعميمها إلى نفي المجردات
المسلك السادس الجسم يقوم به الحادث وهو ضروري لما نشاهده من الحركات وتجدد الأعراض ولا شيء من القديم كذلك لما سنبرهن عليه في الإلهيات احتج الخصم بشبه
612

الأولى المادة القديمة وإلا احتاجت إلى مادة أخرى وتسلسل وأنها لا تخلو عن الصورة لما تقدم فيلزم قدم الجسم
والجواب منع تركب الجسم من المادة والصورة ولا نسلم كون المادة قديمة فإنه يثبت بوجوب اختلاف الاستعداد وأنه فرع الإيجاب بالذات وسنبطله ولا نسلم أنها لا تخلو عن الصورة وقد مر ضعف دليله
الثانية الزمان قديم وإلا كان عدمه قبل وجوده قبلية لا يجامع فيها السابق المسبوق وهو الزماني فيكون الزمان موجودا حين ما فرض معدوما هذا خلف والجواب منع أن التقدم بالزمان وإن سلم فليس بالزمان بل هو كتقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض
الثالثة وهي العمدة فاعلية الفاعل للعالم قديمة ويلزم منه قدم العالم بيانه لو كانت حادثة لتوقفت على شرط حادث وإلا لزم الترجيح بلا مرجح والكلام في ذلك الشرط كما في الأول ويلزم التسلسل وقد ذكر في الجواب عنه وجوه والذي يصلح للتعويل عليه وجهان
الأول النقض بالحادث اليومي لا يقال إنه يستند إلى الحوادث الفلكية وكل منهما مسبوق بآخر لا إلى نهاية لأنا نقول إبداء الفارق لا يدفع النقض وأيضا فنقول فلم لا يجوز أن يكون حدوث العالم مشروطا بشرط مسبوق بآخر لا إلى نهاية
فإن قيل ذلك إنما يتصور فيما له مادة وما سوى العالم ليس له مادة
قلنا لا نسلم ذلك إذا قد تكون تصورات متعاقبة لأمر مجرد كل سابق منها شرط للاحق إلى أن تنتهي إلى ما هو شرط لحدوث العالم إلا أن يقال لكل حادث مادة فيكون هذا رجوعا إلى الطريقة الأولى وقد أجبنا عنها
613

الثاني أن ترجيح الفاعل المختار عندنا لأحد مقدورية إنما هو بمجرد الإرادة ولا حاجة فيه إلى مرجح ينضم إليه كما تقدم تحقيقه في مثال طريقي الهارب من السبع وقدحي العطشان
الرابعة صحة العالم لا أول لها وإلا لزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وأنه يرفع الأمان عن البديهيات وكذلك صحة تأثير الباري فيه فيجب أن يجزم بإمكان وجود العالم في الأزل وهو يبطل دلائلهم ثم نقول ترك الجود زمانا غير متناه لا يليق بالجواد المطلق
والجواب أنه خطابي ثم أنه لا يلزم من أزلية الصحة صحة الأزلية كفي الحادث بشرط كونه حادثا
الشرح
المرصد الثاني في عوارض الأجسام وأحوالها وفيه مقاصد ثمانية
المقصد الأول في أن الأجسام محدثة وضبط الكلام في هذا المقام أن يقال إنها إما أن تكون محدثة بذواتها وصفاتها أو قديمة بذواتها وصفاتها أو قديمة بذواتها محدثة بصفاتها أو بالعكس فهذه أربعة أقسام مقيسة إلى نفس الأمر ثم إما أن نقول بواحد منها أو لا نقول بل نتردد ونتوقف فهذه خمسة احتمالات
الأول إنها محدثة بذاتها الجوهرية وصفاتها العرضية وهو الحق وبه قال المليون كلهم من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس
الثاني أنها قديمة بذواتها وصفاتها وإليه ذهب أرسطو ومن تبعه من
614

متأخري الفلاسفة كالفارابي وابن سينا وتفصيل مذهبهم أنهم قالوا الأجسام تنقسم كما علمت إلى فلكيات وعنصريات أما الفلكيات فإنها قديمة بموادها وصورها الجسمية والنوعية وأعراضها المعينة من المقادير والأشكال وغيرها إلا الحركات والأوضاع المشخصة فإنها حادثة قطعا ضرورة أن كل حركة شخصية مسبوقة بأخرى لا إلى نهاية وكذا الأوضاع المعينة التابعة لها وأما مطلق الحركة والوضع فقديم أيضا لأن مذهبهم أن الأفلاك متحركة مستمرة من الأزل إلى الأبد بلا سكون أصلا وأما العنصريات فقديمة بموادها وبصورها الجسمية بنوعها وذلك لأن المادة لا تخلو عن
الصورة الجسمية التي هي طبيعة واحدة نوعية لا تختلف إلا بأمور خارجة عن حقيقتها فيكون نوعها مستمر الوجود بتعاقب أفرادها أزلا وأبدا وبصورها النوعية بجنسها وذلك لأن مادتها لا يجوز خلوها عن صورها النوعية بأسرها بل لا بد أن يكون معها واحدة منها لكن هذه الصور متشاركة في جنسها دون ماهيتها النوعية فيكون جنسها مستمرا الوجود بتعاقب أنواعه نعم الصور المشخصة فيهما أي في الصورة الجسمية والنوعية والأعراض المختصة المتعينة محدثة ولا امتناع في حدوث بعض الصور النوعية العنصرية كأن يكون مثلا نوع الإنسان حادثا غير مستمر الوجود بتعاقب أفراده الشخصية إذ يجوز حصوله من عنصر آخر بطريق الكون والفساد ولا امتناع أيضا عندهم في استمراره كذلك ولا في استمرار أنواع المركبات في ضمن افرادها المتعاقبة بلا نهاية
الثالث إنها قديمة بذواتها محدثة بصفاتها وهو قول من تقدم
615

أرسطو من الحكماء وهؤلاء قد اختلفوا في تلك الذوات فمنهم من قال إنه جسم واختلف في ذلك الجسم أي الأجسام هو فقال تاليس الملطي إنه الماء الذي هو المبدع الأول ومنه أبدع الجواهر كلها من السماء والأرض وما بينهما
قال صاحب الملل والنحل وكأنه أخذ مذهبه من الكتب الإلهية ففي التوراة أن الله تعالى خلق جوهرة ونظر إليها نظر الهيبة فذابت وصارت ماء فحصل البخار وظهر على وجهها بسبب الحركة زبد وارتفع منها دخان فحصل من زبدها الأرض ومن دخانها السماء وقيل الأرض وحصلت البواقي بالتلطيف وقيل النار وحصلت البواقي بالتكثيف وقيل البخار وحصلت العناصر بعضها بالتلطيف وبعضها بالتكثيف وقيل الخليط من كل شيء لحم وخبز وغير ذلك فإذا اجتمع من جنس منها شيء له قدر محسوس ظن أنه قد حدث ولم يحدث إنما تحدث الصورة التي أوجبها الاجتماع وقد سبق كلام في هذه الاختلافات في بيان عدد العناصر
ومنهم من قال إنه ليس بجسم واختلف فيه ما هو فقالت الثنوية من المجوس النور والظلمة فإنهما قديمان وتولد العالم من امتزاجهما وقال الحرنانيون منهم القائلون بالقدماء الخمسة النفس والهيولى وقد عشقت النفس بالهيولى لتوقف كمالاتها الحسية والعقلية عليها فحصل من اختلاطهما أنواع المكونات وتعدية العشق بالباء لتضمين معنى اللصوق أو الولوع وإلا فهو متعد بنفسه
616

وقيل هي الوحدة فإنها تجزأت فصارت الوحدات نقطا ذوات أوضاع واجتمعت النقط فصارت خطا واجتمعت الخطوط فصارت سطحا واجتمعت السطوح فصارت جسما
وقد يقال إن أكثر هذه الكلمات رموز وإشارات لا يفهم من ظواهرها مقاصدهم
الرابع إنها حادثة بذواتها قديمة بصفاتها وهذا لم يقل به أحد لأنه ضروري البطلان فجعله من الأقسام العقلية والاحتمالات بالنظر إلى بادئ الرأي
الخامس التوقف في الكل أراد به ما عدا الاحتمال الرابع إذ لا يتصور من عاقل أن يتردد ويتوقف فيه بل لا بد أن ينفيه ببديهته وهو مذهب جالينوس إذ يحكى عنه أنه قال في مرضه الذي توفي فيه لبعض تلامذته أكتب عني أني ما علمت أن العالم قديم أو محدث وأن النفس الناطقة هي المزاج أو غيره وقد طعن فيه أقرانه بذلك حين أراد من سلطان زمانه تلقيبه بالفيلسوف
إذا عرفت هذا فنقول لنا في حدوث الأجسام بذواتها وصفاتها مسالك ستة
المسلك الأول وهو المشهور المبسوط في إثبات هذا المطلوب الأجسام لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث بذاته وصفاته فالأجسام حادثة كذلك أما المقدمة الثانية فظاهرة لأن قدم ما لا يخلو عن الحوادث يستلزم قدم الحادث وفيه كلام سيرد عليك وأما المقدمة الأولى فلوجهين
الأول أن الأجسام لا تخلو عن الأعراض لما مر إشارة إلى ما عرف به أن الأجسام لا تخلو عن الأكوان والتأليف وما يتبعهما من الأعراض
617

والأظهر أن يقال لما سيجئ أي في المقصد السادس من هذا المرصد وإذ لا توجد الأجسام بدون التمايز بينها لأن كل موجود لا بد أن يكون متميزا عن موجود آخر بالضرورة وقد بينا أن التمايز بين الأجسام إنما هو بالأعراض بناء على تماثل الجواهر الفردة التي تألفت الأجسام منها ثم الأعراض حادثة لأنها لا تبقى زمانين وكل ما هو كذلك فهو حادث وقد مر بيانهما أي بيان أن التمايز بين الأجسام لا يكون إلا بالأعراض وبيان أن الأعراض لا تبقى زمانين ولو اقتصر على ذكر بيان الثاني لكان أولى لقوله وقد بينا
الثاني من الوجهين أن يقال الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان فالجسم لا يخلو عن الحوادث إنما قلنا إن الجسم لا يخلو عنهما لأنه لا يخلو عن الكون في حيز بالضرورة فإن كان كونه في ذلك الحيز مسبوقا بالكون أي بكون آخر في ذلك الحيز فهو ساكن لأن السكون هو الكون الثاني في المكان الأول وإلا أي وإن لم يكن كونه في ذلك الحيز مسبوقا بالكون فيه فهو متحرك لا يقال دليلكم منقوض بالجسم في أول زمان حدوثه لجريانه فيه مع أنه ليس متحركا ولا ساكنا إذ لم يتصف حينئذ بكون ثان لا في المكان الأول ولا في المكان الثاني لأنا نقول الكلام في الجسم الباقي فيدعي أنه لا يخلو عن الحركة أو السكون لا في الجسم الحادث فلا نقض وإذا أورد هذا السؤال على طريق المناقضة كان منعا لا يضر المعلل إذ مقصوده حدوث الجسم وإنما قلنا إن الحركة حادثة لوجوه
الأول ماهية الحركة هي المسبوقة بالغير أي ماهيتها تقتضي
618

المسبوقية لذاتها لأنها الانتقال من حال إلى حال أخرى بل نقول هي الكون الثاني في مكان آخر فتكون مسبوقة بالحالة الأولى والكون الأول وماهية الأزلية عدم المسبوقية بالغير وبينهما منافاة بالذات فلا تكون الحركة أزلية وذلك معنى الحادث
الثاني الماهية لا توجد إلا في ضمن الجزئيات لأن المطلق لا يتصور وجوده منفردا عن التعينات بأسرها ولا شك أن شيئا من جزئيات الحركة لا يوجد في الأزل لأن كل جزء منها منقسم إلى أجزاء لا يمكن اجتماعها فلا توجد إلا متعاقبة فلا توجد ماهيتها أيضا فيه أي في الأزل فماهيتها حادثة كجزئياتها
الثالث كل حركة من الحركات الجزئية مسبوقة بعدم أزلي فتجتمع العدمات أي عدمات جميع الحركات الجزئية في الأول وحينئذ فلا توجد في الأزل حركة أصلا وإلا جامعت تلك الحركة عدمها هذا خلف واعترض عليه بأن الأزل ليس وقتا محدودا وزمانا مخصوصا اجتمع فيه عدم الحركات كلها حتى إن وجد فيه شيء منها جامع عدمه فيلزم اجتماع النقيضين بل معنى كونها أزلية أن تلك العدمات لا بداية لها ولا ترتب بينها بخلاف وجوداتها فإن لها بداية وترتبا فليس يفرض شيء من أجزاء الأزل إلا وينقطع فيه شيء من تلك العدمات التي لا بداية لها بوجود من تلك الوجودات وليس لأجزاء الأزل انقطاع في جانب الماضي فإذا وجد في كل جزء منها حركة وانقطع فيه عدمها لم يكن هناك محذور إلا أن الوهم قاصر عن إدراك الأزل فيحسب أنه وقت معين اجتمع فيه وجود الحركة مع عدمها وقد يذكر ههنا لبيان حدوث الحركة وجوه أخر مآلها إلى ما ذكرنا وإنما تختلف العبارة دون المعنى فتركناها وذلك مثل ما قيل من
619

أنه إن لم يوجد شيء من الحركات في الأزل كانت أفرادها كلها حادثة وإن وجد شيء منها فإن كان مسبوقا بالغير كان الأزلي مسبوقا بغيره وإن كان مسبوقا بغيره كان ذلك أول الحركات فيلزم تناهيها وما له أما إلى الوجه الثاني وهو أن جزئيات الحركة مع إذا كانت حادثة كانت ماهيتها كذلك وأما إلى الوجه الثالث واعلم أن الذاهبين إلى قدم الجسم لم يذهبوا إلى أنه موصوف بحركة جزئية أزلية بل قالوا إنه متصف بحركات متعاقبة لا نهاية لها وكل جزئي منها يوجد في جزء من الأزل على ما صورناه وهذا معنى قولهم ماهية الحركة قديمة وإن كان كل واحد من آحادها حادثا
قالوا وعدم خلوه عن مثل هذه الحوادث التي لا نهاية لأعدادها لا يستلزم حدوثه ولا كون الحادث قديما فلا بد لنا إبطال كلامهم عن بيان امتناع تسلسل الحوادث في المتعاقبة بلا نهاية حتى يتيسر لنا أن نقول الجسم لا يخلو عن حوادث متناهية وكل ما لا يخلو عن حوادث كذلك كان حادثا وإلا لزم قدم الحادث أو خلوه عن تلك الحوادث فلذلك قال
الرابع من وجوه حدوث الحركة وامتناع تعاقب أفرادها إلى غير النهاية طريقة التطبيق وقد عرفتها في مباحث إبطال التسلسل وتقريرها ههنا أن نقول لو تسلسلت الحركات معاقبة بلا نهاية كان لنا أن نفرض من حركة ما كدورة معينة مثلا إلى ما لا بداية له جملة واحدة ونفرض أيضا من حركة قبلها بمقدار متناه كعشر دورات مثلا جملة أخرى ثم نطبق الجملتين الجزء الأول من أحداهما بالأول من الأخرى والثاني بالثاني وهكذا لا إلى نهاية فإن كان بإزاء كل من أجزاء الجملة الزائدة جزء من أجزاء الجملة الناقصة كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره فيكون الزائد مساويا للناقص هذا خلف وإلا وجد في أجزاء الزائدة ما كان لا
620

يوجد بإزائه من الناقصة جزء فتنقطع الناقصة ضرورة فتكون متناهية والزائدة إنما تزيد عليها بمتناه والزائد على المتناهي بالمتناهي متناه بلا شبهة فتكون الزائدة أيضا متناهية فيلزم تناهيهما وهو خلاف المفروض أعني عدم تناهيهما في تلك الجهة فلو كانت الحركات غير متناهية كانت متناهية وما استلزم وجوده عدمه كان محالا قطعا وقد عرفت الكلام عليه أي على الاستدلال بالتطبيق في إبطال التسلسل سؤالا وجوابا فلا نعيده دفعا للإملال
الخامس من تلك الوجوه طريقة التضايف وقد عرفتها أيضا هناك وتقريرها هنا أن الحركات تتألف من أجزاء بعضها سابقة وبعضها مسبوقة ولنجعلها أياما مثلا فلو كانت تلك الأيام غير متناهية أمكن لنا أن نجعل من يوم ما وهو اليوم الذي نحن فيه جزءا أخيرا فنقول هذا الجزء في هذه السلسلة التي لا تتناهى مسبوق أي موصوف بالمسبوقية وليس بسابق وكل جزء من أجزائها الأخر سابق ومسبوق بحسب الفرض إذ المفروض لا تناهي السلسلة مكتوبة فكل واحد من أجزائها الأخر موصوف بالمسبوقية والسابقية معا إذ لو وجد فيها سابق غير موصوف بالمسبوقية لانقطعت السلسلة به وعلى هذا التقدير فكل سابق مسبوق من غير عكس كلي كالأخير المذكور فيكون عدد المسبوق أي المسبوقية أزيد من عدد السابق أي السابقية بواحد وأنه محال لأنهما متضايفان حقيقيان يجب تكافؤهما في الوجود وتساويهما في العدد وأن يكون بإزاء كل واحد من أحدهما واحد من الآخر وأما تساوي عدد المشهورين فغير لازم كأب واحد له أبناء إلا أن يعتبر التغاير الاعتباري بحسب الوصف ولو كانت السلسلة متناهية كان هناك سابق ليس بمسبوق فيتكافأ الإضافيان وإنما قلنا السكون حادث لأنه لو كان قديما لامتنع زواله واللازم باطل أما
621

الملازمة فلأنه وجودي لما تقدم في مباحث الأين من أن وجود الكون ضروري معلوم بمعاونة الحس وكذا أنواعه الأربعة لأن حاصلها عائد إلى الكون والمميزات أمور اعتبارية مثل كونه مسبوقا بكون آخر أو غير مسبوق وإمكان تخلل ثالث وعدمه وكل وجودي أي موجود قديم يمتنع زواله ومن ثمة قيل القدم ينافي العدم لأنه أي القديم إن كان واجبا بذاته فظاهر امتناع عدمه وإن كان ممكنا كان مستندا إلى واجب بالذات لما سيأتي في إثبات الواجب تعالى ولا يكون ذلك الواجب الذي استند إليه الممكن القديم مختارا لما مر من أن القديم لا يستند إلى المختار بل يكون موجبا فإن لم يتوقف تأثيره أي تأثير الواجب في ذلك القديم على شرط أصلا بل كان ذاته كافيا في إيجاده لزم من عدمه عدم الواجب لأنه يلزم ذاته من حيث هي هي وانتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم فيكون عدمه محالا وإن توقف تأثيره فيه على شرط فلا يكون ذلك الشرط حادثا وإلا لكان القديم المشروط به أولى بالحدوث بل يكون ذلك الشرط أيضا قديما ويعود الكلام فيه وفي صدوره عن الواجب هل هو بشرط أو بغير شرط ويلزم الانتهاء إلى ما يجب صدوره عن الواجب بغير شرط دفعا للتسلسل في الأمور المترتبة الموجودة معا فلو عدم هذا الصادر المنتهي إليه عدم الواجب هذا خلف فإذا امتنع عدم هذا الشرط مع امتناع عدم الموجب الواجب امتنع عدم مشروطه أيضا وهكذا إلى القديم الذي كلامنا فيه وهو المطلوب وأما بطلان اللازم فبالاتفاق والدليل أما الاتفاق فلأن الأجسام عند الحكماء منحصرة في الفلكيات وحركتها واجبة عندهم وفي العنصريات وحركاتها جائزة فلا شيء من الأجسام يمتنع عليه
622

الحركة وأما الدليل فلأن الأجسام متساوية في الماهية لتركبها من الجواهر الفردة المتماثلة كما عرفت فيصح على كل من الأجسام من الحيز ما صح على الآخر وما ذلك إلا بخروجه عن حيزه أو نقول الأجسام إما بسيطة ويجوز على كل جزء منه أي من البسيط ما يصح على الآخر فيصح أن يماس بيساره ما يماسه بيمينه وبالعكس وما هو إلا بالحركة وإما مركبة من البسائط فيصح على بسائطها أن يماسها الآخر وما هو إلا بالحركة
وبالجملة فنعلم بالضرورة أن مقولة الوضع غير واجبة للبسائط لأن أجزاءها متحدة في الماهية فيجوز تبدل أوضاعها نظرا إلى طبيعتها وكذا للمركبات لأن تبدل أوضاع البسائط التي فيها يستلزم تبدل أوضاعها ونعلم أيضا بالضرورة أنه ما من جسم إلا ويمكن للقادر المختار الذي خلقه أن يغير وضعه فيجعل يمينه يساره وبالعكس وإنكاره مكابرة لا يعتد بها
المسلك الثاني وهو لبعض المتأخرين كالاختصار للمسلك الأول أنه لو وجد جسم قديم لزم إما كون واحد قديم وإما أن يكون قبل كل كون كون آخر لا إلى نهاية والتالي باطل بقسميه أما الملازمة فلأنه لا بد للجسم من كون في حيز لكونه متحيزا بالذات فإن وجد له كون غير مسبوق بآخر أي بكون آخر لزم القسم الأول لأن ذلك الكون يجب أن يكون ثابتا للجسم القديم على الاستمرار فيكون قديما وإلا أي وإن لم
623

يوجد له كون غير مسبوق بآخر لزم القسم الثاني لأن كل كون له فإنه مسبوق بكون آخر فوجب أن يكون قبل كل كون لا إلى نهاية إذ على ذلك التقدير الذي نحن فيه لو وجد كون لا كون قبله لزم خلو الجسم عن الكون وأنت خبير بأن القسم الثاني لا يحتاج إلى هذا البيان لأنه إذا لم يوجد له كون غير مسبوق بآخر كان كل كون له مسبوقا بكون قبله لا إلى نهاية إنما المحتاج إلى البيان هو القسم الأول بأن يقال ذلك الكون الذي ليس مسبوقا بمثله يجب أن يكون مستمرا أزلا وإلا لزم خلو الجسم عن الكون نعم لو قيل إن وجد له كون قديم فهو القسم الأول وإلا فلا بد أن يكون قبل كل كون كون آخر إذ لو وجد له كون لا كون قبله لزم خلو الجسم عن الكون لانتظم الكلام وأما بطلان التالي فأما القسم الأول وهو قدم الكون فبمثل ما بينا به حدوث السكون وأما القسم الثاني وهو تعاقب الأكوان إلى ما لا نهاية له فبالتطبيق وطريقة التضايف وغيرهما من أدلة بطلان التسلسل ولا يخفى عليك أن في هذا المسلك طرحا لمؤنات كثيرة كانت في المسلك الأول من بيان كون السكون وجوديا إذ قد اختلف فيه فذهب الحكماء إلى أنه عدم الحركة عما من شأنه الحركة فيجوز حينئذ زواله لأن إعدام الحوادث تزول بوجوداتها مع كونها أزلية فإن الكون الذي ذكر في هذا المسلك لا شك في أنه وجودي بلا خلاف ومن بيان أن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون فإن لقائل أن يقول هو في الأزل لا متحرك ولا ساكن لأن كلا منهما يقتضي المسبوقية بالغير فلا يصح اتصافه بشيء منهما في الأزل ومن سقوط قولهم السابقية والمسبوقية في الحركة بالفرض إذ لا أجزاء لها إلا بالوهم وفي الخارج هو أي الحركة كون واحد مستمر بين المبدأ والمنتهى لما مر من أن الحركة تطلق على الأمر الممتد ولا وجود له في الخارج بل يمتنع وجوده فيه
624

وعلى الأمر المستمر الموجود الذي لا انقسام له في مأخذ الحركة وهو الذي يدعي أنه قديم لا المعنى الأول فتأمل
المسلك الثالث للإمام الرازي ذكره في المحصل ونسبه الآمدي إلى بعض المتأخرين من الأشاعرة وهو أيضا مأخوذ من المسلك الأول والمؤنات التي كانت فيه باقية ههنا بحالها سوى قليل منها كما لا يخفى وتقريره أنه لو وجد جسم قديم لكان في الأزل إما متحركا أو ساكنا والتالي باطل بقسميه وأنت بمعرفة بيانه بعد ما قررناه في المسلكين السابقين خبير فلا نشتغل به حذفا للمؤنة
المسلك الرابع له أيضا كل جسم ممكن لأنه مركب إما من الجواهر الفردة أو الهيولى والصورة وكثير أي وتشاركه في ماهيته أمور متعددة وسيأتي في الإلهيات أن الواجب الوجود واحد لا شريك له في حقيقته وغير مركب فلا يكون الجسم واجبا بل ممكنا وكل ممكن هو موجد فله موجد ولا يتصور الإيجاد إلا عن عدم وهو مبني على ما ذكرنا في مباحث القدم من أنه لا يجوز الإمام الرازي استناد القديم إلى السبب الموجب كما لم يجوزوا استناده إلى المختار وقد نبهناك على مأخذه فتذكره
المسلك الخامس الأجسام فعل الفاعل المختار لما سيأتي في الصفات أي في صفاته تعالى فتكون الأجسام حادثة لما بينا أن القديم لا يستند إلى المختار وهذان الوجهان أي الرابع والخامس يثبتان حدوث العالم كله من الأجسام والمجردات وصفاتهما بخلاف الأولين فإنهما لا
625

يعطيان إلا حدوث الأجسام وصفاتها ويحتاج في تعميمها إلى نفي المجردات ولم يتعرض للمسلك الثالث لأنه جعله عين الأول لبقاء المؤنات وأما السادس فهو في حكم الأولين بلا اشتباه
المسلك السادس الجسم يقوم به الحادث وهو ضروري لما نشاهده من حدوث الحركات القائمة به وتجدد الأعراض الحالة فيه كالأضواء والألوان والأشكال وغيرها ولا شيء من القديم كذلك لما سنبرهن عليه في الإلهيات من أن القديم لا يكون محلا للحوادث
احتج الخصم على القدم بشبه أربع
الأولى وهي مستخرجة من العلة المادية أن يقال المادة قديمة وإلا احتاجت إلى مادة أخرى لما عرفت من أن كل حادث مسبوق بالمادة وتسلسل أي لزم التسلسل في المواد وإنها أي المادة لا تخلو عن الصورة الجسمية والنوعية أيضا لما تقدم فيلزم قدم الجسم لكون أجزائه بأسرها قديمة
والجواب منع تركب الجسم من المادة والصورة وإن سلمنا ذلك لا نسلم كون المادة قديمة فإنه أي كونها قديمة يثبت
بوجوب اختلاف الاستعداد المقرب إلى وجود الحوادث كما سلف وأنه فرع الإيجاب بالذات وسنبطله بإثبات قدرة الصانع في الموقف الخامس ولا نسلم أيضا أنها لا تخلو عن الصورة وقد مر ضعف دليله
الشبهة الثانية وقد نسبها الإمام الرازي إلى العلة الصورية أن يقال
626

الزمان قديم وإلا كان عدمه قبل وجوده قبلية لا يجامع فيها السابق المسبوق وهو السبق الزماني فيكون موجودا حين ما فرض معدوما هذا خلف وإذا كان الزمان قديما كانت الحركة التي هو مقدارها قديمة فكذا الجسم الذي هو محل الحركة
والجواب منع أن التقدم بالزمان أي لا نسلم تحقق التقدم الزماني فإنه فرع وجود الزمان وهو غير مسلم وإن سلم تحققه في الجملة فليس تقدم عدم الزمان على وجوده بالزمان حتى يلزم اجتماع النقيضين بل هو كتقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض أعني التقدم بالذات لا بأمر زائد عليها فلا محذور حينئذ
الشبهة الثالثة وهي العمدة عندهم في إثبات مطلبهم ومأخوذة من العلة المؤثرة أن يقال فاعلية الفاعل للعالم أي تأثيره فيه وإيجاده إياه قديمة ويلزم منه قدم العالم بيانه أنه لو كانت فاعليته حادثة مخصوصة بوقت معين لتوقفت على شرط حادث مختص بذلك الوقت وإلا أي وإن لم تتوقف على شرط كذلك لزم الترجيح بلا مرجح لأن اختصاص حدوث الفاعلية حينئذ بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده مع تساوي نسبتها إلى جميع الأوقات تخصيص بلا مخصص والكلام في ذلك الشرط الحادث واختصاصه بوقت معين كما في الحادث الأول فلا بد له أيضا من شرط آخر حادث ويلزم التسلسل في الشروط الحادثة وإذا كانت فاعليته قديمة كان الأثر قديما أيضا إذ لا يتصور تحقق تأثير وإيجاد حقيقي في زمان مع عدم حصول الأثر فيه وقد تقرر هذه الشبهة بعبارة أخرى أبسط فيقال جميع ما لا بد منه في الإيجاد إن كان حاصلا أزلا كان الإيجاد حاصلا فيه إذ لو لم يحصل لكان حصوله بعده إما أن يتوقف على شرط حادث فلا يكون جميع ما لا بد منه حاصلا وهو خلاف المفروض أو لا يتوقف
627

فيلزم الترجيح بلا مرجح وإذا كان الإيجاد أزليا كان وجود الأثر الذي لا يتخلف عنه كذلك وإن لم يكن جميع ما لا بد منه في الإيجاد حاصلا في الأزل كان بعضه حادثا قطعا فنقل الكلام إليه ونقول إن لم يحتج هذا الحادث إلى إيجاد لزم استغناء الحادث عن المؤثر المخصص وإن احتاج فإما أن يكون جميع ما لا بد منه في إيجاده حاصلا في الأزل فيلزم قدم الحادث أو لا يكون حاصلا فبعضه حادث بالضرورة فيلزم التسلسل في الأسباب والمسببات وهو محال وقد ذكر في الجواب عنه وجوه والذي يصلح للتعويل عليه وجهان
الأول النقض بالحادث اليومي إذ لا شبهة في وجوده فنقول فاعلية الفاعل القديم لهذا الحادث قديمة إذ لو كانت حادثة لتوقفت على شرط حادث حذرا من الترجيح بلا مرجح والكلام في هذا الشرط الحادث كما في الأول فتتسلسل الحوادث المترتبة إلى ما لا نهاية له فلو صح دليلكم لكان الحادث اليومي قديما لا يقال إنه أي الحادث اليومي يستند إلى الحوادث الفلكية من الحركات والاتصالات الكوكبية وكل منها مسبوق بآخر لا إلى نهاية ومثل هذا التسلسل جائز بخلاف التسلسل في الأمور المترتبة المجتمعة لأنا نقول ابتداء الفارق بين صورة النقض ومحل النزاع على الوجه الذي ذكرتموه لا يدفع النقض لأن التسلسل في الأمور التي ضبطها وجود سواء كانت مجتمعة أو متعاقبة محال كما وقفت عليه وأيضا فنقول إذا سلم جواز التسلسل في الحوادث المتعاقبة فلم لا يجوز أن يكون حدوث العالم مشروطا بشرط مسبوق بآخر لا إلى نهاية فيكون حدوث العالم عن المبدأ القديم بتسلسل الحوادث المتعاقبة كما في الحادث اليومي عندكم فإن قيل ذلك أي تسلسل الشروط المتعاقبة إنما يتصور فيما له مادة بتزايد استعدادها بتوارد تلك الشروط عليها لقبول الحادث
628

المشروط بذلك الشرط حتى إذا كمل الاستعداد فاض عليها من المبدأ القديم ما هي مستعدة له وما سوى العالم أي ما هو خارج عنه ليس له مادة حتى يتصور توارد الشروط المعتبرة في حدوث العالم عليها قلنا لا نسلم ذلك الذي ذكرتموه من أن الشروط والحوادث المتعاقبة إنما يتصور في الماديات إذ قد تكون تصورات متعاقبة لأمر مجرد عن المادة وتوابعها كل سابق منها شرط للاحق إلى أن تنتهي فيما يزال إلى ما هو شرط أي إلى تصور هو شرط لحدوث العالم الجسماني فلا يتم الاستدلال بما ذكرتم على قدمه إلا أن يقال لكل حادث مادة وتلك المادة لا تخلو عن الصورة فيكون هذا رجوعا إلى الطريقة الأولى وقد أجبنا عنها
الوجه الثاني أن ترجيح الفاعل المختار عندنا لأحد مقدوريه على الآخر إنما هو بمجرد الإرادة ولا حاجة فيه أي في ذلك الترجيح إلى داع مرجح ينضم إليه كما تقدم تحقيقه في مثال طريقي الهارب من السبع وقدحي العطشان فنقول الفاعلية حادثة بمجرد الإرادة المتعلقة بالمقدور وقد يقال هذه الإرادة المستلزمة لوجود المقدور إن كانت قديمة لزم قدم المقدور وإن كانت حادثة احتاجت إلى إرادة أخرى أو شيء آخر حادث فيلزم التسلسل
ويجاب إما بجواز ترتب الإرادات أو ترتب تعلقات إرادة واحدة قديمة إلى ما لا يتناهى وإما بجواز حدوث تعلقها في وقت معين بلا سبب
629

مخصص لكون التعلق أمرا اعتباريا فعليك بالتدبر فيها والتثبت في مزال الأوهام في أمثال هذه المقامات
الشبهة الرابعة صحة العالم أي إمكان وجوده لا أول لها وإلا لزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وأنه يرفع الأمان عن البديهيات كجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وكذلك صحة تأثير الباري فيه أي وكذا إمكان تأثيره تعالى والعالم لا أول له وإلا لزم الانقلاب المذكور وحينئذ فيجب أن يجزم بإمكان وجود العالم في الأزل من الصانع وهو يبطل دلائلهم أي دلائل المتكلمين على امتناع وجوده فيه ثم أي بعد ثبوت إمكان وجوده وصدوره أزلا نقول ترك الجود الذي هو إفاضة الوجود عليه زمانا غير متناه لا يليق بالجواد المطلق الكامل من جميع الجهات في كونه جوادا فوجب قدم وجوده وإلا لزم تعطله
والجواب أنه أي ما ذكرتموه من حديث الجود ولزوم التعطل كلام خطابي لا يجدي نفعا فيما نحن فيه من البرهانيات ثم أنه لا يلزم من أزلية الصحة صحة الأزلية كفي الحادث بشرط كونه حادثا فإن إمكانه أزلي لما ذكرتم وليست أزليته ممكنة لاستحالة الأزلية مع شرط الحدوث وقد عرفت أنه إذا أخذ ذات الحادث من حيث هو كان إمكانه أزليا وأمكن أزليته أيضا وإذا أخذ بشرط الحدوث لم يكن له إمكان من هذه الحيثية فضلا عن أن يكون إمكانه أزليا
المقصد الثاني
المتن
في صحة فناء العالم وهو فرع الحدوث فمن قال إنه قديم قال لا
630

يجوز عدمه لما تقدم وأما من قال إنه حادث فقد قال بجواز فنائه لكون ماهيته من حيث هي قابلة للعدم والعدم قبل كالعدم بعد لا تمايز بينهما ولا اختلاف فيهما فما جاز عليه أحدهما جاز عليه الآخر لم يخالف في ذلك أحد إلا الكرامية فإنهم مع اعترافهم بحدوث الأجسام قالوا إنها أبدية ممتنع فناؤها ودليلهم ما أشرنا إليه في امتناع بقاء الأعراض والكرامية طردوه في الأجسام فالتفت إليه تجده مع جوابه محضرا عندك
الشرح
المقصد الثاني في صحة فناء العالم بعد وجوده وهو فرع الحدوث فمن قال إنه قديم قال لا يجوز عدمه لما تقدم في بيان حدوث السكون من أن القديم لا يجوز عدمه وأما من قال إنه حادث فقد قال بجواز فنائه لكون ماهيته من حيث هي قابلة للعدم حيث كانت متصفة به والعدم قبل أي قبل الوجود كالعدم بعد أي بعده لا تمايز بينهما ولا اختلاف فيهما فما جاز عليه أحدهما جاز عليه الآخر فقد ثبت جواز الفناء وأما وقوعه فقد توقف فيه بعضهم وأول الآيات الدالة عليه لم يخالف في ذلك أحد إلا الكرامية فإنهم مع اعترافهم بحدوث الأجسام قالوا إنها أبدية ممتنع فناؤها ودليلهم على ذلك ما أشرنا إليه في امتناع بقاء الأعراض والكرامية طردوه في الأجسام فقالوا لو عدم الجسم بعد بقائه لكان عدمه إما لذاته وإما لأمر آخر وجودي أو عدمي إلى آخر ما مر هناك والكل باطل فلا يصح عدمه فالتفت إليه تجده مع جوابه المذكور هناك محضرا عندك فلا حاجة إلى إعادتهما
631

المقصد الثالث
المتن
الأجسام باقية خلافا للنظام ومن أصحابنا من ادعى فيه الضرورة لا يقال ليس ذلك إلا لبقائها في الحس ولا يصلح للتعويل عليه إذ الأعراض كذلك وقد قلتم بأنها لا تبقى
قلنا لا نسلم أن ذلك ليس إلا للبقاء في الحس بل الضرورة العقلية حاصلة والضروري لا يطلب مستنده بل هو ما
يجزم به مجرد الفطرة ومنهم من استدل عليه بأنه لو لم تكن الأجسام باقية لارتفع الموت والحياة والتسخن والتبرد والتسود والتبيض وكل ذلك باطل بالضرورة
حجة النظام أنها لو بقيت لامتنع عدمها بالدليل الذي ذكرناه لبقاء الأعراض واللازم باطل اتفاقا
تنبيه ذلك الدليل لما قام في الأعراض طرده النظام في الأجسام فقال بعدم بقائها أيضا ولما كان بقاؤها ضروريا التزم الكرامية أنها لا تفنى وفرق قوم بأن الأعراض مشروطة بالجواهر المشروطة بها فيدور وأما الجواهر فيحفظها الله تعالى بأعراض متعاقبة يخلقها فيها فإذا أراد أن يفني لم يخلق فيها العرض أو خلق فيها عرضا منافيا للبقاء
الشرح
المقصد الثالث الأجسام باقية خلافا للنظام فإنه ذهب إلى أنها متجددة آنا فآنا كالأعراض وقيل هذا النقل عنه غير معتمد عليه لأنه قال
632

باحتياج الأجسام إلى المؤثر حال البقاء فتوهمت النقلة أنه لا يقول ببقائها ومن أصحابنا أي ومن الأشاعرة من ادعى فيه الضرورة أي البداهة
قال الآمدي نحن نعلم بالضرورة أن ما شاهدناه بالأمس من الجبال الراسيات والأرضين والسماوات هو عين ما نشاهده اليوم وكذا نعلم بالاضطرار أن من فاتحناه بالكلام هو عين ما ختمناه معه وأن أولادنا ورفقاءنا الان هم الذين كانوا معنا من قبل لا يقال ليس ذلك أي جزمنا ببقائها ضرورة إلا لبقائها في الحس فإنه يشهد باستمرار الأجسام ولا يصلح الحس وشهادته بالبقاء للتعويل عليه والوثوق به إذ الأعراض كذلك لأن الحس شاهد ببقائها وقد قلتم أيها الأشاعرة بأنها لا تبقى زمانين بل هناك أمثال متجددة لم يدرك الحس تفاوتها فحسبها أمرا واحدا مستمرا فكيف تقبلون شهادته في الأجسام دون الأعراض
قلنا أي لأنا نقول لا نسلم أن ذلك الجزم منا ليس إلا للبقاء في الحس حتى يتجه عليه ما ذكرتموه بل الضرورة العقلية حاصلة بلا شبهة والضروري البديهي لا يطلب مستنده بل هو ما يجزم به مجرد الفطرة عند تصور الطرفين وملاحظة النسبة فإن ذلك هو معنى البديهي المرادف للأولى ومنهم من استدل عليه بأنه لو لم تكن الأجسام باقية لارتفع الموت والحياة أي لم يكن أن يقال لموت حي أو حياة ميت لأن محلهما يجب أن يكون واحدا وعلى ذلك التقدير فالجسم حال حياته غير الجسم حال مماته فلا يكونان واردين على موضوع واحد ولا ارتفع التسخن والتبرد
633

والتسود والتبيض ونظائرها أي لم يكن القول بالاستحالة أصلا بأنها مشروطة باتحاد المحل وكل ذلك باطل بالضرورة العقلية
حجة النظام أنها لو بقيت لامتنع عدمها بالدليل الذي ذكرناه لبقاء الأعراض أي في امتناع عدمها على تقدير بقائها واللازم باطل اتفاقا
تنبيه على منشأ مذاهب النظام والكرامية وغيرهم ذلك الدليل لما قام في الأعراض ودل على امتناع بقائها طرده النظام في الأجسام فقال بعدم بقائها أيضا
قال الآمدي وذلك لأنه بنى على أصله وهو أن الجواهر مركبة من الأعراض حتى إن كانت الأعراض مختلفة كانت الأجسام مختلفة
قال ولهذا فإنا ندرك الاختلاف في بعض الجواهر كالماء والنار بالضرورة كما ندرك الاختلاف بين الحرارة والبرودة كذلك ولما كان بقاؤها ضروريا أوليا التزم الكرامية أنها لا تفنى أصلا بناء على اعتقادهم صحة ذلك الدليل وفرق قوم فقالوا بتجدد الأعراض وبقاء الأجسام وإنما فرقوا بينها بأن الأعراض على تقدير فنائها بعدم الشرط بعد بقائها مشروطة بالجواهر المشروطة بها فيدور
وتلخيصه أن عدمها بعد بقائها لا يجوز أن يكون بعدم الشرط لأن شرط بقائها لا يجوز أن يكون عرضا لامتناع التسلسل بل لا يكون ذلك الشرط إلا الجوهر مع كونه مشروطا بالأعراض في البقاء فيلزم الدور فبطل هذا القسم في الأعراض كسائر الأقسام فثبت أنها لو بقيت لامتنع عدمها لكنها جائزة العدم بالضرورة فلا تكون باقية وأما الجواهر فيحفظها الله تعالى بأعراض متعاقبة يخلقها فيها فإذا أراد الله أن يفني الأجسام لم يخلق فيها العرض فتنتفي بانتفاء شرط بقائها ولا محذور فيه وهذا مذهب الأشاعرة أو يخلق فيها عرضا منافيا للبقاء وهو الفناء مثلا فينتفي بذلك
634

وهذا مذهب المعتزلة فلا يتم في الأجسام الدليل الدال على امتناع الفناء بعد البقاء فلا يلزم كونها غير باقية
المقصد الرابع
المتن
الجواهر يمتنع عليها التداخل لذاتها بالضرورة إذ لو جاز ذلك لجاز أن يكون هذا الجسم المعين أجساما والذراع الواحد من الكرباس مثلا ألف ذراع بل تداخل العالم كله في حيز خردلة وصريح العقل يأباه
وأما النظام فقيل إنه جوزه والظاهر أنه لزمه ذلك فيما صار إليه وأما أنه التزمه وقال به فلم يعلم وإن صح كان مكابرا
الشرح
المقصد الرابع الجواهر يمتنع عليها التداخل أي دخول بعضها في حيز بعض آخر بحيث يتحدان في المكان والوضع ومقدار الحجم وهذا الامتناع ليس معللا بالتحيز كما ذهب إليه المعتزلة من أن الحيز له باعتبار وجود أحد الجوهرين فيه كون مضاد لكونه باعتبار وجود الآخر فيه بل هو لذاتها بالضرورة البديهية إذ لو جاز ذلك أي تداخل الجواهر لجاز أن يكون هذا الجسم المعين أجساما كثيرة متداخلة وجاز أن يكون الذراع الواحد من الكرباس مثلا ألف ذراع بل جاز تداخل العالم كله في حيز خردلة واحدة وجاز أيضا أن ينفصل عنها عوالم متعددة مع بقائها على هيئتها وصريح العقل ببداهته يأباه وقد اتفق العقلاء على امتناع التداخل
635

وأما النظام فقيل إنه جوزه والظاهر أنه لزمه ذلك فيما صار إليه من أن الجسم المتناهي المقدار مركب من أجزاء غير متناهية العدد إذ لا بد حينئذ من وقوع التداخل فيما بينها وأما أنه التزمه وقال به صريحا فلم يعلم كيف وهو جحد للضرورة فلا يرتضيه عاقل لنفسه وإن صح أنه قال به كان مكابرا لمقتضى عقله
المقصد الخامس
المتن
وحدة الجوهر ووحدة حيزه متلازمتان فكما لا يجوز كون جوهرين في حال واحد في حيز واحد فلا يجوز كون الجوهر الواحد في آن واحد في حيزين وهذا ضروري
وقال بعض الأئمة في إثباته لو جاز ذلك لم يمكن الجزم بأن الجسم الحاصل في هذا الحيز غير الحاصل في الحيز الآخر وأيضا فلا يبقى فرق بين الجسم الواحد والجسمين ولعل ذلك تنبيه على الضرورة بعبارات تصور المطلوب في الذهن فإن شيئا من ذلك ليس بأوضح من المطلوب
تنبيه هل يسمى الجسمان باعتبار امتناع اجتماعهما في حيز ضدين كما يسمى العرضان باعتبار امتناع اجتماعهما في محل ضدين فيه خلاف بين المتكلمين وهو لفظي عائد إلى مجرد الاصطلاح ولكل أن يصطلح في لفظ الضدين على ما يشاء
واعلم أن للحكماء خلافا قريبا منه في الصورة النوعية كالنارية
636

والمائية هل هما ضدان أم لا وهو أيضا لفظي مرجعه إلى اشتراط توارد الضدين على موضوع أو محل فإن شرط تواردهما على موضوع لم يكونا ضدين وإن اكتفي بالمحل فهما ضدان والاصطلاح المشهور على الأول
الشرح
المقصد الخامس وحدة الجوهر ووحدة حيزه متلازمتان فكما لا يجوز كون جوهرين في حال واحد في حيز واحد كما مر آنفا فلا يجوز أيضا كون الجوهر لواحد في آن واحد في حيزين وهذا ضروري أيضا كالأول
وقال بعض الأئمة في إثباته لو جاز ذلك لم يكن لنا الجزم بأن الجسم الحاصل في هذا الحيز غير الجسم الحاصل في الحيز الآخر وأيضا فلا يبقى فرق بين الجسم الواحد والجسمين ولعل ذلك الذي أورده في إثباته تنبيه على الضرورة بعبارات مختلفة تصور المطلوب في الذهن تصويرا واضحا فإن شيئا من ذلك الذي جعله دليلا ليس بأوضح من المطلوب فكيف يصح الاستدلال به
تنبيه
هل يسمى الجسمان باعتبار امتناع اجتماعهما في حيز واحد ضدين كما يسمى العرضان باعتبار امتناع اجتماعهما في
محل واحد ضدين كما عرفت فيه خلاف بين المتكلمين فمنع القاضي من إطلاق اسم الضد على الجواهر فكأنه راعى في التضاد تعاقب الضدين على المحل المقوم وذلك غير متصور في الجواهر بخلاف الأعراض وجوزه الأستاذ أبو إسحق وهو بحث لفظي عائد إلى مجرد الاصطلاح في إطلاق
637

الألفاظ ولكل أن يصطلح في لفظ الضدين على ما يشاء من المعاني إذ لا حجر في ذلك
واعلم أن للحكماء خلافا قريبا منه في الصورة النوعية كالنارية والمائية هل هما ضدان أم لا فقال بعضهم نعم وقال آخرون لا وهو أيضا بحث لفظي مرجعه إلى اشتراط توارد الضدين على موضوع أو محل فإن شرط تواردهما على موضوع لم يكونا ضدين إذ لا موضوع لهما وإن اكتفي بالمحل الذي هو أعم من الموضوع فهما ضدان لتواردهما على المادة العنصرية والاصطلاح المشهور على الأول
المقصد السادس
المتن
الجسم هل يخلو عن العرض وضده اتفق المتكلمون على منعه وجوزه بعض الدهرية في الأزل وهم بعض القائلين بأن الأجسام قديمة بذواتها محدثة بصفاتها وجوزه الصالحية فيما لا يزال
وللمعتزلة تفصيل فالبصرية منهم يجوزونه في غير الأكوان والبغدادية يجوزونه في غير الألوان وأما المتكلمون فمنعهم منه بناء على أن الأجسام متجانسة وإنما تتميز بالأعراض فلو خلا عنها لم يكن شيئا من الأجسام المخصوصة بل جسما مطلقا والمطلق لا وجود له بالاستقلال ضرورة وموافقة النظام في ذلك لهم أمر ظاهر
638

ومنهم من احتج عليه بامتناع خلوه عن الحركة والسكون كما مر وهو ضعيف لأن الدعوى عامة وهذا لا تعميم فيه ورب عرض يخلو الجسم عنه وعن ضده وأما قياس البعض على البعض وما قبل الاتصاف بما بعده فأضعف
احتج المجوز بوجوه
الأول لو لزم من وجود الجوهر وجود العرض لكان الرب تعالى مضطرا إلى إحداث العرض عند إحداث الجوهر وأنه ينفي الاختيار
والجواب أن هذا لازم عليكم في امتناع وجود العرض دون الجوهر والعلم دون الحياة والعلم بالمنظور فيه دون النظر فما هو عذركم في صور الإلزام فهو عذرنا في محل النزاع
الثاني ما من معلوم إلا ويمكن أن يخلق الله تعالى في العبد علما به والمعلومات في نفسها غير متناهية والحاصل للعبد متناه فإن انتفى عنه علوم غير متناهية فكان يجب أن يقوم به بإزاء كل علم منتف عنه ضد له فيلزم قيام صفات غير متناهية وكذا في المقدورات ونحوها وأنه محال
والجواب أن المنتفي تعلق العلم وأنه ليس بعرض وهذا إنما يلزم من يحوج كل معلوم إلى علم ونحن لا نقول به
وأجاب الأستاذ أبو إسحق بناء على أصله من تضاد العلوم المتعددة أن ضد العلوم المنتفية هو العلم الحاصل وألزم امتناع اجتماع علمين فالتزمه وزعم أن لكل علم محلا من القلب غير ما للآخر
وأجاب ابن فورك المعلومات وإن كانت غير متناهية فالإنسان لا
639

يقبل منها إلا علوما متناهية لامتناع وجود ما لا يتناهى مطلقا وإنما يصح لو امتنع وجود ما لا يتناهى بدلا كما يمتنع وجوده معا
وأجاب القاضي بأنه قد يكون انتفاء ما انتفى من العلوم بضد عام كالموت والنوم لجميع العلوم
الثالث الهواء والماء خال عن اللون وضده
والجواب منع عدم اللون بل لا يدرك لضعفه أو التزم أن الشفيف ضد اللون لا عدمه
تنبيه منهم من قال قبول الأعراض معلل بالتحيز للدوران
وقيل لا لدوران كل مع الآخر فليس إسناد أحدهما إلى الآخر أولى من العكس والحق التوقف
الشرح
المقصد السادس الجسم هل يخلو عن العرض وضده اتفق المتكلمون من الأشاعرة على منعه وقالوا كل عرض مع ضده يجب أن يكون أحدهما في الجسم وجوزه بعض الدهرية في الأزل وقالوا إن الجواهر كانت خالية في الأزل عن جميع أجناس الأعراض ولم يجوزوا خلوها عنها فيما لا يزال وهم بعض القائلين بأن الأجسام قديمة بذواتها محدثة بصفاتها وجوزه أي خلو الجسم عن العرض الصالحية من المعتزلة فيما لا يزال فقالوا يجوز فيه خلو الجسم عن جميع الأعراض وللمعتزلة النافين تفصيل فالبصرية منهم يجوزونه في غير الأكوان والبغدادية يجوزونه في غير الألوان وأما المتكلمون أي الأشاعرة فمنعهم منه بناء على أن الأجسام متجانسة عندهم لتركبها من الجواهر الأفراد المتماثلة وإنما تتميز الأجسام بعضها عن بعض بالأعراض الحالة فيها فلو خلا الجسم عنها
640

بأسرها لم يكن ذلك الجسم شيئا من الأجسام المخصوصة المتميزة عن غيرها بل كان جسما مطلقا غير مخصوص معين والمطلق لا وجود له بالاستقلال ضرورة إنما الموجود في الخارج هو الأمور المتعينة الممتازة ويرد على هذا الاستدلال أنه ربما كان الامتياز ببعض الأعراض فلا يلزم أن الجسم لا يخلو عن شيء من الأعراض وضده معا وموافقة النظام في ذلك أي في امتناع الخلو لهم أي للمتكلمين أمر ظاهر يعني أنه وإن خالفهم في تماثل الأجسام لكنه يوافقهم في امتناع خلوها عن الأعراض بناء على ما مر من مذهبه في تركب الجسم من العرض وذلك ظاهر لا سترة به ومنهم من احتج عليه أي على امتناع الخلو بامتناع خلوه عن الحركة والسكون كما مر وهو ضعيف لأن الدعوى عامة في كل عرض مع ضده وهذا الاحتجاج لا تعميم فيه ورب عرض سوى الحركة والسكون يخلو الجسم عنه وعن ضده فإن الهواء خال عن الألوان والطعوم وأضدادها نعم يصلح ردا على البغدادية حيث جوزوا الخلو عن الأكوان وعلى الصالحية حيث جوزوا الخلو عن الجميع فيما لا يزال وأما قياس البعض على البعض و قياس ما قيل الاتصاف بما بعده وبالعكس فأضعف من ذلك الضعيف يعني أن بعضهم حاول التعميم في الاحتجاج المذكور فقال لما ثبت امتناع الخلو عن الأكوان ثبت امتناعه عن سائر الأعراض بالقياس عليها وهو فاسد جدا فسادا ظاهرا إذ لا جامع فيه أصلا وبعضهم أراد إثبات المدعى فقال اتفقت الأشاعرة والمعتزلة على امتناع الخلو بعد الاتصاف وذلك لأجراء العادة من الله تعالى بخلق المثل أو الضد بعده عن الأشعري وامتناع زوال
641

العرض إلا بطريان ضده عند المعتزلي فكذا يمتنع الخلو قبله قياسا عليه وهو أيضا خال عن الجامع مع ظهور الفارق وإنما كان أضعف من التمسك بالحركة والسكون لأنه يثبت بعضا من المطلوب بخلافها احتج المجوز للخلو بوجوه ثلاثة
الأول لو لزم من وجود الجوهر وجود العرض لكان الرب تعالى مضطرا إلى إحداث العرض عند إحداث الجوهر وأنه ينفي الاختيار
والجواب أن هذا لازم عليكم في امتناع وجود العرض دون الجوهر وامتناع وجود العلم دون الحياة وامتناع وجود العلم بالمنظور فيه دون النظر فإنكم لا تجوزون انقلاب العلم النظري بصفاته تعالى ضروريا وحصوله بلا نظر فيلزم كونه مضطرا إلى إحداث الجوهر والحياة والنظر عند إحداث الأمور الموقوفة عليها فما هو عذركم في صور الإلزام فهو عذرنا في محل النزاع ولا يخفى عليك أن الإلزام الثالث لا يتجه على من يسند النظر والعلم المستفاد منه إلى قدرة العبد وكذا إذا أبدل الثالث بما ذكره الآمدي من لزوم العلم بالمنظور فيه عند انتفاء الآفات المانعة منه
الوجه الثاني ما من معلوم إلا ويمكن أن يخلق الله تعالى في العبد علما به والمعلومات أي المفهومات التي يمكن أن يتعلق العلم بها في نفسها غير متناهية لشمولها الواجب والممكنات والممتنعات فكذا العلوم المتعلقة بها غير متناهية والحاصل من تلك العلوم للعبد متناه لاستحالة وجود ما لا يتناهى فإن انتفى والظاهر أن يقال فقد انتفى عنه علوم غير
642

متناهية فكان يجب على تقدير امتناع الخلو عن العرض وضده أن يقوم به بإزاء كل علم منتف عنه ضد له فيلزم حينئذ قيام صفات غير متناهية بالعبد وكذا الحال في المقدورات ونحوها كالمرادات وأنه محال لما عرفت
والجواب أن المنتفي عن العبد هو تعلق العلم بما لا يتناهى من المعلومات وأنه أي ذلك التعلق ليس بعرض بل هو أمر اعتباري وهذا الإلزام الذي ذكرتموه إنما يلزم من يحوج كل معلوم إلى علم على حدة ويجعله مع ذلك أمرا موجودا لا نفس التعلق الاعتباري ونحن لا نقول به بل يجوز أن يتعلق علم واحد بمعلومات متعددة أو نجعله نفس التعلق لا صفة موجودة
وأجاب الأستاذ أبو إسحق بناء على أصله من تضاد العلوم المتعددة وإن كانت مختلفة لا متماثلة أن أي بأن ضد العلوم
المنتفية التي لا تتناهى هو العلم الحاصل سواء كان متعددا أو واحدا فلا محذور وألزم الأستاذ على أصله امتناع اجتماع علمين مطلقا في محل واحد لكونهما متضادين عنده فالتزمه وزعم أن لكل علم محلا من القلب غير ما للآخر فلا يجتمع علمان في محل واحد أصلا
وأجاب ابن فورك فقال المعلومات وإن كانت غير متناهية فالإنسان لا يقبل منها إلا علوما متناهية لامتناع وجود ما لا يتناهى مطلقا وإذا لم يقبل ما لا يتناهى من العلوم لم يلزم على تقدير خلوه من العلوم التي لا تتناهى أن يتصف بأضداد غير متناهية لأن قيام الضد إنما يكون بدل ما كان المحل قابلا له
قال الآمدي وهذا أسد من جواب الأستاذ
قال المصنف وإنما يصح هذا الجواب لو امتنع وجود ما لا يتناهى بدلا كما يمتنع وجوده معا لكنه لم يثبت وأجيب عنه بأن اللازم حينئذ
643

اتصاف العبد بصفات غير متناهية على سبيل البدل وليس بمستحيل لأن الحاصل للعبد في كل وقت مع ما قبله من الأوقات متناه قطعا
وأجاب القاضي الباقلاني بأنه قد يكون انتفاء ما انتفى عنه من العلوم التي لا تتناهى بضد عام هو صفة واحدة مضادة لجميع تلك العلوم المنتفية ولا استحالة في مثل ذلك كالموت والنوم فإنهما ضدان لجميع العلوم على الإطلاق وإذا جاز ذلك جاز أيضا أن تضاد صفة واحدة ما عدا العلوم الحاصلة
الوجه الثالث الهواء وكذا الماء خال عن اللون المخصوص كالسواد مثلا وعن ضده أيضا إذ لا لون له أصلا وكذا هو خال عن الطعوم المتضادة كما مرت الإشارة إليه
والجواب منع عدم اللون فيه بل له لون ما لكنه لا يدرك لضعفه أو التزم أن الشفيف الثابت للهواء والماء أمر وجودي هو ضد اللون المطلق لا عدمه
تنبيه
منهم أي من المتكلمين من قال قبول الأعراض الثابت للجواهر معلل بالتحيز للدوران فإنه إذا وجد التحيز وجد القبول وإذا عدم عدم والمدار علة للدائر وقيل لا لدوران كل منهما مع الآخر فليس إسناد أحدهما إلى الآخر أولى من العكس والحق التوقف لأن كل واحد من المذهبين ممكن ولا قاطع في شيء منهما
644

المقصد السابع
المتن
الأبعاد متناهية سواء كانت في ملاء أو خلاء إن جاز خلافا للهند لوجوده
الأول لو وجد بعد غير متناه فلنا أن نفرض خطا غير متناه وخطا آخر متناهيا يوازيه ثم يميل من الموازاة مائلا إلى جهته فيسامته ضرورة والمسامتة حادثة فلها أول وهي بنقطة فيكون في الخط الغير المتناهي نقطة هي أول نقط المسامتة وأنه محال إذ ما من نقطة تفرض إلا والمسامتة مع ما قبلها قبل المسامتة معها لأن المسامتة إنما تحصل بزاوية مستقيمة الخطين وأنها تقبل القسمة إلى غير النهاية وكلما كانت الزاوية أصغر كانت المسامتة مع النقطة الفوقانية
تلخيصه لو وجد بعد غير متناه لأمكن الفرض المذكور واللازم باطل لأنه مستلزم إما لامتناع المسامتة أو لوجود نقطة هي أول نقط المسامتة والقسمان باطلان واعترض عليه بمنع إمكان الفرض وجوابه دعوى الضرورة
واعلم أن من الفروض ما يحكم العقل بجوازه كالفروض الهندسية مثل تطبيق خط على خط وفصل خط من خط وإدارة دائرة وليس لأحد أن يمنعه إلا مكابرة وقد يقال عليه لا نسلم لزوم نقطة هي أول نقط المسامتة لعين ما ذكرتم في بطلان التالي
والجواب أنا بينا لزوم ذلك بأن المسامتة لها أول وهو يكون بنقطة ضرورة ودليل امتناع اللازم لا يدل على عدم ملازمته وإلا جاء في كل قياس استثنائي يستثنى فيه نقيض التالي
645

وقال بعض فضلاء المتأخرين إن أطول خط يفرض هو محور العالم والمسامتة مع النقطة التي فوقه قبل المسامتة معه وهذا مما لا ورود له كيف والمسامتة مع نقطة لا وجود لها لا تعقل والوهم البحت لا عبرة به
الثاني وهو عكس الأول ولزيادة تقرير له أن نفرض خطين غير متناهيين متقاطعين ثم ينفرجان كأنهما مائلان إلى الموازاة فلا بد في الموازاة أن يتخلص أحدهما عن الآخر ولا يتصور ذلك إلا بنقطة هي نهايتهما ويلزم الخلف
الثالث أنا نفرض من نقطة ما خطين ينفرجان كساقي مثلث متساوي الأضلاع بحيث يكون البعد بينهما بعد ذهابهما ذراعا ذراعا وبعد ذهابهم ذراعين ذراعين وعلى هذا فإذا ذهبا إلى غير النهاية كان البعد بينهما غير متناه بالضرورة واللازم محال لأنه محصور بين حاصرين والمحصور بين حاصرين يمتنع أن لا يكون له نهاية ضرورة وهذا هو الذي يسميه ابن سينا البرهان السلمي مع زيادة تلخيص عجز عنه الفحول البزل
واعلم أن هذا يدل على بطلان عدم تناهي الأبعاد من جميع الجهات ولو جوز مجوز أسطوانة غير متناهية لم يتم ذلك
646

الرابع نفرض ساقي مثلث كيف اتفق فللانفراج إليهما نسبة محفوظة بالغا ما بلغ فلو ذهبنا إلى غير النهاية لكان ثمة بعد متناه نسبته إلى غير المتناهي كنسبة المتناهي إلى المتناهي هذا خلف
الخامس أنا نقسم ترسا بستة أقسام يحيط بكل قسم ضلعان ثم نخرج الأضلاع إلى غير النهاية ثم نردد في كل قسم فنقول هو إما غير متناه فينحصر ما لا يتناهى بين حاصرين وإما متناه فكذا الكل لأنه ضعف المتناهي بمرات متناهية وهذا كالتتمة والتوضيح للبرهان السلمي لأن كل قسم من الستة كمثلث متساوي الأضلاع
السادس التطبيق وطريقه أن نفرض من نقطة ما إلى غير النهاية خطا ومن نقطة قبلها بمتناه خطا آخر ثم نطبق الخطين فالناقصة إما مثل الزائدة أو تنقطع فينقطعان كما تقدم مرتين
السابع أنا نفرض خطا غير متناه من الجانبين ثم نعين عليه نقطتين بينهما بعد متناه ونشير إلى نقطة فنقول هي إما المنتصف أو لا فإن كانت المنتصف كان منها في الجانب الآخر مثله فيكون من النقطة الأخرى في ذلك الجانب أقل منه فنطبق أحدهما بالآخر ويتم الدليل وإن لم تكن المنتصف كان أحدهما أقل من الآخر ونمضي
احتج الخصم بوجوه
الأول ما وراء العالم متميز فإن ما يلي يمينه غير ما يلي يساره ضرورة والمتميز لا يكون عدما محضا فهو إذا بعد والجواب منع التميز وإنما ذلك وهم
الثاني أنه متقدر فإن ما يوازي ربع العالم أقل مما يوازي نصفه وكل متقدر فهو كم والجواب أن التقدر وهم
الثالث أنا لو فرضنا واقفا على طرف العالم فإن أمكنه مد يده فيما وراءه فثمة فضاء متقدر إذ ما يسع إصبعا أقل مما يسع اليد كلها وإن لم يمكنه فثمة جسم مانع وعلى التقديرين فثمة بعد والجواب لا نسلم أنه لو
647

لم يمكنه مد يده فيه فثمة جسم مانع لجواز أن يكون ذلك لا لوجود المانع بل لعدم الشرط وهو الفضاء الذي يمكن مد اليد فيه
الرابع الجسم ماهية كلية فيمكن لها أفراد غير متناهية عقلا والجواب أن الكلية لا تقتضي الوجود ولا التعدد ولا عدم التناهي
الشرح
المقصد السابع الأبعاد الموجودة متناهية من جميع الجهات سواء كانت تلك الأبعاد في ملاء كالأبعاد المقارنة المادة الجسمية أو خلاء كالأبعاد المجردة عنها إن جاز الخلاء والمراد أن تناهي الأبعاد لا يتوقف على امتناع الخلاء خلافا للهند فإنهم ذهبوا إلى أنها غير متناهية وإنما قلنا بتناهيها لوجوه
الأول لو وجد بعد غير متناه ولو من جهة واحدة فلنا أن نفرض من مبدأ معين خطا غير متناه وخطا آخر متناهيا بحيث يوازيه في وضعه الأول أي يكون بحيث لا يلاقيه أصلا وإن خرج إلى غير النهاية ثم يميل الخط المتناهي بحركته مع ثبات أحد طرفيه الذي في جانب المبدأ من الموازاة مائلا إلى جهته أي جهة الخط الغير المتناهي فيسامته أي يصير بحيث يلاقيه بالإخراج وذلك أعني حصول المسامتة بتلك الحركة معلوم ضرورة والمسامتة المذكورة حادثة لكونها معدومة حال الموازاة المتقدمة عليها فلها أول إذ كل حادث كذلك وهي أي مسامتته إياه بنقطة لأن تقاطع الخطين لا يتصور إلا عليها فيكون في الخط الغير المتناهي نقطة هي
648

أول نقطة المسامتة وأنه محال إذ ما من نقطة تفرض على الخط الذي فرض غير متناه إلا والمسامتة مع ما قبلها أي
فوقها من جانب لا تناهي الخط قبل المسامتة معها وذلك لأن المسامتة مع أية نقطة تفرض إنما تحصل بزاوية مستقيمة الخطين عند الطرف الثابت من الخط المتناهي فأحد الخطين هو هذا المتناهي مفروضا على وضع الموازاة والآخر هو بعينه أيضا لكن حال كونه على وضع المسامتة فكأن هناك خطا آخر كان منطبقا عليه فزال بحركته انطباقه مع بقاء أحد طرفيه على حاله ويزداد اتضاحه بأن نفرض الخط المتناهي خارجا من مركز كرة موازيا لغير المتناهي ثم نفرض حركتها حتى يصير مسامتا فيحدث عند مركز الكرة زاوية مستقيمة الخطين وأنها تقبل القسمة إلى غير النهاية إذ قد بين إقليدس في الشكل التاسع من المقالة الأولى من كتابه أن كل زاوية مستقيمة الخطين يمكن تنصيفها بخط مستقيم ولا شك أن كل واحد من النصفين زاوية مستقيمة الخطين فيقبل التنصيف أيضا وهكذا إلى ما لا نهاية له على أن الزاوية المسطحة إما كم أو كيفية حالة فيه سارية في جهة واحدة منه فتكون قابلة للانقسام أبدا كالمقادير وكلما كانت الزاوية أصغر كانت المسامتة مع النقطة الفوقانية يعني إذا فرض أن نقطة ما هي أول نقط المسامتة لم تكن تلك النقطة كذلك لأن المسامتة معها إنما تكون بحدوث زاوية منقسمة إلى نصفين ولا شك أن حدوث نصفها قبل حدوث كلها وفي حال حدوث النصف توجد المسامتة لزوال الموازاة حينئذ قطعا وتلك المسامتة مع نقطة فوقانية بلا شبهة فلا تكون النقطة الأولى أول نقط المسامتة وهكذا فلا يمكن أن يوجد هناك ما هو أول تلك النقط وقد تبين ذلك بأن المسامتة إنما تكون بالحركة وكل حركة منقسمة إلى جزء سابق وجزء لاحق فحال ما يوجد الجزء السابق تكون المسامتة مع نقطة أخرى وهكذا
قال المصنف تلخيصه أي تلخيص هذا الوجه أنه لو وجد بعد غير متناه لأمكن الفرض أي المفروض المذكور واللازم باطل لأنه مستلزم إما لامتناع المسامتة أو لوجود نقطة هي أول نقط المسامتة إذ مع ذلك الفرض
649

إما أن تمتنع المسامتة وهو أحد الأمرين أو لا تمتنع فيجب أن يوجد أول نقط المسامتة وهو الأمر الآخر والقسمان باطلان أما وجود تلك النقطة فلما مر من استحالته واستلزام وجودها فلا يتصور امتناعها على ذلك الفرض كما لا يخفى ومنهم من فرض الخط المتناهي أولا مسامتا ثم تحرك إلى أن صار موازيا قال فلا بد من نقطة هي آخر نقط المسامتة لأنها كانت ثم زالت فيكون لها نهاية لكنه باطل لمثل ما مر وسماه برهان الموازاة
واعترض عليه بمنع إمكان الفرض أي لا نسلم أنه لو وجد بعد غير متناه لأمكن وجود خط غير متناه مع وجود خط آخر متناه فيكون موازيا للأول أولا مسامتا له بسبب حركته ثانيا إذ يجوز أن يكون بعض هذه الأمور محالا في نفسه أو يكون كل واحد منها ممكنا واجتماعها محالا كاجتماع قيام زيد مع عدمه وحينئذ جاز أن يكون البعد الغير المتناهي ممكنا والفرض ممتنعا على أحد الوجهين ويكون المحال ناشئا منه لا من البعد الذي لا يتناهى أو يكون كلاهما ممكنا ويلزم المحال من اجتماعهما
وجوابه دعوى الضرورة أي نحن نعلم ببديهة العقل أن كل واحد من الأمور المفروضة ومجموعها أيضا ممكن على تقدير لاتناهي الأبعاد فلو كان لا تناهيها ممكنا في نفس الأمر لم يكن هناك ممتنع لا بسيط ولا مركب فلا يتصور لزوم محال ولما لزم علم أن المحال هو اللاتناهي وحده
واعلم أن من المفروض ما يحكم العقل بجوازه بديهة كالفروض الهندسية مثل تطبيق خط على خط وفصل خط من خط وإدارة دائرة بتحريك خط مستقيم مع ثبات أحد طرفيه إلى أن يعود إلى وضعه الأول
650

وليس لأحد أن يمنعه إلا مكابرة وما نحن فيه من قبيل هذه الفروض كما نبهنا عليه فلا يتجه عليه منع إمكانه على ذلك التقدير وقد يقال عليه أيضا لا نسلم لزوم نقطة هي أول نقط المسامتة لعين ما ذكرتم في بطلان التالي أي نستدل به على بطلان الملازمة فنقول إذا تحرك نصف قطر الكرة كما ذكرتم وجب أن لا يوجد في الخط الذي لا يتناهى نقط هي أول نقط المسامتة لأن المسامتة إنما تكون بزاوية وحركة مقسمتين فلا يوجد هناك ما هي أول نقطها لأن كل نقطة تفرض كذلك كانت المسامتة مع ما فوقها قبلها
والجواب عن هذا أنا بينا لزوم ذلك بأن المسامتة لها أول لكونها حادثة وهو يكون بنقطة ضرورة فالنقطة التي حدثت المسامتة معها في ذلك الأول هي أول نقطها ودليل امتناع اللازم في نفسه لا يدل على عدم ملازمته لجواز أن يكون الملزوم أيضا ممتنعا كيف ولو دل على ذلك لما تم الأقيسة الاستثنائية التي استثنى فيها نقيض التالي واستدل عليه وإليه أشار بقوله وإلا جاء في كل قياس استثنائي يستثنى فيه نقيض التالي وقد يجاب أيضا بأنا نستدل هكذا لو كانت الأبعاد غير متناهية وتحرك الخط المتناهي من الموازاة إلى المسامتة فإما أن يوجد أول نقط المسامتة أو لا يوجد وكلاهما محال بدليلكم ودليلنا وعلى هذا بطل اعتراضكم بالكلية لكن بقي ههنا بحث وهو أنا لا نسلم أن المسامتة ببعض الزاوية أو الحركة قبل المسامتة الحاصلة بكلها وإنما يلزم ذلك إذا كان بعضهما موجودا بالفعل حتى يمكن أن يوجد به مسامتة لكنهما ينقسمان بالقوة لا بالفعل ولو صح ما ذكرتموه لامتنع حركة نصف قطر الدائرة على قوس منها لأن الحركة إلى نصف القوس قبل الحركة إلى كلها والحركة إلى نصف الزاوية قبل الحركة إلى كلها وهكذا بل تمتنع الحركة مطلقا فالشبهة إنما وقعت من موضع ما بالقوة مكان ما بالفعل ودفعه بعض الأفاضل بأن ما ذكرناه أحكام وهمية إلا أنها
651

صحيحة إذ الوهم إنما يحكم بها على طاعة من العقل كسائر الهندسيات فليس المدعي إلا أنه لا بد للمسامتة الحادثة من أول نقطة في الوهم لكن الخط الغير المتناهي لا يتعين فيه نقطة للأولية بخلاف الخط المتناهي وفيه نظر إذ ليس يلزم من حدوث المسامتة إلا أن يكون لها زمان هو أول أزمنة وجودها فلا تكون المسامتة الحادثة فيه مسبوقة بمسامتة في زمان سابق عليه وهذا اللازم لا يستلزم أن يوجد هناك نقطة هي أول نقط المسامتة في الوهم بيانه أن نقول لا مسامتة حال الموازاة بل لا بد لحدوثها من حركة واقعة في زمان فإذا وجدت كانت المسامتة حاصلة في كل آن يفرض في ذلك الزمان وتلك الآنات المفروضة فيه غير متناهية أي لا تقف عند حد فكذا المسامتات المتوهمة فيها وكل واحدة منها إنما هي مع نقطة أخرى فلا تتعين نقطة أولى يقف الوهم عندها وهل هذا إلا مثل أن يقال لو حدثت الحركة لكان لها أول زمان توجد فيه وحينئذ فلا بد أن يتعين لها ولمسافتها جزء أول في الوهم لكنه محال لا يقال المسامتة آنية فلا بد لها من نقطة غير مسبوقة بأخرى في الوهم لأنا نقول مسامتة الخط للنقطة آنية وأما المسامتة المذكورة أعني مسامتة الخط للخط فلا يتصور حدوثها إلا بوجود حركة في زمان كما ذكرناه فليس هناك مسامتة إلا وهي مسبوقة في الوهم بأخرى إلى غير النهاية فلا يتعين فيه نقطة غير مسبوقة ويمكن أن يقال نحن ندعي أنه إذا وقع ذلك المفروض في الخارج فلا بد أن يتعين فيه نقطة هي أول نقط المسامتة إذ لا بد هناك من مسامتة غير مسبوقة فيه بأخرى إلا لزم وجود مسامتات غير متناهية العدد بالفعل في زمان متناه وهو محال فتلك المسامتة إنما هي بأولى النقط ولك أن تحمل ذلك الدفع على هذا المعنى بأن تجعل تعين النقطة في الوهم عبارة عن تعينها في الخارج على تقدير وقوع المفروض فيه فيندفع النظر عنه
652

وقال بعض فضلاء المتأخرين وهو صاحب لباب الأربعين هذا الدليل مقلوب عليكم لدلالته على عدم تناهي الأبعاد بأن يقال إن أطول خط يفرض في البعد المتناهي الموجود هو محور العالم فإذا فرضنا خطا يوازيه ثم يتحرك حتى يسامته على طرفه والمسامتة مع النقطة التي فوقه خارج العالم قبل المسامتة معه لما ذكرتم بعينه فيلزم أن يكون على سمته نقط لا تتناهى وبعد غير متناه ينفرض فيه تلك النقط وهذا الذي ذكره مما لا ورود له كيف والمسامتة مع نقطة لا وجود لها لا تعقل لأنه لا يمكن إخراج خط إلى خارج العالم إذ لا خلاء موجودا هناك ولا ملأ فكيف يتصور ملاقاته لنقطة معدومة فيه والوهم البحت الذي لا يساعده العقل لا عبرة به وتحقيقه أن اللازم مما ذكره نقط موهومة غير متناهية في خط موهوم غير متناه والكلام في تناهي الأبعاد الموجودة في الخارج دون الموهومة الصرفة
الوجه الثاني وهو عكس الأول في أنه فرض فيه أولا المسامتة والتقاطع بين الخطين وثانيا الموازاة وعدم الملاقاة واعتبر فيه آخر نقط التقاطع وهو لزيادة تقرير وتحقيق له أي للوجه الأول أن نفرض خطين غير متناهيين متقاطعين ثم ينفرجان كأنهما مائلان إلى الموازاة فلا بد في الموازاة من أن يتخلص أحدهما عن الآخر ولا يتصور ذلك إلا بنقطة هي نهايتهما ويلزم الخلف وهو تناهيها على تقدير اللاتناهي وقد ذكره صاحب التلويحات واشتهر ببرهان التخلص وإنما يتضح إذا فرض كرة خرج من مركزها خط غير متناه قاطع لآخر غير متناه أيضا فإذا تحركت الكرة فقبل
653

تمام الدورة لا بد أن يصير الخط الخارج من مركزها موازيا للآخر فيلزم تناهيهما وبرهان الموازاة على ما مر مأخوذ منه بفرض أحد الخطين متناهيا ومسامتا أو لا فظهر أن براهين المسامتة والموازاة والتخلص راجعة إلى أصل واحد
الوجه الثالث أنا نفرض من نقطة ما خطين ينفرجان كساقي مثلث متساوي الأضلاع بحيث يكون البعد بينهما بعد ذهابهما ذراعا ذراعا وبعد ذهابهما ذراعين ذراعين وعلى هذا يتزايد البعد بينهما بقدر ازديادهما ولو ترك ذكر تساوي
الأضلاع واكتفى بالحيثية المفسرة له لكان الكلام أخصر وأظهر ومحصوله أن يكون الانفراج بينهما بقدر امتدادهما فإذا ذهبا إلى غير النهاية كان البعد بينهما غير متناه أيضا بالضرورة واللازم محال لأنه محصور بين حاصرين والمحصور بين حاصرين يمتنع أن لا يكون له نهاية ضرورة وهذا البرهان في الحقيقة هو الذي يسميه ابن سينا البرهان السلمي مع زيادة تلخيص عجز عنه الفحول البزل واهتدى إليه صاحب المطارحات وذلك التلخيص هو فرض الانفراج بين الخطين بقدر الامتداد إذ قد سقط به مؤنات كثيرة يحتاج إليها في السلمي الذي أورده في إشاراته كما تطلع عليها في شروحها
واعلم أن هذا الوجه الثالث يدل على بطلان عدم تناهي الأبعاد من جميع الجهات كما هو مذهب الخصم ومن جهتين أيضا لا من جهة واحدة إذ لا يمكن حينئذ فرض الانفراج بقدر الامتداد وإليه الإشارة بقوله
654

ولو جوز مجوز أسطوانة غير متناهية في طولها لم يتم ذلك في إبطالها بخلاف الأولين فإنهما يبطلان لاتناهي الأبعاد على الإطلاق
الوجه الرابع وهو البرهان السلمي على الإطلاق وقد لخصه المصنف تلخيصا شافيا نفرض ساقي مثلث خرج من نقطة واحدة كيف اتفق أي سواء كان الانفراج بقدر الامتداد كما مر تصويره أو أزيد بأن يكون الانفراج ذراعين إذا كان الامتداد ذراعا أو أنقص كما إذا انعكس الحال بينهما فللانفراج إليهما أي إلى الساقين نسبة محفوظة بالغا ما بلغ وذلك لأن الخطين مستقيمان فلا يتباعدان إلى علي نسق واحد فإذا امتدا عشرة أذرع مثلا وكان الانفراج حينئذ ذراعا فإذا امتد عشرين ذراعا كان الانفراج ذراعين قطعا وإذا امتدا ثلاثين كان ثلاثة أذرع وعليه فقس وهذا معنى حفظ نسبة الانفراج إليهما وحينئذ تكون نسبة الامتداد الأول أعني العشرة إلى الثاني أعني العشرين كنسبة الانفراج الأول أعني الذراع إلى الثاني أعني الذراعين وكذا الحال في نسبة الثالث إلى الثالث والرابع إلى الرابع وما بعدهما فلو ذهبنا أي الساقان إلى غير النهاية لكان ثمة بعد متناه هو الامتداد الأول نسبته إلى غير المتناهي وهو الامتداد الذاهب إلى غير النهاية كنسبة المتناهي وهو الانفراج الأول إلى المتناهي وهو الانفراج بينهما حال ذهابهما إلى غير النهاية لما عرفت من أن نسبة الامتداد إلى الامتداد وكنسبة الانفراج إلى الانفراج هذا خلف لأن نسبة المتناهي إلى المتناهي المذكورين بجزئية معينة ويستحيل ذلك بين المتناهي وغير المتناهي لا يقال جاز أن يكون الانفراج الحاصل حال الذهاب غير متناه أيضا لأنا نقول فيلزم انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين
الوجه الخامس أنا نقسم جسما على هيئة الدائرة وليكن ترسا بستة أقسام متساوية بأن نقسم أولا محيط دائرته إلى ست قطع متساوية ثم
655

نصل بين النقط المتقابلة بخطوط متقاطعة على مركزه فينقسم حينئذ إلى أقسام ستة متساوية يحيط بكل قسم منها ضلعان ثم نخرج الأضلاع بأسرها إلى غير النهاية حتى تنقسم الأبعاد كلها في طولها وعرضها أعني سعة العالم بهذه الأقسام ثم نردد في كل قسم فنقول هو في عرضه إما غير متناه فينحصر ما لا يتناهى بين حاصرين هما الضلعان المحيطان به وإما متناه فكذا الكل متناه أيضا لأنه ضعف المتناهي الذي هو أحد الأقسام بمرات متناهية هي الستة وهذا البرهان المسمى بالترسي كالتتمة والتوضيح للبرهان الذي هو تلخيص السلمي لأن كل قسم من الستة كمثلث متساوي الأضلاع لأنك إذا فرضت على ضلعي كل قسم نقطتين متساويتي البعد عن المركز ووصلت بينهما بخط كان ذلك الخط مساويا لكل واحد من الضلعين وذلك لأن الزاوية التي عند المركز ثلثا قائمة إذ المحيط بكل نقطة أربع قوائم وقد قسمت ههنا بست زوايا متساوية وكذا كل واحدة من الزاويتين الباقيتين ثلثا قائمة لأنهما متساويتان لتساوي وتريهما وإذا كانت زوايا المثلث متساوية كانت الأضلاع كذلك فظهر أن الانفراج بين كل ضلعين بقدر امتدادهما كما في ذلك البرهان إلا أن ههنا تصويرا ومزيد توضيح لإمكان خروج خطين من نقطة بحيث ينفرجان على قدر امتدادهما وكان يكفيه ههنا أن يخرج من نقطة واحدة خطوطا ستة على أن تكون جميع الزوايا متساوية إلا أن في إمكان ذلك نوع خفاء ففرض دائرة لا شبهة في إمكان تقسيم محيطها إلى أقسام ستة متساوية وحينئذ يلزم تساوي الزوايا المركزية وكون كل واحدة ثلثي قائمة فينكشف مساواة البعد فيما بين الخطين لامتدادهما انكشافا تاما وهذه الوجوه أعني الثالث والرابع والخامس كما لا يخفى راجعة إلى برهان واحد
656

الوجه السادس التطبيق الدال على تناهي الأبعاد من جميع الجهات وطريقه ههنا أن نفرض من نقطة ما إلى غير النهاية خطا ونفرض من نقطة قبلها بمتناه خطا آخر إلى غير النهاية أيضا ثم نطبق الخطين فالناقصة إما مثل الزائدة واستحالته ظاهرة أو تنقطع فينقطعان فلا يكونان غير متناهيين كما تقدم مرتين مرة في بطلان التسلسل ومرة في تناهي القوى الجسمانية
الوجه السابع أنا نفرض خطا غير متناه من الجانبين ثم نعين عليه نقطتين بينهما بعد متناه ونشير إلى نقطة ما من هاتين النقطتين فنقول هي إما المنتصف أو لا فإن كانت المنتصف كان منها في الجانب الآخر مثله فيكون من النقطة الأخرى في ذلك الجانب أقل منه فنطبق أحدهما بالآخر ونتم الدليل وإن لم تكن المنتصف كان أحدهما أقل من الآخر ونمضي في إتمام الدليل ولا يذهب عليك أن هذا تقرير آخر للتطبيق فقد عادت الوجوه السبعة إلى أدلة ثلاثة اثنان منها يدلان على امتناع الاتناهي مطلقا وواحد على امتناعه في جهتين أو أكثر
احتج الخصم على عدم التناهي بوجوه
الأول أن ما وراء العالم متميز فإن ما يبلي يمينه أي يمين العالم غير ما يبلي يساره ضرورة ألا ترى أن بديهة العقل شاهدة بأن ما يبلي القطب الشمالي غير ما يبلي القطب الجنوبي وما يبلي المشرق غير ما يبلي المغرب إلى غير ذلك والمتميز لا يكون عدما محضا فهو إذن موجود وبعد لقبوله التقدير سواء كان ماديا أو مجردا
657

والجواب منع ثبوت التميز فيما وراء العالم بحسب نفس الأمر وإنما ذلك التميز الذي ذكرتموه وهم محض لا عبرة به أصلا
الثاني أنه أي ما وراء العالم متقدر فإن ما يوازي ربع العالم أقل مما يوازي نصفه وكل متقدر فهو موجود و كم
والجواب أن التقدر الذي صورتموه وهم باطل لا يلتفت إليه قطعا
الثالث أنا لو فرضنا واقفا على طرف العالم فإن أمكنه مد يده فيما وراءه فثمة فضاء موجود لاستحالة مد اليد في العدم الصرف متقدر إذ ما يسع منه إصبعا أقل مما يسع اليد كلها وإن لم يمكنه مد يده فيه فثمة جسم مانع لليد من النفوذ وعلى التقديرين فثمة بعد إما مجرد أو مادي
والجواب لا نسلم أنه لو لم يمكنه مد يده فيه فثمة جسم مانع لجواز أن يكون ذلك لا لوجود المانع بل لعدم الشرط وهو الفضاء الذي يمكن مد اليد فيه
الرابع الجسم ماهية كلية فيمكن لها أفراد غير متناهية عقلا فإذا وجدت تلك الأفراد كانت الأبعاد غير متناهية
والجواب أن الكلية وإن لم تمنع من وقوع جزئيات لا تتناهى إلا أنها لا تقتضي الوجود أي وجود شيء من الجزئيات ولا التعدد في الجزئيات ولا عدم التناهي فيها بل يجوز أن يكون الكلي ممتنع الوجود فلا يوجد شيء من أفراده أو ممتنع التعدد فلا تتعدد أفراده أو ممتنع اللاتناهي في أفراده فلا يوجد له أفراد غير متناهية كل ذلك لأمور خارجة عن مفهوم الكلية وعدم تناهي أفراد الجسم ممتنع للأدلة السابقة
المقصد الثامن
المتن
قال الحكماء لا عالم غير هذا العالم أعني ما يحيط به سطح محدود الجهات لثلاثة أوجه
658

الأول لو وجد خارجه عالم آخر لكان في جانب من المحدد والمحدد في جهة منه فتكون الجهة قد تحددت قبله لا به هذا خلف
والجواب إن الذي ثبت بالبرهان تحدد جهتي العلو والسفل بالمحدد وأما تحدد جميع الجهات به فلا ولم لا يجوز أن يكون ههنا جهات غير هاتين الجهتين تتحدد لا بهذا المحدد فإن حصر الجهات في هاتين لم يقم عليه دليل
الثاني لو وجد عالم آخر لكان بينهما خلاء سواء كانا كرتين أو لا
والجواب لا نسلم ذلك لجواز أن يملأهما مالئ ولو أردنا ذكر مستند للمنع تبرعا قلنا قد يكونان تدويرين في ثخن كرة وربما تتضمن ألوفا من الكرات كل واحدة أعظم من المحدد بما فيها ولا استبعاد فإنهم قالوا تدوير المريخ أعظم من ممثل الشمس بما فيها وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز فيما هو أعظم منه ومن أين لكم أنه ليس في جوف تدوير المريخ عناصر ومركبات مماثلة لما عندنا أو مخالفة له
الثالث لو وجد عالم آخر لكان فيه عناصر لها فيه أحياز طبيعية فيكون لعنصر واحد حيزان طبيعيان
والجواب منع تساوي عناصرها وكائناتهما صورة ولئن سلمنا فلا نسلم تماثلهما حقيقة وإن سلمنا فلم لا يجوز أن يكون وجوده في أحدهما غير طبيعي
الشرح
المقصد الثامن جوز المتكلمون وجود عالم آخر مماثل لهذا العالم
659

لأن الأمور المتماثلة في الأحكام وإليه الإشارة في الكلام المجيد * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) *
وقال الحكماء لا عالم غير هذا العالم أعني ما يحيط به سطح محدد الجهات لثلاثة أوجه
الأول لو وجد خارجه عالم آخر لكان في جانب من المحدد وكان المحدد في جهة منه فتكون الجهة قد تحددت قبله ليتصور وقوعه فيها لابه كما هو الواقع هذا خلف
والجواب إن الذي ثبت بالبرهان تحدد جهتي العلو والسفل بالمحدد كما مر وأما تحدد جميع الجهات به فلا ولم لا يجوز أن يكون ههنا جهات غير هاتين الجهتين تتحدد لا بهذا المحدد بل بمحدد آخر فيجوز وقوع هذا في جهة منها فإن حصر الجهات المتحددة في هاتين لم يقم عليه دليل
الثاني لو وجد عالم آخر لكان بينهما خلاء سواء كانا معا كرتين أو لا وذلك لأن هذا العالم كروي فإن كان الآخر كرويا أيضا لم يتصور الملاقاة بينهما إلا بنقطة فلا بد أن يقع بينهما خلاء سواء تلاقيا أو لا وإن لم يكن كرويا وقع الخلاء أيضا لأن ملاقاة الكرة لما ليس بكرة لا تكون إلا مع فرجة
والجواب بعد تسليم امتناع الخلاء أن نقول لا نسلم ذلك لجواز أن يملأهما أي يملأ ما بينهما مالئ ولو أردنا ذكر مستند للمنع تبرعا قلنا قد يكونان أي العالمان تدويرين مركوزين في ثخن كرة عظيمة يساوي ثخنها قطريهما أو يزيد عليهما وربما تتضمن تلك الكرة ألوفا من الكرات
660

كل واحدة منها أعظم من المحدد بما فيها من الأفلاك والعناصر ولا استبعاد في ذلك فإنهم قالوا تدوير المريخ أعظم من ممثل الشمس بما فيها من الأفلاك الثلاثة والعناصر الأربعة ثلاث مرات وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز فيما هو أعظم منه ومن أين لكم أنه ليس في جوف تدوير المريخ عناصر ومركبات مماثلة لما عندنا في الحقيقة أو مخالفة له فيها
الثالث لو وجد عالم آخر لكان فيه عناصر لها فيه أحياز طبيعية فيكون لعنصر واحد كالماء مثلا حيزان طبيعيان وقد عرفت بطلانه
والجواب منع تساوي عناصرهما وكائناتهما المركبة منهما صورة أي لا نسلم تساويهما في الصورة النوعية وإن كانت متشاركة في الآثار والصفات كاشتراك ناريهما في الإحراق والإشراق ولئن سلمنا الاشتراك في الصورة النوعية فلا نسلم تماثلهما حقيقة لجواز الاختلاف في الهيولى الداخلة في حقيقتهما وإن سلمنا التماثل أيضا فلم لا يجوز أن يكون وجوده في أحدهما أي حصوله في أحد الحيزين غير طبيعي ولا نسلم أن القمر لا يكون دائما
661

المرصد الثالث في النفس
وفيه مقاصد
المقصد الأول في النفوس الفلكية
المتن
وهي مجردة لأن حركات الأفلاك إرادية فلها نفوس مجردة
أما الأول فلأنها إما طبيعية أو قسرية أو إرادية والأولان باطلان أما كونها طبيعية فلأن الحركة الدورية كل وضع فيها فهو مطلوب ومتروك فلو كان ذلك مقتضى الطبيعية لكان الشيء الواحد مطلوبا بالطبع ومتروكا بالطبع وأنه محال وأما كونها قسرية فلما تقدم أن القسر إنما يكون على خلاف الطبع وذلك أن عديم الميل الطبيعي لا يتحرك وههنا لا طبع فلا قسر وأيضا فلو كان بالقسر لكان على موافقة القاسر فوجب تشابه حركاتها وأما الثاني فلأن إرادتها ليست عن تخيل محض وإلا امتنع دوامها
662

على نظام واحد دهر الداهرين لا يختلف ولا يتغير فهي إذا ناشئة عن تعقل كلي ومحل التعقل الكلي مجرد لما سيأتي في النفوس الإنسانية برهانه والاعتراض لا نسلم أنها ليست طبيعية وأنه يلزم كون المطلوب بالطبع مهروبا عنه بالطبع لجواز أن يكون المطلوب نفس الحركة سلمناه لكن لا نسلم أنها ليست قسرية قولك القسر على خلاف الطبع ممنوع وقد مر ما في دليله سلمناه لكن لا نسلم أن التخيل لا ينتظم ولم لا يجوز أن يكون تخليه خلاف تخيلنا سلمناه لكن لا نسلم أن محل التعقل مجرد وسنتكلم عليه
تفريعات
الأول لها مع القوة العقلية قوى جسمانية هي مبدأ للحركات الجزئية فإن التعقل الكلي لا يصلح لذلك فإن نسبته إلى جميع الجزئيات سواء فلا يصلح مبدأ لتخصيص البعض دون البعض
الثاني ليس للأفلاك حس ولا شهوة ولا غضب لأن الاحتياج إليها لجلب النفع ودفع الضر المقصود بهما حفظ الصورة عن الفساد وصورها لا تقبل ذلك والمقدمات كلها ممنوعة
الشرح
المرصد الثالث في مباحث النفوس المجردة وأحكامها
شرع في بيانها بعد الفراغ من مباحث الأجسام وعوارضها وفيه مقاصد أربعة
المقصد الأول في النفوس الفلكية وهي مجردة عن المادة وتوابعها
663

لأن حركات الأفلاك إرادية فلها نفوس مجردة أما الأول وهو كون حركاتها إرادية فلأنها إما طبيعية أو قسرية أو إرادية لما مر من أن أقسام الحركة الذاتية منحصرة فيها والأولان باطلان فتعين الثالث أما كونها طبيعية فلأن الحركة الدورية كل ما وضع فيها فهو مطلوب ومتروك فلو كان ذلك التحرك الدوري مقتضى الطبيعة ومستندا إليها لكان الشيء الواحد وهو الوضع المخصوص مطلوبا بالطبع ومتروكا بالطبع وأنه محال وقد وجه هذا الدليل بأن كل وضع يتوجه إليه المتحرك بالاستدارة يكون ترك ذلك الوضع هو عين التوجه إليه فيكون المهروب عنه بالطبع بعينه مطلوبا بالطبع في حالة واحدة بل يكون الهرب عن الشيء عين طلبه وأنه محال بديهة ورد عليه بأنه ترك وضع ليس توجها إليه بعينه لانعدامه بتركه بل غايته أنه توجه إلى مثله فلا يكون المتروك نفس المطلوب فالأولى أن يوجه بأن المتحرك بحركته المستديرة يطلب وضعا ثم يتركه ومثله لا يتصور من فاقد الإرادة لأن طلب الشيء المعين وتركه لا يكون إلا باختلاف الأغراض الموقوفة على الشعور والإرادة وأما كونها قسرية فلما تقدم أن القسر إنما يكون على خلاف الطبع وذلك لأنه تقدم في مباحث الاعتمادات ما هو بمعناه أعني أن عديم الميل الطبيعي لا يتحرك قسرا وههنا لا طبع فلا قسر وأيضا فلو كان تحرك الأفلاك على الاستدارة بالقسر لكان على موافقة القاسر فوجب تشابه حركاتها في الجهة والسرعة والبطء وتوافقها في المناطق والأقطاب إذ لا يتصور هناك قسر إلا من بعضها لبعض لكن حركاتها كما شهدت به الأرصاد ليست متشابهة ولا متوافقة
وأما الثاني وهو أنه إذا كانت حركاتها إرادية كانت لها نفوس مجردة فلأن إرادتها المتعلقة بحركاتها ليست ناشئة عن تخيل محض من قوة جسمانية تدرك أمورا جزئية وإلا امتنع دوامها أي دوام الحركات
664

الفلكية على نظام واحد دهر الداهرين أي أزلا وأبدا لا يختلف ولا يتغير لا في الجهة ولا في السرعة ألا ترى أن الحركات الحيوانية المستندة إلى الإدراكات الجزئية تختلف وتنقطع فهي أي إرادتها التي تترتب عليها الحركات السرمدية على وتيرة واحدة إذن ناشئة عن تعقل كلي يندرج فيه أمور غير متناهية ومحل التعقل الكلي مجرد لما سيأتي في النفوس الإنسانية برهانه والاعتراض على هذا الدليل أن يقال لا نسلم أنها ليست طبيعية وأنه يلزم مع ذلك كون المطلوب بالطبع مهروبا عنه بالطبع لجواز أن يكون المطلوب في الحركة الطبيعية نفس الحركة لا حصول وضع معين فإن قيل حقيقة الحركة هي التأدي إلى شيء آخر فلا تطلب لذاتها بل لغيرها قلنا الحركة عندنا عبارة عن كون الجوهر في آنين في مكانين فجاز كونها مطلوبة لذاتها سلمناه أي سلمنا أن الحركات الفلكية ليست طبيعية لكن لا نسلم أنها ليست قسرية قولكم القسر على خلاف الطبع أي ما ليس فيه ميل طبيعي لا يقبل حركة قسرية ممنوع وقد مر ما في دليله من الخلل على أنه ليس يلزم من عدم كون حركاتها المستديرة طبيعية أن لا يكون لها ميل طبيعي مخالف لهذه الحركة ولا نسلم أيضا أن القاسر هناك منحصر في الأفلاك حتى يلزم التشابه بل نقول الحركة الحاصلة من بعضها
في بعض تكون حركة عرضية لا قسرية سلمناه لكن لا نسلم أن التخيل لا ينتظم على حالة واحدة ولا يدوم سرمدا ولم لا يجوز أن يكون تخيله أي تخيل الفلك خلاف تخيلنا فلا يختلف ولا ينقطع بل يستمر أزلا وأبدا بتعاقب أفراد غير متناهية متعلقة بحركات متوافقة متماثلة فإن قيل القوى الجسمانية كما مر متناهية مدة وعدة وشدة فلا
665

تستند إليها الحركات التي لا تتناهى
قلنا قد مر أيضا ما فيه ولو صح ذلك تعذر عليكم إثبات النفوس المنطبعة في الأجسام الفلكية سلمناه لكن لا نسلم أن محل العقل مجرد وما سيأتي من برهانه سنتكلم عليه هناك
تفريعان على القول بأن للأفلاك نفوسا مجردة وأنها أحياء ناطقة
الأول لها مع القوة العقلية التي نسبتها إليها كنسبة النفس الناطقة إلينا قوى جسمانية هي بتخيلاتها مبدأ للحركات الجزئية الصادرة عنها فإن التعقل الكلي لا يصلح لذلك أي لكونه مبدأ لوقوع الحركة الجزئية فإن نسبته إلى جميع الجزئيات سواء فلا يصلح مبدأ لتخصيص البعض بالوقوع دون البعض بل لا بد في وقوعه من إرادة جزئية متفرعة من إدراك جزئي لا يتصور إلا من قوة جسمانية وهذه القوى في الأفلاك كالخيال فينا إلا أنها سارية في جميع أجزائها بسيطة وتسمى نفوسا منطبعة
الثاني ليس للأفلاك حس من الحواس الظاهرة ولا شهوة ولا غضب لأن الاحتياج إليهما لجلب النفع ودفع الضر المقصود بهما حفظ الصورة عن الفساد وصورها الجسمية والنوعية لا تقبل ذلك لامتناع الخرق والالتئام والكون والفساد عليها والمقدمات المذكورة كلها ممنوعة إذ لا نسلم أن هذه القوى إنما خلقت لما ذكر فإنه يجوز أن يكون خلقها لكونها كمالا للجسم ولا نسلم أيضا انحصار النفع والدفع في حفظ الصورة عن الفساد ولئن سلم فلا نسلم أن صورة الفلك لا تقبل الفساد وما استدل به عليه مدخول وفي الملخص أن كلام ابن سينا اضطرب في الحواس الباطنة فحيث
666

نفاها استدل عليه بأنها متعلقة بالحواس الظاهرة لأن التخيل لحفظ صور المحسوسات والتوهم لدرك أحوالها الجزئية والتفكر للتصرف فيها فإذا لم يوجد الأصل وجب أن لا يوجد التبع ويرد على هذا الاستدلال أنا لا نسلم انحصار فائدتها في حفظ صور المحسوسات وأحوالها الجزئية والتصرف فيها إذ يجوز أن يكون فيها فوائد أخرى وإن سلم فلا نسلم أنه لا معطل في الوجود
المقصد الثاني
المتن
المقصد الثاني في أن النفوس الإنسانية مجردة ليست مجردة جسمانية ولا جسما وإنما تعلقها بالبدن تعلق التدبير والتصرف هذا مذهب الفلاسفة ووافقهم على ذلك من المسلمين الغزالي والراغب وخالفهم فيه الجمهور بناء على ما مر من نفي المجردات على الإطلاق احتجوا بوجوه
الأول أنها تعقل البسيط فتكون مجردة أما الأول فلأنها تعقل حقيقة ما فإن كانت بسيطة فذاك وإلا كانت مركبة من البسائط وتعقل الكل بعد تعقل أجزائه
وأما الثاني فلأن محل البسيط لو كان جسما أو جسمانيا لكان منقسما وانقسام المحل يوجب انقسام الحال فيه لأن الحال في أحد جزئيه غير الحال في الآخر وأنه ينافي البساطة أجيب عنه بأنه مبني على أن النفس محل المعقول وهو ممنوع فإن العلم مجرد تعلق وإن سلم فمحل لصورة البسيط ولا يلزم المطابقة من جميع الوجوه فقد لا تكون بسيطة وإن سلم
667

فلا نسلم أن كل ذي وضع منقسم فإنه بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ وإن سلم فلا نسلم أن الحال في المنقسم منقسم كالسطح وإن سلم أنه منقسم فالبقوة كالجسم لا بالفعل وأنه لا ينافي البساطة لجواز أن تكون جهة انقسامه غير جهة بساطته
الثاني أنها تعقل الوجود وأنه بسيط لما مر والجواب ما تقدم
الثالث أنها تعقل المفهوم الكلي فتكون مجردة أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن الحال في ذي الوضع يختص بمقدار ووضع فلا يكون مطابقا لكثيرين مختلفين بالمقدار والوضع بل لا يكون مطابقا إلا لما له ذلك المقدار والوضع والجواب يعرف مما مر ويرد ههنا منع عدم مطابقته لكثيرين إذ قد يخالف الشبح لما له الشبح في الصغر والكبر
الرابع أنها تعقل الضدين فلو كان جسما أو جسمانيا لزم اجتماع السواد والبياض مثلا في جسم واحد وأنه محال والجواب أن صورتي الضدين لا تضاد بينهما لأنهما يخالفان الحقيقة الخارجية ولولا ذلك لما جاز قيامهما بالمجرد وإن سلمنا فلم لا يجوز أن يقوم كل بجزء من الجسم
الخامس لو كان العاقل منها جسمانيا لعقل محله دائما أو لم يعقله دائما والتالي باطل أما الملازمة فلأن تعقله لمحله إن كفى فيه حضوره لذاته كان حاصلا دائما وإلا احتاج إلى حصول صورة أخرى منه وأنه محال لأن يقتضي اجتماع المثلين فلا يحصل وأما بطلان التالي فبالوجدان إذ ما من جسم فينا يتصور أنه محل للعلم كالقلب والدماغ وغيرهما إلا ونعقله تارة ونغفل عنه أخرى والجواب منع الملازمة لجواز أن لا يكفي حضوره ولا يحتاج إلى حصول صورة أخرى بل يتوقف على شرط غير
668

ذلك سلمناه لكن لا نسلم أن حصول صورة أخرى فيه اجتماع للمثلين وإنما يلزم ذلك أن لو تماثل الصورة الخارجية والصورة الذهنية وهو ممنوع
خاتمة في رواية مذاهب المنكرين لتجرد النفس الناطقة وهي تسعة
الأول لابن الراوندي أنه جزء لا يتجزأ في القلب لدليل عدم الانقسام مع نفي المجردات
الثاني للنظام أنه أجزاء لطيفة سارية في البدن باقية من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها تخلل وتبدل إنما المتخلل والمتبدل فضل ينضم إليه وينفصل عنه إذ كل أحد يعلم أنه باق
الثالث أنه قوة في الدماغ وقيل في القلب
الرابع أنه ثلاث قوى إحداها في القلب وهي الحيوانية والثانية في الكبد وهي النباتية والثالثة في الدماغ وهي النفسانية
الخامس أنه الهيكل المخصوص
السادس أنه الأخلاط المعتدلة كما وكيفا
السابع أنه اعتدال المزاج النوعي
الثامن أنه الدم المعتدل إذ بكثرته واعتداله تقوى الحياة وبالعكس
التاسع أنه الهواء إذ بانقطاعه طرفة عين تنقطع الحياة
واعلم أن شيئا من ذلك لم يقم عليه دليل وما ذكروه لا يصلح للتعويل
الشرح
المقصد الثاني في أن النفوس الإنسانية مجردة أي ليست قوة جسمانية حالة في المادة ولا جسما بل هي لا مكانية لا تقبل إشارة حسية وإنما تعلقها بالبدن تعلق التدبير والتصرف من غير أن تكون داخلة
669

فيه بالجزئية أو الحلول هذا مذهب الفلاسفة المشهورين من المقتدمين والمتأخرين ووافقهم على ذلك من المسلمين الغزالي والراغب وجمع من الصوفية المكاشفين وخالفهم فيه الجمهور بناء على ما مر من نفي المجردات على الإطلاق عقولا كانت أونفوسا
احتجوا أي المثبتون بتجريدها بوجوه خمسة
الأول أنها تعقل البسيط الذي لا جزء له بالفعل فتكون مجردة أما الأول فلأنها تعقل حقيقة ما من الحقائق أي معنى ما من المعاني فإن كانت تلك الحقيقة بسيطة فذاك أي ثبت المطلوب أعني تعقلها للبسيط وإلا كانت تلك الحقيقة مركبة من البسائط بالفعل لأن الكثرة متناهية كانت أو غير متناهية يجب فيها الواحد بالفعل لأنه مبدؤها وتعقل الكل بعد تعقل أجزائه بالضرورة لا يقال هذا إذا كان الكل معقولا بالكنه فإن تعقله بوجه ما لا يستلزم تعقل شيء من أجزائه لأنا نقول كلامنا في ذلك الوجه المعقول فإن كان بسيطا فذاك وإن كان مركبا كان له بسائط كل واحد بالفعل وأما الثاني وهو أنها إذا تعلقت بالبسيط كانت مجردة فلأن محل البسيط لو كان جسما أو جسمانيا أي لو كان ذا وضع أصالة أو تبعا لكان منقسما وانقسام المحل يوجب انقسام الحال فيه لأن الحال في أحد جزئيه غير الحال في الجزء الآخر وأنه أي انقسام الحال الذي هو العلم ينافي البساطة في المعلوم إذ يجب أن يكون العلم مطابقا لمعلومه أجيب عنه بأنه مبني على أن النفس محل للمعقول لأن التعقل عبارة عن حصول
670

الصورة في القوة العاقلة وهو ممنوع فإن العلم عندنا مجرد تعلق بين العالم والمعلوم يمتاز به المعلوم عند العالم وذلك التعلق أمر اعتباري اتصف به العالم لأمر موجود حال فيه وإن سلم أن العلم بحصول صورة المعلوم فمحل أي فالنفس حينئذ محل لصورة البسيط الذي تعلقه لا لذات البسيط ولا يلزم المطابقة بين الصورة وذي الصورة من جميع الوجوه فقد لا تكون صورة البسيط بسيطة ألا ترى إلى ما قالوه من أنه يجوز أن يكون للبسيط الخارجي صورتان عقليتان أو أكثر كما مر في مباحث الحال و إن سلم أن صورة البسيط يجب أن تكون بسيطة فلا نسلم أن كل ذي وضع منقسم فإنه بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ وهو ممنوع وحينئذ جاز أن تكون النفس جوهرا فردا كما قال به بعض وإن سلم أن كل ذي وضع منقسم فلا نسلم أن الحال في المنقسم منقسم كالسطح الحال عندكم في الجسم المنقسم في جميع الجهات مع أنه لا ينقسم في العمق وكالخط الحال في السطح مع عدم انقسامه في العرض وكالنقطة الحالة في الخط مع أنها لا تنقسم أصلا
وبالجملة إنما يلزم انقسام الحال إذا كان الحلول سريانيا وهو فيما نحن بصدده غير مسلم وإن سلم أنه أي الحال في المنقسم منقسم فبالقوة كالجسم لا بالفعل وأنه لا ينافي البساطة لجواز أن تكون جهة انقسامه غير جهة بساطته فإن الجسم البسيط عندكم منقسم بالقوة إلى ما لا يتناهى مع كونه بسيطا بالفعل إذ ليس فيه مفاصل متحققة فليس فيه انقسام فعلي ولا منافاة بين الانقسام وعدمه من جهتي القوة والفعل لأنهما جهتان متغايرتان
671

الثاني من الوجوه الخمسة أنها أي النفس الإنسانية تعقل الوجود وأنه بسيط لما مر في مباحثه من أن أجزاءه وجودات أو عدمات إلى آخر الكلام والجواب ما تقدم من المنوع الواردة على مقدمات أدلة بساطته والمنوع المذكورة في الوجه الأول الذي هو أعم منه
الثالث من تلك الوجوه أنها تعقل المفهوم الكلي فتكون مجردة أما الأول فظاهر لأنها تحكم بين الكليات أحكاما إيجابية وسلبية فلا بد لها من تعقلها وأما الثاني فلأن النفس إذا كانت ذات وضع كان المعنى الكلي حالا في ذي وضع ولا شك أن الحال في ذي الوضع يختص بمقدار مخصوص ووضع معين ثابتين لمحله فلا يكون ذلك الحال مطابقا لكثيرين مختلفين بالمقدار والوضع بل لا يكون مطابقا إلا لما له ذلك المقدار والوضع فلا يكون حينئذ كليا هذا خلف لأن المقدر خلافه والجواب يعرف مما مر إذ لا نسلم أن عاقل الكلي محل له لابتنائه على الوجود الذهني وأيضاف الحال فيما له مقدار وشكل ووضع معين لا يلزم أن يكون متصفا بها لجواز أن لا يكون الحلول سريانيا ويرد ههنا منع عدم مطابقته لكثيرين إذ قد يخالف الشيخ لما له الشيخ في الصغر والكبر كالصور المنقوشة على الجدار وكصورة السماء في الحس المشترك مع وجود المطابقة بينهما وتحقيقه أن معنى المطابقة هو أن الصورة إذا جردت عما عرض لها بتبعية المحل كانت مطابقة لكثيرين ألا ترى أنه يجب تجريدها عن التشخص العارض لها بسبب المحل
672

الرابع منها أنها تعقل الضدين إذ نحكم بينهما بالتضاد فلو كان مدركها جسما أو جسمانيا لزم اجتماع السواد والبياض مثلا في جسم واحد وأنه محال بديهة والجواب أن صورتي الضدين لا تضاد بينهما لأنهما يخالفان الحقيقة الخارجية فليس يلزم من ثبوت التضاد بين الحقيقتين ثبوته بين الصورتين ولولا ذلك لما جاز قيامهما بالمجرد أيضا لأن الضدين لا يجتمعان في محل واحد ماديا كان أو مجردا وإن سلمنا تضاد صورتي الضدين فلم لا يجوز أن يقوم كل منهما بجزء من الجسم الذي يعقلهما معا غير الجزء الذي قام به الأخرى فلا يلزم اجتماع المتضادين في محل واحد
الخامس منها أن نبطل كونها جسما بما مر ثم نقول لو كان العاقل منها جسمانيا حالا في جميع البدن أو في بعضه لعقل محله دائما أو لم يعقله دائما والتالي باطل أما الملازمة فلأن تعقله لمحله إن كفى فيه حضوره لذاته كان حاصلا دائما يعني أن الصورة الخارجية التي للمحل حاضرة بذاتها عند العاقل دائما فلو كفى ذلك في تعقله إياه كان تعقله مستمرا دائما وإلا احتاج تعقله له إلى حصول صورة أخرى منتزعة منه حاصلة فيه وأنه محال لأنه يقتضي اجتماع المثلين لأن الصورتين متماثلتان في الماهية فلا يحصل ذلك التعقل دائما وأما بطلان التالي فبالوجدان إذ ما من جسم فينا يتصور أنه محل للعلم والقوة العاقلة كالقلب والدماغ وغيرهما من أجزاء البدن إلا ونعقله تارة ونغفل عنه أخرى والجواب منع الملازمة بمنع ما ذكر في بيانها لجواز أن لا يكفي في تعقله حضوره بصورته الخارجية ولا يحتاج أيضا إلى حصول صورة أخرى بل يتوقف على شرط غير ذلك لأن كون التعقل بحصول
673

الصورة ممنوع عندنا سلمناه لكن لا نسلم أن حصول صورة أخرى فيه اجتماع للمثلين وإنما يلزم ذلك أن لو تماثل الصورة الخارجية والصورة الذهنية وهو ممنوع سلمنا تمثلهما لكن لا اجتماع بينهما في محل واحد لأن إحداهما محل للعاقلة والأخرى حالة فيها
خاتمة في رواية مذاهب المنكرين لتجرد النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا وهي كثيرة لكن المشهور منها تسعة
الأول لابن الراوندي أنه جزء لا يتجزأ في القلب لدليل عدم الانقسام مع نفي المجردات يعني أنها جوهر لظهور قيامها بذاتها وغير منقسمة لما مر من تعقلها للبسائط وليست مجردة لامتناع وجود المجردات الممكنة فتكون جوهرا فردا هو في القلب لأنه الذي ينسب إليه العلم
الثاني للنظام أنه أجزاء هي أجسام لطيفة سارية في البدن سريان ماء الورد في الورد باقية من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها تخلل وتبدل حتى إذا قطع عضو من البدن انقبض ما فيه من تلك الأجزاء إلى سائر الأعضاء إنما المتخلل والمتبدل من البدن فضل ينضم إليه وينفصل عنه إذ كل أحد يعلم أنه باق من أول عمره إلى آخره ولا شك أن المتبدل ليس كذلك
الثالث أنه قوة في الدماغ وقيل في القلب
الرابع أنه ثلاث قوى إحداها في القلب وهي الحيوانية والثانية في الكبد وهي النباتية والثالثة في الدماغ وهي النفسانية
الخامس أنه الهيكل المخصوص وهو المختار عند جمهور المتكلمين
السادس أنه الأخلاط الأربعة المعتدلة كما وكيفا
674

السابع أنه اعتدال المزاج النوعي
الثامن أنه الدم المعتدل إذ بكثرته واعتداله تقوى الحياة وبالعكس
التاسع أنه الهواء إذ بانقطاعه طرفة عين تنقطع الحياة فالبدن بمنزلة الزق المنفوخ فيه واعلم أن شيئا من ذلك الذي رويناه لم يقم عليه دليل وما ذكروه لا يصلح للتعويل عليه
المقصد الثالث
المتن
في أن النفوس الناطقة حادثة اتفق عليه المليون إذ لا قديم عندهم إلا الله وصفاته لكنهم اختلفوا في أنها هل تحدث مع البدن أو قبله فقال بعضهم تحدث معه لقوله تعالى بعد تعداد أطوار البدن * (ثم أنشأناه خلقا آخر) *
والمراد إفاضة النفس
وقال بعضهم بل قبله لقوله صلى الله عليه وسلم (خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام) وغاية هذه الأدلة الظن أما الآية فلجواز أن يريد بقوله ثم أنشأناه جعل النفس متعلقة به وإنما يلزم حدوث تعلقها لا حدوث ذاتها وأما الحديث فلأنه خبر واحد فتعارضه الآية وهي مقطوعة المتن مظنونة الدلالة والحديث بالعكس هذا والحكماء قد اختلفوا في حدوثها فقال به أرسطو ومن تبعه ومنعه من قبله وقالوا بقدمها
احتج أرسطو بأنها لو قدمت فإما أن تكون قبل التعلق بالبدن متمايزة
675

أو لا فإن كانت متمايزة فتمايزها إما بذواتها أو لا بذواتها فإن كان بذواتها فتكون كل نفس نوعا منحصرا في الشخص فيلزم اختلاف كل نفسين بالحقيقة وأنه باطل إذ لو لم نقل بأن كلها متماثلة فلا أقل من أن يوجد نفسان متماثلان وإن كان لا بذواتها كان بالقابل وما يكتنفه كما تقدم ومادتها البدن فتكون متعلقة قبل هذا البدن ببدن آخر ويلزم التناسخ وسنبطله وإن لم تكن متمايزة فبعد التعلق إن بقيت كما كانت كانت نفس زيد هي بعينها نفس عمرو فيلزم أن يشتركا في صفات النفس من العلم والقدرة واللذة والألم وإن لم تبق كما كانت لزم التجزي والانقسام ولا يتصور هذا إلا فيما له مقدار وأيضا فقد عدمت تلك الهوية وحصلت هويتان أخريان حادثتان ويلزم المطلوب احتج الخصم بوجوه
الأول أن كل حادث له مادة قلنا أعم من مادة يحل فيها أو يتعلق بها
الثاني لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية والجواب المنع
الثالث يلزم عدم تناهي الأبدان والجواب شرط امتناعه الترتب كما مر
تنبيه قال أرسطو كل حادث لا بد له من شرط حادث دفعا للدور والتسلسل فلحدوث النفس شرط وهو حدوث البدن فإذا حدث البدن فاض عليه نفس من المبدأ الفياض ضرورة عموم الفيض ووجود القابل المستعد وبه أبطل التناسخ فإذا حدث بدن تعلق به نفس متناسخ وفاض عليه نفس أخرى لما ذكرنا من حصول العلة بشرطها كملا فتكون للبدن الواحد نفسان وهو باطل بالضرورة فإن كل أحد يجد أن نفسه واحدة
676

واعلم أن هذا دور صريح فإنه بين حدوث النفس بلزوم التناسخ وإبطاله ثم بين بطلان التناسخ بحدوث النفس وإنما يصح له ذلك لو بين أحدهما بطريق آخر مثل ما يقال في إبطال التناسخ أنه يلزم تذكرها لأحوالها في البدن الآخر أو أن استعداد الأبدان للنفوس وتكونها على وتيرة بخلاف مفارقة النفوس إذ قد يتفق وباء أو جائحة أو قتل عام يهلك فيها من النفوس ما يعلم بالضرورة أنه لم يحدث في ذلك الزمان بخلاف العادة ذلك المبلغ من الأبدان وليس شيء منها يصلح للتعويل وعلى أصل الدليل اعتراضات تعرفها إن كان ما مهدنا لك من الأصول على ذكر منك فلا نعيدها حذرا من الإطناب
الشرح
المقصد الثالث في أن النفس الناطقة حادثة اتفق عليه المليون إذ لا قديم عندهم إلا الله وصفاته عند من أثبتها زائدة على ذاته لكنهم اختلفوا في أنها هل تحدث مع حدوث البدن أو قبله فقال بعضهم تحدث معه لقولهم تعالى بعد تعداد أطوار البدن * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * والمراد بهذا الإنشاء إفاضة النفس على البدن
وقال بعضهم بل قبله لقوله صلى الله عليه وسلم (خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام) وغاية هذه الأدلة الظن دون اليقين الذي هو المطلوب أما الآية فلجواز أن يريد بقوله * (ثم أنشأناه) * جعل النفس متعلقة به وإنما يلزم من ذلك حدوث تعلقها لا حدوث ذاتها وأما الحديث فلأنه خبر واحد فتعارضه الآية وهي مقطوعة المتن مظنونة الدلالة والحديث بالعكس فلكل رجحان من وجه فيتقاومان هذا كما ذكرناه وأما الحكماء فإنهم قد اختلفوا في حدوثها فقال به أرسطو ومن تبعه ومنعه من قبله وقالوا بقدمها احتج أرسطو بأنها لو قدمت فإما أن تكون قبل التعلق
677

بالبدن متعددة متمايزة أو لا فإن كانت متمايزة فتمايزها وتعينها إما بذواتها أو لا بذواتها فإن كان بذواتها أو بلوازمها فتكون كل نفس من النفوس البشرية نوعا منحصرا في الشخص الواحد فيلزم اختلاف كل نفسين بالحقيقة وأنه باطل إذ لو لم نقل بأن كلها متماثلة فلا أقل من أن يوجد فيما بين الجميع نفسان متماثلان وإن كان تمايزها لا بذواتها كان بالقابل وما يكتنفه كما تقدم من أن تعدد أفراد النوع الواحد معلل بقابله والأعراض المكتنفة به ومادتها البدن فتكون متعلقة قبل هذا البدن ببدن آخر ويلزم التناسخ أي انتقالها من بدن إلى آخر وسنبطله وإن لم تكن قبل التعلق متمايزة بل كانت واحدة فبعد التعلق إن بقيت على وحدتها كما كانت كانت نفس زيد هي بعينها نفس عمرو فيلزم أن يشتركا في صفات النفس من العلم والقدرة واللذة والألم وسائر الصفات وأنه باطل بالضرورة وإن لم تبق كما كانت بل تكثرت لزم التجزي والانقسام ولا يتصور هذا إلا فيما له مقدار وحجم فلا تكون مجردة بل مادية وأيضا فقد عدمت بذلك التجزي والانقسام تلك الهوية الواحدة القديمة وحصلت هويتان أخريان حادثتان ويلزم المطلوب وهو أن النفوس المتعلقة بالأبدان حادثة
احتج الخصم على قدمها بوجوه ثلاثة
الأول أن كل حادث له مادة فلو كانت النفس حادثة كانت مادية لا مجردة قلنا بعد تسليم الملازمة تلك المادة التي يستلزمها الحدوث أعم من مادة يحل الحادث فيها أو يتعلق بها والمعتق بالمادة يجوز أن يكون مجردا بحسب ذاته
678

الثاني لو لم تكن الناطقة أزلية لم تكن أبدية أيضا والتالي باطل اتفاقا وأما الملازمة فلأنها إذا كانت حادثة يزول وجودها لأن كل كائن فاسد والجواب المنع ومعنى القضية المذكورة أن كل حادث فهو في حد ذاته قابل للعدم وليس يلزم منه طريانه عليه لجواز أن يمتنع عدمه لغيره أبدا
الثالث يلزم عدم تناهي الأبدان والصواب عدم تناهي النفوس وذلك لأنها إذا كانت حادثة كان حدوثها بحدوث الأبدان التي هي شرط فيضانها من المبدأ القديم والأبدان غير متناهية لاستنادها إلى اقتضاء الأدوار الفلكية التي لا تتناهى فتكون النفوس البشرية غير متناهية أيضا لكن لا استحالة في لا تناهي الأبدان والأدوار لأنها متعاقبة بخلاف النفوس فإنها باقية بعد المفارقة فيلزم اجتماع أمور موجودة غير متناهية وهو محال بالتطبيق والجواب شرط امتناعه الترتب الطبيعي أو الوضع كما مر والنفوس الناطقة وإن كانت موجودة مجتمعة إلا أنها غير مترتبة فيجوز لا تناهيها
تنبيه قال أرسطو كل حادث لا بد له من استناده إلى المبدأ القديم الواجب من شرط حادث فقوله دفعا للدور والتسلسل تعليل لما هو المقدر في الكلام وأما الاحتياج إلى الشرط فلئلا يلزم تخلف المعلول عن علته التامة فلحدوث النفس من المبدأ المفيض شرط وهو حدوث البدن لأنه القابل المستعد لتدبيرها وتصرفها فإذا حدث البدن فاضت عليه نفس من المبدأ الفياض ضرورة عموم الفيض ووجود القابل المستعد وبه أبطل التناسخ حيث قال إن صح التناسخ فإذا حدث بدن تعلق به نفس متناسخ وفاض عليه نفس أخرى حدثت الآن لما ذكرنا من حصول العلة المؤثرة
679

بشرطها كملا فتكون للبدن الواحد نفسان وهو باطل بالضرورة فإن كل أحد يجد أن نفسه واحدة واعلم أن هذا الذي ذكره أرسطو في حدوث النفس وبطلان التناسخ دور صريح فإنه بين حدوث النفس بلزوم التناسخ على تقدير قدمها وإبطاله ثم بين بطلان التناسخ بحدوث النفس وإنما يصح له ذلك لو بين أحدهما بطريق آخر مثل ما يقال في إبطال التناسخ أنه يلزم تذكرها لأحوالها في البدن الآخر أو أن استعداد الأبدان للنفوس وتكونها أي حدوث النفوس على وتيرة واحدة فإنه كلما استعد بدن حدث نفس بخلاف مفارقة النفوس مع حدوث الأبدان إذ قد يتفق وباء أي فساد هواء أو جايحة أي حادثة مستأصلة كالطوفان أو قتل عام يهلك فيها من النفوس دفعة ما يعلم بالضرورة أنه لم يحدث في ذلك الزمان بخلاف العادة ذلك المبلغ من الأبدان كما نقل من أنه وقع حرب في أرض يونان فقتل في يوم واحد مائتا ألف من الجانبين ومن المعلوم أنه لم يحدث في ذلك اليوم أبدان بهذا العدد في جوانب العالم لتتعلق بها تلك النفوس المفارقة عن أبدانها فلو كان تعلق النفوس على طريقة التناسخ لزم تعطل بعضها إلى أن يحدث بدن تتعلق به وليس شيء منها والأظهر منهما أي من هذين الطريقين الآخرين يصلح للتعويل إذ لا نسلم لزوم التذكر لأحوالها في البدن السابق لجواز كونه مشروطا بالتعلق به على أنه قد نقل عن بعضهم أنه قال إني لأتذكر كوني في صورة الجمل ولا نسلم أن عدد أبدان الحيوانات الصغيرة والكبيرة في البحور والبراري لا يساوي عدد تلك النفوس المفارقة
680

وعلى أصل الدليل الذي أبطل به التناسخ اعتراضات تعرفها إن كان ما مهدنا لك من الأصول على ذكر منك فلا نعيدها حذرا من الإطناب مثل أن يقال لا نسلم أن كل حادث لا بد له من شرط حادث فإن الفاعل المختار له أن يخصص الحوادث بأوقاتها من غير أن يكون هناك داع وليس هذا مستلزما للتخلف عن العلة المستلزمة سلمناه لكن لا نسلم أن شرط حدوث النفس هو البدن ولم لا يجوز أن يكون له شرط غيره سلمناه لكن لا نسلم أنه إذا حدث بدن وجب أن يفيض عليه نفس إنما يجب ذلك إذا لم يتعلق به نفس مستنسخة وقد يقال أراد بأصل الدليل ما ذكره أرسطو على حدوث النفس فإنه أصل لدليله على إبطال التناسخ فيعترض عليه بأنا لا نسلم أن علة التمايز إما الذات أو غيرها لأن التمايز أمر عدمي فلا يحتاج إلى علة ولا نسلم تماثل النفوس كلها ولا تماثل نفسين منها والاستعداد لا يجدي نفعا ولا نسلم أن تمايز أفراد نوع واحد إنما يكون بالقابل وما تقدم في بيانه قد ظهر لك هناك فساده إلى غير ذلك مما لا يخفى على الفطن
تعليق
ومن المعلوم أنه لم يحدث في ذلك اليوم أبدان بهذا العدد في جوانب العالم لتتعلق بها تلك النفوس المفارقة عن أبدانها
لا نقول بأي رأي ولكن تعليقنا على أنه قال في ذلك اليوم ونسي أنه إن كان تعلق النفس بالتناسخ فالنفس تتعلق بالأجسام في الرحم وليس بعد الولادة والدليل قول الله ثم أنشأناه خلقا آخر في ذكر مراحل تطور الجنين فيكون التعلق في الرحم ثم الميلاد بعد فترة الحمل وهو لم يحص المواليد في العالم كله بعد إتمام تلك الفترة
المقصد الرابع
المتن
تعلق النفس بالبدن تعلق العاشق بالمعشوق لتوقف كمالاتها ولذاتها عليه وأولا بالروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الغذاء ولطيفه
681

وتفيده قوة بها تسري إلى جميع البدن فتفيد كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى التي فصلناها فيما قبل
وهذا كله عندنا للقادر المختار ابتداء ولا حاجة إلى إثبات القوى
الشرح
المقصد الرابع تعلق النفس بالبدن ليس تعلقا ضعيفا يسهل زواله بأدنى سبب مع بقاء المتعلق بحاله كتعلق الجسم بمكانه وإلا تمكنت النفس من مفارقة البدن بمجرد المشيئة من غير حاجة إلى أمر آخر وليس أيضا تعلقا في غاية القوة بحيث إذا زال التعلق بطل المتعلق مثل تعلق الأعراض والصور المادية بمحالها لما عرفت من أنها متجردة بذاتها غنية عما تحل فيه بل هو تعلق متوسط بين بين كتعلق الصانع بالآلات التي يحتاج إليها في أفعاله المختلفة ومن ثمة قيل هو تعلق العاشق بالمعشوق عشقا جبليا إلهاميا فلا ينقطع ما دام البدن صالحا لأن تتعلق به النفس ألا يرى أنه تحبه ولا تمله مع طول الصحة ولا تكره مفارقته وذلك لتوقف كمالاتها ولذاتها العقلية والحسية عليه فإنها في مبدأ خلقتها خالية عن الصفات الفاضلة كلها فاحتاجت إلى آلات تعينها على اكتساب تلك الكمالات وإلى أن تكون تلك الآلات مختلفة فيكون لها بحسب كل آلة فعل خاص حتى إذا حاولت فعلا خاصا كالإبصار مثلا التفت إلى العين فتقوى على الإبصار التام وكذا الحال في سائر الأفعال ولو اتحدت الآلة لاختلطت الأفعال ولم يحصل لها شيء منها على الكمال وإذا حصلت لها الإحساسات توصلت منها إلى الإدراكات الكلية ونالت حظها من العلوم والأخلاق المرضية وترقت إلى لذاتها العقلية بعد إحتظائها باللذات الحسية
682

فتعلقها بالبدن على وجه التصرف والتدبير كتعلق العاشق في القوة بل أقوى منه بكثير وإنما تتعلق من البدن أو لا بالروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الغداء الغذاء ولطيفه فإن القلب له تجويف في جانبه الأيسر ينحذب إليه لطيف الدم فيبخره بحرارته المفرطة فذلك البخار هو المسمى بالروح عند الأطباء وعرف كونه أول متعلق للنفس بأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس والحركة مما وراء موضع الشد ولا يبطلها مما يلي جهة الدماغ وأيضا التجارب الطبية تشهد بذلك وتفيده أي تفيد النفس الروح بواسطة التعلق قوة بها تسري الروح إلى جميع البدن فتفيد الروح الحامل لتلك القوة كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى التي فصلناها فيما قبل
وهذا كله عند للقادر المختار ابتداء ولا حاجة إلى إثبات القوى كما مر مرارا
683

المرصد الرابع في العقل
وفيه مقاصد
المقصد الأول
المتن
في إثباته قال الحكماء أول ما خلق الله تعالى العقل كما ورد نص الحديث واحتجوا بوجهين
الأول الله تعالى واحد فلا يصدر عنه ابتداء إلا واحد ويمتنع أن يكون ذلك جسما لتركبه ولتقدم الهيولى والصورة عليه ضرورة ولا أحد جزئيه إذ لا يستقل بالوجود دون الآخر ولا عرضا إذ لا يستقل بالوجود دون الجوهر ولا نفسا إذ لا تستقل بالتأثير دون الجسم فيمتنع أن يكون سببا لما بعده فتعين أن يكون هو العقل
تلخيصه أول صادر عنه تعالى واحد مستقل بالوجود والتأثير وغير العقل ليس كذلك لانتفاء القيد الأول في الجسم
684

والثاني في الهيولى والصورة والعرض والثالث في النفس الثاني الموجد للجسم لا يجوز أن يكون هو الواجب لذاته وإلا لأوجدد جزئيه فيكون مصدر الأثرين ولا جسما آخر إذ الجسم إنما يؤثر فيما له وضع بالقياس إليه بالتجربة فلو أفاض الصورة على الهيولى لكان للهيولي إليه وضع قبل الصورة وأنه محال ولا نفسا لتوقف تأثيرها عليه ولا أحد جزئيه وإلا لكان علة للآخر وقد أبطلناه لعدم استقلاله بالوجود ولا عرضا لتأخره عنه فهو العقل
الاعتراض بناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد أما على الأول فلم لا يجوز أن يكون أول صادر هو الجسم بأن يصدر أحد جزئيه وبواسطته يصدر الآخر وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون نفسا ولا يلزم من توقف تصرفها في البدن على تعلقها به توقف إيجاده مطلقا وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون صفة قائمة بذات الله تعالى ودليلهم على عدم زيادة الصفات سنبطله وأما على الثاني فلم لا يجوز أن يكون الموجد للجسم جسما قوله إنما يؤثر فيما له وضع بالنسبة إليه ممنوع والاستقراء لا يفيد العموم سلمناه لكن قد يكون الموجد نفسا توجده أولا ثم تتعلق به سلمناه لكن قد يكون هو الواجب كما مر
685

الشرح
المرصد الرابع في العقل والمراد به كما مر موجود ممكن ليس جسما ولا حالا فيه ولا جزءا منه بل هو جوهر مجرد في ذاته مستغن في فاعليته عن الآلات الجسمانية وفيه مقاصد ثلاثة
المقصد الأول في إثباته قال الحكماء أول ما خلق الله تعالى العقل كما ورد نص الحديث
قال بعضهم وجه الجمع بينه وبين الحديثين الآخرين أول ما خلق الله القلم وأول ما خلق الله نوري أن المعلول الأول من حيث أنه مجرد يعقل ذاته ومبدؤه يسمى عقلا ومن حيث أنه واسطة في صدور سائر الموجودات ونفوس العلوم يسمى قلما ومن حيث توسطه في إفاضة أنوار النبوة كان نورا لسيد الأنبياء واحتجوا عليه أي على إثبات العقل بوجهين
الأول الله تعالى واحد حقيقي لا تكثر فيه أصلا بوجه من الوجوه فلا يصدر عنه ابتداء إلا الواحد ويمتنع أن يكون ذلك الصادر عنه جسما لتركبه فلو صدر أولا لزم تعدد الصادر في المرتبة الأولى ولتقدم الهيولى
686

والصورة عليه ضرورة لأن الجزء متقدم على الكل فلو كان هو الصادر الأول لتقدم على أجزائه ولا يجوز أيضا أن يكون الصادر الأول أحد جزئيه إذ لا يستقل بالوجود دون الآخر فلا يستقل بالتأثير أيضا والصادر الأول مستقل بالوجود والتأخير معا ولا عرضا إذا لا يستقل بالوجود دون الجوهر الذي هو محله فكيف يوجد قبله ولا نفسا إذ لا تستقل بالتأثير دون الجسم الذي هو آلتها فيمتنع أن يكون سببا لما بعده ويجب ذلك فيما صدر أولا فتعين أن يكون الصادر الأول هو العقل
تلخيصه أول صادر عنه تعالى واحد مستقل بالوجود والتأثير وغير العقل ليس كذلك لانتفاء القيد الأول في الجسم والثاني في الهيولى والصورة والعرض والثالث في النفس الثاني الموجد للجسم كالفلك مثلا لا يجوز أن يكون هو الواجب لذاته وإلا لأوجد جزئيه لأن موجد الكل حقيقة يجب أن يكون موجدا لكل واحد من أجزائه فيكون الواجب تعالى مصدر الأثرين في مرتبة واحدة ولا جسما للآخر إذ الجسم إنما يؤثر فيما له وضع مخصوص بالقياس إليه أما بالمجاورة والقرب أو المحاذاة والمقابلة علم ذلك بالتجربة فإن النار لا تسخن أي جسم كان بل ما يقاربها والشمس لا تضيء إلا ما يقابلها فلو أوجد جسم جسما آخر لوجب أن يفيض صورته على هيولاه ولو أفاض الصورة على الهيولى لكان للهيولي وضع قبل الصور وأنه محال لأن وضع الهيولى مستفاد من الصورة التي هي ذات وضع بالذات لكونها في حد نفسها ممتدة في الجهات ولا نفسا لتوقف تأثيرها عليه فإن النفس لا تؤثر إلا بآلات جسمانية فيكون تأثيرها متأخرا على الجسم فكيف يتصور إيجادها إياه ولا أحد جزئيه وإلا لكان ذلك الجزء الموجد للجسم علة للآخر وقد أبطلناه لعدم استقلاله
687

بالوجود دون الآخر فلا يتصور كونه علة موجدة للآخر ولا عرضا لتأخره عنه في الوجود فهو أي الموجد للجسم العقل
الاعتراض بناء على تسليم أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد أما على الوجه الأول فلم لا يجوز أن يكون أول صادر هو الجسم بأن يصدر أحد جزئيه عن الواجب تعالى ابتداء وبواسطته يصدر الآخر وقد صرحوا بأن الصورة جزء لعلة الهيولى وليس يلزم من كونها غنية في مدخلية التأثير عن الهيولى كونها غنية في وجودها متشخصة عنها وإن سلم ذلك فلم لا يجوز أن يكون الصادر الأول نفسا ولا يلزم من توقف تصرفها في البدن على تعلقها به توقف إيجاده مطلقا على ذلك التعلق فيجوز أن يوجد الجسم بلا تعلق هو منشأ للتصرف والتدبير وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون الصادر الأول صفة قائمة بذات الله تعالى ودليلهم على عدم زيادة الصفات سنبطله
وأما على الوجه الثاني فلم لا يجوز أن يكون الموجد للجسم جسما قوله إنما يؤثر الجسم فيما له وضع بالنسبة إليه ممنوع والاستقراء على سبيل التجربة كما ذكرتم لا يفيد العموم لأنه استقراء ناقص سلمناه لكن قد يكون الموجد نفسا توجده أولا ثم تتعلق به سلمناه لكن قد يكون هو الواجب بأن يوجد أحد جزئيه ابتداء وبتوسطه الجزء الآخر لما مر في الاعتراض على الوجه الأول
المقصد الثاني
المتن
في ترتيب الموجودات على رأيهم قالوا إذا ثبت أن الصادر الأول عقل فله اعتبارات ثلاثة وجوده في نفسه ووجوبه بالغير وإمكانه لذاته
688

فيصدر عنه بكل اعتبار أمر فباعتبار وجوده عقل وباعتبار وجوبه بالغير نفس وباعتبار إمكانه جسم إسنادا للأشرف إلى الجهة الأشرف والأخس إلى الأخس فإنه أحرى وأخلق وكذلك من الثاني عقل ونفس وفلك إلى العاشر ويسمى العقل الفعال المفيض للصور والأعراض على العناصر والمركبات يسبب ما يحصل لها من الاستعدادات المسببة عن الحركات الفلكية وأوضاعها
الاعتراض هذه الاعتبارات إن كانت وجودية فلا بد لها من مصادر وإلا بطل قولكم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد فيبطل أصل دليلكم وإن كانت اعتبارية امتنع إن تصير جزء مصدر الأمور الوجودية وحديث إسناد الأشرف إلى الأشرف خطابي وإسناد الفلك الثامن مع ما فية من الكواكب المختلفة إلى جهة واحدة مشكل وكذلك إسناد الصور والأعراض التي في عالمنا هذا مع كثرتها إلى العقل الفعال
وبالجملة فلا يخفى ضعف ما اعتمدوا عليه في هذا المطلب العالي
الشرح
المقصد الثاني في ترتيب الموجودات على رأيهم قالوا إذا ثبت أن الصادر الأول عقل فله اعتبارات ثلاثة وجوده في نفسه ووجوبه بالغير وإمكانه لذاته فيصدر عنه بكل اعتبار أمر فباعتبار وجوده يصدر عقل وباعتبار وجوبه بالغير يصدر نفس وباعتبار إمكانه يصدر جسم هو الفلك الأول وإنما قلنا إن صدورها عنه على هذا الوجه إسناد للأشرف إلى الجهة
689

الأشرف والأخس إلى الأخس فإنه أحرى وأخلق وكذلك يصدر من العقل الثاني عقل ثالث ونفس ثانية وفلك ثان وهكذا إلى العقل العاشر الذي هو في مرتبة التاسع من الأفلاك أعني فلك القمر ويسمى العقل الفعال المؤثر في هيولى العالم السفلي المفيض للصور والنفوس والأعراض على العناصر البسيطة وعلى المركبات منها بسبب ما يحصل لها من الاستعدادات المسببة عن الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وأوضاعها
الاعتراض أن يقال هذه الاعتبارات إن كانت وجودية فلا بد لها من مصادر متعددة وإلا بطل قولكم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد فيبطل حينئذ أصل دليلكم وإن كانت اعتبارية امتنع أن تصير جزء مصدر الأمور الوجودية وقد يجاب عنه بأنها ليست جزءا من المؤثر بل هي شرط للتأثير والشرط قد يكون أمرا اعتباريا لكن مثل هذه الاعتبارات من السلوب والإضافات عارضة للمبدأ الأول فيجوز أن تكون بحسبها مصدرا لأمور متعددة كالمعلول الأول وذلك مناف لمذهبهم الذي بنوا عليه كلامهم في ترتيب الموجودات وحديث إسناد الأشرف إلى الأشرف خطابي لا يلتفت إليه في المطالب العلمية وإسناد الفلك الثامن مع ما فيه من الكواكب المختلفة المقادير المتكثرة كثرة لا تحصى إلى جهة واحدة في العقل الثاني كما زعموه مشكل جدا وكذلك إسناد الصور والأعراض التي في عالمنا هذا مع كثرتها الفائتة عن الحصر إلى العقل الفعال مشكل أيضا
وبالجملة فلا يخفى عن الفطن المنصف ضعف ما اعتمدوا عليه في هذا المطلب العالي
وفي الملخص أنهم خبطوا فتارة اعتبروا في العقل الأول جهتين وجوده وجعلوه علة العقل وإمكانه وجعلوه علة الفلك ومنهم من اعتبر
690

بدلهما تعقله لوجوده وإمكانه علة لعقل وفلك وتارة اعتبروا فيه كثرة من ثلاثة أوجه كما ذكر في متن الكتاب وتارة من أربعة أوجه فزادوا علمه بذلك الغير وجعلوا إمكانه علة لهيولي الفلك وعلمه علة لصورته فظهر أن العقول عاجزة عن إدراك نظام الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر
المقصد الثالث
المتن
في أحكام العقول وهي سبعة
الأول أنها ليست حادثة لما تقدم أن الحدوث يستدعي مادة
الثاني ليست كائنة ولا فاسدة إذ ذاك عبارة عن ترك المادة صورة ولبسها صورة أخرى وأما البسيط فلا يكون فيه جهتا قبول وفعل
الثالث نوع كل عقل منحصر في شخصه إذ تشخصه بماهيته وإلا لكان بالمادة وما يكتنفها كما تقدم
الرابع ذاتها جامعة لكمالاتها أي ما يمكن لها فهو حاصل وما ليس حاصلا لها فهو غير ممكن لما علمت أن الحدوث يستدعي مادة يتجدد استعدادها بحركة دورية سرمدية فلا يتصور إلا في مادي هو تحت الزمان
الخامس أنها عاقلة لذواتها إذا التعقل حضور الماهية المجردة عند الشيء ولا شك أن ماهيتها حاضرة لذواتها فإن حضور الماهية أعم من حضور الماهية المغايرة وغير المغايرة وفيه نظر لجواز أن يكون شرط التعقل حضور الماهية المغايرة كما في الحواس
السادس أنها تعقل الكليات وكذا كل مجرد إذ كل مجرد يمكن
691

أن يعقل وكل ما يمكن أن يعقل فيمكن أن يعقل مع غيره إذ لا تضاد في التعقلات فيمكن أن يقارنه الماهية المجردة للغير في العقل فيمكن أيضا أن يقارنها مطلقا إذ كونها في العقل ليس شرطا للمقارنة لأنه لو كان شرطا لكان مقارنته للعقل مشروطة بكونها في العقل ويلزم الدور وإذا جاز مقارنة المجردة إياها أمكن تعقلها له وكل ما هو ممكن له فهو حاصل له بالفعل فإذا هو عاقل لكل ما يغايره بالفعل وهو المطلوب
الجواب لا نسلم أن كل مجرد يمكن تعقله كالباري وحقيقة العقول والنفوس وإن سلمنا فلا نسلم أن كل ما يمكن تعقله يمكن تعقله مع الغير وما الدليل عليه والوجدان لا يعمم كيف والغير قد يكون مما لا يجوز تعقله وإن سلم فلا نسلم أنه يقتضي مقارنة الماهية المجردة للعقل وإنما يصح لو كان العلم حصول الماهية المجردة في العقل وقد تكلمنا فيه وإن سلمنا فلا نسلم أنه يلزم من جواز المقارنة جواز مقارنته للغير مطلقا قوله وإلا لكان مقارنته للعقل مشروطة بكونها في العقل قلنا إنما يلزم ذلك أن لو كانت المقارنتان مثلين وهو ممنوع فإن حصول الشيئين في ثالث مخالف لحصول أحدهما في الآخر وإن سلم فلا يلزم إمكان تعقله وإنما يلزم هذا لو كان هو قابلا للتعقل لا يقال التعقل نفس هذه المقارنة لأنا نمنعه لجواز أن يكون أمرا مغايرا مشروطا بها
السابع أنها لا تعقل الجزئيات لأنها تحتاج إلى آلات جسمانية ولأنها تتغير والاعتراض عليه ستعرفه في بحث صفات الباري في مسألة العلم
692

خاتمة في الجن والشياطين وهي عند المليين أجسام تتشكل بأي شكل شاءت ومنعه الفلاسفة لأنها إما أن تكون لطيفة أو لا وكلاهما باطل أما الأول فلأنه يلزم أن لا تقدر على الأفعال الشاقة وتتلاشى بأدنى قوة وهو خلاف ما تعتقدونه وأما الثاني فلأنه يوجب أن ترى لو جوزنا أجساما كثيفة لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وبلاد لا نراها وبوقات وطبول لا نسمعها وهو سفسطة
والجواب أن لطفها بمعنى الشفافية فلا يلزم أحد الأمرين لجواز أن يقوى الشفاف على الأفعال الشاقة ولا ينفعل بسرعة ومع ذلك فلا نراها
وبالجملة فإن أردتم باللطافة الشفافية فنختار أنها لطيفة ولا يلزم عدم قوتها وإن أردتم سرعة الانفعال والانقسام إلى أجزاء ورقة القوام فنختار أنها غير لطيفة ولا يلزم رؤيتها كالسماء كيف وقد يفيض عليها القادر المختار مع لطافتها قوة عظيمة فإن القوة لا تتعلق بالقوام ألا ترى أن قوام الإنسان دون قوام الحديد والحجر وترى بعضهم يفتل الحديد ويكسر الحجر ويصدر منه ما لا يمكن أن يسند إلى غلظ القوام وترى الحيوانات مختلفة في القوة اختلافا ليس بحسب اختلاف القوام كما في الأسد مع الحمار قال قوم هي النفوس الأرضية وهي مختلفة فمنها الملائكة الأرضية ومنها الجن ومنها الشياطين وغير ذلك فهذه جنود لربك لا يعلمها إلا هو وقال قوم هي النفوس الناطقة المفارقة فالخيرة تتعلق بالخيرة وتعاونها على الخير
693

وهي الجن والشريرة تتعلق بالشريرة وتعاونها على الشر وهي الشياطين والله أعلم بحقائق الأمور
الشرح
المقصد الثالث في أحكام العقول وهي سبعة
الأول أنها ليست حادثة لما تقدم أن الحدوث يستدعي مادة
الثاني ليست كائنة ولا فاسدة إذ ذاك عبارة عن ترك المادة صورة ولبسها صورة أخرى فلا يتصور إلا في المركب المشتمل على جهتي قبول وفعل وأما البسيط فلا يكون فيه جهتا قبول وفعل فلا تكون العقول لبساطتها فاسدة بل أبدية
الثالث نوع كل عقل منحصر في شخصه إذ تشخصه بماهيته وإلا لكان بالمادة وما يكتنفها كما تقدم
الرابع ذاتها جامعة لكمالاتها أي ما يمكن لها فهو حاصل بالفعل دائما وما ليس حاصلا لها فهو غير ممكن لما علمت أن الحدوث يستدعي مادة يتجدد استعدادها بحركة دورية سرمدية فلا يتصور إلا في مادي هو تحت الزمان والعقول مجردة غير زمنية
694

الخامس أنها عاقلة لذواتها إذ التعقل حضور الماهية المجردة عن الغواشي الغريبة عند الشيء المجرد القائم بذاته ولا شك أن ماهيتها حاضرة لذواتها فإن حضور الماهية أعم من حضور الماهية المغايرة وغير المغايرة والتغاير الاعتباري كاف في تحقق الحضور وفيه نظر لجواز أن يكون شرط التعقل حضور الماهية المغايرة كما في الحواس فإن الإحساس إنما يكون بحصول صورة مغايرة عند الحاسة لا بحصول صورة مطلقا وإلا كانت الحواس مدركة لصورها الخارجية وهو باطل
السادس أنها تعقل الكليات وكذا كل مجرد من المجردات القائمة بذواتها فإنه يعقل الكليات إذ كل مجرد كذلك يمكن أن يعقل لأن ذاته منزه عن العلائق الغريبة عن ماهيته والشوائب المادية المانعة عن التعقل فماهيته لا تحتاج إلى عمل يعمل بها حتى تصير معقولة فإن لم تعقل كان ذلك من جهة العاقل فكل مجرد فهو في حد نفسه يمكن أن يعقل وكل ما يمكن أن يعقل فيمكن أن يعقل مع غيره إذ نعلم بالضرورة أنه لا تضاد في التعقلات فكل معقول يمكن أن يعقل مع كل واحد من سائر المعقولات وأيضا كل ما يعقل فإنه لا ينفك عن صحة الحكم عليه بالأمور العامة كالواحدية والإمكان وغيرهما والحكم بين شيئين يستدعي تعقلهما معا فكل معقول يمكن أن يعقل مع غيره في الجملة وحينئذ فيمكن أن يقارنه أي المجرد الماهية المجردة أي الماهية الكائنة التي للغير في العقل لأن التعقل عبارة عن حصول ماهية المعقول في العاقل فإذا تعقل
695

المجرد مع ماهية غيره كانا معا حاصلين في العقل فيكون كل منهما مقارنا للآخر فيه فإذا أمكن أن يقارن ماهية الغير المجرد في العقل فيمكن أيضا أن يقارنها أي يقارن ماهية الغير ماهية المجرد مطلقا أي سواء كان المجرد موجودا في العقل أو في الخارج إذ كونها أي حصول ماهية المجرد في العقل ليس شرطا للمقارنة المطلقة وصحتها لأنه لو كان شرطا للمقارنة على الإطلاق وصحتها لكان مقارنته أي مقارنة المجرد للعقل التي هي أخص من مطلق المقارنة مشروطة أيضا بكونها أي بكون ماهية المجرد في العقل لأن الأخص لا بد أن يكون مشروطا بما شرط به الأعم وحينئذ يلزم الدور لأن كون ماهية المجرد في العقل هو عين مقارنته له المشروط به وإذا لم يكن كون المجرد في العقل شرطا للمقارنة بينه وبين ماهية الغير جازت المقارنة بينهما إذا كان المجرد موجودا في الخارج وإذا جاز مقارنة الماهية الكلية المجردة التي للغير إياها يعني ماهية المجرد حال كونها موجودة في الخارج أمكن تعقلها أي تعقل الماهية الكلية له أي للمجرد إذ لا معنى لتعقله للماهية الكلية إلا مقارنة تلك الماهية له في وجوده الخارجي وكل ما هو ممكن له فهو حاصل له بالفعل دائما لم عرفت فإذن هو عاقل لكل ما يغايره من الكليات بالفعل وهو المطلوب ومحصول الكلام أن المجرد يصح أن يكون معقولا إذ لا مانع فيه من تعقله وكل ما يصح أن يكون معقولا يصح أن يعقل مع كل واحد مما يغايره من المفهومات وكل ما أمكن أن يعقل مع غيره أمكن أن يقارن ماهيته ماهية غيره لأن تعقل الشيء عبارة عن حصول ماهيته في العقل ثم إن إمكان مقارنة المعقول المجرد الماهية معقول آخر ليس متوقفا على
696

حصول المجرد في العقل لأن حصوله فيه نفس المقارنة فلو توقف إمكان المقارنة عليه كان إمكان الشيء متوقفا على وجوده ومتأخرا عنه وأنه محال وإذا لم يتوقف إمكان المقارنة على وجود المجرد في العقل أمكن المقارنة حال كون المجرد موجودا في الخارج ولا يتصور ذلك إلا بحصول الغير في المجرد وحلوله فيه وهو عين تعقله إياه وإذا أمكن تعقله له كان حاصلا بالفعل لأن التغير والحدوث من توابع المادة
الجواب لا نسلم أن كل مجرد يمكن تعقله كالباري تعالى فإن حقيقته مجردة مع أنه لا يمكن تعقلها للبشر عندكم وحقيقة العقول والنفوس فإنها غير معقولة لنا أين الجزم بإمكان تعقلها ولا نسلم أن المجرد في صيرورته معقولا لا يحتاج إلى عمل يعمل به إنما يصح ذلك إذا انحصر المانع من التعقل في المادة وتوابعها هو ممنوع وإن سلمنا فلا نسلم أن كل ما يمكن تعقله مع الغير وما الدليل عليه والوجدان الشاهد بعدم التضاد والتنافي بين التعقلات لا يعمم شهادته لعدم تعلقه بجميع المفهومات كيف والغير قد يكون مما لا يجوز تعقله كما أشرنا إليه وإن سلم فلا نسلم أنه أي تعقله مع الغير يقتضي مقارنة الماهية المجردة التي لذلك الغير للعقل أي للمجرد المعقول وإنما يصح ذلك لو كان العلم حصول الماهية المجردة في العقل حتى إذا تعقلا معا كانا موجودين متقارنين فيه وقد تكلمنا فيه حيث بينا أن للعلم تعلقا خاصا بين العالم والمعلوم وإن سلمنا أن تعقلهما يستلزم تقارنهما في الوجود الذهني فلا نسلم أنه يلزم من جواز المقارنة بينهما في العقل جواز مقارنته أي مقارنة المجرد للغير مطلقا
قوله وإلا لكان مقارنته للعقل مشروطة بكونها في العقل ويلزم الدور قلنا إنما يلزم ذلك أن لو كانت المقارنتان أي مقارنة أحد
697

المعقولين للآخر في العقل ومقارنة أحدهما للعقل مثلين حتى يلزم من اشتراط المقارنة الأولى بكون المجرد في العقل اشتراط الثانية به أيضا فيدور وهو أي كونهما مثلين ممنوع فإن حصول الشيئين كالمجرد وماهية الغير في ثالث هو العقل مخالف لحصول أحدهما أي أحد الشيئين كالمجرد في الآخر كالعقل فإن الأول مقارنة أحد الحالين في محل للحال الآخر والثاني مقارنة الحال لمحله فأين أحدهما من الآخر فلا يلزم من كون المقارنة بين المجرد وماهية الغير مشروطة بكون المجرد في العقل كون المقارنة بين المجرد والعقل مشروطة به ليكون من قبيل الاشتراط الشيء بنفسه لا يقال قد لزم من تعقلهما معا المقارنة بينهما في العقل فقلنا ليست المقارنة مطلقا مشروطة بكون المجرد في العقل وإلا دار كما عرفت لأنا نقول ليس يزعم الخصم أن كل ما يطلق عليه المقارنة بالنسبة إلى المجرد مشروط بكونه في العقل حتى يتم ما ذكرتم بل يزعم أن المقارنة بين المجرد وغيره من المعقولات مشروطة بكونها في العقل حتى إذا وجد المجرد في الخارج فإن شرط المقارنة بينهما فلم يمكن أن يقارنه غيره فلا يصح تعقله إياه وإن سلم تماثل المقارنتين وأنه يمكن مقارنة كل واحد من المعقولات للمجرد في الوجود الخارجي فلا يلزم من ذلك إمكان تعقله للمعقولات المقارنة له وإنما يلزم هذا لو كان هو أي المجرد قابلا للتعقل أي لكونه عاقلا وهو ممنوع لا يقال التعقل نفس هذه المقارنة فإذا أمكنت المقارنة فقد أمكن التعقل قطعا لأنا نمنعه أي نمنع اتحادهما لجواز أن يكون التعقل أمرا مغايرا للمقارنة مشروطا بها وليس يلزم من إمكان الشرط في موضع إمكان المشروط فيه
698

السابع أنها لا تعقل الجزئيات من حيث هي جزئية لأنها تحتاج إلى آلات جسمانية لتدرك بها ولأنها أي الجزئيات تتغير فالعلم بها يكون متغيرا فلا يثبت لما لا يجوز عليه التغير والاعتراض عليه ستعرفه في بحث صفات الباري سبحانه في مسألة العلم فإن علمه تعالى محيط بها من غير أن يكون هناك آلة جسمانية أو تغير في ذاته أو صفاته الحقيقية
خاتمة لمباحث العقول في الجن والشياطين فإنها أيضا من الجواهر الغائبة عن حواسنا وهي عند المليين أجسام تتشكل بأي شكل شاءت وتقدر على أن تتولج في بواطن الحيوانات وتنفذ في منافذها الضيقة نفوذ الهواء المستنشق واختلفوا في اختلافهما بالنوع مع الاتفاق على أنهما من أصناف المكلفين كالملك والإنس ومنعه الفلاسفة لأنها إما أن تكون الأجسام لطيفة أو لا وكلاهما باطل أما الأول فلأنه يلزم أن لا تقدر هي على الأفعال الشاقة وتتلاشى بأدنى قوة وسبب من خارج يصل إليها وهو خلاف ما يعتقدونه وأما الثاني فلأنه يوجب أن ترى ولو جوزنا أجساما كثيفة لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وبلاد لا نراها وبوقات وطبول لا نسمعها وهو سفسطة محضة
والجواب أن لطفها بمعنى الشفافية أي عدم اللون فلا يلزم أحد الأمرين لجواز أن يقوى الشفاف الذي لا لون له على الأفعال الشاقة ولا
699

ينفعل بسرعة ومع ذلك فلا نراها وبالجملة فإن أردتم باللطافة الشفافية فنختار أنها لطيفة ولا يلزم عدم قوتها على تلك الأفعال وإن أردتم بها سرعة الانفعال والانقسام إلى أجزاء متصغرة ورقة القوام فإن اللطافة تطلق على هذه المعاني فنختار أنها غير لطيفة ولا يلزم رؤيتها كالسماء إلا أنه يشكل سهولة تشكلها بأي شكل شاءت فلذلك قال كيف وقد يفيض عليها القادر المختار مع لطافتها ورقتها قوة عظيمة فإن القوة لا تتعلق بالقوام في الرقة والغلظ ولا بالجثة في الصغر والكبر ألا ترى أن قوام الإنسان دون قوام الحديد والحجر وترى بعضهم يفتل الحديد ويكسر الحجر ويصدر
منه ما لا يمكن أن يسند إلى غلظ القوام وترى الحيوانات مختلفة في القوة اختلافا ليس بحسب اختلاف القوام والجثة كما في الأسد مع الحمار
قال قوم هي النفوس الأرضية فإن النفس إن كانت مدبرة للأجرام العلوية فهي النفس الفلكية وإن كانت مدبرة للعناصر فهي النفس الأرضية أي السفلية وهي مختلفة فمنها الملائكة الأرضية وإليها أشار صلى الله عليه وسلم بقوله (أتاني ملك الجبال وملك الأمطار وملك البحار) وقد وقع في بعض النسخ بدل الأرضية الكروبية بتخفيف الراء أي الملائكة المقربون ورد بأنه غير مناسب لأن الكروبية من الملائكة هم المهيمون المستغرقون في أنوار جلال الله سبحانه وتعالى بحيث لا يتفرغون معه لشيء أصلا لا لتدبير الأجسام ولا للتأثير فيها ومنها الجن ومنها الشياطين وغير ذلك فهذه جنود لربك لا يعلمها إلا هو
700

وقال قوم هي النفوس الناطقة المفارقة فالخيرة من المفارقة عن الأبدان تتعلق بالخيرة من المقارنة لها نوعا من التعلق وتعاونها على الخير والسداد وهي الجن والشريرة منها تتعلق بالشريرة وتعاونها على الشر والفساد وهي الشياطين والله أعلم بحقائق الأمور
701